ج21 بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587..
يُقِرُّونَ
بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ وَهُمْ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ
وَصِنْفٌ منهم يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ
رَأْسًا وَهُمْ قَوْمٌ من الْفَلَاسِفَةِ وَصِنْفٌ منهم يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ
وَتَوْحِيدِهِ وَالرِّسَالَةِ في الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَهُمْ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى
فَإِنْ كان من الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فقال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عن الشَّهَادَةِ أَصْلًا
فإذا أَقَرُّوا بها كان دَلِيلَ إيمَانِهِمْ وَكَذَلِكَ إذَا قال أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ من كل وَاحِدَةٍ من كَلِمَتَيْ
الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بواحدة ( ( ( بواحد ) ) ) مِنْهُمَا
أَيَّتَهُمَا كانت دَلَالَةَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كان من الصِّنْفِ الثَّالِثِ فقال
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ مُنْكِرَ
الرِّسَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ عن هذه الْمَقَالَةِ وَلَوْ قال أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عن هذه
الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بها دَلِيلَ الْإِيمَانِ
وَإِنْ كان من الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فقال لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حتى يَتَبَرَّأَ
من الدِّينِ الدي ( ( ( الذي ) ) ) عليه من الْيَهُودِيَّةِ أو النَّصْرَانِيَّةِ
لِأَنَّ من هَؤُلَاءِ من يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رسول اللَّهِ لَكِنَّهُ يقول إنَّهُ
بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ
بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التبري ( ( ( التبرؤ ) ) ) دَلِيلًا على إيمَانِهِ
وَكَذَا إذَا قال يَهُودِيٌّ أو نَصْرَانِيٌّ أنا مُؤْمِنٌ أو مُسْلِمٌ أو قال
آمَنْتُ أو أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ
أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هو الذي هُمْ
عليه
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما ( ( ( رحمه ) ) ) اللَّهُ أَنَّهُ قال
إذَا قال الْيَهُودِيُّ أو النَّصْرَانِيُّ أنا مُسْلِمٌ أو قال أَسْلَمْتُ سُئِلَ
عن ذلك أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِهِ إنْ قال أَرَدْتُ بِهِ تَرْكَ الْيَهُودِيَّةِ
أو النَّصْرَانِيَّةِ وَالدُّخُولَ في دِينِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
حتى لو رَجَعَ عن ذلك كان مُرْتَدًّا وَإِنْ قال أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَسْلَمْتُ إني
على الْحَقِّ ولم أُرِدْ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عن دِينِي لم يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ
وَلَوْ قال يَهُودِيٌّ أو نَصْرَانِيٌّ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَتَبَرَّأُ عن الْيَهُودِيَّةِ أو النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عن كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ
والتبري ( ( ( والتبرؤ ) ) ) عن الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة لَا يَكُونُ
دَلِيلَ الدُّخُولِ في دِينِ الْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عن ذلك
وَدَخَلَ في دِينٍ آخَرَ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَصْلُحُ التبري ( ( (
التبرؤ ) ) ) دَلِيلَ الْإِيمَانِ مع الِاحْتِمَالِ وَلَوْ أَقَرَّ مع ذلك فقال
دَخَلْتُ في دِينِ الْإِسْلَامِ أو في دِينِ مُحَمَّدٍ حُكِمَ بِالْإِسْلَامِ
لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
فَنَحْوُ أَنْ يُصَلِّيَ كِتَابِيٌّ أو وَاحِدٌ من أَهْلِ الشِّرْكِ في جَمَاعَةٍ
وَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ صلى
وَحْدَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الصَّلَاةَ لو صَلَحَتْ
دَلَالَةَ الْإِيمَانِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ فيها بين حَالِ الِانْفِرَادِ
وَبَيْنَ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ صلى وَحْدَهُ لم يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ
فَعَلَى ذلك إذَا صلى بِجَمَاعَةٍ
وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ على هذه الْهَيْئَةِ التي نُصَلِّيهَا
الْيَوْمَ لم تَكُنْ في شَرَائِعِ من قَبْلَنَا فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةِ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ فَكَانَتْ دَلَالَةً على الدُّخُولِ في دِينِ الْإِسْلَامِ
بِخِلَافِ ما إذَا صلى وَحْدَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ
بِشَرِيعَتِنَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا صلى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
دَلِيلُ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من شَهِدَ
جِنَازَتَنَا وَصَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا له
بِالْإِيمَانِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَذَّنَ في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لنا أَنَّ الْأَذَانَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ
دَلِيلَ قَبُولِ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أو تَلَقَّنَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِاحْتِمَالِ
أَنَّهُ فَعَلَ ذلك لِيَعْلَمَ ما فيه من غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقِيقَةً إذْ
لَا كُلُّ من يَعْلَمُ شيئا يُؤْمِنُ بِهِ كَالْمُعَانِدِينَ من الْكَفَرَةِ
وَلَوْ حَجَّ هل يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ قالوا يُنْظَرُ في ذلك إنْ تَهَيَّأَ
لِلْإِحْرَامِ وَلَبَّى وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مع الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ على هذه الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ لم
تَكُنْ في الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَتِنَا
فَكَانَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَإِنْ لَبَّى ولم
يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ أو شَهِدَ الْمَنَاسِكَ ولم يُلَبِّ لَا يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً في شَرِيعَتِنَا إلَّا
بِالْأَدَاءِ على هذه الْهَيْئَةِ وَالْأَدَاءُ على هذه الْهَيْئَةِ لَا يَكُونُ
دَلِيلَ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ يُصَلِّي سَنَةً وما قَالَا
رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي في جَمَاعَةٍ وهو يقول صَلَّيْتُ صَلَوَاتِي لَا يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَيْضًا فَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ
الْمُطْلَقَةُ دَلَالَةَ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا وقال رَأَيْتُهُ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ
وَشَهِدَ
____________________
(7/103)
الْآخَرُ
وقال رَأَيْتُهُ يُصَلِّي في مسجد ( ( ( المسجد ) ) ) كَذَا وهو مُنْكِرٌ لَا
تُقْبَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا
على وُجُودِ الصَّلَاةِ منه بِجَمَاعَةٍ في الْمَسْجِدِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا
في الْمَسْجِدِ وَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ وهو
الصَّلَاةُ فَقَدْ اجْتَمَعَ شَاهِدَانِ على فِعْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً لَكِنْ
تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا في الْجَبْرِ على الْإِسْلَامِ لَا في الْقَتْلِ
لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان مُتَّحِدًا حَقِيقَةً فَهُوَ مُخْتَلِفٌ
صُورَةً لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً في الْقَتْلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ من طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فإن الصَّبِيَّ
يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ عَقَلَ أو لم يَعْقِلْ ما لم
يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ
أَيْضًا
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الصَّبِيَّ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ في الْإِسْلَامِ
وَالْكُفْرِ وَلَا عِبْرَةَ بِالدَّارِ مع وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ أو أَحَدِهِمَا
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من دِينٍ تَجْرِي عليه أَحْكَامُهُ وَالصَّبِيُّ لَا
يَهْتَمُّ لِذَلِكَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ وَإِمَّا القصورة ( ( ( لقصوره ) ) )
فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَجَعْلُهُ تَبَعًا
لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الدَّارُ
مُنْشَأٌ وَعِنْدَ انْعِدَامِهِمَا في الدَّارِ التي فيها الصَّبِيُّ تَنْتَقِلُ التَّبَعِيَّةُ
إلَى الدَّارِ لِأَنَّ الدَّارَ تَسْتَتْبِعُ الصَّبِيَّ في الْإِسْلَامِ في
الْجُمْلَةِ كَاللَّقِيطِ فإذا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَالْوَلَدُ
يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ وَهِيَ
التَّوَلُّدُ وَالتَّفَرُّعُ فَيُرَجَّحُ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ
يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عليه
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْوَلَدُ
كِتَابِيٌّ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ إلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَقْرَبُ فَكَانَ
الْإِسْلَامُ منه أَرْجَى
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن سُبِيَ مع أبويه
( ( ( أحدهما ) ) ) وَإِمَّا إن سُبِيَ مع أَحَدِهِمَا وَإِمَّا إن سُبِيَ
وَحْدَهُ فَإِنْ سُبِيَ مع أَبَوَيْهِ فما دَامَ في دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ على
دِينِ أَبَوَيْهِ حتى لو مَاتَ لَا يُصَلَّى عليه وَهَذَا ظَاهِرٌ
وَكَذَا إذَا سُبِيَ مع أَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ أَبَوَاهُ أو أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ مَاتَ
الْأَبَوَانِ بَعْدَ ذلك فَهُوَ على دِينِهِمَا حتى يُسْلِمَ بِنَفْسِهِ وَلَا
تَنْقَطِعُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ
ليس بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ في التَّبَعِ وَإِنْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ معه أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ
انْتَقَلَتْ إلَى الدَّارِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ في دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا
له لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِمَا بَيَّنَّا
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ سُبِيَ
الصَّبِيُّ بَعْدَهُ وَأُدْخِلَ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا له
لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ لَا
تُعْتَبَرُ مع أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
فَأَمَّا قبل الْإِدْخَالِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا
لِأَنَّهُمَا في دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَاخْتِلَافُ الدَّارِ يَمْنَعُ
التَّبَعِيَّةَ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ إذَا لم يُسْلِمْ
بِنَفْسِهِ وهو يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وهو يَعْقِلُ
الْإِسْلَامَ فَلَا تُعْتَبَرُ التَّبَعِيَّةُ وَيَصِحُّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ الْقَلَمُ عن
ثَلَاثَةٍ عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يُفِيقَ وَعَنْ
النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ
أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ
وَالْفِقْهُ مُسْتَنْبَطٌ منه
وهو أَنَّ الصَّبِيَّ لو صَحَّ إسْلَامُهُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ فَرْضًا وَإِمَّا
أَنْ يَصِحَّ نَفْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْإِسْلَامِ مُحَالٌ
وَالْفَرْضِيَّةُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ وَالْقَلَمُ عنه مَرْفُوعٌ وَلِأَنَّ
صِحَّةَ الْإِسْلَامِ من الْأَحْكَامِ الضَّارَّةِ فإنه سَبَبٌ لِحِرْمَانِ
الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الْفَرْقِ بين الزَّوْجَيْنِ وَالصَّبِيُّ
ليس من أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ طَلَاقُهُ
وَعِتَاقُهُ ولم يَجِبْ عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ
وَلَنَا أَنَّهُ آمَنَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن غَيْبٍ فَيَصِحُّ
إيمَانُهُ كَالْبَالِغِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عن التَّصْدِيقِ لُغَةً وَشَرْعًا
وهو تَصْدِيقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في جَمِيعِ ما أَنْزَلَ على
رُسُلِهِ
أو تَصْدِيقُ رُسُلِهِ في جَمِيعِ ما جَاءُوا بِهِ عن اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وقد وُجِدَ ذلك منه لِوُجُودِ دَلِيلِهِ وهو إقْرَارُ الْعَاقِلِ
وَخُصُوصًا عن طَوْعٍ فَتُرَتَّبُ عليه الْأَحْكَامُ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على
وُجُودِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً
قال اللَّهُ تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حتى
يُؤْمِنُوا }
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا
الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ
وَقَوْلُهُ إنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ قُلْنَا نعم في الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ
فَأَمَّا في الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ
وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ من الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فَيَجِبُ على كل عَاقِلٍ
وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ على الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَوْفِيقًا بين
الدَّلَائِلِ
وَبِهِ نَقُولُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ فَنَقُولُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْمُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ
وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَكَيْنُونَةُ الْمُؤْمِنِ من أَهْلِ
الْجَنَّةِ إذَا خَتَمَ عليه قال اللَّهُ تَعَالَى { من جاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
خَيْرٌ منها }
____________________
(7/104)
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَعِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا
إلَّا أَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ تَثْبُتُ مَقْصُودَةً وَعِصْمَةُ الْمَالِ
تَثْبُتُ تَابِعَةً لِعِصْمَةِ النَّفْسِ إذْ النَّفْسُ أَصْلٌ في التَّخَلُّقِ
وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلُهُ لِلنَّفْسِ اسْتِبْقَاءً لها
فَمَتَى ثَبَتَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ ثَبَتَتْ عِصْمَةُ الْمَالِ تَبَعًا إلَّا
إذَا وُجِدَ الْقَاطِعُ لِلتَّبَعِيَّةِ على م نَذْكُرُ
فَعَلَى هذا إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ بَلْدَةٍ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قبل أَنْ
يَظْهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ على
أَمْوَالِهِمْ على ما قُلْنَا
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من أَسْلَمَ على مَالٍ فَهُوَ له
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ
مُسْلِمٌ عَمْدًا أو خَطَأً فَلَا شَيْءَ عليه إلَّا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ عليه الدِّيَةُ في الْخَطَأِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الدِّيَةُ مع الْكَفَّارَةِ في
الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ في الْعَمْدِ وَاحْتَجَّا بِالْعُمُومَات الْوَارِدَةِ في
بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مُؤْمِنٍ قُتِلَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ أو في دَارِ الْحَرْبِ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهَا كُلَّ مُوجِبِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ الذي هو من قَوْمٍ
عَدُوٍّ لنا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ ينبىء عن الْكِفَايَةِ
فَاقْتَضَى وُقُوعَ الْكِفَايَةِ بها عَمَّا سِوَاهَا من الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ
جميعا وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لم يُشْرَعْ إلَّا لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَالْحَاجَةُ إلَى الْإِحْيَاءِ
عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ لِعَدَاوَةٍ حَامِلَةٍ عليه وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا
عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ وَلَوْ لم تُوجَدْ ههنا
وَعَلَى هذا إذَا أَسْلَمَ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا حتى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على
الدَّارِ فما كان في يَدِهِ من الْمَقْتُولِ فَهُوَ له وَلَا يَكُونُ فَيْئًا
إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ فإنه يَكُون فَيْئًا لِأَنَّ نَفْسَهُ اسْتَفَادَتْ
الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ وَمَالُهُ الذي في يَدِهِ تَابِعٌ له من كل وَجْهٍ
فَكَانَ مَعْصُومًا تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ لِأَنَّهُ
إذَا قَاتَلَ فَقَدْ خَرَجَ من يَدِ الْمَوْلَى فلم يَبْقَ تَبَعًا له
فَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ فَيَكُون مَحَلًّا
لِلتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَكَذَلِكَ ما كان في يَدِ مُسْلِمٍ أو ذِمِّيٍّ
وَدِيعَةً له فَهُوَ له وَلَا يَكُونُ فَيْئًا
لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ من وَجْهٍ من حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ
له وَيَدُ نَفْسِهِ من حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ
فَكَانَ ما في يَدِهِ مَعْصُومًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ
وَأَمَّا ما كان في يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَيَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ له لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ فَكَانَ
مَعْصُومًا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ من حَيْثُ إنَّهُ
يَحْفَظُ له تَكُونُ يَدُهُ فَيَكُونُ تَبَعًا له فَيَكُونُ مَعْصُومًا
وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا لِأَنَّ نَفْسَ الْحَرْبِيِّ
غَيْرُ مَعْصُومَةٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ في الْعِصْمَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ
مع الشَّكِّ
وَكَذَا عَقَارُهُ يَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ هو وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُ من
حَيْثُ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ فيه بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ يَكُونُ في يَدِهِ فَيَكُونُ
تَبَعًا له من حَيْثُ إنَّهُ مُحْصَنٌ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ ليس في يَدِهِ فَلَا
يَكُونُ تَبَعًا له فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مع الشَّكِّ
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا له
وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَامْرَأَتُهُ يَكُونُونَ فَيْئًا لِأَنَّهُمْ في حُكْمِ
أَنْفُسِهِمْ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ
وَأَمَّا الْوَلَدُ الذي في الْبَطْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ
وَرَقِيقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ
وَفِيهِ إشْكَالٌ
وهو أَنَّ هذا إنْشَاءُ الرِّقِّ على الْمُسْلِمِ وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنْشَاءُ الرِّقِّ على من هو مُسْلِمٌ حَقِيقَةً
لَا على من له حُكْمُ الْوُجُودِ وَالْإِسْلَامُ شَرْعًا
هذا إذَا أَسْلَمَ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ
فَلَوْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ
أَمَّا أَمْوَالُهُ فما كان في يَدِ مُسْلِمٍ أو ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ له
وَلَا يَكُونُ فَيْئًا لِمَا ذَكَرْنَا وما سِوَى ذلك فَهُوَ فَيْءٌ لِمَا
ذَكَرْنَا أَيْضًا
وَقِيلَ ما كان في يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَيُحْكَمُ بإسلامهم ( ( ( بإسلامه ) ) ) تَبَعًا
لِأَبِيهِمْ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ إنْشَاءَ
الرِّقِّ إلَّا رِقًّا ثَبَتَ حُكْمًا بِأَنْ كان الْوَلَدُ في بَطْنِ الْأُمِّ
وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ في حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَكُونُونَ
مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ وَالْوَلَدُ الذي في
الْبَطْنِ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ وَرَقِيقًا تَبَعًا لِأُمِّهِ
وَلَوْ دخل الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ظَهَرَ
الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ فَجَمِيعُ مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ
وَالْكِبَارِ وَامْرَأَتِهِ وما في بَطْنِهَا فَيْءٌ لِمَا لم يُسْلِمْ في دَارِ
الْحَرْبِ حتى خَرَجَ إلَيْنَا لم تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ لِمَالِهِ لِانْعِدَامِ
عِصْمَةِ النَّفْسِ فَبَعْدَ ذلك وَإِنْ صَارَتْ مَعْصُومَةً لَكِنْ بَعْدَ
تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَأَنَّهُ يُمْنَعُ ثُبُوتَ التَّبَعِيَّةِ
وَلَوْ دخل مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا ثُمَّ
ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الذي
____________________
(7/105)
أَسْلَمَ
من أَهْلِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا سَوَاءٌ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَمَانُ فَنَقُولُ الْأَمَانُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ أَمَانٌ
مُؤَقَّتٌ وَأَمَانٌ مُؤَبَّدٌ أَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا
أَحَدُهُمَا الْأَمَانُ الْمَعْرُوفُ وهو أَنْ يُحَاصِرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أو
حِصْنًا من حُصُونِ الْكَفَرَةِ فَيَسْتَأْمِنُهُمْ الْكُفَّارُ فَيُؤَمِّنُوهُمْ
وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْأَمَانِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَانِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي
بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ
فَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ على الْأَمَانِ نَحْوُ قَوْلِ
الْمُقَاتِلِ أَمَّنْتُكُمْ أو أَنْتُمْ آمِنُونَ أو أَعْطَيْتُكُمْ الْأَمَانَ
وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ في حَالٍ يَكُونُ
بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ
وَالْأَمَانُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فَيَتَنَاقَضُ إلَّا إذَا كان في
حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ
قِتَالًا مَعْنًى لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فَلَا
يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ
وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا
يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَسَلَامَةُ الْعَقْلِ عن الْآفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ حتى إنَّ الصَّبِيَّ
الْمُرَاهِقَ الذي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَالْبَالِغَ الْمُخْتَلِطَ الْعَقْلِ
إذَا أَمَّنَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ أَهْلِيَّةِ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ على أَهْلِيَّةِ
الْإِيمَانِ وَالصَّبِيُّ الذي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ من أَهْلِ الْإِيمَانِ
فَيَكُونُ من أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ
وَلَنَا أَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ حُكْمِ الْأَمَانِ فَلَا يَكُونُ من
أَهْلِ الْأَمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ
وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ وَلِأَنَّ من شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ
أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ وَهَذِهِ حَالَةٌ
خَفِيَّةٌ لَا يُوقَفُ عليها إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَلَا يُوجَدُ ذلك
من الصَّبِيِّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ وَإِنْ كان يُقَاتِلُ مع
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُؤْمَنُ
خِيَانَتُهُ وَلِأَنَّهُ إذَا كان مُتَّهَمًا فَلَا يدرى أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ
على مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ من التَّفَرُّقِ عن حالة ( ( ( حال ) )
) الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا فَيَقَعُ الشَّكُّ في وُجُودِ شَرْطِ
الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ مع الشَّكِّ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ فَيَصِحُّ
أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ في الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يَصِحُّ
أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عن الْقِتَالِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ وقال مُحَمَّدٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْمُسْلِمُونَ
تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَالذِّمَّةُ
الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ نَوْعُ عَهْدٍ وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَدْنَى
الْمُسْلِمِينَ فَيَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى يَعْمَلُ
في التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ دُونَ النَّافِعَةِ بَلْ هو في التَّصَرُّفَاتِ
النَّافِعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَلَا مَضَرَّةَ
لِلْمَوْلَى في أَمَانِ الْعَبْدِ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ عليه لِأَنَّهُ
يَتَأَدَّى في زَمَانٍ قَلِيلٍ بَلْ له وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فيه مَنْفَعَةٌ
فَلَا يَظْهَرُ انْحِجَارُهُ عنه فَأَشْبَهَ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَمَانُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ
الْقِتَالَ فَرْضٌ وَالْأَمَانُ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ إلَّا إذَا وَقَعَ في حَالٍ
يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً
إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ في هذه الْحَالَةِ فَيَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى
إذْ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهَا حُكْمُ ذلك الشَّيْءِ وَهَذِهِ حَالَةٌ
لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ في حَالِ الْمُسْلِمِينَ في
قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ
الْمَوْلَى لَا يَقِفُ عَلَيْهِمَا فَكَانَ أَمَانُهُ تَرْكًا لِلْقِتَالِ
الْمَفْرُوضِ صُورَةً وَمَعْنًى فَلَا يَجُوزُ فَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ
لِأَنَّ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ يَقِفُ على هذه الْحَالَةِ فَيَقَعُ أَمَانُهُ
وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ لِأَنَّ الْأَدْنَى إمَّا
أَنْ يَكُونَ من الدَّنَاءَةِ وَهِيَ الْخَسَاسَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من
الدُّنُوِّ وهو الْقُرْبُ
وَالْأَوَّلُ ليس بِمُرَادٍ لِأَنَّ الحديث يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا
خَسَاسَةَ مع الْإِسْلَامِ
وَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ في صَفِّ
الْقِتَالِ فَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْكَفَرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ
لِأَنَّهَا بِمَا مَعَهَا من الْعَقْلِ لَا تَعْجِزُ عن الْوُقُوفِ على حَالِ
الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وقد رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا زَيْنَبَ بِنْتَ النبي
الْمُكَرَّمِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ
رضي اللَّهُ عنه وَأَجَازَ رسول اللَّهِ أَمَانَهَا
وَكَذَلِكَ السلام ( ( ( السلامة ) ) ) عن الْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ لِأَنَّ
الْأَصْلَ في صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عن رَأْيٍ وَنَظَرٍ في الْأَحْوَالِ
الْخَفِيَّةِ من الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَهَذِهِ
____________________
(7/106)
الْعَوَارِضُ
لَا تَقْدَحُ فيه ولايجوز أَمَانُ التَّاجِرِ في دَارِ الْحَرْبِ وَالْأَسِيرِ
فيها وَالْحَرْبِيِّ الذي أَسْلَمَ هُنَاكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقِفُونَ على
حَالِ الْغُزَاةِ من الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَلَا يَعْرِفُونَ لِلْأَمَانِ
مَصْلَحَةً وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ في حَقِّ الْغُزَاةِ لِكَوْنِهِمْ
مَقْهُورِينَ في أَيْدِي الْكَفَرَةِ
وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ أَمَانُ الْوَاحِدِ لِقَوْلِهِ
عليه السلام وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ على
حَالَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يَقِفُ على رَأْيِ الْجَمَاعَةِ فَيَصِحُّ من
الْوَاحِدِ وَسَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أو قَلِيلَةً أو أَهْلَ مِصْرٍ
أو قَرْيَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ لِأَنَّ لَفْظَ
الْأَمَانِ يَدُلُّ عليه وهو قَوْلُهُ أَمَّنْتُ فَثَبَتَ الْأَمْنُ لهم عن
الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَام فَيَحْرُمُ على الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ
رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ حتى لو رَأَى الْإِمَامُ
الْمَصْلَحَةَ في النَّقْضِ يَنْقُضُ لِأَنَّ جَوَازَهُ مع أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ
تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ كان لِلْمَصْلَحَةِ فإذا صَارَتْ الْمَصْلَحَةُ في
النَّقْضِ نَقَضَ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ فَالْأَمْرُ فيه لَا يَخْلُو من
أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان الْأَمَانُ مُطْلَقًا وَإِمَّا إن كان مُؤَقَّتًا
إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كان مُطْلَقًا فَانْتِقَاضُهُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ
أَحَدُهُمَا نَقْضُ الْإِمَامِ فإذا نَقَضَ الْإِمَامُ انْتَقَضَ لَكِنْ يَنْبَغِي
أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ منهم غَدْرٌ
في الْعَهْدِ
وَالثَّانِي أَنْ يَجِيءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ إلى الإمام فَيَنْقُضَ
وإذا جاؤا الْإِمَامَ بِالْأَمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ
فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ
ثُمَّ قَاتَلَهُمْ احْتِرَازًا عن الْغَدْرِ فَإِنْ أبو ( ( ( أبوا ) ) )
الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ وَأَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ فإن
الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُمْ على ما يَرَى فَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ في
الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ وَإِلَّا صَارُوا ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ بَعْدَ ذلك
أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ لِأَنَّ مَقَامَهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ
الْمَضْرُوبِ الْتِزَامُ الذِّمَّةِ دَلَالَةً وَإِنْ كان الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا
إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى
النَّقْضِ وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ إلَّا إذَا دخل وَاحِدٌ منهم دَارَ
الْإِسْلَامِ فَمَضَى الْوَقْتُ وهو فيه فَهُوَ آمِنٌ حتى يَرْجِعَ إلَى
مَأْمَنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا حَاصَرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أو حِصْنًا من حُصُونِ الْكَفَرَةِ فجاؤا ( ( (
فجاءوا ) ) ) فَاسْتَأْمَنُوهُمْ فَأَمَّا إذَا اسْتَنْزَلُوهُمْ عن الْحُكْمِ
فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى
وَإِمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ على
حُكْمِ رَجُلٍ فَإِنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
جَازَ إنْزَالُهُمْ عليه عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ إنْ
شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَإِنْ شَاءَ
سَبَى الْكُلَّ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ
وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَكِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَوْا
جُعِلُوا ذِمَّةً
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في وَصَايَا
الْأُمَرَاءِ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ وإذا حَاصَرْتُمْ مَدِينَةً أو حِصْنًا
فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ عز وجل فَإِنَّكُمْ لَا
تَدْرُونَ ما حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ نهى رسول اللَّهِ عن الْإِنْزَالِ
على حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَبَّهَ عليه السلام على الْمَعْنَى وهو أَنَّ
حُكْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْإِنْزَالُ على
حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى من الْإِمَامِ قَضَاءً بِالْمَجْهُولِ وأنه لَا يَصِحُّ
وإذا لم يَصِحَّ الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُدْعَوْنَ
إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ على
أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَإِنْ أَبَوْا لَا يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ وَلَا
يَسْتَرِقُّهُمْ وَلَكِنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً فَإِنْ طَلَبُوا من الْإِمَامِ
أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ لم يُجِبْهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لو رَدَّهُمْ
إلَى مَأْمَنِهِمْ لَصَارُوا حَرْبًا لنا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِنْزَالَ على حُكْمِ اللَّهِ عز وجل هو
الِاسْتِنْزَالُ على الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ في حَقِّ الْكَفَرَةِ
وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ كُلُّ ذلك حُكْمٌ مَشْرُوعٌ في
حَقِّهِمْ فَجَازَ الْإِنْزَالُ عليه قَوْلُهُ إنَّ ذلك مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي
الْمُنْزَلَ عليه أَيُّ حُكْمٍ هو قُلْنَا نعم لَكِنْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ
وَالْعِلْمُ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ وهو الِاخْتِيَارُ وَهَذَا لَا
يَكْفِي لِجَوَازِ الْإِنْزَالِ عليه كما قُلْنَا في الْكَفَّارَاتِ أن الْوَاجِبَ
أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثلاث ( ( ( الثلاثة ) ) ) وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ثُمَّ
لم يَمْنَعْ ذلك وُقُوعَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ
بِهِ وهو اخْتِيَارُ الْكُفْرِ الْمُكَلَّفُ كَذَا هذا يَدُلُّ عليه أن يَجُوزُ
الْإِنْزَالُ على حُكْمِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ والإنزال على حُكْمِ
الْعِبَادِ إنْزَالٌ على حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً إذْ الْعَبْدُ لَا
يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ من نَفْسِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يُشْرِكُ
في حُكْمِهِ أَحَدًا }
وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُ
حُكْمَ اللَّهِ عز وجل الْمَشْرُوعَ في الْحَادِثَةِ وَلِهَذَا قال رسول اللَّهِ
لِسَعْدِ بن مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه لقد حَكَمْتَ
____________________
(7/107)
بِحُكْمِ
اللَّهِ تَعَالَى من فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى زَمَانِ جَوَازِ وُرُودِ
النَّسْخِ وهو حَالُ حَيَاةِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِانْعِدَامِ
اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ في حَيَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْزَالُ على الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَسَى
لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فِيمَا بين ذلك وقد انْعَدَمَ هذا الْمَعْنَى بَعْدَ
وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ عن احْتِمَالِ
النَّسْخِ بِوَفَاتِهِ
وإذا جَازَ الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ أبي
يُوسُفَ فَالْخِيَارُ فيه إلَى الْإِمَامِ فَأَيُّمَا كان أَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ
من الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالذِّمَّةِ فُعِلَ لِأَنَّ كُلَّ ذلك حُكْمُ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ في حَقِّ الْكَفَرَةِ فَإِنْ
أَسْلَمُوا قبل الِاخْتِيَارِ فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ
عليهم وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَالْأَرْضُ لهم وَهِيَ عُشْرِيَّةٍ
وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ وَيَضَعُ على أَرَاضِيهِمْ
الْخَرَاجَ فَإِنْ أَسْلَمُوا قبل تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ صَارَتْ عُشْرِيَّةٍ
هذا إذَا كان الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَمَّا
إذَا كان على حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ رَجُلٍ
فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ
رَجُلٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قالوا على حُكْمِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ سَمَّوْهُ
وَإِمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كان
الِاسْتِنْزَالُ على حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَنَزَلُوا على حُكْمِهِ فَحَكَمَ
عليهم بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وهو رَجُلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ غَيْرُ
مَحْدُودٍ في قَذْفٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ
لَمَّا حَاصَرَهُمْ رسول اللَّهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً اسْتَنْزَلُوا على
حُكْمِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ وَتُقْسَمَ
أَمْوَالُهُمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فقال رسول اللَّهِ لقد
حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى من فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةً فَقَدْ
اسْتَصْوَبَ رسول اللَّهِ حُكْمَهُ حَيْثُ أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّ ما حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّ حُكْمَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا
وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِرَدِّهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ
حَكَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِمَا بَيَّنَّا
لِأَنَّهُمْ بِالرَّدِّ يَصِيرُونَ حَرْبِيِّينَ لنا
وَإِنْ كان الْحَاكِمُ عَبْدًا أو صَبِيًّا لم يَجُزْ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وإن
كان فَاسِقًا أو مَحْدُودًا في الْقَذْفِ لم يَجُزْ حُكْمُهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ قَاضِيًا
فَيَصْلُحُ حَكَمًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْدُودَ في الْقَذْفِ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا
لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَلِهَذَا لم يَصْلُحْ قَاضِيًا
وَكَذَا الْفَاسِقُ لَا يصح ( ( ( يصلح ) ) ) حَكَمًا وَإِنْ صَلَحَ قَاضِيًا
لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ وَلِهَذَا لو رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى قَاضٍ
آخَرَ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ كان ذِمِّيًّا جَازَ
حُكْمُهُ في الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الشَّهَادَةِ على جِنْسِهِ وَإِنْ
نَزَلُوا على حُكْمِ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ فَاخْتَارُوا رَجُلًا فَإِنْ كان
مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ جَازَ حُكْمُهُ وَإِنْ كان غير مَوْضِعٍ لِلْحُكْمِ لَا
يُقْبَلُ منهم حتى يَخْتَارُوا رَجُلًا مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ فَإِنْ لم
يَخْتَارُوا أَبْلَغَهُمْ الْإِمَامُ مَأْمَنَهُمْ لِأَنَّ النُّزُولَ كان على
شَرْطٍ وهو حُكْمُ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ فإذا لم يَخْتَارُوا فَقَدْ بَقُوا في
يَدِ الْإِمَامِ بِالْأَمَانِ فَيَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا
يَرُدُّهُمْ إلَى حِصْنٍ هو أَحْصَنُ من الْأَوَّلِ وَلَا إلَى حَدٍّ
يَمْتَنِعُونَ بِهِ لِأَنَّ الرَّدَّ إلَى الْمَأْمَنِ لِلتَّحَرُّجِ عن تَوَهُّمِ
الْعُذْرِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالرَّدِّ إلَى ما كَانُوا عليه فَلَا ضَرُورَةَ في
الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ نَزَلُوا على حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ
فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا صَالِحًا لِلْحُكْمِ فِيهِمْ أو يَحْكُمَ
لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ بِمَا هو أَفْضَلُ لهم
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ الْمُعَاهَدَةُ وَالصُّلْحُ على تَرْكِ
الْقِتَالِ يُقَالُ تَوَادَعَ الْفَرِيقَانِ أَيَّ تَعَاهَدَا على أَنْ لَا
يَغْزُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَالْكَلَامُ في الْمُوَادَعَةِ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِهَا وَشَرْطِهَا وَحُكْمِهَا وَصِفَتِهَا وما
يُنْتَقَضُ بِهِ
أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ لَفْظَةُ الْمُوَادَعَةِ أو الْمُسَالَمَةِ أو الْمُصَالَحَةِ
أو الْمُعَاهَدَةِ أو ما يُؤَدِّي مَعْنَى هذه الْعِبَارَاتِ وَشَرْطُهَا
الضَّرُورَةُ وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ بِأَنْ كان
بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ
آخَرِينَ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ
الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا في حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى
الْقِتَالِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ
الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ } وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ
بِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لها وَتَوَكَّلْ على اللَّهِ } وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ على أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ
سِنِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ حتى لو وَادَعَهُمْ
الْإِمَامُ أو فَرِيقٌ من الْمُسْلِمِينَ من غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ
مُوَادَعَتُهُمْ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عليه كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ
مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وقد وُجِدَ
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ على ذلك جُعْلًا لِأَنَّ ذلك في
مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ في بَيْتِ الْمَالِ وَلَا
بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ الصُّلْحَ من الْكَفَرَةِ وَيُعْطُوا على ذلك
مَالًا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لها } أَبَاحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا
الصُّلْحَ مُطْلَقًا
____________________
(7/108)
فَيَجُوزُ
بِبَدَلٍ أو غَيْرِ بَدَلٍ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ على مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّ
الْكَفَرَةِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ في الثَّانِي من بَابِ
الْمُجَاهَدَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فَيَكُونُ جَائِزًا وَتَجُوزُ مُوَادَعَةُ
الْمُرْتَدِّينَ إذَا غَلَبُوا على دَارٍ من دُورِ الْإِسْلَامِ وَخِيفَ منهم ولم
تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فيه من مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ
وَرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ لا يُؤْخَذُ منهم على ذلك
مَالٌ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ من
الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ أَخَذَ منهم شيئا لَا يُرَدُّ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ
مَعْصُومٍ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَاءِ كَأَمْوَالِ
أَهْلِ الْحَرْبِ
وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ تَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ
لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُوَادَعَةُ الْكَفَرَةِ فَلَأَنْ تَجُوزَ مُوَادَعَةُ
الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى
وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ منهم على ذلك مَالٌ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ على
تَرْكِ الْقِتَالِ يَكُونُ في مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ
إلَّا من كَافِرٍ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فما ( ( ( فهو ) ) ) هو حُكْمُ الْأَمَانِ
الْمَعْرُوفِ وهو أَنْ يَأْمَنَ الْمُوَادِعُونَ على أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانٍ أَيْضًا
وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ من الْمُوَادَعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ
الْبَلْدَةَ فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عليهم لِأَنَّ عَقْدَ
الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لهم فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى
مَوْضِعٍ آخَرَ كما في الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ وهو عَقْدُ الذِّمَّةِ أنه لَا
يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو دخل في دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ من غَيْرِ دارهم ( ( ( دراهم )
) ) بِأَمَانٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ
آمِنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا دخل دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ
من جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إلَى دَارِهِ ثُمَّ دخل دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ
أَمَانٍ كان فَيْئًا لنا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى
دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فَبَطَلَ
حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ في حَقِّهِ فإذا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا حَرْبِيٌّ
دخل دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ
وَلَوْ أَسَرَ واحدا من الْمُوَادَعِينَ أَهْلَ دَارٍ أُخْرَى فَغَزَا
الْمُسْلِمُونَ على تِلْكَ الدَّارِ كان فَيْئًا وقد ذَكَرْنَا أَنَّهُ لو دخل
إلَيْهِمْ تاجرا ( ( ( تاجر ) ) ) فَهُوَ آمِنٌ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ
في حَقِّهِ
وإذا دخل تَاجِرًا لم يَنْقَطِعْ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ
مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إلَيْهِمْ على سَوَاءٍ } فإذا وَصَلَ النَّبْذُ إلَى مَلِكِهِمْ فَلَا بَأْسَ
لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عليهم لِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ قَوْمَهُ
ظَاهِرًا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ خَبَرَ النَّبْذِ لم
يَبْلُغْ قَوْمَهُ ولم يَعْلَمُوا بِهِ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَغْزُوا عليهم لِأَنَّ
الْخَبَرَ إذَا لم يَبْلُغْهُمْ فَهُمْ على حُكْمِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ فَكَانَ
قِتَالُهُمْ مِنَّا غَدْرًا وتعزيرا ( ( ( وتغريرا ) ) )
وَكَذَلِكَ إذَا كان النَّبْذُ من جِهَتِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلُوا إلَيْنَا رَسُولًا
بِالنَّبْذِ وَأَخْبَرُوا الْإِمَامَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَغْزُوا عليهم لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَهْلَ
نَاحِيَةٍ منهم لم يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ وَادَعَ الْإِمَامُ على جَعْلٍ أَخَذَهُ منهم ثُمَّ بَدَا له أَنْ يَنْقُضَ
فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ
مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ بِحِصَّةِ ما بَقِيَ من
الْمُدَّةِ من الْجَعْلِ الذي أَخَذَهُ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ ذلك
بِمُقَابَلَةِ الْأَمَانِ في كل الْمُدَّةِ فإذا فَاتَ بَعْضُهَا لَزِمَ الرَّدُّ
بِقَدْرِ الْفَائِتِ
هذا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ على أَنْ يَكُونُوا مُسْتَبْقِينَ على أَحْكَامِ
الْكُفْرِ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ على أَنَّهُ يُجْرِي عليهم أَحْكَامَ
الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِأَنَّ الصُّلْحَ
الْوَاقِعَ على هذا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَنْبِذَ إلَيْهِمْ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُنْقَضُ بِهِ عَقَدُ الْمُوَادَعَةِ فَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ
عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ إمَّا إن كان مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن كان
مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كان مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ فَاَلَّذِي
يُنْتَقَضُ بِهِ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ فَالنَّصُّ هو النَّبْذُ من
الْجَانِبَيْنِ صَرِيحًا
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ منهم ما يَدُلُّ على النَّبْذِ نَحْوُ
أَنْ يَخْرُجَ قَوْمٌ من دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَقْطَعُوا
الطَّرِيقَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ دَلَالَةُ
النَّبْذِ
وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ من غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا مَنَعَةَ لهم لَا يَكُونُ ذلك نَقْضًا
لِلْعَهْدِ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِلَا مَنَعَةٍ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً
لِلنَّقْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَصَّ وَاحِدٌ منهم على النَّقْضِ لَا يُنْتَقَضُ كما في
الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ وهو عَقْدُ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لهم
مَنَعَةٌ فَخَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلَا إذْنِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ
____________________
(7/109)
فَالْمَلِكُ
وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ على مُوَادَعَتِهِمْ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ النَّقْضِ في
حَقِّهِمْ وَلَكِنْ يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِيمَا بين الْقُطَّاعِ حتى يُبَاحَ
قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ لِوُجُودِ دَلِيلِ النَّقْضِ منهم وَإِنْ كان
مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي الْعَهْدُ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ من
غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّبْذِ حتى كان لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عليهم
لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُؤَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ
من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّاقِضِ وَلَوْ كان وَاحِدٌ منهم دخل الْإِسْلَامَ
بِالْمُوَادَعَةِ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَضَى الْوَقْتُ وهو في دَارِ الْإِسْلَامِ
فَهُوَ آمِنٌ حتى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ له يُوهِمُ
الْغَدْرَ والتعزير ( ( ( والتغرير ) ) ) فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عنه ما أَمْكَنَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَقْدِ الذِّمَّةِ
وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ
ما يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وما يَتَعَرَّضُ له وما لَا يَتَعَرَّضُ له
أَمَّا رُكْنُ الْعَقْدِ فَهُوَ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ لَفْظٌ يَدُلُّ عليه وهو لَفْظُ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ على
وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ فِعْلٌ يَدُلُّ على قَبُولِ
الْجِزْيَةِ نَحْوُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ
فَإِنْ أَقَامَ بها سَنَةً بعدما تَقَدَّمَ إلَيْهِ في أَنْ يَخْرُجَ أو يَكُونَ
ذِمِّيًّا وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ
يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فَيَضْرِبَ له مُدَّةً
مَعْلُومَةً على حَسَبِ ما يَقْتَضِي رَأْيُهُ وَيَقُولَ له إنْ جَاوَزْتَ
الْمُدَّةَ جَعَلْتُكَ من أَهْلِ الذِّمَّةِ فإذا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا
لِأَنَّهُ لَمَّا قال له ذلك فلم يَخْرُجْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ رضي
بِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا فإذا أَقَامَ سَنَةً من يَوْمِ قال له الْإِمَامُ
أَخَذَ منه الْجِزْيَةَ وَلَا يَتْرُكُهُ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ قبل ذلك
وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا سَبِيلَ عليه
وَلَوْ قال الْإِمَامُ عِنْدَ الدُّخُولِ اُدْخُلْ وَلَا تَمْكُثْ سَنَةً فَمَكَثَ
سَنَةً صَارَ ذِمِّيًّا وَلَا يُمَكَّنُ من الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فإذا وَضَعَ عليه
الْخَرَاجَ صَارَ ذِمِّيًّا لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَّاجِ يَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ
في دَارِ الْإِسْلَامِ فإذا قَبِلَهَا فَقَدْ رضي بِكَوْنِهِ من أَهْلِ دَارِ
الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا وَلَوْ بَاعَهَا قبل أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا
لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا
لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا نَفْسُ الشِّرَاءِ
فما لم يُوضَعْ عليه الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَزَرَعَهَا لم يَصِرْ ذِمِّيًّا لِأَنَّ
الْخَرَاجَ على الْآجِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَدُلُّ على الْتِزَامِ
الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كان خراج ( ( ( خراجا ) ) ) مُقَاسَمَةً
فإذا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ من الْخَارِجِ وَضَعَ
عليه الْجِزْيَةَ وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ الْمُقَاسَمَةِ وَأَجَّرَهَا من رَجُلٍ من
الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ من ذلك لَا يَصِيرُ
الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ لَا يَدُلُّ
على الِالْتِزَامِ بَلْ دَلِيلُ الِالْتِزَامِ هو وُجُوبُ الْخَرَاجِ عليه ولم يَجِبْ
وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا
فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا
فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ أنه لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا
لِأَنَّهُ إذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لم يَجِبْ الْخَرَاجُ فَصَارَ كَأَنَّهُ
لم يَزْرَعْهَا فَبَقِيَ نَفْسُ الشِّرَاءِ وأنه لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ قَبُولِ
الذِّمَّةِ
وَلَوْ وَجَبَ على الْمُسْتَأْمَنِ الْخَرَاجُ في أَقَلَّ من سَنَةٍ مُنْذُ يَوْمِ
مَلَكَهَا صَارَ ذِمِّيًّا حين وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَيُؤْخَذُ منه خَرَاجُ
رَأْسِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ خَرَاجِ الْأَرْضِ
صَارَ ذِمِّيًّا
كان عَقْدُ الذِّمَّةِ نَصًّا فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ من حِينِ وُجُوبِ
الْخَرَاجِ فَيُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ من ذلك
الْوَقْتِ
وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ في دَارِ الْإِسْلَامِ
ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَلَوْ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ في
دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيَّةً لم يَصِرْ ذِمِّيًّا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا فإذا تَزَوَّجَتْ
بِذِمِّيٍّ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ في دَارِنَا فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً
تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَرْأَةِ فَلَا
يَكُونُ تَزَوُّجُهُ إيَّاهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ في دَارِنَا فَلَا
يَصِيرُ ذِمِّيًّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعَاهَدُ من
مُشْرِكِي الْعَرَبِ فإنه لَا يُقْبَلُ منهم إلَّا الْإِسْلَامُ أو السَّيْفُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى
قَوْله تَعَالَى { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ ولم يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا عِنْدَ
تَوْبَتِهِمْ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَيَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مع أَهْلِ
الْكِتَابِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { من
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَةَ
وَسَوَاءٌ كَانُوا من الْعَرَبِ أو من الْعَجَمِ لِعُمُومِ النَّصِّ وَيَجُوزُ مع
الْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ في حَقِّ الْجِزْيَةِ
لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في الْمَجُوسِ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ
أَهْلِ الْكِتَابِ
وَكَذَلِكَ فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ
وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ على جَمَاجِمِهِمْ وَالْخَرَاجَ على أَرَاضِيهِمْ
ثُمَّ وَجْهُ الْفَرْقِ بين مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ من أَهْلِ
الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي
____________________
(7/110)
الْعَجَمِ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا تُرِكُوا بِالذِّمَّةِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ لَا
لِرَغْبَةٍ فِيمَا يُؤْخَذُ منهم أو طَمَعٍ في ذلك بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى
الْإِسْلَامِ لِيُخَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَمَّلُوا في مَحَاسِنِ
الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَيَنْظُرُوا فيها فَيَرَوْهَا مُؤَسَّسَةً على ما
تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ وَتَقْبَلُهُ فَيَدْعُوهُمْ ذلك إلَى الْإِسْلَامِ
فَيَرْغَبُونَ فيه فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مع مُشْرِكِي الْعَرَبِ
لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَعَادَةٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْعَادَةِ
وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ بَلْ يَعُدُّونَ ما سِوَى ذلك سُخْرِيَةً وَجُنُونًا فَلَا
يَشْتَغِلُونَ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ لِيَقِفُوا
عليها فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لهم إلَى
الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لم يَقْبَلْ رسول اللَّهِ منهم الْجِزْيَةَ
ومشركوا ( ( ( ومشركو ) ) ) الْعَجَمِ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ في هذا
الْحُكْمِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا فإنه لَا يُقْبَلُ من الْمُرْتَدِّ أَيْضًا
إلَّا الْإِسْلَامُ أو السَّيْفُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ } قِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ في أَهْلِ
الرِّدَّةِ من بَنِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ في حَقِّ الْمُرْتَدِّ لَا
يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ عن
دِينِ الْإِسْلَامِ بعدما عَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَشَرَائِعَهُ الْمَحْمُودَةَ في
الْعُقُولِ إلَّا لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَشُؤْمِ طَبْعِهِ فَيَقَعُ الْيَأْسُ عن
فَلَاحِهِ فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ في حَقِّهِ
وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَيُعْقَدُ لهم عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هم قَوْمٌ من أَهْلِ الْكِتَابِ يقرؤون (
( ( يقرءون ) ) ) الزَّبُورَ وَعِنْدَهُمَا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ
فَكَانُوا في حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَتُؤْخَذُ منهم الْجِزْيَةُ إذَا
كَانُوا من الْعَجَمِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا فَإِنْ وَقَّتَ له وَقْتًا لم يَصِحَّ عَقْدُ
الذِّمَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ في إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عن
عَقْدِ الْإِسْلَامِ
وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ إنَّ
لِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَحْكَامًا منها عِصْمَةُ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل { حتى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } نهى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
إبَاحَةَ الْقِتَالِ إلَى غَايَةِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ وإذا انْتَهَتْ
الْإِبَاحَةُ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً
وَمِنْهَا عِصْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ
الذِّمَّةِ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا
وَالْكَلَامُ في وُجُوبِ الْجِزْيَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ
الْجِزْيَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ وفي
بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ وَأَمَّا شَرَائِطُ
الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا
الذُّكُورَةُ فَلَا تَجِبُ على الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الْجِزْيَةَ على من هو من أَهْلِ
الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ
وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ من الْقِتَالِ فَتَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةِ الْقِتَالِ
من الْجَانِبَيْنِ فَلَا تَجِبُ على من ليس من أَهْلِ الْقِتَالِ وَهَؤُلَاءِ
لَيْسُوا من أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ عليهم
وَمِنْهَا الصِّحَّةُ فَلَا تَجِبُ على الْمَرِيضِ إذَا مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا
لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ على الْقِتَالِ
وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَإِنْ صَحَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ
وَجَبَتْ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ
وَمِنْهَا السَّلَامَةُ عن الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ فَلَا تَجِبُ على الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ على هَؤُلَاءِ إذَا كان
لهم مَالٌ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا
من أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ وَكَذَا
الْفَقِيرُ الذي لَا يَعْتَمِلُ لَا قُدْرَةَ له لِأَنَّ من لَا يَقْدِرُ على
الْعَمَلِ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْقِتَالِ
وَأَمَّا أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا
قَادِرِينَ على الْعَمَلِ لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الْقِتَالِ فَعَدَمُ الْعَمَلِ مع
الْقُدْرَةِ على الْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كما إذَا كان له أَرْضٌ
خَرَاجِيَّةٌ فلم يَزْرَعْهَا مع الْقُدْرَةِ على الزِّرَاعَةِ لَا يَسْقُطُ عنه
الْخَرَاجُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَجِبُ على الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ ليس من
أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ
وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَقْنِ
الدَّمِ في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَكِنْ
تُؤْخَذُ في كل شَهْرٍ من الْفَقِيرِ دِرْهَمٌ وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِرْهَمَانِ
وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْجِزْيَةُ على ضَرْبَيْنِ جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وهو الصُّلْحُ
وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ ما وَقَعَ عليه الصُّلْحُ كما صَالَحَ رسول اللَّهِ
____________________
(7/111)
أَهْلَ
نَجْرَانَ على أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ
وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ عليهم من غَيْرِ رِضَاهُمْ بِأَنْ ظَهَرَ
الْإِمَامُ على أَرْضِ الْكُفَّارِ وَأَقَرَّهُمْ على أَمْلَاكِهِمْ وَجَعَلَهُمْ
ذِمَّةً وَذَلِكَ على ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ
أَغْنِيَاءُ وَأَوْسَاطٌ وَفُقَرَاءُ فَيَضَعُ على الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وعشرون ( ( ( وعشرين ) ) )
دِرْهَمًا وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا
كَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَمَرَ عُثْمَانَ بن
حُنَيْفٍ حين بَعَثَهُ إلَى السَّوَادِ أَنْ يَضَعَ هَكَذَا وكان ذلك من
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ من الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَهُوَ
كَالْإِجْمَاعِ على ذلك مع ما أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ من سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَأْيًا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهَا
التَّوْقِيفُ وَالسَّمْعُ لَا الْعَقْلُ فَهُوَ كَالْمَسْمُوعِ من رسول اللَّهِ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الْغَنِيِّ في هذا الْبَابِ وَالْوَسَطِ
وَالْفَقِيرِ
قال بَعْضُهُمْ من لم يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ في مِثْلِهِ الزَّكَاةُ على
الْمُسْلِمِينَ وهو مِائَتَا دِرْهَمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ فَهُوَ من الْأَوَاسِطِ وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ
فَصَاعِدًا فَهُوَ من الْأَغْنِيَاءِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ
اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا
أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فما دُونَهَا نَفَقَةٌ وما فَوْقَ ذلك كَنْزٌ وَقِيلَ
من مَلَكَ مائتين ( ( ( مائتي ) ) ) دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فما دُونَهَا
فَهُوَ من الْأَوْسَاطِ وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً على عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ من
الْأَغْنِيَاءِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها الْإِسْلَامُ
وَمِنْهَا الْمَوْتُ عِنْدَنَا فإن الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ أو مَاتَ سَقَطَتْ
الْجِزْيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَسْقُطُ
بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عِوَضًا عن الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّ
شَأْنُهُ { حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَبَاحَ جَلَّتْ
عَظَمَتُهُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِتَالِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ فَكَانَتْ
الْجِزْيَةُ عِوَضًا عن حَقْنِ الدَّمِ وقد حَصَلَ له المعوض ( ( ( العوض ) ) ) في
الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَا يَسْقُطُ عنه الْعِوَضُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال ليس على مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ وَعَنْ
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ رَفَعَ الْجِزْيَةَ بِالْإِسْلَامِ
فقال وَاَللَّهِ إنَّ في الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا إنْ فَعَلَ وَلِأَنَّهَا
وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ
وَالْمَوْتِ كَالْقِتَالِ
والدليل على أنها وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فُرِضَ
بِالنُّصُوصِ وَالْجِزْيَةُ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ فَلَا يَجُوزُ شَرْعُ
عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ الذي فيه تَرْكُ الْقِتَالِ إلَّا لِمَا شُرِعَ
له الْقِتَالُ وهو التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنَاقُضًا
وَالشَّرِيعَةُ لَا تَتَنَاقَضُ
وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ
فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَقَوْلُهُ إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا عن حَقْنِ الدَّمِ مَمْنُوعٌ بَلْ ما
وَجَبَتْ إلَّا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَمْكِينَ الْكَفَرَةِ في
دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَرْكَ قِتَالِهِمْ مع قَوْلِهِمْ في اللَّهِ ما لَا يَلِيقُ
بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْوُصُولِ إلَى عَرَضٍ يَسِيرٍ من
الدُّنْيَا خَارِجٌ عن الْحُكْمِ وَالْعَقْلِ
فَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِعْدَامُ الْكَفَرَةِ فَمَعْقُولٌ مع
ما أنها إنْ وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ فَإِنَّمَا تَجِبُ كَذَلِكَ في
الْمُسْتَقْبَلِ وإذا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِيمَا مَضَى فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ
الْجِزْيَةِ لِأَجْلِهِ فَتَسْقُطُ
وَمِنْهَا مُضِيُّ سَنَةٍ تَامَّةٍ وَدُخُولُ سَنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا تَسْقُطُ حتى إنَّهُ إذَا مَضَى على الذِّمَّةِ سَنَةٌ
كَامِلَةٌ وَدَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى قبل أَنْ يُؤَدِّيَهَا الذِّمِّيُّ تُؤْخَذُ
منه لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَا تُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذُ لِمَا مَضَى ما دَامَ ذِمِّيًّا وَالْمَسْأَلَةُ
تُعْرَفُ بِالْمَوَانِيد أنها تُؤْخَذُ أَمْ لَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَرَاجِ فَلَا تَسْقُطُ
بِالتَّأْخِيرِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِالْخَرَاجِ الْآخَرِ وهو
خَرَاجُ الْأَرْضِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فَلَا تَسْقُطُ
بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ ما
وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ وإذا لم يُوجَدْ حتى دَخَلَتْ سَنَةٌ
أُخْرَى انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى وَبَقِيَ الرَّجَاءُ في
الْمُسْتَقْبَلِ فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ في
الْمُسْتَقْبَلِ فإذا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا في السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فَلَا
تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذلك كما إذَا
أَسْلَمَ أو مَاتَ تَسْقُطُ عنه الْجِزْيَةُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ
بِالْجِزْيَةِ كَذَا هذا
وَالِاعْتِبَارُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ فإن الْمَجُوسِيَّ إذَا
أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ عنه خَرَاجُ الْأَرْضِ وَيَسْقُطُ
عنه خَرَاجُ الرَّأْسِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ هذا ليس كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بها
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وأمة صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ في حَقِّنَا حتى لَا يَمْلِكَ
الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ بِحَالٍ من الْأَحْوَالِ
وَأَمَّا في حَقِّهِمْ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ
____________________
(7/112)
يَحْتَمِلُ
الِانْتِفَاعَ في الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ
ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الذِّمَّةَ
عُقِدَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وقد حَصَلَ الْمَقْصُودُ
وَالثَّانِي أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا لَحِقَ
بِدَارِ الْحَرْبِ يُسْتَرَقُّ وَالْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا
يُسْتَرَقُّ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّالِثُ أَنْ يَغْلِبُوا على مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَ لِأَنَّهُمْ إذَا
فَعَلُوا ذلك فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ ضَرُورَةً
وَلَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ من إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ
لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَلَا
يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ لو سَبَّ النبي لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ لِأَنَّ هذا زِيَادَةُ كُفْرٍ على
كُفْرٍ والعقد ( ( ( والعهد ) ) ) يَبْقَى مع أَصْلِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى مع
الزِّيَادَةِ وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ مُسْلِمًا أو زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لِأَنَّ هذه
مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ في الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ
بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مع الْكُفْرِ فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وما يَتَعَرَّضُ له وما لَا
يَتَعَرَّضُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ
يُؤْخَذُونَ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بها وَلَا يُتْرَكُونَ
يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ في لِبَاسِهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ
فَيُؤْخَذُ الذِّمِّيُّ بِأَنْ يَجْعَلَ على وَسَطِهِ كَشْحًا مِثْلَ الْخَيْطِ
الْغَلِيظِ وَيَلْبَسَ قَلَنْسُوَةً طَوِيلَةً مَضْرُوبَةً وَيَرْكَبَ سَرْجًا على
قربوسة مِثْلَ الرُّمَّانَةِ وَلَا يَلْبَسَ طَيْلَسَانًا مِثْلَ طَيَالِسَةِ
الْمُسْلِمِينَ وَرِدَاءً مِثْلَ أَرْدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّ
على رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عليهم فقال
له رَجُلٌ من أَصْحَابِهِ أَصْلَحَكَ اللَّهُ تَدْرِي من هَؤُلَاءِ فقال من هُمْ
فقال هَؤُلَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فلما أتى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادِي
في الناس أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ وَرَكِبَ
الْإِكَافَ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ
وَلِأَنَّ السَّلَامَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى
إظْهَارِ هذه الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذلك إلَّا
بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ وَلِأَنَّ في إظْهَارِ هذه
الْعَلَامَاتِ إظْهَارَ آثَارِ الذِّلَّةِ عليهم وَفِيهِ صِيَانَةُ عَقَائِدِ
ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عن التَّغْيِيرِ على ما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا من فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عليها يَظْهَرُونَ }
وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عن نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ في حَالِ
الْمَشْيِ في الطَّرِيقِ وَيَجِبُ التَّمْيِيزُ في الْحَمَّامَاتِ في الْأُزُرِ
فَيُخَالِفُ أُزُرُهُمْ أُزُرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ الدُّورُ بِعَلَامَاتٍ تُعْرَفُ بها دُورُهُمْ من
دُورِ الْمُسْلِمِينَ لِيَعْرِفَ السَّائِلُ الْمُسْلِمُ أنها دُورُ الْكَفَرَةِ
فَلَا يَدْعُو لهم بِالْمَغْفِرَةِ وَيُتْرَكُونَ أَنْ يَسْكُنُوا في أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ
لِيَكُونَ وَسِيلَةً لهم إلَى الْإِسْلَامِ وَتَمْكِينُهُمْ من الْمُقَامِ في
أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ إلَى هذا الْمَقْصُودِ وَفِيهِ أَيْضًا
مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيُمَكَّنُونَ من ذلك وَلَا
يُمَكَّنُونَ من بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فيها ظَاهِرًا لِأَنَّ
حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ كما هِيَ ثَابِتَةٌ في حَقِّ
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ
أَهْلِ الْأُصُولِ على ما عُرِفَ في مَوْضِعِهِ فَكَانَ إظْهَارُ بَيْعِ الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ منهم إظْهَارًا لِلْفِسْقِ فَيُمْنَعُونَ من ذلك وَعِنْدَهُمْ
أَنَّ ذلك مُبَاحٌ فَكَانَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ في مَكَان مُعَدٍّ
لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وهو أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ
من ذلك
وَكَذَا يُمْنَعُونَ من إدْخَالِهَا في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أني أَمْنَعُهُمْ من إدْخَالِ الْخَنَازِيرِ
فَرَّقَ بين الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا في الْخَمْرِ من خَوْفِ وُقُوعِ
الْمُسْلِمِ فيها وَلَا يُتَوَهَّمُ ذلك في الْخِنْزِيرِ وَلَا يُمَكَّنُونَ من
إظْهَارِ صَلِيبِهِمْ في عِيدِهِمْ لِأَنَّهُ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فَلَا
يُمَكَّنُونَ من ذلك في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ فَعَلُوا ذلك في
كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لهم
وَكَذَا لو ضَرَبُوا النَّاقُوسَ في جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ لم
يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّعَائِرِ لم يَتَحَقَّقْ فَإِنْ
ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا منها لم يُمَكَّنُوا منه لِمَا فيه من إظْهَارِ
الشَّعَائِرِ وَلَا يُمْنَعُونَ من إظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا من بَيْعِ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ في قَرْيَةٍ أو
مَوْضِعٍ ليس من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَوْ كان فيه عَدَدٌ كَثِيرٌ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذلك في
أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ التي يُقَامُ فيها الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ
وَالْحُدُودُ لِأَنَّ الْمَنْعَ من إظْهَارِ هذه الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ
شَعَائِرِ الْكُفْرِ في مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَخْتَصُّ
الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وهو الْمِصْرُ
الْجَامِعُ
وَأَمَّا إظْهَارُ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالزِّنَا وَسَائِرِ
الْفَوَاحِشِ التي هِيَ حَرَامٌ في دِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ من ذلك
سَوَاءٌ كَانُوا في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أو في أَمْصَارِهِمْ
____________________
(7/113)
وَمَدَائِنِهِمْ
وَقُرَاهُمْ وَكَذَا الْمَزَامِيرُ وَالْعِيدَانُ وَالطُّبُولُ في الْغِنَاءِ
وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ
وَنَظِيرُهَا يُمْنَعُونَ من ذلك كُلِّهِ في الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ هذه الْأَفْعَالِ كما نَعْتَقِدُهَا نَحْنُ فلم تَكُنْ
مُسْتَثْنَاةً عن عَقْدِ الذِّمَّةِ لِيُقَرُّوا عليها
وَأَمَّا الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ الْقَدِيمَةُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لها وَلَا
يُهْدَمُ شَيْءٌ منها
وَأَمَّا إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ أُخْرَى فَيُمْنَعُونَ عنه فِيمَا صَارَ مِصْرًا من
أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا كَنِيسَةَ
في الْإِسْلَامِ إلَّا في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ انْهَدَمَتْ كَنِيسَةٌ
فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا كما كانت لِأَنَّ لِهَذَا الْبِنَاءِ حُكْمَ الْبَقَاءِ
وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَبْقُوهَا فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا وَلَيْسَ لهم أَنْ
يُحَوِّلُوهَا من مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ من مَوْضِعٍ
إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ في حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى وَأَمَّا في الْقُرَى
أو في مَوْضِعٍ ليس من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُونَ من إحْدَاثِ
الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ كما لَا يُمْنَعُونَ من إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ
وَالْخَنَازِيرِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ على قَوْمٍ من أَهْلِ الْحَرْبِ فَرَأَى أَنْ
يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً وَيَضَعَ على رؤوسهم الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ
الْخَرَاجَ لَا يُمْنَعُونَ من اتِّخَاذِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَإِظْهَارِ
بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ إظْهَارُ شَعَائِرِ
الْكُفْرِ في مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وهو أَمْصَارُ
الْمُسْلِمِينَ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ ما إذَا صَارُوا ذِمَّةً بِالصُّلْحِ بِأَنْ
طَلَبَ قَوْمٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَّا أَنْ يَصِيرُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ عن
رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ شيئا مَعْلُومًا وتجري ( ( ( ونجري ) ) ) عليهم
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَصَالَحْنَاهُمْ على ذلك فَكَانَتْ أَرَاضِيهِمْ مِثْلَ
أَرَاضِي الشَّامِ مَدَائِنَ وَقُرًى وَرَسَاتِيقَ وأمصار ( ( ( وأمصارا ) ) ) أنه
لَا يُتَعَرَّضُ لِكَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ وَلَكِنَّهُمْ لو أَرَادُوا أَنْ
يُحْدِثُوا شيئا منها يُمْنَعُوا من ذلك لِأَنَّهَا صَارَتْ مصر ( ( ( مصرا ) ) )
من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ في مِصْرٍ من أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ عنه شَرْعًا فَإِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مِصْرًا
لِلْمُسْلِمِينَ كما مَصَّرَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْكُوفَةَ
وَالْبَصْرَةَ فَاشْتَرَى قَوْمٌ من أَهْلِ الذِّمَّةِ دُورًا وَأَرَادُوا أَنْ
يَتَّخِذُوا فيها كَنَائِسَ لَا يُمَكَّنُوا من ذلك لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو تَخَلَّى رَجُلٌ في صَوْمَعَتِهِ مُنِعَ من ذلك لِأَنَّ ذلك في
مَعْنَى اتِّخَاذِ الْكَنِيسَةِ وَكُلُّ مِصْرٍ من أَمْصَارِ الْمُشْرِكِينَ
ظَهَرَ عليه الْإِمَامُ عَنْوَةً وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً فما كان فيه كَنِيسَةٌ
قَدِيمَةٌ مَنَعَهُمْ من الصَّلَاةِ في تِلْكَ الْكَنَائِسِ لِأَنَّهُ لَمَّا
فُتِحَ عَنْوَةً فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ فَيَمْنَعُهُمْ من الصَّلَاةِ
فيها وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاكِنَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَهْدِمَهَا
وَكَذَلِكَ كُلُّ قَرْيَةٍ جَعَلَهَا الْإِمَامُ مِصْرًا
وَلَوْ عَطَّلَ الْإِمَامُ هذا الْمِصْرَ وَتَرَكُوا إقَامَةَ الْجُمَعِ
وَالْأَعْيَادِ وَالْحُدُودِ فيه كان لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يُحْدِثُوا ما
شَاءُوا لِأَنَّهُ عَادَ قَرْيَةً كما كانت نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لَا
يُمَكِّنُهَا من نَصْبِ الصَّلِيبِ في بَيْتِهِ لِأَنَّ نَصْبَ الصَّلِيبِ
كَنَصْبِ الصَّنَمِ وتصلى في بَيْتِهِ حَيْثُ شَاءَتْ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ أَرْضِ الْعَجَمِ
وَأَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَلَا يُتْرَكُ فيها كَنِيسَةٌ وَلَا بِيعَةٌ وَلَا
يُبَاعُ فيها الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مِصْرًا كان أو قَرْيَةً أو مَاءً من
مِيَاهِ الْعَرَبِ وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ
مَسْكَنًا وَوَطَنًا
كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ على غَيْرِهَا
وَتَطْهِيرًا لها عن الدِّينِ الْبَاطِلِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ في جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
وَأَمَّا الِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ فإن الْحَرْبِيَّ إذَا الْتَجَأَ إلَى
الْحَرَمِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ في الْحَرَمِ وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى
وَلَا يُؤْوَى وَلَا يُبَايَعُ حتى يَخْرُجَ من الْحَرَمِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْتَلُ في الْحَرَمِ
واختلف أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُقْتَلُ في الْحَرَمِ
وَلَا يُخْرَجُ منه أَيْضًا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ في الْحُرُمِ وَلَكِنْ
يُبَاحُ إخْرَاجُهُ من الْحَرَمِ
لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَحَيْثُ يُعَبَّرُ بِهِ عن الْمَكَانِ
فَكَانَ هذا إبَاحَةً لِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ في الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا
آمِنًا } هذا إذَا دخل مُلْتَجِئًا
أَمَّا إذَا دخل مُكَابِرًا أو مُقَاتِلًا يُقْتَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حتى يُقَاتِلُوكُمْ فيه فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَلِأَنَّهُ لَمَّا دخل مُقَاتِلًا فَقَدْ هَتَكَ
حُرْمَةَ الْحَرَمِ فَيُقْتَلُ تَلَافِيًا لِلْهَتْكِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عن
الْهَتْكِ
وَكَذَلِكَ لو دخل قَوْمٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ
يُقْتَلُونَ وَلَوْ انْهَزَمُوا من الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَيْءَ على
الْمُسْلِمِينَ في قَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وما يَتَّصِلُ بها فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ههنا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ النَّفَلُ وَالْفَيْءُ
وَالْغَنِيمَةُ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ مَعَانِي هذه الْأَلْفَاظِ وما يَتَعَلَّقُ
بها من الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ
أَمَّا النَّفَلُ في اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عن الزِّيَادَةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ
وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةً لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ على الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ
وَسُمِّيَتْ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهَا زِيَادَاتٍ على الْفَرَائِضِ وفي
الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ
____________________
(7/114)
عَمَّا
خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لهم على الْقِتَالِ
سُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً على ما يُسْهَمُ لهم من الْغَنِيمَةِ
وَالتَّنْفِيلُ هو تَخْصِيصُ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِالزِّيَادَةِ نَحْوُ أَنْ
يَقُولَ الْإِمَامُ من أَصَابَ شيئا له ( ( ( فله ) ) ) رُبْعُهُ أو ثُلُثُهُ
أو قال من أَصَابَ شيئا فَهُوَ له أو قال من أَخَذَ شيئا أو قال من قَتَلَ
قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أو قال لِسَرِيَّةٍ ما أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ رُبْعُهُ أو
ثُلُثُهُ أو قال فَهُوَ لَكُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِذَلِكَ
تَحْرِيضٌ على الْقِتَالِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا النبي حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ على
الْقِتَالِ } إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ
الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ قَطْعُ حَقِّ
الْغَانِمِينَ عن النَّفْلِ أَصْلًا لَكِنْ مع هذا لو رَأَى الْإِمَامُ
الْمَصْلَحَةَ في ذلك فَفَعَلَهُ مع سَرِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قد
تَكُونُ فيه في الْجُمْلَةِ وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ من
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسَّلَبِ وَغَيْرِ ذلك لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ
على الْقِتَالِ يَتَحَقَّقُ في الْكُلِّ وَالسَّلَبُ هو ثِيَابُ الْمَقْتُولِ
وَسِلَاحُهُ الذي معه وَدَابَّتُهُ التي رَكِبَهَا بِسَرْجِهَا وَآلَاتِهَا وما
كان معه من مَالٍ في حَقِيبَةٍ على الدَّابَّةِ أو على وَسَطِهِ
وَأَمَّا حَقِيبَةُ غُلَامِهِ وما كان مع غُلَامِهِ من دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ
بِسَلَبٍ
وَلَوْ اشْتَرَكَا في قَتْلِ رَجُلٍ كان السَّلَبُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَدَأَ
أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ ثُمَّ أَجْهَزَهُ الْآخَرُ بِأَنْ كانت الضَّرْبَةُ
الْأُولَى قد أَثْخَنَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ إلَى حَالٍ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ
على الْقِتَالِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْأَوَّلِ وَإِنْ كانت
الضَّرْبَةُ الْأُولَى لم تُصَيِّرْهُ إلَى هذه الْحَالَةِ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي
لِأَنَّهُ قَتِيلُ الثَّانِي
وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ أو أَكْثَرَ فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَلْ
يَدْخُلُ الْإِمَامُ في التَّنْفِيلِ
إنْ قال في جَمِيعِ ذلك مِنْكُمْ لَا يَدْخُلُ لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ وَإِنْ لم
يَقُلْ مِنْكُمْ يَدْخُلْ لِأَنَّهُ عَمَّ الْكَلَامَ
هذا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ فَإِنْ لم يُنَفِّلْ شيئا فَقَتَلَ رَجُلٌ من
الْغُزَاةِ قَتِيلًا لم يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا مُنْهَزِمًا
لم يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ وَإِنْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا يَخْتَصُّ
بِسَلَبِهِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ
سَلَبُهُ وَهَذَا منه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصْبُ الشَّرْعِ وَلِأَنَّهُ
إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا فَقَدْ قَتَلَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ
فَيَخْتَصُّ بِالسَّلَبِ وإذا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا مُنْهَزِمًا فَإِنَّمَا
قَتَلَهُ بِقُوَّةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ السَّلَبُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّنْفِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ
بِالْمُصَابِ من السَّلَبِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنْ كان هو
الْجِهَادَ وُجِدَ من الْكُلِّ وَإِنْ كان هو الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِصَابَةَ
وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ فَيَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ
لِلْكُلِّ فَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالتَّنْفِيلِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ قَطْعِ
الْحَقِّ عن الْمُسْتَحِقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّا
اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا
أَيُّهَا النبي حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ على الْقِتَالِ } وَالتَّنْفِيلُ تَحْرِيضٌ
على الْقِتَالِ بأطماع زِيَادَةِ الْمَالِ لِأَنَّ من له زِيَادَةُ غنا ( ( ( غنى
) ) ) وَفَضْلُ شَجَاعَةٍ لَا يَرْضَى طَبْعُهُ بِإِظْهَارِ ذلك مع ما فيه من
مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ إلَّا بأطماع زِيَادَةٍ
لَا يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ فإذا لم يَطْمَعْ لَا يَظْهَرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَ
ذلك الْقَوْلَ شَرْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ شَرْطًا وَيَحْتَمِلُ
أَنَّهُ نَفَّلَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً
فَهِيَ له أَنَّهُ لم يَجْعَلْهُ أبو حَنِيفَةَ حُجَّةً لِمِلْكِ الْأَرْضِ
الْمُحْيَاةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِمِثْلِ هذا الِاحْتِمَالِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قبل حُصُولِ الْغَنِيمَةِ في يَدِ
الْغَانِمِينَ فإذا حَصَلَتْ في أَيْدِيهِمْ فَلَا نَفْلَ لِأَنَّ جَوَازَ
التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ على الْقِتَالِ وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا قبل
أَخْذِ الْغَنِيمَةِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَفَّلَ بَعْدَ
إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنَّمَا نَفَّلَ من الْخُمْسِ أو من الصَّفِيِّ الذي كان له في الْغَنَائِمِ
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كان مِمَّا أَفَاءَ اللَّه تَعَالَى عليه فَسَمَّاهُ
الرَّاوِي غَنِيمَةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ التَّنْفِيلِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا اخْتِصَاصُ النَّفْلِ
بِالْمُنَفَّلِ حتى لَا يُشَارِكَهُ فيه غَيْرُهُ
وَهَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فيه قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَفِيهِ
كَلَامٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا خُمْسَ في النَّفْلِ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ في
غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بين الْغَانِمِينَ
وَالنَّفَلُ ما أَخْلَصَهُ الْإِمَامُ لِصَاحِبِهِ وَقَطَعَ شَرِكَةَ الْأَغْيَارِ
عنه فَلَا يَجِبُ فيه الْخُمْسُ وَيُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ له الْغُزَاةَ في
أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ ما أَصَابُوا لِأَنَّ الْإِصَابَةَ أو الْجِهَادَ حَصَلَ
بِقُوَّةِ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِهَا وَقَطَعَ
حَقَّ الْبَاقِينَ عنه فَبَقِيَ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا وَرَاءَهُ
فَيُشَارِكُهُمْ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا لم يُوجِفْ عليه الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ
وَلَا رِكَابٍ نَحْوُ الْأَمْوَالِ الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ
الْمُسْلِمِينَ وَالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ على مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَلَا خُمْسَ فيه لِأَنَّهُ ليس بِغَنِيمَةٍ إذْ هِيَ لِلْمَأْخُوذِ من
الْكَفَرَةِ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ولم يُوجَدْ وقد كان الْفَيْءُ
لِرَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً يَتَصَرَّفُ فيه كَيْفَ شَاءَ يَخْتَصُّهُ لِنَفْسِهِ
أو يُفَرِّقُهُ فِيمَنْ شَاءَ قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وما أَفَاءَ
اللَّهُ على رَسُولِهِ منهم فما أَوْجَفْتُمْ عليه من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على من يَشَاءُ وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ
قَدِيرٌ }
____________________
(7/115)
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كانت أَمْوَالُ بَنِي
النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عز وجل على رَسُولِهِ وَكَانَتْ خَالِصَةً له
وكان يُنْفِقُ منها على أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وما بَقِيَ جَعَلَهُ في
الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ
وَلِهَذَا كانت فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ إذْ كانت لم يُوجِفْ عليها
الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فإنه رُوِيَ أَنَّ
أَهْلَ فَدَكَ لَمَّا بَلَّغَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَمْوَالِهِمْ بَعَثُوا إلَى رسول اللَّهِ وَصَالَحُوهُ على النِّصْفِ من فَدَكَ
فَصَالَحَهُمْ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على ذلك ثُمَّ الْفَرْقُ بين رسول
اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ في الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ من أَهْلِ
الْحَرْبِ أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وكان لِرَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً
أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ في الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ من
أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ هَيْبَةَ الْأَئِمَّةِ بِسَبَبِ قَوْمِهِمْ فَكَانَتْ
شَرِكَةً بَيْنَهُمْ
وَأَمَّا هَيْبَةُ رسول اللَّهِ فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ من الرُّعْبِ لَا بِأَصْحَابِهِ
كما قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ
لِذَلِكَ كان له أَنْ يَخْتَصَّ لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا دخل حَرْبِيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ من الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَكُونُ لِلْآخِذِ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ من الْآخِذِ خَاصَّةً
فَيَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ كما إذَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ
الْإِسْلَامِ فَاسْتَقْبَلَتْهَا سَرِيَّةٌ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَتْهَا
أنهم يَخْتَصُّونَ بِمِلْكِهَا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ من الْآخِذِ خَاصَّةً أَنَّ
السَّبَبَ هو الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ هو إثْبَاتُ الْيَدِ وقد وُجِدَ ذلك
حَقِيقَةً من الْآخِذِ خَاصَّةً وَأَهْلُ الدَّارِ إنْ كانت لهم يَدٌ لَكِنَّهَا
حُكْمِيَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حقيقة ( ( ( حقيقية ) ) ) لِأَنَّهُ حُرٌّ
وَالْحُرُّ في يَدِ نَفْسِهِ وَالْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ لَا تَصْلُحُ مُبْطِلَةً
لِلْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا دُونَهَا وَنَقْضُ الشَّيْءِ بِمَا هو
مِثْلُهُ أو بِمَا هو فَوْقَهُ لَا بِمَا هو دُونَهُ فَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ
فَيَدٌ حَقِيقَةً وَهِيَ مُحِقَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ مُبْطِلَةٌ فَجَازَ
إبْطَالُهَا بها
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ ثُبُوتِ
الْمِلْكِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ في مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ وهو
الْمُبَاحُ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْكُلِّ كما إذَا اسْتَوْلَى جَمَاعَةٌ على صَيْدٍ
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّهُ كل ما دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ثَبَتَ
يَدُ أَهْلِ الدَّارِ عليه لِأَنَّ الدَّارَ في أَيْدِيهِمْ فما في الدَّارِ
يَكُونُ في أَيْدِيهِمْ أَيْضًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ
لِلْغَانِمِينَ في الْغَنَائِمِ ما دَامُوا في دَارِ الْحَرْبِ كذا ( ( ( كهذا ) )
) ههنا وقوله يَدُ أَهْلِ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ وَيَدُ الحربى حَقِيقِيَّةٌ
فَلَا تُبْطِلُهَا
قُلْنَا وَيَدُ أَهْلِ الدَّارِ حَقِيقِيَّةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَعْنَى من الْيَدِ
في هذه الْأَبْوَابِ الْقُدْرَةُ من حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ
وَلِأَهْلِ الدَّارِ آلَاتٌ سَلِيمَةٌ لو اسْتَعْمَلُوهَا في التَّصَرُّفِ عليه
لَحَدَثَتْ لهم بِمَجْرَى الْعَادَةِ قُدْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ على وَجْهٍ لَا
يُمْكِنُهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ وَمُعَارَضَتُهُمْ مع ما أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ يَدُ
الأخذ عليه حَقِيقَةً فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ
أَهْلِ الدَّارِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ كُلَّهُمْ مَنَعَةٌ وَاحِدَةٌ
فَإِنَّهُمْ يَذُبُّونَ عن دِينٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْكُلِّ مَعْنًى
كما إذَا دخل الْغُزَاةُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذَ وَاحِدٌ منهم شيئا من أَمْوَالِ
الْكَفَرَةِ فإن الْمَأْخُوذَ يَكُونُ غَنِيمَةً مفسومة ( ( ( مقسومة ) ) ) بين
الْكُلِّ كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّرِيَّتَانِ إذَا الْتَقَتَا في دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ منها
سَرِيَّةُ الْإِمَامِ فَإِنَّمَا اخْتَصُّوا بمكلها ( ( ( بملكها ) ) )
لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ بِالْإِمَامِ حَاجَةً إلَى بَعْثِ
السَّرَايَا لِحِرَاسَةِ الْحَوْزَةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ عن شَرِّ
الْكَفَرَةِ إذْ الْكَفَرَةُ يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولَ في
حُدُودِهَا بَغْتَةً فإذا عَلِمُوا بِبَعْثِ السَّرَايَا وَتَهَيُّئِهِمْ
لِلذَّبِّ عن حَرِيمِ الْإِسْلَامِ قَطَعُوا الْأَطْمَاعَ فَبَقِيَتْ الْبَيْضَةُ مَحْرُوسَةً
فَلَوْ لم يَخْتَصُّوا بِالْمَأْخُوذِ لَمَا انْقَادَ طَبْعُهُمْ لِكِفَايَةِ هذا
الشُّغْلِ فَتَمْتَدُّ أَطْمَاعُ الْكَفَرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا
إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فَأَصَابُوا شيئا يَخْتَصُّونَ بِهِ لِوُقُوعِ
الْحَاجَةِ إلَى التَّنْفِيلِ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِزِيَادَةِ
____________________
(7/116)
شَجَاعَةٍ
لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ طَبْعُهُ لإظهارها ( ( ( لإظهاره ) ) ) إلَّا
بِالتَّرْغِيبِ بِزِيَادَةٍ من الْمُصَابِ بِالتَّنْفِيلِ كَذَا هذا
وَهَلْ يَجِبُ فيه الْخُمْسُ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَتَانِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ في
الْغَنَائِمِ وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا
بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ولم يُوجَدْ لِحُصُولِهِ في أَيْدِيهِمْ
بِغَيْرِ قِتَالٍ فَكَانَ مُبَاحًا مُلِكَ لَا على سَبِيلِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ فَلَا يَجِبُ فيه الْخُمْسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ
وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ فيه
الْخُمْسُ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ
على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ في حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَلَوْ دخل
دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ قبل أَنْ يُؤْخَذَ ثُمَّ أَخَذَهُ وَاحِدٌ من
الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ حُرًّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عليه وَهَذَا فَرْعُ
الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كما دخل
دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فيه لِوُقُوعِهِ في يَدِ
أَهْلِ الدَّارِ فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ
لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَعِنْدَهُمَا سَبَبُ الْمِلْكِ هو الْأَخْذُ حَقِيقَةً
فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ قبل وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ
فيه فَيُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ على ما مار ( ( ( مر ) ) )
وَلَوْ رَجَعَ هذا الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ
فَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ
الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً ولم يُوجَدْ وَأَمَّا
عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ أَصْلًا إلَّا بِحَقِيقَةِ
الْأَخْذِ ولم يُوجَدْ وَصَارَ هذا كما إذَا انْفَلَتَ وَاحِدٌ من الاسارى قبل
الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَالْتَحَقَ بِمَنَعَتِهِمْ أنه يَعُودُ حُرًّا
كما كان كَذَا هذا
وَلَوْ ادَّعَى هذا الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ
وَالْأَمَانُ عَارِضٌ مَانِعٌ من انْعِقَادِ السَّبَبِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى
الْعَارِضِ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فيه يَقِفُ على حَقِيقَةِ الْأَخْذِ
فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ فكان دَعْوَى الْأَمَانِ دَعْوَى حُكْمِ الْأَصْلِ
فَتُقْبَلُ
وَكَذَلِكَ لو قال الْآخِذُ إنِّي أمنته لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هذا إقْرَارٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ
فَلَا يُقْبَلُ
وَعِنْدَهُمَا هذا إقْرَارٌ على نَفْسِهِ وأنه غَيْرُ مُتَّهَمٍ في حَقِّ نَفْسِهِ
وَلَوْ دخل هذا الْحَرْبِيُّ الْحَرَمَ قبل أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَدُخُولُ الْحَرَمِ لايبطل ذلك عنه لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من
الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْإِسْلَامَ لم يُبْطِلْ الْمِلْكَ فَالْحَرَمُ أَوْلَى
وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ حُرْمَةً من الْحَرَمِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ
فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَيَبْقَى على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَلَا
يُتَعَرَّضُ له لَكِنَّهُ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى وَلَا
يُبَايَعُ حتى يَخْرُجَ من الْحَرَمِ
وَلَوْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ في الْحَرَمِ أو بعدما خَرَجَ من
الْحَرَمِ قبل أَنْ يُؤْخَذَ لم يَصِحَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا
يَصِحُّ وَيُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فإذا أَمَّنَهُ
قبل الْأَخْذِ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مرقوق ( ( ( مرموق ) ) )
وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ في الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ منه فَقَدْ أَسَاءَ وكان
فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ
لِمَنْ أَخَذَهُ أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قد ثَبَتَ بِدُخُولِهِ دَارَ
الْإِسْلَامِ فَالْأَخْذُ في الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا
فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كان يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وأنه مَنْهِيٌّ لَكِنَّ
النَّهْيَ لِغَيْرِهِ وهو حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ سَبَبًا
لِلْمِلْكِ في ذَاتِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ أَخَذَهُ في الْحَرَمِ ولم يُخْرِجْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَ
سَبِيلَهُ في الْحَرَمِ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ما دَامَ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْغَنِيمَةِ
وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ من التَّصَرُّفِ في الْغَنَائِمِ
وفي بَيَانِ مَكَانِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وفي بَيَانِ ما يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ
بِهِ من الْغَنَائِمِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وفي بَيَانِ
مَصَارِفِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْغَنِيمَةُ عِنْدَنَا اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ من أَهْلِ
الْحَرْبِ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وهذا ( ( ( والأخذ ) ) ) الأخذ لَا
يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ أو بِدَلَالَةِ
الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ من أَهْلِ الْحَرْبِ كيفما كان وَلَا يَشْتَرِطُ له
الْمَنَعَةَ أَصْلًا
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا دخل جَمَاعَةٌ لهم مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ
فَأَخَذُوا أَمْوَالًا منهم فَإِنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ
بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ
لِوُجُودِ الْأَخْذِ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ
الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمُقَاتَلَةِ حَقِيقَةً
وَأَقَلُّ الْمَنَعَةِ أَرْبَعَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أنها تِسْعَةٌ
وَلَوْ دخل من لَا مَنَعَةَ له بِإِذْنِ الْإِمَامِ كان الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ دَلَالَةً على ما
____________________
(7/117)
نَذْكُرهُ
وَلَوْ دخل بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لم يَكُنْ غَنِيمَةً عِنْدَنَا لِانْعِدَامِ
الْمَنَعَةِ أَصْلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ غَنِيمَةً
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْغَنَمَ وَالْمَغْنَمَ في
اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَالٍ أُصِيبَ من أَمْوَالِ الْحَرْبِ وَأَوْجَفَ عليه
الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ
وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عليه وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وما أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُولِهِ منهم فما أَوَجَفْتُمْ عليه من خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ } أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى أَنَّهُ ما لم يُوجِفْ عليه
الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً
وَإِصَابَةُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا
يَكُونُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ
إمَّا حَقِيقَةً أو دَلَالَةً لِأَنَّ من لَا مَنَعَةَ له لَا يُمْكِنُهُ
الْأَخْذُ على طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فلم يَكُنْ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً
بَلْ كان مَالًا مُبَاحًا فَيَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ كَالصَّيْدِ إلَّا إنْ
أَخَذَاهُ جميعا فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا كما لو أَخَذَا صَيْدًا
أَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ على سَبِيلِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ
أَمَّا حَقِيقَةُ الْمَنَعَةِ فَظَاهِرَةٌ
وَكَذَا دَلَالَةُ الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ
له الْإِمَامُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ ضَمِنَ له الْمَعُونَةَ بِالْمَدَدِ
وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَكَانَ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ
امْتِنَاعًا بِالْجَيْشِ الْكَثِيفِ مَعْنًى فَكَانَ الْمَأْخُوذُ مَأْخُوذًا على
سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ
اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا دخل بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ
إذْنِهِ وَلَا مَنَعَةَ لهم فَالْحُكْمُ في كل فَرِيقٍ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ما هو
الْحُكْمُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ أَنَّهُ إنْ تَفَرَّدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَخْذِ
شَيْءٍ فَلِكُلِّ فَرِيقٍ ما أَخَذَ كما لو انْفَرَدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِالدُّخُولِ
فَأَخَذَ شيئا فَإِنْ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ في الْأَخْذِ فَالْمَأْخُوذُ
بَيْنَهُمْ على عَدَدِ الْآخِذِينَ ثُمَّ ما أَصَابَ الْمَأْذُونَ لهم يخمس ( ( (
بخمس ) ) ) وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكَةً فيه
الْآخِذُ وَغَيْرُ الْآخِذِ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَهَذَا سَبِيلُ الْغَنَائِمِ وما
أَصَابَ الَّذِينَ لم يُؤْذَنْ لهم لَا خُمْسَ فيه فَيَكُونُ بين الأخذين وَلَا
يُشَارِكُهُمْ الَّذِينَ لم يَأْخُذُوا لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ وَهَذَا حُكْمُ
الْمَالِ الْمُبَاحِ على ما بَيَّنَّا
هذا إذَا اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ وَلَا مَنَعَةَ لهم فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَا وكان
لهم بِاجْتِمَاعِهِمْ مَنَعَةٌ فما أَصَابَ وَاحِدًا منهم أو جَمَاعَتَهُمْ
بِخُمُسٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ غَنِيمَةٌ
لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ فَكَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَلَوْ كان الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لهم مَنَعَةٌ ثُمَّ
لَحِقَهُمْ لِصٌّ أو لِصَّانِ لَا مَنَعَةَ لَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
ثُمَّ لَقَوْا قِتَالًا وَأَصَابُوا غَنَائِمَ فما أَصَابَ الْعَسْكَرَ قبل أَنْ
يَلْحَقَهُمْ اللِّصُّ فإن هذا اللِّصَّ لَا يُشَارِكُهُمْ فيه وما أَصَابُوهُ
بَعْدَ أَنْ لَحِقَ هذا اللِّصُّ بِهِمْ فإنه يُشَارِكُهُمْ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ
قبل اللَّحَاقِ حَصَلَتْ بِقِتَالِ الْعَسْكَرِ حَقِيقَةً
وَكَذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ لهم غنيمة ( ( ( غنية ) ) )
عن مَعُونَةِ اللِّصِّ فَكَانَ دُخُولُهُ في الِاسْتِيلَاءِ على الْمُصَابِ قبل
اللَّحَاقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُشْبِهُ هذا الْجَيْشَ إذَا
لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا لِأَنَّ الْجَيْشَ
يَسْتَعِينُ بِالْمَدَدِ لِقُوَّتِهِمْ فَكَانَ الْإِحْرَازُ حَاصِلًا بِالْكُلِّ
وَكَذَلِكَ الْإِصَابَةُ بَعْدَ اللُّحُوقِ حَصَلَتْ بِاسْتِيلَاءِ الْكُلِّ لِذَلِكَ
شَارَكَهُمْ بِخِلَافِ اللِّصِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَخَذَ وَاحِدٌ من الْجَيْشِ شيئا من الْمَتَاعِ الذي له قِيمَةٌ وَلَيْسَ
في يَدِ إنْسَانٍ منهم كَالْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ وَالْخَشَبِ وَالسَّمَكِ
فَذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَفِيهِ الْخُمْسُ وَذَلِكَ الْوَاحِدُ إنَّمَا أَخَذَهُ
بِمَنَعَةِ الْجَمَاعَةِ وَقُوَّتِهِمْ فَكَانَ مَالًا مَأْخُوذًا على سَبِيلِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً وَإِنْ لم يَكُنْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ
في دَارِ الْحَرْبِ وفي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيمَةٌ فَهُوَ له خَاصَّةً لِأَنَّهُ
إذَا لم يَكُنْ له قِيمَةٌ لَا يَقَعُ فيه تَمَانُعٌ وَتَدَافُعٌ فَلَا يَقَعُ
أَخْذُهُ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فلم يَكُنْ غَنِيمَةً
وَلَوْ أَخَذَ شيئا له قِيمَةٌ في دَارِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْخَشَبِ فَعَمِلَهُ
آنِيَةً أو غَيْرَهَا رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان له قِيمَةٌ
بِذَاتِهِ فَالْعَمَلُ فيه فَضْلٌ له فَإِنْ لم يَكُنْ ذلك الشَّيْءُ مُتَقَوِّمًا
فَهُوَ له خَاصَّةً لِمَا قُلْنَا وَلَا خُمْسَ فِيمَا يُؤْخَذُ على مُوَادَعَةِ
أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ ليس بِمَأْخُوذٍ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
فلم يَكُنْ غَنِيمَةً
وَكَذَا ما بُعِثَ رِسَالَةً إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا خُمْسَ فيه لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قَلْعَةً في دَارِ الْحَرْبِ فَافْتَدَوْا
أَنْفُسَهُمْ بِمَالٍ فَفِيهِ الْخُمْسُ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لِكَوْنِهِ
مَأْخُوذًا على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ من التَّصَرُّفِ في الْغَنَائِمِ
فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ على بِلَادِ أَهْلِ
الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عليه لَا يَخْلُو من أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ
الْمَتَاعُ وَالْأَرَاضِي وَالرِّقَابُ
أَمَّا الْمَتَاعُ فإنه يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بين الْغَانِمِينَ وَلَا
خِيَارَ لِلْإِمَامِ فيه
وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَلِلْإِمَامِ فيها خِيَارَانِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا
وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ بين الْغَانِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا
في يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ
الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ أو من مُشْرِكِي الْعَجَمِ
وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ على رؤوسهم وَالْخَرَاجَ على أَرَاضِيهِمْ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
____________________
(7/118)
الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرَاضِيَ في أَيْدِيهِمْ
بِالْخَرَاجِ بَلْ يَقْسِمُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ صَارَتْ مِلْكًا لِلْغُزَاةِ بِالِاسْتِيلَاءِ
فَكَانَ التَّرْكُ في أَيْدِيهِمْ إبْطَالًا لِمِلْكِ الْغُزَاةِ فَلَا يَمْلِكُهُ
الْإِمَامُ كَالْمَتَاعِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ في أَيْدِيهِمْ
وَضَرَبَ على رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ
من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا منهم
وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْإِمَامُ فيها بين خِيَارَاتٍ ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) ) إنْ
شَاءَ قَتَلَ الْأَسَارَى منهم وَهُمْ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ وَسَبَى
النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ } وَهَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لِأَنَّ الضَّرْبَ فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ هو الْإِبَانَةُ من الْمِفْصَلِ وَلَا يُقْدَرُ على ذلك حَالَ
الْقِتَالِ وَيُقْدَرُ عليه بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رضي
اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ في أَسَارَى بَدْرٍ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى الْفِدَاءِ
وَأَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إلَى الْقَتْلِ فقال رسول اللَّهِ لو
جَاءَتْ من السَّمَاءِ نَارٌ ما نجى ( ( ( نجا ) ) ) إلَّا عُمَرُ أَشَارَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الصَّوَابَ كان هو الْقَتْلَ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بن
أبي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرِ بن الْحَارِثِ يوم بَدْرٍ وَبِقَتْلِ هِلَالِ بن خَطَلٍ
وَمَقِيسِ بن صَبَابَةَ يوم فَتْحِ مَكَّةَ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قد تَكُونُ في
الْقَتْلِ لِمَا فيه من اسْتِئْصَالِهِمْ فَكَانَ لِلْإِمَامِ ذلك وَإِنْ شَاءَ
اسْتَرَقَّ الْكُلَّ فَخَمَسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ لِأَنَّ الْكُلَّ غَنِيمَةٌ
حَقِيقَةً لِحُصُولِهَا في أَيْدِيهِمْ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ
وَالرِّكَابِ فَكَانَ له أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ إلَّا رِجَالَ مُشْرِكِي
الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا بَلْ
يُقْتَلُونَ أو يُسْلِمُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ
اسْتِرْقَاقُهُمْ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَأَهْلِ
الْكِتَابِ من الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ فَكَذَا اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ
وَالْمُرْتَدِّينَ
وَهَذَا لِأَنَّ لِلِاسْتِرْقَاقِ حُكْمَ الْكُفْرِ وَهُمْ في الْكُفْرِ سَوَاءٌ
فَكَانُوا في احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ سَوَاءٌ
وَلَنَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَلِأَنَّ
تَرْكَ الْقَتْلِ بِالِاسْتِرْقَاقِ في حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي
الْعَجَمِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى الْوَسِيلَةِ لَا
يَتَحَقَّقُ في حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا
من قَبْلُ
وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ منهم فَيُسْتَرَقُّونَ كما يُسْتَرَقُّ
نِسَاءُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَذَرَارِيِّهِمْ لِأَنَّ النبي اسْتَرَقَّ نِسَاءَ
هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ وَهُمْ من صَمِيمِ الْعَرَبِ وَكَذَا الصَّحَابَةُ
اسْتَرَقُوا نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ من الْعَرَبِ وَذَرَارِيَّهُمْ وَإِنْ شَاءَ
مَنَّ عليهم وَتَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ كما فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ
رضي اللَّهُ عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ
وَالْمُرْتَدِّينَ فإنه لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ
كما لَا يَجُوزُ بِالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ شَهِدُوا بِشَهَادَةٍ قبل أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لم تَجُزْ
شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً
فَأَعَادُوا الشَّهَادَةَ جَازَتْ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ
مَقْبُولَةٌ في الْجُمْلَةِ فَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَيْرُ
مَقْبُولَةٍ أَصْلًا وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ على الْأَسِيرِ
فَيَتْرُكَهُ من غَيْرِ ذِمَّةٍ لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ لِأَنَّهُ لو
فَعَلَ ذلك لَرَجَعَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا
فَإِنْ قِيلَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَنَّ على الزُّبَيْرِ بن باطا ( ( ( باطال ) )
) من بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَذَا مَنَّ على أَهْلِ خَيْبَرَ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَنَّ على الزُّبَيْرِ ولم
يَقْتُلْهُ إمَّا لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ أَنَّهُ تُرِكَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ
بِدُونِهَا فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْجِزْيَةِ وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ
وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَتَرَكَهُمْ وَمَنَّ
عليهم لِيَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَيَجُوزُ الْمَنُّ لِذَلِكَ لِأَنَّ
ذلك في مَعْنَى الْجِزْيَةِ فَيَكُونُ تَرْكًا بِالْجِزْيَةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ الْأَسَارَى أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ
فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
وقال مُحَمَّدٌ مُفَادَاةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يُرْجَى له وَلَدٌ
تَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ
بِالْمَالِ كَيْفَ ما كان
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز وجل { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
} وقد فَادَى رسول اللَّهِ أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ
فِعْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ
وَلَنَا أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى ما بَعْدَ الْأَخْذِ
وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا قُلْنَا
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا
يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ له الْقَتْلُ وهو أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً
إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ فَلَا
يَجُوزُ
____________________
(7/119)
تَرْكُ
الْمَفْرُوضِ لِأَجَلِهِ وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا
بَيَّنَّا فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى لَا تَرْكًا له وَلِأَنَّ
الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ إعَانَةٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ على الْحِرَابِ لِأَنَّهُمْ
يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول مَعْنَى الْإِعَانَةِ لَا يَحْصُلُ من
الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يُرْجَى منه وَلَدٌ فَجَازَ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ
ولكنا ( ( ( ولكننا ) ) ) نَقُولُ إنْ كان لَا يَحْصُلُ بهذا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ
بِطَرِيقٍ آخَرَ وهو الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ وَتَكْثِيرُ السَّوَادِ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } فَقَدْ قال
بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ
سُورَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
الْآيَةُ في أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَنْ عليهم بَعْدَ أَسْرِهِمْ على أَنْ
يَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كما فَعَلَ رسول اللَّهِ بِأَهْلِ خَيْبَرَ أو
ذِمَّةً كما فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِأَهْلِ السَّوَادِ
وَيُسْتَرَقُّونَ
وَأَمَّا أَسَارَى بَدْرٍ فَقَدْ قِيلَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا فَعَلَ ذلك
بِاجْتِهَادِهِ ولم يَنْتَظِرْ الْوَحْيَ فَعُوتِبَ عليه بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { لَوْلَا كِتَابٌ من اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ } حتى قال عليه السلام لو أَنْزَلَ اللَّهُ من السَّمَاءِ نَارًا
ما نجى ( ( ( نجا ) ) ) إلَّا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه يَدُلُّ عليه قَوْله { ما
كان لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ له أَسْرَى حتى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ } على أَحَدِ
وَجْهَيْ التَّأْوِيلِ أَيْ ما كان لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدَاءَ في
الْأَسَارَى حتى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ أَيْ حتى يَغْلِبَ في الْأَرْضِ مَنَعَةً
عن أَخْذِ الفذاء ( ( ( الفداء ) ) ) بها وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذلك لِيَغْلِبَ في
الْأَرْضِ إذْ لو أَطْلَقَهُمْ لَرَجَعُوا إلَى الْمَنَعَةِ وَصَارُوا حَرْبًا على
الْمُسْلِمِينَ فَلَا تتحق ( ( ( تتحقق ) ) ) الْغَلَبَةُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ
الْمُفَادَاةَ كانت جَائِزَةً ثُمَّ انْتَسَخَتْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
{ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وقوله تعالى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَإِنَّمَا عُوتِبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بقوله
تعالى { لَوْلَا كِتَابٌ من اللَّهِ سَبَقَ } لَا لِخَطَرِ الْمُفَادَاةِ بَلْ
لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الْوَحْيِ وَعَمِلَ
بِاجْتِهَادِهِ أَيْ لَوْلَا من حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُعَذِّبَ
أَحَدًا على الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِالْعَمَلِ
بِالِاجْتِهَادِ وَتَرْكِكُمْ انْتِظَارَ الْوَحْيِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَا لَا يجوز ( ( ( تجوز ) ) ) مُفَادَاةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالْمَالِ
لِأَنَّ كُلَّ ذلك يَرْجِعُ إلَى إعَانَتِهِمْ على الْحَرْبِ
وَتَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا مِمَّا ليس فيها إعَانَةٌ لهم على الْحَرْبِ وَلَا
يُفَادُونَ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ فيه إعَانَةً لهم على الْحَرْبِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بالأسير فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ في الْمُفَادَاةِ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ أَوْلَى
من إهْلَاكِ الْكَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ قَتْلَ
الْمُشْرِكِينَ فُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }
وقَوْله تَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ
إلَّا لِمَا شُرِعَ له إقَامَةُ الْفَرْضِ وهو التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ
لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْكًا مَعْنًى وَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمُفَادَاةِ
وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ ذلك على ما
بَيَّنَّا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيها إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ على
الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا على
الْمُسْلِمِينَ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا قال أبو يُوسُفَ
تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ قبل الْقِسْمَةِ وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا وقال مُحَمَّدٌ
تَجُوزُ في الْحَالَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُفَادَاةُ قبل الْقِسْمَةِ
فَكَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنْ لم يَثْبُتْ قبل الْقِسْمَةِ
فَالْحَقُّ ثَابِتٌ ثُمَّ قِيَامُ الْحَقِّ لم يَمْنَعْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ
فَكَذَا قِيَامُ الْمِلْكِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إبْطَالُ
مِلْكِ الْمَقْسُومِ له من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ في الْأَصْلِ
بِخِلَافِ ما قبل الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قبل الْقِسْمَةِ إنَّمَا
الثَّابِتُ حَقٌّ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا
لِلْإِبْطَالِ بِالْمُفَادَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ وَاحِدٌ من الْأَسَارَى وَيُؤْخَذَ بَدَلَهُ
رَجُلَيْنِ من الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ كَمْ من وَاحِدٍ يَغْلِبُ اثْنَيْنِ
وَأَكْثَرَ من ذلك فَيُؤَدِّي إلَى الْإِعَانَةِ على الْحَرْبِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وإذا عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ على قَتْلِ الْأَسَارَى فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يُعَذِّبُوهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذلك من أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ
لِأَنَّ ذلك تَعْذِيبٌ من غَيْرِ فَائِدَةٍ وقد رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ قال
في بَنِي قُرَيْظَةَ لَا تَجْمَعُوا عليهم حَرَّ هذا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ
وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِمْ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في وَصَايَا
الْأُمَرَاءِ وَلَا تُمَثِّلُوا
وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لو ضَرْبُ
اخْتِصَاصٍ بِهِ حَيْثُ أَخَذَهُ وَأَسَرَهُ فلم يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فيه كما لو الْتَقَطَ شيئا وَالْأَفْضَلُ
____________________
(7/120)
أَنْ
يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ إنْ قَدَرَ عليه حتى يَكُونَ الْإِمَامُ هو الْحَكَمَ
فيه لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُزَاةِ بِهِ فَكَانَ الْحُكْمُ فيه لِلْإِمَامِ
وَإِنَّمَا يُقْتَلُ من الْأَسَارَى من بَلَغَ إمَّا بِالسِّنِّ أو
بِالِاحْتِلَامِ على قَدْرِ ما اُخْتُلِفَ فيه
فَأَمَّا من لم يَبْلُغْ أو شُكَّ في بُلُوغِهِ فَلَا يُقْتَلُ
وَكَذَا الْمَعْتُوهُ الذي لَا يَعْقِلُ لِمَا بَيَّنَّا من قَبْلُ
فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا في دَارِ الْحَرْبِ أو في دَارِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان قبل الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فيه من دِيَةٍ وَلَا
كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قبل الْقِسْمَةِ فإن
لِلْإِمَامِ فيه خِيَرَةَ الْقَتْلِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقِسْمَةِ أو بَعْدَ
الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فيه حُكْمُ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَهُمْ أو
بَاعَهُمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُمْ مَعْصُومًا فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ إلَّا
أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من خِيَارِ الْقَتْلِ لِلْإِمَامِ في الْأَسَارَى قبل
الْقِسْمَةِ إذَا لم يُسْلِمُوا فَإِنْ أَسْلَمُوا قبل الْقِسْمَةِ فَلَا يُبَاحُ
قَتْلُهُمْ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ وَلِلْإِمَامِ خِيَارَانِ فِيهِمْ إنْ
شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ فَقَسَمَهُمْ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا
بِالذِّمَّةِ إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِأَنَّ
الْإِسْلَامَ لَا يَرْفَعُ الرِّقَّ إمَّا لَا يَرْفَعُهُ لِأَنَّ الرَّفْعَ فيه
إبْطَالُ حَقِّ الْغُزَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا بَيَانُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ وَقِسْمَةُ مِلْكٍ
أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ ولم يَجِدْ الْإِمَامُ
حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ على الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ على
قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا منهم
فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَلَا تَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ كَالْمُودِعَيْنِ يَقْتَسِمَانِ الْوَدِيعَةَ
لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَهَا جَازَ ذلك وَتَكُونُ قِسْمَةَ
مِلْكٍ فَكَذَا هذا
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ في دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْمِلْكَ هل يَثْبُتُ في
الْغَنَائِمِ في دَارِ الْحَرْبِ لِلْغُزَاةِ فَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ
أَصْلًا فيها لَا من كل وَجْهٍ وَلَا من وَجْهٍ وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ
الْمِلْكِ فيها على أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الإحراز ( ( ( الأحرار ) ) )
بِدَارِ الْإِسْلَامِ وهو تَفْسِيرُ حَقِّ الْمِلْكِ أو حَقِّ التَّمَلُّكِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في حَالِ فَوْرِ
الْهَزِيمَةِ قَوْلَانِ
وَيُبْنَى على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ من
الْغَانِمِينَ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
يُورَثُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فَأَحْرَزُوا الْغَنَائِمَ
جُمْلَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُشَارِكُونَهُمْ فيها عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا
يُشَارِكُونَهُمْ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ وَاحِدٌ من الْغَانِمِينَ شيئا من الْغَنِيمَةِ
لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شيئا من الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ
الْغُزَاةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ في دَارِ الْحَرْبِ
مُجَازِفًا غير مُجْتَهِدٍ وَلَا مُعْتَقِدٍ جَوَازَ الْقِسْمَةِ لَا تَجُوزُ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تَجُوزُ
فَأَمَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقِسْمَةَ فَقَسَمَهَا نَفَذَتْ قِسْمَتُهُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ لو رَأَى الْبَيْعَ فَبَاعَهَا لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَمْضَاهُ في مَحَلِّ
الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بِخَيْبَرَ وَقَسَمَ غَنَائِمَ أَوْطَاسٍ بِأَوْطَاسٍ
وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ في دِيَارِهِمْ وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ
بِالْجِعْرَانَةِ وَهِيَ وَادٍ من أَوْدِيَةِ بَدْرٍ وَأَدْنَى ما يُحْمَلُ عليه
فِعْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هو الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ
وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الِاسْتِيلَاءَ على مَالٍ مُبَاحٍ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ
اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِيلَاءِ على الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْمُسْتَوْلَى عليه مَالٌ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ مَالُ الْكَافِرِ وإنه مُبَاحٌ
وَالدَّلِيلُ على تَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عِبَارَةٌ عن
إثْبَاتِ الْيَدِ على الْمَحَلِّ وقد وُجِدَ ذلك حَقِيقَةً وَإِنْكَارُ
الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ وَرَجْعَةُ الْكُفَّارِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ
وَاسْتِرْدَادِهِمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا دَلِيلَ عليه فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إذَا وَرَدَ على مَالٍ
مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ولم يُوجَدْ ههنا
لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ قَائِمٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ كان ثَابِتًا لهم
وَالْمِلْكُ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أو
يَخْرُجُ الْمَحَلُّ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ أو
بِعَجْزِ الْمَالِكِ عن الِانْتِفَاعِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فِيمَا شُرِعَ
الْمِلْكُ له ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك
أَمَّا الْإِزَالَةُ وَهَلَاكُ الْمَحَلِّ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ
وَأَمَّا قُدْرَةُ الْكَفَرَةِ على الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ فَلِأَنَّ
الْغُزَاةَ ما دَامُوا في دَارِ الْحَرْبِ فَالِاسْتِرْدَادُ ليس بَنَادِرِ بَلْ
هو ظَاهِرٌ أو مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا على السَّوَاءِ وَالْمِلْكُ كان ثَابِتًا
لهم فَلَا يَزُولُ مع الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَأَمَّا غَنَائِمُ
خَيْبَرَ وَأَوْطَاسَ وَالْمُصْطَلِقِ فَإِنَّمَا قَسَمَهَا رسول اللَّهِ في
تِلْكَ الدِّيَارِ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا فَصَارَتْ دِيَارَ الْإِسْلَامِ
وَأَمَّا غَنَائِمُ بَدْرٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَسَمَهَا بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ
____________________
(7/121)
بِهِ
مع التَّعَارُضِ ثُمَّ الْمِلْكُ إنْ لم يَثْبُتْ لِلْغُزَاةِ في الْغَنَائِمِ في
دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ لهم حتى يَجُوزَ لهم الِانْتِفَاعُ بها من
غَيْرِ حَاجَةٍ على ما نَذْكُرُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ الْحَقِّ لَجَازَ لِأَنَّهُ
يَكُونُ مَالًا مُبَاحًا
وَكَذَا لو وطىء وَاحِدٌ من الْغُزَاةِ جَارِيَةً من الْمَغْنَمِ لَا يَجِبُ عليه
الْحَدُّ لِأَنَّ له فيها حَقًّا فَأُورِثَ شُبْهَةً في دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا
يَجِبُ عليه الْعُقْرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ أَتْلَفَ جُزْءًا من
مَنَافِعِ بِضْعِهَا وَلَوْ أَتْلَفَهَا لَا يَضْمَنُ فههنا ( ( ( فهاهنا ) ) )
أَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا لو ادَّعَى الْوَلَدَ لِأَنَّ ثَبَاتَ
النَّسَبِ مُعْتَمَدُ الْمِلْكِ أو الْحَقِّ الْخَاصِّ وَلَا مِلْكَ ههنا
وَالْحَقُّ عَامٌّ
وَكَذَا لو أَسْلَمَ الْأَسِيرُ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ حُرًّا وَيَدْخُلُ
في الْقِسْمَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ بِنَفْسِ الْأَخْذِ
وَالِاسْتِيلَاءِ فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ عليه لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ ما
إذَا أَسْلَمَ قبل الْأَسْرِ أَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا وَلَا يَدْخُلُ في
الْقِسْمَةِ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ
أَحَدٍ فَكَانَ الْإِسْلَامُ دَافِعًا الْحَقَّ لَا رَافِعًا إيَّاهُ على ما
بَيَّنَّا
وَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قبل الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ
الْمِلْكُ أو يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ وَيَتَقَرَّرُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ
الثَّابِتَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ أو تَأَكُّدِ الْحَقِّ على أَنْ
يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا وهو الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
وقد وُجِدَ فَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ وَيَضْمَنُ الْمُتْلِفُ
وَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ وَنَحْوُ ذلك إلَّا أَنَّهُ لو أَعْتَقَ وَاحِدٌ
من الْغَانِمِينَ عَبْدًا من الْمَغْنَمِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا
لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ على الْمِلْكِ الْخَاصِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ
ذلك إلَّا بِالْقِسْمَةِ فَأَمَّا الْمَوْجُودُ قبل الْقِسْمَةِ فَمِلْكٌ عَامٌّ
أو حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعْتَاقَ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ
الْإِرْثَ وَالْقِسْمَةَ وَيَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَانْقِطَاعِ شَرِكَةِ
الْمَدَدِ على ما بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً من الْمَغْنَمِ وَادَّعَى الْوَلَدَ لَا
تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ
وَأُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَقِفَانِ على مِلْكٍ خَاصٍّ وَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ أو
حَقٍّ خَاصٍّ ولم يُوجَدْ وَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْعَامَّ أو
الْحَقَّ الْخَاصَّ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ
وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم
في نَصِيبِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ الْأَنْصِبَاءِ وَتَعْيِينُهَا
وَلَوْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فَوَقَعَ عَبْدٌ في سَهْمِ رَجُلٍ
فَأَعْتَقَهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ
مِلْكًا خَاصًّا
فَأَمَّا إذَا وَقَعَ في سَهْمِ جَمَاعَةٍ منهم عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ
يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ قَلَّ الشُّرَكَاءُ أو كَثُرُوا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إنْ كَانُوا عَشَرَةً أو أَقَلَّ منها يَنْفُذُ
إعْتَاقُهُ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك لَا يَنْفُذُ
فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرَ في خُصُوصِ الْمِلْكِ إلَى الْقِسْمَةِ
وأبو يُوسُفَ إلَى الْعَدَدِ وَالصَّحِيحُ نَظَرُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَتَعْيِينٌ فَكَانَتْ قَاطِعَةً لِعُمُومِ الشَّرِكَةِ مُخَصِّصَةً
لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ثُمَّ غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ
فَاسْتَنْقَذُوهَا من أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاء عَسْكَرٌ آخَرُ فَأَخَذَهَا من
الْعَدُوِّ فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ اخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ
نُظِرَ في ذلك فَإِنْ كان الْأَوَّلُونَ لم يَقْتَسِمُوهَا ولم يُحْرِزُوهَا
بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنِيمَةُ لِلْآخَرِينَ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لم
يَثْبُتْ لهم إلَّا مُجَرَّدُ حَقٍّ غَيْرِ مُتَقَرِّرٍ وقد ثَبَتَ لِلْآخَرِينَ
مِلْكٌ عَامٌّ أو حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمِلْكِ فَكَانُوا أَوْلَى
بِالْغَنَائِمِ وَإِنْ كان الْأَوَّلُونَ قد اقْتَسَمُوهَا فَالْقِسْمَةُ لهم
وَإِنْ كَانُوا لم يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا
بِالْقِسْمَةِ مِلْكًا خَاصًّا فإذا غَلَبَهُمْ الْكُفَّارُ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا
على أَمْلَاكِهِمْ فَإِنْ وَجَدُوهَا في يَدِ الْآخَرِينَ قبل الْقِسْمَةِ
أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا
بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا كما في سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ التي اسْتَوْلَى عليها
الْعَدُوُّ ثُمَّ وَجَدُوهَا في يَدِ الْغَانِمِينَ قبل الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا
وَإِنْ كَانُوا لم يَقْتَسِمُوهَا وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَالْآخَرُونَ
أَوْلَى لِأَنَّ الثَّابِتَ لهم مِلْكٌ خَاصٌّ بِالْقِسْمَةِ وَالثَّابِتِ
لِلْأَوَّلِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أو حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ عَامٌّ فَكَانَ اعْتِبَارُ
الْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا وجدوها ( ( ( وجدها ) ) ) قبل قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَوْلَى وَذَكَرَ في
السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْآخَرِينَ أَوْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الثَّابِتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من
الْفَرِيقَيْنِ وَإِنْ كان هو الْحَقَّ الْمُتَأَكَّدَ لَكِنَّ نَقْضَ الْحَقِّ
بِالْحَقِّ جَائِزٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بمثله كما في
النَّسْخِ وَلِهَذَا جَازَ نَقْضُ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ حَقَّ الْآخَرِينَ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ
وَحَقُّ الْأَوَّلِينَ زَائِلٌ ذَاهِبٌ فَاسْتِصْحَابُ الْحَالَةِ الثَّابِتَةِ
أَوْلَى إذْ هو يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ
وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في الْمِلْكِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ
الْحَادِثُ بِالْقَدِيمِ إلَّا أَنَّ النَّقْضَ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
هذا إذَا كان الْكُفَّارُ أَحْرَزُوا الْأَمْوَالَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ
كَانُوا لم يُحْرِزُوهَا حتى أَخَذَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ من الْمُسْلِمِينَ
منهم
____________________
(7/122)
في
دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنَائِمُ لِلْأَوَّلِينَ سَوَاءٌ قَسَمَهَا الْآخَرُونَ
أو لم يَقْسِمُوهَا لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ
بِالِاسْتِيلَاءِ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ ولم يُوجَدْ
فَكَانَتْ الْغَنَائِمُ في حُكْمِ يَدِ الْأَوَّلِينَ ما دَامَتْ في دَارِ
الْإِسْلَامِ فكأن الآخرين ( ( ( الآخرون ) ) ) أَخَذُوهُ من أَيْدِي
الْأَوَّلِينَ فَيَلْزَمُهُمْ الرَّدُّ عليهم إلَّا إذَا كان الْإِمَامُ قَسَمَهَا
بين الْآخَرِينَ وَرَأْيُهُ أَنَّ الْكَفَرَةَ قد مَلَكُوهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ
وَالِاسْتِيلَاءِ وَإِنْ كَانُوا في دَارِ الْإِسْلَامِ كما هو مَذْهَبُ بَعْضِ
الناس فَكَانَتْ قِسْمَةً في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَنْفُذُ وَتَكُونُ
لِلْآخَرِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا من كَوْنِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ شَرْطًا
لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْغَنَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَأَمَّا الْغَنَائِمُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الْأَنْفَالُ فَهَلْ هو شَرْطٌ فيها
قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لَا يَثْبُتَ
الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا فيها قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فيها بِنَفْسِ الْأَخْذِ
وَالْإِصَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ظَهَرَ فيها اخْتِلَافٌ
وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَّلَ فقال من أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ له
فَأَصَابَ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا في دَارِ الْحَرْبِ
بِحَيْضَةٍ لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَحِلُّ
وقال بَعْضُهُمْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ ليس بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في
الْأَنْفَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتِلَافُهُمَا في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا
يَدُلُّ على الِاخْتِلَافِ في ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ كما ظَهَرَ
الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا في النَّفْلِ فَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ في
الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فإن الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ في دَارِ
الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ
وَكَذَا لو رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَ الْغَنَائِمِ فَبَاعَ من رَجُلٍ جَارِيَةً
فَاسْتَبْرَأَهَا الْمُشْتَرِي بِحَيْضَةٍ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَلَا خِلَافَ
بين أَصْحَابِنَا في الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ
فيها قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ
هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ وَرَاءَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ في النَّفْلِ لَا يَقِفُ على الْإِحْرَازِ
بِدَارِ الْإِسْلَامِ بين أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ
لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قد تَحَقَّقَ وهو الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَلَا
يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عن سَبَبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ وفي الْغَنَائِمِ
الْمَقْسُومَةِ ضَرُورَةٌ وَهِيَ خَوْفُ شَرِّ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ
الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَاشْتَغَلُوا بِالْقِسْمَةِ وَلَتَسَارَعَ كُلُّ
أَحَدٍ إلَى إحْرَازِ نَصِيبِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ
وَفِيهِ خَوْفُ تَوَجُّهِ الشَّرِّ عليهم من الْكَفَرَةِ فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ
فيها إلَى ما بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ
وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في الْأَنْفَالِ لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ
مَقْسُومَةٍ فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ الْحُكْمِ عن السَّبَبِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ
الْجَيْشَ لَا يُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ له كما بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ
بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ
وَكَذَا لو مَاتَ الْمُنَفَّلُ له يُورَثُ نُصِيبُهُ كما لو مَاتَ بَعْدَ
الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فَيَثْبُتُ
بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْمِلْكَ في النَّفْلِ لَا يَقِفُ على الْإِحْرَازِ
بِالدَّارِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّ هذا النَّوْعَ من
الْمِلْكِ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على عَدَمِ الْمِلْكِ أَصْلًا
أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ قد يَمْتَنِعُ مع قِيَامِ الْمِلْكِ
لِعَوَارِضَ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْمَحْرَمِيَّة وَالصِّهْرِيَّة
وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ إنَّمَا لم يَثْبُتْ الْحِلُّ هُنَاكَ مع ثُبُوتِ الْمِلْكِ
لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الزَّوَالِ
سَاعَةً فَسَاعَةً لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ فَكَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِرْدَادِ
قَائِمًا وَمَتَى اسْتَرَدُّوا يَرْتَفِعْ السَّبَبُ من حيث ( ( ( حين ) ) )
وُجُودِهِ وَيَلْتَحِقْ بِالْعَدَمِ إمَّا من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ
أَنَّ الْوَطْءَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وهو الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَلِهَذَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إنَّهُ لَا
يَحِلُّ وَطْؤُهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ وَبَيْعِهِ إذَا رَأَى ذلك وَإِنْ
وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً وَبَيْعُهُ نَافِذًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ في هذه
الصُّورَةِ كما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجُوزُ بِهِ الِانْتِفَاعُ من الْغَنَائِمِ وما لَا يَجُوزُ
فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ منها
وَالثَّانِي في بَيَانِ من يَنْتَفِعُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ
وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ منها قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقِيرًا كان
الْمُنْتَفِعُ أو غَنِيًّا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ في
حَقِّ الْكُلِّ فَإِنَّهُمْ لو كُلِّفُوا حَمْلَهَا من دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى
دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ وَمُقَامِهِمْ فيها لَوَقَعُوا
في حَرَجٍ عَظِيمٍ بَلْ يَتَعَذَّرُ عليهم ذلك فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِّ كل
وَاحِدٍ من الْغَانِمِينَ في حَقِّ صَاحِبِهِ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا
وَالْتَحَقَتْ هذه الْمَحَالُّ بِالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ ما كان مَأْكُولًا مِثْلَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْخَلِّ
____________________
(7/123)
لَا
بَأْسَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ وَيُدْهِنَ بِهِ نَفْسَهُ وَدَابَّتَهُ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ
الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ وما كان من الْأَدْهَانِ لَا يُؤْكَلُ مِثْلُ
الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ لِأَنَّ
الِانْتِفَاعَ بِهِ ليس من الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ بَلْ من الْحَاجَاتِ
الزَّائِدَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوا شيئا من الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ
وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا
عُرُوضٍ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ وَإِسْقَاطَ اعْتِبَارِ الْحُقُوقِ
وَإِلْحَاقِهَا بِالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ التي ذَكَرْنَا وَلَا ضَرُورَةَ في
الْبَيْعِ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هو الْمَالُ الْمَمْلُوكُ وَهَذَا ليس
بِمَالٍ مَمْلُوكٍ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّارِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ولم
يُوجَدْ فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ شيئا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ
الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ فَكَانَ مَرْدُودًا
إلَى الْمَغْنَمِ وَلَوْ أَحْرَزُوا شيئا من ذلك بِدَارِ الْإِسْلَامِ وهو في
أَيْدِيهِمْ وَإِنْ كانت لم تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ رَدُّوهَا إلَى الْمَغْنَمِ
لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ
وَإِنْ كانت قد قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ تَصَدَّقُوا
بِهِ على الْفُقَرَاءِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ لِتَعَذُّرِ
قِسْمَتِهِ على الْغُزَاةِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِ فَأَشْبَهَ اللُّقَطَةَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كانت قَائِمَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كان انْتَفَعَ بها بَعْدَ
الْقِسْمَةِ فَإِنْ كان غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ على الْفُقَرَاءِ
لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لو كان قَائِمًا لَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ
لِكَوْنِهِ مَالًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَتَعَذَّرَ صَرْفُهُ
إلَيْهِمْ لِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِمْ فَيَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ وهو قِيمَتُهُ
وَإِنْ كان فَقِيرًا لم يَجِبْ عليه شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لو كان
قَائِمًا لَكَانَ له أَنْ يَأْكُلَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا ما سِوَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ
وفي الِانْتِفَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى
اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ من السِّلَاحِ أو الدَّوَابِّ أو الثِّيَابِ فَلَا بَأْسَ
بِاسْتِعْمَالِهِ بِأَنْ انْقَطَعَ سَيْفُهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ سَيْفًا
من الْغَنِيمَةِ فَيُقَاتِلَ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عنه رَدَّهُ إلَى
الْمَغْنَمِ
وَكَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى رُكُوبِ فَرَسٍ أو لُبْسِ ثَوْبٍ إذَا دَفَعَ
حَاجَتَهُ بِذَلِكَ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ لِأَنَّ هذا مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ
أَيْضًا لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الضَّرُورَةِ
حتى إنَّهُ لو أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شيئا من ذلك وِقَايَةً لِسِلَاحِهِ
وَدَوَابِّهِ وَثِيَابِهِ وَصِيَانَةً لها فَلَا يَنْبَغِي له ذلك لِانْعِدَامِ
تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ
وَهَكَذَا إذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَ أو الْغَنَمَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ وَرَدُّوا
الْجُلُودَ إلَى الْمَغْنَمِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ ليس من الْحَاجَاتِ
اللَّازِمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَنْتَفِعُ بِالْغَنَائِمِ فَنَقُولُ إنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ
بها إلَّا الْغَانِمُونَ فَلَا يَجُوزُ لِلتُّجَّارِ أَنْ يَأْكُلُوا شيئا من
الْغَنِيمَةِ إلَّا بِثَمَنٍ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حَقِّ كل وَاحِدٍ من
الْغَانِمِينَ في حَقِّ صَاحِبِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ
اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ غَيْرِهِمْ
وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا وَيُطْعِمُوا عَبِيدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
وَصِبْيَانَهُمْ لِأَنَّ إنْفَاقَ الرَّجُلِ على هَؤُلَاءِ إنْفَاقٌ على نَفْسِهِ
لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ عليه
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من عليه نَفَقَتُهُ فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ وَمَنْ لَا
فَلَا وَلَا يَجُوزُ لِأَجِيرِ الرَّجُلِ لِلْخِدْمَةِ أَنْ يَأْكُلَ منه لِأَنَّ
نَفَقَتَهُ على نَفْسِهِ لَا عليه
وَلِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْحَرْبِ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى
وَالْجَرْحَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَعْلِفَ دَابَّتَهَا وَتُطْعِمَ رَقِيقَهَا لِأَنَّ
الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ من الْغَنِيمَةِ فَكَانَتْ من الْغَانِمِينَ
وَاَللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ
منها وهو خُمْسُ الْغَنِيمَةِ لِأَرْبَابِهِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا
لِلْغَانِمِينَ
أَمَّا الْخُمْسُ فَالْكَلَامُ فيه في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمْسِ
وفي بَيَانِ مَصْرِفِهِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ في
حَالِ حَيَاةِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يُقْسَمُ على خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَهْمٌ لِذَوِي
الْقُرْبَى وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ
السَّبِيلِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وَإِضَافَةُ الْخُمْسِ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَصْرُوفًا إلَى وُجُوهِ الْقُرَبِ
التي هِيَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ على ما تُضَافُ الْمَسَاجِدُ
وَالْكَعْبَةُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكَوْنِهَا مَوَاضِعَ
إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ التي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِلْخُمْسِ على ما هو ( ( ( بينا ) ) )
الأصل ( ( ( والأصل ) ) ) في إضَافَةِ جُزْئِيَّةِ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنها تَخْرُجُ مَخْرَجَ تَعْظِيمِ الْمُضَافِ كَقَوْلِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ وَبَيْتُ اللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِخُلُوصِهِ لِلَّهِ
تَعَالَى بِخُرُوجِهِ عن تَصَرُّفِ الْغَانِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وَالْمُلْكُ في كل الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى
لَكِنْ خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك الْيَوْمَ بِالْمُلْكِ له
____________________
(7/124)
فيه
لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْأَغْيَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في سَهْمِ رسول اللَّهِ وفي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى
بَعْدَ وَفَاتِهِ
أَمَّا سَهْمُ رسول اللَّهِ فَقَدْ قال عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ
سَقَطَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ لم يَسْقُطْ وَيُصْرَفُ إلَى
الْخُلَفَاءِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا كان يَأْخُذُهُ
كِفَايَةً له لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ
مَشْغُولُونَ بِذَلِكَ فَيُصْرَفُ سَهْمُهُ إلَيْهِمْ كِفَايَةً لهم
وَلَنَا أَنَّ ذلك الْخُمْسَ كان خُصُوصِيَّةً له عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَالصَّفِيِّ الذي كان له خَاصَّةً وَالْفَيْءُ وهو الْمَالِيَّةُ الذي لم يُوجِفْ
عليه الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ثُمَّ لم يَكُنْ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ من
الْفَيْءِ وَالصَّفِيِّ فَكَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ من
الْخُمْسِ وَلِهَذَا لم يَكُنْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لو بَقِيَ بَعْدَهُ لَكَانَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وقد قال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ما تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ
وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
إنَّهُ بَاقٍ وَيُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ بَنِي هَاشِمٍ من أَوْلَادِ سَيِّدَتِنَا
فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها وَغَيْرِهَا يَسْتَوِي فيه فَقِيرُهُمْ
وَغَنِيُّهُمْ
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَعَلَى الْوَجْهِ الذي كان بَقِيَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه أَنَّهُ كَيْفَ كان وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كان لِفُقَرَاءِ الْقَرَابَةِ دُونَ
أَغْنِيَائِهِمْ يُعْطَوْنَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ وقد
بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يعطي فُقَرَاءُ قَرَابَتِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كِفَايَتَهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُقَدَّمُونَ على
غَيْرِهِمْ من الْفُقَرَاءِ وَيُجَاوَزُ لهم من الْخُمْسِ أَيْضًا لِمَا لاحظ لهم
من الصَّدَقَاتِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يعطي غَيْرُهُمْ من فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
دُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ الْخُمْسُ عِنْدَنَا على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ
لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ
فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ وَلَا يُدْفَعُ إلَى
أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِذَوِي
الْقُرْبَى سَهْمٌ على حِدَةٍ يُصْرَفُ إلَى غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى } الْآيَةَ فإن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَهْمًا لِذَوِي الْقُرْبَى
وَهُمْ الْقَرَابَةُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَكَذَا رُوِيَ
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ الْخُمْسَ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ
وَأَعْطَى سَهْمًا منها لِذَوِي الْقُرْبَى ولم يُعْرَفْ له نَاسِخٌ في حَالِ
حَيَاتِهِ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
وَلَنَا ما رَوَاهُ محمد بن الْحَسَنِ في كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا
أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ
لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ بِمَحْضَرٍ
من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ولم يُنْكِرْ عليهم أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم
على ذلك وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ ليس الْمُرَادُ من ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ
الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ رَسُولِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
في فِعْلِهِ وَمَنْعُ الْحَقِّ عن الْمُسْتَحِقِّ وَكَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ
حَضَرَهُمْ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ السُّكُوتُ عَمَّا لَا
يَحِلُّ مع ما وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ
وَكَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ يَدُلُّ عليه لِأَنَّ اسْمَ ذَوِي
الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الْقَرَابَاتِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } ولم يُفْهَمْ
منه قَرَابَةُ الرَّسُولِ خَاصَّةً
وَكَذَا قَوْلُهُ { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } لم
يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ رسول اللَّهِ وما رُوِيَ أَنَّهُ قَسَمَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْخُمْسَ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَأَعْطَى عليه السلام ذَا
الْقُرْبَى سَهْمًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ في أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خَاصَّةً
وَكَذَا قَوْلُهُ { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ولم
يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ أو
لِقَرَابَتِهِمْ وقد عَلِمْنَا بِقِسْمَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ لَا
لِقَرَابَتِهِمْ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يُشَدِّدُ في أَمْرِ
الْغَنَائِمِ فَتَنَاوَلَ من وَبَرِ بَعِيرٍ وقال ما يَحِلُّ لي من غَنَائِمِكُمْ
وَلَا وَزْنُ هذه الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمْسُ وهو مَرْدُودٌ فِيكُمْ رُدُّوا
الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فإن الْغَلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ على صَاحِبِهِ
يوم الْقِيَامَةِ لم يَخُصَّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَرَابَةَ بِشَيْءٍ
من الْخُمْسِ بَلْ عَمَّ الْمُسْلِمِينَ جميعا بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَدَلَّ أَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ
سَائِرِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يعطي من يَحْتَاجُ منهم كِفَايَتَهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَلَوْ أعطى أَيُّ فَرِيقٍ اتَّفَقَ مِمَّنْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ
لِأَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ لَا لِإِيجَابِ
الصَّرْفِ إلَى كل صِنْفٍ منهم شيئا بَلْ لِتَعْيِينِ الْمَصْرِفِ حتى لَا يَجُوزُ
الصَّرْفُ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ
____________________
(7/125)
كما
في الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ
من يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ منها وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ
الِاسْتِحْقَاقِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ منها هو الرَّجُلُ
الْمُسْلِمُ الْمُقَاتِلُ وهو أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الْقِتَالِ وَدَخَلَ دَارَ
الْحَرْبِ على قَصْدِ الْقِتَالِ وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أو لم يُقَاتِلْ لِأَنَّ
الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَذَا كما يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ
الْقَتْلِ يَحْصُلُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ في صَفِّ الْقِتَالِ رَدًّا
لِلْمُقَاتَلَةِ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عليهم
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ كَانُوا أثلاثا ( ( ( ثلاثا ) ) ) ثُلُثٌ
في نَحْرِ الْعَدُوِّ يقتلون ( ( ( ويقتلون ) ) ) وَيَأْسِرُونَ وَثُلُثٌ
يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ وَثُلُثٌ يَكُونُونَ ردءا ( ( ( ردا ) ) ) لهم خَشْيَةَ
كَرِّ الْعَدُوِّ عليهم وَسَوَاءٌ كان مَرِيضًا أو صَحِيحًا شَابًّا أو شَيْخًا
حُرًّا أو عَبْدًا مَأْذُونًا بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الْقِتَالِ
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ
الْمَحْجُورُ فَلَيْسَ لهم سَهْمٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ
الْقِتَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ على الصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ أَصْلًا
وَلَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ
ضَرُورَةُ عُمُومِ النَّفِيرِ وَلِذَلِكَ لم يَسْتَحِقُّوا كَمَالَ السَّهْمِ
وَلَكِنْ يُرْضَخُ لهم على حَسَبِ ما يَرَى الْإِمَامُ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان لَا يُعْطِي الْعَبِيدَ
وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ سَهْمًا كَامِلًا من الْغَنَائِمِ
وَكَذَا لَا سَهْمَ لِلتَّاجِرِ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ الدَّارَ على قَصْدِ
الْقِتَالِ إلَّا إذَا قَاتَلَ مع الْعَسْكَرِ فإنه يَسْتَحِقُّ ما يَسْتَحِقُّهُ
الْعَسْكَرُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دخل الدَّارَ على قَصْدِ الْقِتَالِ
فَكَانَ مُقَاتِلًا وَلَا سَهْمَ لِلْأَجِيرِ لِانْعِدَامِ الدُّخُولِ على قَصْدِ
الْقِتَالِ فَإِنْ قَاتَلَ نُظِرَ في ذلك إنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فَقَدْ دخل في
جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ وَإِنْ لم يَتْرُكْ فَلَا شَيْءَ له أَصْلًا لِأَنَّهُ إذَا
لم يَتْرُكْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَدْخُلْ على قَصْدِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُسْتَحِقِّ وهو
الْمُقَاتِلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمُقَاتِلُ إمَّا أَنْ
يَكُونَ رَاجِلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فَإِنْ كان رَاجِلًا فَلَهُ
سَهْمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان فَارِسًا فَلَهُ سَهْمَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ له ثَلَاثَةُ
أَسْهُمٍ سَهْمٌ له وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وَرِوَايَاتُ الْأَخْبَارِ تَعَارَضَتْ في الْبَابِ رُوِيَ في بَعْضِهَا أَنَّهُ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ له ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ
إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَاضَدَهَا الْقِيَاسُ وهو أَنَّ الرَّجُلَ
أَصْلٌ في الْجِهَادِ وَالْفَرَسُ تَابِعٌ له لِأَنَّهُ آلَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ
فِعْلَ الْجِهَادِ يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ وَلَا يَقُومُ بِالْفَرَسِ
وَحْدَهُ فَكَانَ الْفَرَسُ تَابِعًا في بَابِ الْجِهَادِ وَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُ
التَّبَعِ على الْأَصْلِ في السَّهْمِ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إذَا تَعَارَضَتْ
فَالْعَمَلُ بِمَا عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيَسْتَوِي فيه الْعَتِيقُ من الْخَيْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبِرْذَوْنِ لِأَنَّهُ
لَا فَضْلَ في النُّصُوصِ بين فَارِسٍ وَفَارِسٍ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمِ
الْفَرَسِ لِحُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَصَفَ جِنْسَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } فَلَا
يَفْصِلُ بين نَوْعٍ وَنَوْعٍ وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ من فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَازِيَ تَقَعُ الْحَاجَةُ
له إلَى فَرَسَيْنِ يَرْكَبُ أَحَدَهُمَا وَيُجَنِّبُ الْآخَرَ حتى إذَا أعيى ( (
( أعيا ) ) ) الْمَرْكُوبُ عن الْكَرِّ وَالْفَرِّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَنِيبَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ على
مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْخَيْلَ آلَةُ الْجِهَادِ ثُمَّ لَا يُسْهَمُ
لِسَائِرِ آلَاتِ الْجِهَادِ فَكَذَا الْخَيْلُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ
كَفَرَسٍ وَاحِدٍ فَالزِّيَادَةُ على ذلك تُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ على
أَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ إنْ كان مَعْلُولًا بِكَوْنِهِ آلَةً مُرْهِبَةً لِلْعَدُوِّ
بِخِلَافِ سَائِرِ الْآلَاتِ فَالْمُعْتَبَرُ هو أَصْلُ الْإِرْهَابِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِمَا زَادَ على فَرَسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ مع أَنَّ مَعْنَى
الْإِرْهَابِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْفَرَسِ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في حَالِ الْمُقَاتِلِ من كَوْنِهِ فَارِسًا أو رَاجِلًا في
أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ أَمْ وَقْتُ شُهُودِ
الْوَقْعَةِ فَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا
دَخَلَهَا على قَصْدِ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَبَرُ
وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ
حتى إنَّ الْغَازِيَ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَمَاتَ فَرَسُهُ أو
نَفَرَ أو أَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
له سَهْمُ الرَّجَّالَةِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ
بِالْجِهَادِ ولم يُوجَدْ وَقْتَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْجِهَادَ
بِالْمُقَاتَلَةِ وَدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ من بَابِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا من بَابِ
الْمُقَاتَلَةِ
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الْغَنَائِمَ لِلْمُجَاهِدِينَ
قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا }
وقال تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ } وقال جَلَّتْ
عَظَمَتُهُ
____________________
(7/126)
وَكِبْرِيَاؤُهُ
{ وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وقال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أنها لَكُمْ }
وَغَيْرُ ذلك من النُّصُوصِ وَاَلَّذِي جَاوَزَ الدَّرْبَ فَارِسًا على قَصْدِ
الْقِتَالِ مُجَاهِدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ على هذا
الْوَجْهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ جِهَادٌ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ
إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ جِهَادٌ قَوْلُهُ عز وجل { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا
تَخْلُو عن عُيُونِ الْكُفَّارِ وَطَلَائِعِهِمْ فإذا دَخَلَهَا جَيْشٌ كَثِيفٌ
رِجَالًا وَرُكْبَانًا فَالْجَوَاسِيسُ يُخْبِرُونَهُمْ بِذَلِكَ فَيَقَعُ
الرُّعْبُ في قُلُوبِهِمْ حتى يَتْرُكُوا الْقُرَى وَالرَّسَاتِيقَ هرابا ( ( (
هربا ) ) ) إلَى الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ فَكَانَ مُجَاوَزَةُ
الدَّرْبِ على قَصْدِ الْقِتَالِ إرْهَابَ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ جِهَادٌ
وَالثَّانِي أَنَّ فيه غَيْظَ الْكَفَرَةِ وَكَبْتَهُمْ لِأَنَّ وَطْءَ أَرْضِهِمْ
وَعُقْرَ دَارِهِمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا يطؤون ( ( ( يطئون ) ) ) مَوْطِئًا
يَغِيظُ الْكُفَّارَ } وَفِيهِ قَهْرُهُمْ وما الْجِهَادُ إلَّا قَهْرُ أَعْدَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْزَازِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَدَلَّ أَنَّ
مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ فَارِسًا على قَصْدِ الْقِتَالِ جِهَادٌ وَمَنْ جَاهَدَ
فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ وَمَنْ جَاهَدَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ
الرَّجَّالَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ
وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ
وَأَمَّا أَمْرُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قال ذلك
في وَقْعَةٍ خَاصَّةٍ بِأَنْ وَقَعَ الْقِتَالُ في دَارِ الْإِسْلَامِ أو في
أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا ثُمَّ لَحِقَ الْمَدَدُ أو يُحْمَلُ على هذا
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ في الْغَنِيمَةِ في
تِلْكَ الْوَقْعَةِ إلَّا إذَا شَهِدُوهَا وَلَا كَلَامَ فيه
وَعَلَى هذا إذَا دخل رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا أو اسْتَأْجَرَ أو
اسْتَعَارَ أو وُهِبَ له فَلَهُ سَهْمُ الرِّجَالِ عِنْدَنَا لِاعْتِبَارِ وَقْتِ
الدُّخُولِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له سَهْمُ الْفُرْسَانِ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الشُّهُودِ
وقال الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الصُّورَةِ إذَا قَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ
سَهْمُ فَارِسٍ وَعَلَى هذا إذَا دخل فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أو آجَرَهُ أو
وَهَبَهُ أو أَعَارَهُ فَقَاتَلَ وهو رَاجِلٌ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ
ذَكَرَهُ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ له سَهْمَ فَارِسٍ
وَسَوَّى على هذه الرِّوَايَةِ بين الْبَيْعِ وَالْمَوْتِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ قبل
شُهُودِ الْوَقْعَةِ وَبَعْدَهَا
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ فَارِسًا على
قَصْدِ الْقِتَالِ دَلِيلُ الْجِهَادِ فَارِسًا وَلَمَّا بَاعَ فَرَسَهُ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ لم يَقْصِدْ بِهِ الْجِهَادَ فَارِسًا بَلْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ
وَكَذَا هذا في الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ
شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ على قَصْدِ
التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَبِيعُ فَرَسَهُ ذلك الْوَقْتَ لِقَصْدِ
التِّجَارَةِ عَادَةً بَلْ لِقَصْدِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِتَالِ
بِعَامَّةِ ما في وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ من الْكَفَرَةِ على أَمْوَالِ
الْمُسْلِمِينَ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ
الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا دَخَلُوا
دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا على أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ولم يُحْرِزُوهَا
بِدَارِهِمْ أنهم لَا يَمْلِكُونَهَا حتى لو ظَهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ
وَأَخَذُوا ما في أَيْدِيهِمْ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لهم وَعَلَيْهِمْ رَدُّهَا إلَى
أَرْبَابِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ
وَكَذَا لو قَسَمُوهَا في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ
فَأَخَذُوهَا من أَيْدِيهِمْ أَخَذَهَا أَصْحَابُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ
قِسْمَتَهُمْ لم تَجُزْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ في دَارِ
الْحَرْبِ أنها جَائِزَةٌ وَإِنْ لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ فيها في دَارِ الْحَرْبِ
لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا اجْتَهَدَ وَأَفْضَى
رَأْيُهُ إلَى الْمِلْكِ حتى لو قَسَمَ مُجَازَفَةً لَا تَجُوزُ على أَنَّ
الْقِسْمَةَ هُنَاكَ قَضَاءٌ صَدَرَ من إمَامٍ جَائِزِ الْقَضَاءِ ولم يُوجَدْ
ههنا وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمْ أَيْضًا إذَا اسْتَوْلَوْا على رِقَابِ
الْمُسْلِمِينَ وَمُدَبِّرِيهِمْ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ وَمُكَاتَبِيهِمْ أَنَّهُمْ
لَا يَمْلِكُونَهُمْ وَإِنْ أَحْرَزُوهُمْ بِالدَّارِ
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا على
أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ
قال عُلَمَاؤُنَا يَمْلِكُونَهَا حتى لو كان الْمُسْتَوْلَى عليه عَبْدًا
فَأَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ أو بَاعَهُ أو كَاتَبَهُ أو دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةً
فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ ذلك خَاصَّةً
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَمْلِكُونَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مَعْصُومٍ وَالِاسْتِيلَاءُ على
مَالٍ مَعْصُومٍ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ على مَالِ
الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَائِهِمْ على الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ
عِصْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ
بِالْحُرُمَاتِ إذَا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَإِنْ اخْتَلَفَا في الْعِبَادَاتِ
وَالِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ مَحْظُورًا وَالْمَحْظُورُ
____________________
(7/127)
لَا
يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ
وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَمَنْ
اسْتَوْلَى على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ كَمَنْ اسْتَوْلَى على
الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ وَدَلَالَةُ أَنَّ هذا الِاسْتِيلَاءَ على
مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ إن مِلْكَ الْمَالِكِ يَزُولُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ
بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً بِزَوَالِ الْمِلْكِ
وَالدَّلِيلُ على زَوَالِ الْمِلْكِ أَنَّ الْمِلْكَ هو الِاخْتِصَاصُ
بِالْمَحَلِّ في حَقِّ التَّصَرُّفِ أو شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ من التَّصَرُّفِ في
الْمَحَلِّ وقد زَالَ ذلك بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ
الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَا يُمْكِنُهُ الدُّخُولُ
بِنَفْسِهِ لِمَا فيه من مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ في
التَّهْلُكَةِ وَغَيْرُهُ قد لَا يُوَافِقُهُ
وَلَوْ وَافَقَهُ فَقَدْ لَا يَظْفَرُ بِهِ وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ قَلَّمَا
يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِرْدَادُ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ وَأَهْلُ الدَّارِ
يَذُبُّونَ عن دَارِهِمْ فإذا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أو ما شُرِعَ له الْمِلْكُ
يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً
وَكَذَلِكَ لو اسْتَوْلَوْا على عَبِيدِنَا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِهَذَا يَحْتَمِلُ
التَّمَلُّكَ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَحْرَارِ
وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَالْمُكَاتَبِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَهَذَا إذَا
دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا على عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ
فَأَمَّا إذَا أَبَقَ عَبْدٌ أو أَمَةٌ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهُ
الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ يَمْلِكُونَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ
فَيَمْلِكُونَهُ قِيَاسًا على الدَّابَّةِ التي نَدَّتْ من دَارِ الْإِسْلَامِ
إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ وَسَائِرَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
التي اسْتَوْلَوْا عليها
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ
أَنَّهُ كما دخل دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا
في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ
الْمَالِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَا
يُفِيدُ الْمِلْكَ قِيَاسًا على الِاسْتِيلَاءِ على الْأَحْرَارِ
وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَالْمُكَاتَبِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَدَلَالَةُ
أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِيلَاءِ هو
الْمَالُ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ في هذا الْمَحَلِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ
ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْغَانِمِينَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فيه هو
الْحُرِّيَّةُ وَكَمَا دخل دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ كما ذَكَرْنَا
في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَتَزُولُ الْمَالِيَّةُ الثَّابِتَةُ
ضَرُورَةَ ثُبُوتِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الرِّقُّ أَيْضًا إلَّا
أَنَّهُ بَقِيَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
بِخِلَافِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فيها لَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ
الْمِلْكِ لِأَنَّهَا مَالٌ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ
وَبِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ
الِاسْتِيلَاءَ حَقِيقَةً صَادَفَهُ وهو مَالٌ مَمْلُوكٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْحَالِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى
وَقْتِ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِمَانِعٍ وهو مِلْكُ الْمَالِكِ فإذا أَحْرَزُوهُ
بِدَارِهِمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَيَعْمَلُ
الِاسْتِيلَاءُ السَّابِقُ وَعَمَلُهُ في إثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لَا
يَثْبُتُ إلَّا في الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمَالِيَّةُ ضَرُورَةَ الْمَرْءِ هنا
لِاسْتِيلَاءِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا أَصْلًا وبعدما وُجِدَ الِاسْتِيلَاءُ لَا
مَالِيَّةَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فلم يُصَادِفْ الِاسْتِيلَاءُ مَحَلَّهُ فَلَا
يُفِيدُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ عن
مَالِهِ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عليه وَيَثْبُتُ لهم عِنْدَنَا على وَجْهٍ له
حَقُّ الْإِعَادَةِ إمَّا بِعِوَضٍ أو بِغَيْرِ عِوَضٍ حتى لو ظَهَرَ عليهم
الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ وَجَدَهُ
الْمَالِكُ الْقَدِيمُ قبل الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ سَوَاءٌ كان من
ذَوَاتِ الْقِيَمِ أو من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ
فَإِنْ كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لو أَخَذَهُ
لَأَخَذَهُ بمثله فَلَا يُفِيدُ وَإِنْ لم يَكُنْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ مُرَاعَاةَ
الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ بِإِيصَالِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ
الْخَاصِّ الْمَأْخُوذِ منه بِغَيْرِ عِوَضٍ وَجَانِبِ الْغَانِمِينَ بِصِيَانَةِ
مِلْكِهِمْ الْخَاصِّ عن الزَّوَالِ من غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ الْأَخْذُ
بِالْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ وَمُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ بِخِلَافِ ما
إذَا وَجَدَهُ قبل الْقِسْمَةِ أنه يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ
لِلْغَانِمِينَ قبل الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ ليس إلَّا الْحَقُّ الْمُتَأَكَّدُ
أو الْمِلْكُ الْعَامُّ فَكَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ رِعَايَةً
لِلْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى
وقد رُوِيَ أَنَّ بَعِيرًا لِرَجُلٍ من الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَى عليه أَهْلُ
الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ في الْمَغْنَمِ
فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عنه فقال إنْ وَجَدْتَهُ قبل الْقِسْمَةِ فَهُوَ لك
بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لك بِالْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْحَرْبِيُّ بَاعَ الْمَأْخُوذَ من الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ
ظَهَرَ عليه الْمُسْلِمُونَ فإن الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ قبل الْقِسْمَةِ
بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مُسْتَحَقُّ
الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ
____________________
(7/128)
الْمِلْكِ
فَبَقِيَ كَذَلِكَ
وَلَوْ كان الْمُسْتَوْلَى عليه مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا أو أُمَّ وَلَدٍ ثُمَّ
ظَهَرَ عليه الْمُسْلِمُونَ فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَخَذَهُ
الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ قبل الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا لِأَنَّهُ
حُرٌّ من وَجْهٍ وَالْحُرُّ من وَجْهٍ أو من كل وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ
التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُهُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ
الْمِلْكِ فإذا حَصَلُوا في أَيْدِي الْغَانِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى
الْمَالِكِ الْقَدِيمِ
وَلَوْ وَهَبَ الْحَرْبِيُّ ما مَلَكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِرَجُلٍ من الْمُسْلِمِينَ
أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِأَنَّ فيه نَظَرًا
لِلْجَانِبَيْنِ على ما بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَهُ من مُسْلِمٍ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ بِأَنْ بَاعَ من مُسْلِمٍ
عَبْدَ الْمُسْلِمِ بِخَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ
لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لم تَصِحَّ فَكَانَ هذا بَيْعًا
فَاسِدًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ الْعِوَضُ فَاسِدًا أَخَذَهُ
بِالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ إنْ كان اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ
جِنْسِهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُفِيدٌ
وَكَذَلِكَ لو كان اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ لَكِنْ بِأَقَلَّ منه فإنه يَأْخُذُهُ
بِمِثْلِ ما اشْتَرَاهُ وَلَا يَكُونُ هذا رِبًا لِأَنَّ الرِّبَا فَضْلُ مَالٍ
قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ من غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ وَالْمَالِكُ
الْقَدِيمُ لَا يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ بَلْ بِطَرِيقِ الْإِعَادَةِ إلَى
قَدِيمِ مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَإِنْ كان اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ بمثله
قَدْرًا لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ من الْعَدُوِّ ثُمَّ بَاعَهُ من رَجُلٍ آخَرَ ثُمَّ
حَضَرَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ من الثَّانِي بِالثَّمَنِ الثَّانِي
وَلَيْسَ له أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وَيَأْخُذَ بِالثَّمَنِ
الْأَوَّلِ من الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَالِكَ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ تَمَلُّكٌ
بِبَدَلٍ فَأَشْبَهَ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثُمَّ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ على
حَقِّ الْمُشْتَرِي فَكَذَا حَقُّهُ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا سَابِقٌ على حَقِّ الْمُشْتَرِي وَالسَّبْقُ من أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ في
الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ بَلْ هو زَائِلٌ من كل وَجْهٍ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ له حَقُّ
الْإِعَادَةِ وأنه ليس بمعني في الْمَحَلِّ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ
فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فإن الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ
نَقْضَ الْمَشْفُوعِ فَيَقْتَضِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِتَمْلِيكِ الْبَائِعِ
منه على ما عُرِفَ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ إذَا عَلِمَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِشِرَاءِ الْمَأْسُورِ
وَتَرَكَ الطَّلَبَ زَمَانًا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ لِأَنَّ هذا الْأَخْذَ ليس في
مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِيُشْتَرَطَ له الطَّلَبُ على سَبِيلِ
الْمُوَاثَبَةِ
وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ كما يَبْطُلُ
حَقُّ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ الطَّلَبِ على الْمُوَاثَبَةِ وَكَذَلِكَ هذا الْحَقُّ
يُورَثُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو مَاتَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ كان
لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا يُورَثُ كما لَا يُورَثُ حَقُّ الشُّفْعَةِ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ هذا الْأَخْذَ ليس ابْتِدَاءَ
تَمَلُّكٍ بَلْ هو إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَخْذِ
بِالشُّفْعَةِ وَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ مِمَّا يَحْتَمِلُ
الْإِرْثَ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ
يَأْخُذُوا ذلك دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ فَلَا
يَنْفَرِدُ بِهِ الْبَعْضُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْسُورَ رَجُلٌ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ
الْعَدُوُّ ثَانِيًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ
فَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَحَقُّ من الْمَالِكِ الْقَدِيمِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ
الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ من الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ من
يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَزَلَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مَنْزِلَةَ
الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَكَانَ حَقُّ الْأَخْذِ له لَكِنْ إذَا أَخَذَهُ
الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ
بِالثَّمَنَيْنِ إنْ شَاءَ أو يَدَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ فَقَدْ قام عليه بِالثَّمَنَيْنِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ
بهذا الْقَدْرِ من الْمَالِ ولم يُوجَدْ الْأَسْرُ أَصْلًا
وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ في دَارِ الْحَرْبِ أو
دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو كانت أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ ظَهَرَ
الْمُسْلِمُونَ عليها فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَعَتَقَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا
وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ
أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَلِأَنَّ يَدَهُ زَالَتْ عنه وهو مُسْلِمٌ فَحَصَلَ في
يَدِ نَفْسِهِ فَعَتَقَ عليه كَالْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا
مُسْلِمًا وَالِاسْتِيلَادُ فَرْعُ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ في دَارِ
الْحَرْبِ وَقَهْرُ الْحَرْبِيِّ كَمَوْتِهِ وَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ أُمُّ وَلَدِهِ
كما إذَا غَلَبَ عليه وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْمُكَاتَبُ
صَارَ في يَدِ نَفْسِهِ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى عنه وهو مُسْلِمٌ فَيَعْتِقُ
وَلِأَنَّهُ إذَا قُهِرَ الْمَوْلَى سَقَطَ عنه بَدَلُ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ
لِزَوَالِ رِقِّهِ وَلَوْ كان الْمَأْسُورُ حُرًّا فَاشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ
وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي على الْحُرِّ
لِأَنَّهُ ما اشْتَرَاهُ حَقِيقَةً إذْ الْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ
لَكِنَّهُ بَذَلَ مَالًا لِاسْتِخْلَاصِ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ
مُتَطَوِّعًا فيه فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عليه وَإِنْ أَمَرَهُ الحربي ( ( (
الحر ) ) ) بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ
____________________
(7/129)
عليه
لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ منه هذا الْقَدْرَ من
الْمَالِ فَأَقْرَضَهُ إيَّاهُ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ
فَفَعَلَ فَيَرْجِعُ عليه بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ
وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَمَتَاعُ الْمُسْلِمِينَ الذي أَحْرَزُوهُ في
أَيْدِيهِمْ فَهُوَ لهم وَلَا حَقَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فيه لِأَنَّهُ مَالٌ
أَسْلَمُوا عليه وَمَنْ أَسْلَمَ على مَالٍ فَهُوَ له على لِسَانِ رسول اللَّهِ
هذا الذي ذَكَرنَا حُكْمُ اسْتِيلَاءِ الْكَافِرِ فَأَمَّا حُكْمُ الشِّرَاءِ
فَنَقُولُ الْحَرْبِيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ثَبَتَ
الْمِلْكُ له فيه عِنْدَنَا لَكِنَّهُ يُجْبَرُ على الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ لو
خَرَجَ إلَيْنَا بِعَبْدِهِ فَأَسْلَمَ في يَدِهِ يُجْبَرُ على الْبَيْعِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْعَبْدَ
الْمُسْلِمَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنْ لم يَبِعْهُ حتى دخل
دَارَ الْحَرْبِ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لِإِحْرَازِ الْكَافِرِ مَالَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ
أَثَرًا في زَوَالِ الْعِصْمَةِ لَا في زَوَالِ الْمِلْكِ فإن مَالَ الْكَافِرِ
مَمْلُوكٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَرْبِيِّ
بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مَجْبُورٌ على إزَالَتِهِ فَلَوْ لم يَعْتِقْ بأدخاله دَارَ
الْحَرْبِ لم يَبْقَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ له شَرْعًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِتَعَذُّرِ
الْجَبْرِ بِالْإِحْرَازِ بِوَجْهٍ فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ طَرِيقُ الزَّوَالِ هو الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ وَإِنْ كان هو في الْأَصْلِ
شَرْطَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ في اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ لِتَعَذُّرِ
تَحْصِيلِ الْعِلَّةِ فَأُقِيمَ الشَّرْطُ مَقَامَهُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ
من إقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ
بِالْعِلَّةِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا لِأَنَّ
الْحَرْبِيَّ مَجْبُورٌ على بَيْعِ الذِّمِّيِّ أَيْضًا وَلَا يُتْرَكُ لِيَدْخُلَ
دَارَ الْحَرْبِ
وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ وهو عَبْدٌ
على حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كان وَاجِبَ الْإِزَالَةِ
لَكِنْ لَا طَرِيقَ لِلزَّوَالِ ههنا فَبَقِيَ على حَالِهِ وَلَوْ خَرَجَ هذا
الْعَبْدُ إلَيْنَا فَإِنْ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ وَلَحِقَ بِعَسْكَرِ
الْمُسْلِمِينَ عَتَقَ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ وقد
قَهَرَ مَوْلَاهُ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا إيَّاهُ فَصَارَ مُسْتَوْلِيًا على
نَفْسِهِ مُسْتَغْنِمًا إياه ( ( ( إياها ) ) ) فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عنه
وقد رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال في آباق الطَّائِفِ
هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَوْ خَرَجَ غير مُرَاغَمٍ
فَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ
لَكِنْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ وَيَقِفُ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ أَمَّا كَوْنُهُ
عَبْدًا لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ قَاهِرًا مُسْتَوْلِيًا وَلِأَنَّهُ
مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ
وَأَمَّا وَقْفُ ثَمَنِهِ لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ على مِلْكِهِ
وَكَذَا لو لم يَخْرُجْ مُرَاغِمًا وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ
يُعْتَقُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ بَقِيَ عليه مِلْكٌ
مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مُحْتَاجٌ إلَى طَرِيقِ الزَّوَالِ وقد وُجِدَ وهوإحراز
نَفْسِهِ بمنعة الْمُسْلِمِينَ وأنه أَسْبَقُ من إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ
بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِيَمْلِكُوهُ فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ لم يَخْرُجْ ولم
يَظْهَرْ على الدَّارِ وَلَكِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ من مُسْلِمٍ أو حَرْبِيٍّ
عَتَقَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أو لم يَقْبَلْ
وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ كما زَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عنه فَقَدْ ثَبَتَ مِلْكُ
الْمُشْتَرِي فيه فَلَا يُعْتَقُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه ما ذَكَرْنَا أَنَّ هذا
مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مَوْقُوفٌ زَوَالُهُ على سَبَبِ الزَّوَالِ أو
شَرْطِ الزَّوَالِ على ما بَيَّنَّا فإذا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ
سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَقَدْ رضي بِزَوَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ
بِزَوَالِهِ إلَيْهِ أَرْضَى لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الزَّوَالَ وَغَيْرُهُ ما
اسْتَحَقَّهُ وَالرِّضَا بِالزَّوَالِ شَرْطُ الزَّوَالِ
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ رَقِيقٌ فيها فَخَرَجَ هو
إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذلك كَافِرًا كان أو
مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مَوْلَاهُ
كَخُرُوجِهِ مع مَوْلَاهُ وَلَوْ كان خَرَجَ مع مَوْلَاهُ لَكَانَ عَبْدًا
لِمَوْلَاهُ
كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ التي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
فَنَقُولُ لَا بُدَّ أَوَّلًا من مَعْرِفَةِ مَعْنَى الدَّارَيْنِ دَارِ
الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ لِتُعْرَفَ الْأَحْكَامُ التي تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِهِمَا وَمَعْرِفَةُ ذلك مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ ما بِهِ تَصِيرُ
الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ أو دَارَ كُفْرٍ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا
في أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ فيها
وَاخْتَلَفُوا في دَارِ الْإِسْلَامِ أنها بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ قال
أبو حَنِيفَةَ إنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ
أَحَدُهَا ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فيها
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ
وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَبْقَى فيها مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ
الْأَوَّلِ وهو أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فيها
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَنَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ
إضَافَةُ دَارٍ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ وَإِنَّمَا تُضَافُ الدَّارُ
إلَى الْإِسْلَامِ أو إلَى الْكُفْرِ
____________________
(7/130)
لِظُهُورِ
الْإِسْلَامِ أو الْكُفْرِ فيها كما تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ
وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ لِوُجُودِ السَّلَامَةِ في الْجَنَّةِ وَالْبَوَارِ
في النَّارِ وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا فإذا
ظَهَرَ أَحْكَامُ الْكُفْرِ في دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ فَصَحَّتْ
الْإِضَافَةُ وَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ فيها من غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ
بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فيها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من إضَافَةِ الدَّارِ
إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ليس هو عَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَإِنَّمَا
الْمَقْصُودُ هو الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمَانَ إنْ كان
لِلْمُسْلِمِينَ فيها على الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفُ لِلْكَفَرَةِ على الْإِطْلَاقِ
فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كان الْأَمَانُ فيها لِلْكَفَرَةِ على
الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ على الْإِطْلَاقِ فَهِيَ دَارُ
الْكُفْرِ وَالْأَحْكَامُ مَبْنِيَّةٌ على الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ لَا على
الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى فما
لم تَقَعْ الْحَاجَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَى الِاسْتِئْمَانِ بَقِيَ إلا من
الثَّابِتُ فيها على الْإِطْلَاقِ فَلَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ
وَكَذَا إلا من الثَّابِتُ على الْإِطْلَاقِ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْمُتَاخَمَةِ
لِدَارِ الْحَرْبِ فَتَوَقَّفَ صَيْرُورَتُهَا دَارَ الْحَرْبِ على وُجُودِهِمَا
مع ما إن إضَافَةَ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا
قُلْتُمْ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْنَا وهو ثُبُوتُ الْأَمْنِ فيها على
الْإِطْلَاقِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْكَفَرَةِ بِعَارِضِ
الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ
فَإِنْ كانت الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْتُمْ تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِمَا قُلْتُمْ
وَإِنْ كانت الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْنَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِمَا
قُلْنَا فَلَا تَصِيرُ ما بِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ بِيَقِينٍ دَارَ الْكُفْرِ
بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إن الثَّابِتَ بِيَقِينٍ
لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ دَارِ الْكُفْرِ حَيْثُ تَصِيرُ
دَارَ الْإِسْلَامِ لِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فيها لِأَنَّ هُنَاكَ
التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَزَالَ الشَّكُّ على أَنَّ الْإِضَافَةَ إنْ
كانت بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْأَحْكَامِ لَكِنْ لَا تَظْهَرُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ
إلَّا عِنْدَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي الْمُتَاخَمَةَ وَزَوَالَ
الْأَمَانِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ وَلَا
مَنَعَةَ إلَّا بِهِمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَقِيَاسُ هذا الِاخْتِلَافِ في أَرْضٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ظَهَرَ عليها
الْمُشْرِكُونَ وَأَظْهَرُوا فيها أَحْكَامَ الْكُفْرِ أو كان أَهْلُهَا أَهْلَ
ذِمَّةٍ فَنَقَضُوا الذِّمَّةَ وَأَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ هل تَصِيرُ دَارَ
الْحَرْبِ فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ فإذا صَارَتْ دَارَ الْحَرْبِ
فَحُكْمُهَا إذَا ظَهَرْنَا عليها وَحُكْمُ سَائِرِ دُورِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ وقد
ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ فَتَحَهَا الْإِمَامُ ثُمَّ جاء أَرْبَابُهَا فَإِنْ كان قبل الْقِسْمَةِ
أَخَذُوا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِالْقِيمَةِ
إنْ شَاءُوا لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ وَعَادَ الْمَأْخُوذُ على حُكْمِهِ
الْأَوَّلِ الْخَرَاجِيُّ عَادَ خَرَاجِيًّا وَالْعُشْرِيُّ عَادَ عُشْرِيًّا
لِأَنَّ هذا ليس اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ بَلْ هو عَوْدُ قَدِيمِ الْمِلْكِ إلَيْهِ
فَيَعُودُ بِوَظِيفَتِهِ إلَّا إذَا كان الْإِمَامُ وَضَعَ عليها الْخَرَاجَ قبل
ذلك فَلَا يَعُودُ عَشْرِيًّا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ صَدَرَ عن وِلَايَةٍ
شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ التي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَأَنْوَاعٌ
منها أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا زَنَا في دَارِ الْحَرْبِ أو سَرَقَ أو شَرِبَ
الْخَمْرَ أو قَذَفَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ الْإِمَامَ
لَا يَقْدِرُ على إقَامَةِ الْحُدُودِ في دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ
وَلَوْ فَعَلَ شيئا من ذلك ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عليه
الْحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّ الْفِعْلَ لم يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا وَلَوْ فَعَلَ في
دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ هَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ بِهِ لِأَنَّ
الْفِعْلَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلْإِقَامَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْهَرَبِ إلَى دَارِ
الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كان
عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إذْ الْوَاحِدُ يُقَاوِمُ
الْوَاحِدَ وَالْمَنَعَةُ مُنْعَدِمَةٌ وَلِأَنَّ كَوْنَهُ في دَارِ الْحَرْبِ
أَوْرَثَ شُبْهَةً في الْوُجُوبِ وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مع الشُّبْهَةِ
وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ خَطَأً كان أو عَمْدًا وَتَكُونُ في مَالِهِ لَا على
الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ على الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً أو لِأَنَّ
الْقَتْلَ وُجِدَ منه وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ على الْقَاتِلِ
لَا على غَيْرِهِ
فَكَذَا الدِّيَةُ تَجِبُ عليه ابْتِدَاءً وهو الصَّحِيحُ
ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عنه بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ لِمَا يَصِلُ إلَيْهِ
بِحَيَاتِهِ من الْمَنَافِعِ من النُّصْرَةِ وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ بِكَثْرَةِ
الْعَشَائِرِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لهم وَنَحْوِ ذلك وَهَذِهِ الْمَعَانِي
لَا تَحْصُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَلَا تَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ
وَكَذَلِكَ لو كان أَمِيرًا على سَرِيَّةٍ أو أَمِيرَ جَيْشٍ وَزَنَا رَجُلٌ منهم
أو سَرَقَ أو شَرِبَ الْخَمْرَ أو قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أو عَمْدًا لم
يَأْخُذْهُ الْأَمِيرُ بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ الْإِمَامَ ما فُوِّضَ إلَيْهِ
إقَامَةُ
____________________
(7/131)
الْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على إقَامَتِهَا في دَارِ الْحَرْبِ
إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ السَّرِقَةَ إنْ كان اسْتَهْلَكَهَا وَيُضَمِّنُهُ
الدِّيَةَ في بَابِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ
الْمَالِ
وَلَوْ غَزَا الْخَلِيفَةُ أو أَمِيرٌ الشَّامَ فَفَعَلَ رَجُلٌ من الْعَسْكَرِ
شيئا من ذلك أَقَامَ عليه الْحَدَّ وَاقْتَصَّ منه في الْعَمْدِ وَضَمَّنَهُ
الدِّيَةَ في مَالِهِ في الْخَطَأِ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ
وَتَمَكُّنُهُ الْإِقَامَةَ بما له من الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ بِاجْتِمَاعِ
الْجُيُوشِ وَانْقِيَادِهَا له فَكَانَ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ شَذَّ رَجُلٌ من الْعَسْكَرِ فَفَعَلَ شيئا من ذلك درىء ( ( ( درئ ) ) )
عنه الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ لِاقْتِصَارِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ على الْمُعَسْكَرِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أو خَطَأً لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ
عليه عِنْدَنَا على ما ذَكَرْنَا
وَهَذَا مَبْنِيٌّ على أَنَّ التَّقَوُّمَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدَارِ
الْإِسْلَامِ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْعِزَّةِ وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِمَنَعَةِ
الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقَوُّمُ يَثْبُتُ
بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى هذا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يَعْرِفْ أَنَّ عليه صَلَاةً وَلَا صِيَامًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
فَلَيْسَ عليه قَضَاءُ ما مَضَى
وقال أبو يُوسُفَ استحسن أَنْ يَجِبَ عليه الْقَضَاءُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ قد وَجَبَتْ عليه لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وهو الْوَقْتُ وَشَرْطُهُ وهو الْإِسْلَامُ وَالصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ إذَا
فَاتَتْ عن وَقْتِهَا تُقْضَى كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
ولم يَعْرِفْ أَنَّ عليه ذلك حتى مَضَى عليه أَوْقَاتُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَلِمَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّرَائِعِ يَعْتَمِدُ الْبُلُوغَ
وهو الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ
بِالْإِجْمَاعِ إنْ اخْتَلَفَا في وُجُوبِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ
الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَافٍ وقد وُجِدَ
ذلك في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ ولم يُوجَدْ
في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهَا دَارُ الْجَهْلِ بها بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ
وَشُكْرِ النِّعَمِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه
الْأَحْكَامَ لَا يَقِفُ وُجُوبُهَا على الشَّرْعِ بَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ
عِنْدَنَا فإن أَبَا يُوسُفَ رَوَى عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه
الْعِبَارَةَ فقال كان أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يقول لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ من
الْخَلْقِ في جَهْلِهِ مَعْرِفَةَ خَالِقِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على جَمِيعِ
الْخَلْقِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْحِيدُهُ لِمَا يَرَى
من خَلْقِ السموات ( ( ( السماوات ) ) ) وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ وَسَائِرِ
ما خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَنْ لم يَعْلَمْهَا ولم تَبْلُغْهُ فإن هذا لم تَقُمْ عليه
حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِلَفْظِهِ
وَعَلَى هذا إذَا دخل مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَاقَدَ
حَرْبِيًّا عَقْدَ الرِّبَا أو غَيْرِهِ من الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ في حُكْمِ
الْإِسْلَامِ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَكَذَلِكَ لو كان أَسِيرًا في أَيْدِيهِمْ أو أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ في دَارِ الْحَرْبِ إلَّا ما يَجُوزُ
له في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ في حَقِّ الْعَاقِدِينَ أَمَّا
في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا في حَقِّ الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ
الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وقال تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {
وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وقد نُهُوا عنه } وَلِهَذَا حَرُمَ مع الذِّمِّيِّ
وَالْحَرْبِيِّ الذي دخل دَارَنَا بِأَمَانٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا في مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ
وَإِتْلَافُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِ
الْحَرْبِيِّ فَكَانَ الْمُسْلِمُ بِسَبِيلٍ من أَخْذِهِ إلَّا بِطَرِيقِ
الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فإذا رضي بِهِ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ بِخِلَافِ
الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمَا مَعْصُومَةٌ
على الْإِتْلَافِ
وَلَوْ عَاقَدَ هذا الْمُسْلِمُ الذي دخل بِأَمَانٍ مُسْلِمًا أَسْلَمَ هُنَاكَ
ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أو دَخَلَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ فَتَعَاقَدَا
عَقْدَ الرِّبَا أو غَيْرِهِ من الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ
بِالِاتِّفَاقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا من الْمُسْلِمِ إتْلَافُ مَالٍ
مَعْصُومٍ من غَيْرِ رِضَاهُ مَعْنًى لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عليه أَنْ تَطِيبَ
نَفْسُهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم من زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ
أَرْبَى وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ فَأَشْبَهَ تَعَاقُدَ
الْأَسِيرَيْنِ وَالتَّاجِرَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا في مَعْنَى
إتْلَافِ الْمَالِ وَمَالُ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ
إلَيْنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ يَدُلُّ عليه أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ
مَضْمُونَةٍ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَنَا وَحُرْمَةُ الْمَالِ
تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ بِخِلَافِ التَّاجِرَيْنِ وَالْأَسِيرَيْنِ فإن
مَالَهُمَا مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ
وَعَلَى هذا إذَا دخل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ
أو أَدَانَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ
مُسْتَأْمَنًا فإن الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ
بِالدَّيْنِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شيئا لَا يقضى بِالْغَصْبِ لِأَنَّ
الْمُدَايَنَةَ في دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا
____________________
(7/132)
لِانْعِدَامِ
وِلَايَتِنَا عليهم وَانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ أَيْضًا في حَقِّنَا وَكَذَا
غَصْبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مَالًا غَيْرُ مَضْمُونٍ فلم يَنْعَقِدْ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ لو كانا حَرْبِيَّيْنِ دَايَنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَا
مُسْتَأْمَنَيْنِ
وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ لقضى بِالدَّيْنِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَلَا
يُقْضَى بِالْغَصْبِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ لو كان هو
الْغَاصِبَ يفتي بِأَنْ يَرُدّ عليهم وَلَا يُقْضَى عليه لِأَنَّهُ صَارَ غَادِرًا
بِهِمْ نَاقِضًا عَهْدَهُمْ فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَلَا تَتَحَقَّقُ
التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ
وَعَلَى هذا مُسْلِمَانِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ بِأَنْ كَانَا
تَاجِرَيْنِ مَثَلًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَا قِصَاصَ على
الْقَاتِلِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كان خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ في مَالِهِ
وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا دَخَلَا
دَارَ الْحَرْبِ لِعَارِضِ أَمْرٍ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ
أو لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أو كان الْمَقْتُولُ أَسِيرًا مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ
على الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ في الْخَطَأِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا عليه الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَسِيرَيْنِ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ
كَالْمُسْتَأْمَنِينَ وَإِنَّمَا الْأَسْرُ أَمْرٌ عَارِضٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْأَسِيرَ مَقْهُورٌ في يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَصَارَ
تَابِعًا لهم فَبَطَلَ تَقَوُّمُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْحَرْبِيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ في دَارِ الْحَرْبِ
لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْفُذُ وَقِيلَ
لَا خِلَافَ في الْعِتْقِ أَنَّهُ يَنْفُذُ إنَّمَا الْخِلَافُ في الْوَلَاءِ
أَنَّهُ هل يَثْبُتُ منه
عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِعْتَاقِ صَدَرَ من أَهْلِ الْإِعْتَاقِ في
مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمُعْتَقِ فَيَصِحُّ كما لو أَعْتَقَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يُفِيدُ زَوَالَ
الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
حَقِيقَةٌ فَكُلُّ مَقْهُورٍ مَمْلُوكٌ وَكُلُّ قَاهِرٍ مَالِكٌ
هذا دِيَانَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
حتى إنَّ الْعَبْدَ منهم إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ يَصِيرُ هو مَالِكًا وَمَوْلَاهُ
مَمْلُوكًا وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ الْإِعْتَاقُ في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُوجِبُ
زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ
هذا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه مُعْتَقٌ
بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بيده
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى قَرِيبًا لَا يُعْتَقُ عليه لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ
بِصَرِيحِ الْإِعْتَاقِ فَكَيْفَ يُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ وَكَذَلِكَ لو دَبَّرَهُ
أو كَاتَبَهُ في دَارِ الْحَرْبِ حتى لو دخل دَارَ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ
مُدَبَّرٌ أو مُكَاتَبٌ دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ في دَارِ الْحَرْبِ جَازَ بَيْعُهُ
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْكِتَابَةُ
تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ لم يَنْفُذْ
إعْتَاقُهُ الْمُنْجَزُ فَكَذَا الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ
وَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ في دَارِ الْحَرْبِ صَحَّ اسْتِيلَادُهُ إياه ( ( (
إياها ) ) ) حتى لو خَرَجَ إلَيْنَا بها إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهَا لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ اكْتِسَابُ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ
وَالْحَرْبِيُّ من أَهْلِ ذلك
أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ وإذا ثَبَتَ النَّسَبُ
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له فَخَرَجَتْ عن مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ لِكَوْنِهَا
حُرَّةً من وَجْهٍ
قال صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَلَوْ دخل الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا
بِأَمَانٍ فَفَعَلَ شيئا من ذلك نَفَذَ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَمَّا دخل بِأَمَانٍ
فَقَدْ لَزِمَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ
أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ أَنْ يَسْتَرِقَّ بيده ما
أَعْتَقَهُ بِلِسَانِهِ
وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ
وَخَلَفَ الْمُدَبَّرَ أو خَلَفَ أُمَّ وَلَدِهِ التي اسْتَوْلَدَهَا في دَارِ
الْإِسْلَامِ أو في دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ على كُفْرِهِ أو قُتِلَ أو أُسِرَ
يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا
أَمَّا إذَا مَاتَ أو قُتِلَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ
يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ سَيِّدِهِمَا
وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَأَمَّا إذَا أُسِرَ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا فلم يَبْقَ مَالِكًا ضَرُورَةً
وَأَمَّا مُكَاتَبُهُ الذي كَاتَبَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ هو إلَى
دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ على حَالِهِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ عليه
لِوَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ
وَكَذَلِكَ الرُّهُونُ وَالْوَدَائِعُ وَالدُّيُونُ التي له على الناس وما كان
لِلنَّاسِ عليه فَهِيَ كُلُّهَا على حَالِهَا إذَا مَاتَ لِأَنَّهُ دخل دَارَ
الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ هذه الْأَمْوَالُ فَكَانَ حُكْمُ الْأَمَانِ فيها
بَاقِيًا
وَكَذَلِكَ لو ظَهَرَ على الدَّارِ فَظَهَرَ الْحَرْبِيُّ أو قُتِلَ ولم يَظْهَرْ
على الدَّارِ فَمِلْكُهُ على حَالِهِ يَعُودُ فَيَأْخُذُ أو يَجِيءُ وَرَثَتُهُ
فَيَأْخُذُونَهُ له
أَمَّا إذَا هَرَبَ ولم يُقْتَلْ ولم يُؤْسَرْ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا قُتِلَ ولم
يَظْهَرْ فَلِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَيَجِيئُونَ
فَيَأْخُذُونَهُ وَالْمُكَاتَبُ على حَالِهِ يُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ
فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ أو أُسِرَ ولم يَظْهَرْ أو ظَهَرَ وَقُتِلَ
يُعْتَقْ مُكَاتَبُهُ
أَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ أو أُسِرَ ولم يَظْهَرْ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِلْكٌ
بِالْأَسْرِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وَقُتِلَ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الظُّهُورِ
قَتْلٌ بَعْدَ الْأَسْرِ وَيَبْطُلُ ما كان له من الدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّهُ بِالْأَسْرِ صَارَ مَمْلُوكًا فلم يَبْقَ مَالِكًا
____________________
(7/133)
فَسَقَطَتْ
دُيُونُهُ ضَرُورَةً وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَسْرِ لِأَنَّ الدَّيْنَ في
الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يُعْمَلُ عليه الْأَسْرُ
وَكَذَلِكَ ما عليه من الدُّيُونِ يَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لو بَقِيَ
لَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَخْلُصُ السَّبْيُ لِلسَّابِي
وَأَمَّا وَدَائِعُهُ فَهِيَ في جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُودَعِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ يَدَهُ عن يَدِ الْغَانِمِينَ أَسْبَقُ وَالْمُبَاحُ مُبَاحٌ
لِمَنْ سَبَقَ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُهُ تَقْدِيرًا فَكَانَ
الِاسْتِيلَاءُ عليه بِالْأَسْرِ اسْتِيلَاءً على ما في يَدِهِ تَقْدِيرًا وَلَا
يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ لِأَنَّهُ مَالٌ لم يُؤْخَذْ على سَبِيلِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةً فَكَانَ فَيْئًا حَقِيقَةً لَا غَنِيمَةً فَيُوضَعُ
مَوْضِعَ الْفَيْءِ
وَأَمَّا الرَّهْنُ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ
وَالزِّيَادَةُ له وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُبَاعُ فَيَسْتَوْفِي
قَدْرَ دَيْنِهِ وَالزِّيَادَةُ في جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ رُكْنِ الرِّدَّةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّكْنِ وفي
بَيَانِ حُكْمِ الرِّدَّةِ
أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على اللِّسَانِ بَعْدَ
وُجُودِ الْإِيمَانِ إذْ الرِّدَّةُ عِبَارَةٌ عن الرُّجُوعِ عن الْإِيمَانِ
فَالرُّجُوعُ عن الْإِيمَانِ يُسَمَّى رِدَّةً في عُرْفِ الشَّرْعِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهَا فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ
الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ
الْأَهْلِيَّةِ خُصُوصًا في الِاعْتِقَادَاتِ
وَلَوْ كان الرَّجُلُ مِمَّنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَإِنْ ارْتَدَّ في حَالِ
جُنُونِهِ لم يَصِحَّ وَإِنْ ارْتَدَّ في حَالِ إفَاقَتِهِ صَحَّتْ لِوُجُودِ
دَلِيلِ الرُّجُوعِ في إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى
وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ الذَّاهِبُ الْعَقْلِ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ في حَقِّ الْأَحْكَامِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ على الْإِقْرَارِ بِظَاهِرِ
اللِّسَانِ لَا على ما في الْقَلْبِ إذْ هو أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عليه
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الْكُفْرِ مَبْنِيَّةٌ على الْكُفْرِ كما
أَنَّ أَحْكَامَ الْإِيمَانِ مَبْنِيَّةٌ على الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ
وَالْكُفْرُ يَرْجِعَانِ إلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَإِنَّمَا
الْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ الذَّاهِبِ الْعَقْلِ
لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً على التَّكْذِيبِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهَلْ هو شَرْطٌ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رضي اللَّهُ عنهما ليس بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ حتى لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ في التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ
الْمَحْضَةِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ
وَتَبَرُّعَاتُهُ وَالرِّدَّةُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيَقَعُ
محض ( ( ( محضا ) ) ) لِذَلِكَ صَحَّ إيمَانُهُ ولم تَصِحَّ رِدَّتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ صَحَّ إيمَانُهُ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ
وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ مَبْنِيَّةٌ على وُجُودِ
الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ من
الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهُمَا أَفْعَالٌ خَارِجَةُ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ
أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عن عَقْلٍ دَلِيلُ
وُجُودِهِمَا وقد وُجِدَ ههنا إلَّا أَنَّهُمَا مع وُجُودِهِمَا منه حَقِيقَةً لَا
يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُحْبَسُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْقَتْلُ ليس من لَوَازِمِ الرِّدَّةِ عِنْدَنَا فإن الْمُرْتَدَّةَ لَا
تُقْتَلُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَالرِّدَّةُ مَوْجُودَةٌ
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ
عِنْدَنَا لَكِنَّهَا لَا تُقْتَلُ بَلْ تُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْتَلُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الطَّوْعُ فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمُكْرَهِ على الرِّدَّةِ
اسْتِحْسَانًا إذَا كان قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَالْقِيَاسُ أَنْ
تَصِحَّ في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الْقِيَاسِ
وَالِاسْتِحْسَانِ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إنَّ
لِلرِّدَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمُرْتَدِّ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَصَرُّفَاتِهِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَأَنْوَاعٌ منها إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كان
رَجُلًا حُرًّا كان أو عَبْدًا لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ
قال النبي من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ
بَعْدَ وَفَاةِ رسول اللَّهِ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على
قَتْلِهِمْ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ وَيُعْرَضَ عليه الْإِسْلَامُ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْلِمَ لَكِنْ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قد بَلَغَتْهُ
فَإِنْ أَسْلَمَ فَمَرْحَبًا وَأَهْلًا بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ أَبَى نَظَرَ
الْإِمَامُ في ذلك فَإِنْ طَمِعَ في تَوْبَتِهِ أو سَأَلَ هو التَّأْجِيلَ
أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لم يَطْمَعْ في تَوْبَتِهِ ولم يَسْأَلْ هو
التَّأْجِيلَ قَتَلَهُ من سَاعَتِهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَدِمَ
عليه رَجُلٌ من جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فقال هل عندكم ( ( ( عندك ) ) ) من
مُغْرِيَةِ خَبَرٍ قال نعم رَجُلٌ كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فقال
سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه مَاذَا
____________________
(7/134)
فَعَلْتُمْ
بِهِ قال قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ
عنه ههلا ( ( ( هلا ) ) ) طَيَّنْتُمْ عليه بَيْتًا ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ
كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اللَّهُمَّ إنِّي لم أَحْضُرْ ولم آمُرْ ولم
أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي
وَهَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قال
يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا وتلى ( ( ( وتلا ) ) ) هذه الْآيَةَ { إنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا } وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ عَرَضَتْ له شُبْهَةٌ حَمَلَتْهُ على
الرِّدَّةِ فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لَعَلَّهَا تَنْكَشِفُ في هذه الْمُدَّةِ
فَكَانَتْ الِاسْتِتَابَةُ ثَلَاثًا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ عَسَى فَنَدَبَ
إلَيْهَا فَإِنْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قبل الِاسْتِتَابَةِ يُكْرَهُ له ذلك وَلَا
شَيْءَ عليه لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ وَتَوْبَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ
بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَبْرَأَ عن الدَّيْنِ الذي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَإِنْ تَابَ
ثُمَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا فَحُكْمُهُ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِهِ في
الْمَرَّةِ الْأُولَى أَنَّهُ إنْ تَابَ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قُبِلَتْ
تَوْبَتُهُ
وَكَذَا في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا
في كل كَرَّةٍ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وهو إقْرَارُ الْعَاقِلِ
وقال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا }
فَقَدْ أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ
منه وَالْإِيمَانُ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ إلَّا
أَنَّهُ إذَا تَابَ في الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ وَيُخَلِّي
سَبِيلَهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إذَا تَابَ في الْمَرَّةِ
الثَّالِثَةِ حَبَسَهُ الْإِمَامُ ولم يُخْرِجْهُ من السِّجْنِ حتى يَرَى عليه
أَثَرَ خُشُوعِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُبَاحُ دَمُهَا إذَا ارْتَدَّتْ وَلَا تُقْتَلُ
عِنْدَنَا وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَإِجْبَارُهَا على
الْإِسْلَامِ أَنْ تُحْبَسَ وَتَخْرُجَ في كل يَوْمٍ فَتُسْتَتَابُ وَيُعْرَضُ
عليها الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ ثَانِيًا هَكَذَا إلَى
أَنْ تُسْلِمَ أو تَمُوتَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وزاد عليه تُضْرَبُ أَسْوَاطًا في كل
مَرَّةٍ تَعْزِيرًا لها على ما فَعَلَتْ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْتَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلِأَنَّ عِلَّةَ
إبَاحَةِ الدَّمِ هو الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وقد
وُجِدَ منها ذلك بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ
الْإِيمَانِ أَغْلَظُ من الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّ هذا رُجُوعٌ بَعْدَ
الْقَبُولِ وَالْوُقُوفِ على مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحُجَجِهِ وَذَلِكَ
امْتِنَاعٌ من الْقَبُولِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ من الْوُقُوفِ دُونَ حَقِيقَةِ
الْوُقُوفِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا
وَلَيَدًا وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ
بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عن
إجَابَتِهَا بِأَدْنَاهُمَا وهو دَعْوَةُ اللِّسَانِ بِالِاسْتِتَابَةِ
بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّسَاءُ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ في
إجَابَةِ هذه الدَّعْوَةِ في الْعَادَةِ فَإِنَّهُنَّ في الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ
يُسْلِمْنَ بِإِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ على ما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ
وَكَانَتْ تَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ معه
وإذا كان كَذَلِكَ فَلَا يَقَعُ شَرْعُ الْقَتْلِ في حَقِّهَا وَسِيلَةً إلَى
الْإِسْلَامِ فَلَا يُفِيدُ وَلِهَذَا لم تُقْتَلْ الْحَرْبِيَّةُ بِخِلَافِ
الرَّجُلِ فإن الرَّجُلَ لَا يَتْبَعُ رَأْيَ غَيْرِهِ خُصُوصًا في أَمْرِ
الدِّينِ بَلْ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ فَكَانَ رَجَاءُ الْإِسْلَامِ منه
ثَابِتًا فَكَانَ شَرْعُ الْقَتْلِ مُفِيدًا فَهُوَ الْفَرْقُ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الذُّكُورِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن
التَّنَاقُضِ
وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا وَتُجْبَرُ على
الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا إنْ احْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا
وَيَحْبِسُهَا في بَيْتِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فيها بَعْدَ الرِّدَّةِ
قَائِمٌ
وَهِيَ مَجْبُورَةٌ على الْإِسْلَامِ شَرْعًا فَكَانَ الرَّفْعُ إلَى الْمَوْلَى
رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَلَا يَطَؤُهَا لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ
لِأَحَدٍ
وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُقْتَلُ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما لِأَنَّ قَتْلَ الْبَالِغِ بَعْدَ
الِاسْتِتَابَةِ وَالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ
حُجَجِهِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ لِظُهُورِ الْعِنَادِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عن فَلَاحِهِ
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ من الصَّبِيِّ فَكَانَ الْإِسْلَامُ منه مَرْجُوًّا
وَالرُّجُوعُ إلَى الدِّينِ الحق منه مَأْمُولًا فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ
على الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَكْفِيهِ وَسِيلَةً إلَى
الْإِسْلَامِ
وَعَلَى هذا صَبِيٌّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ حتى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا
لِأَبَوَيْهِ فَبَلَغَ كَافِرًا ولم يُسْمَعْ منه إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ بَعْدَ
الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ لِانْعِدَامِ الرِّدَّةِ منه إذْ هِيَ اسْمٌ
لِلتَّكْذِيبِ بَعْدَ سَابِقَةِ التَّصْدِيقِ ولم يُوجَدْ منه التَّصْدِيقُ بَعْدَ
الْبُلُوغِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ دَلِيلِهِ وهو الْإِقْرَارُ
حتى لو أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يُقْتَلُ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ منه
بِوُجُودِ دَلِيلِهَا وهو الْإِقْرَارُ فلم يَكُنْ الْمَوْجُودُ منه حَقِيقَةً
فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ لِأَنَّهُ كان له حُكْمُ الْإِسْلَامِ قبل
الْبُلُوغِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالْحُكْمُ
في إكْسَابِهِ كَالْحُكْمِ في إكْسَابِ المرثد ( ( ( المرتد ) ) ) لِأَنَّهُ
مُرْتَدٌّ حُكْمًا وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ في إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ في
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ فإن الْمُرْتَدَّ لَا يَسْتَرِقُّ وَإِنْ
لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ فيه إلَّا الْإِسْلَامُ أو
السَّيْفُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ }
وَكَذَا الصَّحَابَةُ
____________________
(7/135)
رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عليه في زَمَنِ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ
عنه وَلِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ
وَاسْتِرْقَاقُهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ على ما مَرَّ من قَبْلُ
وَلِهَذَا لم يَجُزْ إبْقَاؤُهُ على الْحُرِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا
لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أنها تُسْتَرَقُّ لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ قَتْلُهَا
وَلَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْكَافِرِ على الْكُفْرِ إلَّا مع الْجِزْيَةِ أو مع
الرِّقِّ وَلَا جِزْيَةَ على النِّسْوَانِ فَكَانَ إبْقَاؤُهَا على الْكُفْرِ مع
الرِّقِّ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ من إبْقَائِهَا من غَيْرِ شَيْءٍ
وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ من ارْتَدَّ من
الْعَرَبِ وَصِبْيَانَهُمْ حتى قِيلَ إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ
وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ إيَاسٍ كانت من سبى بَنِي حَنِيفَةَ
وَمِنْهَا حُرْمَةُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ من
الْمُرْتَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
إن مُوجِبَ الْجِنَايَةِ على الْجَانِي وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عنه
بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ وَالْمُرْتَدُّ لَا يُعَاوَنُ
وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ثُمَّ إنْ كانت
الرِّدَّةُ من الْمَرْأَةِ كانت فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ
كانت من الرَّجُلِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ في كِتَابِ النِّكَاحِ وَلَا
تَرْتَفِعُ هذه الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ
وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا أو أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا على نِكَاحِهِمَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَدَ النِّكَاحُ
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قبل الْآخَرِ فَسَدَ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ
وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له
وَمِنْهَا حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ من أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْمِلَّةِ وَالْوِلَايَةِ
وَمِنْهَا أنها تُحْبَطُ أَعْمَالُهُ لَكِنْ بِنَفْسِ الرِّدَّة عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشَرِيطَةِ الْمَوْتِ عليها وَهِيَ
مَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ من الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا لِأَنَّ
الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عليه وَهِيَ من مَسَائِلِ أُصُولِ
الْفِقْهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ حُكْمُ الْمِلْكِ
وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَحُكْمُ الدَّيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَكُونُ
أَمْوَالُهُ على حُكْمِ مِلْكِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أَنَّهُ إذَا مَاتَ أو
قُتِلَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزُولُ أَمْوَالُهُ عن مِلْكِهِ
وَاخْتُلِفَ في أَنَّهُ تَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَقْصُورًا على الْحَالِ
أَمْ بِالرِّدَّةِ من حِينِ وُجُودِهَا على التَّوَقُّفِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عن مَالِهِ
بِالرِّدَّةِ وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ أو الْقَتْلِ أو بِاللَّحَاقِ
بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الْمِلْكُ في
أَمْوَالِهِ مَوْقُوفٌ على ما يَظْهَرُ من حَالِهِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ بُنِيَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ إنها جَائِزَةٌ
عِنْدَهُمَا كما تَجُوزُ من الْمُسْلِمِ حتى لو أَعْتَقَ أو دَبَّرَ أو كَاتَبَ أو
بَاعَ أو اشْتَرَى أو وَهَبَ نَفَذَ ذلك كُلُّهُ وعقدت ( ( ( وعقدة ) ) )
تَصَرُّفَاتِهِ مَوْقُوفَةٌ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ كُلُّهُ
وَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ كُلُّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ كان ثَابِتًا له حَالَةَ الْإِسْلَامِ
لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّدَّةُ
لَا تُؤَثِّرُ في شَيْءٍ من ذلك ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا في
كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ فقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهَا جَوَازُ
تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ على شَرَفِ
التَّلَفِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن اخْتِيَارَ الْإِسْلَامِ بيده فَيُمْكِنُهُ
الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَخْلُصُ عن الْقَتْلِ وَالْمَرِيضُ لَا
يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عن نَفْسِهِ فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ زَوَالِ
الْمِلْكِ وهو الرِّدَّةُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ
سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَوْتِ فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُضَافًا
إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وهو الرِّدَّةُ وَلَا يُمْكِنُهُ اللَّحَاقُ بِدَارِ
الْحَرْبِ بِأَمْوَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ من ذلك بَلْ يُقْتَلُ فيبقي
مَالُهُ فَاضِلًا عن حَاجَتِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِ
مِلْكِهِ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّا تَوَقَّفْنَا فيه لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى
الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ تَرْتَفِعُ الرِّدَّةُ من الْأَصْلِ وَيُجْعَلُ
كَأَنْ لم يَكُنْ فَكَانَ التَّوَقُّفُ في الزَّوَالِ لِلْحَالِ لِاشْتِبَاهِ
الْعَاقِبَةِ فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّدَّةَ لم تَكُنْ سَبَبًا
لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِارْتِفَاعِهَا من الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ
صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَصِحُّ
وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أنها وَقَعَتْ
سَبَبًا لِلزَّوَالِ من حِينِ وُجُودِهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كان
زَائِلًا من حِينِ وُجُودِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَخَلَّفُ عن
سَبَبِهِ فلم يُصَادِفْ التَّصَرُّفُ مَحَلَّهُ فَبَطَلَ فَأَمَّا قبل ذلك كان
مِلْكُهُ مَوْقُوفًا فَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمَبْنِيَّةُ عليه مَوْقُوفَةً
ضَرُورَةً
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ حتى إنَّهُ لو اسْتَوْلَدَ
أَمَتَهُ فَادَّعَى وَلَدَهَا أنه يَثْبُتُ
____________________
(7/136)
النَّسَبُ
وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَمْلُوكٌ له مِلْكًا تَامًّا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ
لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا من حَقِّ الْمِلْكِ ثُمَّ حَقُّ الْمِلْكِ يَكْفِي
لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَهَذَا أَوْلَى وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَصِحُّ
طَلَاقُهُ وَتَسْلِيمُهُ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ في مِلْكِ
النِّكَاحِ وَالثَّابِتُ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ
وَمُعَاوَضَتُهُ مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على
الْمُسَاوَاةِ
وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهَا عن أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ
فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا في مَالِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ
فلم تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عن أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ
فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا وإذا عُرِفَ حُكْمُ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وَحَالُ
تَصَرُّفَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ عليه فَحَالُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو من أَنْ
يُسْلِمَ أو يَمُوتَ أو يُقْتَلَ أو يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَسْلَمَ
فَقَدْ عَادَ على حُكْمِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ من
الْأَصْلِ حُكْمًا وَجُعِلَتْ كَأَنْ لم تَكُنْ أَصْلًا وَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ
صَارَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ وَعَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ
وَمُكَاتَبُوهُ إذَا أَدَّى إلَى وَرَثَتِهِ وَتَحِلُّ الدُّيُونُ التي عليه
وَتُقْضَى عنه لِأَنَّ هذه أَحْكَامُ الْمَوْتِ
وَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَقَضَى الْقَاضِي
بِلَحَاقِهِ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ في
حَقِّ زَوَالِ مِلْكِهِ عن أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ في دَارِ الْإِسْلَامِ
لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ عن الْمَالِ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةٌ لِكَوْنِهِ مَالًا
فَاضِلًا عن حَاجَتِهِ لِانْتِهَاءِ حَاجَتِهِ بِالْمَوْتِ وَعَجْزِهِ عن
الِانْتِفَاعِ بِهِ وقد وُجِدَ هذا الْمَعْنَى في اللَّحَاقِ لِأَنَّ الْمَالَ
الذي في دَارِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّهِ
لِعَجْزِهِ عن الِانْتِفَاعِ بِهِ فَكَانَ في حُكْمِ الْمَالِ الْفَاضِلِ عن
حَاجَتِهِ لِعَجْزِهِ عن قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهِ فَكَانَ اللَّحَاقُ بِمَنْزِلَةِ
الْمَوْتِ في كَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ فإذا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ
يُحْكَمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ وَيُقْسَمُ مَالُهُ بين
وَرَثَتِهِ وَتَحِلُّ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ لِأَنَّ هذه أَحْكَامٌ
مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ وقد وُجِدَ مَعْنًى
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ وإذا عَتَقَ
فَوَلَاؤُهُ لِلْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ
وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا
فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعُودَ قبل قَضَاءِ
الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ
وَالثَّانِي أَنْ يَعُودَ بَعْدَ ذلك فَإِنْ عَادَ قبل أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي
بِلَحَاقِهِ عَادَ على حُكْمِ أَمْلَاكِهِ في الْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ
الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذلك لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذه الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ
بِالْمَوْتِ وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ ليس بِمَوْتٍ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ
يَلْحَقُ بِالْمَوْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فإذا لم
يَتَّصِلْ بِهِ لم يَلْحَقْ فإذا عَادَ يَعُودُ على حُكْمِ مِلْكِهِ وَإِنْ عَادَ
بَعْدَ ما قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فما وُجِدَ من مَالِهِ في يَدِ وَرَثَتِهِ
بِحَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ وَلَدَهُ جُعِلَ خَلَفًا له في مَالِهِ
فَكَانَ تَصَرُّفُهُ في مَالِهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ له كَأَنَّهُ وَكِيلُهُ
فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ما وَجَدَهُ قَائِمًا على حَالِهِ وما زَالَ مِلْكُ
الْوَارِثِ عنه بِالْبَيْعِ أو بِالْعِتْقِ فَلَا رُجُوعَ فيه لِأَنَّ تَصَرُّفَ
الْخَلَفِ كَتَصَرُّفِ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ
وَأَمَّا ما أَعْتَقَ الْحَاكِمُ من أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ فَلَا
سَبِيلَ عليهم لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَكَذَا
الْمُكَاتَبُ إذَا كان أَدَّى الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ لَا سَبِيلَ عليه أَيْضًا
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ وما أدى إلَى الْوَرَثَةِ إنْ كان قَائِمًا أخذه ( ( ( أخذ ) ) ) وَإِنْ
زَالَ مِلْكُهُمْ عنه لَا يَجِبُ عليهم ضَمَانُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ لِمَا
بَيَّنَّا وَإِنْ كان لم يُؤَدِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بَعْدُ يُؤْخَذُ بَدَلُ
الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَجَزَ عَادَ رَقِيقًا له وَلَوْ رَجَعَ كَافِرًا إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ وَأَخَذَ طَائِفَةً من مَالِهِ وَأَدْخَلَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ
ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عليه فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ ما قضى بِلَحَاقِهِ
فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ وَجَدَتْهُ قبل الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ
مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ وَإِنْ وَجَدَتْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ
بِالْقِيمَةِ في ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ وقضى بِلَحَاقِهِ فَقَدْ
زَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَرَثَةِ فَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عليه
الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على
الدَّارِ فَوَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَالْحُكْمُ فيه ما ذَكَرْنَا وَإِنْ
رَجَعَ قبل الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةِ هذا
وَرُجُوعُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ سَوَاءٌ
وفي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فيه أَصْلًا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ
إلَيْنَا ثَانِيًا فما كان من حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ
وَالْقَذْفِ يُؤْخَذُ بِهِ وما كان من حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَسْقُطُ عنه لِأَنَّ اللَّحَاقَ
يُلْتَحَقُ بِالْمَوْتِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في سُقُوطِ ما يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ
وَلَوْ فَعَلَ شيئا من ذلك بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ لم
يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ منه لِأَنَّ فِعْلَهُ لم يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ
في حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ مَالِهِ الذي خَلَّفَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا
الذي لَحِقَ بِهِ في دَارِ
____________________
(7/137)
الْحَرْبِ
فَهُوَ مِلْكُهُ حتى لو ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عليه يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ
مِلْكَ الْوَرَثَةِ لم يَثْبُتْ في الْمَالِ الْمَحْمُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ
فَبَقِيَ على مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وهو غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَانَ مَحَلُّ
التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ لِسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ في أَنَّ الْمَالَ الذي اكْتَسَبَهُ في حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ
مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أو قُتِلَ أو لَحِقَ وَقُضِيَ
بِاللَّحَاقِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو فَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ نَفَى أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَوَارِثُهُ مُسْلِمٌ
فَيَجِبُ أَنْ لَا يَرِثَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه قَتَلَ
الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلَيَّ بِالرِّدَّةِ وَقَسَمَ مَالَهُ بين وَرَثَتِهِ
الْمُسْلِمِينَ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم
يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ عليه فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ في كَوْنِهَا سَبَبًا لِزَوَالِ
الْمِلْكِ كَالْمَوْتِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على ما
قَرَّرْنَاهُ فإذا ارْتَدَّ فَهَذَا مُسْلِمٌ مَاتَ فَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُ
فَكَانَ هذا إرْثَ الْمُسْلِمِ من الْمُسْلِمِ لَا من الْكَافِرِ فَقَدْ قُلْنَا
بِمُوجِبِ الحديث بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَالرِّدَّةُ إنْ كانت لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ
يُمْكِنُ احْتِمَالُ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى على حُكْمِ الْإِسْلَامِ
في حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ وَذَلِكَ جَائِزٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَقِيَ على حُكْمِ الْإِسْلَامِ في حَقِّ الْمَنْعِ من
التَّصَرُّفِ في الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى عليه في حَقِّ
حُكْمِ الْإِرْثِ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ إرْثُ الْمُسْلِمِ من الْكَافِرِ فَيَكُونُ
عَمَلًا بِالْحَدِيثِ أَيْضًا
وَاخْتَلَفُوا في الْمَالِ الذي اكْتَسَبَهُ في حَالِ الرِّدَّةِ
قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه هو فَيْءٌ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هو مِيرَاثٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ
من أَهْلِ الْمِلْكِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ أَهْلُ
الْمِلْكِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّدَّةُ لَا
تُنَافِيهَا بَلْ تُنَافِي ما يُنَافِيهَا وهو الرِّقُّ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَحْتَمِلُ
الِاسْتِرْقَاقَ وإذا ثَبَتَ مِلْكُهُ فيه احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ إلَى
وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ أو ما هو في مَعْنَى الْمَوْتِ على ما بَيَّنَّا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ
سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ من حِينِ وُجُودِهَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ على ما
بَيَّنَّا وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع وُجُودِ سَبَبِ زَوَالِهِ فَكَانَ
الْكَسْبُ في الرِّدَّةِ مَالًا لَا مَالِكَ له فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ
فَيُوضَعُ في بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَاللُّقَطَةِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُورَثُ من مَالِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ
الْوَارِثِ وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ وَقْتَ
الْمَوْتِ أَمْ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ
الْمَوْتِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَهُمَا بِالْمَوْتِ
فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ في ذلك الْوَقْتِ لَا غَيْرُ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ
وَقْتُ الرِّدَّةِ لَا غَيْرُ
حتى لو كان أَهْلًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَرِثَ وَإِنْ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ بَعْدَ
ذلك
وفي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى
وَقْتِ الْمَوْتِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الاسناد ( ( (
الاستناد ) ) ) لَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ
لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لَا بُدَّ منه لِلْإِرْثِ وَالْقَوْلُ بِالْإِرْثِ
بِطَرِيقِ الظُّهُورِ إيجَابُ الْإِرْثِ قبل الْمَوْتِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
فإذا وُجِدَ الْمَوْتُ يَثْبُتُ الْإِرْثُ
ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا
بين الْوَقْتَيْنِ يُمْنَعُ من الإسناد ( ( ( الاستناد ) ) ) فَيُشْتَرَطُ دَوَامُ
الْأَهْلِيَّةِ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ حتى لو كان بَعْضُ
الْوَرَثَةِ مُسْلِمًا وَقْتَ الرِّدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ قبل
مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا يُورَثُ وَكَذَا إذَا مَاتَ قبل مَوْتِهِ أو الْمَرْأَةُ
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قبل مَوْتِهِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِرْثَ يَتْبَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ
وَالْمِلْكُ زَالَ بِالرِّدَّةِ من وَقْتِ وُجُودِهَا فَيَثْبُتُ الْإِرْثُ في ذلك
الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ
قَوْلُهُ هذا إيجَابُ الْإِرْثِ قبل الْمَوْتِ قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ بَلْ هذا
إيجَابُ الْإِرْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ في مَعْنَى الْمَوْتِ
لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَوْتِ في زَوَالِ الْمِلْكِ على ما بَيَّنَّا
فَكَانَتْ الرِّدَّةُ مَوْتًا مَعْنًى
وَكَذَا اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا إذَا
لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ أنه تُعْتَبَرُ
أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ أَمْ وَقْتَ اللَّحَاقِ
فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ اللَّحَاقِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وَقْتَ الْإِرْثِ وَقْتُ زَوَالِ الْمِلْكِ
وَمِلْكُ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ بِاللَّحَاقِ لِأَنَّ بِهِ يَعْجِزُ عن
الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ الْمَتْرُوكِ في دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ
الْعَجْزَ قبل الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لا حتمال الْعَوْدِ فإذا قضى
تَقَرَّرَ الْعَجْزُ وَصَارَ الْعَوْدُ بَعْدَهُ كَالْمُمْتَنِعِ عَادَةً فَكَانَ
الْعَامِلُ في زَوَالِ الْمِلْكِ هو اللَّحَاقَ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ
وَقْتَئِذٍ
وَجْهُ قَوْلِ
____________________
(7/138)
أبي
يُوسُفَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَكَانَ الْمُؤَثِّرُ في
الزَّوَالِ هو الْقَضَاءَ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ
لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ قُتِلَ الْأَبُ
على رِدَّتِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من حِينِ
الرِّدَّةِ يَرِثُهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ في حَالَةِ
الْإِسْلَامِ قَطْعًا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا من حِينِ
الرِّدَّةِ لم يَرِثْهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَقَ في حَالَةِ
الرِّدَّةِ فَلَا يَرِثُ مع الشَّكِّ
وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ أو كانت له أُمُّ وَلَدٍ مُسْلِمَةٍ
وَرِثَهُ مع وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْأُمَّ مُسْلِمَةٌ فَكَانَ الْوَلَدُ على حُكْمِ الْإِسْلَامِ
تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيَرِثُ أَبَاهُ
وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ عن امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ
بِدَارِ الْحَرْبِ فَوَلَدَتْ هُنَاكَ ثُمَّ ظَهَرْنَا على الدَّارِ فإنه لَا
يُسْتَرَقُّ وَيَرِثُ أَبَاهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَلَوْ لم
تَكُنْ وَلَدَتْهُ حتى سُبِيَتْ ثُمَّ وَلَدَتْهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ
مُسْلِمٌ مَرْقُوقُ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِأَبِيهِ مَرْقُوقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ وَلَا
يَرِثُ أَبَاهُ لِأَنَّ الرِّقَّ من أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ له غُلَامًا أو وطىء أَمَةً
مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ له فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ وَيَرِثُ أَبَاهُ
لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَإِنْ كانت الْأُمُّ كَافِرَةً لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ إسْلَامُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ الدَّيْنِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ دُيُونُ الْمُرْتَدِّ
في كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ جميعا لِأَنَّ كُلَّ ذلك عِنْدَهُمَا
مِيرَاثٌ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فَقَدْ ذَكَرَ أبو يُوسُفَ عنه
أَنَّهُ في كَسْبِ الرِّدَّةِ إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ
من كَسْبِ الْإِسْلَامِ
وَرَوَى الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ عنه أَنَّهُ في كَسْبِ الْإِسْلَامِ إلَّا
أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ من كَسْبِ الرِّدَّةِ
وقال الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَيْنُ الْإِسْلَامِ في كَسْبِ الْإِسْلَامِ
وَدَيْنُ الرِّدَّةِ في كَسْبِ الرِّدَّةِ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ لِأَنَّ دَيْنَ الْإِنْسَانِ يُقْضَى من مَالِهِ
لَا من مَالِ غَيْرِهِ
وَكَذَا دَيْنُ الْمَيِّتِ يُقْضَى من مَالِهِ لَا من مَالِ وَارِثِهِ لِأَنَّ
قِيَامَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ
لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا على الْإِرْثِ فَكَانَ قَضَاءُ دَيْنِ كل مَيِّتٍ
من مَالِهِ لَا من مَالِ وَارِثِهِ وَمَالُهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ
فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَمَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُقْضَى منه
الدَّيْنُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فإذا لم يَفِ بِهِ كَسْبُ الْإِسْلَامِ مَسَّتْ
الضَّرُورَةُ فيقضى الْبَاقِيَ منه
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ فَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو من
أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا في الْإِسْلَامِ أو في الرِّدَّةِ فَإِنْ كان مَوْلُودًا
في الْإِسْلَامِ بِأَنْ وُلِدَ لِلزَّوْجَيْنِ وَلَدٌ وَهُمَا مُسْلِمَانِ ثُمَّ
ارْتَدَّا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ ما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ
لَمَّا وُلِدَ وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا
لِأَبَوَيْهِ فَلَا يَزُولُ بِرِدَّتِهِمَا لِتَحَوُّلِ التَّبَعِيَّةِ إلَى
الدَّارِ إذْ الدَّارُ وَإِنْ كانت لَا تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ التَّبَعِيَّةِ
ابْتِدَاءً عِنْدَ اسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ تَصْلُحُ لِلْإِبْقَاءِ لِأَنَّهُ
أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ فما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ يَبْقَى على حُكْمِ
الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلدَّارِ
وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدَّانِ بهذا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَبِرَ
الْوَلَدُ وَوُلِدَ له وَلَدٌ وَكَبِرَ ثُمَّ ظُهِرَ عليهم
أَمَّا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فَمَعْلُومٌ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ
الْمُرْتَدَّ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُقْتَلُ وَالْمُرْتَدَّةُ تُسْتَرَقُّ وَلَا
تُقْتَلُ وَتُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ
فَوَلَدُ الْأَبِ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ كان
مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ تَبَعًا لَهُمَا فلما بَلَغَ كَافِرًا فَقَدْ
ارْتَدَّ عنه وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ
إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ هذه رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ
لِوُجُودِ الْإِيمَانِ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا حَقِيقَةً فَيُجْبَرُ
على الْإِسْلَامِ لَكِنْ بِالْحَبْسِ لَا بِالسَّيْفِ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ على
قَدْرِ الْعِلَّةِ وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ على الْإِسْلَامِ لِأَنَّ
وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ الْجَدَّ في الْإِسْلَامِ إذْ لو كان كَذَلِكَ
لَكَانَ الْكُفَّارُ كلهم مُرْتَدِّينَ لِكَوْنِهِمْ من أَوْلَادِ آدَمَ وَنُوحٍ
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ عليهم أَحْكَامُ
أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان مَوْلُودًا في الرِّدَّةِ بِأَنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَا وَلَدَ
لَهُمَا ثُمَّ حَمَلَتْ الْمَرْأَةُ من زَوْجِهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا وَهُمَا
مُرْتَدَّانِ على حَالِهِمَا فَهَذَا الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ أَبَوَيْهِ له حُكْمُ
الرِّدَّةِ حتى لو مَاتَ لَا يُصَلَّى عليه لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ
أَحَدًا
وَلَوْ لَحِقَا بهذا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَبَلَغَ وَوُلِدَ له أَوْلَادٌ
فَبَلَغُوا ثُمَّ ظُهِرَ على الدَّارِ وَسُبُوا جميعا يُجْبَرُ وَلَدُ الْأَبِ
وَوَلَدُ وَلَدِهِ على الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ السِّيَرِ وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ على الْإِسْلَامِ
وَجْهُ ما ذُكِرَ في السِّيَرِ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فَكَانَ
مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدُ الْوَلَدِ تَبَعٌ له
فَكَانَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا له وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ على
الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ هذه رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ
فَيُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ
____________________
(7/139)
وَجْهُ
الْمَذْكُورِ في الْجَامِعِ أَنَّ هذا الْوَلَدَ إنَّمَا صَارَ مَحْكُومًا
بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَالتَّبَعُ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاقِ فَذُكِرَ في السِّيَرِ أَنَّهُ يُسْتَرَقُّ
الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الصِّغَارُ من أَوْلَادِهِ لِأَنَّ أُمَّهُمْ مُرْتَدَّةٌ
وَهِيَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ وَالْوَلَدُ كما تَبِعَ الْأُمَّ في الرِّقِّ
يَتْبَعُهَا في احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ
وَأَمَّا الْكِبَارُ فَلَا يُسْتَرَقُّونَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ
بِالْبُلُوغِ وَيُجْبَرُونَ على الْإِسْلَامِ وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
الْوِلْدَانُ فَيْءٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أُمَّهُ مُرْتَدَّةٌ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِأَنَّهُ
كَافِرٌ أَصْلِيٌّ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ في الرِّدَّةِ قد
انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ وهو كَافِرٌ فَكَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا فَاحْتَمَلَ
الِاسْتِرْقَاقَ
وَلَوْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ
وَهِيَ حَامِلٌ كان وَلَدُهَا فَيْئًا لِأَنَّ السَّبْيَ لَحِقَهُ وهو في حُكْمِ
جُزْءِ الْأُمِّ فَلَا يَبْطُلُ بِالِانْفِصَالِ من الْأُمِّ وَالذِّمِّيُّ الذي
نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ في
سَائِرِ الْأَحْكَامِ من الْإِرْثِ وَالْحُكْمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ
وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْمَعْنَى الذي يُوجِبُ لَحَاقَهُ
اللَّحَاقُ بِالْمَوْتِ في الْأَحْكَامِ التي ذَكَرْنَا لَا يُفْصَلُ إلَّا
أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ من وَجْهٍ وهو أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسْتَرَقُّ
وَالْمُرْتَدُّ لَا يُسْتَرَقُّ
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ شَرْعَ الِاسْتِرْقَاقِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ
وَاسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ ما ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ وَعَرَفَ
مَحَاسِنَهُ فَلَا يُرْجَى فَلَاحُهُ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْبُغَاةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في
تَفْسِيرِ الْبُغَاةِ وفي بَيَانِ ما يَلْزَمُ إمَامَ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ
خُرُوجِهِمْ عليه وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ
الظَّفَرِ بِهِمْ وَالِاسْتِيلَاءِ على أَمْوَالِهِمْ وفي بَيَانِ من يَجُوزُ
قَتْلُهُ منهم وَمَنْ لَا يَجُوزُ وفي بَيَانِ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ
وَالْأَمْوَالِ من الطَّائِفَتَيْنِ وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بِقَتْلَى
الطَّائِفَتَيْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ
أَمَّا تَفْسِيرُ الْبُغَاةِ فَالْبُغَاةُ هُمْ الْخَوَارِجُ وَهُمْ قَوْمٌ من
رَأْيِهِمْ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كُفْرٌ كَبِيرَةً كانت أو صَغِيرَةً يَخْرُجُونَ على
إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ
بهذا التَّأْوِيلِ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَلْزَمُ إمَامَ الْعَدْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخَوَارِجَ يُشْهِرُونَ
السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ فَيَنْبَغِي له أَنْ يَأْخُذَهُمْ
وَيَحْبِسَهُمْ حتى يُقْلِعُوا عن ذلك وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً لِأَنَّهُ لو
تَرَكَهُمْ لَسَعَوْا في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيَأْخُذُهُمْ على أَيْدِيهِمْ
وَلَا يَبْدَؤُهُمْ الْإِمَامُ بِالْقِتَالِ حتى يبدؤوه ( ( ( يبدءوه ) ) )
لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ لِأَنَّهُمْ
مُسْلِمُونَ فما لم يَتَوَجَّهُ الشَّرُّ منهم لَا يُقَاتِلُهُمْ وَإِنْ لم
يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حتى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ
فَيَنْبَغِي له أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ وَالرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ
الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ كما في حَقِّ
أَهْلِ الْحَرْبِ
وَكَذَا رُوِيَ أَنْ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه لَمَّا خَرَجَ عليه
أَهْلُ حر وراء نَدَبَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
لِيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ فَدَعَاهُمْ وناظرهم فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ
عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ بَغَتْ
إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ
اللَّهِ }
وَكَذَا قَاتَلَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه أَهْلَ حَرُورَاءَ
بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ تَصْدِيقًا
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ إنَّكَ تُقَاتِلُ
على التَّأْوِيلِ كما تُقَاتِلُ على التَّنْزِيلِ وَالْقِتَالُ على التَّأْوِيلِ
هو الْقِتَالُ مع الْخَوَارِجِ
وَدَلَّ الْحَدِيثُ على إمَامَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ قِتَالَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه على
التَّأْوِيلِ بِقِتَالِهِ على التَّنْزِيلِ وكان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم في قِتَالِهِ بِالتَّنْزِيلِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ
مُحِقًّا في قِتَالِهِ بِالتَّأْوِيلِ فَلَوْ لم يَكُنْ إمَامَ حَقٍّ لَمَا كان
مُحِقًّا في قِتَالِهِ إيَّاهُمْ وَلِأَنَّهُمْ سَاعُونَ في الْأَرْضِ
بِالْفَسَادِ فَيُقْتَلُونَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ على وَجْهِ الْأَرْضِ
وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قبل الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قد
بَلَغَتْهُمْ لِكَوْنِهِمْ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا
وَيَجِبُ على كل من دَعَاهُ الْإِمَامُ إلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذلك
وَلَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ إذَا كان عِنْدَهُ غنا ( ( ( غنى ) ) ) وَقُدْرَةٌ
لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا ليس بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ فَكَيْفَ فِيمَا هو
طَاعَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ
بين الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ
وَيَلْزَمَ بَيْتَهُ مَحْمُولٌ على وَقْتٍ خَاصٍّ وهو أَنْ لَا يَكُونَ إمَامٌ
يدعو ( ( ( يدعوه ) ) ) إلَى الْقِتَالِ
وَأَمَّا إذَا كان فَدَعَاهُ يُفْتَرَضُ عليه الْإِجَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ
وَالِاسْتِيلَاءِ على أَمْوَالِهِمْ فَنَقُولُ الْإِمَامُ إذَا قَاتَلَ أَهْلَ
الْبَغْيِ فَهَزَمَهُمْ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَإِنْ كانت لهم فِئَةٌ
يَنْحَازُونَ إلَيْهَا فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا
مُدْبِرَهُمْ وَيُجْهِزُوا على
____________________
(7/140)
جَرِيحِهِمْ
لِئَلَّا يَتَحَيَّزُوا إلَى الْفِئَةِ فَيَمْتَنِعُوا فيها ( ( ( بها ) ) )
فَيَكُرُّوا على أَهْلِ الْعَدْلِ
وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ اسْتِئْصَالًا
لِشَأْفَتِهِمْ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِالْأَسْرِ
وَالْحَبْسِ وَإِنْ لم يَكُنْ لهم فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إلَيْهَا لم يَتْبَعْ
مُدْبِرَهُمْ ولم يُجْهِزْ على جَرِيحِهِمْ ولم يَقْتُلْ أَسِيرَهُمْ لِوُقُوعِ
الْأَمْنِ عن شَرِّهِمْ عِنْدَ انْعِدَامِ الْفِئَةِ
وَأَمَّا أَمْوَالُهُمْ التي ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عليها فَلَا بَأْسَ بِأَنْ
يَسْتَعِينُوا بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ على قِتَالِهِمْ كَسْرًا
لِشَوْكَتِهِمْ فإذا اسْتَغْنَوْا عنها أَمْسَكَهَا الْإِمَامُ لهم لِأَنَّ
أَمْوَالَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ لِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ
وَلَكِنْ يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فإذا زَالَ رَدَّهَا
عليهم
وَكَذَا ما سِوَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ من الْأَمْتِعَةِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ
وَلَكِنْ يُمْسَكُ وَيُحْبَسُ عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُدْفَعَ
إلَيْهِمْ لِمَا قُلْنَا
وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِ
ذلك مِمَّا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَدَفْعِ
شَرِّهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَيُقَاتَلُونَ بِكُلِّ ما يَحْصُلُ بِهِ ذلك
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ لِيَنْظُرُوا في أُمُورِهِمْ وَلَكِنْ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا على ذلك مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَجُوزُ قَتْلُهُ منهم وَمَنْ لَا يَجُوزُ فَكُلُّ من لَا
يَجُوزُ قَتْلُهُ من أَهْلِ الْحَرْبِ من الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ
وَالْأَشْيَاخِ وَالْعُمْيَانِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ من أَهْلِ الْبَغْيِ لِأَنَّ
قَتْلَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّ قِتَالِهِمْ فَيَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقِتَالِ
وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلُونَ إلَّا إذَا
قَاتَلُوا فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ في حَالِ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ من
الْقِتَالِ إلَّا الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ على ما ذَكَرْنَا في حُكْمِ أَهْلِ
الْحَرْبِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ من أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنْ كان قَاتَلَ مع
مَوْلَاهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَإِنْ كان يَخْدُمُ مَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ
وَلَكِنْ يُحْبَسُ حتى يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُرَدُّ عليهم
وَأَمَّا الْكُرَاعُ فَلَا يُمْسَكُ وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ
لِمَالِكِهِ لِأَنَّ ذلك أَنْفَعُ له وَلَا يَجُوزُ لِلْعَادِلِ أَنْ يبتدىء
بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه من أَهْلِ الْبَغْيِ مُبَاشَرَةً وإذا أَرَادَ
هو قَتْلَهُ له أَنْ يَدْفَعَهُ وَإِنْ كان لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ
فَيَجُوزُ له أَنْ يَتَسَبَّبَ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ يَعْقِرَ دَابَّتَهُ
لِيَتَرَجَّلَ فَيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فإنه يَجُوزُ
قَتْلُ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ منه مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا
ابْتِدَاءً إلَّا الْوَالِدَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشِّرْكَ في الْأَصْلِ مُبِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }
إلَّا أَنَّهُ خُصَّ منه الْأَبَوَانِ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَيْثُ قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } فَبَقِيَ
غَيْرُهُمَا على عُمُومِ النَّصِّ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ لِأَنَّ
الْإِسْلَامَ في الْأَصْلِ عَاصِمٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام ( ( ( وسلم ) ) ) فإذا
قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَالْبَاغِي مُسْلِمٌ
إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ من أَهْلِ
الْبَغْيِ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ لَا لِشَوْكَتِهِمْ وَدَفْعُ الشَّرِّ يَحْصُلُ
بِالدَّفْعِ وَالتَّسْبِيبِ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ فَبَقِيَتْ الْعِصْمَةُ عَمَّا
وَرَاءَ ذلك بِالدَّلِيلِ الْعَاصِمِ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ من الطَّائِفَتَيْنِ
فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَصَابَ من أَهْلِ الْبَغْيِ من
دَمٍ أو جِرَاحَةٍ أو مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ أنه لَا ضَمَانَ عليه
وَأَمَّا الْبَاغِي إذَا أَصَابَ شيئا من ذلك من أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ
اخْتَلَفُوا فيه
قال أَصْحَابُنَا إنَّ ذلك مَوْضُوعٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ مَضْمُونٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَاغِيَ جَانٍ فَيَسْتَوِي في حَقِّهِ وُجُودُ
الْمَنَعَةِ وَعَدَمُهَا لِأَنَّ الْجَانِيَ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ دُونَ
التَّخْفِيفِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قال وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ
اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلُّ مَالٍ اُسْتُحِلَّ
بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ
الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما قُلْنَا وَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ
وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ ما نَبَّهَ عليه الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وهو أَنَّ لهم في الِاسْتِحْلَالِ تَأْوِيلًا في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كان فَاسِدًا
لَكِنَّ لهم مَنَعَةً وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ قِيَامِ الْمَنَعَةِ
يَكْفِي لِرَفْعِ الضَّمَانِ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ
من الْجَانِبَيْنِ مُنْقَطِعَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ فلم يَكُنْ الْوُجُوبُ
مُفِيدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فلم يَجِبْ وَلَوْ فَعَلُوا شيئا من ذلك قبل
الْخُرُوجِ وَظُهُورِ الْمَنَعَةِ أو بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَتَفَرُّقِ الْجَمْعِ
يُؤْخَذُونَ بِهِ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ إذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَبَقِيَ
مُجَرَّدُ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ في دَفْعِ الضَّمَانِ
وَلَوْ قَتَلَ تَاجِرٌ من أَهْلِ الْعَدْلِ تَاجِرًا آخَرَ من أَهْلِ الْعَدْلِ في
عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ أو قَتَلَ الْأَسِيرُ من أَهْلِ الْعَدْلِ أَسِيرًا
آخَرَ
أو قَطَعَ ثُمَّ ظُهِرَ عليه فَلَا قِصَاصَ عليه لِأَنَّ الْفِعْلَ لم يَقَعْ
مُوجِبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ كما لو قَطَعَ في
دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ عَسْكَرَ أَهْلِ الْبَغْيِ في حَقِّ انْقِطَاعِ
الْوِلَايَةِ
____________________
(7/141)
وَدَارِ
الْحَرْبِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَ بَاغِيًا لَا يُحْرَمُ
الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِسُقُوطِ عِصْمَةِ
نَفْسِهِ
وَأَمَّا الْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ قال قَتَلْتُهُ وَكُنْتُ على
حَقٍّ وأنا الْآنَ على حَقٍّ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَإِنْ قال قَتَلْتُهُ وأنا
أَعْلَمُ أَنِّي على بَاطِلٍ يُحْرَمُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ
بِالصَّحِيحِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ في حَقِّ الدَّفْعِ لَا في حَقِّ
الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُعْتَبَرُ في حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّا نَعْتَبِرُ تَأْوِيلَهُ في حَقِّ الدَّفْعِ
وَالِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ هو الْقَرَابَةُ وإنها
مَوْجُودَةٌ
إلَّا أَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَّبَ الْحِرْمَانَ فإذا قَتَلَهُ على
تَأْوِيلِ الِاسْتِحْلَالِ وَالْمَنَعَةُ مَوْجُودَةٌ اعْتَبَرْنَاهُ في حَقِّ
الدَّفْعِ
وهو دَفْعُ الْحِرْمَانِ فَأَشْبَهَ الضَّمَانَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قال قَتَلْتُهُ
وأنا أَعْلَمُ إني على بَاطِلٍ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ
الْفَاسِدَ إنَّمَا يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ إذَا كان مُصِرًّا عليه فإذا لم يُصِرَّ
فَلَا تَأْوِيلَ له فَلَا يَنْدَفِعُ عنه الضَّمَانُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بِقَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ أَمَّا قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُصْنَعُ بِهِمْ ما
يُصْنَعُ بِسَائِرِ الشُّهَدَاءِ لَا يُغَسَّلُونَ وَيُدْفَنُونَ في ثِيَابِهِمْ
وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُمْ إلَّا ما لَا يَصْلُحُ كَفَنًا وَيُصَلَّى عليهم
لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِكَوْنِهِمْ مَقْتُولِينَ ظُلْمًا
وقد رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بن صرحان ( ( ( صوحان ) ) ) الْيَمَنِيَّ كان يوم
الْجَمَلِ تَحْتَ رَايَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما فَأَوْصَى في
رَمَقِهِ لَا تنزعواعني ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَارْمُسُونِي في
التراث ( ( ( التراب ) ) ) رَمْسًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يوم
الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا قَتْلَى أَهْلِ البغى فَلَا يصلي عليهم لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ
سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه ما صلى على أَهْلِ حَرُورَاءَ وَلَكِنَّهُمْ
يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ لِأَنَّ ذلك من سُنَّةِ مَوْتَى بَنِي
سَيِّدِنَا آدَمَ عليه السلام وَيُكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رؤوسهم وَتُبْعَثَ إلَى
الْآفَاقِ
وَكَذَلِكَ رؤوس أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ ذلك من بَابِ الْمُثْلَةِ وأنه
مَنْهِيٌّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُمَثِّلُوا فَيُكْرَهُ إلَّا إذَا
كان في ذلك وَهَنٌ لهم فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه جَزَّ رَأْسَ أبي جَهْلٍ عليه اللَّعْنَةُ يوم بَدْرٍ
وَجَاءَ بِهِ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم إنَّ أَبَا جَهْلٍ كان فِرْعَوْنَ هذه الْأُمَّةِ ولم يُنْكِرْ
عليه
وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ من أَهْلِ الْبَغْيِ وفي عَسَاكِرِهِمْ لِأَنَّهُ
إعَانَةٌ لهم على الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ ما يُتَّخَذُ منه
السِّلَاحُ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ سِلَاحًا إلَّا
بِالْعَمَلِ
وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ ما
يُتَّخَذُ منه الْمِزْمَارُ وهو الْخَشَبُ وَالْقَصَبُ
وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ بَاطِلٌ وَلَا يَبْطُلُ بَيْعُ ما يُتَّخَذُ منه وهو
الْعِنَبُ
كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ فَنَقُولُ الْخَوَارِجُ إذَا وَلَّوْا
قَاضِيًا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَلَّوْا رَجُلًا
من أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِمَّا إن وَلَّوْا رَجُلًا من أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ
وَلَّوْا رَجُلًا من أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَضَى بِقَضَايَا ثُمَّ رُفِعَتْ
قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ لَا يُنْفِذُهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ
كَوْنَهَا حَقًّا لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا
فَاحْتَمَلَ إنه قَضَى بِمَا هو بَاطِلٌ على رَأْيِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ له
تَنْفِيذُهُ مع الِاحْتِمَالِ
وَلَوْ كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِكِتَابٍ
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْفَذَهُ لِأَنَّهُ
تنفيذا ( ( ( تنفيذ ) ) ) لِحَقٍّ ظاهرا وَإِنْ كان لَا يَعْلَمُ لَا يُنْفِذُهُ
لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ حَقًّا فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ لِقَوْلِهِ
تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) { وَلَا تَقْفُ ما ليس لَك بِهِ عِلْمٌ }
وَإِنْ وَلَّوْا رَجُلًا من أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى فِيمَا بَيْنَهُمْ
بِقَضَايَا ثُمَّ رُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَهَا
لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ إيَّاهُ قد صَحَّتْ وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ على تَنْفِيذِ
الْقَضَايَا بِمَنْعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فَصَحَّتْ التَّوْلِيَةُ وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ قَضَى على رَأْيِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ كما إذَا
رُفِعَتْ قَضَايَا قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ إلَى بَعْضِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ
وما أَخَذُوا من الْبِلَادِ التي ظَهَرُوا عليها من الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ التي
وِلَايَةُ أَخْذِهَا لِلْإِمَامِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا لِأَنَّ
حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِمَكَانِ حِمَايَتِهِ ولم تُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ
يُفْتُونَ بِأَنْ يُعِيدُوا الزَّكَاةَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفهَا فَأَمَّا الْخَرَاجُ فَمَصْرِفُهُ
الْمُقَاتِلَةُ
وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْغَصْبِ جَمَعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الْغَصْبِ بين
مَسَائِلِ الْغَصْبِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْإِتْلَافِ وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ
الْغَصْبِ فَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ
____________________
(7/142)
فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَعْرِفَةُ مَسَائِلِ الْغَصْبِ في الْأَصْلِ
مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغَصْبِ وَعَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اخْتِلَافِ
الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ منه
أَمَّا حَدُّ الْغَصْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وأبو
يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما هو إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عن مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ
على سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ في الْمَالِ وقال مُحَمَّد
رَحِمَهُ اللَّهُ الْفِعْلُ في الْمَالِ ليس بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ غَصْبًا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو إثْبَاتُ الْيَدِ على مَالٍ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْإِزَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ احْتَجَّ لِتَمْهِيدِ
أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وكان وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } جَعَلَ الْغَصْبَ مَصْدَرَ الْأَخْذِ فَدَلَّ أَنَّ
الْغَصْبَ وَالْأَخْذَ وَاحِدٌ وَالْأَخْذُ إثْبَاتُ الْيَدِ
إلَّا أَنَّ الْإِثْبَاتَ إذَا كان بِإِذْنِ الْمَالِكِ يُسَمَّى إيدَاعًا
وَإِعَارَةً وَإِبْضَاعًا في عُرْفِ الشَّرْعِ وإذا كان بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ
يُسَمَّى في مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ غَصْبًا وَلِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا جُعِلَ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا فإذا وَقَعَ
الْإِثْبَاتُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَقَعَ تَعَدِّيًا فَيَكُونُ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا
وَالدَّلِيلُ عليه أَنْ غَاصِبَ الْغَاصِبِ ضَامِنٌ وَإِنْ لم يُوجَدْ منه
إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ لِزَوَالِهَا بِغَصْبِ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ
وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَنَا الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْمَالِكَ اسْتَحَقَّ إزَالَةَ يَدِ الْغَاصِبِ عن الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ
يَكُونَ الْغَصْبُ منه إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى لم يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ }
وَالثَّانِي أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ
زَجْرٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ جَبْرٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ يَجِبُ على من ليس من أَهْلِ الزَّجْرِ وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ لَا
يَحْصُلُ بِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ ضَمَانُ جَبْرٍ وَالْجَبْرُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ
فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بُدّ من التَّفْوِيتِ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ وَلَا حُجَّةَ له
في الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَسَّرَ أَخْذَ الْمَلِكِ تِلْكَ
السَّفِينَةَ بِغَصْبِهِ إيَّاهَا كَأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكان وَرَاءَهُمْ
مَلِكٌ يَغْصِبُ كُلَّ سَفِينَةٍ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ كُلَّ أَخْذٍ غَصْبٌ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عليه
لِأَنَّ غَصْبَ ذلك الْمَلِكِ كان إثْبَاتَ الْيَدِ على السَّفِينَةِ مع إزَالَةِ
أَيْدِي الْمَسَاكِينِ عنها فَدَلَّ على أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتٌ على وَجْهٍ
يَتَضَمَّنُ الْإِزَالَةَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْغَصْبُ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا
فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ التَّعَدِّيَ في الْإِزَالَةِ لَا في الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ
وُقُوعَهُ تَعَدِّيًا بِوُقُوعِهِ ضَارًّا بِالْمَالِكِ وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهِ من
أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ الْمَالِكِ وَإِعْجَازِهِ عن
الِانْتِفَاعِ بِهِ وهو تَفْسِيرُ تَفْوِيتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا
فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَلَا ضَرَرَ فيه فلم يَكُنْ الْإِثْبَاتُ
تَعَدِّيًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ أنها لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ
سَوَاءٌ كانت مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ أو مُتَّصِلَةً
كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ في يَدِ الْمَالِكِ وَقْتَ غَصْبِ
الْأُمِّ فلم تُوجَدْ إزَالَةُ يَدِهِ عنها فلم يُوجَدْ الْغَصْبُ وَعِنْد
مُحَمَّدٍ مَضْمُونَةٌ لِأَنَّ الْغَصْبَ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ على مَالِ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وقد وُجِدَ الْغَصْبُ وَهَلْ تَصِيرُ
مَضْمُونَةً عِنْدَنَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَنْعِ أو الِاسْتِهْلَاكِ
أو الِاسْتِخْدَامِ جَبْرًا
أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ فَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في
أنها تَصِيرُ مَضْمُونَةً بها
وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فذكر في الْأَصْلِ أنها تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ
وَالتَّسْلِيمِ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فازدات
( ( ( فازدادت ) ) ) في بَدَنِهَا خَيْرًا حتى صَارَتْ قِيمَتهَا أَلْفَيْ
دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلَكَتْ في يَدِهِ
فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا أَلْفَيْ
دِرْهَم وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي
ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يوم الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ
الْبَائِعِ ضَمَّنَهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ
أَيْضًا
كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَحَكَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْخِلَافَ أَنْ على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يوم
الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا يوم
الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ زِيَادَةً بِالْبَيْعِ
وَالتَّسْلِيمِ
وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ في الْمُنْتَقَى وَحَكَى الْخِلَافَ
وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ
الِاسْتِهْلَاكَ مُطْلَقًا فقال إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا وَفَسَّرَهُ
الْجَصَّاصُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فقال إلَّا أَنْ يَكُونَ
عَبْدًا أو جَارِيَةً فَيُقْتَلُ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ إن الْمَغْصُوبَ إذَا كان
عَبْدًا أو جَارِيَةً فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ خَطَأً يَكُونُ الْمَالِكُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ زَائِدَةً في ثَلَاثِ
سِنِينَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ
إمْكَانِ الْأَخْذِ لِأَنَّ الْمَالِكَ
____________________
(7/143)
كان
مُتَمَكِّنًا من أَخْذِهِ منه قبل الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ
وَالتَّسْلِيمِ لم يَبْقَ مُتَمَكِّنًا وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ تَفْوِيتُ
الْيَدِ مَعْنًى فَكَانَ غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ تَفْوِيتَ
يَدِ الْمَالِكِ إنَّمَا كان غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِكَوْنِهِ إخْرَاجَ
الْمَالِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ الْمَالِك وَإِعْجَازُهُ عن الِانْتِفَاعِ
بِمَالِهِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِ إمْكَانِ الْأَخْذِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ على غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَمُودِعِ الْغَاصِبِ
وَالْمُشَتَّرِي من الْغَاصِبِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ
الْأَوَّلِ فَلَا يَقَعُ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ غَصْبًا له لِأَنَّ غَصْبَ
الْمَغْصُوبِ لَا يُتَصَوَّرُ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ
إفْرَادُهَا بِالْغَصْبِ لِتَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيِّعِ وَالتَّسْلِيمِ بِخِلَافِ
الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ إفْرَادَهَا بِالْغَصْبِ بِدُونِ الْأَصْلِ
مُتَصَوَّرٌ فلم تَكُنْ مَغْصُوبَةً بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ لِانْعِدَامِهَا
فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَهَذَا الْفَرْقُ
بين الزِّيَادَتَيْنِ وَبِخِلَافِ الْقَتْل لِأَنَّ قَتْلَ الْمَغْصُوبِ
مُتَصَوَّرٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَتْلِ غَيْرُ مَحَلِّ الْغَصْبِ
فمحمل ( ( ( فمحل ) ) ) الْقَتْلِ هو الْحَيَاةُ ومحمل ( ( ( ومحل ) ) ) الْغَصْبِ
هو مَالِيَّةُ الْعَيْنِ فَتَحَقُّقُ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقُ الْقَتْلِ
إلَّا أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ وَالْمُسْتَحَقُّ لِلضَّمَانِ وَاحِدٌ
فَيُخَيَّرُ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ لَا شَكَّ فيه
فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ من ذلك الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فَالزِّيَادَةُ حدثت ( ( ( حصلت ) ) ) على
مِلْكِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ فَتَكُونُ مِلْكَهُ فَكَانَ
الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْمَنْعُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالِاسْتِهْلَاكُ في
غَيْرِ بَنِي آدَمَ تَصَرُّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه
كما لو تَصَرَّفَ في سَائِرِ أَمْلَاكِهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ
لِأَنَّا أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ
من وَجْهٍ ويتقصر ( ( ( ويقتصر ) ) ) على الْحَالِ من وَجْهٍ فَيُعْمَلُ
بِشُبْهَةِ الظُّهُورِ في الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وبشبه ( ( ( وبشبهة ) ) )
الِاقْتِصَارِ في الْمُنْفَصِلَةِ إذْ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ على الْعَكْسِ
لِيَكُونَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا على طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَتَخْرِيجُهُمَا مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَضْمَنُ
بِالْقَتْلِ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَالْغَاصِب
إنَّمَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ من وَقْتِ الْغَصْبِ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا من
حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لِأَنَّهُ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ
التَّمَلُّكَ فلم يَكُنْ هو بِالْقَتْلِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ لِهَذَا
افْتَرَقَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ على أصلهما ( ( ( أصلها ) ) ) إذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ
الْبَائِعِ هل يَثْبُتُ له الْخِيَارُ بين أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ
وَقْتَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْغَصْبِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَثْبُتُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ
بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الذِّمَّةِ من بَابِ السَّفَهِ
بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ هُنَاكَ الذِّمَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ
يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَلِيًّا وَالْآخَر مُفْلِسًا فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا
وَبِخِلَافِ الْقَتْلِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَأَنَّهُ
مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ وَضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِ وَأَنَّهُ
حَالٌّ فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا
ثُمَّ إذَا ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ وَقْتَ الْغَصْبِ
أو وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالثَّمَنُ له لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنْ ضَمِنَ
الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي
بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ على الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ
وَلَوْ غَصَبَ من إنْسَانٍ شيئا فَجَاءَ آخَرُ وَغَصَبَهُ منه فَهَلَكَ في يَدِهِ
فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الثَّانِي
أَمَّا تَضْمِينُ الْأَوَّلِ فَلِوُجُودِ فِعْلِ الْغَصْبِ منه وهو تَفْوِيتُ يَدِ
الْمَالِكِ
وَأَمَّا تَضْمِينُهُ الثَّانِيَ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ
وَيَدُهُ يَدُ الْمَالِكِ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَتَمَكَّنُ من
رَدِّهِ على الْمَالِكِ وَيَسْتَقِرُّ بِهِمَا الضَّمَانُ في ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ
مَنْفَعَةُ يَدِهِ عَائِدَةً إلَى الْمَالِكِ فَأَشْبَهَتْ يَدَ الْمُودِعِ وقد
وُجِدَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّ
الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ فَخَيَّرْنَا الْمَالِكَ لِتَعَيُّنِ الْمُسْتَحِقِّ فَإِنْ
اخْتَارَ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ رَجَّعَ بِالضَّمَانِ على الثَّانِي لِأَنَّهُ
مَلَكَ الْمَغْصُوبَ من وَقْتِ غَصْبِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّانِي غَصَبَ
مِلْكَهُ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الثَّانِي لَا يُرْجَعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ
ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وهو تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ من وَجْهِ على ما
بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ الثَّانِي
وَمَتَى اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا هل يَبْرَأُ الْآخَرُ عن الضَّمَانِ
بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يَبْرَأُ حتى لو أَرَادَ
تَضْمِينَهُ بَعْدَ ذلك لم يَكُنْ له ذلك
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا
يَبْرَأُ ما لم يَرْضَ من اخْتَارَ تَضْمِينَهُ أو يقضى بِهِ عليه
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا أو الْقَضَاءِ
بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ بَاعَهُ منه
فَلَا يَمْلِكُ
____________________
(7/144)
الرُّجُوعَ
بَعْدَ تَمْلِيكِهِ كما لو بَاعَهُ من الْأَوَّلِ فَأَمَّا قبل وُجُودِ الرِّضَا
أو الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ
لِأَنَّهُ بَاعَهُ منه فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمْلِيكِهِ كما لو
بَاعَهُ من الْأَوَّلِ
فَأَمَّا قبل وُجُودِ الرِّضَا أو الْقَضَاءِ فلم يُوجَدْ منه التَّمْلِيكُ من
أَحَدِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَمْلِكَهُ من أَيِّهِمَا شَاءَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ
الْغَاصِبِ الْآخَرِ أَظْهَرَ أَنَّهُ رَاضٍ بِأَخْذِ الْأَوَّلِ وأنه
بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ وَبِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْأَوَّلِ أَظْهَرَ أَنَّ
الثَّانِي ما أَتْلَفَ عليه شيئا لِأَنَّهُ لم يُفَوِّتْ يَدَهُ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ من الثَّانِي فَهَلَكَ في يَدِهِ
يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ
جَازَ بَيْعُهُ وَالثَّمَنُ له لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ
بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْبَائِعِ وَلَكِنَّهُ
يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عليه لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي من الْغَاصِبِ ثُمَّ
أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قِيَاسًا ولاخلاف في أَنَّهُ لو
بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ لَا
يَنْفُذُ الْبَيْعُ الثَّانِي
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما رُوِيَ عن رَسُول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا عِتْقَ فِيمَا لَا
يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ وَلَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي في الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مِلْكُ
الْمَغْصُوبِ منه فَلَا يَنْعَقِدُ إعْتَاقُهُ فيه فَيَنْفُذُ عليه عِنْدَ
الْإِجَازَةِ وَلِهَذَا لم يَنْفُذْ بَيْعُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي صَادَفَ مِلْكًا على
التَّوَقُّفِ فَيَنْعَقِدُ على التَّوَقُّفِ كَالْمُشْتَرِي من الْوَارِثِ عَبْدًا
من التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ إذَا أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَبْرَأَ
الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ عن دُيُونِهِمْ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا على التَّوَقُّفِ أَنَّ
سَبَبَ الْمِلْكِ انْعَقَدَ على التَّوَقُّفِ وهو الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الْخَالِي
عن الشَّرْطِ مِمَّنْ هو من أَهْلِ الْبَيْعِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ إلَّا أَنَّهُ لم
يَنْفُذْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْمَالِكِ وَلَا ضَرَرَ عليه في التَّوَقُّفِ
فَيَتَوَقَّفُ وإذا تَوَقَّفَ سَبَبُ الْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ
فَيَتَوَقَّفُ الْإِعْتَاقُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يَعْتَمِدُ شُرُوطًا أُخَرُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ مع قِيَامِ الْمِلْكِ
لِمَعْنَى الْغَرَرِ وفي تَوْقِيفِ نَفَاذِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ تَحْقِيقُ
مَعْنَى الْغَرَرِ
وَلَوْ أَوْدَعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ فَهَلَكَ في يَدِ الْمُودَعِ يَتَخَيَّرُ
الْمَالِكُ في التَّضْمِينِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ
على أَحَدٍ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَإِنْ ضَمَّنَ
الْمُودَعَ يَرْجِعُ على الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ فَيَرْجِعُ
عليه بِضَمَانِ الْغَرَرِ وهو ضَمَانُ الِالْتِزَامِ في الْحَقِيقَةِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُودَعُ فَالْجَوَابُ على الْقَلْبِ من الْأَوَّلِ
أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على
الْمُودِعِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ وَإِنْ ضَمَّنَ
الْمُودَعَ لم يَرْجِعْ على الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا
يَرْجِعُ على أَحَدٍ
وَلَوْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ أو رَهَنَهُ من إنْسَانٍ فَهَلَكَ في يَدِهِ
يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ على
الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ وَرَهَنَ مِلْكَ
نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ في الرَّهْنِ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ على ما هو
حُكْمُ هَلَاكِ الرَّهْنِ وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ أو الْمُرْتَهِنَ
يَرْجِعُ على الْغَاصِبِ بِمَا ضَمَّنَ وَالْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِدَيْنِهِ
أَيْضًا
أَمَّا رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ فَلَا شَكّ فيه لِصَيْرُورَتِهِ
مَغْرُورًا وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ اسْتَفَادَ
مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَكِنْ بِعِوَضٍ وهو الْأُجْرَةُ فَيَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ
فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أو الْمُرْتَهِنُ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ
إلَّا أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ على الْمُسْتَأْجِرِ
وَالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَرَهَنَ
مِلْكَ نَفْسِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ وَإِنْ ضَمَّنَ
الْمُسْتَأْجِرَ أو الْمُرْتَهِنَ لم يَرْجِعْ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ
بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَعَارَهُ الْغَاصِبُ فَهَلَكَ في يَدِ الْمُسْتَعِيرِ يَتَخَيَّرُ
الْمَالِكُ وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على صَاحِبِهِ
أَمَّا الْغَاصِبُ فَلَا شَكّ فيه لِأَنَّهُ أعاد ( ( ( أعار ) ) ) مِلْكَ
نَفْسِهِ فَهَلَكَ في يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّهُ
اسْتَفَادَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فلم يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ مَنَافِعُ الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ إنها
لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مَضْمُونَةٌ نَحْوُ ما إذَا غَصَبَ عَبْدًا أو دَابَّةً فَأَمْسَكَهُ أَيَّامًا
ولم يَسْتَعْمِلْهُ ثُمَّ رَدَّهُ على مَالِكِهِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ تَفْوِيتُ
يَدِ الْمَالِكِ عن الْمَنَافِعِ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا
على حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ على يَدِ الْغَاصِبِ
لم تَكُنْ مَوْجُودَةً في يَدِ الْمَالِكِ فلم يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ
عنها فلم يُوجَدْ الْغَصْبُ وَعِنْدَهُ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ على
مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وقد وُجِدَ في الْمَنَافِعِ
وَالْمَنْفَعَةِ مَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عنها في
الْإِجَارَةِ وَتَصْلُحُ مَهْرًا في النِّكَاحِ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ فيها
فَيَجِبُ الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ دَارًا أو عَقَارًا فإنهدم شَيْءٌ من
____________________
(7/145)
الْبِنَاءِ
أو جاء سَيْلٌ فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ أو غَلَبَ الْمَاءُ على
الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ يَضْمَنُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وأما الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ في تَحْدِيدِ الْغَصْبِ أَنَّهُ
إثْبَاتُ الْيَدِ على مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وَهَذَا يُوجَدُ
في الْعَقَارِ كما يُوجَدُ في الْمَنْقُولِ
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ في حَدِّ
الْغَصْبِ أَنَّهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عن مَالِهِ وَالْفِعْلُ في الْمَالِ
ليس بِشَرْطٍ وقد وُجِدَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عن الْعَقَارِ لِأَنَّ ذلك
عِبَارَةٌ عن إخْرَاجِ الْمَالِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ
الْمَالِكِ أو إعْجَازِ الْمَالِكِ عن الِانْتِفَاعِ بِهِ
وَهَذَا كما يُوجَدُ في الْمَنْقُولِ يُوجَدُ في الْعَقَارِ فَيَتَحَقَّقُ
الْغَصْبُ وَالدَّلِيلُ عليه مَسْأَلَةٌ ذَكَرْنَاهَا في الرُّجُوعِ عن
الشَّهَادَاتِ وَهِيَ إن من ادَّعَى على آخَرَ دَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ
رَجَعَا يَضْمَنَانِ كما لو كانت الدَّعْوَى في الْمَنْقُولِ فَقَدْ سَوَّى بين
الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ في ضَمَانِ الرُّجُوعِ فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ
لِلضَّمَانِ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا جميعا
وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوَسَّفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمَرَّا على
أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عن مَالِهِ بِفِعْلٍ في
الْمَالِ ولم يُوجَدْ في الْعَقَارِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ
الْغَصْبِ فإن أَخْذَ الضَّمَانِ من الْغَاصِبِ تَفْوِيتُ يَدِهِ عنه بِفِعْلٍ في
الضَّمَانِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ مِثْلِهِ منه في الْمَغْصُوبِ لِيَكُونَ
اعْتِدَاءً المثل ( ( ( بالمثل ) ) ) وَعَلَى أَنَّهُمَا إنْ سَلَّمَا تَحَقَّقَ
الْغَصْبُ في الْعَقَارِ فَالْأَصْلُ في الْغَصْبِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ من الْغَاصِبِ إتْلَافُ مَالِهِ
عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَزُولُ يَدُهُ وَمِلْكُهُ عن الضَّمَانِ فَيَسْتَدْعِي
وُجُودَ الْإِتْلَافِ منه إمَّا حَقِيقَةً أو تَقْدِيرًا لِأَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى لم يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ولم يُوجَدْ ههنا الْإِتْلَافُ من
الْغَاصِبِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِأَنَّ ذلك بالعقل ( (
( بالنقل ) ) ) وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّغْيِيبِ عن الْمَالِكِ على وَجْهٍ لَا
يَقِفُ على مَكَانِهِ وَلِهَذَا لو حَبَسَ رَجُلًا حتى ضَاعَتْ مَوَاشِيهِ
وَفَسَدَ زَرْعُهُ لَا ضَمَانَ عليه وَالْعَقَارُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ
وَالتَّحْوِيلَ فلم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيَنْتَفِي
الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ النَّصِّ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ إذَا غَصَبَ عَقَارًا فَجَاءَ إنْسَانٌ فَأَتْلَفَهُ
فَالضَّمَانُ على الْمُتْلِفِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَتَحَقَّقُ في
الْعَقَارِ فَيُعْتَبَرُ الْإِتْلَافُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ
فيه فَيَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ فَالْغَاصِبُ
يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُتْلِفِ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُتْلِفِ لَا
يَرْجِعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا من مَنَعَهَا
وقال إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ بَنَى الْجَوَابَ على أَصْلِ نَفْسِهِ
فَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنَانِ وَمِنْهُمْ من سَلَّمَ وَلَا بَأْسَ
بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ ضَمَانَ الرُّجُوعِ ضَمَانُ إتْلَافٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ
وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا من أَهْلِهِ فَمَاتَ في
يَدِهِ من غَيْرِ آفَةٍ أَصَابَتْهُ بِأَنْ مَرِضَ في يَدِهِ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا
يَضْمَنُ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَغْصُوبِ مَالًا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ
وَالْحُرُّ ليس بِمَالٍ
وَلَوْ مَاتَ في يَدِهِ بِآفَةٍ بِأَنْ عَقَرَهُ أَسَدٌ أو نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ
وَنَحْوُ ذلك يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منه تَسْبِيبًا وَالْحُرُّ يَضْمَنُ
بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً وَتَسْبِيبًا على ما نَذْكُرهُ في مَسَائِلِ
الْإِتْلَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَهَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالٌ
مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِهِ إذَا كان مُدَبَّرًا
مُطْلَقًا مع كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ
لِلْحَالِ وفي الْبَيْعِ إبْطَالُ السَّبَبِ على ما عُرِفَ وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ
مُكَاتَبًا فَهَلَكَ في يَدِهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على
لِسَانِ رسول اللَّهِ فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ
بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَكَانَ مَضْمُونًا
بِالْغَصْبِ كَالْمُكَاتَبِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنُ وَالْحُرُّ
لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ
وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ إنْسَانٌ فَهَلَكَتْ عنده ( ( ( عندهم ) ) ) لم
يَضْمَنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَأُمُّ
الْوَلَدِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا بِالْقَبْضِ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ
وَلَا بِالْإِعْتَاقِ كَجَارِيَةٍ بَيْن رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَيَاهُ جميعا ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شيئا
وَلَا تَسْعَى هِيَ في شَيْءٍ أَيْضًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ في ذلك
كُلِّهِ كَالْمُدَبَّرِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هل هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ من حَيْثُ
إنَّهَا مَالٌ أَمْ لَا وَلَا خِلَافَ أنها مُتَقَوِّمَةٌ بِالْقَتْلِ وَلَا
خِلَافَ في أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنه ( ( ( أنها ) ) ) كانت مَالًا مُتَقَوِّمًا
وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُوجِبُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ لِأَنَّهُ
____________________
(7/146)
لَا
يَثْبُتُ بِهِ إلَّا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فإنه لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ
وَالتَّقَوُّمَ كما في الْمُدَبَّرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الِاسْتِيلَادَ إعْتَاقٌ لِمَا
رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في جَارِيَتِهِ
مَارِيَةَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ
لِلْحَالِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ في حَقِّ بَعْضِ
الْأَحْكَامِ فَمَنْ ادَّعَى التَّأَخُّرَ في حَقِّ سُقُوطِ الْمَالِيَّةِ
وَالتَّقَوُّمِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ ليس بِإِعْتَاقٍ لِلْحَالِ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ
الْعِتْقُ لِلْحَالِ أَصْلًا وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ لِلْحَالِ مُبَاشَرَةُ
سَبَبِ الْعِتْقِ من غَيْرِ عِتْقٍ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمَالِيَّةِ
وَالتَّقْوِيمِ وَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لِذِمِّيٍّ أو لِمُسْلِمٍ
فَهَلَكَ في يَدِهِ أو اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وَلَوْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ وَصَارَ مَالًا فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ أو خِنْزِيرًا له
فَهَلَكَ في يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ كان الْغَاصِبُ مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
وَكَذَا الْخِنْزِيرُ فَلَا يَضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا أو
خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ فَهَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ سَوَاءٌ كان الْغَاصِبُ
ذِمِّيًّا أو مُسْلِمًا غير أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كان ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ في
الْخَمْرِ مِثْلُهَا وفي الْخِنْزِيرِ قِيمَتُهُ وَإِنْ كان مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ
الْقِيمَةُ فِيهِمَا جميعا
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا ضَمَانَ على غَاصِبِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَائِنًا من
كان
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ في حَقِّ
الناس كَافَّةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في صِفَةِ الْخُمُورِ إنه {
رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَصِفَةُ الْمَحَلِّ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الشَّخْصِ
وَقَوْلُهُ عليه السلام حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَعَيْنِهَا أَخْبَرَ عليه السلام
كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً وَجَعَلَ عِلَّةَ حُرْمَتِهَا عَيْنَهَا فَتَدُورُ
الْحُرْمَةُ مع الْعَيْنِ
وإذا كانت مُحَرَّمَةً لَا تَكُونُ مَالًا لِأَنَّ الْمَالَ ما يَكُونُ
مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال في الحديث الْمَعْرُوفِ فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ
لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ
الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ منه خَلُّهُ وَشَاتُه وَنَحْوُ ذلك إذَا هَلَكَ في يَدِ
الْغَاصِبِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ منه
خَمْرُهُ أو خِنْزِيرُهُ لِيَكُونَ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِظَاهِرِ
الحديث
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا
قالوا الْخَمْرُ مُبَاحٌ في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ
فَالْخَمْرُ في حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ في حَقِّنَا وَالْخِنْزِيرُ في حَقِّهِمْ
كَالشَّاةِ في حَقِّنَا في حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا في حَقِّهِمْ
وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ في حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُنْتَفَعٌ بِهِ
حَقِيقَةً لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ وَالْأَصْلُ في
أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هو الْإِطْلَاقُ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ في حَقِّ
الْمُسْلِمِ تَثْبُتُ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى أو مَعْقُول الْمَعْنَى
لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ ههنا أو يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا
الْحُرْمَةَ وهو قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عن ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لِأَنَّ
الصَّدَّ لَا يُوجَدُ في الْكَفَرَةِ وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ
الْوُقُوعِ وَلِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ
الْهَلَاكِ
وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ في
حَقِّهِمْ وَبَعْضُهُمْ قالوا إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ كما هِيَ
ثَابِتَةٌ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ
هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا وهو الصَّحِيحُ من الْأَقْوَالِ على ما عُرِفَ في
أُصُولِ الْفِقْهِ
وَعَلَى هذا طَرِيقُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا في الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضِ أَنْ تَصِيرَ
مَالًا مُتَقَوِّمًا في الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلُ وَوُجُوبُ
ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ
وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا في الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ على ذلك لِلْحَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وما لَا مَنْفَعَةَ له في الْحَالِ
مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعْنَا عن التَّعَرُّضِ لهم بِالْمَنْعِ عن شُرْبِ
الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قال أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وما يَدِينُونَ
وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ
وقد دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ
التَّعَرُّضِ لهم في ذلك وَبَقِيَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي
إلَى التَّعَرُّضِ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أو
أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ على ذلك وفي ذلك مَنْعُهُمْ
وَتَعَرُّضٌ لهم من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ كان لِمُسْلِمٍ خَمْرٌ غَصَبَهَا ذِمِّيٌّ أو مُسْلِمٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَ
الْغَاصِبِ أو خَلَّلَهَا فَلَا ضَمَانَ عليه وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَضْمَنُ
خَلًّا مِثْلَهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ولم يُوجَدْ من الْغَاصِبِ صُنْعٌ آخَرُ لِأَنَّ الْهَلَاكَ
ليس من صُنْعِهِ فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ وُجِدَ منه
____________________
(7/147)
صُنْعٌ
آخَرُ سِوَى الْغَصْبِ وهو إتْلَافُ خَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَغْصُوبِ منه فَيَضْمَنُ
وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ من نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا له فَهَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ
قِيمَتَهُ صَلِيبًا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ على ذلك
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اسْتَخْدَمَ عبد رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو
بَعَثَهُ في حَاجَةٍ أو قَادَ دَابَّةً له أو سَاقَهَا أو رَكِبَهَا أو حَمَلَ
عليها بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا إنه ضَامِنٌ بِذَلِكَ سَوَاءٌ عَطِبَ في تِلْكَ
الْخِدْمَةِ أو في مُضِيِّهِ في حَاجَتِهِ أو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ لِأَنَّ يَدَ
الْمَالِكِ كانت ثَابِتَةً عليه وإذا أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عليه فَقَدْ
فَوَّتَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ
وَلَوْ دخل دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ في الدَّارِ أَحَدٌ فَهَلَكَ
في يَدِهِ لم يَضْمَنْ في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ جَلَسَ على فِرَاشِ غَيْرِهِ أو بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
فَهَلَكَ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ فِيمَا
يَحْتَمِلُ النَّقْلَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النَّقْلِ فلم يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ
فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْغَصْبِ فَلَهُ في الْأَصْلِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْإِثْمُ وَاسْتِحْقَاقُ
الْمُؤَاخَذَةِ إذَا فَعَلَهُ عن عِلْمٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَارْتِكَابُ
الْمَعْصِيَةِ على سَبِيلِ التَّعَمُّدِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَاخَذَةِ
وقد رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من غَصَبَ شِبْرًا من
أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى من سَبْعِ أَرَضِينَ يوم الْقِيَامَةِ وَإِنْ
فَعَلَهُ لَا عن عِلْمٍ بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عليه
لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيّ
بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا
أو أَخْطَأْنَا وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي
الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ هَلَاكِهِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ نُقْصَانِهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ
زِيَادَتِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ فَهُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ على
الْغَاصِبِ وَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِع في بَيَانِ
سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَصِيرُ
الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا
أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّ وَقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْخُذُ أحدكم مَالَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا وَلَا
جَادًّا فإذا أَخَذَ أحدكم عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّ عليه وَلِأَنَّ الْأَخْذَ
على هذا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ وَالرَّدْعُ عن الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ
بِرَدِّ الْمَأْخُوذِ وَيَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ كما يَجِبُ
رَدُّ الْأَصْلِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ فيه وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ على
الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فإذا وَجَبَ عليه الرَّدُّ وَجَبَ
عليه ما هو من ضَرُورَاتِهِ كما في رَدِّ الْعَارِيَّةِ
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ الرَّدِّ فَقِيَامُ الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ حتى
لو هَلَكَ في يَدِهِ أو اُسْتُهْلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً
يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ من الرَّدِّ إلَى الضَّمَانِ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا
يَحْتَمِلُ الرَّدَّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمَغْصُوبُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا الْغَاصِبُ
أو نَوَاةً فَغَرَسَهَا حتى صَارَتْ شَجَرَةً أو بَيْضَةً فَحَضَنَهَا حتى صَارَتْ
دَجَاجَةً أو قُطْنًا فَغَزَلَهُ أو غَزْلًا فَنَسَجَهُ أو ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ أو
خَاطَهُ قَمِيصًا أو لَحْمًا فَشَوَاهُ أو طَبَخَهُ أو شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا
أو طَبَخَهَا أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أو سِمْسِمًا
فَعَصَرَهُ أو عِنَبًا فَعَصَرَهُ أو حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا أو سِكِّينًا أو
صُفْرًا أو نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً أو تُرَابًا له قِيمَةٌ فَلَبِنَهُ أو
اتَّخَذَهُ خَزَفًا أو لَبَنًا فَطَبَخَهُ آجِرًا وَنَحْوَ ذلك أَنَّهُ ليس
لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شيئا من ذلك عِنْدَنَا وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ
الْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ذَاتَ الْمَغْصُوبِ وَعَيْنَهُ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ
الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا فَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ
الِاسْتِرْدَادِ كما إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ ولم يَخِطْهُ أو صِبْغَهُ
أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْمَغْصُوبِ كان ثَابِتًا لِلْمَالِكِ
وَالْعَارِضُ وهو فِعْلُ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ
الْمِلْكِ له فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ فَيَبْقَى الْمَغْصُوبُ على مِلْكِ
الْمَالِكِ فَتَبْقَى له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ في هذه الْمَوَاضِعِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا
لِلْمَغْصُوبِ
إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عنه
وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
كما إذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً وَدَلَالَةُ تَحَقُّقِ الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ
الْمَغْصُوبَ قد تَبَدَّلَ وَصَارَ شيئا آخَرَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى
وَإِيجَادِهِ لِأَنَّهُ لم تَبْقَ صُورَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ له في
بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا اسْمُهُ وَقِيَامُ الْأَعْيَانِ بِقِيَامِ صُوَرِهَا
____________________
(7/148)
وَمَعَانِيهَا
الْمَطْلُوبَةِ منها وفي بَعْضِهَا إنْ بَقِيَتْ الصُّورَةُ فَقَدْ فَاتَ
مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ له الْمَطْلُوبُ منه عَادَةً فَكَانَ فِعْلُهُ
اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى فَيَبْطُلُ حَقُّ
الِاسْتِرْدَادِ إذْ الْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ كَالْهَالِكِ
الْحَقِيقِيِّ وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ
لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى في الْهَالِكِ كما في الْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ
فَتَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ يُوجِبُ
ضَمَانَ الْمِثْلِ أو الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ لِوُقُوعِهِ اعْتِدَاءً عليه أو
إضْرَارًا بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ عن الْمَغْصُوبِ لِمَا
نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالضَّمَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ في
الْمَضْمُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ وهو إثْبَاتُ
الْمِلْكِ على مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ
الذي هو سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مُبَاحٌ لَا حَظَرَ فيه فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ
الْمِلْكُ بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ لَبَنًا أو آجِرًا أو سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا
في بِنَائِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ عِنْدَنَا وَتَصِيرُ مِلْكًا
لِلْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ على
أَصْلِهِ الْمَعْهُودِ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ
مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِكَوْنِ الْمِلْكِ
نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَبَقِيَ مِلْكُ
الْمَغْصُوبِ منه كما كان
وَلَنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ في الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ صَارَ
شيئا آخَرَ غير الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ إذْ الْمَطْلُوبُ من
الْمُرَكَّبِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ من الْمُفْرَدِ فَصَارَ بها تَبَعًا له فَكَانَ
الْإِدْخَالُ إهْلَاكًا مَعْنًى فَيُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ منه
وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِنَقْضِ
الْبِنَاءِ وَالْمَالِكُ وَإِنْ كان يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَيْضًا
لَكِنْ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَكَانَ
ضَرَرُ الْغَاصِبِ أَعْلَى فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ
وَلِهَذَا لو غَصَبَ من آخَرَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أو دَابَّتِهِ
يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ كَذَا هذا
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ ما
إذَا بَنَى الْغَاصِبُ في حَوَالِي السَّاجَةِ لَا على السَّاجَةِ فَأَمَّا إذَا
بَنَى على نَفْسِ السَّاجَةِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ بَلْ يُنْقَضُ وهو
اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ
الْبِنَاءَ إذَا لم يَكُنْ على نَفْسِ السَّاجَةِ لم يَكُنْ الْغَاصِبُ
مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ لِيُنْقَضَ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي وإذا كان الْبِنَاءُ
عليها كان مُتَعَدِّيًا على السَّاجَةِ فَيُزَالُ تَعَدِّيهِ بِالنَّقْضِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ في الْمَوْضِعَيْنِ وَالْخِلَافُ في الْفَصْلَيْنِ
ثَابِتٌ لِأَنَّهُ كيفما كان لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ السَّاجَةِ إلَّا بِنَقْضِ
الْبِنَاءِ وَلُزُومِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ
هذا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ حتى لو كان يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِدُونِ ذلك لَا
يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ
وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ في حَيَاةِ الْغَاصِبِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ كان صَاحِبُ
هذه الْأَشْيَاءِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ في الثَّمَن فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ
بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ مِلْكَهُ قد زَالَ عن الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ فَبَطَلَ
اخْتِصَاصُهُ بِالْعَيْنِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ خُوصًا فَجَعَلَهُ زِنْبِيلًا لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ منه
عليه وهو بِمَنْزِلَةِ السَّاجَةِ إذَا جَعَلَهَا بِنَاءً
وَلَوْ غَصَبَ نَخْلَةً فَشَقَّهَا فَجَعَلَهَا جُذُوعًا كان له أَنْ يَأْخُذَ
الْجُذُوعَ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ
الْأَجْزَاءَ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ إذَا قَطَعَهُ ولم يَخِطْهُ
وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرْسَ فيها لَا يَنْقَطِعُ مِلْكُ
الْمَالِكِ وَيُقَالُ لِلْغَاصِبِ اقلع الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا
فَارِغَةً لِأَنَّ الْأَرْضَ بِحَالِهَا لم تَتَغَيَّرْ ولم تَصِرْ شيئا آخَرَ
أَلَا تَرَى أنها لم تَتَرَكَّبْ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا جَاوَرَهَا الْبِنَاءُ
وَالْغَرْسُ بِخِلَافِ السَّاجَةِ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ من جُمْلَةِ
الْبِنَاءِ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ يسمى الْكُلَّ بِنَاءً وَاحِدًا فَإِنْ كانت الْأَرْضُ
تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذلك فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ له قِيمَةَ الْبِنَاءِ
وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونُ له الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ لِأَنَّ الْغَاصِبَ
يَتَضَرَّرُ بِالْمَنْعِ من التَّصَرُّفِ في مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ
وَالْمَالِكُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِنُقْصَانِ مِلْكِهِ فَلَزِمَ رِعَايَةَ
الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا
وَلَوْ غَصَبَ تِبْرَ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ فَصَاغَهُ إنَاءً أو ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ
أو دَنَانِيرَ فَلِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يُعْطِيَهُ شيئا
لِأَجْلِ الصِّيَاغَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي قَوْلِهِمَا
لَا سَبِيلَ له على ذلك وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ ما غَصَبَ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا سَبَكَهُ ولم يَصُغْهُ أو جَعَلَهُ مُرَبَّعًا أو
مُطَوَّلًا أو مُدَوَّرًا أَنَّ له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَلَا شَيْءَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صُنْعَ الْغَاصِبِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا لِأَنَّ
الْمَغْصُوبَ بِالصِّيَاغَةِ صَارَ شيئا آخَرَ فَأَشْبَهَ ما إذَا غَصَبَ حَدِيدًا
فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا أو سِكِّينًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ من أَنْ يَكُونَ
مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَوْضُوعَةً له مَطْلُوبَةً منه عَادَةً ولم يُوجَدْ
ههنا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثمينة ( ( ( الثمنية ) ) )
وَهِيَ بَاقِيَةٌ بعدما اسْتَحْدَثَ الصَّنْعَةَ فلم يَتَحَقَّقْ الِاسْتِهْلَاكُ
فَبَقِيَ على مِلْكِ الْمَغْصُوبِ منه
وَلَوْ غَصَبَ صُفْرًا أو نُحَاسًا أو حَدِيدًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً يُنْظَرُ
____________________
(7/149)
إنْ
كان يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ بِالضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ عن حَدِّ الْوَزْنِ وَإِنْ كان
يُبَاعُ عَدَدًا ليس له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن
كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِمَا
أَصْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ سُقُوطُهُ أَبَدًا
وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ ولم يَخِطْهُ أو شَاةً فَذَبَحَهَا ولم
يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إذْ الذَّبْحُ ليس
بِاسْتِهْلَاكٍ بَلْ هو تَنْقِيصٌ وَتَعْيِيبٌ فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ
بَلْ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالِكَ يَصِيرُ
مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عليه لِأَنَّهُ صَارَ مَغْصُوبًا
بِتَفْوِيتِ يَدِهِ عنه فإذا أَثْبَتَ يَدَهُ عليه فَقَدْ أَعَادَهُ إلَى يَدِهِ
فَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ ثَانِيًا
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ إذَا كان الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ
أو ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أو دَابَّةً فَرَكِبَهَا أو حَمَلَ عليها صَارَ
مُسْتَرِدًّا له وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ من الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ
عَلِمَ الْمَالِكُ أَنَّهُ مِلْكُهُ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ على
الْعَيْنِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ أو الْجَهْلِ وَلِهَذَا لم
يَكُنْ الْعِلْمُ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا
لِبُطْلَانِهِ وَكَذَلِكَ لو كان طَعَامًا فَأَكَلَهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ
عليه فَبَطَلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ وَكَذَا إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عن
الضَّمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ غَرَّهُ في ذلك حَيْثُ أَطْعَمَهُ ولم يُعْلِمْهُ أَنَّهُ
مِلْكُهُ فَلَا يَسْقُطُ عنه الضَّمَانُ
وَلَنَا أَنَّهُ أَكْلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ على
غَيْرِهِ كما لو كان في يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتَهْلَكَهُ
وَقَوْلُهُ غَرَّهُ الْغَاصِبُ مَمْنُوعٌ بَلْ هو الذي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ
تَنَاوَلَ من غَيْرِ بَحْثٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ أو مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالْمُغْتَرُّ
بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ على غَيْرِهِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَآجَرَهُ من الْغَاصِبِ لِلْخِدْمَةِ أو ثَوْبًا
فَآجَرَهُ منه لِلُبْسِ أو دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَقَبِلَ الْغَاصِبُ الْإِجَارَةَ
برىء عن الضَّمَانِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا صَحَّتْ صَارَتْ يَدُ الْغَاصِبِ
على الْمَحَلِّ يَدَ إجَارَةٍ وَأَنَّهَا يَدٌ مُحِقَّةٌ فَتَبْطُل يَدُ الْغَصْبِ
ضَرُورَةً فَيَبْرَأُ عن الضَّمَانِ حين وَجَبَتْ عليه الْإِجَارَةُ
بِالْإِجَارَةِ
وَقَالُوا في الْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ من مَوْلَاهُ
لِيَبْنِيَ له حَائِطًا مَعْلُومًا إنه يَسْقُطُ ضَمَانُ الْغَصْبِ حين يبتدىء
بِالْبِنَاءِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عن الضَّمَانِ في الْمَوْضِعَيْنِ جميعا
مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ وَالْأُجْرَةُ في اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ
وَالثَّوْبِ تَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ وَهَهُنَا تَجِبُ
بِالْعَمَلِ لَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ
لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَلَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ من الْغَاصِبِ لَا يَبْرَأُ عن
الضَّمَانِ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يَبْرَأُ بِنَاءً على أَنَّ الْمُشْتَرِي هل يَصِيرُ قَابِضًا
بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ في
بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ لِتَعْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَمَلًا من الْأَعْمَالِ
فَهُوَ جَائِزٌ لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْعَبْدِ وَلَا يَبْرَأُ
الْغَاصِبُ عن الضَّمَانِ بَلْ هو في يَدِ الْغَاصِبِ على ضَمَانِهِ حتى لو هَلَكَ
قبل أَنْ يَأْخُذَ في ذلك الْعَمَلِ أو بَعْدَهُ ضَمِنَ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَأْجِرْهُ لِغَسْلِ الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ
الْإِجَارَةَ ههنا ما وَقَعَتْ على الْمَغْصُوبِ فلم تَثْبُتْ يَدُ الْإِجَارَةِ
عليه لِتَبْطُلَ عنه يَدُ الْغَاصِبِ فَبَقِيَ في يَدِ الْغَصْبِ كما كان فَبَقِيَ
مَضْمُونًا كما كان بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الْمَغْصُوبِ على ما بَيَّنَّا
وإذا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ على الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ برىء
لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ من وَجْهٍ فَيَصِحُّ الرَّدُّ عليه وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا
وُجُوبُ الضَّمَانِ على الْغَاصِبِ وَالثَّانِي مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُونَ
أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ الكلام ( ( ( فالكلام ) ) ) فيه في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِ
وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عن عُهْدَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له
مِثْلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ
كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَعَلَى
الْغَاصِبِ مِثْلُهُ لِأَنَّ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ
وَالِاعْتِدَاءُ لم يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه
بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالْمِثْلُ الْمُطْلَقُ هو الْمِثْلُ صُورَةً
وَمَعْنًى فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ
وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ
وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْلِ أَكْمَلُ منه من الْقِيمَةِ فَلَا يَعْدِلُ عن
الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ
لَا بِالْمِثْلِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ
الْمُتَفَاوِتَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ
صُورَةً وَمَعْنًى لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له فَيَجِبُ
____________________
(7/150)
الْمِثْلُ
مَعْنًى وهو الْقِيمَةُ لِأَنَّهَا الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ
وَالْأَصْلُ في ضَمَانِ الْقِيمَةِ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى في
عَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ
لِلَّذِي لم يُعْتَقْ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ في الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا في
إتْلَافِ كل ما لَا مِثْلَ له دَلَالَةً
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَشَرْطُ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ
وَالْقِيمَةِ على الْغَاصِبِ عَجْزُهُ عن رَدِّ الْمَغْصُوبِ فما دَامَ قَادِرًا
على رَدِّهِ على الْوَجْهِ الذي أخذ ( ( ( أخذه ) ) ) لَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ
لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هو وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ
لِأَنَّ بِالرَّدِّ يَعُودُ عَيْنُ حَقِّهِ إلَيْهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ
عنه من كل وَجْهٍ وَالضَّمَانُ خَلَفٌ عن رَدِّ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى
الْخَلَفِ عِنْدَ الْعَجْزِ عن رَدِّ الْأَصْلِ
وَسَوَاءٌ عَجَزَ عن الرَّدِّ بِفِعْلِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ أو بِفِعْلِ
غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ هَلَكَ
بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ لِأَنَّ
فِعْلَهُ ذلك لَا بِالْهَلَاكِ
لِأَنَّ الْهَلَاكَ ليس صُنْعَهُ لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ
لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَقَرَّرُ الْعَجْزُ عن رَدِّ الْعَيْنِ فَيَتَقَرَّرُ
الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ ولم
يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ منه إنه يَطْلُبُ منه بَيِّنَةً
فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا حَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةً يَغْلِبُ على ظَنِّهِ
أَنَّهُ لو كان في يَدِهِ لَأَظْهَرَهُ ثُمَّ قَضَى عليه بِالضَّمَانِ لِأَنَّ
بِذَلِكَ ثَبَتَ عَجْزُهُ عن رَدِّ الْعَيْنِ فَيُحْبَسُ
كَمَنْ كان عليه دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ
وَمِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا
في أَيْدِي النَّاس حتى لو غَصَبَ شيئا له مِثْلٌ ثُمَّ انْقَطَعَ عن أَيْدِي
الناس لَا يُخَاطَبُ بِأَدَائِهِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ ليس بِمَقْدُورٍ بَلْ
يُخَاطَبُ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ اخْتَصَمَا في حَالِ انْقِطَاعِهِ عن أَيْدِي الناس فَقَدْ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ
قال أبو حَنِيفَةَ يُحْكَمُ على الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يوم يَخْتَصِمُونَ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يوم الْغَصْبِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يوم الِانْقِطَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْغَصْبَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ على الْغَاصِبِ وَالْمَصِيرُ
إلَى الْقِيمَةِ لِلتَّعَذُّرِ وَالتَّعَذُّرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ
فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الِانْقِطَاعِ
كما لو اسْتَهْلَكَهُ في ذلك الْوَقْتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ ضَمَانِ
الْمِثْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ هو الْغَصْبُ
وَالْحُكْمُ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ كان مِثْلَ
الْمَغْصُوبِ وَبِالِانْقِطَاعِ عن أَيْدِي الناس لم يَبْطُلْ الْوَاجِبُ لِأَنَّ
الْأَصْلَ أَنَّ ما ثَبَتَ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ وَتَوَهُّمُ
الْعَوْدِ هَهُنَا ثَابِتٌ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَخْتَارَ الإنتظار
إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهِ فَيَأْخُذَ الْمِثْلَ وإذا بَقِيَ الْمِثْلُ وَاجِبًا
بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّمَا انتقل ( ( ( ينتقل ) ) ) حَقُّهُ من الْمِثْلِ
إلَى الْقِيمَةِ بِالْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ
فَأَمَّا عِلْمُ الْغَاصِبِ بِكَوْنِ الْمَغْصُوبِ مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حتى لو أَخَذَ مَالًا على وَجْهٍ يَحِقُّ له
أَخْذُهُ ظَاهِرًا وفي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ كما إذَا اشْتَرَى شيئا أو مَلَكَهُ
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَتَصَرَّفَ فيه ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ
يَضْمَنُ لَكِنْ لَا إثْمَ عليه لِأَنَّ الْعِلْمَ ليس بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ
الْغَصْبِ وهو شَرْطُ ثُبُوتِ الْمُؤَاخَذَةِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَوَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ لِأَنَّ
الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْغَصْبِ وَوَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَقْتُ وُجُودِ
سَبَبِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ يوم الْغَصْبِ حتى لَا يَتَغَيَّرَ
بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ لم يَتَغَيَّرْ وَلَا تَغَيُّرِ
الْمَحَلِّ أَيْضًا لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قُلُوبِ عِبَادِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عن عُهْدَةِ الضَّمَانِ فَاَلَّذِي
يَخْرُجُ بِهِ عن عُهْدَتِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الضَّمَانِ إلَى
الْمَالِكِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في طَرِيقِ الْخُرُوجِ عن
عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهُ
وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ في يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي فَأَدَّى الْقِيمَةَ
إلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ في الرِّوَايَةِ
الْمَشْهُورَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَاءِ
الْقَاضِي
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عليه لِلْمَالِكِ فَلَا
يَسْقُطُ عنه إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الضَّمَانَ خَلَفٌ عن الْعَيْنِ قَائِمٌ
مَقَامَهُ ثُمَّ لو رَدَّ الْعَيْنَ برىء عن الضَّمَانِ فَكَذَا إذَا رَدَّ الْقِيمَةَ
لِأَنَّ ذلك رَدُّ الْعَيْنِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وهو
نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ودلالة ( ( ( دلالة ) ) )
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُكَ عن الضَّمَانِ أو
أَسْقَطْتُهُ عَنْكَ أو وَهَبْتُهُ مِنْكَ وما أَشْبَهَ ذلك فَيَبْرَأُ عن
الضَّمَانِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وهو من أَهْلِ الْإِسْقَاطِ
وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ فَيَسْقُطُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ
الْغَاصِبَيْنِ فَيَبْرَأُ الْآخَرُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا
إبْرَاءٌ لِلْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
____________________
(7/151)
فَيَبْرَأُ
إمَّا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أو بشريطه رِضَا من اخْتَارَ تَضْمِينَهُ أو
الْقَضَاءِ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عن ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ في يَدِهِ صَحَّ
الْإِبْرَاءُ وَسَقَطَ عنه الضَّمَانُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا
يُعْقَلُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كما كانت وإذا
هَلَكَتْ ضَمِنَ
وَلَنَا أَنَّ الْعَيْنَ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِ الْغَصْبِ لِأَنَّ
الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن الضَّمَانِ بَعْدَ
وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ
قبل الْمَوْتِ
وَلَوْ أَجَّلَ الْمَغْصُوبُ منه الْغَاصِبَ بِبَدَلِ الْغَصْبِ صَحَّ
التَّأْجِيلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالًا
بِالْقَرْضِ
وَلَنَا عَدَمَ اللُّزُومِ في الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِعَارَةِ
لِمَا بُيِّنَ في كِتَابِ الْقَرْضِ وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ في الْعَوَارِيّ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْغَصْبِ فَيَلْزَمُهُ وَهَذَا لِأَنَّ
الْأَصْلَ هو لُزُومُ التَّأْجِيلِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ من أَهْلِهِ في
مَحَلِّهِ وهو الدَّيْنُ إلَّا أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ في بَابِ الْقَرْضِ
لِضَرُورَةِ الْإِعَارَةِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا فَيَلْزَمُ على الْأَصْلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُون فَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ سَبَبٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ
وَقْتِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ
اللَّهُ يَثْبُتُ إذَا كان الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلثُّبُوتِ ابْتِدَاءً
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ أَصْلًا حتى إن من غَصَبَ
عَبْدًا وَاكْتَسَبَ في يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ وَضَمِنَ
الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مِلْكٌ
لِلْمَالِكِ
وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ من يَدِ الْغَاصِبِ وَعَجَزَ عن رَدِّهِ
إلَى الْمَالِكِ فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ إلَى أَنْ
يَظْهَرَ وَإِنْ شَاءَ لم يَنْتَظِرْ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ وَلَوْ
ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَ صَاحِبُهُ
الْقِيمَةَ بِقَوْلِ نَفْسِهِ التي سَمَّاهَا وَرَضِيَ بها أو بِتَصَادُقِهِمَا
عليه أو بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ أو بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عن الْيَمِينِ فَلَا
سَبِيلَ له على الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِعَيْنِهِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا يَعُودُ على مِلْكِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا بُدَّ له من سَبَبٍ وَالْغَصْبُ لَا
يَصْلُحُ سَبَبًا لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ وَالْمِلْكُ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَلَا
يُسْتَفَادُ بِالْمَحْظُورِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ
وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْيَدَ الْفَائِتَةَ فَلَا تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ كما في
غَصْبِ الْمُدَبَّرِ
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ يَزُولُ عن الضَّمَانِ فَلَوْ لم يَزُلْ مِلْكُ
الْمَغْصُوبِ منه عن الْمَضْمُونِ لم يَكُنْ الِاعْتِدَاءُ بِالْمِثْلِ
وَلِأَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْغَاصِبِ عن الضَّمَانِ وَأَنَّهُ بَدَلُ
الْمَغْصُوبِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ وَمَلَكَ الْمَغْصُوبُ منه
الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ لو لم يَزُلْ مِلْكُهُ عن الْمَغْصُوبِ لَاجْتَمَعَ
الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ في مِلْكِ الْمَالِكِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وإذا زَالَ
مِلْكُ الْمَالِكِ عن الْمَغْصُوبِ فَالْغَاصِبُ أَثْبَتَ يَدَهُ على مَالٍ
قَابِلٍ لَلْمِلْكِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيه فَيَمْلِكُهُ كما يَمْلِكُ الْحَطَبَ
وَالْحَشِيشَ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِمَا
وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ ما هو سَبَبُ الْمِلْكِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا حَظْرَ فيه
فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ لَكِنْ لَا
يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ للمتملك ( ( ( التملك ) ) )
ابْتِدَاءً وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ اخْتَلَفَا في
الْقِيمَةِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ وَبِيَمِينِهِ
ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ منه
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِالْمَأْخُوذِ وَتَرَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ الْغَاصِبِ
وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَأْخُوذَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمَأْخُوذَ بَعْضُ بَدَلِ الْعَيْنِ لَا كُلُّهُ فلم يَمْلِكْ بَدَلَ
الْمَغْصُوبِ بِكَمَالِهِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَإِنْ أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَبْدِ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ حتى
يَأْخُذَ الْقِيمَةَ وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ في يَدِ الْغَاصِبِ قبل رَدِّ
الْقِيمَةِ لَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ من الْغَاصِبِ فَضْلَ
الْقِيمَةِ إنْ كان في قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ على ما أَخَذَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ
فيها فَضْلٌ فَلَا شَيْءَ له سِوَى الْقِيمَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْعَبْدُ
وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ
على ما بَيَّنَّا فَأَمَّا إذَا كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ ما قال الْغَاصِبُ أو
أَقَلَّ منه فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عليه
وَهَكَذَا فَصَّلَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ رضي بِزَوَالِ
مِلْكِهِ بهذا الْبَدَلِ وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَثْبَتَ الْخِيَارَ من غَيْرِ
تَفْصِيلٍ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَادَّعَى الْغَاصِبُ أنها حَدَثَتْ
بَعْدَ التَّضْمِينِ وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ منه أنها كانت قَبْلَهُ كان
الْجَصَّاصُ يقول من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إن الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّ
التَّمْلِيكَ قد صَحَّ فَلَا يَفْسَخُ الشَّكُّ
وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ لِأَنَّ
الْمِلْكَ في الضَّمَانِ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْغَصْبِ فَكَذَا
____________________
(7/152)
في
الْمَضْمُونِ فَيَظْهَرُ في الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ وَالرِّبْحِ وَأَمَّا شَرْطُ
ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْمَضْمُونِ فما هو شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الضَّمَانِ
وهو اخْتِيَارُ الضَّمَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمَغْصُوبُ
قبل اخْتِيَارِ الضَّمَانِ على حُكْمِ مِلْكِهِ عِنْدَهُ فإنه لو أَرَادَ أَنْ لَا
يَخْتَارَ الضَّمَانَ حتى يَهْلَكَ الْمَغْصُوبُ على مِلْكِهِ وَيَكُونُ له
ثَوَابُ هَلَاكِهِ على مِلْكِهِ وَيُخَاصِمُ الْغَاصِبَ في الْقِيمَةِ له ذلك
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الِاخْتِيَارِ في الضَّمَانِ وَالْمَضْمُونِ جميعا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى الصُّلْحُ عن الْمَغْصُوبِ الذي لَا مِثْلَ له على
إضعاف قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الْهَلَاكِ
عِنْدَهُمَا وهو مَالٌ مُقَدَّرٌ وَالزِّيَادَةُ عليه تَكُونُ رِبًا وَلَمَّا
تَوَقَّفَ الْوُجُوبُ على اخْتِيَارِ الْمَالِكِ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ منه
الِاخْتِيَارُ كان الصُّلْحُ تَقْدِيرًا لِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ هذا الْقَدْر
وَتَمْلِيكًا لِلْمَغْصُوبِ بِهِ كَأَنَّهُ بَاعَهُ من الْغَاصِبِ بِهِ فَجَازَ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْغَاصِبِ في الْمَضْمُونِ فَلَا خِلَافَ
بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ له يَظْهَرُ في حَقِّ نَفَاذِ
التَّصَرُّفَاتِ حتى لو بَاعَهُ أو وَهَبَهُ أو تَصَدَّقَ بِهِ قبل أَدَاءِ
الضَّمَانِ يَنْفُذُ كما تَنْفُذُ هذه التَّصَرُّفَاتُ في الْمُشْتَرَى شِرَاءً
فَاسِدًا
وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يُبَاحُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ
بِنَفْسِهِ أو يُطْعِمَهُ غَيْرَهُ قبل أَدَاءِ الضَّمَانِ فإذا حَصَلَ فيه فَضْلٌ
هل يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ حتى يرضى صَاحِبَهُ
وَإِنْ كان فَضْلٌ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ وَلَا يَلْزَمُهُ
التَّصَدُّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كان فيه فَضْلٌ وهو قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ وهو الْقِيَاسُ وَقَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ لَا شَكَّ فيه وهو مَمْلُوكٌ
لِلْغَاصِبِ من وَقْتِ الْغَصْبِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَلَا مَعْنَى
لِلْمَنْعِ من الِانْتِفَاعِ وَتَوْقِيفِ الْحِلِّ على رِضَا غَيْرِ الْمَالِكِ
كما في سَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَيَطِيبُ له الرِّبْحُ لِأَنَّهُ رِبْحُ ما هو
مَضْمُونٌ وَمَمْلُوكٌ وَرِبْحُ ما هو مَضْمُونٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَطِيبُ له
عِنْدَهُ لِمَا نَذْكُرُ فَرِبْحُ الْمَمْلُوكِ الْمَضْمُونِ أَوْلَى
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَضَافَهُ
قَوْمٌ من الْأَنْصَارِ فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَجَعَلَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْضُغُهُ وَلَا يُسِيغُهُ فقال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنَّ هذه الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أنها ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ
فَقَالُوا هذه الشَّاةُ لِجَارٍ لنا ذَبَحْنَاهَا لترضيه ( ( ( لنرضيه ) ) )
بِثَمَنِهَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى أَمَرَ
بِأَنْ يُطْعِمُوهَا الْأُسَارَى ولم يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا أَطْلَقَ
لِأَصْحَابِهِ الِانْتِفَاعَ بها
وَلَوْ كان حَلَالًا طَيِّبًا لَأَطْلَقَ مع خَصَاصَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ
إلَى الْأَكْلِ وَلِأَنَّ الطَّيِّبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وفي هذا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ من وَقْتِ الْغَصْبِ
بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ من وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ على
الْحَالِ من وَجْهٍ فَكَانَ في وُجُودِهِ من وَقْتِ الْغَصْبِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ
فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَالطَّيِّبُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ من وَجْهٍ حَصَلَ
بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ أو وَقَعَ مَحْظُورًا بِابْتِدَائِهِ فَلَا يَخْلُو من خُبْثٍ
وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ قبل الْإِرْضَاءِ يُؤَدِّي إلَى تَسْلِيطِ
السُّفَهَاءِ على أَكْلِ أَمْوَالِ الناس بِالْبَاطِلِ وَفَتْحِ بَابِ الظُّلْمِ
على الظَّلَمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ له
الِانْتِفَاعُ بِالدَّقِيقِ حتى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ
وَلَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرْعَهَا قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يُكْرَهُ له
أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ حتى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ قبل أَدَاءِ الضَّمَانِ
وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَظَاهِرُ هذا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ
على أَنَّ عِنْدَهُمَا يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حتى يَرْضَى صَاحِبُهُ
بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
وَفَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين الزَّرْعِ وَالطَّحْنِ فقال في الطَّحْنِ مِثْلَ
قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ حتى يرضى صَاحِبَهُ لِأَنَّ
الْحِنْطَةَ لم تَهْلَكْ بِالطَّحْنِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا من
التَّرْكِيبِ إلَى التَّفْرِيقِ فكان عَيْنَ الْحِنْطَةِ قَائِمَةٌ فَكَانَ حَقُّ
الْمَالِكِ فيها قَائِمًا خِلَافَ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلَكُ
بِالزِّرَاعَةِ لِأَنَّهُ يَغِيبُ في الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ مَالًا
مُتَقَوِّمًا فلم يَبْقَ لِلْمَالِكِ فيه حَقٌّ فلم يُكْرَهْ الِانْتِفَاعُ بِهِ
وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ غَصَبَ نَوًى فَصَارَ
نَخْلًا أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ كما في الْحِنْطَةِ إذَا زَرَعَهَا
وقال في الْوَدِيِّ إذَا غَرَسَهُ فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ
بِهِ حتى يرضى صَاحِبَهُ لِأَنَّ النَّوَى يَعْفَنُ وَيَهْلَكُ وَالْوَدِيُّ
يَزِيدُ في نَفْسِهِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا فَشَوَاهَا أَنَّهُ لَا
يَسَعُ له أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَا يُطْعِمَ أَحَدًا حتى يَضْمَنَ الْقِيمَةَ
وَإِنْ كان صَاحِبُهَا غَائِبًا أو حَاضِرًا لَا يَرْضَى بِالضَّمَانِ لَا يَحِلُّ
له أَكْلُهَا
وإذا دَفَعَ الْغَاصِبُ
____________________
(7/153)
قِيمَتَهَا
يَحِلُّ له الْأَكْلُ كَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ أو ضَمَّنَهُ
الْحَاكِمُ وَهَذَا عِنْدِي ليس بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ بَلْ هذه الرِّوَايَةُ
تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى لِأَنَّ قَوْلَهُ حتى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِحِلِّهِ
يَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَيَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ
بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مُفَسَّرٌ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ
على الْمُفَسَّرِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ حتى يُرْضِيَهُ على الْإِرْضَاءِ
بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ وَرِضَاهُ لَا على الْإِرْضَاءِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ قبل
اخْتِيَارِ الضَّمَانِ وَيَحِلُّ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أو لَا
وَهَذَا قَوْلُهُمَا وهو قِيَاسُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الشَّاةِ
الْمَشْوِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بها فَيَأْكُلُهَا وَيُطْعِمُهَا
من شَاءَ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَمْ لَا وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا
أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَحِلُّ له الْأَكْلُ
وَكَذَلِكَ إذَا أبرأ ( ( ( أبرأه ) ) ) عن الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ أو ضَمَّنَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ
الْقَاضِيَ لَا يُضَمِّنُهُ إلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ فَكَانَ منه اخْتِيَارًا
لِلضَّمَانِ وَرِضًا بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ
الْغَلَّةُ أَنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَالْغَلَّةَ له وَيَتَصَدَّقُ بها في
قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هِيَ طَيِّبَةٌ
أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ وَقَعَ إتْلَافًا
فَيَضْمَنُ قَدْرَ ما أَتْلَفَ وَيَطِيبُ له قَدْرُ الْمَضْمُونِ لِأَنَّ ذلك
الْقَدْرَ ليس بِرِبْحٍ وَالنَّهْيُ وَقَعَ عن الرِّبْحِ
وَأَمَّا الْغَلَّةُ فَلِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ لِلْمَالِكِ وَهِيَ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْمَنَافِعِ وقد مَرَّتْ في
مَوْضِعِهَا
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ الْأُجْرَةُ عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا
خَبِيثَةٌ لِحُصُولِهَا بِسَبَبٍ خَبِيثٍ فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن رِبْحِ ما لم
يُضْمَنْ وَهَذَا رِبْحٌ مَضْمُونٌ
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ
لِعَدَمِ الْمِلْكِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ فَوْقَ الضَّمَانِ
وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا كُرًّا فَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ
وَأَخْرَجَتْ ثَلَاثَةَ أَكْرَارٍ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذُ رَأْسَ
الْمَالِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ
أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ نَقَصَ الْأَرْضَ
بِالزِّرَاعَةِ وَذَلِكَ إتْلَافٌ منه وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ
بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهِيَ
الزِّرَاعَةُ في أَرْضِ الْغَصْبِ وَإِنْ كان الْبَذْرُ مِلْكًا له وَيَطِيبُ له
قَدْرُ النُّقْصَانِ وَقَدْرُ الْبَذْرِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ
عن الرِّبْحِ وَذَا ليس بِرِبْحٍ فلم يَحْرُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَبَاعَهَا
بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ
آلَافٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ في قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ رِبْحٌ
مَضْمُونٌ مَمْلُوكٌ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَمْلِكُهُ مُسْتَنِدًا
إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَمُجَرَّدُ الضَّمَانِ يَكْفِي لِلطَّيِّبِ فَكَيْفَ إذَا
اجْتَمَعَ الضَّمَانُ وَالْمِلْكُ وَهُمَا يَقُولَانِ الطَّيِّبَ كما لَا يَثْبُتُ
بِدُونِ الضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى وفي هذا
الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُفِيدُ
الطَّيِّبُ
وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أو
اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَكَلَهُ لم يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ
لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ له الرِّبْحُ وَلِأَنَّ الْخَبَثَ إنَّمَا يَثْبُتُ
بِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ وَالشُّبْهَةُ تُوجِبُ التَّصَدُّقَ إما لَا تُوجِبُ
التَّضْمِينَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا خَلَطَ الْمُسْتَوْدِعُ إحْدَى الْوَدِيعَتَيْنِ
بِالْأُخْرَى خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ يَصِيرُ مِلْكًا له
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ له حتى يرضى صَاحِبَهُ
على ما نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شيئا هل يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ
بِهِ أو يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ
ذلك على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ منها وأما
أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ من غَيْرِهَا وأما أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا
وَيَنْقُدَ منها وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ منها
وإذا ثَبَتَ الطَّيِّبُ في الْوُجُوهِ كُلِّهَا إلَّا في وَجْهٍ وَاحِدٍ وهو أَنْ
يَجْمَعَ بين الْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالنَّقْدِ منها
وَذَكَرَ أبو نَصْرٍ الصَّفَّارُ وَالْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
أَنَّهُ يَطِيبُ في الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ في الْوُجُوهِ كُلِّهَا وهو الصَّحِيحُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي نَصْرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
الْوَاجِبَ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مُطَلَّقَةٌ وَالْمَنْقُودَةُ
بَدَلٌ عَمَّا في الذِّمَّةِ أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا
عِنْدَ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ لَا تُفِيدُ
التَّعْيِينَ فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالْعَدَمِ فَكَانَ الْوَاجِبُ
في ذِمَّتِهِ دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً وَالدَّرَاهِمُ الْمَنْقُودَةُ بَدَلًا عنها
فَلَا يَخْبُثُ الْمُشْتَرَى وَالْكَرْخِيُّ كَذَلِكَ يقول إذَا لم تَتَأَكَّدْ
الْإِشَارَةُ بِمُؤَكَّدٍ وهو النَّقْدُ منها فإذا تَأَكَّدَتْ بِالنَّقْدِ منها
تَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى فَكَانَ
خَبِيثًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي بَكْرٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْحَرَامِ مِلْكًا من طَرِيقِ
الْحَقِيقَةِ أو الشُّبْهَةِ
____________________
(7/154)
فَيَثْبُتُ
الْخَبَثُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ
فَالْمُشَارُ إلَيْهِ إنْ كان لَا يَتَعَيَّنُ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ
يَتَعَيَّنُ في حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ بِمَعْرِفَةِ جِنْسِ النَّقْدِ وَقَدْرِهِ
فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى من وَجْهٍ نُقِدَ منها أو من غَيْرِهَا
وَإِنْ لم يُشِرْ إلَيْهَا وَنَقَدَ منها فَقَدْ اسْتَفَادَ بِذَلِكَ سَلَامَةَ
الْمُشْتَرَى فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فَيَخْبُثُ الرِّبْحُ وَإِطْلَاقُ
الْجَوَابِ في الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ دَلِيلُ صِحَّةِ هذا الْقَوْلِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اخْتَارَ الْفَتْوَى في زَمَانِنَا بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ
تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ على الناس لِازْدِحَامِ الْحَرَامِ وَجَوَابُ الْكُتُبِ أَقْرَبُ
إلَى التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلِأَنَّ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ مُسْتَحَقَّةُ الرَّدِّ على صَاحِبِهَا وَعِنْدَ
الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ فَتُبَيِّنَ أَنَّ
الْمُشْتَرَى كان مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فلم يَحِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ امْرَأَةً وَسِعَهُ أَنْ
يَطَأَهَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ
يَنْفَسِخُ الشِّرَاءُ وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً لَا يَسَعُهُ أَنْ
يَطَأهَا وَلَوْ تَزَوَّجَ عليه امْرَأَةً حَلَّ له وَطْؤُهَا لِمَا قُلْنَا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ نُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ فَالْكَلَامُ فيه في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَكُونُ مَضْمُونًا من النُّقْصَانِ وما
لَا يَكُونُ مَضْمُونًا منه
وَالثَّانِي في بَيَانِ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا عَرَضَ في يَدِ
الْغَاصِبِ ما يُوجِبُ نُقْصَانَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْعَارِضُ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ تغير ( ( ( بغير ) ) ) السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
فَوَاتَ جُزْءٍ من الْمَغْصُوبِ أو فَوَاتَ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها أو مَعْنًى
مَرْغُوبٍ فيه
فَإِنْ كان تغير ( ( ( بغير ) ) ) السِّعْرِ لم يَكُنْ مَضْمُونًا لِأَنَّ
الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ وَنُقْصَانُ السِّعْرِ ليس بِنُقْصَانِ
الْمَغْصُوبِ بَلْ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ في قُلُوبِ
الْعِبَادِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
وَإِنْ كان فَوَاتُ جُزْءٍ من الْمَغْصُوبِ أو فَوَاتُ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها أو
مَعْنًى مَرْغُوبٍ فيه فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من غَيْرِ
أَمْوَالِ الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من أَمْوَالِ الرِّبَا فَإِنْ كان من
غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا يَكُونُ مَضْمُونًا إذَا لم يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ منه
فيه صُنْعٌ وَلَا اخْتِيَارٌ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَغْصُوبِ صُورَةً
وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً وَهَلَاكُ كل الْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِكُلِّ
الْقِيمَةِ فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ
الْفَوَاتِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَقَطَ عُضْوٌ من الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو لَحِقَهُ زَمَانَةٌ أو عَرَجٌ أو شَلَلٌ أو عَمَى أو
عَوَرٌ أو صَمَمٌ أو بَكَمٌ أو حُمَّى أو مَرَضٌ آخَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ
الْمَوْلَى وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ لِوُجُودِ فَوَاتِ جُزْءٍ من الْبَدَنِ أو
فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها
وَلَوْ زَالَ الْبَيَاضُ من عَيْنِهِ في يَدِ الْمُولَى أو أَقْلَعَ الْحُمَّى
رَدَّ على الْغَاصِبِ ما أَخَذَهُ منه بِسَبَبِ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ
أَنَّ ذلك النُّقْصَانَ لم يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ
الْوُجُوبِ وهو الْعَجْزُ عن الِانْتِفَاعِ على طَرِيقِ الدَّوَامِ وَكَذَلِكَ لو
أَبَقَ الْمَغْصُوبُ من يَدِ الْغَاصِبِ من عَبْدٍ أو أَمَةٍ إذَا لم يَكُنْ
أَبَقَ قبل ذلك أو زَنَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ أو سَرَقَتْ إذَا لم تَكُنْ
زَنَتْ قبل ذلك لِفَوَاتِ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فيه وهو الصِّيَانَةُ عن هذه
الْقَاذُورَاتِ وَلِهَذَا كانت عُيُوبًا مُوجِبَةً لِلرَّدِّ في بَابِ الْبَيْعِ
وَجُعْلُ الْآبِقِ على الْمَالِكِ وَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ على الْغَاصِبِ قال أبو
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُرْجَعُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرْجَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجُعْلَ من ضَرُورَاتِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ
وَاجِبٌ على الْغَاصِبِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِعْطَاءِ الْجُعْلِ
فَكَانَ من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَيَكُونُ عليه مُؤْنَةُ الرَّدِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَجِبُ
بِحَقِّ الملك ( ( ( المالك ) ) ) وَالْمِلْكُ لِلْمَغْصُوبِ منه فَيَكُونُ
الْجُعْلُ عليه كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحَةِ وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ
أو الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ في يَدِ الْغَاصِبِ قَتِيلًا أو جَنَى على حُرٍّ
أو عَبْدٍ في نَفْسٍ أو ما دُونَهَا جِنَايَةً رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ وَيُقَالُ له
ادْفَعْهُ بِجِنَايَتِهِ أو افْدِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وَيَرْجِعُ الْمُولَى
على الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ هذا
الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِهِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ أو
الْفِدَاءِ وَيَرْجِعُ على الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِمَّا
أَدَّاهُ عنه من الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ في يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ
قِيمَتَهُ بِالْغَصْبِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ
قَتْلَهُ نَفْسَهُ هَدَرٌ فَصَارَ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ قَتَلَتْ وَلَدَهَا ثُمَّ
مَاتَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ
أَمَانَةٌ
وَكَذَلِكَ إذَا كَبِرَ الْمَغْصُوبُ في يَدِ الْغَاصِبِ من الْغُلَامِ
وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ غَصَبَ عَبْدًا شَابًّا فَشَاخَ في يَدِ الْغَاصِبِ أو
جَارِيَةً شَابَّةً فَصَارَتْ
____________________
(7/155)
عَجُوزًا
في يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ لِأَنَّ الْكِبَرَ يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ أو
صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَانْكَسَرَ
ثَدْيُهَا في يَدِ الْغَاصِبِ لِأَنَّ نُهُودَ الثَّدْيَيْنِ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ
فيها
أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ عز وجل { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا }
وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ لِلْأَمْرَدِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ لِأَنَّهُ ليس
بِنُقْصَانٍ بَلْ هو زِيَادَةٌ في الرِّجَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ عَبْدًا قَارِئًا فنسي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أو مُحْتَرِفًا
فنسي الْحِرْفَةَ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ وَالْحِرْفَةِ مَعْنًى
مَرْغُوبٌ فيه
وَأَمَّا حَبَلُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبَلَتْ
في يَدِهِ فَإِنْ كان الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا في يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ على
الْغَاصِبِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَوْلَى فَلَا يَضْمَنُهُ
الْغَاصِبُ كما لو قَتَلَهَا الْمَوْلَى في يَدِ الْغَاصِبِ
وَكَذَلِكَ لو حَبَلَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ من زَوْجٍ كان لها في يَدِ الْمَوْلَى
لِأَنَّ الْوَطْءَ من الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ
حَصَلَ منه أو حَدَثَ في يَدِهِ
وَإِنْ حَبَلَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ من زِنًا أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَضَمَّنَهُ
نُقْصَانَ الْحَبَلِ
وَالْكَلَامُ في قَدْرِ الضَّمَانِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْظَرُ إلَى ما نَقَّصَهَا الْحَبَلُ وَإِلَى
أَرْشِ عَيْبِ الزِّنَا فَيَضْمَنُ الْأَكْثَرَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فيه
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ جميعا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَبَلَ وَالزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ على
حِدَةٍ فَكَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُقْصَانًا على
حِدَةٍ فَيُفْرَدُ بِضَمَانٍ على حِدَةٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بين الضَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ
لِأَنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ إنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الزِّنَا فلم يَكُنْ
نُقْصَانًا بِسَبَبٍ على حِدَةٍ حتى يُفْرَدَ بِحُكْمٍ على حِدَةٍ فَلَا بُدَّ من
إيجَابِ أَحَدِهِمَا فَأَوْجَبْنَا الْأَكْثَرَ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَدْخُلُ في
الْأَكْثَرِ وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَكْثَرِ في الْأَقَلِّ فَإِنْ رَدَّهَا
الْغَاصِبُ حَامِلًا فَمَاتَتْ في يَدِ الْمَوْلَى من الْوِلَادَةِ فَبَقِيَ
وَلَدُهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ
عنه وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ الْحَبَلِ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّدَّ وَقَعَ صَحِيحًا من الْغَاصِبِ في الْقَدْرِ
الْمَرْدُودِ وهو ما وَرَاءَ الْفَائِتِ بِالْحَبَلِ وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ
حَصَلَ في يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ وُجِدَ في يَدِهِ وهو الْوِلَادَةُ فَلَا
يَكُونُ مَضْمُونًا على الْغَاصِبِ كما لو مَاتَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ وَكَمَا لو
بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ مَاتَتْ من
نِفَاسِهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على الْبَائِعِ بِشَيْءٍ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبٍ
كان في ضَمَانِ الْغَاصِبِ وهو الْحَبَلُ أو الزِّنَا لِأَنَّ ذلك أَفْضَى إلَى
الْوِلَادَةِ وَالْوِلَادَةُ أَفْضَتْ إلَى الْمَوْتِ فَكَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا
إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وإذا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ تَبَيَّنَ
أَنَّ الرَّدَّ لم يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ وهو أَنْ يَكُونَ
الرَّدُّ مِثْلَ الْأَخْذِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ في
يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَتْ من الْوِلَادَةِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا
كَذَا هذا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ هو
التَّسْلِيمُ ابْتِدَاءً لَا الرَّدُّ وقد وُجِدَ التَّسْلِيمُ فَخَرَجَ عن
الْعُهْدَةِ وَبِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَا بها مُكْرَهَةً فَمَاتَتْ من
الْوِلَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْأَخْذِ
لِيَلْزَمَهُ الرَّدُّ على وَجْهِ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ زَنَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا على
الْمَالِكِ فَحَدَثَ في يَدِهِ وَنَقَّصَهَا الضَّرْبُ ضَمِنَ الْغَاصِبُ
الْأَكْثَرَ من نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِمَّا نَقَّصَهَا الزِّنَا في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا ليس عليه إلَّا نُقْصَانُ الزِّنَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن النُّقْصَانَ حَصَلَ في يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ آخَرَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كان في
ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيُضَافُ إلَى حِينِ وُجُودِ السَّبَبِ في يَدِ الْغَاصِبِ
بِسَبَبٍ وُجِدَ في يَدِهِ وهو الضَّرْبُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا على الْغَاصِبِ
كما لو حَصَلَ في يَدِ الْمَالِكِ
فَأَبُو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه نَظَرَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُمَا
نَظَرَا إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وهو النُّقْصَانُ وَلِهَذَا قال أبو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُبَاحَ الدَّمِ
فَقُتِلَ في يَدِ الْمُشْتَرِي إنه يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ وَيُرْجَعُ على
الْبَائِعِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ لو كان سَارِقًا فَقُطِعَ في يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ
اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ السَّابِقِ وَعِنْدَهُمَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ على
الْحَالِ وَيَكُونُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ على الْبَائِعِ
بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُضَافُ النُّقْصَانُ إلَى سَبَبٍ كان في ضَمَانِ الْغَاصِبِ
وَذَلِكَ السَّبَبُ لم يُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فَكَيْفَ يُضَافُ نُقْصَانُ
الْجُرْحِ إلَيْهِ
وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في شُهُودِ الزِّنَا إذَا رَجَعُوا
بَعْدَ إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ بِنُقْصَانِ الْجُرْحِ
لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لم تُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فلم يُضَفْ نُقْصَانُ
الْجُرْحِ إلَيْهَا
كَذَا هذا
قِيلَ له إنَّ النُّقْصَانَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ
____________________
(7/156)
السَّابِقِ
هَهُنَا كما لَا يُضَافُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ هُنَاكَ إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ
الضَّمَانُ هَهُنَا لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ على الْفِعْلِ
فَيَسْتَنِدُ الضَّرْبُ إلَى سَبَبٍ كان في يَدِ الْغَاصِبِ وَلَا يَسْتَنِدُ
إلَيْهِ أَثَرُهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا ضُرِبَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ فَانْجَرَحَتْ
عِنْدَ الضَّرْبِ لَا بِالضَّرْبِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَضَمِنَ الْغَاصِبُ
كَذَا هذا وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ من نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِنْ
نُقْصَانِ الزِّنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَيْنِ
جميعا حَصَلَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بين الضَّمَانَيْنِ
فَيَجِبُ الْأَكْثَرُ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ سَرَقَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا
على الْمَالِكِ فَقُطِعَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نِصْفَ قِيمَتِهَا في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا
نُقْصَانَ السَّرِقَةِ وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في الطَّرَفَيْنِ جميعا
على نَحْوِ الْكَلَامِ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ نُقْصَانَ الْقَطْعِ هَهُنَا ولم يَعْتَبِرْ نُقْصَانَ
عَيْبِ السَّرِقَةِ وَاعْتَبَرَ نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا هُنَاكَ لِأَنَّ
نُقْصَانَ الْقَطْعِ يَكُونُ أَكْثَرَ من نُقْصَانِ السَّرِقَةِ ظَاهِرًا
وَغَالِبًا فَدَخَلَ الْأَقَلُّ في الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ نُقْصَانِ عَيْبِ
الزِّنَا لِأَنَّهُ قد يَكُونُ أَكْثَرَ من نُقْصَانِ الضَّرْبِ لِذَلِكَ
اخْتَلَفَ اعْتِبَارُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا على
الْمَوْلَى فَمَاتَتْ في يَدِهِ من الْحُمَّى التي كانت في يَدِ الْغَاصِبِ لم
يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا ما نَقَّصَهَا الْحُمَّى في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ
الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِالْآلَامِ التي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَإِنَّهَا
تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا إلَى أَنْ يَتَنَاهَى فلم يَكُنْ الْمَوْتُ حَاصِلًا
بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا قَدْرَ نُقْصَانِ
الْحُمَّى
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً مَحْمُومَةً أو حُبْلَى أو بها جِرَاحَةٌ أو مَرَضٌ آخَرُ
سِوَى الْحُمَّى فَمَاتَتْ من ذلك في يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا
وَبِهَا ذلك
فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا مَاتَتْ في يَدِ الْمَوْلَى بِحَبَلٍ كان في يَدِ
الْغَاصِبِ حَيْثُ جُعِلَ هُنَالِكَ مَوْتُهَا في يَدِ الْمَالِكِ كَمَوْتِهَا في
يَدِ الْغَاصِبِ ولم يُجْعَلْ هَهُنَا مَوْتُهَا في يَدِ الْغَاصِبِ كَمَوْتِهَا
في يَدِ الْمَالِكِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْهَلَاكَ هُنَاكَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِ
الْغَاصِبِ وهو الْحَبَلُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ
حَصَلَ في يَدِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لم يَصِحَّ لِعَدَمِ شَرْطِ
الصِّحَّةِ على ما بَيَّنَّا وَالْهَلَاكُ هَهُنَا إنْ حَصَلَ بِسَبَبٍ كان في
يَدِ الْمَوْلَى لَكِنْ لم يَحْصُلْ بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْحَبَلَ
لم يَكُنْ مَضْمُونًا عليه فإذا غَصَبَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ
لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الْهَلَاكِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا في ضَمَانِ
الْغَاصِبِ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ على فِعْلِ الْغَاصِبِ
فإذا هَلَكَ في يَدِهِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ لَكِنْ مَنْقُوصًا بِمَا بها من
الْمَرَضِ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في ضَمَانِ الْغَصْبِ إلَّا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ في يَدِ
الْغَاصِبِ إن عليه نُقْصَانَ الْهُزَالِ
وَلَوْ عَادَتْ سَمِينَةً في يَدِهِ فَرَدَّهَا لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ نُقْصَانَ
الْهُزَالِ انْجَبَرَ بِالسِّمَنِ فَصَارَ كَأَنْ لم يَكُنْ أَصْلًا وَكَذَا إذَا
قُلِعَتْ سِنُّهَا في يَدِهِ فَنَبَتَتْ فَرَدَّهَا لِأَنَّهَا لَمَّا نَبَتَتْ
ثَانِيًا جُعِلَ كَأَنَّهَا لم تُقْلَعْ وَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهَا في يَدِهِ
فَرَدَّهَا مع الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ
لِفَوَاتِ جُزْءٍ من الْمَغْصُوبِ بِالْوِلَادَةِ إلَّا إذَا كان له جَابِرٌ
فَيَنْعَدِمُ الْفَوَاتُ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا نَقَصَتْهَا
الْوِلَادَةُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْأُمُّ أو الْوَلَدُ
جميعا قَائِمَيْنِ في يَدِ الْغَاصِبِ وَإِمَّا إن هَلَكَا جميعا في يَدِهِ
وَإِمَّا إن هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَا قَائِمَيْنِ
رَدَّهُمَا على الْمَغْصُوبِ منه ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان في قِيمَةِ الْوَلَدِ
وَفَاءٌ لِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ انْجَبَرَ بِهِ وَلَا شَيْءَ على الْغَاصِبِ
وَإِنْ لم يَكُنْ في قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ انْجَبَرَ بِقَدْرِهِ
وَضَمِنَ الْبَاقِيَ اسْتِحْسَانًا وهو قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَلَوْ لم يَكُنْ في الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ وَقْتَ الرَّدِّ ثُمَّ
حَصَلَ بِهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الرَّدِّ لم يُعْتَبَرْ ذلك لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لم
تَحْصُلْ في ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَلَا تَصْلُحُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ
وَقَالُوا إنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ على هذا الْخِلَافِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً
حَائِلًا فَحَمَلَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ
عِنْدَهُ وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وفي الْوَلَدِ وَفَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ
شيئا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
لوعلى ( ( ( وعلى ) ) ) هذا الْخِلَافِ إذَا بِيعَتْ بَيْعًا فَاسِدًا وَهِيَ
حَامِلٌ فَوَلَدَتْ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وفي
الْوَلَدِ وَفَاءً فَرَدُّ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ مع الْوَلَدِ إلَى
الْبَائِعِ أنه لَا يَضْمَنُ شيئا خِلَافًا لِزُفَرَ
وَعَلَى هذا الْخِلَافُ إذَا كان له جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عليها
الْحَوْلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وفي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ أَنَّهُ يَبْقَى
الْوَاجِبُ في جَمِيعِ الْأَلْفِ وَلَا يَسْقُطُ منه شَيْءٌ
وَعِنْدَ
____________________
(7/157)
زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْقَى فِيمَا وَرَاءَ النُّقْصَانِ وَيَسْقُطُ بِقَدْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّهُ وُجِدَ
سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو النُّقْصَانُ فَيَجِبُ الضَّمَانُ جَبْرًا له
لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ وقد حَصَلَ الْفَوَاتُ فَلَا
بُدَّ له من جَابِرٍ وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا له لِأَنَّ الْفَائِتَ
مِلْكُ الْمَغْصُوبِ منه وَالْوَلَدُ مِلْكُهُ أَيْضًا وَلَا يُعْقَلُ أَنْ
يَكُونَ مِلْكُ الْإِنْسَانِ جَابِرًا لِمِلْكِهِ فَلَزِمَ جَبْرُهُ بِالضَّمَانِ
وَلَنَا أَنَّ هذا نُقْصَانٌ صُورَةً لَا مَعْنًى فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
كَنُقْصَانِ السِّنِّ وَالسِّمَنِ وَالْقَطْعِ وقد مَرَّ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا ليس نُقْصَانًا مَعْنًى أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وهو الْوِلَادَةُ وَاتِّحَادُ سَبَبِ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ
الزِّيَادَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِثْلُ الْفَائِتِ فَالسَّبَبُ الذي فَوَّتَ
أَفَادَ له مثله من حَيْثُ الْمَعْنَى فلم يَحْصُلْ الْفَوَاتُ إلَّا من حَيْثُ
الصُّورَةُ وَالصُّورَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِيمَةِ في ضَمَانِ الْعُدْوَانِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إن جَبْرَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ غَيْرُ
مَعْقُولٍ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ من حَيْثُ
الْمَعْنَى فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفَوَاتِ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا حَاجَةَ
إلَى الْجَابِرِ
وَإِنْ هَلَكَا جميعا في يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يوم غَصَبَ
لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فيها ولم يَضْمَنْ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ
غَيْرُ مَغْصُوبٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُودِ
الْغَصْبِ فيه وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في صَدْرِ الْكِتَابِ
وَإِنْ كان الْغَاصِبُ قَتَلَ الْوَلَدَ أو بَاعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مع قِيمَةِ
أُمِّهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كان أَمَانَةً في يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا
فَالْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فيها وقد وُجِدَ
على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
فَإِنْ كانت قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَةَ
دِرْهَمٍ وَالْوَلَدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يوم الْغَصْبِ
أَلْفَ دِرْهَمٍ وَضَمِنَ من الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ
يَدْخُلُ ذلك النِّصْفُ في قِيمَةِ الْأُمِّ وَإِنْ شِئْت ضَمَّنْته قِيمَةَ
الْأُمِّ يوم وَلَدَتْ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ وَكُلُّ ذلك سَوَاءٌ لِأَنَّ
النُّقْصَانَ إذَا انْجَبَرَ بِالْوَلَدِ كان الْوَاجِبُ من الضَّمَانِ في
الْحَاصِلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَمِائَةً فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ
تَامَّةً بَقِيَ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ
تِسْعَمِائَةٍ بَقِيَ كُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ
الْآخَرُ فَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قبل الرَّدِّ رَدَّ الْأُمَّ وَضَمِنَ نُقْصَانَ
الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ عليه ضَمَانُ الْوَلَدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ هَلَكَ
أَمَانَةً فَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ
يوم غَصَبَ وَرَدَّ الْوَلَدَ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ
وَإِنْ كان في قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ
النُّقْصَانِ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ الْجَبْرَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ
سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وهو الْوِلَادَةُ ولم تُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ
الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَلَيْسَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمِّ
لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا فلم يَتَّحِدْ السَّبَبُ
فَيَتَعَذَّرُ الْجَبْرُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ولم يَخِطْهُ إن
لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ غير أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كان
يَسِيرًا لَا خِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ منه وَلَيْسَ له إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ
لِأَنَّ ذلك نَقْصٌ وَتَعْيِيبٌ فَيُوجِبُ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ
وَإِنْ كان فَاحِشًا بِأَنْ قَطَعَهُ قَبَاءً أو قَمِيصًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَخَذَهُ مَقْطُوعًا وَضَمَّنَهُ ما نَقَصَهُ الْقَطْعُ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَهُ عليه وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ لِأَنَّ الْقَطْعَ
الْفَاحِشَ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ من الثَّوْبِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَا كان يَصْلُحُ له قبل الْقَطْعِ فَكَانَ
اسْتِهْلَاكًا له من وَجْهٍ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا ولم يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا
فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ
الذَّبْحِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عليه وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يوم الْغَصْبِ
كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَسَوَاءٌ سَلَخَهَا الْغَاصِبُ وَأَرَّبَهَا أو لَا
بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ شَوَاهَا وَلَا طَبَخَهَا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ
الشَّاةَ وَلَا شَيْءَ له غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يوم
الْغَصْبِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ إنْ كان نُقْصَانًا صُورَةً فَهُوَ
زِيَادَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الشَّاةِ اللَّحْمُ وَالذَّبْحُ وَسِيلَةٌ إلَى هذا
الْمَقْصُودِ فلم يَكُنْ نُقْصَانًا بَلْ كان زِيَادَةً حَيْثُ رَفَعَ عنه
مُؤْنَةَ الْوَسِيلَةِ فَكَانَ الْغَاصِبُ مُحْسِنًا في الذَّبْحِ وقد قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ } فإذا اخْتَارَ أَخْذَ
اللَّحْمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ له خِيَارُ التَّرْكِ
عليه وَيُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ لِفَوَاتِ مَقْصُودِ ما في الْجُمْلَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الشَّاةَ كما يُطْلَبُ منها اللَّحْمُ يُطْلَبُ
منها مَقَاصِدُ أُخَرُ من الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتِّجَارَةِ فَكَانَ الذَّبْحُ
تَفْوِيتًا لِبَعْضِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منها فَكَانَ تَنْقِيصًا لها
وَاسْتِهْلَاكًا من وَجْهٍ فَيَثْبُتُ له خِيَارُ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ
وَخِيَارُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ كما في مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ
وَعَلَى هذا
____________________
(7/158)
الْأَصْلِ
يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ من إنْسَانٍ عَيْنًا من ذَوَاتِ الْقِيَمِ أو من ذَوَاتِ
الْأَمْثَالِ وَنَقَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَالْتَقَيَا وَالْعَيْنُ في يَدِ
الْغَاصِبِ وَقِيمَتُهَا في ذلك الْمَكَانِ أَقَلُّ من قِيمَتِهَا في مَكَانِ
الْغَصْبِ إن لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يُطَالِبَهُ في ذلك الْمَكَانِ بِقِيمَتِهَا
التي في مَكَانِ الْغَصْبِ لأن ( ( ( لأنها ) ) ) قِيَمُ الأعيان ( ( ( أعيان ) )
) تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فإذا
نَقَلَهَا إلَى ذلك الْمَكَانِ وَقِيمَتُهَا فيه أَقَلُّ من قِيمَتِهَا في مَكَانِ
الْغَصْبِ فَقَدْ نَقَصَهَا من حَيْثُ الْمَعْنَى بِالنَّقْلِ فَلَوْ أُجْبِرَ على
أَخْذِ الْعَيْنِ لَتَضَرَّرَ بِهِ من جِهَةِ الْغَاصِبِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
إنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ التي في مَكَانِ الْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ
انْتَظَرَ الْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ بِخِلَافِ ما إذَا وَجَدَهُ في
الْبَلَدِ الذي غَصَبَهُ فيه وقد انْتَقَصَ السِّعْرُ إنه لَا يَكُونُ له خِيَارٌ لِأَنَّ
النُّقْصَانَ هُنَاكَ ما حَصَلَ بِصُنْعِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَغَيُّرِ
السِّعْرِ وَلَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ في ذلك بَلْ هو مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عز وجل
أَعْنِي مَصْنُوعَهُ فلم يَكُنْ مَضْمُونًا عليه
وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْعَيْنِ في الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِثْلَ
قِيمَتِهَا في مَكَانِ الْغَصْبِ أو أَكْثَرَ ليس له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ
بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هو وُجُوبُ رَدِّ
الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْعَيْنِ من غَيْرِ ضَرَرٍ
يَلْزَمُهُ فَلَا يَمْلِكُ الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَلَيْسَ له أَنْ يُطَالِبَهُ
بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السِّعْرُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ
جُعِلَتْ أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ وَمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ عَادَةً لِأَنَّهُ ليس لها حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ
لِعِزَّتِهَا وَقِلَّتِهَا عَادَةً فلم يَكُنْ النَّقْلُ نُقْصَانًا لها
بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ ولم يُوجَدْ
فلم يَكُنْ له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ
بِرَدِّ عَيْنِهَا لِأَنَّهُ هو الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْغَصْبِ وَالْمَصِيرُ
إلَى الْقِيمَةِ لِعَارِضِ الْعَجْزِ أو الضَّرَرِ ولم يُوجَدْ
هذا إذَا كانت الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ قَائِمَةً في الْغَاصِبِ فَأَمَّا إذَا
كانت هَالِكَةً فَالْتَقَيَا فَإِنْ كانت من ذات ( ( ( ذوات ) ) ) الْقِيَمِ
أَخَذَ قِيمَتَهَا التي كانت وَقْتَ الْغَصْبِ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ
تَبَيَّنَّ أَنَّ الْغَصْبَ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا من حِينِ وُجُودِهِ
وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ من حِينِ وُجُودِ سَبَبِهِ
وَإِنْ كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يُنْظَرُ إنْ كان سِعْرُهَا في الْمَكَانِ
الذي الْتَقَيَا فيه أَقَلَّ من سِعْرِهَا في مَكَانِ الْغَصْبِ فَالْمَغْصُوبُ
منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ التي لِلْعَيْنِ في مَكَانِ
الْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وَلَا يُجْبَرُ على أَخْذِ الْمِثْلِ في هذا
الْمَكَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَيْنَ بِالنَّقْلِ إلَى هذا
الْمَكَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ قِيمَةِ الْأَشْيَاءِ التي لها
حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لِمَكَانِ الْحَمْلِ
وَالْمُؤْنَةِ فَالْجَبْرُ على الْأَخْذِ في هذا الْمَكَانِ يَكُونُ إضْرَارًا
بِهِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ
كما لو كانت الْعَيْنُ قَائِمَةً وَقِيمَتُهَا في هذا الْمَكَانِ أَقَلُّ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهَا في هذا الْمَكَانِ مِثْلَ قِيمَتِهَا في مَكَانِ الْغَصْبِ
كان لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فيه على
أَحَدٍ وَإِنْ كانت قِيمَتُهَا في مَكَانِ الْخُصُومَةِ أَكْثَرَ من قِيمَتِهَا في
مَكَانِ الغاصب ( ( ( الغصب ) ) ) فَالْغَاصِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى
الْمِثْلَ في مَكَانِ الْخُصُومَةِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْقِيمَةَ في مَكَانِ
الْغَصْبِ لِأَنَّ في إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ في مَكَانِ الْخُصُومَةِ
ضَرَرًا بِالْغَاصِبِ وفي التَّأْخِيرِ إلَى الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ
ضَرَرًا بِالْمَغْصُوبِ منه فَيُسَلِّمُ إلَيْهِ في هذا الْمَكَانِ الْقِيمَةَ
التي له في مَكَانِ الْغَصْبِ
إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَغْصُوبُ منه بِالتَّأْخِيرِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْمَغْصُوبُ من أَمْوَالِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ
مُتَفَاضِلًا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَانْتَقَصَ في يَدِ الْغَاصِبِ
بِصُنْعِهِ أو بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يأخذه ( ( (
يأخذ ) ) ) منه وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى
الرِّبَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ أو
ابْتَلَّتْ أو صَبَّ الْغَاصِبُ فيها مَاءً فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا إن
صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا وَلَا شَيْءَ له
غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ ما غُصِبَتْ
وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له ذلك بِنَاءً على
أَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لها في أَمْوَالِ الرِّبَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لها قِيمَةٌ
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وإذا لم تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هو
الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ وَلِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً تُؤَدِّي إلَى
الرِّبَا
وَلَوْ غَصَبَ دِرْهَمًا صَحِيحًا أو دِينَارًا صَحِيحًا فَانْكَسَرَ في يَدِهِ أو
كَسَرَهُ إنْ كان في مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ الصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ في
الْقِيمَةِ لَا شَيْءَ على الْغَاصِبِ وَإِنْ كان في مَوْضِعٍ يَتَفَاوَتُ
فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ له
غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عليه وَضَمَّنَهُ مِثْلَ ما أَخَذَ وَلَيْسَ له
أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ وَيُضَمِّنَهُ
____________________
(7/159)
النُّقْصَانَ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً على الْأَصْلِ الذي
ذَكَرْنَا
وَإِنْ كان الْمَغْصُوبُ إنَاءَ فِضَّةٍ أو ذَهَبٍ فَانْهَشَمَ في يَدِ الْغَاصِبِ
أو هَشَّمَهُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا
شَيْءَ له غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ من خِلَافِ الْجِنْسِ
لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا قِيمَةَ لها بِانْفِرَادِهَا
فَأَمَّا مع الْأَصْلِ فَمُتَقَوِّمَةٌ خُصُوصًا إذَا حَصَلَتْ بِصُنْعِ
الْعِبَادِ فَلَا بُدَّ من التَّضْمِينِ وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ
مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له فَوَجَبَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ لَا
سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ بِجِنْسِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَلَزِمَ
تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ هُنَاكَ
إيجَابُ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وهو الْأَصْلُ في الْبَابِ فَلَا يُعْدَلُ عن
الْأَصْلِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَوْ قَضَى عليه بِالْقِيمَةِ من خِلَافِ
الْجِنْسِ ثُمَّ تَفَرَّقَا قبل التَّقَابُضِ من الْجَانِبَيْنِ لَا يَبْطُلُ
الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَيْنِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ
لِأَنَّهُ صَرْفٌ
وَكَذَلِكَ آنِيَةُ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ والشبه وَالرَّصَاصِ إنْ كانت تُبَاعُ
وَزْنًا فَهِيَ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا إذَا كانت
تُبَاعُ وَزْنًا لم تَخْرُجْ بِالصِّنَاعَةِ عن حَدِّ الْوَزْنِ فَكَانَتْ
مَوْزُونَةً فَكَانَتْ من أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فإذا
انْهَشَمَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ أو غَيْرِهِ فَحَدَثَ فيها عَيْبٌ
فَاحِشٌ أو يَسِيرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ له غَيْرُهُ وَإِنْ
شَاءَ تَرَكَهُ عليه بِالْقِيمَةِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا يَكُونُ
التَّقَابُضُ فيه شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ هذا الْحُكْمُ في كل مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إذَا نَقَصَ من وَصْفِهِ لَا
من الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ
وَإِنْ كانت تُبَاعُ عَدَدًا فَانْكَسَرَتْ أو كُسِّرَتْ إنْ كان ذلك لم يُورِثْ
فيه عَيْبًا فَاحِشًا فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فيه خِيَارُ التَّرْكِ وَلَكِنَّهُ
يَأْخُذُهَا وَيُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ
وَإِنْ كان أَوْرَثَ عَيْبًا فَاحِشًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
أَخَذَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عليه وَضَمَّنَهُ
قِيمَتَهَا صَحِيحًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَلًّا في يَدِهِ أو
لَبَنًا حَلِيبًا فَصَارَ مَخِيضًا أو عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا أو رُطَبًا
فَصَارَ تَمْرًا إن الْمَغْصُوبَ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذلك الشَّيْء
بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْء له غَيْرُهُ لِأَنَّ هذه من أَمْوَالِ الرِّبَا فلم تَكُنْ
الْجَوْدَةُ فيها بِانْفِرَادِهَا مُتَقَوِّمَةً فَلَا تَكُونُ مُتَقَوِّمَةً
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ ما غَصَبَ لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا
وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ فَيَجِبُ قَدْرُ ما بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ إلَّا بهذا الطَّرِيقِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ زِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ إذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ في الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ
فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت مُنْفَصِلَةً عن الْمَغْصُوبِ وَإِمَّا
إن كانت مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً عنه أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ
منه مع الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عليه لِلْغَاصِبِ سَوَاءٌ كانت مُتَوَلِّدَةً من
الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ أو ما هو في حُكْمِ
الْمُتَوَلِّدِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه أَصْلًا
كَالْكَسْبِ من الصَّيْدِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا
لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ منها نَمَاءُ مِلْكِهِ فَكَانَ مِلْكَهُ وما هو في حُكْمِ
الْمُتَوَلِّدِ بَدَلُ جُزْءٍ مَمْلُوكٍ أو بَدَلُ ما له حُكْمُ الْجُزْءِ فَكَانَ
مَمْلُوكًا له وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدِ كَسْبٌ مَلَكَهُ فَكَانَ مِلْكَهُ
وَأَمَّا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وهو الْأُجْرَةُ بِأَنْ آجَرَ الْغَاصِبُ
الْمَغْصُوبَ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ عِنْدَنَا وَيَتَصَدَّقُ بِهِ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً على أَنَّ الْمَنَافِعَ
لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا حتى لَا تُضْمَنَ
بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وأنه وُجِدَ من
الْغَاصِبِ وَعِنْدَهُ هِيَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا مَضْمُونَةٌ
بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا
تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كانت مُتَوَلِّدَةً كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ
وَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِهَا أَخَذَهَا الْمَالِكُ مع الْأَصْلِ وَلَا
شَيْءَ عليه لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ
وَإِنْ كانت غير مُتَوَلِّدَةٍ منه يُنْظَرُ إنْ كانت الزِّيَادَةُ عَيْنَ مَالٍ
مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ في الْمَغْصُوبِ وهو تَابِعٌ لِلْمَغْصُوبِ فَالْمَغْصُوبُ
منه بِالْخِيَارِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ لم تَكُنْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ منه
وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كانت عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَكِنَّهُ ليس
بِبَيْعٍ لِلْمَغْصُوبِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا تَزُولُ عن مِلْكِ
الْمَغْصُوبِ منه وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ لِلضَّمَانِ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا غَصَبَ من إنْسَانٍ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ
الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ فَإِنْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ بِالْعُصْفُرِ
وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِمَا من الْأَلْوَانِ سِوَى السَّوَادِ فَصَاحِبُ
الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ من الْغَاصِبِ وَأَعْطَاهُ ما
زَادَ الصَّبْغُ فيه
أَمَّا وِلَايَةُ أَخْذِ الثَّوْبِ فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُهُ لِبَقَاءِ
اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ وَأَمَّا ضَمَانُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه فَلِأَنَّ
لِلْغَاصِبِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ
____________________
(7/160)
مِلْكِهِ
عليه من غَيْرِ ضَمَانٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِضَمَانٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ
أَبْيَضَ يوم الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ على أَخْذِ الثَّوْبِ
إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ إلَّا بِضَمَانٍ وهو قِيمَةُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه
وَلَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ على الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ
وُجُوبِ الضَّمَانِ منه
وَقِيلَ له خِيَارٌ ثَالِثٌ وهو أَنَّ له تَرْكَ الثَّوْبِ على حَالِهِ وكان
الصِّبْغُ فيه لِلْغَاصِبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ على قَدْرِ
حَقِّهِمَا
كما إذَا انْصَبَغَ لَا بِفِعْلِ أَحَدٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ
منه وَالصِّبْغُ مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذَّرٌ فَصَارَا
شَرِيكَيْنِ في الثَّوْبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا
على قَدْرِ حَقِّهِمَا
وَإِنَّمَا كان الْخِيَارُ لِلْمَغْصُوبِ منه لَا لِلْغَاصِبِ
وَإِنْ كان لِلْغَاصِبِ فيه مِلْكٌ أَيْضًا وهو الصِّبْغُ لِأَنَّ الثَّوْبَ
أَصْلٌ وَالصِّبْغَ تَابِعٌ له فَتَخْيِيرُ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى من أَنْ
يُخَيَّرَ صَاحِبُ التَّبَعِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ
بِالْعُصْفُرِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
تَرَكَهُ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَإِنْ شَاءَ
أَخَذَ الثَّوْبَ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ السَّوَادُ وَسَائِرُ
الْأَلْوَانِ سَوَاءٌ
وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ
عنه لِأَنَّهُ يُحْرِقُ الثَّوْبَ فَيُنْقِصُهُ وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَسَائِرِ
الْأَلْوَانِ
وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَةِ
وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في سَوَادٍ يَنْقُصُ وَجَوَابُهُمَا في
سَوَادٍ يَزِيدُ
وَقِيلَ كان السَّوَادُ يُعَدُّ نُقْصَانًا في زَمَنِهِ
وَزَمَنَهُمَا كان يُعَدُّ زِيَادَةً فَكَانَ اخْتِلَافُ زَمَانٍ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعُصْفُرُ إذَا نَقَصَ الثَّوْبَ بِأَنْ كانت قِيمَةُ الثَّوْبِ ثَلَاثِينَ
فَعَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ فإنه يُنْظَرُ إلَى قَدْرِ ما
يَزِيدُ هذا الصَّبْغُ لو كان في ثَوْبٍ يُزِيدُ هذا الصَّبْغُ قِيمَتَهُ وَلَا
يُنْقِصُ فَإِنْ كان يُزِيدُهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ
الثَّوْبِ أَبْيَضَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَخَذَ
من الْغَاصِبِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
كَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ نَقَّصَ من هذا
الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ خَمْسَةً فيه صِبْغٌ
فَانْجَبَرَ نُقْصَانُ الْخَمْسَةِ بِهِ أو صَارَتْ الْخَمْسَتَانِ قِصَاصًا
وَبَقِيَ نُقْصَانُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عليه بِخَمْسَةٍ وَكَذَلِكَ
السَّوَادُ على هذا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ وَبَاعَهُ وَغَابَ
ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الثَّوْبِ يقضى له بِالثَّوْبِ وَيَسْتَوْثِقُ منه بِكَفِيلٍ
أَمَّا الْقَضَاءُ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغُ تَابِعٌ له فَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبَ
أَصْلٍ فَكَانَ اعْتِبَارُ جَانِبِهِ أَوْلَى
وَأَمَّا الِاسْتِيثَاقُ بِكَفِيلٍ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنَ مَالٍ
مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ
وَلَوْ وَقَعَ الثَّوْبُ الْمَغْصُوبُ في صِبْغِ إنْسَانٍ فَصُبِغَ بِهِ أو هَبَّتْ
الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ في صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ
فَإِنْ كان الصِّبْغُ عُصْفُرًا أو زَعْفَرَانًا فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ
إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الصِّبْغُ فيه لِمَا مَرَّ
وَإِنْ شَاءَ امْتَنَعَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ على
الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ منه فَيُبَاعُ
الثَّوْبُ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ
الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ لِأَنَّ حَقَّهُ في الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ
وَصَاحِبُ الصِّبْغِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الصِّبْغِ في الثَّوْبِ وهو قِيمَةُ ما
زَادَ الصِّبْغُ فيه لِأَنَّ حَقَّهُ في الصِّبْغِ الْقَائِمِ في الثَّوْبِ لَا في
الصِّبْغِ الْمُنْفَصِلِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لَا
لِلْغَاصِبِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان سَوَادًا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ وَلَا شَيْءَ عليه من قِيمَةِ
الصَّبْغِ بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كان غَاصِبًا لِأَنَّ النُّقْصَانَ
حَصَلَ في ضَمَانِهِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَلْوَانِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يُخْلَطُ بِالسَّوِيقِ الْمَغْصُوبِ أو يُخْلَطُ بِهِ
فَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ لِأَنَّ
السَّوِيقَ أَصْلٌ وَالسَّمْنَ كَالتَّابِعِ له
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ وَلَا يُقَالُ سَمْنٌ مَلْتُوتٌ
وَأَمَّا الْعَسَلُ إذَا خُلِطَ بِالسَّمْنِ أو اخْتَلَطَ بِهِ فَكُلَاهُمَا
أَصْلٌ وإذا خُلِطَ الْمِسْكُ بِالدُّهْنِ أو اخْتَلَطَ بِهِ فَإِنْ كان يَزِيدُ
الدُّهْنَ وَيُصْلِحُهُ كان الْمِسْكُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ وَإِنْ كان دُهْنًا
لَا يَصْلُحُ بِالْخَلْطِ وَلَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ كَالْأَدْهَانِ الْمُنْتِنَةِ
فَهُوَ هَالِكٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ من إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ إنْسَانٍ صِبْغًا فَصَبَغَهُ بِهِ
ضَمِنَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ صِبْغًا مِثْلَ صِبْغِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه
صِبْغَهُ وهو من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَبَعْدَ
ذلك حُكْمُهُ
____________________
(7/161)
وَحُكْمُ
ما إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ
مَلَكَ الصِّبْغَ بِالضَّمَانِ وقد بَيَّنَّا ذلك
وَلَوْ غَصَبَ من إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ آخَرَ صِبْغًا فَصَبَغَهُ فيه ثُمَّ
غَابَ ولم يُعْرَفْ فَهَذَا وما إذَا انْصَبَغَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَوَاءٌ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ على صَاحِبِ
الثَّوْبِ سَبِيلٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مَضْمُونًا عليه لِوُجُودِ
الْإِتْلَافِ منه فَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَزَالَ عند مِلْكُ صَاحِبِهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا غَابَ الْغَاصِبُ على وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ
لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ في إدَارَةِ الْحُكْمِ عليه فَيُجْعَلُ
كَأَنَّهُ حَصَلَ لَا بِصِبْغِ أَحَدٍ
وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَعُصْفُرًا من رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ
فَالْمَغْصُوبُ منه يَأْخُذُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا ويبرى ( ( ( ويبرئ ) ) )
الْغَاصِبَ من الضَّمَانِ في الْعُصْفُرِ وَالثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ عُصْفُرًا مثله ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ
صَبَغَ ثَوْبَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ عليه عُصْفُرَهُ وَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ
فَهَذَا رَجُلٌ صَبَغَ ثَوْبًا بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ
لِصَاحِبِ الثَّوْبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ منه وَاحِدٌ فَالْغَاصِبُ خَلَطَ مَالَ
الْمَغْصُوبِ منه بِمَالِهِ وَخَلْطُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ لَا يُعَدُّ
اسْتِهْلَاكًا له بَلْ يَكُونُ نُقْصَانًا فإذا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ فَقَدْ
أَبْرَأَهُ عن النُّقْصَانِ
وَلَوْ كان الْعُصْفُرُ لِرَجُلٍ وَالثَّوْبُ لِآخَرَ فَرَضِيَا أَنْ يَأْخُذَاهُ
كما يَأْخُذُ الْوَاحِدُ أَنْ لو كَانَا له فَلَيْسَ لَهُمَا ذلك لِأَنَّ
الْمَالِكَ هَهُنَا اخْتَلَفَ فَكَانَ الْخَلْطُ اسْتِهْلَاكًا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ عُصْفُرًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَ نَفْسِهِ ضَمِنَ عُصْفُرًا
مثله لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عليه عُصْفُرَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فَيَضْمَنُ مثله
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ
وَالْعُصْفُرَ تَبَعٌ له وَالسَّوَادُ في هذا بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَيْضًا لِأَنَّ هذا ضَمَانُ الِاسْتِهْلَاكِ
وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا في حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ سَوَاءٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا ثُمَّ رَدَّهَا قِيلَ لِصَاحِبِهَا أَعْطِهِ ما
زَادَ التَّجْصِيصُ فيها إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ
الْغَاصِبُ جِصَّهُ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فيها عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ
وهو الْجِصُّ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ عليه من غَيْرِ عِوَضٍ فَيُخَيَّرُ
صَاحِبُ الدَّارِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَغَرِمَ
لِلْغَاصِبِ ما زَادَ التَّجْصِيصُ فيها وَإِنْ شَاءَ رضي بِأَنْ يَأْخُذَ جِصَّهُ
وَلَوْ غَصَبَ مُصْحَفًا فَنَقَطَهُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ
لِصَاحِبِهِ أَخْذَهُ وَلَا شَيْءَ عليه
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ ما
زَادَ النَّقْطُ فيه وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غير مَنْقُوطٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْطَ زِيَادَةٌ في الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَ الصِّبْغَ
في الثَّوْبِ
وَجْهُ ما روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّ النَّقْطَ أَعْيَانٌ لَا قِيمَةَ لها فلم
يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ بَقِيَ مُجَرَّدُ
عَمَلِهِ وهو النَّقْطُ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ
ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّقْطَ في الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال جَرِّدُوا الْقُرْآنَ وإذا كان
التَّجْرِيدُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ كان النَّقْطُ مَكْرُوهًا فلم يَكُنْ زِيَادَةً
فَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُصْحَفِ أَخْذُهُ
وَلَوْ غَصَبَ حَيَوَانًا فَكَبِرَ في يَدِهِ أو سَمِنَ أو ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ
بِذَلِكَ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عليه لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهُ
ليس لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ
نَمَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ جَرِيحًا مَرِيضًا فَدَاوَاهُ حتى بَرَأَ وَصَحَّ لِمَا
قُلْنَا وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ على الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّهُ
أَنْفَقَ على مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ أَرْضًا فيها زَرْعٌ أو شَجَرٌ فَسَقَاهُ الْغَاصِبُ وَأَنْفَقَ
عليه حتى انْتَهَى بُلُوغُهُ
وَكَذَلِكَ لو كان نَخْلًا أَطْلَعَ فَأَبَّرَهُ وَلَقَّحَهُ وَقَامَ عليه فَهُوَ
لِلْمَغْصُوبِ منه وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا أَنْفَقَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان حَصَدَ الزَّرْعَ فَاسْتَهْلَكَهُ أو جد ( ( ( جذ ) ) ) من الثَّمَرِ
شيئا أو جَزَّ الصُّوفَ أو حَلَبَ كان ضَامِنًا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَن
وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَفَتَلَهُ أو غَسَلَهُ أو قَصَّرَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ
يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهُ ليس لِلْغَاصِبِ عَيْنُ مَالٍ
مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فيه
أَمَّا الْفَتْلُ فإنه تغير ( ( ( تغيير ) ) ) الثَّوْبِ من صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ
وَأَمَّا الْغَسْلُ فإنه إزَالَةُ الْوَسَخِ عن الثَّوْبِ وَإِعَادَةٌ له في
الْحَالَةِ الْأُولَى وَالصَّابُونُ أو الْحُرُضُ فيه يَتْلَفُ وَلَا يَبْقَى
وَأَمَّا الْقُصَارَةُ فَإِنَّهَا تَسْوِيَةُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فلم يَحْصُلْ في
الْمَغْصُوبِ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ
ولوغصب ( ( ( فيه ) ) ) من مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ
يَأْخُذَ الْخَلَّ من غَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الْخَلَّ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ
كان ثَابِتًا له في الْخَمْرِ وإذا صَارَ خَلًّا حَدَثَ الْخَلُّ على مِلْكِهِ
وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ لِأَنَّ الْمِلْحَ
الْمُلْقَى في الْخَمْرِ يَتْلَفُ فيها فصارت ( ( ( فصار ) ) ) كما لو تَخَلَّلَتْ
بِنَفْسِهَا في يَدِهِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَأَخَذَهُ من غَيْرِ شَيْءٍ
كَذَا
____________________
(7/162)
هذا
وَقِيلَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ من الظِّلِّ إلَى
الشَّمْسِ لَا بِشَيْءٍ له قِيمَةٌ
وهو الصَّحِيحُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ وَدَبَغَهُ أَنَّهُ إنْ
دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ كان
لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ ولاشيء عليه لِلْغَاصِبِ لِأَنَّ الْجِلْدَ كان
مِلْكَهُ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ على حُكْمِ مِلْكِهِ
وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ إنَّمَا فيه مُجَرَّدُ
فِعْلِ الدِّبَاغِ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ولم
يُوجَدْ
هذا إذَا أَخَذَهُ من مَنْزِلِهِ فَدَبَغَهُ فَأَمَّا إذَا كانت الْمَيْتَةُ
مُلْقَاةً على الطَّرِيقِ فَأَخَذَ جِلْدَهَا فَدَبَغَهُ فَلَا سَبِيلَ له على
الْجِلْدِ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ في الطَّرِيقِ إبَاحَةٌ لِلْأَخْذِ كَإِلْقَاءِ
النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ على قَوَارِعِ الطُّرُقِ
وَلَوْ هَلَكَ الْجِلْدُ الْمَغْصُوبُ بعدما دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له لَا
ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ لو وَجَبَ عليه إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْغَصْبِ
السَّابِقِ وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ له وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي
لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ من الْغَاصِبِ
وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ كان مِلْكَهُ قبل
الدِّبَاغِ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ على حُكْمِ مِلْكِهِ لَا
حَقَّ لِلْغَاصِبِ فيه وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
لَا حَقَّ له فيه يوجب ( ( ( فيوجب ) ) ) الضَّمَانَ
وَلَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا
فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَغْرَمَ له ما زَادَ الدِّبَاغُ فيه لِأَنَّهُ
مِلْكُ صَاحِبِهِ وَلِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مِلْكٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَزِمَ
مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ
قِيمَةَ الْجِلْدِ لِأَنَّهُ لو ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ ولم يَكُنْ له
قِيمَةٌ يوم الْغَصْبِ
وَلَوْ هَلَكَ في يَدِهِ بعدما دَبَغَهُ لَا ضَمَانَ عليه لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ
اسْتَهْلَكَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ على قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ
مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ ما زَادَ الدِّبَاغُ فيه
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا
يَغْرَمُ قِيمَتَهُ إن لو كان الْجِلْدُ ذَكِيًّا غير مَدْبُوغٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ
إذْنِ مَالِكِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كما إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له
فَاسْتَهْلَكَهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك أَمَّا الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ
فَلِأَنَّ الْجِلْدَ بِالدَّبَّاغِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا
وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ كان ثَابِتًا له قبل الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ بَقِيَ
على حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِهَذَا وَجَبَ عليه الضَّمَانُ فِيمَا إذَا دَبَغَهُ بِمَا
لَا قِيمَةَ له كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ التَّقَوُّمَ حَدَثَ بِصُنْعِ
الْغَاصِبِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَادِثَ
بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ حَقًّا له فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عليه
فَالْتُحِقَ هذا الْوَصْفُ بِالْعَدَمِ فَكَانَ هذا إتْلَافُ مَالٍ لَا قِيمَةَ له
من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْجِلْدِ تَابِعٌ
لِمَا زَادَ الدِّبَاغُ فيه لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالدِّبَاغِ وما زَادَ الدِّبَاغُ
مَضْمُونٌ فيه فَكَذَا ما هو تَابِعٌ له يَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ وَالْمَضْمُونُ
بِبَدَلٍ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَالْمَبِيعِ قبل
الْقَبْضِ بِخِلَافِ ما إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له لِأَنَّ هُنَاكَ ما
زَادَ الدِّبَاغُ فيه غَيْرُ مَضْمُونٍ فلم يُوجَدْ الْأَصْلُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ
غَيْرُهُ
وَإِنْ كان الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ فَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ له
فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عليه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُ
صَاحِبِهِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَلَيْسَ له
أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ شيئا لِأَنَّ الْجِلْدَ قَائِمٌ لم يُنْتَقَصْ
وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا له قِيمَةٌ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ
قِيمَتَهُ غير مَدْبُوغٍ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الدِّبَاغُ
فيه لِمَا ذَكَرْنَا في الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ أَصْفَرَ أو
أَحْمَرَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ
وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ جَعَلَ هذا الْجِلْدَ أَدِيمًا أو زِقًّا أو دَفْتَرًا أو
جِرَابًا أو فَرْوًا لم يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ منه على ذلك سَبِيلٌ لِأَنَّهُ صَارَ
شيئا آخَرَ حَيْثُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا له
مَعْنًى ثُمَّ إنْ كان الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَلَهُ قِيمَتُهُ يوم الْغَصْبِ وَإِنْ كان
مَيْتَةً فَلَا شَيْءَ
وَلَوْ غَصَبَ عصيرا ( ( ( عصير ) ) ) لمسلم ( ( ( المسلم ) ) ) فَصَارَ خَمْرًا
في يَدِهِ أو خَلًّا ضَمِنَ عَصِيرًا مثله لِأَنَّهُ هَلَكَ في يَدِهِ
بِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا أو خَلًّا وَالْعَصِيرُ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ منه إذَا قال
الْغَاصِبُ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ في يَدِي ولم يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ منه وَلَا
بَيِّنَةَ لِلْغَاصِبِ فإن الْقَاضِيَ يَحْبِسُ الْغَاصِبَ مُدَّةً لو كان
قَائِمًا لَأَظْهَرَهُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يَقْضِي عليه بِالضَّمَانِ
لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إن الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هو وُجُوبُ
رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ وَالْقِيمَةُ خَلَفٌ عنه فما لم يَثْبُتْ الْعَجْزُ عن
الْأَصْلِ لَا يقضى بِالْقِيمَةِ التي هِيَ خَلْفٌ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْغَصْبِ أو في جِنْسِ الْمَغْصُوبِ وَنَوْعِهِ أو
قَدْرِهِ أو صِفَتِهِ أو قِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ فَالْقَوْلُ في ذلك كُلِّهِ
قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ منه يَدَّعِي عليه الضَّمَانَ وهو
يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
____________________
(7/163)
إذْ
الْقَوْلُ في الشَّرْعِ قو ( ( ( قول ) ) ) الْمُنْكِرِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِمَا يَدَّعِي الْمَغْصُوبُ منه وَادَّعَى الرَّدَّ
عليه لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ إقْرَارٌ
بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُودِ الضَّمَانِ منه فَهُوَ بِقَوْلِهِ رَدَدْت عَلَيْك
يَدَّعِي انْفِسَاخَ السَّبَبِ فَلَا يُصَدَّقُ من غَيْرِ بَيِّنَةٍ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ منه هو الذي أَحْدَثَ
الْعَيْبَ في الْمَغْصُوبِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
بِوُجُودِ الْغَصْبِ منه إقْرَارٌ بِوُجُودِ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ في
ضَمَانِهِ فَهُوَ يَدَّعِي إحْدَاثَ الْعَيْبِ من الْمَغْصُوبِ منه وَيَدَّعِي
خُرُوجَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عن ضَمَانِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ
وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ
وإنها نَفَقَتْ عِنْدَهُ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ
الْمَغْصُوبِ منه اعْتَمَدُوا في شَهَادَتِهِمْ على اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِمَا
أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ وما عَلِمُوا بِالرَّدِّ فَبَنَوْا الْأَمْرَ على
ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ
وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا في شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ
الْأَمْرِ وهو الرَّدُّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لم يَكُنْ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ
الْقَائِمَةُ على الرَّدِّ أَوْلَى
كما في شُهُودِ الْجُرْحِ مع شُهُودِ التَّزْكِيَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ منه هذا الْعَبْدَ
وَمَاتَ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ في
يَدِ مَوْلَاهُ قبل الْغَصْبِ لم يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ
مَوْتَهُ في يَدِ مَوْلَاهُ قبل الْغَصْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فلم
تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عليه وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ
بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْمَغْصُوبِ منه وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ
الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ وهو حَالُ الْيَدِ التي كانت عليه
لِلْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنَّهُمْ عَلِمُوهَا ثَابِتَةً ولم يعلموا ( ( ( يعلموها )
) ) بِالْغَصْبِ وَظَنُّوا تِلْكَ الْيَدَ قَائِمَةً فَاسْتُصْحِبُوهَا وَشُهُودُ الْمَغْصُوبِ
منه اعْتَمَدُوا في شَهَادَتِهِمْ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ
أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ هذا
الْعَبْدَ يوم النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
كان يوم النَّحْرِ بِمَكَّةَ هو وَالْعَبْدُ فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ على الْغَاصِبِ
لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ فَالْتَحَقَتْ
بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ منه بِلَا مُعَارِضٍ فَلَزِمَ
الْعَمَلُ بها
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْإِمْلَاءِ إذَا أَقَامَ الْغَاصِبُ
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ في يَدِ الْمَغْصُوبِ منه وَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ في يَدِ الْغَاصِبِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ على إثْبَاتِ أَمْرٍ لم
يَكُنْ وهو الرَّدُّ
وَبَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ منه قَامَتْ على إبْقَاءِ ما كان على ما كان وهو
الْغَصْبُ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّابَّةَ نَفَقَتْ عِنْدَ
الْغَاصِبِ من رُكُوبِهِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا
إلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ منه وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ
لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا تَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ منه لِأَنَّهَا
قَامَتْ على رَدِّ الْمَغْصُوبِ
وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ رَدَّهَا ثُمَّ غَصَبَهَا ثَانِيًا وَرَكِبَهَا
فَنَفَقَ في يَدِهِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بين الْبَيِّنَتَيْنِ
وَكَذَلِكَ لو شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا
وَشَهِدَ شُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا كما إذَا قال
رَجُلٌ لِآخَرَ غَصَبْنَا مِنْكَ أَلْفًا ثُمَّ قال كنا عَشَرَةً
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُصَدَّقُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن قَوْلَهُ غَصَبْنَا مِنْكَ حَقِيقَةٌ لِلْجَمْعِ وَالْعَمَلُ
بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ وفي الْحَمْلِ على الْوَاحِدِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ
بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ
وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْنَا
إخْبَارٌ عن وُجُودِ الْغَصْبِ من جَمَاعَةٍ مَجْهُولِينَ فَلَوْ عَمِلْنَا بحقيقة
( ( ( بحقيقته ) ) ) لَأَلْغَيْنَا كَلَامَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ
بِالْمَجَازِ أَوْلَى من الْإِلْغَاءِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ فَالْكَلَامُ فيها أَنَّ الْإِتْلَافَ لَا
يَخْلُو إمَّا إن وَرَدَ على بَنِي آدَمَ وَإِمَّا إن وَرَدَ على غَيْرِهِمْ من
الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَإِنْ وَرَدَ على بَنِي آدَمَ فَحُكْمُهُ في
النَّفْسِ وما دُونَهَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَإِنْ وَرَدَ على غَيْرِ بَنِي آدَمَ فإنه يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا
اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ
في بَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شُرُوطِ وُجُوبِ
الضَّمَانِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ إتْلَافَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ
من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً منه عَادَةً
وَهَذَا اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ وقد قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }
____________________
(7/164)
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ في الْإِسْلَامِ وقد
تَعَذَّرَ نَفْيُ الضَّرَرِ من حَيْثُ الصُّورَةُ فَيَجِبُ نَفْيُهُ من حَيْثُ
الْمَعْنَى بِالضَّمَانِ لِيَقُومَ الضَّمَانُ مَقَامَ الْمُتْلَفِ فَيَنْتَفِي
الضَّرَرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ
فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى لِأَنَّهُ في كَوْنِهِ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَوْقَ
الْغَصْبِ فلما وَجَبَ بِالْغَصْبِ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ أَوْلَى
سَوَاءٌ وَقَعَ إتْلَافًا له صُورَةً وَمَعْنًى بِإِخْرَاجِهِ عن كَوْنِهِ
صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ أو مَعْنًى بِإِحْدَاثِ مَعْنًى فيه يَمْنَعُ من
الِانْتِفَاعِ بِهِ مع قِيَامِهِ في نَفْسِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّ كُلَّ ذلك
اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ وسواء ( ( ( سواء ) ) ) كان الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً
بِإِيصَالِ الْآلَةِ بِمَحِلِّ التَّلَفِ أو تَسْبِيبًا بِالْفِعْلِ في مَحِلٍّ
يُفْضِي إلَى تَلَفٍ غَيْرِهِ عَادَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ
اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا قَتَلَ دَابَّةَ إنْسَانٍ أو أَحْرَقَ ثَوْبَهُ
أو قَطَعَ شَجَرَةَ إنْسَانٍ أو أَرَاقَ عَصِيرَهُ أو هَدَمَ بِنَاءَهُ ضَمِنَ
سَوَاءٌ كان الْمُتْلَفُ في يَدِ الْمَالِكِ أو في يَدِ الْغَاصِبِ لِتَحَقُّقِ
الْإِتْلَافِ في الْحَالَيْنِ غير أَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ كان مَنْقُولًا وهو في
يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ على الْمُتْلِفِ
لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ إن الْإِتْلَافَ وَرَدَ
على مِلْكِهِ
وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على أَحَدٍ وَإِنْ كان
عَقَارًا ضَمِنَ الْمُتْلِفُ وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابُ فيه وفي الْمَنْقُولِ سَوَاءٌ بِنَاءً على
أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ مَضْمُونٌ
بِهِ فَكَانَ له أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ كما في الْمَنْقُولِ
وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ مَالُ إنْسَانٍ بِمَا لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا ضَمِنَ
النُّقْصَانَ
سَوَاءٌ كان في يَدِ الْمَالِكِ أو في يَدِ الْغَاصِبِ لِأَنَّ النَّقْصَ إتْلَافُ
جُزْءٍ منه وَتَضْمِينُهُ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا
فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الربوبية ( ( ( الربوية )
) ) على ما مَرَّ غير أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كان بِفِعْلِ غَيْرِ الْغَاصِبِ
فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَيَرْجِعُ
الْغَاصِبُ على الذي نَقَصَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الذي نَقَصَ وهو لَا يَرْجِعُ
على أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَازْدَادَ في يَدِ الْغَاصِبِ
حتى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً فَالْمَالِكُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَيْنِ
لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَا وُجُوبِ الضَّمَانِ الْغَصْبَ وَالْقَتْلَ
وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ في يَدِ الْغَاصِبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ
وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ ضَمِنَ الْغَاصِبُ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ
أَلْفَيْنِ فَإِنْ ضَمِنَ الْقَاتِلُ فإنه لَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ
وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ على عاقله الْقَاتِلِ
بِأَلْفَيْنِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ على الْأَلْفِ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عليهم بِأَلْفَيْنِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ
بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ وَرَدَ على عبد الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُ
قِيمَتَهُ
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ على الْأَلْفِ فَلِتَمَكُّنِ الْخَبَثِ فيه
لِاخْتِلَالِ الْمِلْكِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَظْهَرَ
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْفَضْلُ طَيِّبٌ له وَلَا
يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ وَإِنْ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ
خَطَأً فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ
يوم الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَتَهُ قِيمَتَهُ يوم
الْقَتْلِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وهو الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا كان
حَيَوَانًا سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ
لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ إلَّا يوم الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ وقد بَيَّنَّا له الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ في يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ
ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ أَلْفًا لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ
يُهْدَرُ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ
يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ
كَذَا هذا
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَتْ وَلَدهَا ثُمَّ مَاتَتْ
الْجَارِيَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهَا يوم الْغَصْبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ
وَلَيْسَ عليه ضَمَانُ الْوَلَدِ لِأَنَّ قَتْلَهَا وَلَدَهَا هَدَرٌ وَلَا حُكْمَ
له فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلَكَ أَمَانَةً
وَبَقِيَتْ الْأُمُّ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ
فَخَلَطَ الْمُسْتَوْدَعُ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ بِالْآخَرِ خَلْطًا لَا
يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْخَلْطَ وَقَعَ إتْلَافًا
مَعْنًى وَعِنْدَهُمَا هُمَا بِالْخِيَارِ بين أَنْ يَأْخُذَا ذلك وَيَقْتَسِمَاهُ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَاهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ
الْوَدِيعَةِ
ثُمَّ قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَسَعُ الْمُودَعُ أَكْلَ هذه الدَّرَاهِم
حتى يُؤَدِّيَ مِثْلَهَا إلَى أَصْحَابِهَا
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فيه
____________________
(7/165)
لِأَنَّ
عِنْدَهُمَا لم يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ إنْ انْقَطَعَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَوْدَعِ لَكِنْ فيه خَبَثٌ
فَيُمْنَعُ من التصرف ( ( ( الصرف ) ) ) فيه حتى يَرْضَى صَاحِبُهُ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا له كُرَّانِ اغْتَصَبَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا أو سَرَقَهُ ثُمَّ
إنَّ الْمَالِكَ أَوْدَعَ الْغَاصِبَ أو السَّارِقَ ذلك الْآخَرَ فَخَلَطَهُ
بِكُرِّ الْغَصْبِ ثُمَّ ضَاعَ ذلك كُلُّهُ ضَمِنَ كُرَّ الْغَصْبِ ولم يَضْمَنْ
كُرَّ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ لِأَنَّهُ خَلَطَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ
وَذَلِكَ ليس بِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه بِسَبَبِ الْخَلْطِ
وَبَقِيَ الْكُرُّ الْمَضْمُونُ وَكُرُّ الْأَمَانَةِ في يَدِهِ على حَالِهِمَا
فَصَارَ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا قبل الْخَلْطِ
وَلَوْ خَلَطَ الْغَاصِبُ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ خَلْطًا لَا
يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ مِثْلَهَا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا
بِالْخَلْطِ وَإِنْ مَاتَ كان ذلك لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَغْصُوبُ منه
أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عنها وَصَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ
وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ
فَلَا يَضْمَنُ وهو شَرِيكٌ لِلْمَغْصُوبِ منه لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ من غَيْرِ
صُنْعِهِ هَلَاكٌ وَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ فَصَارَ كما لو تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا
وَصَارَا شَرِيكَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الْمِلْكَيْنِ على وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ صَبَّ مَاءً في طَعَامٍ في يَدِ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَهُ وزاد في كَيْلِهِ
فَلِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قبل أَنْ يَصُبَّ فيه الْمَاءَ
وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ طَعَامًا مثله وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَمِّنَهُ
مِثْلَ كَيْلِهِ قبل صَبِّ الْمَاءِ
وَكَذَلِكَ لو صَبَّ مَاءً في دُهْنٍ أو زَيْتٍ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ
يُضَمِّنَهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْمَبْلُولِ وَالدُّهْنِ الْمَصْبُوبِ فيه
الْمَاءُ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ
كَيْلِ الطَّعَامِ قبل صَبِّ الْمَاءِ فيه لِأَنَّهُ لم يَكُنْ منه غَصْبٌ مُتَقَدِّمٌ
حتى لو غَصَبَ ثُمَّ صَبَّ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ منه وَضَاعَ لم يَضْمَنْ في
قَوْلِهِمَا
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
إنْ طَارَ من فَوْرِهِ ذلك ضَمِنَ وَإِنْ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَقَعَ إتْلَافًا
لِلطَّيْرِ تَسْبِيبًا لِأَنَّ الطَّيَرَانَ لِلطَّيْرِ طَبْعٌ له فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ يَطِيرُ إذَا وَجَدَ الْمُخَلِّصَ فَكَانَ الْفَتْحُ إتْلَافًا له
تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كما إذَا شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فيه دُهْنٌ
مَائِعٌ فَسَالَ وَهَلَكَ وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يقول إذَا مَكَثَ سَاعَةً لم يَكُنْ الطَّيَرَانُ بَعْدَ
ذلك مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَتْحَ ليس بِإِتْلَافٍ مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ
وَأَمَّا التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الطَّيْرَ مُخْتَارٌ في الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُ
حَيٌّ وَكُلُّ حَيٍّ له اخْتِيَارٌ فَكَانَ الطَّيَرَانُ مُضَافًا إلَى
اخْتِيَارِهِ وَالْفَتْحُ سَبَبًا مَحْضًا فَلَا حُكْمَ له كما إذَا حَلَّ
الْقَيْدَ عن عبد إنْسَانٍ حتى أبق إنه لَا ضَمَانَ عليه لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
بِخِلَافِ شَقِّ الزِّقِّ الذي فيه دُهْنٌ مَائِعٌ لِأَنَّ الْمَائِعَ سَيَّالٌ
بِطَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ منه الِاسْتِمْسَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ
إلَّا على نَقْضِ الْعَادَةِ فَكَانَ الْفَتْحُ تَسَبُّبًا لِلتَّلَفِ فَيَجِبُ
الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا حَلَّ رِبَاطَ الدَّابَّةِ أو فَتَحَ بَابَ الاصطبل
حتى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ
وَقَالُوا إذَا حَلَّ رِبَاطَ الزَّيْتِ أَنَّهُ إنْ كان ذَائِبًا فَسَالَ منه
ضَمِنَ وَإِنْ كان السَّمْنُ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَزَالَ لم يَضْمَنْ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَائِعَ يَسِيلُ بِطَبْعِهِ إذَا وَجَدَ مَنْفَذًا
بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْسَاكُهُ عَادَةً فَكَانَ حَلُّ الرِّبَاطِ إتْلَافًا
له تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْجَامِدِ لِأَنَّ السَّيَلَانَ
طَبْعُ الْمَائِعِ لَا طَبْعُ الْجَامِدِ وهو وَإِنْ صَارَ مَائِعًا لَكِنْ لَا
بِصُنْعِهِ بَلْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ فلم يَكُنْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا
مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا فَلَا يَضْمَنُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ صَبِيًّا صَغِيرًا حُرًّا من أَهْلِهِ فَعَقَرَهُ
سَبْعٌ أو نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أو وَقَعَ في بِئْرٍ أو من سَطْحٍ فَمَاتَ إن على
عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ من الْغَاصِبِ تَسْبِيبًا
لِأَنَّهُ كان مَحْفُوظًا بِيَدِ وَلِيِّهِ إذْ هو لَا يَقْدِرُ على حِفْظِ
نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فإذا فَوَّتَ حِفْظَ الْأَهْلِ عنه ولم يَحْفَظْهُ بِنَفْسِهِ
حتى أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَقَدْ ضَيَّعَهُ فَكَانَ ذلك منه إتْلَافًا تَسْبِيبًا
وَالْحُرُّ إنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ يَكُونُ مَضْمُونًا
بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً كان أو تَسْبِيبًا وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً في
يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهمَا شاؤوا الْغَاصِبَ
أو الْقَاتِلَ
أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منه مُبَاشَرَةً وَأَمَّا الْغَاصِبُ
فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منه تَسْبِيبًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالتَّسَبُّبُ يَنْزِلُ
مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ في وُجُوبِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ على
قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالشَّهَادَةِ على الْقَتْلِ حتى لو رَجَعَ شُهُودُ
الْقِصَاصِ ضَمِنُوا فَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ بِالْمَالِ لَا يَرْجِعُ على
أَحَدٍ وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ على الْقَاتِلِ
لِأَنَّ الْغَصْبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قام مَقَامَ الْمُسْتَحَقِّ في حَقِّ
مِلْكِ الضَّمَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ في حَقِّ مِلْكِ
الْمَضْمُونِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ في يَدِهِ
____________________
(7/166)
وَاخْتَارَ
الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْقَاتِلِ وَإِنْ لم
يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو وَقَعَ عليه حَائِطُ إنْسَانٍ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ على
عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إنْ كان تَقَدَّمَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ في يَدِ الْغَاصِبِ عَمْدًا فَأَوْلِيَاؤُهُ
بِالْخِيَارِ إنْ شاؤوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وبرىء الْغَاصِبُ وَإِنْ شاؤوا
اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ على عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ
الْغَاصِبِ في مَالِ الْقَاتِلِ عَمْدًا وَلَا يَكُونُ لهم الْقِصَاصُ
أَمَّا وِلَايَةُ الْقِصَاصِ من الْقَاتِلِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ
الْخَالِي عن الْمَوَانِعِ
وَأَمَّا وِلَايَةُ اتِّبَاعِ الْغَاصِبِ بِالدِّيَةِ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ
منه تَسْبِيبًا على ما بَيَّنَّا فَإِنْ قَتَلُوا الْقَاتِلَ بريء الْغَاصِبُ
لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بين الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ في نَفْسٍ وَاحِدَةٍ في قَتْلٍ
وَاحِدٍ وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ تَرْجِعُ
عَاقِلَتُهُ على مَالِ الْقَاتِلِ وَلَا يَكُونُ لهم أَنْ يَقْتَصُّوا من
الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لم يَصِرْ مِلْكًا لهم بِأَدَاءِ الضَّمَانِ إذْ هو
لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فلم يَقُمْ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ في مِلْكِ
الْقِصَاصِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ
التَّمْلِيكَ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ في مِلْكِ
الْمَالِ وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ إنْسَانًا في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ على
الْوَلِيِّ وَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ لم يَكُنْ لهم أَنْ يَرْجِعُوا على
الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْغَصْبِ
لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ
ضَمَانِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ مُتْلِفًا إيَّاهُ
تَسْبِيبًا بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عليه لَا بِجِنَايَتِهِ على غَيْرِهِ
وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ أو أتى على شَيْءٍ من نَفْسِهِ من الْيَدِ
وَالرِّجْلِ وما أَشْبَهَ ذلك أو أَرْكَبَهُ الْغَاصِبُ دَابَّةً فَأَلْقَى
نَفْسَهُ منها فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا
يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَهُ على نَفْسِهِ هَدَرٌ فَالْتَحَقَ
بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أو سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ
سَمَاوِيَّةٍ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عليه كَذَا هذا
وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لو وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِالْغَصْبِ وَالْحُرُّ
غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ
وَلِهَذَا لو جَنَى على غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ إنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ
فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً أو تَسْبِيبًا وقد وُجِدَ
التَّسْبِيبُ من الْغَاصِبِ حَيْثُ تَرَكَ حِفْظَهُ عن أَسْبَابِ الْهَلَاكِ في
الْحَالَيْنِ جميعا فَكَانَ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ
عليه وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ على عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّ
حُكْمَ فِعْلِهِ على نَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ على
الْعَاقِلَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَمَاتَ في يَدِهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَتْ في يَدِهِ من غَيْرِ آفَةٍ لم يَضْمَنْ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في مَوْضِعِهَا
وَلَوْ مَاتَتْ في يَدِهِ بِآفَةٍ على الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ
في الصَّبِيِّ الْحُرِّ
فإن الْغَاصِبَ يَغْرَم قِيمَتَهَا حَالَّةً في مَالِهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ
منه تَسْبِيبًا وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ
وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ في الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ
أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هذا الضَّمَانِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ
الْمُتْلَفُ مَالًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ
وَجِلْدِ الْمَيِّتَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا ليس بِمَالٍ
وقد ذَكَرْنَا ذلك في كتاب ( ( ( كتب ) ) ) الْبُيُوعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ على الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كان الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ على ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا
يَضْمَنُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالدَّلَائِلُ
مَرَّتْ في مَسَائِلِ الْغَصْبِ
وَلَوْ أَتْلَفَ ذِمِّيٌّ على ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أو
أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمَّا في الْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْرَأُ الْمُتْلِفُ عن
الضَّمَانِ الذي لَزِمَهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ الطَّالِبُ أو الْمَطْلُوبُ أو
أَسْلَمَا جميعا لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِإِتْلَافِ الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ
وَإِنَّهَا دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ من قَبْضِ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَأَمَّا في الْخَمْرِ فَإِنْ أَسْلَمَا جميعا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وهو
الطَّالِبُ الْمُتْلَفُ عليه بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَطْلُوبِ وهو الْمُتْلِفُ
وَسَقَطَتْ عنه الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ أو لم يُسْلِمْ
فَفِي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو رِوَايَتُهُ عن أبي حَنِيفَةَ يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ
من الْخَمْرِ وَلَا يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ كما لو أَسْلَمَ الطَّالِبُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعَافِيَةَ بن زَيْدٍ الْقَاضِي وهو رِوَايَتُهُمْ
عن أبي حَنِيفَةَ لَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ وَيَتَحَوَّلُ ما عليه من الْخَمْرِ
إلَى الْقِيمَةِ كما لو كان الْإِتْلَافُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ
قِيمَتَهَا لِلذِّمِّيِّ فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَلَوْ كَسَرَ على إنْسَانٍ بَرْبَطًا أو طَبْلًا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ خَشَبًا
مَنْحُوتًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى خَشَبًا أَلْوَاحًا وَعِنْدَهُمَا
____________________
(7/167)
لَا
يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا آلَةُ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ فلم يَكُنْ
مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كما
يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَالْفَسَادِ يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ من وَجْهٍ آخَرَ
فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا من ذلك الْوَجْهِ
وَكَذَلِكَ لو أَرَاقَ لِإِنْسَانٍ مُسْكِرًا أو مُنَصَّفًا فَهُوَ على هذا
الِاخْتِلَافِ وَالْمَسْأَلَةُ قد ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عليه تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ
غير مَنْقُوشٍ بِتَمَاثِيلَ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِنَقْشِ التَّمَاثِيلِ لِأَنَّ
نَقْشَهَا مَحْظُورٌ
وَإِنْ كان صَاحِبُهُ قَطَعَ رؤوس التَّمَاثِيلِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا
لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تِمْثَالًا بِلَا رَأْسٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس بِمَحْظُورٍ فَكَانَ النَّقْشُ مَنْقُوشًا
وَلَوْ أَحْرَقَ بِسَاطًا فيه تَمَاثِيلُ رِجَالٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مُصَوَّرًا
لِأَنَّ التِّمْثَالَ على الْبِسَاطِ ليس بِمَحْظُورٍ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ
فَكَانَ النَّقْشُ مُتَقَوِّمًا وَلَوْ هَدَمَ بَيْتًا مُصَوَّرًا ضَمِنَ قِيمَةَ
الْبَيْتِ وَالصُّوَرُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّ الصُّوَرَ على الْبَيْتِ لَا
قِيمَةَ لها لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَأَمَّا الصِّبْغُ فَمُتَقَوِّمٌ
وَلَوْ قَتَلَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ضَمِنَ قِيمَتَهَا غير مُغَنِّيَةٍ لِأَنَّ
الْغِنَاءَ لَا قِيمَةَ له لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ
هذا إذَا كان الْغِنَاءُ زِيَادَةً في الْجَارِيَةِ فَأَمَّا إذَا كان نُقْصَانًا
فيها فإنه يَضْمَنُ قَدْرَ قِيمَتِهَا
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الْمُبَاحَاتُ التي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ
لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا
إذْ التَّقَوُّمُ يُبْنَى على الْعِزَّةِ وَالْحَظْرِ
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ
وَأَمَّا الْمُبَاحُ الْمَمْلُوكُ وهو مَالُ الحزبي ( ( ( الحربي ) ) ) فَلَا
يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ أَيْضًا وَإِنْ كان مُتَقَوِّمًا لِفَقْدِ شَرْطٍ
آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ شِئْت قُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
بِإِتْلَافِ الْمُبَاحَاتِ التي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ وَالتَّخْرِيجُ على شَرْطِ
التَّقَوُّمِ أَصَحُّ
لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا في نَفْسِهِ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ
فإن الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا
أَرْضٌ بين شَرِيكَيْنِ زَرْعَهَا أَحَدُهُمَا وَتَرَاضَيَا على أَنْ يُعْطِيَ
الذي لم يَزْرَعْ نِصْفَ الْبَذْرِ وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا
فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الزَّرْعُ نَبَتَ وَإِمَّا إن كان لم يَنْبُتْ
فَإِنْ كان قد نَبَتَ جَازَ لِأَنَّ هذا بَيْعُ الْحَشِيشِ بِالْحِنْطَةِ
وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كان لم يَنْبُتْ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي ما
بَقِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِمَّا تَلِفَ مع أَنَّ ذلك ليس بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ
فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
فَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَطَلَبَ الذي لم يَزْرَعْ الْقِسْمَةَ قَسَمَ وَأَمَرَ
الذي زَرَعَ أَنْ يَقْلَعَ ما في نَصِيبِ الشَّرِيكِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مَشْغُولٌ
بِمِلْكِهِ فَيُجْبَرُ على تَفْرِيغِهِ وَتَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الزِّرَاعَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ من أَهْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عليه حتى لو
أَتْلَفَتْ مَالَ إنْسَانٍ بَهِيمَةٌ لَا ضَمَانَ على مَالِكِهَا لِأَنَّ فِعْلَ
الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَكَانَ هَدَرًا وَلَا إتْلَافَ من مَالِكِهَا فَلَا يَجِبُ
الضَّمَانُ عليه
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ فَلَا ضَمَانَ على الْمُسْلِمِ
بِإِتْلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا على الْحَرْبِيِّ بِإِتْلَافِ مَالِ
الْمُسْلِمِ في دَارِ الْحَرْبِ وَكَذَا لَا ضَمَانَ على الْعَادِلِ إذَا أَتْلَفَ
مَالَ الْبَاغِي وَلَا على الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ لِأَنَّهُ
لَا فَائِدَةَ في الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الضَّمَانِ
لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
ضَمَانِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْخُوذٌ بِضَمَانِ الْإِتْلَافِ وَإِنْ
لم تَثْبُتْ عِصْمَةُ الْمُتْلَفِ في حَقِّهِ
وَكَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مع
إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ وَكَذَا كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مُبَاحٌ وَهِيَ
مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْزَمُ
إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ بِإِذْنِهِ إنه لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِأَنَّ
عَدَمَ الْوُجُوبِ ليس لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ
لو وَجَبَ الضَّمَانُ عليه لَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا ضَمِنَ فَلَا
يُفِيدُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ ليس بِشَرْطٍ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حتى لو أَتْلَفَ مَالًا على ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ ثُمَّ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ضَمِنَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ
لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ على الْعِلْمِ كما في الْغَصْبِ على ما مَرَّ إلَّا
أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ يَضْمَنُ وَيَأْثَمُ وإذا لم يَعْلَمْ يَضْمَنُ
وَلَا يَأْثَمُ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا لِمَا
ذَكَرْنَا في مَسَائِلِ الْغَصْبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ماهبة ( ( ( ماهية ) ) ) الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ ما
سِوَى بَنِي آدَمَ فَالْوَاجِبُ بِهِ ما هو الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ وهو ضَمَانُ
الْمِثْلِ إنْ كان الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إنْ كان مِمَّا
لَا مِثْلَ له لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ وَالِاعْتِدَاءُ
لم يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ
الْمُطْلَقِ وهو الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى
وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وهو الْقِيمَةُ كما في الْغَصْبِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
____________________
(7/168)
كِتَابُ
الْحَجْرِ وَالْحَبْسِ في هذا الْكِتَابِ فَصْلَانِ فَصْلٌ في الْحَجْرِ وَفَصْلٌ
في الْحَبْسِ
أَمَّا الْحَجْرُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في
بَيَانِ أَسْبَابِ الْحَجْرِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الْحَجْرِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَرْفَعُ الْحَجْرَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ
الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ ما لها رَابِعٌ الْجُنُونُ
وَالصِّبَا وَالرِّقُّ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّفَهُ وَالتَّبْذِيرُ وَمَطْلُ الغنى وَرُكُوبُ
الدَّيْنِ وَخَوْفُ ضَيَاعِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّلْجِئَةُ
وَالْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ من أَسْبَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا فَيَجْرِي
عِنْدَهُمْ في السَّفِيهِ الْمُفْسِدِ لِلْمَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْوُجُوهِ
الْبَاطِلَةِ وفي الْمُبَذِّرِ الذي يُسْرِفُ في النَّفَقَةِ وَيَغْبِنُ في
التِّجَارَاتِ وَفِيمَنْ يَمْتَنِعُ عن قَضَاءِ الدَّيْنِ مع الْقُدْرَةِ عليه
إذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ من الْقَاضِي أَنْ
يَبِيعَ عليه مَالَهُ وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَفِيمَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ
وَلَهُ مَالٌ فَخَافَ الْغُرَمَاءُ ضَيَاعَ أَمْوَالِهِ بِالتِّجَارَةِ فَرَفَعُوا
الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَطَلَبُوا منه أَنْ يَحْجُرَ عليه أو خَافُوا أَنْ
يلجىء ( ( ( يلجئ ) ) ) أَمْوَالَهُ فَطَلَبُوا من الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَهُ عن
الْإِقْرَارِ إلا لِلْغُرَمَاءِ فَيَجْرِي الْحَجْرُ في هذه الْمَوَاضِعِ
عِنْدَهُمْ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي
وما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كان لايجري الْحَجْرَ إلَّا
على ثَلَاثَةٍ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ منه حَقِيقَةَ الْحَجْرِ وهو الْمَعْنَى
الشَّرْعِيُّ الذي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لو أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ في
الْفَتْوَى جَازَ وَلَوْ أَفْتَى قبل الْحَجْرِ وَأَخْطَأَ لَا يَجُوزُ وَكَذَا
الطَّبِيبُ لو بَاعَ الْأَدْوِيَةَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ بَيْعُهُ فَدَلَّ
أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الْحَجْرَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ
الْحِسِّيَّ أَيْ يُمْنَعُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عن عَمَلِهِمْ حِسًّا لِأَنَّ
الْمَنْعَ عن ذلك من بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ
لِأَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَاجِنَ يُفْسِدُ أَدْيَانَ الْمُسْلِمِينَ وَالطَّبِيبَ
الْجَاهِلَ يُفْسِدُ أَبْدَانَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسَ يُفْسِدُ
أَمْوَالَ الناس في الْمَفَازَةِ فَكَانَ مَنْعُهُمْ من ذلك من بَابِ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ لَا من بَابِ الْحَجْرِ فَلَا
يَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
وَلَوْ حَجَرَ الْقَاضِي على السَّفِيهِ وَنَحْوِهِ لم يَنْفُذْ حَجْرُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لو تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ يَنْفُذُ
تَصَرُّفُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ كان الْحَجْرُ هَهُنَا مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ
الْحَجْرَ من الْقَاضِي قَضَاءٌ منه وَقَضَاءُ في الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا
يَنْفُذُ وَيَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عليه إذَا لم يَكُنْ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كان فَلَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ التي
لَا يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ فيها إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ
في كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي
وَاخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا في السَّفِيهِ أَنَّهُ هل
يَصِيرُ مَحْجُورًا عليه بِنَفْسِ السَّفَهِ أَمْ يَقِفُ الِانْحِجَارُ على حَجْرِ
الْقَاضِي قال أبو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا إلَّا بِحَجْرِ الْقَاضِي
وقال مُحَمَّدٌ يَنْحَجِرُ بِنَفْسِ السَّفَهِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى حَجْرِ
الْقَاضِي
وَحُجَّةُ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كان الذي عليه
الْحَقُّ سَفِيهًا أو ضَعِيفًا أو لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْمَذْكُورِينَ
وَلِيًّا
منهم السَّفِيهُ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا وَلِيَّ لِلسَّفِيهِ
لِأَنَّهُ إذَا كان له وَلِيٌّ دَلَّ أَنَّهُ مُوَلَّى عليه فَلَا يَنْفُذُ
تَصَرُّفُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ }
نهي عن إعْطَاءِ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءَ وَعِنْدَهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ
إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَإِنْ كان سَفِيهًا
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَاعَ على مُعَاذٍ مَالَهُ
بِسَبَبِ دُيُونٍ رَكِبَتْهُ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ لِأَنَّ الْبَيْعَ عليه لَا يُذْكَرُ إلَّا في غَيْرِ
مَوْضِعِ الرِّضَا وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ
وَالْمَصْلَحَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْإِطْلَاقِ مَرَّةً وَبِالْحَجْرِ أُخْرَى
وَالْمَصْلَحَةُ هَهُنَا في الْحَجْرِ وَلِهَذَا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا
يُمْنَعُ عنه مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِلَا خِلَافٍ
وَلِهَذَا حُجِرَ على الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِكَوْنِ الْحَجْرِ مَصْلَحَةً في
حَقِّهِمَا
كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَالْإِقْرَارِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ من نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَلَا يَبْخَسْ منه شيئا } أَجَازَ
اللَّهُ تَعَالَى الْبَدَلَيْنِ حَيْثُ نَدَبَ إلَى الْكِتَابَةِ وَأَثْبَتَ
الْحَقَّ حَيْثُ أَمَرَ من عليه الْحَقُّ بِالْإِمْلَاءِ وَنَهَى عن الْبَخْسِ
عَامًّا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ
مِنْكُمْ } وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عليه تِجَارَةً لَا عن تَرَاضٍ فَلَا
____________________
(7/169)
يَجُوزُ
وَبَيْعُ السَّفِيهِ مَالَهُ تِجَارَةٌ عن تَرَاضٍ فَيَجُوزُ
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } عَامًّا
وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ إقْرَارٌ
وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ منها أو رُدُّوهَا }
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَآيَةِ
الظِّهَارِ وَآيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ شَرَعَ اللَّهُ هذه التَّصَرُّفَاتِ
عَامًّا وَالْحَجْرُ عن الْمَشْرُوعِ مُتَنَاقِضٌ
وَكَذَا نَصُّ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ يَقْتَضِيَانِ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ على
الْمُظَاهِرِ الحالف ( ( ( والحالف ) ) ) الْحَانِثِ وَجَوَازَهُ عن الْكَفَّارَةِ
عَامًّا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لايجب التَّحْرِيرُ على السَّفِيهِ وَلَوْ
حَرَّرَ لَا يَجْزِيهِ عن الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ على
الْعَبْدِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ فَلَا يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا
فَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ بَيْعَ السَّفِيهِ مَالَ
نَفْسِهِ تَصَرُّفٌ صَدَرَ من الْأَهْلِ بِرُكْنِهِ في مَحِلٍّ هو خَالِصُ
مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الرَّشِيدِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ
حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودَهُ شَرْعًا بِصُدُورِهِ من أَهْلِهِ
وَحُلُولِهِ في مَحِلِّهِ وقد وُجِدَ
وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عليه تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْغَيْرِ من غَيْرِ رِضَا
الْمَالِكِ وإنه لَا يَنْفُذُ كَالْفُضُولِيِّ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّفِيهُ هو
الصَّغِيرُ
وَبِهِ نَقُولُ
وَقِيلَ إنَّ الْوَلِيَّ هَهُنَا هو من له الْحَقُّ يُمْلِي بِالْعَدْلِ عِنْدَ
حَضْرَةَ من عليه الدَّيْنُ لِئَلَّا يَزِيدَ على ما عليه شيئا وَلَوْ زَادَ
أَنْكَرَ عليه وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمْ } فَقَدْ قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمُرَادُ من
السُّفَهَاءِ النَّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ الصِّغَارُ يُؤَيِّدُهُ في سِيَاقِ
الْآيَةِ قَوْلُهُ { وَارْزُقُوهُمْ فيها وَاكْسُوهُمْ } وَرِزْقُ النَّسَاءِ
وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ هو الذي يَجِبُ على الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ لَا
رِزْقُ السَّفِيهِ وَكِسْوَتُهُ فإن ذلك يَكُونُ من مَالِ السَّفِيهِ
على أَنَّ في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْ لَا تُؤْتُوهُمْ مَالَ أَنْفُسِكُمْ
لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْمُعْطِي لَا إلَى
الْمُعْطَى له وَبِهِ نَقُولُ
وَأَمَّا بَيْعُ مَالِ مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ كان بِرِضَاهُ إذْ لَا
يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ بَيْعَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ويتمنع
( ( ( ويمتنع ) ) ) بِنَفْسِهِ عنه قَضَاءِ الدَّيْنِ مع ما ( ( ( مع ) ) )
أَنَّهُ قد رُوِيَ أَنَّهُ طَلَبَ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ
يَبِيعَ مَالَهُ ليغال ( ( ( لينال ) ) ) بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ
مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ كما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا
اُسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يوم احد وَتَرَكَ دُيُونًا فَطَلَبَ جَابِرٌ من رسول ( ( (
النبي ) ) ) الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ أَمْوَالَهُ لِيَنَالَ
بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ بِذَلِكَ مَقْضِيًّا وكان كما ظَنَّ
وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَنْعِ الْمَالِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا لَا يَسْتَقِيمُ
لِأَنَّ الْمَنْعَ تَصَرُّفٌ في الْمَالِ وَالْحَجْرُ تَصَرُّفٌ على النَّفْسِ
وَالنَّفْسُ أَعْظَمُ خَطَرًا من الْمَالِ فَثُبُوتُ أَدْنَى الْوِلَايَتَيْنِ لَا
يَدُلُّ على ثُبُوتِ أَعْلَاهُمَا
ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا يُمْنَعُ عن مَالِهِ نَظَرًا له تَقْلِيلًا لِلسَّفَهِ
لِمَا أَنَّ السَّفَهَ غَالِبًا يَجْرِي في الْهِبَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ فإذا
مُنِعَ منه مَالُهُ يَنْسَدُّ بَابُ السَّفَهِ فَيَقِلُّ السَّفَهُ
فَأَمَّا الْمُعَاوَضَاتُ فَلَا يَغْلِبُ فيها السَّفَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى
الْحَجْرِ لِتَقْلِيلِ السَّفَهِ وإنه يَقِلُّ بِدُونِهِ فَيَتَمَحَّضُ الْحَجْرُ
ضَرَرًا بِإِبْطَالِ أَهْلِيَّتِهِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من
أَهْلِ التَّصَرُّفِ فلم يَتَضَمَّنْ الْحَجْرُ إبْطَالَ الْأَهْلِيَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ فَحُكْمُهُ يَظْهَرُ في مَالِ
الْمَحْجُورِ وفي التَّصَرُّفِ في مَالِهِ
أَمَّا حُكْمُ الْمَالِ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فإنه يُمْنَعُ عنه مَالُهُ ما دام
مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَالِ في
يَدِ من لَا عَقْلَ له إتْلَافُ الْمَالِ
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَيُمْنَعُ عنه مَالُهُ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ منه
رُشْدُهُ وَلَا بَأْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شيئا من أَمْوَالِهِ
وَيَأْذَنَ له بِالتِّجَارَةِ لِلِاخْتِبَارِ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ في
ابْتِلَاءِ الْيَتَامَى وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ
فَكَانَ الْإِذْنُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ وإذا اخْتَبَرَهُ فَإِنْ
آنَسَ منه رُشْدًا دَفَعَ الْبَاقِيَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ
آنَسْتُمْ منهم رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَالرُّشْدُ هو
الِاسْتِقَامَةُ وَالِاهْتِدَاءُ في حِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُمْنَعُ منه مَالُهُ
وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ شيئا من أَمْوَالِهِ إلَيْهِ وَأَنْ
يَأْذَنَ له بِالتِّجَارَةِ قبل الْبُلُوغِ
وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ لم يَأْنَسْ منه رُشْدًا مَنَعَهُ منه إلَى أَنْ يَبْلُغَ فَإِنْ بَلَغَ
رَشِيدًا دَفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا فإنه
يَمْنَعُ عنه مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سنة بِالْإِجْمَاعِ فإذا بَلَغَ هذا
الْمَبْلَغَ ولم يُؤْنِسْ رُشْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ ما دَامَ سَفِيهًا
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا مَالَ له يُمْنَعُ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْحَجْرِ في
حَقِّهِ في الْمَالِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ في التَّصَرُّفَاتِ
هذا حُكْمُ الْحَجْرِ في مَالِ الْمَحْجُورِ
وَأَمَّا حُكْمُهُ في تَصَرُّفِهِ فَالتَّصَرُّفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
من
____________________
(7/170)
الْأَقْوَالِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من الْأَفْعَالِ
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ نَافِعٍ
مَحْضٍ
وَضَارٍّ مَحْضٍ وَدَائِرٍ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ
أَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ منه التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ كُلُّهَا فَلَا
يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ وَكِتَابَتُهُ وَإِقْرَارُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ
بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ حتى لَا تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ وَلَا يَصِحُّ منه قَبُولُ
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَكَذَا الصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ
لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَانْعِقَادِهِ وَلَا
أَهْلِيَّةَ بِدُونِ الْعَقْلِ
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَتَصِحُّ منه التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ بِلَا
خِلَافٍ وَلَا تَصِحُّ منه التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ
بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الدَّائِرَةُ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَيَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا على
إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهلا تَنْعَقِدُ أَصْلًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وقد مَرَّتْ في مَوْضِعِهَا
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَيَصِحُّ منه قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَكَذَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ
وَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّ مَوْلَاهُ وَيَصِحُّ في
حَقِّ نَفْسِهِ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَأَمَّا الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ من التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بين الضَّرَرِ
وَالنَّفْعِ فَلَا يَنْفُذُ بَلْ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْمَوْلَى
وَدَلَائِلُ هذه الْمَسَائِلِ ذُكِرَتْ في مَوَاضِعِهَا
وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ الْغُصُوبُ وَالْإِتْلَافَاتُ
فَهَذِهِ الْعَوَارِضُ وَهِيَ الصِّبَا وَالْجُنُونُ وَالرِّقُّ لَا تُوجِبُ
الْحَجْرَ فيها
حتى لو أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شيئا فَضَمَانُهُ في مَالِهِمَا
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فإنه يُؤَاخَذُ بِهِ لَكِنْ
بَعْدَ الْعَتَاقِ
أما السَّفِيهُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ ليس بِمَحْجُورٍ عن
التَّصَرُّفَاتِ أَصْلًا وَحَالُهُ وَحَالُ الرَّشِيدِ في التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ
لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا في وَجْهٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ
سَفِيهًا يُمْنَعُ عنه مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وإذا بَلَغَ
رَشِيدًا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ
فَأَمَّا في التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَخْتَلِفَانِ حتى لو تَصَرَّفَ بعدما بَلَغَ
سَفِيهًا وَمُنِعَ عنه مَالُهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ كما يَنْفُذُ بَعْدَ أَنْ
دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ عِنْدَهُ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْبَالِغِ
الْمَعْتُوهِ سَوَاءٌ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِجَارَتُهُ
وَهِبَتُهُ وَصَدَقَتُهُ وما أَشْبَهَ ذلك من التَّصَرُّفَاتِ التي تَحْتَمِلُ
النَّقْضَ وَالْفَسْخَ
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ
سَوَاءٌ فَيَجُوزُ طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ
وَاسْتِيلَادُهُ وَتَجِبُ عليه نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ وَالزَّكَاةُ
في مَالِهِ وَحِجَّةُ الْإِسْلَامِ وَيُنْفِقُ على زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ
وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ من مَالِهِ وَلَا يُمْنَعُ من حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا
من الْعُمْرَةِ وَلَا من الْقَرَابِينِ وَسُوقِ الْبَدَنَةِ لَكِنْ يُسَلِّمُ
الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَالْكِرَاءَ وَالْهَدْيَ على يَدِ أَمِينٍ لِيُنْفِقَ عليه
في الطَّرِيقِ وَلَا وِلَايَةَ عليه لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ ووصبهما ( ( ( ووصيهما )
) ) وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ على نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَتَجُوزُ
وَصَايَاهُ بِالْقُرْبِ في مَرَضِ مَوْتِهِ من ثُلْثِ مَالِهِ وَغَيْرُ ذلك من
التَّصَرُّفَاتِ التي تَصِحُّ من الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ إلَّا أَنَّهُ
إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ من مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ
بَاطِلَةٌ وإذا أَعْتَقَ عَبْدَهُ يَسْعَى في قِيمَتِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عن ذلك
وقال يَعْتِقُ من غَيْرِ سِعَايَةٍ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَلَا يَخْتَلِفَانِ
وَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ أو اشْتَرَى نَظَرَ الْقَاضِي في ذلك فما كان خَيْرًا
أَجَازَ وما كان فيه مَضَرَّةٌ رَدَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْفَعُ الْحَجْرَ أَمَّا الصَّبِيُّ فَاَلَّذِي
يَرْفَعُ الْحَجْرَ عنه شَيْئَانِ أحدهماإذن الْوَلِيِّ إيَّاهُ بِالتِّجَارَةِ
وَالثَّانِي بُلُوغُهُ إلَّا أَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يُزِيلُ الْحَجْرَ عن
التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ
وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عنها
إلَّا بِالْبُلُوغِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَزُولُ الْحَجْرُ عن الصَّبِيِّ
إلَّا بِالْبُلُوغِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
ثَمَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَزُولُ الْحَجْرُ عن التَّصَرُّفَاتِ
بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ بَلَغَ رَشِيدًا أو سَفِيهًا وَكَذَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
إلَّا أَنْ يَحْجُرَ عليه الْقَاضِي بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْحَجِرُ بِحَجْرِهِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْحَجِرُ الصَّبِيُّ عن
التَّصَرُّفِ بِحَجْرِ الْقَاضِي لَكِنْ يَمْنَعُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
سَنَةً
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَزُولُ إلَّا بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا
ثُمَّ الْبُلُوغُ في الْغُلَامِ يُعْرَفُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ
وَالْإِنْزَالِ وفي الْجَارِيَةِ يُعْرَفُ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ
فَإِنْ لم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَيُعْتَبَرُ بِالسِّنِّ
أَمَّا مَعْرِفَةُ الْبُلُوغِ بِالِاحْتِلَامِ فَلِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ منها الصَّبِيُّ حتى يَحْتَلِمَ
جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاحْتِلَامَ غَايَةً لِارْتِفَاعِ
الْخِطَابِ وَالْخِطَابُ بِالْبُلُوغِ دَلَّ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ
بِالِاحْتِلَامِ وَلِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالْإِدْرَاكَ عِبَارَةٌ عن بُلُوغِ
الْمَرْءِ كَمَالَ الْحَالِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ
وَالْقُدْرَةُ
____________________
(7/171)
من
حَيْثُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ هِيَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ
الْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ
وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ على الْكَمَالِ إلَّا عِنْدَ الِاحْتِلَامِ
فَإِنْ قِيلَ الْإِدْرَاكُ إمْكَانُ استعامل ( ( ( استعمال ) ) ) سَائِرِ
الْجَوَارِحِ إنْ كان ثَابِتًا فَأَمَّا إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْآلَةِ
الْمَخْصُوصَةِ وهو قَضَاءُ الشَّهْوَةِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ
بِثَابِتٍ لِأَنَّ كَمَالَهَا بِالْإِنْزَالِ وَالِاحْتِلَامِ سَبَبٌ لِنُزُولِ
الْمَاءِ على الْأَغْلَبِ فَجُعِلَ عَلَمًا على الْبُلُوغِ وَلِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بإبتغاء الْوَلَدِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ له بِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وَالتَّكْلِيفُ
بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ في وَقْتٍ لو ابْتَغَى الْوَلَدَ
لَوُجِدَ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا في خُرُوجِ الْمَاءِ لِلشَّهْوَةِ وَذَلِكَ في
حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ في الْمُتَعَارَفِ
وَلِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ عن حَيِّزِ الْأَوْلَادِ وَيَدْخُلُ في
حَيِّزِ الْآبَاءِ حتى يُسَمَّى أَبَا فُلَانٍ لَا وَلَدَ فُلَانٍ في
الْمُتَعَارَفِ
لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ من أَهْلِ الْعَلُوقِ فَكَانَ الِاحْتِلَامُ عَلَمًا على
الْبُلُوغِ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ يَثْبُتُ بِالْإِنْزَالِ
لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي يَتَعَلَّقُ بِالنُّزُولِ لَا بِنَفْسِ
الِاحْتِلَامِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِلَامَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَادَةً
فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ وَكَذَا الْإِحْبَالُ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ
الْإِنْزَالِ عَادَةً
فَإِنْ لم يُوجَدْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ
وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في أَدْنَى السِّنِّ التي يَتَعَلَّقُ بها الْبُلُوغُ
قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً في الْغُلَامِ
وَسَبْعَ عَشْرَةَ في الْجَارِيَةِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ خَمْسَ عَشْرَةَ
سَنَةً في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ في الْحَقِيقَةِ هو الْعَقْلُ وهو الْأَصْلُ
في الْبَابِ إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ جُعِلَ
حَدًّا في الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا على كَمَالِ الْعَقْلِ وَالِاحْتِلَامُ
لَا يَتَأَخَّرُ عن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَادَةً فإذا لم يَحْتَلِمْ إلَى هذه
الْمُدَّةِ عُلِمَ أَنَّ ذلك لِآفَةٍ في خِلْقَتِهِ وَالْآفَةُ في الْخِلْقَةِ لَا
تُوجِبُ آفَةً في الْعَقْلِ فَكَانَ الْعَقْلُ قَائِمًا بِلَا آفَةٍ فَوَجَبَ
اعْتِبَارُهُ في لُزُومِ الْأَحْكَامِ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عُرِضَ على رسول اللَّهِ
غُلَامٌ وهو ابن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ وَعُرِضَ وهو ابن خَمْسَ
عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ فَقَدْ جَعَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ حَدًّا لِلْبُلُوغِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ
وَالْخِطَابَ بِالِاحْتِلَامِ بِالدَّلَائِلِ التي ذَكَرْنَاهَا فَيَجِبُ بِنَاءُ
الْحُكْمِ عليه وَلَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ عنه ما لم يَتَيَقَّنْ بِعَدَمِهِ
وَيَقَعُ الْيَأْسُ عن وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ
لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ إلَى هذه الْمُدَّةِ مُتَصَوَّرٌ في الْجُمْلَةِ فَلَا
يَجُوزُ إزَالَةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالِاحْتِلَامِ عنه مع الِاحْتِمَالِ على
هذا أُصُولُ الشَّرْعِ فإن حُكْمَ الْحَيْضِ لَمَّا كان لَازِمًا في حَقِّ
الْكَبِيرَةِ لَا يَزُولُ بِامْتِدَادِ الطُّهْرِ ما لم يُوجَدْ الْيَأْسُ
وَيَجِبُ الِانْتِظَارُ لِمُدَّةِ الْيَأْسِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْحَيْضِ
وَكَذَا التَّفْرِيقُ في حَقِّ الْعِنِّينِ لَا يَثْبُتُ ما دَامَ طَمَعُ
الْوُصُولِ ثَابِتًا بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِاحْتِمَالِ الْوُصُولِ في فُصُولِ
السَّنَةِ فإذا مَضَتْ السَّنَةُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ الْآنَ يُحْكَمُ
بِالتَّفْرِيقِ
وَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ في حَقِّ
الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عن
قَبُولِهِمْ فما لم يَقَعْ الْيَأْسُ لَا يُبَاحُ لنا الْقِتَالُ
فَكَذَلِكَ هَهُنَا ما دام الِاحْتِلَامُ يُرْجَى يَجِبُ الِانْتِظَارُ وَلَا
يَأْسَ بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى هذه الْمُدَّةِ بَلْ هو مَرْجُوٌّ
فَلَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاحْتِلَامِ عنه مع رَجَاءِ وُجُودِهِ
بِخِلَافِ ما بَعْدَ هذه الْمُدَّةِ فإنه لَا يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ بَعْدَهَا
فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ في زَمَانِ الْيَأْسِ عن وُجُودِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ ذلك
لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ احْتَلَمَ في ذلك الْوَقْتِ
وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَجَازَ ذلك لَمَّا رَآهُ صَالِحًا لِلْحَرْبِ
مُحْتَمِلًا له على سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ لِلْجِهَادِ كما أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ
سَائِرِ الْقُرَبِ في أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ لها فَلَا
يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وإذا أَشْكَلَ أَمْرُ الْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ
في الْبُلُوغِ فقال قد بَلَغْتُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ
وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْبُلُوغِ هو
الِاحْتِلَامُ على ما بَيَّنَّا وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا من جِهَتِهِ
فَأَلْزَمَتْ الضَّرُورَةُ قَبُولَ قَوْلِهِ كما في الأخبار عن الطُّهْرِ
وَالْحَيْضِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عنه إلَّا بِالْإِفَاقَةِ فإذا
أَفَاقَ رَشِيدًا أو سَفِيهًا فَحُكْمُهُ في ذلك حُكْمُ الصَّبِيِّ وقد
ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَالْحَجْرُ يَزُولُ عنه بِالْإِعْتَاقِ مَرَّةً
وَبِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُزِيلُ الْحَجْرَ
عنه على الْإِطْلَاقِ وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ إلَّا في
التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ
وَأَمَّا السَّفِيهُ فَلَا حَجْرَ عليه عن التَّصَرُّفِ أَصْلًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَا يُتَصَوَّرُ الزَّوَالُ
وَأَمَّا على مَذْهَبِهِمْ فَزَوَالُهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِضِدِّهِ وهو
الْإِطْلَاقُ من الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِحَجْرِهِ
____________________
(7/172)
لَا
يَنْطَلِقُ إلَّا بِإِطْلَاقِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ زَوَالُ الْحَجْرِ على السَّفِيهِ بِظُهُورِ رُشْدِهِ لِأَنَّ
الْحِجَارَةَ كان بِسَفَهِهِ فَانْطِلَاقُهُ يَكُونُ بِضِدِّهِ وهو رُشْدُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وهو فَصْلُ الْحَبْسِ فَالْحَبْسُ على نَوْعَيْنِ
حَبْسُ الْمَدْيُونِ بِمَا عليه من الدَّيْنِ وَحَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ
الْحَبْسِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ ما يُمْنَعُ عنه
الْمَحْبُوسُ وما لَا يُمْنَعُ
أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْحَبْسِ فَهُوَ الدَّيْنُ قَلَّ أو كَثُرَ وَأَمَّا
شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فَلَا يُحْبَسُ
في الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ الْمُتَحَقِّقِ
بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ولم يُوجَدْ من الديون ( ( ( المديون ) ) ) لِأَنَّ
صَاحِبَ الدَّيْنِ هو الذي أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ وَكَذَا لَا
يُمْنَعُ من السَّفَرِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أو قَرُبَ
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قبل حَلِّ الْأَجَلِ وَلَا يُمْكِنُ
مَنْعُهُ وَلَكِنْ له أَنْ يَخْرُجَ معه حتى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ مَنَعَهُ من
الْمُضِيِّ في سَفَرِهِ إلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ على قَضَاءِ
الدَّيْنِ حتى لو كان مُعْسِرًا لَا يُحْبَسُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَإِنْ كان ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلِأَنَّ الْحَبْسَ
لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ ولا ظُلِمَ فيه لِعَدَمِ
الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَقْدِرْ على قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْحَبْسُ
مُفِيدًا لِأَنَّ الْحَبْسَ شُرِعَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا
لِعَيْنِهِ
وَمِنْهَا الْمَطْلُ وهو تَأْخِيرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ مَطْلُ الغنى
ظُلْمٌ فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ
وَقَوْلِهِ لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ وَالْحَبْسُ
عُقُوبَةٌ وما لم يَظْهَرْ منه الْمَطْلُ لَا يُحْبَسُ لِانْعِدَامِ الْمَطْلِ
واللى منه
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ من عليه الدَّيْنُ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ
الدَّيْنِ فَلَا يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ
وَإِنْ سَفَلُوا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا } وقَوْله تَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَلَيْسَ من
الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ إلَّا
أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ من الْإِنْفَاقِ على وَلَدِهِ الذي عليه
نَفَقَتُهُ فإن الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ لَكِنْ تَعْزِيرًا لَا حَبْسًا بِالدَّيْنِ
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْحَبْسِ
حَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ
بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا من كان وَيَسْتَوِي في الْحَبْسِ الرَّجُلُ
وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ
وَالْأُنُوثَةِ وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إذَا كان كان مِمَّنْ يَجُوزُ له
قَضَاءُ دَيْنِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ من قَضَاءِ دَيْنِهِ
صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعُ
الظُّلْمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ فَطَلَبُ الْحَبْسِ من الْقَاضِي
فما لم يَطْلُبْ لَا يُحْبَسْ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ
إلَى حَقِّهِ وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْمَرْءِ إنَّمَا
يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ فَلَا بُدَّ من الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ
وإذا عُرِفَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ
الْقَاضِي السَّبَبُ مع شَرَائِطِهِ بِالْحُجَّةِ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ
عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِدَفْعِ
الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عنه
وَإِنْ اشْتَبَهَ على الْقَاضِي حَالُهُ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ولم يَقُمْ
عِنْدَهُ حُجَّةٌ على أَحَدِهِمَا وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ فإنه يحبسه ( (
( يحبس ) ) ) لِيَتَعَرَّفَ عن حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ فَإِنْ
عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَبَسَهُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ
ظُلْمُهُ بِالتَّأْخِيرِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ فَيُطْلِقُهُ وَلَكِنْ لَا
يَمْنَعُ الْغُرَمَاءَ عن مُلَازَمَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْإِنْظَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ
يَرْزُقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَالًا إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُلَازِمُونَهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَإِنْ كان ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } ذَكَرَ
النَّظِرَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَثَبَتَ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي
وَلَنَا أَنَّ النَّظِرَةَ هِيَ التَّأْخِيرُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُؤَخَّرَ وهو
أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْقَاضِي أو صَاحِبُ الْحَقِّ وَلَا يَمْنَعُونَهُ من
التَّصَرُّفِ وَلَا من السَّفَرِ فإذا اكْتَسَبَ يَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ
فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وإذا مَضَى على حَبْسِهِ شَهْرٌ أو
شَهْرَانِ أو ثَلَاثَةٌ ولم يَنْكَشِفْ حَالُهُ في الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
خَلَّى سَبِيلَهُ لِأَنَّ هذا الْحَبْسَ كان لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِبْلَاءِ
عُذْرِهِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِاشْتِهَارِ الْحَالِ
وَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ فَيُطْلِقُهُ لَكِنْ الْغُرَمَاءُ لَا يُمْنَعُونَ من
مُلَازَمَتِهِ فَيُلَازِمُونَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُونَهُ من التَّصَرُّفِ
وَالسَّفَرِ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فقال الطَّالِبُ هو مُوسِرٌ
وقال الْمَطْلُوبُ أنا مُعْسَرٌ فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ
بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الطَّالِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ
____________________
(7/173)
زِيَادَةً
وَهِيَ الْيَسَارُ
وَإِنْ لم يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْكَفَالَةِ
وَالنِّكَاحِ وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ
بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ
الْعَمْدِ وَالصُّلْحِ عن الْمَالِ وَالْخُلْعِ أو ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هو
مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ في بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ
وَكَذَا في الْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ
وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذلك كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ أو الْقَتْلِ الذي
لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُوجِبُ الْمَالَ في مَالِ الْجَانِي وفي الْخَطَأِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ في آداب ( ( ( أدب ) ) ) الْقَاضِي أَنَّهُ
إنْ وَجَبَ الذين ( ( ( الدين ) ) ) عِوَضًا عن مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي نحو
ثَمَنِ الْمَبِيعِ الذي سَلِمَ له الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ وَالْغَصْبُ وَالسَّلَمُ
الذي أَخَذَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ
وَكُلُّ دَيْنٍ ليس له عِوَضٌ أَصْلًا كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ أو له عِوَضٌ ليس
بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ
وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ على
كل حَالٍ وَلَا يُحْبَسُ لِأَنَّ الْفَقْرَ أَصْلٌ في بَنِي آدَمَ والغنا ( ( (
والغنى ) ) ) عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وقال بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ على كل حَالٍ لِقَوْلِهِ لِصَاحِبِ
الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ
وقال بَعْضُهُمْ يُحَكَّمُ زِيُّهُ إذَا كان زِيُّهُ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَإِنْ كان زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمَطْلُوبِ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
يُحَكَّمُ زِيُّهُ فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ في الْفَقْرِ والغنا ( ( ( والغنى ) ) )
إلَّا إذَا كان الْمَطْلُوبُ من الْفُقَهَاءِ أو الْعَلَوِيَّةِ أو الْأَشْرَافِ
لِأَنَّ من عَادَاتِهِمْ التَّكَلُّفَ في اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّلَ بِدُونِ الغنا
فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوْلَ في الشَّرْعِ
قَوْلُ من يَشْهَدُ له الظَّاهِرُ وإذا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلًا عن مَالٍ سَلِمَ
له كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ
بِسَلَامَةِ الْمَالِ وَكَذَا في الزَّكَاةِ أنها لَا تَجِبُ إلَّا على الْغَنِيِّ
فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ
الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وهو إقْدَامُهُ على الْمُعَاقَدَةِ فإن الْإِقْدَامَ على التَّزَوُّجِ دَلِيلُ
الْقُدْرَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الأنسان لَا يَتَزَوَّجُ حتى يَكُونَ له شَيْءٌ
وَلَا يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حتى يَكُونَ له قُدْرَةٌ على الْمَهْرِ وَكَذَا
الْإِقْدَامُ على الْخُلْعِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُخَالِعُ عَادَةً حتى
يَكُونَ عِنْدَهَا شَيْءٌ وَكَذَا الصُّلْحُ لَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عليه إلَّا
عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ في هذه الْمَوَاضِعِ
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ ما يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ عنه وما لَا يُمْنَعُ
فَالْمَحْبُوسُ مَمْنُوعٌ عن الْخُرُوجِ إلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ وَإِلَى
الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ
الْمَرْضَى وَالزِّيَارَةِ وَالضِّيَافَةِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى
قَضَاءِ الدَّيْنِ فإذا مُنِعَ عن أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ
وَالدُّنْيَوِيَّةِ تَضَجَّرَ فَيُسَارِعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يُمْنَعُ
من دُخُولِ أَقَارِبِهِ عليه لِأَنَّ ذلك لَا يُخِلُّ بِمَا وَضَعَ له الْحَبْسُ
بَلْ قد يَقَعُ وَسِيلَةً إلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ من التَّصَرُّفَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ ومن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِقْرَارِ
لِغَيْرِهِمْ من الْغُرَمَاءِ حتى لو فَعَلَ شيئا من ذلك نَفَذَ ولم يَكُنْ
لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ
أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ
وَلَوْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ الَّذِينَ حُبِسَ لِأَجْلِهِمْ من الْقَاضِي أَنْ
يَحْجُرَ على الْمَحْبُوسِ من الْإِقْرَارِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا
لم يُجِبْهُمْ إلَى ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدُهُمَا له
أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ
وَكَذَا إذَا طَلَبُوا من الْقَاضِي بَيْعَ مَالِهِ عليه مِمَّا سِوَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ من الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ له أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ
عِنْدَهُمَا وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُجِيبُهُمْ
إلَى ذلك وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ لَكِنْ إذَا كان دَيْنُهُ دَرَاهِمَ
وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بها دَيْنَهُ لِأَنَّهَا من جِنْسِ
حَقِّهِ
وَإِنْ كان دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَهُ دَنَانِيرُ بَاعَهَا الْقَاضِي
بِالدَّرَاهِمِ وَقَضَى بها دَيْنَهُ وَكَذَا إذَا كان دَيْنُهُ دَنَانِيرَ
وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ وَقَضَى بها دَيْنَهُ
فَرْقٌ بين الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ
يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يَبِيعُ سَائِرَ
الْأَمْوَالِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ من جِنْسٍ وَاحِدٍ من
وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ في بَابِ
الزَّكَاةِ والمؤدي عن أَحَدِهِمَا كان مؤديا ( ( ( مؤدى ) ) ) عن الْآخَرِ عِنْدَ
الْهَلَاكِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ من وَجْهٍ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كَعَيْنِ الْآخَرِ حُكْمًا وَلَيْسَ بين الْعُرُوضِ وَبَيْنَ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُجَانَسَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ
على الْمَحْبُوسِ بِبَيْعِهِمَا بها وَلِأَنَّ الْعُرُوضَ إذَا بِيعَتْ لِقَضَاءِ
الدَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تشتري مِثْلَ ما تشتري في سَائِرِ الْأَوْقَاتِ بَلْ
دُونَ
____________________
(7/174)
ذلك
وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ وَلَا ضَرَرَ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا لَا
تَتَفَاوَتُ وَهَذَا بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ
جَمِيعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي ليس تَصَرُّفًا على
الْمَيِّتِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ وَلِأَنَّهُ رضي بِذَلِكَ في
آخَرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ
هذا هو الظَّاهِرُ لِأَنَّ قَضَاءَ الدُّيُونِ من حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ
فَكَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ من أَيِّ مَالٍ كان تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ
عن عُهْدَةِ الدَّيْنِ عِنْدَمَا سَدَّهُ عن حَيَاتِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيُنْفِقُ الْمَحْبُوسُ على نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَقَارِبِهِ وَلَا يُمْنَعُ
من ذلك وَلَا عن شَيْءٍ من التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ في
الْأَصْلِ على نَوْعَيْنِ مَحْبُوسٌ هو مَضْمُونٌ وَمَحْبُوسٌ هو أَمَانَةٌ
وَالْمَضْمُونُ على نَوْعَيْنِ أَيْضًا
مَضْمُونٍ بِالثَّمَنِ وَمَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَالْمَضْمُونُ بِالثَّمَنِ
كَالْمَبِيعِ في يَدِ الْبَائِعِ حتى لو هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ لو
بَقِيَ لَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ
الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِإِزَاءِ تَمْلِيكٍ
وَتَسْلِيمٌ بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ وهو عَاجِزٌ عن التَّسْلِيمِ لِهَلَاكِ
الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ
بِالثَّمَنِ فَيُسْقِطُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ في الْبَقَاءِ وَلِأَنَّ
الْمَبِيعَ في يَدِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا من الْمَقْبُوضِ على
سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذلك مَضْمُونٌ
بِالْقِيمَةِ وَهَذَا بِالثَّمَنِ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ هَهُنَا
وَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَصْلًا
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ من مَالِ نَفْسِهِ
فَحَبَسَ السِّلْعَةَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ من الْمُوَكِّلِ فَهَلَكَ فَإِنْ
كان قبل الطَّلَبِ يَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا وَلَوْ كان
بَعْدَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا لَكِنْ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ضَمَانُ الرَّهْنِ وَعِنْدَ زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ
وَأَمَّا الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ فَكَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا لم
يَكُنْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إذَا فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمَبِيعُ في
يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَبَسَهُ لِيَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عليه فَهَلَكَ في
يَدِهِ يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ
وَكَذَا الْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا لَكِنْ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ
وَمِنْ الدَّيْنِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى ليس بِمَضْمُونٍ أَصْلًا
وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ
وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ الذي هو أَمَانَةٌ فَنَحْوُ نَمَاءِ الرَّهْنِ فإنه
مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ حتى لو هَلَكَ
لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ
وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً إجَارَةً فَاسِدَةً إذَا كان عَجَّلَ
الْأُجْرَةَ فَحَبَسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ حتى هَلَكَتْ
في يَدِهِ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْإِكْرَاهِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَشَرْعًا
وفي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْإِكْرَاهِ وفي
بَيَانِ حُكْمِ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ إذَا أتى بِهِ الْمُكْرَهُ وفي
بَيَانِ ما عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ أو زَادَ
على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ أو نَقَصَ عنه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِكْرَاهُ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن إثْبَاتِ الْكُرْهِ
وَالْكُرْهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْمُكْرَهِ يُنَافِي الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا
وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلَ الْآخَرِ قال اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئا وهو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تُحِبُّوا شيئا وهو شَرٌّ لَكُمْ } وَلِهَذَا قال أَهْلُ السُّنَّةِ إنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ أَيْ لَا
يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَى بها وَإِنْ كانت الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ
اللَّهِ عز وجل وفي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن الدُّعَاءِ إلَى الْفِعْلِ
بِالْإِيعَادِ وَالتَّهْدِيدِ مع وُجُودِ شَرَائِطِهَا التي نَذْكُرُهَا في
مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ إنَّهُ نَوْعَانِ
نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ
وَالضَّرْبِ الذي يُخَافُ فيه تَلَفُ النَّفْسِ أو الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أو كَثُرَ
وَمِنْهُمْ من قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عليه تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فإذا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى
لِصُورَةِ الْعَدَدِ
وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ
وَالِاضْطِرَارَ وهو الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الذي لَا يُخَافُ منه
التَّلَفُ وَلَيْسَ فيه تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ منه
الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ من هذه الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ
وَالضَّرْبَ وَهَذَا النَّوْعُ من الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا
____________________
(7/175)
فَصْلٌ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا على
تَحْقِيقِ ما أَوْعَدَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ
الْقُدْرَةِ
وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ
إلَّا من السُّلْطَانِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّهُ
يَتَحَقَّقُ من السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْإِكْرَاهَ ليس إلَّا إيعَادٌ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ
وَهَذَا يَتَحَقَّقُ من كل مُسَلَّطٍ وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يقول غَيْرُ
السُّلْطَانِ لَا يَقْدِرُ على تَحْقِيقِ ما أَوْعَدَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ
يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ فَيُغِيثُهُ فإذا كان الْمُكْرَهُ هو السُّلْطَانُ
فَلَا يَجِدُ غَوْثًا
وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْمَعْنَى إنَّمَا هو خِلَافُ زَمَانٍ
فَفِي زَمَنِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لم يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ
قُدْرَةُ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ في زَمَانِهِمَا فَغَيَّرَ
الْفَتْوَى على حَسَبِ الْحَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ حتى يَتَحَقَّقَ
من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا كان مُطَاعًا مُسَلَّطًا وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ
وَالتَّمْيِيزُ الْمُطْلَقُ ليس بِشَرْطٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ من
الْبَالِغِ الْمُخْتَلَطِ الْعَقْلِ بَعْدَ أَنْ كان مُطَاعًا مُسَلَّطًا
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ في غَالِبِ
رَأْيِهِ وَأَكْثَرِ ظَنِّهِ أَنَّهُ لو لم يُجِبْ إلَى ما دُعِيَ إلَيْهِ
تَحَقَّقَ ما أُوعِدَ بِهِ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ خُصُوصًا عِنْدَ
تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّعَيُّنِ حتى إنه لو كان في أَكْثَرِ رَأْيِ
الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ ما أَوْعَدَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ
الْإِكْرَاهِ شَرْعًا
وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْإِيعَادِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لم تَتَحَقَّقْ
وَمِثْلُهُ لو أَمَرَهُ بِفِعْلٍ ولم يُوعِدْهُ عليه وَلَكِنْ في أَكْثَرِ رَأْيِ
الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لو لم يَفْعَلْ تَحَقَّقَ ما أَوْعَدَ يَثْبُتُ حُكْمُ
الْإِكْرَاهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا أنه لو كان في أَكْثَرِ رَأْيِهِ
أَنَّهُ لو امْتَنَعَ عن تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ
الْجُوعُ الْمُهْلِكُ لَأُزِيلَ عنه الْإِكْرَاهُ لَا يُبَاحُ له أَنْ يُعَجِّلَ
بِتَنَاوُلِهَا وَإِنْ كان في أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ وَإِنْ صَبَرَ إلَى
تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا أُزِيلَ عنه الْإِكْرَاهُ يُبَاحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا
لِلْحَالِ
دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ دُونَ صُورَةِ
الْإِيعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تعالى ( ( ( وتعالى ) ) ) أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ حِسِّيٌّ
وَشَرْعِيٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على ضَرْبَيْنِ مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ فيه
أَمَّا الْحِسِّيُّ الْمُعَيَّنُ في كَوْنِهِ مُكْرَهًا عليه فَالْأَكْلُ
وَالشُّرْبُ وَالشَّتْمُ وَالْكُفْرُ وَالْإِتْلَافُ وَالْقَطْعُ عَيْنًا
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّكَاحُ
وَالرَّجْعَةُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ
في الْإِيلَاءِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ
وَالْإِبْرَاءُ عن الْحُقُوقِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ
وَتَرْكُ طَلَبِهَا وَنَحْوُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَتَعَلَّقُ
بها حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى
الدُّنْيَا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ التي يَقَعُ عليها الْإِكْرَاهُ في حَقِّ أَحْكَامِ
الْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ هو مُبَاحٌ وَنَوْعٌ هو مُرَخَّصٌ وَنَوْعٌ
هو حَرَامٌ ليس بِمُبَاحٍ وَلَا مُرَخَّصٍ
أَمَّا النَّوْعُ الذي هو مُبَاحٌ فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ
الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا بِأَنْ كان
بِوَعِيدِ تَلَفٍ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الإضرار ( ( (
الاضطرار ) ) ) قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا ما اُضْطُرِرْتُمْ
إلَيْهِ } أَيْ دَعَتْكُمْ شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ إلَى أَكْلِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ
من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وقد تَحَقَّقَ الإضطرار بِالْإِكْرَاهِ فَيُبَاحُ له
التَّنَاوُلُ بَلْ لَا يُبَاحُ له الِامْتِنَاعُ عنه وَلَوْ امْتَنَعَ عنه حتى
قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ كما في حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ
عنه صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ في التَّهْلُكَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
نهى عن ذلك بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ
} وَإِنْ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا يَحِلُّ له الْإِقْدَامُ عليه وَلَا
يُرَخَّصُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ
عن نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِحُكْمِهَا قَائِمَةً
وَكَذَلِكَ لو كان الْإِكْرَاهُ بِالْإِجَاعَةِ بِأَنْ قال لَتَفْعَلَنَّ كَذَا
وَإِلَّا لَأُجِيعَنَّكَ لَا يَحِلُّ له أَنْ يَفْعَلَ حتى يَجِيئَهُ من الْجُوعِ
ما يُخَافُ منه تَلَفُ النَّفْسِ أو الْعُضْوِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا
تَتَحَقَّقُ إلَّا في تِلْكَ الْحَالَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي هو مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على
اللِّسَانِ مع اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كان الْإِكْرَاهُ
تَامًّا وهو مُحَرَّمٌ في نَفْسِهِ مع ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ فَأَثَرُ بالرخصة ( ( (
الرخصة ) ) ) في تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وهو الْمُؤَاخَذَةُ لَا في تَغَيُّرِ
وَصْفِهِ وهو الْحُرْمَةُ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ
الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ
الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { من كَفَرَ بِاَللَّهِ من بَعْدِ إيمَانِهِ
إلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ من شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
____________________
(7/176)
إلَّا
من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ على التَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ في الْكَلَامِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالِامْتِنَاعُ عنه أَفْضَلُ من الْإِقْدَامِ عليه حتى لو امْتَنَعَ فَقُتِلَ كان
مَأْجُورًا لِأَنَّهُ جَادَ بِنَفْسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْجُو
أَنْ يَكُونَ له ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ بِالنَّفْسِ هُنَا
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قُتِلَ مُجْبَرًا في نَفْسِهِ فَهُوَ في
ظِلِّ الْعَرْشِ يوم الْقِيَامَةِ وَكَذَلِكَ التَّكَلُّمُ بِشَتْمِ النبي عليه
السلام مع اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا
أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ وَرَجَعَ إلَى رسول اللَّهِ فقال له ما وَرَاءَك يا
عَمَّارُ فقال شَرٌّ يا رَسُولَ اللَّهِ ما تَرَكُونِي حتى نِلْتُ مِنْكَ فقال
رسول اللَّهِ إنْ عَادُوا فَعُدْ فَقَدْ رَخَّصَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في
إتْيَانِ الْكَلِمَةِ بِشَرِيطَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ
أَمَرَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْعَوْدِ إلَى ما وُجِدَ منه لَكِنْ
الِامْتِنَاعُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ
وَمِنْ هذا النَّوْعِ شَتْمُ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ عِرْضَ الْمُسْلِمِ حَرَامُ
التَّعَرُّضِ في كل حَالٍ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ
حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ له لِعُذْرِ
الْإِكْرَاهِ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ في سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ
وَالِامْتِنَاعُ عنه حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَإِيثَارًا له على نَفْسِهِ
أَفْضَلُ وَمِنْ هذا النَّوْعِ إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ
الْمُسْلِمِ حُرْمَةُ دَمِهِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ فَلَا يَحْتَمِلُ
السُّقُوطَ بِحَالٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له الْإِتْلَافُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ
حَالَ الْمَخْمَصَةِ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ امْتَنَعَ حتى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ
بَلْ يُثَابُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ قَضَى حَقَّ
الْحُرْمَةِ فَكَانَ مَأْجُورًا لَا مَأْزُورًا
وَكَذَلِكَ إتْلَافُ مَالِ نَفْسِهِ مُرَخَّصٌ بِالْإِكْرَاهِ لَكِنْ مع قِيَامِ
الْحُرْمَةِ حتى إنه لو امْتَنَعَ فَقُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ
لِأَنَّ حُرْمَةَ ماله لا تسقط بالإكراه
لو امتنع فقتل لا يأثم بل يثاب
لأن حرمة مَالِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُبِيحَ له الدَّفْعُ قال النبي عليه السلام قَاتِلْ دُونَ
مَالِكَ وَكَذَا من أَصَابَتْهُ الْمَخْمَصَةُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ الطَّعَامَ
فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ من التَّنَاوُلِ حتى مَاتَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ رَاعَى حَقَّ الْحُرْمَةِ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَإِنْ كان نَاقِصًا من الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ
وَالضَّرْبِ الذي لَا يُخَافُ منه تَلَفُ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ لَا يُرَخَّصُ له
أَصْلًا وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَإِنْ قال كان قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ
فَلَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ على ما نَذْكُرُ
وَيَأْثَمُ بِشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لم
تَتَحَقَّقْ
وَكَذَا إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَلَكِنْ في أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ
إن الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ ما أَوْعَدَهُ لَا يُرَخَّصُ له الْفِعْلُ أَصْلًا
وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ
الْإِكْرَاهِ شَرْعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْإِكْرَاهِ أَصْلًا
فَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا أو
تَامًّا لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ
بِحَالٍ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي
حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ من أَعْضَائِهِ
وَالضَّرْبُ الْمُهْلِكُ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ ما اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا } وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ قَلَّ أو كَثُرَ قال
اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالنَّهْيُ عن التَّأْفِيفِ
نَهْيٌ عن الضَّرْبِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ
قَائِمَةً بِحُكْمِهَا فَلَا يُرَخَّصُ الْإِقْدَامُ عليه وَلَوْ أَقْدَمَ
يَأْثَمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا ضَرْبُ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إذَا كان مِمَّا لَا يُخَافُ منه التَّلَفُ
كَضَرْبِ سَوْطٍ أو نَحْوِهِ فَيُرْجَى أَنْ لَا يؤاخذبه
وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْمُكْرَهِ
بِكَثِيرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بهذا الْقَدْرِ من الضَّرَرِ لِإِحْيَاءِ
أَخِيهِ وَلَوْ أَذِنَ له الْمُكْرَهُ عليه أو قَطَعَهُ أو ضَرَبَهُ فقال
لِلْمُكْرَهِ افْعَلْ لَا يُبَاحُ له أَنْ يَفْعَلَ لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا
يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَوْ فَعَلَ فَهُوَ آثِمٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَ بِنَفْسِهِ أَثِمَ فَبِغَيْرِهِ أَوْلَى
وَكَذَا الزِّنَا من هذا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ
بِالْإِكْرَاهِ وَإِنْ كان تَامًّا وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِأَنَّ حُرْمَةَ
الزِّنَا ثَابِتَةٌ في الْعُقُولِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا الزنى ( ( ( الزنا ) ) )
إنَّهُ كان فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فَدَلَّ أَنَّهُ كان فَاحِشَةً في
الْعَقْلِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ كَقَتْلِ
الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ لَا يُبَاحُ أَيْضًا
حُرَّةً كانت أو أَمَةً أَذِنَ له ( ( ( لها ) ) ) مَوْلَاهَا لِأَنَّ الْفَرْجَ
لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُرَخَّصُ لها لِأَنَّ الذي
يُتَصَوَّرُ منها ليس إلَّا التَّمْكِينُ وَهِيَ مع ذلك مَدْفُوعَةٌ إلَيْهِ
وَهَذَا عِنْدِي فيه نَظَرٌ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا كما يُتَصَوَّرُ من الرَّجُلِ
يُتَصَوَّرُ من الْمَرْأَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
____________________
(7/177)
سَمَّاهَا
زَانِيَةً إلَّا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ وَزِنَاهَا بِالتَّمْكِينِ
وَالتَّمْكِينُ فِعْلٌ منها لَكِنَّهُ فِعْلُ سُكُوتٍ فَاحْتَمَلَ الْوَصْفَ
بِالْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فيه حُكْمُ الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ فَلَا يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ كما لَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا في الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُكْرَهُ على الشُّرْبِ لَا يَجِبُ عليه
الْحَدُّ إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا عن
الْجِنَايَةِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَالشُّرْبُ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً
بِالْإِكْرَاهِ وَصَارَ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا عليه على ما مَرَّ وإذا كان
نَاقِصًا يَجِبُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لم يُوجِبْ تَغَيُّرَ الْفِعْلِ
عَمَّا كان عليه قبل الْإِكْرَاهِ بِوَجْهٍ ما فَلَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُكْرَهُ على الْكُفْرِ لَا يُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ إذَا كان قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ
على الْإِيمَانِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِيمَانِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من
وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْإِيمَانَ في الْحَقِيقَةِ تَصْدِيقٌ وَالْكُفْرَ
في الْحَقِيقَةِ تَكْذِيبٌ وَكُلُّ ذلك عَمَلُ الْقَلْبِ
وَالْإِكْرَاهُ لايعمل على الْقَلْبِ فَإِنْ كان مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كان
مُؤْمِنًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَإِنْ كان مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كان
كَافِرًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ إلَّا أَنَّ عِبَارَةَ اللِّسَانِ جعل ( (
( جعلت ) ) ) دَلِيلًا على التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ظَاهِرًا حَالَةَ
الطَّوْعِ وقد بَطَلَتْ هذه الدَّلَالَةُ بِالْإِكْرَاهِ فَبَقِيَ الْإِيمَانُ منه
وَالْكُفْرُ مُحْتَمَلًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْإِسْلَامِ
حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مع الِاحْتِمَالِ كما لم يُحْكَمْ بِالْكُفْرِ فيها
بِالِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّهُ حُكِمَ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا
إنَّمَا قَبِلْنَا ظَاهِرَ إيمَانِهِ مع الْإِكْرَاهِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ
فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فيؤول ( ( ( فيئول ) ) ) أَمْرُهُ إلَى
الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كنا لَا نَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ لَا قَطْعًا وَلَا غَالِبًا
وَهَذَا جائر ( ( ( جائز ) ) )
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تبارك ( ( ( تباك ) ) ) وَتَعَالَى أَمَرَنَا في
النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ بِامْتِحَانِهِنَّ بَعْدَ وُجُودِ ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ
مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } لِيَظْهَرَ لنا إيمَانُهُنَّ
بِالدَّلِيلِ الْغَالِبِ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } كَذَا هَهُنَا
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ في الْإِكْرَاهِ على الْكُفْرِ
وَالثَّانِي أَنَّ اعْتِبَارَ الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ في بَابِ الْإِسْلَامِ
يَرْجِعُ إلَى إعْلَاءِ الدِّينِ الْحَقِّ وإن اعْتِبَارَ الْغَالِبِ يَرْجِعُ
إلَى ضِدِّهِ وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى
فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْغَالِبِ إعلاءا ( ( ( إعلاء ) ) )
لِدِينِ الْحَقِّ وَذَلِكَ في الْحُكْمِ بِإِيمَانِ الْمُكْرَهِ على الْإِيمَانِ
وَالْحُكْمِ بِعَدَمِ كُفْرِ الْمُكْرَهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ
وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُحْبَسُ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَلَ
لِوُجُودِ الرِّدَّةِ منه وَهِيَ الرُّجُوعُ 2 عن الْإِسْلَامِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ منه
ظَاهِرًا طَمَعًا لِلْحَقِيقَةِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ
الْإِسْلَامِ فَيَنْجَعَ التَّصْدِيقُ في قَلْبِهِ على ما مَرَّ فإذا رَجَعَ
تُبُيِّنَ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فيه وَأَنَّهُ على
اعْتِقَادِهِ الْأَوَّلِ فلم يَكُنْ هذا رُجُوعًا عن الْإِسْلَامِ بَلْ إظْهَارًا
لِمَا كان في قَلْبِهِ من التَّكْذِيبِ فَلَا يُقْتَلُ
وَكَذَلِكَ الكافرإذا أَسْلَمَ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ حتى حُكِمَ
بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ فَبَلَغُوا كُفَّارًا يُجْبَرُونَ على
الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منهم الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً
فلم يَتَحَقَّقْ الرُّجُوعُ عنه وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَمْسِ فَأَقَرَّ لايحكم
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِمَا نَذْكُرُ
في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا لم يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ بِإِجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ
الْكُفْرِ حتى لَا تَبِينَ منه امْرَأَتُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ تَثْبُتَ
الْبَيْنُونَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وهو الْكَلِمَةُ أو هِيَ من
أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ حُكْمُ تِلْكَ لَا
يَخْتَلِفُ بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ فَكَذَا حُكْمُ هذه
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الرِّدَّةُ دُونَ نَفْسِ
الْكَلِمَةِ وَإِنَّمَا الْكَلِمَةُ دَلَالَةٌ عليها حَالَةَ الطَّوْعِ ولم يَبْقَ
دَلِيلًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فلم تَثْبُتْ الرِّدَّةُ فَلَا تَثْبُتُ
الْبَيْنُونَةُ وَلَوْ قال الْمُكْرَهُ خَطَرَ بِبَالِي في قَوْلِي كَفَرْت
بِاَللَّهِ أَنْ أُخْبِرَ عن الْمَاضِي كَاذِبًا ولم أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ
في الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى إنْشَاءِ الْكُفْرِ
وقدأخبر أَنَّهُ أتى بِالْإِخْبَارِ وهو غَيْرُ مُكْرَهٍ على الْإِخْبَارِ بَلْ هو
طَائِعٌ فيه وَلَوْ قال طَائِعًا كَفَرْت باللهثم قال عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ
عن الْمَاضِي كَاذِبًا ولم أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
كَذَا هذا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِخْبَارِ فِيمَا مَضَى ثُمَّ قال ما أَرَدْت بِهِ
الْخَبَرَ عن الْمَاضِي فَهُوَ كَافِرٌ في الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لم يُجِبْهُ إلَى ما دَعَاهُ إلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَ
أَنَّهُ أَنْشَأَ الْكُفْرَ طَوْعًا
وَلَوْ قال لم
____________________
(7/178)
يَخْطِرْ
بِبَالِي شَيْءٌ آخَرُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُرِدْ شيئا
يُحْمَلُ على الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مع اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ
بِالْإِيمَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ
وَكَذَلِكَ لو أُكْرِهَ على الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ فَقَامَ يُصَلِّي فَخَطَرَ
بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ تَعَالَى وهو مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ أو
غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّلَاةِ أَنْ
تَكُونَ لِلَّهِ عز وجل فإذا قال نَوَيْت بِهِ ذلك لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ
وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ أتى بِغَيْرِ ما دُعِيَ إلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا
وَالطَّائِعُ إذَا فَعَلَ ذلك وقال نَوَيْت بِهِ ذلك لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
كَذَا هذا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز شَأْنُهُ لِأَنَّهُ
نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ فِعْلُهُ وَلَوْ صلى لِلصَّلِيبِ ولم يُصَلِّ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد خَطَرَ بِبَالِهِ ذلك فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ في
الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ صلى
لِلصَّلِيبِ طَائِعًا مع إمْكَانِ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى
وَإِنْ كان مُسْتَقْبِلَ الصَّلِيبِ فَإِنْ لم يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَصَلَّى
لِلصَّلِيبِ ظَاهِرًا وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ على الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ ما دعى إلَيْهِ مع سُكُونِ
قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ
وَكَذَلِكَ لو أُكْرِهَ على سَبِّ النبي فَخَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ
مُحَمَّدٌ فَسَبَّهُ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَهَذَا طَائِعٌ في
سَبِّ النبي مُحَمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قال عَنَيْت بِهِ
غَيْرَهُ فَلَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يحتمله ( ( ( يحتمل ) ) ) كَلَامُهُ وَلَوْ لم
يَقْصِدْ بِالسَّبِّ رَجُلًا آخَرَ فَسَبَّ النبي فَهُوَ كَافِرٌ في الْقَضَاءِ
وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ
وَلَوْ لم يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ على
جِهَةِ الْإِكْرَاهِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الْكُفْرِ تَامًّا فَأَمَّا إذَا كان نَاقِصًا
يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ ليس بِمُكْرَهٍ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ ما
فَعَلَهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عن نَفْسِهِ وَلَوْ قال كان
قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ لِأَنَّهُ خِلَافُ
الظَّاهِرِ كَالطَّائِعِ إذَا أَجْرَى الْكَلِمَةَ ثُمَّ قال كان قَلْبِي
مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ على إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ إذَا أَتْلَفَهُ يَجِبُ
الضَّمَانُ على الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا
لِأَنَّ الْمُتْلِفَ هو الْمُكْرَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ
بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ على مَعْنَى أَنَّهُ مَسْلُوبُ الِاخْتِيَارِ إيثَارًا
وَارْتِضَاءً
وَهَذَا النَّوْعُ من الْفِعْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ
بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ فيصر ( ( ( فيضربه ) ) ) به على الْمَالِ فَأَمْكَنَ
جَعْلُهُ آلَةَ الْمُكْرِهِ فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِإِكْرَاهِهِ فَكَانَ
الضَّمَانُ عليه وَإِنْ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَالضَّمَانُ على الْمُكْرَهِ
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ
لِأَنَّهُ لَا يُسْلَبُ الِاخْتِيَارُ أَصْلًا فَكَانَ الْإِتْلَافُ من
الْمُكْرَهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه وَكَذَلِكَ لو أُكْرِهَ على أَنْ يَأْكُلَ
مَالَ غَيْرِهِ فَالضَّمَانُ عليه لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْفِعْلِ وهو
الْأَكْلُ مِمَّا لَا يَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ
تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ فَكَانَ طَائِعًا فيه فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَأَكَلَ أو على أَنْ
يَلْبَسَ ثَوْبَ نَفْسِهِ فَلَبِسَ حتى تَخَرَّقَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على أَكْلِ مَالِ غير ( ( ( غيره ) ) ) لَمَّا
لم يُوجِبْ الضَّمَانَ على الْمُكْرِهِ فَعَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى مع ما
أَنَّ أَكْلَ مَالِ نَفْسِهِ وليس ( ( ( ولبس ) ) ) ثَوْبِ نَفْسِهِ لبس ( ( ( ليس
) ) ) من بَابِ الْإِتْلَافِ بَلْ هو صَرْفُ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَةِ
بَقَائِهِ وَمَنْ صَرَفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَتِهِ لَا ضَمَانَ له على
أَحَدٍ
وَلَوْ أَذِنَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُكْرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ من غَيْرِ
إكْرَاهٍ فَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ على أَحَدٍ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِتْلَافِ
يَعْمَلُ في الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ
وَإِتْلَافُ مَالٍ مَأْذُونٍ فيه لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَأَمَّا الْمُكْرَهُ على الْقَتْلِ فَإِنْ كان
الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَلَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي
اللَّهُ عنهما وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيَجِبُ على الْمُكْرِهِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا
وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ على الْمُكْرِهِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ دُونَ
الْمُكْرِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ
يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَادَةً وقد وُجِدَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ من الْمُكْرَهِ مُبَاشَرَةً وَمِنْ الْمُكْرِهِ تَسْبِيبًا
فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جميعا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ من الْمُكْرَهِ
حَقِيقَةً حِسًّا وَمُشَاهَدَةً وَإِنْكَارُ الْمَحْسُوسِ مُكَابَرَةٌ فَوَجَبَ
اعْتِبَارُهُ منه دُونَ الْمُكْرِهِ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ لَا
يَجُوزُ الْعُدُولُ عنها إلَّا بِدَلِيلٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُكْرِهَ ليس بِقَاتِلٍ
حَقِيقَةً بَلْ هو مُسَبِّبٌ لِلْقَتْلِ
وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ هو الْمُكْرَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ لَمَّا لم يَجِبْ
الْقِصَاصُ عليه فَلَأَنْ لَا يَجِبَ على الْمُكْرَهِ أَوْلَى
____________________
(7/179)
وَجْهُ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ ما رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أن قال عَفَوْتُ عن أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وما اُسْتُكْرِهُوا
عليه وَعَفْوُ الشَّيْءِ عَفْوٌ عن مُوجَبِهِ فَكَانَ مُوجَبُ الْمُسْتَكْرَهِ
عليه مَعْفُوًّا بِظَاهِرِ الحديث وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ هو الْمُكْرِهُ من حَيْثُ
الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ من الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ
الْآلَةَ إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ
كَإِتْلَافِ الْمَالِ ثُمَّ الْمُتْلِفُ هو الْمُكْرِهُ حتى كان الضَّمَانُ عليه
فَكَذَا الْقَاتِلُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ على قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ له أَنْ يَقْتَصَّ من
الْمُكْرِهِ وَلَوْ كان هو الْقَاطِعُ حَقِيقَةً لَمَا اقْتَصَّ وَلِأَنَّ مَعْنَى
الْحَيَاةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ منه في بَابِ الْقِصَاصِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَمَعْنَى الْحَيَاةِ شَرْعًا وَاسْتِيفَاءً لَا
يَحْصُلُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ في حَقِّ الْمُكْرَهِ وَاسْتِيفَائِهِ منه على ما
مَرَّ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ لِذَلِكَ وَجَبَ على الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ
وَإِنْ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا وَجَبَ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَا
يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمُكْرَهُ صَبِيًّا أو مَعْتُوهًا يَعْقِلُ ما أمره ( ( ( أمر
) ) ) بِهِ فَالْقِصَاصُ على الْمُكْرِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ كان الصَّبِيُّ الْمُكْرَهُ يَعْقِلُ وهو مُطَاعٌ أو بَالِغٌ مُخْتَلَطُ
الْعَقْلِ وهو مُسَلَّطٌ لَا قِصَاصَ عليه وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِأَنَّ
عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ
وَلَوْ قال الْمُكْرَهُ على قَتْلِهِ للمكره ( ( ( المكره ) ) ) اُقْتُلْنِي من
غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
لِأَنَّهُ لو قَتَلَهُ من غَيْرِ إذْنٍ لَا يَجِبُ عليه فَهَذَا أَوْلَى وَعِنْدَ
زُفَرَ يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ
وَكَذَا لَا قِصَاصَ على الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا
وفي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الدِّيَاتِ
وَمِنْ الْأَحْكَامِ التي تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ أَنَّ
الْمُكْرَهَ على قَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ من الْمُكْرَهِ صُورَةُ
الْقَتْلِ لَا حَقِيقَتُهُ بَلْ هو في مَعْنَى الْآلَةِ فَكَانَ الْقَتْلُ مُضَافًا
إلَى الْمُكْرَهِ وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ
وَلَا يوجوب ( ( ( وجوب ) ) ) الْكَفَّارَةِ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُحْرَمُ
الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَأَمَّا الْمُكْرِهُ
فَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عليه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُحْرَمُ لِانْعِدَامِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عليه
وَالْكَفَّارَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمُكْرِهُ بَالِغًا فَإِنْ كان صَبِيًّا وهو وَارِثُ الْمَقْتُولِ
لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ من شَرْطِ كَوْنِ الْقَتْلِ جارما ( ( ( جازما )
) ) أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ
وَلِهَذَا إذَا قَتَلَهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لَا يُحْرَمُ فإذا قَتَلَهُ بِيَدِ
غَيْرِهِ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ على قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ إذَا قَطَعَ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْقَتْلِ غير أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا كان
أَذِنَ لِلْمُكْرَهِ بِقَطْعِ يَدِهِ من غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَطَعَ لَا ضَمَانَ على
أَحَدٍ
وفي بَابِ الْقَتْلِ إذَا أَذِنَ لمكره ( ( ( المكره ) ) ) على قَتْلِهِ المكره (
( ( للمكره ) ) ) بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ فَهُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ في وُجُوبِ
الدِّيَةِ على الْمُكْرَهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بها مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ في بَعْضِ
الْأَحْوَالِ وَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَحْضِ مُبِيحٌ فالأذن
بِإِتْلَافِ مَالِهِ حُكْمُ الْمَالِ في الْجُمْلَةِ يُورِثُ شُبْهَةَ
الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِخِلَافِ النَّفْسِ يَدُلُّ على
التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا قال له لَتَقْطَعَنَّ يَدَك وَإِلَّا
لَأَقْتُلَنَّكَ كان في سِعَةٍ من ذلك وَلَا يَسَعُهُ ذلك في النَّفْسِ وَاَللَّهُ
عز وجل ( ( ( وتعالى ) ) ) أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ على الزِّنَا فَقَدْ كان أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يقول أَوَّلًا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ على الزِّنَا يَجِبُ عليه الْحَدُّ وهو
الْقِيَاسُ لِأَنَّ الزِّنَا من الرَّجُلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ
الْآلَةِ وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فيه فَكَانَ طَائِعًا في الزِّنَا فَكَانَ
عليه الْحَدُّ
ثُمَّ رَجَعَ وقال إذَا كان الْإِكْرَاهُ من السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ بِنَاءً على
أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا من السُّلْطَانِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
يَتَحَقَّقُ من السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فإذا جاء من غَيْرِ السُّلْطَانِ ما
يَجِيءُ من السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا من قَبْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ
يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إذَا كان الْإِكْرَاهُ من غَيْرِ السُّلْطَانِ وَلَا يَجِدُ
غَوْثًا إذَا كان الْإِكْرَاهُ منه
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ
فَنَعَمْ لَكِنْ ليس كُلُّ من تَنْتَشِرُ آلَتُهُ يَفْعَلُ فَكَانَ فِعْلُهُ
بِنَاءً على إكْرَاهِهِ فَيَعْمَلُ فيه لِضَرُورَتِهِ مَدْفُوعًا إلَيْهِ خَوْفًا
من الْقَتْلِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَكِنْ يَجِبُ الْعُقْرُ على
الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الزِّنَا في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن إحْدَى
الْغَرَامَتَيْنِ وَإِنَّمَا وجب ( ( ( يجب ) ) ) الْعُقْرُ على الْمُكْرَهِ دُونَ
الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الزِّنَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ
____________________
(7/180)
بِآلَةِ
غَيْرِهِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ
الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ على الْمُكْرَهِ وما يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ
الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ على الْمُكْرِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عل
الزِّنَا لَا حَدَّ عليها لِأَنَّهَا بِالْإِكْرَاهِ صَارَتْ مَحْمُولَةً على
التَّمْكِينِ خَوْفًا من مَضَرَّةِ السَّيْفِ فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عليها
كما في جَانِبِ الرَّجُلِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْجُودَ منها ليس إلَّا
التَّمْكِينُ ثُمَّ الْإِكْرَاهُ لَمَّا أَثَّرَ في جَانِبِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ
يُؤَثِّرَ في جَانِبِهَا أَوْلَى
هذا إذَا كان إكْرَاهُ الرَّجُلِ تَامًّا فَأَمَّا إذَا كان نَاقِصًا بِحَبْسٍ أو
قَيْدٍ أو ضَرْبٍ لَا يُخَافُ منه التَّلَفُ يَجِبُ عليه الْحَدُّ لِمَا مَرَّ
أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مَدْفُوعًا إلَى فِعْلِ
ما أُكْرِهَ فَبَقِيَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فَيُؤَاخَذُ بِحُكْمِ فِعْلِهِ
وَأَمَّا في حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا فَرْقَ بين الْإِكْرَاهِ التَّامِّ
وَالنَّاقِصِ وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عنها في نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لم
يُوجَدْ منها فِعْلُ الزِّنَا بَلْ الْمَوْجُودُ هو التَّمْكِينُ وقد خَرَجَ من
أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ فَيُدْرَأُ عنها الْحَدُّ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان الْمُكْرَهُ عليه مُعَيَّنًا فَأَمَّا إذَا كان
مُخَيَّرًا فيه بِأَنْ أُكْرِهَ على أَحَدِ فِعْلَيْنِ من الْأَنْوَاعِ
الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا
الْحُكْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْإِبَاحَةِ
وَالرُّخْصَةِ وَالْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ التَّخْيِيرُ بين
الْمُبَاحِ وَالْمُرَخَّصِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الرُّخْصَةِ أَعْنِي بِهِ
أَنَّ كُلَّ ما يُبَاحُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُبَاحُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ وَكُلُّ
ما لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ
حَالَةَ التَّخْيِيرِ وَكُلُّ ما يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُرَخَّصُ
حَالَةَ التَّخْيِيرِ إلَّا إذَا كان التَّخْيِيرُ بين الْمُبَاحِ وَبَيْنَ
الْمُرَخَّصِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أُكْرِهَ على أَكْلِ مَيْتَةٍ أو قَتْلِ مُسْلِمٍ
يُبَاحُ له الْأَكْلُ وَلَا يُرَخَّصُ له الْقَتْلُ
وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ على أَكْلِ مَيْتَةٍ أو أَكْلِ ما لايباح وَلَا يُرَخَّصُ
حَالَةَ التَّعْيِينِ من قَطْعِ الْيَدِ وَشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَالزِّنَا
يُبَاحُ له الْأَكْلُ وَلَا يُبَاحُ شَيْءٌ من ذلك وَلَا يُرَخَّصُ كما في حَالَةِ
التَّعْيِينِ
وَلَوْ امْتَنَعَ من الْأَكْلِ حتى قُتِلَ يَأْثَمُ كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا يُرَخَّصُ له أَنْ يَفْعَلَ
أَحَدَهُمَا
وَلَوْ امْتَنَعَ عنهما لَا يَأْثَمُ إذَا قُتِلَ بَلْ يُثَابُ كما في حَالَةِ
التَّعْيِينِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الْإِتْلَافِ لِمَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ له
الْإِتْلَافُ وَلَوْ لم يَفْعَلْ أَحَدَهُمَا حتى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ
كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ على قَتْلِ إنْسَانٍ وَإِتْلَافِ مَالِ نَفْسِهِ يُرَخَّصُ
له الْإِتْلَافُ دُونَ الْقَتْلِ كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
وَلَوْ امْتَنَعَ عنهما حتى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ
وَكَذَا لو أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الْكُفْرِ يُرَخَّصُ له أَنْ يُجْرِيَ
كَلِمَةَ الْكُفْرِ إذَا كان قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَلَا يُرَخَّصُ
له الْقَتْلُ
وَلَوْ امْتَنَعَ حتى قُتِلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ على أَكْلِ مَيْتَةٍ أو الْكُفْرِ
لم يُذْكَرْ هذا الْفَصْلُ في الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرَخَّصَ له
كَلِمَةُ الْكُفْرِ أَصْلًا كما لَا يُرَخَّصُ له الْقَتْلُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ
في إجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ
بِالْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ وهو الْأَكْلُ فَكَانَ إجْرَاءُ الْكَلِمَةِ حَاصِلًا
بِاخْتِيَارِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُرَخَّصُ له وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَقَدْ يَخْتَلِفُ
بِالتَّخْيِيرِ حتى إنه لو أُكْرِهَ على أَكْلِ الْمَيْتَةِ أو قَتْلِ الْمُسْلِمِ
فلم يَأْكُلْ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ
دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحِ فَكَانَ الْقَتْلُ حَاصِلًا
بِاخْتِيَارِهِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُؤَاخَذُ بِالْقِصَاصِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الْكُفْرِ فلم يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ وَقَتَلَ
فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ في
الْقَتْلِ حَيْثُ آثَرَ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ على الْمُرَخَّصِ فيه وفي
الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ في مَالِهِ
إنْ لم يَكُنْ عَالِمًا أَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ مُرَخَّصٌ له منهم من اسْتَدَلَّ
بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ على أَنَّهُ لو كان عَالِمًا وَمَعَ ذلك تَرَكَهُ وَقَتَلَ
يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ
وَمِنْهُمْ من قال لَا يَجِبُ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما ذُكِرَ في الْكِتَابِ أَنَّ أَمْرَ هذا الرَّجُلِ
مَحْمُولٌ على أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على اللِّسَانِ
أَعْظَمُ حُرْمَةً من الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الرُّخْصَةِ في الْقَتْلِ
وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مع الشُّبُهَاتِ حتى لو كان عَالِمًا يَجِبُ الْقِصَاصُ
عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِانْعِدَامِ الظَّنِّ الْمُورِثِ لِلشُّبْهَةِ وَعِنْدَ
بَعْضِهِمْ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ بِالرُّخْصَةِ فَقَدْ اسْتَعْظَمَ
حَرْفَ الْكُفْرِ بِالِامْتِنَاعِ عنه فَجُعِلَ اسْتِعْظَامُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً
لِلْقِصَاصِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنَّمَا وجبت ( ( (
وجب ) ) ) الدِّيَةُ في مَالِهِ لَا على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ وقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا يَرْجِعُ على
الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ
عليه
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الزِّنَا فَزَنَا
الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عليه الْحَدُّ وفي الِاسْتِحْسَانِ يُدْرَأُ عنه لِمَا مَرَّ
وَلَوْ قَتَلَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ
بِالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ وَيُقْتَصُّ من الْمُكْرِهِ كما في حَالَةِ
التَّعْيِينِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا كُلُّهُ إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الْأَفْعَالِ
____________________
(7/181)
الْحِسِّيَّةِ
فَأَمَّا إذَا كان على التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ التَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ 2 إنْشَاءٌ
وَإِقْرَارٌ
وَالْإِنْشَاءُ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُهُ
أَمَّا الذي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ
وَالنِّكَاحُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ والظاهر ( ( ( والظهار ) ) ) وَالْإِيلَاءُ
وَالْفَيْءُ في الْإِيلَاءِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ
وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مع الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجُوزُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال عَفَوْت عن أُمَّتِي
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
كل ما اُسْتُكْرِهَ عليه عَفْوًا وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ما وُضِعَ له
التَّصَرُّفُ شَرْطُ جَوَازِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا الشَّرْطُ يَفُوتُ بِالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا
يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ ما وُضِعَ له وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ مَضَرَّةِ
السَّيْفِ عن نَفْسِهِ
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ وَإِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هذه
التَّصَرُّفَاتِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ
أَمَّا الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ
إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ ليس
إلَّا الرِّضَا طَبْعًا وَأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فإن طَلَاقَ
الْهَازِلِ وَاقِعٌ وَلَيْسَ بِرَاضٍ بِهِ طَبْعًا
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ قد يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْفَائِقَةَ حُسْنًا وَجَمَالًا
الرَّائِقَةَ تَغَنُّجًا وَدَلَالًا لِخَلَلٍ في دِينِهَا وَإِنْ كان لَا يَرْضَى
بِهِ طَبْعًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عليها
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ منه الْإِكْرَاهُ على الْكُفْرِ
لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وكان الْإِكْرَاهُ
على الْكُفْرِ ظَاهِرًا يَوْمَئِذٍ وكان يَجْرِي على أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَاتُ
الْكُفْرِ خَطَأً وَسَهْوًا فَعَفَا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ عن ذلك عن هذه
الْأُمَّةِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ مع ما أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الحديث إن
كُلَّ مُسْتَكْرَهٍ عليه مَعْفُوٌّ عن هذه الْأُمَّةِ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَكُلَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ مُسْتَكْرَهٌ عليه
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ على الْأَقْوَالِ كما يَعْمَلُ على
الِاعْتِقَادَاتِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِ لِسَانِ غَيْرِهِ
بِالْكَلَامِ على تَغْيِيرِ ما يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ جَبْرًا فَكَانَ كُلُّ
مُتَكَلِّمٍ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَكْرَهًا عليه
حَقِيقَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ
وَقَوْلُهُ الْقَصْدُ إلَى ما وُضِعَ له التَّصَرُّفُ بِشَرْطِ اعْتِبَارِ
التَّصَرُّفِ
قُلْنَا هذا بَاطِلٌ بِطَلَاقِ الْهَازِلِ ثُمَّ إنْ كان شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ
هَهُنَا لِأَنَّهُ قَاصِدٌ دَفْعَ الْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ عنه
إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى ما وُضِعَ له فَكَانَ قَاصِدًا إلَيْهِ ضَرُورَةً ثُمَّ
لَا يَخْلُو إمَّا إن أُكْرِهَ على تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أو على تَعْلِيقِهِ
بِشَرْطٍ أو على تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الذي عُلِّقَ بِهِ قوع ( ( ( وقوع ) ) )
الطَّلَاقِ وَحُكْمُ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ في نَوْعَيْ التَّنْجِيزِ
وَالتَّعْلِيقِ وَحُكْمُ الضَّمَانِ يَتَّفِقُ مَرَّةً وَيَخْتَلِفُ أُخْرَى
وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَ هذه الْجُمْلَةِ في فَصْلِ الْإِكْرَاهِ على الْإِعْتَاقِ
وَإِنَّمَا نَذْكُرُ ههنا حُكْمَ جَوَازِ التَّطْلِيقِ الْمُنَجَّزِ فَنَقُولُ
إذَا جَازَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فَإِنْ كان قبل الدُّخُولِ بها يَجِبُ عليه نِصْفُ
الْمَفْرُوضِ إنْ كان الْمَهْرُ مَفْرُوضًا وَالْمُتْعَةُ إذَا لم يَكُنْ
مَفْرُوضًا لِأَنَّ هذا حُكْمُ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ هو الذي دَفَعَهُ إلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وهو الطَّلَاقُ
فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عليه
وإذا كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها يَجْبُ عليه كَمَالُ الْمَهْرِ وَلَا سَبِيلَ له
على الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ
الْبُضْعِ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وهو الذي اسْتَوْفَى الْمُبْدَلَ
بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا سَبِيلَ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ
لَا يُخِلُّ بِاخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ أَصْلًا على ما مَرَّ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الطَّلَاقِ فَأَمَّا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على
التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ فَفَعَلَهُ الْوَكِيلُ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ في فَصْلِ
الْإِكْرَاهِ على الْإِعْتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْعَتَاقُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي وقال عَلِّمْنِي
عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فقال أعتق النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ
فقال أو ليسا وَاحِدًا فقال لَا
عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ
في عِتْقِهَا وَغَيْرُهُ من الْأَحَادِيثِ التي فيها النَّدْبُ إلَى الْإِعْتَاقِ
من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ
قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا
أَنْ كان على تَنْجِيزِ الْعِتْقِ أو على تعليقه بِشَرْطٍ أو على شَرْطِ الْعِتْقِ
الْمُعَلَّقِ بِهِ
أَمَّا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَ يَضْمَنُ
الْمُكْرِهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا وَلَا يَرْجِعُ
الْمُكْرَهُ على الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ وَلَا سِعَايَةَ على الْعَبْدِ
وَالْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ
أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ على الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ هو مَالٌ
وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ وَالْأَمْوَالُ مَضْمُونَةٌ على
الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ الضَّمَانُ على الْمُكْرِهِ كما في سَائِرِ
الْأَمْوَالِ وَيَسْتَوِي فيه يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ
____________________
(7/182)
لِأَنَّ
ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا يَرْجِعُ
على الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ منه بِاخْتِيَارِهِ
فَلَا مَعْنَى لِلرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ وَالْوَلَاءُ لَلْمُكْرِهِ لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ من حَيْثُ هو كَلَامٌ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ
الْإِكْرَاهِ على الْأَقْوَالِ فَكَانَ الْوَلَاءُ له وَلَا سِعَايَةَ على
الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُسْتَسْعَى إمَّا لِتَخْرِيجِهِ إلَى
الْعِتْقِ تَكْمِيلًا له واما لِتَعْلِيقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وقد عَتَقَ
كُلُّهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْمِيلِ وَكَذَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ تَعَلَّقَ
بِهِ فَلَا سِعَايَةَ عليه وَلَوْ أُكْرِهَ على شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه
عَتَقَ عليه لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِالنَّصِّ وَالْإِكْرَاهُ لَا
يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ هَهُنَا بِقِيمَةِ
الْعَبْدِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ له عِوَضٌ وهو صِلَةُ الرَّحِمِ
وَلَوْ كان الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بين اثْنَيْنِ فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا على
إعْتَاقِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا
يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ يُعْتَقُ نِصْفُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِنَاءً على أَنَّ الْإِعْتَاقَ
يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ
الْمُكْرَهُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ نَصِيبَهُ وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ
نَصِيبَ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ من حَيْثُ هو إتْلَافُ الْمَالِ مُضَافٌ
إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ الْمُتْلِفُ من حَيْثُ الْمَعْنَى هو الْمُكْرِهُ
فَكَانَ الضَّمَانُ عليه سَوَاءٌ كان مُوسِرًا أو مُعْسِرًا وَهَذَا بِخِلَافِ
حَالَةِ الِاخْتِيَارِ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ لايضمن
لِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ إذَا كان الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا وَهَهُنَا يَضْمَنُ
مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ على الْمُكْرَهِ ضَمَانُ
إتْلَافٍ على ما مَرَّ وَالْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ
بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَالْوَاجِبُ على أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ
الِاخْتِيَارِ ليس بِضَمَانِ إتْلَافٍ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ منه في نَصِيبِ
شَرِيكِهِ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا
يَعْتِقُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَإِنْ عَتَقَ لَكِنْ لَا
بِإِعْتَاقِهِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ
عَتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ لَا بِتَصَرُّفِهِ فَلَا يَكُونُ
مُضَافًا إلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فيها غَيْرُهُ
أو سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَفَسَدَتْ أَرْضُ غَيْرِهِ حتى لَا يَجِبَ عليه
الضَّمَانُ إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ على أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ
الِاخْتِيَارِ عُرِفَ شَرْعًا وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ على الْمُوسِرِ
فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَشَرِيكُ الْمُكْرَهِ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ
شَاءَ اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كان الْمُكْرَهُ أو مُوسِرًا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْمُكْرِهَ إنْ كان مُوسِرًا فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ فَالْوَلَاءُ
بين الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ
بِاخْتِيَارِ طَرِيقِ الضَّمَانِ وَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ أو السِّعَايَةَ
فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا إنْ كان الْمُكْرِهُ مُوسِرًا فَلِشَرِيكِ الْمُكْرَهِ
أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ
الْعَبْدَ لَا غَيْرُ كما في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ
وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ ما
يَخْتَصُّ بِالْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَحْرِيرٌ قال النبي الْمُدَبَّرُ
لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وهو حُرٌّ من الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهُ لِلْحَالِ
تَحْرِيرٌ من وَجْهٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ من كل
وَجْهٍ فَلَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ من وَجْهٍ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ على الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ بِمَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ
وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ على الْمُكْرِهِ بِبَقِيَّةِ قِيمَتِهِ
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْحَالِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ من وَجْهٍ وَإِنَّمَا
تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ من كل وَجْهٍ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَكَانَ
الْإِكْرَاهُ على التَّدْبِيرِ إتْلَافًا لِمَالِ الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ من وَجْهٍ
فَيَضْمَنُ بِقَدْرِهِ من النُّقْصَانِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ الْإِتْلَافُ في آخِرِ
جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَكَامَلُ الضَّمَانُ عِنْدَ ذلك
وَذَلِكَ بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ فإذا مَاتَ الْمُكْرَهُ صَارَ ذلك مِيرَاثًا
لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ لهم أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ على الْمُكْرِهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا أُكْرِهَ على تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ على تَعْلِيقِ
الْعِتْقِ بِشَرْطٍ
أَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْتَلِفُ في النَّوْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ
بَيَانُ ذلك إذَا أُكْرِهَ على تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فإنه
يُنْظَرُ فَإِنْ كان فِعْلًا لَا بُدَّ منه بِأَنْ كان مَفْرُوضًا عليه أو يَخَافُ
من تَرْكِهِ الْهَلَاكَ على نَفْسِهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَفَعَلَهُ حتى
عَتَقَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على تَعْلِيقِ
الْعِتْقِ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ له منه إكْرَاهٌ على ذلك الْفِعْلِ فَكَانَ مُضَافًا
إلَى الْمُكْرِهِ
وَإِنْ كان فِعْلًا له منه بُدٌّ كَتَقَاضِي دَيْنِ الْغَرِيمِ أو تَنَاوُلِ
شَيْءٍ له منه بُدٌّ فَفَعَلَ حتى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان له منه بُدٌّ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى
تَحْصِيلِهِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ
الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ على تَعْلِيقِ
____________________
(7/183)
الْعِتْقِ
به إكْرَاهًا عليه فَلَا يَكُونُ تَلَفُ الْمَالِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا
يَرْجِعُ عليه بِالضَّمَانِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَقُولَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا
أَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ حُرٌّ فقال ذلك ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا حتى عَتَقَ عليه
فَإِنْ مَلَكَ بِشِرَاءٍ أو هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو وَصِيَّةٍ لَا ضَمَانَ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَقْطَعُ إضَافَةَ
إكْرَاهِ الْإِتْلَافِ إلَى الْمُكْرِهِ وَإِنْ مَلَكَ بِإِرْثٍ فَكَذَلِكَ في
الْقِيَاسِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُكْرَهِ في الْإِرْثِ
فَبَقِيَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ فقال شِئْت
حتى عَتَقَ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ لِأَنَّ مَشِيئَةَ المكره ( ( ( العبد ) ) )
الْعِتْقَ تُوجَدُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ منه
فَكَانَ الْإِكْرَاهُ على الْإِعْتَاقِ إكْرَاهًا عليه
هذا إذَا أُكْرِهَ على تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ
على تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الذي عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ عن طَوْعٍ بِأَنْ قال رَجُلٌ
لِعَبْدٍ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ على الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ
حتى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ على الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ لم يَثْبُتْ
بِالشَّرْطِ وهو الشِّرَاءُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وهو
طَائِعٌ فيه
وَكَذَا إذَا قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ على
الدُّخُولِ حتى عَتَقَ لَا ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا
يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا
فَأَمَّا إذَا كان نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ
النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ الْإِضَافَةَ عن الْمُكْرَهِ بِوَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ
الضَّمَانَ على الْمُكْرِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا أُكْرِهَ على الْإِعْتَاقِ الْمُطْلَقِ عَيْنًا فَأَمَّا
إذَا أُكْرِهَ على أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ بِأَنْ أُكْرِهَ على أَنْ يُعْتِقَ
عَبْدَهُ أو يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ لم تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بها
فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا غَرِمَ الْمُكْرِهُ الْأَقَلَّ من قِيمَةِ
الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ
أَمَّا إذَا فَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَمَانًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ عليه
إلَّا هذا الْقَدْرَ
وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ
الضَّرُورَةِ بِأَقَلِّ الْفِعْلَيْنِ ضَمَانًا فإذا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا
ضَمَانًا كان مُخْتَارًا في الزِّيَادَةِ لِانْعِدَامِ الِاضْطِرَارِ في هذا
الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ هذا الْقَدْرِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
وَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بها فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا
شَيْءَ على الْمُكْرِهِ أَمَّا إذَا طَلَّقَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ
الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِمَا لَا
يَتَعَلَّقُ فيه ضَمَانٌ أَصْلًا وهو الطَّلَاقُ فَكَانَ مُخْتَارًا في
الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا
يَضْمَنُ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت الْمَرْأَةُ غير مَدْخُولٍ بها وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ
نَاقِصٌ فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا
مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى
الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا
مُطْلَقًا فيه فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكْرِهُ
هذا إذَا أُكْرِهَ على الْإِعْتَاقِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ على التَّوْكِيلِ
بِالْإِعْتَاقِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ فَالْقِيَاسُ أَنْ
لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ
تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ
وَلِهَذَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ كَالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ مع الْإِكْرَاهِ كما
لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ
الْإِعْتَاقِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ
الْبَيْعِ فإن الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ
التَّوْكِيلِ بِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنه يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْهَزْلَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ
تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ كما لَا يَعْمَلُ على
الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وغيرها ( ( ( وغيرهما ) ) ) بِخِلَافِ
الْبَيْعِ فإنه اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً
وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وَإِنَّمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ
دَلِيلٌ عليه حَالَةَ الطَّوْعِ فَيَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ على ما نذكر ( ( (
نذكره ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وإذا نَفَذَ إعْتَاقُ
الْوَكِيلِ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ على الْمُكْرِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الْمُكْرِهِ الْإِكْرَاهُ
على التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ لَا على الْإِعْتَاقِ وَإِنَّمَا الْإِعْتَاقُ
حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى
الْمُكْرِهِ كَشُهُودِ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إذَا رَجَعُوا لَا يَضْمَنُونَ
لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْوَكَالَةِ بِالْإِعْتَاقِ
كَذَا هَهُنَا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ على التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ
إكْرَاهٌ على الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ بِالْإِعْتَاقِ مَلَكَ
الْوَكِيلُ إعْتَاقَهُ عَقِيبَ التَّوْكِيلِ بِلَا فَصْلٍ فَيَعْتِقُهُ فَيَتْلَفُ
مَالُهُ فَكَانَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ
وَلَا ضَمَانَ على الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِأَمْرِهِ أَمْرًا صَحِيحًا وَإِنْ
كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ غير مَرَّةٍ
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَغَيْرِهِ من عُمُومَاتِ النِّكَاحِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ
كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ إذَا جَازَ النِّكَاحُ مع الْإِكْرَاهِ فَلَا
يَخْلُو إمَّا إن أُكْرِهَ الزَّوْجُ أو الْمَرْأَةُ فَإِنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ
____________________
(7/184)
فَلَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ من مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أكثر
منه فَإِنْ كان الْمُسَمَّى قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَقَلَّ منه يَجِبُ
الْمُسَمَّى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ عليه
مَالَهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ بمثله لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ جُعِلَتْ أَمْوَالًا
مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا عِنْدَ دُخُولِهَا في مِلْكِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا
لِحُصُولِ الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَصِيَانَةً له عن الِابْتِذَالِ
وإذا لم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ فَلَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَإِنْ كان
الْمُسَمَّى أَكْثَرَ من مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ
وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ على قَدْرِ مَهْرِ
الْمِثْلِ لم تَصِحَّ مع الْإِكْرَاهِ فَبَطَلَتْ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يُفْرَضْ
إلَّا قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ على
النِّكَاحِ وَعَلَى إيجَابِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ في
النِّكَاحِ وَيُؤَثِّرُ في إيجَابِ الْمَالِ كما يُؤَثِّرُ في الْإِقْرَارِ
بِالْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ أَصْلًا
إلَّا أنها صَحَّتْ في قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ شَرْعًا لِأَنَّ الشَّرْعَ لو
أَبْطَلَ هذا الْقَدْرَ لَأَثْبَتَهُ ثَانِيًا فلم يَكُنْ الْإِبْطَالُ مُفِيدًا
فلم يَبْطُلْ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْإِبْطَالُ مَخْرَجَ الْعَيْبِ وَلَا ضَرُورَةَ
في الزِّيَادَةِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا
هذا إذَا أُكْرِهَ الزَّوْجُ على النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ
فَإِنْ كان الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَكْثَرَ منه
جَازَ النِّكَاحُ وَلَزِمَ وَإِنْ كان الْمُسَمَّى أَقَلَّ من مَهْرِ الْمِثْلِ
بِأَنْ أُكْرِهَتْ على النِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشْرَةُ
آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا وَهُمْ مُكْرَهُونَ جَازَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ على الْمُكْرِهِ من مَهْرِ مِثْلِهَا شَيْءٌ لِأَنَّ
الْمُكْرِهَ ما أَتْلَفَ عليها مَالًا لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ
بِمُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً بِالْعَقْدِ
وَالْعَقْدُ قَوَّمَهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فلم يُوجَدْ من الْمُكْرِهِ
إتْلَافُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عليها فَلَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَلَا يَجِبُ على
الشُّهُودِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَجِبْ على الْمُكْرِهِ فَلَأَنْ لَا
يَجِبَ على الشُّهُودِ أَوْلَى ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الزَّوْجُ كفءا فقال
لِلزَّوْجِ إنْ شِئْت فَكَمِّلْ لها مَهْرَ مِثْلِهَا وَإِلَّا فَنُفَرِّقُ
بَيْنَكُمَا فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَ النِّكَاحُ وَإِنْ أَبَى تَكْمِيلَ مَهْرِ
الْمِثْلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لم تَرْضَ بِالنُّقْصَانِ
لِأَنَّ لها في كَمَالِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَقًّا لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِنُقْصَانِ
مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَلْحَقُهَا ضَرَرُ الْعَارِ
وإذا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قبل الدُّخُولِ بها لَا شَيْءَ على الزَّوْجِ لِأَنَّ
الْفُرْقَةَ جَاءَتْ من قِبَلِهَا قبل الدُّخُولِ بها
وَلَوْ رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ صَرِيحًا أو دَلَالَةً بِأَنْ دخل بها عن طَوْعٍ
منها فَلَهَا الْمُسَمَّى وَبَطَلَ حَقُّهَا في التَّفْرِيقِ لَكِنْ بَقِيَ حَقُّ
الْأَوْلِيَاءِ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا وَعِنْدَهُمَا
ليس للألياء ( ( ( للأولياء ) ) ) حَقُّ التَّفْرِيقِ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ على
ما عُرِفَ في كِتَابِ النِّكَاحِ
وَلَوْ دخل بها على كُرْهٍ منها لَزِمَهُ تَكْمِيلُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ ذلك
دَلَالَةُ اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ وَإِنْ لم يَكُنْ الزَّوْجُ كفءا
فَلِلْمَرْأَةِ خِيَارُ التَّفْرِيقِ لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ
مَهْرِ الْمِثْلِ أَيْضًا وَكَذَا الْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لهم خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ
أما لَا خِيَارَ لهم لِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنْ سَقَطَ أَحَدُ
الْخِيَارَيْنِ عنها يَبْقَى لها حَقُّ التَّفْرِيقِ لِبَقَاءِ الْخِيَارِ
الْآخَرِ وَإِنْ سَقَطَ الْخِيَارَانِ جميعا فَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ عَدَمِ
الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ
وفي خِيَارِ نُقْصَانِ الْمَهْرِ خِلَافٌ على ما عُرِفَ حتى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا
دخل بها قبل التَّفْرِيقِ على كُرْهٍ منها حتى لَزِمَهُ التَّكْمِيلُ بَطَلَ
خِيَارُ النُّقْصَانِ وَبَقِيَ لها عَدَمُ خِيَارِ الْكَفَاءَةِ وَلَوْ رَضِيَتْ
بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَيْضًا صَرِيحًا وَدَلَالَةً بِأَنْ دخل بها الزَّوْجُ على
طَوْعٍ منها سَقَطَ الْخِيَارَانِ جميعا وَبَطَلَ حَقُّهَا في التَّفْرِيقِ
أَصْلًا
لَكِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الْخِيَارَانِ جميعا
وَعِنْدَهُمَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ
وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قبل الدُّخُولِ بها لَا شَيْءَ على الزَّوْجِ لِأَنَّ
الْفُرْقَةَ ما جَاءَتْ من قِبَلِهِ بَلْ من قِبَلِ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } عَامًّا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلِأَنَّ
الرَّجْعَةَ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ أو بِالْفِعْلِ وهو
الْوَطْءُ وَاللَّمْسُ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ
وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ على النَّوْعَيْنِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْيَمِينُ وَالنَّذْرُ بِأَنْ أُكْرِهَ على أَنْ يُوجِبَ على نَفْسِهِ
صَدَقَةً أو حَجًّا أو شيئا من وُجُوهِ الْقُرَبِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ
وَالْفَيْءِ في الْإِيلَاءِ فَلِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ في هذه
الْأَبْوَابِ من غَيْرِ تَخْصِيصِ الطَّبَائِعِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وقال
سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وقال جَلَّ شَأْنُهُ { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ بِالْعُهُودِ وَلِأَنَّ
النَّذْرَ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نِسَائِهِمْ }
وقال جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤوا ( ( ( فاءوا ) ) ) فإن اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وَلِأَنَّ هذه تَصَرُّفَاتٌ قَوْلِيَّةٌ وقد مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ
____________________
(7/185)
لَا
يَعْمَلُ على الْأَقْوَالِ وَالْفَيْءُ في الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْقَادِرِ
بِالْجِمَاعِ وفي حَقِّ الْعَاجِزِ بِالْقَوْلِ
وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ في النَّوْعَيْنِ جميعا فَكَانَ طَائِعًا في
الْفَيْءِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَلْزَمُهُ في هذه التَّصَرُّفَاتِ من
الْكَفَّارَةِ وَالْقُرْبَةِ الْمَنْذُورِ بها على لسان الْمُكْرَهِ لِأَنَّ
الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ على الْمُكْرَهِ على سَبِيلِ التوسيع ( ( ( التوسع ) ) )
وَكَذَا الْمَنْذُورُ بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بها مُطْلَقٌ عن الْوَقْتِ وَهُمَا
مِمَّا لَا يُجْبَرُ على فِعْلِهِمَا أَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ على الْمُكْرِهِ
لَكَانَ لَا يَخْلُو من أَنْ يَجِبَ عليه على الْوَجْهِ الذي وَجَبَ على
الْمُكْرَهِ أو على الْوَجْهِ الذي وَجَبَ عليه
وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ على هذا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ
الْمُكْرِهَ شيئا فَلَا مَعْنًى لِرُجُوعِهِ عليه وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا جَعْلُ
الموصل ( ( ( الموسع ) ) ) مُضَيَّقًا
وَالثَّانِي جَعْلُ ما لَا يُجْبَرُ على فِعْلِهِ مَجْبُورًا على فِعْلِهِ وَكُلُّ
ذلك تَغْيِيرٌ وَلَا يَجُوزُ تغير ( ( ( تغيير ) ) ) الْمَشْرُوعِ من وَجْهٍ
فَكَيْفَ يَجُوزُ من وَجْهَيْنِ
وَكَذَا في الْإِيلَاءِ إذَا لم يَقْرَبْهَا حتى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا
يَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ تَرْكُ
الْقُرْبَانِ وهو مُخْتَارٌ في تَرْكِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا في
الْمُدَّةِ حتى لَا تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ
فإذا لم يَقْرَبْ كان تَرْكُ الْقُرْبَانِ حَاصِلًا باختيار ( ( ( باختياره ) ) )
فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أُكْرِهَ على كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لم يَرْجِعْ على الْمُكْرِهِ
لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِفِعْلِهِ وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عن
ظِهَارِهِ يُنْظَرُ إنْ كانت قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَبْدٍ وَسَطٍ لايرجع على
الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذلك وَجَبَ عليه بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ
عليه وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من ذلك يَرْجِعُ عليه بِالزِّيَادَةِ
لِأَنَّهُ أَتْلَفَ ذلك الْقَدْرَ عليه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على عَبْدٍ وَسَطٍ
لَا تَجِبُ عليه بِالظِّهَارِ وَلَا تَجْزِيهِ عن الظِّهَارِ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ
دَخَلَهُ عِوَضٌ وَالْإِعْتَاقُ بِعِوَضٍ وَإِنْ قَلَّ لَا يجزيه ( ( ( يجزي ) ) )
عن التَّكْفِيرِ
وَأَمَّا الْعَفْوُ عن دَمِ الْعَمْدِ فَلِعُمُومَاتِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له } وقوله ( ( ( ولقوله )
) ) { بِهِ } أَيْ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَدُّقُ
بِالْقِصَاصِ هو الْعَفْوُ
وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فَقَدْ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْعَفْوِ
عَامًّا وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ وَلَا
ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إتْلَافُ الْمَالِ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ ليس بِمَالٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على شُهُودِ الْعَفْوِ
إذَا رَجَعُوا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ
وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هذه
التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا على الْإِجَازَةِ كَبَيْعِ
الْفُضُولِيِّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَهَا
أَصْلًا
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ شَرْعًا قال اللَّهُ
تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِكْرَاهُ
يَسْلُبُ الرِّضَا
يَدُلُّ عليه أَنَّهُ لو أَجَازَ الْمَالِكُ يَجُوزُ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا
يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ
فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ وَهَذِهِ شُبْهَةُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَنَا ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْبَيْعِ عَامًّا مُطْلَقًا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَتَقْيِيدٍ وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وهو الْمُبَادَلَةُ صَدَرَ مُطْلَقًا من
أَهْلِ الْبَيْعِ في مَحَلٍّ وهو مَالُ مَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ
عِنْدَ التَّسْلِيمِ كما في سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَا فَرْقَ
سِوَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ أو الرِّبَا أو غَيْرِ
ذلك وهذا ( ( ( وهنا ) ) ) الفساد ( ( ( الفاسد ) ) ) لِعَدَمِ الرِّضَا طَبْعًا
فَكَانَ الرِّضَا طَبْعًا شَرْطَ الصِّحَّةِ لَا شَرْطَ الْحُكْمِ وَانْعِدَامُ
شَرْطِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ كما في سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ
الْفَاسِدَةِ إلَّا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ لَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ
لِأَنَّ فَسَادَهَا لَحِقَ الشَّرْعَ من حُرْمَةِ الرِّبَا وَنَحْوِ ذلك فَلَا
يَزُولُ بِرِضَا الْعَبْدِ وههنا ( ( ( وهنا ) ) ) الْفَسَادُ لَحِقَ الْعَبْدَ
وهو عَدَمُ رِضَاهُ فَيَزُولُ بِإِجَازَتِهِ وَرِضَاهُ
وإذا فَسَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِالْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما
يَتَعَلَّقُ بِهِ من الإحكام في الْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْأَمْرَ
لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ كان الْمُكْرَهُ هو الْبَائِعُ
وَإِمَّا إن كان هو الْمُشْتَرِيَ وَإِمَّا إن كَانَا جميعا مُكْرَهَيْنِ فَإِنْ
كان الْمُكْرَهُ هو الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ فيه من وَجْهَيْنِ إمَّا
إن كان مُكْرَهًا على الْبَيْعِ طَائِعًا في التَّسْلِيمِ وَإِمَّا إنْ كان
مُكْرَهًا على الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جميعا فَإِنْ كان مُكْرَهًا على الْبَيْعِ
طَائِعًا في التَّسْلِيمِ فَبَاعَ مُكْرَهًا وسلم طَائِعًا جَازَ لِأَنَّ
الْبَيْعَ في الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ فإذاسلم طَائِعًا فَقَدْ أتى
بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي فَكَانَ ما
أتى بِهِ من لَفْظِ الْبَيْعِ بِالْإِكْرَاهِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ منه طَائِعًا إجَازَةً لِذَلِكَ
الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ هذا بَيْعًا مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ التَّعَاطِي
وَالثَّانِي أَنَّ التَّسْلِيمَ منه إجَازَةٌ لِذَلِكَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ ليس من
شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ حتى يَكُونَ الْإِكْرَاهُ على
الْبَيْعِ إكْرَاهًا على ما لَا صِحَّةَ له بِدُونِهِ
إذْ الْبَيْعُ يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ طَائِعًا في التَّسْلِيمِ
فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ
____________________
(7/186)
على
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا سَلَّمَ طَائِعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ
التَّسْلِيمُ إجَازَةً لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ
عَلَيْهِمَا إكْرَاهًا على الْقَبْضِ فلم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ دَلِيلًا على
الْإِجَازَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ
هذا إذَا كان مُكْرَهًا على الْبَيْعِ طَائِعًا في التَّسْلِيمِ فَأَمَّا إذَا كان
مُكْرَهًا عَلَيْهِمَا جميعا فَبَاعَ مُكْرَهًا وسلم مُكْرَهًا كان الْبَيْعُ
فَاسِدًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ هو الْمُبَادَلَةُ وَالْإِكْرَاهُ يُؤَثِّرُ
فيها بِالْفَسَادِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا حتى لو كان
المشتري عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ
لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ تَعَذَّرَ عليه الْفَسْخُ إذْ الْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَقَرَّرَ الْهَلَاكُ فَتَقَرَّرَتْ عليه الْقِيمَةُ
فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عليه كَالْبَائِعِ وَالْمُكْرَهُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ على الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ الْمُكْرِهُ
يَرْجِعُ على الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ على الْمُشْتَرِي
أَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ على الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه مَالَهُ
بِإِزَالَةِ يَدِهِ عنه فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ ما
أَتْلَفَهُ كَالْغَاصِبِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ على الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ
وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ على الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ في حَقِّ الْبَائِعِ
بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَالِكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ غَاصِبِ
الْغَاصِبِ
كَذَا هذا
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قبل الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ
الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ وَالْإِعْتَاقُ لَا
يَنْفُذُ في غَيْرِ الْمِلْكِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ
الْإِعْتَاقِ نَفَذَ الْبَيْعُ ولم يَنْفُذْ الْإِعْتَاقُ
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ تَدُلُّ على أَنَّ الْمِلْكَ
يَثْبُتُ بِالْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ في حُكْمِ الْإِنْشَاءِ
وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ عِنْدَ
الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ مُقْتَصِرٌ من وَجْهٍ
ظَاهِرٌ من وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ لَا يَظْهَرَ في حَقِّ الْمُعَلَّقِ بَلْ
يُقْتَصَرَ وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ
وَالْإِجَازَةِ في هذا الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ
وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَجْلِ الْفَسَادِ
فَيَثْبُتُ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ دَفْعًا
لِلْفَسَادِ
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ
لِهَذَا الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ وَلَيْسَ له حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ
لِأَنَّهُ طَائِعٌ في الشِّرَاءِ فَكَانَ لَازِمًا في جَانِبِهِ لَكِنْ إنَّمَا
يَمْلِكُ الْبَائِعُ فَسْخَ هذا القعد ( ( ( العقد ) ) ) إذَا كان بِمَحَلِّ
الْفَسْخِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا
يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا
يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَإِنْ
تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْفَسْخِ
أَيَّ تَصَرُّفٍ كان
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى
الْمَمْلُوكِ من الزِّيَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَنَحْوِ ذلك وقد زَالَ ذلك
الْمَعْنَى بِزَوَالِ الْمَمْلُوكِ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ
فلما ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ وهو كَرَاهَتُهُ
وَفَوَاتُ رِضَاهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَكَانَ حَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتًا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حتى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي له
أَنْ يَفْسَخَ الْعُقُودَ كُلَّهَا لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَا إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ إذَا كان يمحل ( ( ( بمحل ) ) )
الْإِجَازَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا
لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ حتى لَا يَجِبَ الثَّمَنُ على
الْمُشْتَرِي بَلْ تَجِبُ عليه قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ
وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ في
الْمَحَلِّ ثُمَّ يُسْتَنَدُ وَالْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا
يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ وَالْمَحَلُّ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ في حُكْمِ الْهَالِكِ
وَتَقَرَّرَ هَلَاكُهُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَقَرَّرُ على
الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي
وإذا أَجَازَ وَاحِدًا من الْعُقُودِ جَازَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا ما بَعْدَ هذا
الْعَقْدِ وما قَبْلَهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ
ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي هَكَذَا حتى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَتَوَقَّفَتْ
الْعُقُودُ كُلُّهَا فَأَجَازَ الْمَالِكُ وَاحِدًا منها أنما كان يَجُوزُ ذلك
الْعَقْدُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ
وَلَوْ لم يُجِزْ الْمَالِكُ شيئا من الْعُقُودِ وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ وَاحِدًا منهم
يَجُوزُ ما بَعْدَ عَقْدِهِ دُونَ ما قَبْلَهُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ في بَابِ الْغَصْبِ لم يَنْفُذْ شَيْءٌ من الْعُقُودِ بَلْ
تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْكُلِّ على الْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ شَرْطَ
النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ ما لَحِقَهُ الشَّرْطُ دُونَ غَيْرِهِ
أَمَّا هَهُنَا فَالْعُقُودُ ما تَوَقَّفَ نَفَاذُهَا على الْإِجَازَةِ
لِوُقُوعِهَا نَافِذَةً قبل الْإِجَازَةِ إذْ الْفَسَادُ لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ
فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إزَالَةَ الْإِكْرَاهِ من الْأَصْلِ وَمَتَى جَازَ
الْإِكْرَاهُ من الْأَصْلِ جَازَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فيجوز ( ( ( فتجوز ) ) )
الْعُقُودُ كُلُّهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَبِخِلَافِ ما إذَا ضَمِنَ الْمَغْصُوبُ
منه أَحَدَهُمْ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ أَخْذِ
الضَّمَانِ منه من وَقْتِ جِنَايَتِهِ وهو الْقَبْضُ إمَّا
____________________
(7/187)
بِطَرِيقِ
الظُّهُورِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ على ما عُرِفَ في مَسَائِلِ
الْخِلَافِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا قَبْلَهُ من الْعُقُودِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
على ما مَرَّ
وإذا قال الْبَائِعُ أَجَزْت جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هو
الْإِكْرَاهُ وَالْإِجَازَةُ إزَالَةُ الْإِكْرَاهِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ
كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَبَضَ الْمَالِكُ الثَّمَنَ
وَلَوْ لم يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَلَكِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي
قبل الْإِجَازَةِ نَفَذَ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ له بِالشِّرَاءِ
وَسَوَاءٌ كان قَبَضَ الْعَبْدَ أو لَا لِأَنَّ شِرَاءَهُ صَحِيحٌ فَيُفِيدُ
الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ قبل الْقَبْضِ
لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ
الْقَبْضِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْأَخِيرُ ثُمَّ أَجَازَ الْبَائِعُ الْعَقْدَ
الْأَوَّلَ لم تَجُزْ إجَازَتُهُ حتى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ
بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ
وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بها على الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرِهُ يَرْجِعُ
على الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ على أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ
أَيَّهُمَا كان
إما الرُّجُوعُ على الْمُكْرِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا في إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَتْلَفَ عليه مِلْكَهُ مَعْنًى فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ منه
ضَمَانَ الْإِتْلَافِ وَلِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ على الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ
مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وكان لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عليه بِالضَّمَانِ فَكَذَا
له
وَيَصِحُّ كُلُّ عَقْدٍ وُجِدَ بَعْدَ ذلك وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ على
أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ
الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ برىء الْمُكْرِهُ وَصَحَّتْ الْبِيَاعَاتِ كُلُّهَا
لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَتُبُيِّنَ
أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ فَيَصِحُّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذلك
إن إخبار ( ( ( اختار ) ) ) تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ صَحَّ كُلُّ بَيْعٍ
وُجِدَ بَعْدَ ذلك وَبَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كان قَبْلَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ
تَضْمِينَهُ فَقَدْ خَصَّهُ بِمِلْكِ الْمَضْمُونِ فَتُبُيِّنَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ
كان قَبْلَهُ كان بَيْعُ ما لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَبَطَلَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمُكْرَهُ هو الْبَائِعُ فَأَمَّا إذَا كان الْمُكْرَهُ هو
الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ قبل
الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ حَقُّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ
لِمَا ذَكَرْنَا في إكْرَاهِ الْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ هذا
الْعَقْدَ كما لِلْبَائِعِ إذَا كان مُكْرَهًا
وَلَوْ أُكْرِهَ على الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ والمشتري عَبْدٌ
فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَذَلِكَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِأَنَّ هذه
التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ
عليها الْتِزَامًا لِلْمَالِكِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ
شيئا من ذلك
وَكَذَلِكَ لو كان المشتري أَمَةً فَوَطِئَهَا أو قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ
إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ لو نُقِضَ الْبَيْعُ لَتُبُيِّنَ أَنَّ الْوَطْءَ
صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسْلِمِ
التَّحَرُّزُ عن الْحَرَامِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عليه الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ
دَلَالَةً
وَلَوْ لم يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حتى أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ
لِأَنَّهُ على مِلْكِهِ قبل التَّسْلِيمِ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ
إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْفُذَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ ما لَا يَمْلِكُهُ ولاعتق فِيمَا
لَا يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إجَازَةَ هذا الْبَيْعِ
فَإِقْدَامُهُ على الْإِعْتَاقِ إجَازَةٌ له تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَهَذَا
لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عن الْإِلْغَاءِ ما أَمْكَنَ
وَلَا صِحَّةَ لِتَصَرُّفِهِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ
إلَّا بِالْإِجَازَةِ فَيَقْتَضِي الْإِعْتَاقُ إجَازَةَ هذا الْعَقْدِ سَابِقًا
عليه أو مُقَارِنًا له تَصْحِيحًا له كما في قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك
عَنِّي على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلِهَذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ
الْخِيَارِ
كَذَا هذا
هذا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَلَوْ أَعْتَقَاهُ جميعا مَعًا قبل
الْقَبْضِ فَإِعْتَاقُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ مِلْكَ
الْبَائِعِ ثَابِتٌ مقصودا ( ( ( مقصود ) ) ) وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ
ضِمْنًا لِلْإِجَازَةِ الثَّابِتَةِ ضِمْنًا لِلْإِعْتَاقِ فَكَانَ تَنْفِيذُ
إعْتَاقِ الْبَائِعِ أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ في الْحَالِ وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي
يَثْبُتُ في الثَّانِي فَاعْتِبَارُ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ أَوْلَى
هذا إذَا كان الْمُكْرَهُ وهو الْبَائِعُ أو الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا كَانَا
جميعا مُكْرَهَيْنِ على الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ في حَقِّهِمَا
وَالثَّابِتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ بِمَحَلِّ
الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَإِنْ أَجَازَا جميعا جَازَ وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا
دُونَ الْآخَرِ جَازَ في جَانِبِهِ وَبَقِيَ الْخِيَارُ في حَقِّ صَاحِبِهِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قبل وُجُودِ الْإِجَازَةِ من أَحَدِهِمَا أَصْلًا
نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ لَا
يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَكَانَ إقْدَامُهُ عليه الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ في
جَانِبِهِ وَلَا تَجُوزُ إجَازَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ خَرَجَ من أَنْ
يَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ بِالْإِعْتَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ
الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ وقد هَلَكَ
بِالْإِعْتَاقِ
وَلَوْ لم يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ثُمَّ
أَعْتَقَاهُ مَعًا نَفَذَ لإعتاق ( ( ( إعتاق ) ) ) الْبَائِعِ وَبَطَلَ
____________________
(7/188)
إعْتَاقُ
الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت الْإِجَازَةُ من الْمُشْتَرِي
أو من الْبَائِعِ فَإِنْ كانت من الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ لِأَنَّ
إجَازَةَ الْمُشْتَرِي لم تَعْمَلْ في جَانِبِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ الْبَائِعُ على
خِيَارِهِ فإذا أَعْتَقَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ أَبْطَلَ خِيَارَهُ بِالْإِجَازَةِ وَإِنْ كانت الْإِجَازَةُ من
الْبَائِعِ فَتَنْفِيذُ إعْتَاقِهِ أَوْلَى أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا من الْوَجْهَيْنِ
في إكْرَاهِ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَ
الْبَائِعُ بَعْدَهُ نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ وَلَا
يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ
أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فَلِبَقَاءِ الْخِيَارِ له وَأَمَّا عَدَمُ
نُفُوذِ إعْتَاقِ الْبَائِعِ فَلِسُقُوطِ خِيَارِهِ بِالْإِجَازَةِ
وَأَمَّا لُزُومُ الثَّمَنِ الْمُشْتَرِيَ فَلِلُزُومِ الْبَيْعِ في
الْجَانِبَيْنِ جميعا
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَيَسْتَوِي أَيْضًا في بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ
وَالنَّاقِصُ لِأَنَّ كُلَّ ذلك يُفَوِّتُ الرِّضَا وَيَسْتَوِي في الْإِكْرَاهِ
على الْبَائِعِ تَسْمِيَةُ الْمُشْتَرِي وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ حتى يَفْسُدَ
الْبَيْعُ في الْحَالَيْنِ جميعا لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ في الْحَالَيْنِ
جميعا وَاحِدٌ
وهو إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ من أَيِّ إنْسَانٍ
كان
وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أو الْحَبْسِ يَوْمًا أو الْقَيْدِ يَوْمًا
فَلَيْسَ ذلك من الْإِكْرَاهِ في شَيْءٍ لِأَنَّ ذلك لَا يُغَيِّرُ حَالَ
الْمُكْرَهِ عَمَّا كان عليه من قَبْلِ
هذا إذَا وَرَدَ الْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَأَمَّا إذَا وَرَدَ
على التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وسلم وهو طَائِعٌ
وَالْمَبِيعُ عَبْدُهُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْمُكْرِهَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ أو الْمُشْتَرِيَ فَإِنْ ضَمَّنَ
الْوَكِيلَ رَجَعَ على الْمُشْتَرِي وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ على
أَحَدٍ
أَمَّا وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على التَّوْكِيلِ
بِالْبَيْعِ إكْرَاهٌ على الْبَيْعِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّوْكِيلِ لِأَنَّ
التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ تَسْبِيبٌ إلَى إزَالَةِ الْيَدِ وَأَنَّهُ إتْلَافٌ
مَعْنًى فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
فَكَانَ له وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ
وَأَمَّا تَضْمِينُ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ
وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَقَبْضُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ له وِلَايَةُ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ
ضَمَّنَ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عن الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ
لَمَّا أَدَّى الضَّمَانَ فَقَدْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فَيَمْلِكُ
تَضْمِينَهُ كَالْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ ذلك الْبَيْعُ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ لِأَنَّهُ ما مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لم يَبِعْهُ
لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وهو الْمَالِكُ فَيَقِفُ نَفَاذُهُ على إجَازَةِ من
وَقَعَ له الْعَقْدُ وهو الْمَالِكُ لَا على فِعْلٍ يُوجَدُ منه وهو أَدَاءُ
الضَّمَانِ
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ
أَنَّهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّ هُنَاكَ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وهو
الْمَالِكُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَجَازَ وُقُوفُهُ على
فِعْلِهِ وهو أَدَاءُ الضَّمَانِ وَجَازَ وُقُوفُهُ على فِعْلِ مَالِكِهِ أَيْضًا
قبل أَدَاءِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ فَلَا
يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِذَلِكَ وَقَفَ على إجَازَةِ الْمَالِكِ
وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على أَحَدٍ
لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَبِيعِ وقد سَلَّمَ له الْمُبْدَلَ
ثُمَّ إنْ كان الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ من الْمُشْتَرِي يَسْتَرِدُّهُ منه
وَإِنْ كان لم يَقْبِضْهُ فَلَا شَيْءَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
هذا إذَا كان كالإكراه ( ( ( الإكراه ) ) ) تَامًّا فَإِنْ كان نَاقِصًا لَا
يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِالضَّمَانِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ
النَّاقِصَ لَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ على ما بَيَّنَّا
وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ أو الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ على الْهِبَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَهَا كَالْإِكْرَاهِ على
الْبَيْعِ حتى إنه لو وَهَبَ مُكْرَهًا وسلم مُكْرَهًا ثَبَتَ الْمِلْكُ كما في
الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ من وَجْهٍ وهو أَنَّ في بَابِ الْبَيْعِ
إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وسلم طَائِعًا يَجُوزُ الْبَيْعُ وفي بَابِ الْهِبَةِ
مُكْرَهًا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ مُكْرَهًا أو طَائِعًا
وقد بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ
الشُّفْعَةِ من هذا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مع الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ
الشُّفْعَةَ في مَعْنَى الْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِاللِّسَانِ كَالْبَيْعِ حتى
تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِالسُّكُوتِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ
ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ الْإِكْرَاهُ على الْإِبْرَاءِ عن الْحُقُوقِ لِأَنَّ
الْإِبْرَاءَ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ
بِالشَّرْطِ وَلَا يَصِحُّ في الْمَجْهُولِ كَالْبَيْعِ ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ
عليه الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عن الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إبْرَاءٌ
عن حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ الذي هو وَسِيلَةُ الْمَالِ
فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْبَيْعِ الذي هو تَمْلِيكُ الْمَالِ فَيَعْمَلُ عليه
الْإِكْرَاهُ كما يَعْمَلُ على الْبَيْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الْإِنْشَاءِ فَأَمَّا إذَا كان على الْإِقْرَارِ
فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ كان الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلًا
لِلْفَسْخِ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عن
الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا على الْإِخْبَارِ وَالْمُخْبَرُ
بِهِ هَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جهة ( ( (
جنبة ) ) ) الْوُجُودِ على جهة ( ( ( جنبة ) ) ) الْعَدَمِ
____________________
(7/189)
بِالصِّدْقِ
وَحَالُ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ على الصِّدْقِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا
يَتَحَرَّجُ عن الْكَذِبِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ من بَابِ الشَّهَادَةِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ }
وَالشَّهَادَةُ على أَنْفُسِهِمْ ليس إلَّا الْإِقْرَارُ على أَنْفُسِهِمْ
وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ وهو مُتَّهَمٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِمَا قُلْنَا بَلْ
أَوْلَى لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فَأَمَّا
الْمَالُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فلما لم يَصِحَّ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا
يَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ قبل أَنْ
يُقِرَّ بِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ بِهِ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ
فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَوَارَى عن بَصَرِ الْمُكْرِهِ حين ما خَلَّى
سَبِيلَهُ وَإِمَّا إن لم يَتَوَارَ عن بَصَرِهِ حتى بَعَثَ من أَخَذَهُ وَرَدَّهُ
إلَيْهِ فَإِنْ كان قد تَوَارَى عن بَصَرِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ إقْرَارًا
مُسْتَقْبَلًا جَازَ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّى سَبِيلَهُ حتى تَوَارَى
عن بَصَرِهِ فَقَدْ زَالَ الْإِكْرَاهُ عنه فإذا أَقَرَّ بِهِ من غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ
فَقَدْ أَقَرَّ طَائِعًا فَصَحَّ
وَإِنْ لم يَتَوَارَ عن بَصَرِهِ بَعْدُ حتى رَدَّهُ إلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ من
غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَوَارَ
عن بَصَرِهِ فَهُوَ على الْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَتَلَهُ حين ما
أَقَرَّ بِهِ من غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَإِنْ كان الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا
بِالذِّعَارَةِ يُدْرَأْ عنه الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا
وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بها يَجِبْ الْقِصَاصُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ
الْقِصَاصُ كيفما كان
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِقْرَارَ زال عنه الْإِكْرَاهُ لَمَّا لم يَصِحَّ
شَرْعًا صَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كما لو
قَتَلَهُ ابْتِدَاءً
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ كان لَا يَصِحُّ مع الْإِكْرَاهِ
لَكِنْ لِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةُ الصِّحَّةِ إذَا كان الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا
بِالذِّعَارَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الصِّدْقِ في الْجُمْلَةِ وَذَا يُورِثُ
شُبْهَةً في وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَبَدَأَ لِلشُّبْهَةِ
وإذا لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ فَإِقْرَارُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً في
الْوُجُوبِ فَيَجِبُ
وَمِثَالُ هذا إذَا دخل رَجُلٌ على رَجُلٍ في مَنْزِلِهِ فَخَافَ صَاحِبُ
الْمَنْزِلِ أَنَّهُ ذَاعِرٌ دخل عليه لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ
فَبَادَرَهُ وَقَتَلَهُ فَإِنْ كان الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ لَا
يَجِبُ الْقِصَاصُ على صَاحِبِ الْمَنْزِلِ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يَجِبْ الْقِصَاصُ عليه
كَذَا هذا
وإذا لم يَجِبْ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْأَرْشُ
لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ وإنها لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا يَجِبُ
الْأَرْشُ أَيْضًا إذَا كان مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ ما عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه
الْإِكْرَاهُ أو زَادَ على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ أو نَقَصَ عنه فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعُدُولُ عَمَّا وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ إلَى
غَيْرِهِ لَا يَخْلُو من وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ في
الِاعْتِقَادَاتِ أو بِالْفِعْلِ في الْمُعَامَلَاتِ أَمَّا حُكْمُ الْعُدُولِ
عَمَّا وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ بِالْعَقْدِ في الِاعْتِقَادَاتِ فَقَدْ ذكرناها
( ( ( ذكرناه ) ) ) فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ في
الْمُعَامَلَاتِ فَنَقُولُ إذَا عَدَلَ الْمُكْرَهُ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه
الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ جَازَ ما فَعَلَ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا عَدَلَ
إلَيْهِ حتى لو أُكْرِهَ على بَيْعِ جَارِيَتِهِ فَوَهَبَهَا جَازَ لِأَنَّهُ
عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عليه لِتَغَايُرِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَكَذَلِكَ لو طُولِبَ بِمَالٍ وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ وَأُكْرِهَ على
أَدَائِهِ ولم يذكر له بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَبَاعَ جَارِيَتَهُ جَازَ الْبَيْعُ
لِأَنَّهُ في بَيْعِ الْجَارِيَةِ طَائِعٌ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ
أو صِنْفٍ آخَرَ غَيْرِ ما أُكْرِهَ عليه جَازَ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا أَقَرَّ
بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أُكْرِهَ على أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ من فُلَانٍ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ منه بِمِائَةِ دِينَارٍ إن الْبَيْعَ فَاسِدٌ
اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا فَقَدْ اعْتَبَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ
جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في الْإِقْرَارِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَاعْتَبَرَهَا جِنْسًا وَاحِدًا في الْإِنْشَاءِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُمَا
جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا جُعِلَا جِنْسًا في مَوْضِعِ
الْإِنْشَاءِ بَلْ مُخَالَفَةُ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنًى هو مُنْعَدِمٌ في
الْإِقْرَارِ وهو أَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ هو الرِّضَا طَبْعًا
وَالْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كما يَعْدَمُ الرِّضَا
بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ
قِيمَتُهُ أَلْفٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ منها وهو الثَّمَنِيَّةَ فَكَانَ
انْعِدَامُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا دليل ( ( ( دليلا ) ) ) على
انْعِدَامِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِالْآخَرِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ
بِأَحَدِهِمَا إكْرَاهًا على الْبَيْعِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ ما إذَا أُكْرِهَ على
الْبَيْعِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ آخَرَ سِوَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَقْصُودُ مُخْتَلَفٌ فلم يَكُنْ كَرَاهَةُ
الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا كَرَاهَةَ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا
يُوجَدُ في الْإِقْرَارِ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ لِانْعِدَامِ
رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في اخْتِيَارِهِ بِدَلَالَةِ
الْإِكْرَاهِ فيختصر ( ( ( فيختص ) ) ) بِمَوْرِدِ الْإِكْرَاهِ وهو الدَّرَاهِمُ
فَكَانَ
____________________
(7/190)
صَادِقًا
في الْإِقْرَارِ بِالدَّنَانِيرِ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ من الرُّجْحَانِ فيه
فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا إذَا زَادَ على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ بِأَنْ أُكْرِهَ على
الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ جَازَ إقْرَارُهُ بِأَلْفٍ
وَبَطَلَ بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ في الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ طَائِعٌ
فَصَحَّ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ لِفُلَانٍ فَأَقَرَّ له وَلِغَيْرِهِ فَإِنْ
صَدَّقَهُ الْغَيْرُ في الشَّرِكَةِ لم يَجُزْ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ
كَذَّبَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَجُوزُ في نَصِيبِ الْغَيْرِ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَانِعَ من الصِّحَّةِ عِنْدَ التَّصْدِيقِ هو
الشَّرِكَةُ في مَالٍ لم يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِنِصْفِهِ شَائِعًا فإذا كَذَّبَهُ
لم يثبت ( ( ( تثبت ) ) ) الشَّرِكَةُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلْغَيْرِ إذْ هو
فِيمَا أَقَرَّ له بِهِ طَائِعٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عن
الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا على الْإِخْبَارِ وَالْمُخْبَرُ
بِهِ أَلْفٌ مُشْتَرَكَةٌ فَلَوْ صَحَّ إقْرَارُهُ لِغَيْرِ الْمُقَرِّ له
بِالْإِكْرَاهِ لم يَكُنْ الْمُخْبَرُ بِهِ على وَصْفِ الشَّرِكَةِ فلم يَصِحَّ
إخْبَارُهُ عن الْمُشْتَرَكِ فلم يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ
اخْتِلَافِهِمْ في الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ
وَلِأَجْنَبِيٍّ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا
بِالْإِجْمَاعِ إنْ صَدَّقَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ وَإِنْ كَذَّبَهُ
فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَلَوْ أُكْرِهَ على هِبَةِ عَبْدِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ فَوَهَبَهُ لِعَبْدِ
اللَّهِ وَزَيْدٍ فَسَدَتْ الْهِبَةُ في حِصَّةِ عبد اللَّهِ وَصَحَّتْ في حِصَّةِ
زَيْدٍ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ في حِصَّةِ عبد اللَّهِ لِوُرُودِ الْإِكْرَاهِ على كل
الْعَبْدِ وَالْإِكْرَاهُ على كل الشَّيْءِ إكْرَاهٌ على بَعْضِهِ فلم تَصِحَّ
الْهِبَةُ في حِصَّتِهِ طَائِعٌ في حِصَّةِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ
فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَصَحَّتْ في حِصَّتِهِ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَالْهِبَةُ في الْكُلِّ فَاسِدَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ بين أَصْحَابِنَا
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هِبَةَ
الطَّائِعِ من اثْنَيْنِ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فَهِبَةُ الْمُكْرَهِ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ لَمَّا وُهِبَ الْأَلْفُ مِنْهُمَا
وَالْهِبَةُ من أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ بِحُكْمِ الْإِكْرَاهِ كان وَاهِبًا
نِصْفَ الْأَلْفِ من الْآخَرِ وَهَذِهِ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ
الْقِسْمَةَ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ
حَالَةِ الطَّوَاعِيَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا زَادَ على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ
فَأَمَّا إذَا نَقَصَ عنه بِأَنْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فَأَقَرَّ بِخَمْسِمِائَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على أَلْفٍ إكْرَاهٌ على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا بَعْضُ
الْأَلْفِ وَالْإِكْرَاهُ على كل شَيْءٍ إكْرَاهٌ على بَعْضِهِ فَكَانَ مُكْرَهًا
بِالْإِقْرَارِ بِخَمْسِمِائَةٍ فلم يَصِحَّ
وَلَوْ أُكْرِهَ على بَيْعِ جَارِيَتِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ
جَازَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ بَاعَهَا بِأَقَلَّ من أَلْفٍ فَالْبَيْعُ
فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عليه هو الْبَيْعُ بِأَلْفٍ فإذا بَاعَ
بِأَقَلَّ منه فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا آخَرَ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ
الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَكَانَ طَائِعًا فيه فَجَازَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ هو الْإِضْرَارُ بِالْبَائِعِ
بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ وَإِنْ قَلَّ الثَّمَنُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ
بِأَلْفٍ إكْرَاهًا على الْبَيْعِ بِأَقَلَّ منه فَبَطَلَ
بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ لِأَنَّ حَالَ الْمُكْرِهِ دَلِيلٌ على
أَنَّهُ لَا يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ فَكَانَ طَائِعًا في
الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ فَجَازَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْمَأْذُونِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ رُكْنِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي
بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُ
الْمَأْذُونُ من التَّصَرُّفِ وما لَا يَمْلِكُ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُ
الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ وما لَا يَمْلِكُ حُكْمَ
تَصَرُّفِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْغُرُورِ في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وفي بَيَانِ
حُكْمِ الدَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ
الْإِذْنُ وَيَصِيرُ مَحْجُورًا وفي بَيَانِ حُكْمِ تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ رُكْنُ الْإِذْنِ
بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ خَاصٌّ
وَعَامٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ
بِشَرْطٍ وَمُضَافٌ إلَى وَقْتٍ
أَمَّا الْخَاصُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ له في شَيْءٍ بِعَيْنِهِ
مِمَّا لَا يُؤْذَنُ في مِثْلِهِ لِلتِّجَارَةِ عَادَةً بِأَنْ يَقُولَ له اشْتَرِ
لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا أو اشْتَرِ لي طَعَامًا رِزْقًا لي أو لِأَهْلِي أو لك أو
اشْتَرِ لي ثَوْبًا أو لِأَهْلِي أو لِأَهْلِكَ أو اشْتَرِ ثَوْبًا أقطعه قَمِيصًا
وَنَحْوَ ذلك مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ عَادَةً وَيَصِيرُ مَأْذُونًا
فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ
مَأْذُونًا بِالتِّجَارَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا
يجزى فَكَانَ الْإِذْنُ في تِجَارَةٍ إذْنًا في الْكُلِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ على هذا الْوَجْهِ لَا يُوجَدُ إلَّا على
وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً فَيُحْمَلُ على الْمُتَعَارَفِ وهو
الِاسْتِخْدَامُ دُونَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مع أَنَّهُ لو جَعَلَ الْإِذْنَ
بمثله إذْنًا
____________________
(7/191)
بِالتِّجَارَاتِ
كُلِّهَا لَصَارَ الْمَأْذُونُ بِشِرَاءِ الْبَقْلِ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ
وَفِيهِ سَدُّ بَابِ اسْتِخْدَامِ الْمَمَالِيكِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهِ
فَاقْتُصِرَ على مَوْرِدِ الضَّرُورَةِ
وَأَمَّا الْعَامُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لَك في
التِّجَارَاتِ أو في التِّجَارَةِ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا
بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا إذَا أَذِنَ له في نَوْعٍ بِأَنْ قال اتَّجِرْ في الْبُرِّ أو في
الطَّعَامِ أو في الدَّقِيقِ يَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَاتِ كُلِّهَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِيرُ
مَأْذُونًا إلَّا في النَّوْعِ الذي تَنَاوَلَهُ ظَاهِرُ الْإِذْنِ وَكَذَلِكَ
إذَا قال له اتَّجِرْ في الْبُرِّ وَلَا تَتَّجِرْ في الْخُبْزِ لَا يَصِحُّ
نَهْيُهُ وَتَصَرُّفُهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَاتِ كُلِّهَا
وَعَلَى هذا إذَا أَذِنَ له في ضَرْبٍ من الصَّنَائِعِ بِأَنْ قال له اُقْعُدْ
قَصَّارًا أو صَبَّاغًا يَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ
كُلِّهَا حتى كان له أَنْ يَقْعُدَ صَيْرَفِيًّا وَصَائِغًا وَكَذَلِكَ إذَا
أَذِنَ له أَنْ يَتَّجِرَ شَهْرًا أو سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا ما لم
يُحْجَرْ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ مُتَصَرِّفٌ عن إذْنٍ فَلَا يَتَعَدَّى
تَصَرُّفُهُ مَوْرِدَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ
حُكْمُ تَصَرُّفِهِ لِمَوْلَاهُ
وَلَنَا أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِالنَّوْعِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيَلْغُو
اسْتِدْلَالًا بِالْمُكَاتَبِ وَهَذَا لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ
تَمْكِينُ الْعَبْدِ من تَحْصِيلِ النَّفْعِ الْمَطْلُوبِ من التِّجَارَةِ وهو
الرِّبْحُ وَهَذَا في النَّوْعَيْنِ على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَكَذَا الضَّرَرُ الذي
يَلْزَمُهُ في الْعَقْدِ عَسَى لَا يَتَفَاوَتُ فَكَانَ الرِّضَا بِالضَّرَرِ في
أَحَدِ النَّوْعَيْنِ رِضًا بِهِ في النَّوْعِ الْآخَرِ فلم يَكُنْ التَّقْيِيدُ
بِالنَّوْعِ مُفِيدًا فَيَلْغُو وَيَبْقَى الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ
الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا مع ما أَنَّهُ وُجِدَ الْإِذْنُ في النَّوْعِ الْآخَرِ
دَلَالَةً لِأَنَّ الْغَرَضَ من الْإِذْنِ هو حُصُولُ الرِّبْحِ وَالنَّوْعَانِ في
احْتِمَالِ الرِّبْحِ على السَّوَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا
بِالْآخَرِ دَلَالَةً وَلِهَذَا يَمْلِكُ قَبُولَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ من
غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى صَرِيحًا لِوُجُودِهِ دَلَالَةً كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا الْخَاصُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ
فَاشْتَرِ لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَنَحْوَ ذلك وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ
يَقُولَ اشْتَرِ لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَأَمَّا الْعَامُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ
فَقَدْ أَذِنْت لَك بِالتِّجَارَةِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت
لَك بِالتِّجَارَةِ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ من
النَّوْعَيْنِ يَصِحُّ مُعَلَّقًا وَمُضَافًا كما يَصِحُّ مُطْلَقًا بِخِلَافِ
الْحَجْرِ في أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ وَلَا إضافته ( ( ( إضافة
) ) ) إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَأْذُونِ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتَ
مَحْجُورٌ أو فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِذْنَ تَصَرُّفُ إسْقَاطٍ لِأَنَّ انْحِجَارَ
الْعَبْدِ ثَبَتَ حَقًّا لِمَوْلَاهُ وَبِالْإِذْنِ أَسْقَطَهُ وَالْإِسْقَاطَاتُ
تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا
فَأَمَّا الْحَجْرُ فَإِثْبَاتُ الْحَقِّ وَإِعَادَتُهُ وَالْإِثْبَاتُ لَا
يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالرَّجْعَةِ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا قال
أَصْحَابُنَا إنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ حتى لو أَذِنَ
لِعَبْدِهِ بِالتِّجَارَةِ شَهْرًا أو سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا ما لم
يُوجَدْ الْمُبْطِلُ لِلْإِذْنِ كَالْحَجْرِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُؤَقَّتَ
الْإِذْنُ إلَى وَقْتِ إضَافَةِ الْحَجْرِ إلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَضَى
شَهْرٌ أو سَنَةٌ فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك أو حَجَرْت عَلَيْك رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ
وَبَقِيَ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مُطْلَقًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُبْطِلُ
وَأَمَّا الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ
وَيَشْتَرِي فَلَا يَنْهَاهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ عِنْدَنَا
إلَّا في الْبَيْعِ الذي صَادَفَهُ السُّكُوتُ وَأَمَّا في الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ
مَأْذُونًا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِيرُ
مَأْذُونًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السُّخْطَ
فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الْإِذْنِ مع الِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لم يَنْفُذْ
تَصَرُّفُهُ الذي صَادَفَهُ السُّكُوتُ
وَلَنَا أَنَّهُ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا على جَانِبِ السُّخْطِ لِأَنَّهُ لو
لم يَكُنْ رَاضِيًا لَنَهَاهُ إذْ النَّهْيُ عن الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ فَكَانَ
احْتِمَالُ السُّخْطِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَكَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ
شَرْعًا
وَأَمَّا التَّصَرُّفُ الذي صَادَفَهُ السُّكُوتُ فَإِنْ كان شِرَاءً يَنْفُذْ
وَإِنْ كان بَيْعًا قَائِمًا لم يَنْفُذْ لإنعدام الْمَقْصُودِ من الْإِذْنِ
بِالتِّجَارَةِ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ رَآهُ
يَبِيعُ بَيْعًا صَحِيحًا أو بَيْعًا فَاسِدًا إذَا سَكَتَ ولم يَنْهَهُ يَصِيرُ
مَأْذُونًا لِأَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ السُّكُوتِ على الْإِذْنِ لَا يَخْتَلِفُ
وَكَذَلِكَ لو رَآهُ الْمَوْلَى يَبِيعُ مَالَ أَجْنَبِيٍّ فَسَكَتَ يَصِيرُ
مَأْذُونًا وَإِنْ لم يَجُزْ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى حَاضِرٌ فَسَكَتَ لم يَجُزْ ذلك
الْبَيْعُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى من
الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْمَضَرَّةِ وَذَلِكَ
بِاكْتِسَابِ ما لم يَكُنْ لَا بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عن مَالٍ كَائِنٍ وَلَا
يَنْجَبِرُ هذا الضَّرَرُ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الناس رَغَائِبُ في الْأَعْيَانِ ما
ليس في أَبْدَالِهَا حتى لو كان شِرَاءً يَنْفُذُ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ ثُمَّ
لَا حُكْمَ لِلسُّكُوتِ إلَّا في مَوَاضِعَ
____________________
(7/192)
منها
سُكُوتُ الْمَوْلَى عِنْدَ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وقد
ذَكَرْنَاهُ
وَمِنْهَا سُكُوتُ الْبَالِغَةِ الْبِكْرِ عِنْدَ استثمار ( ( ( استئمار ) ) )
الْوَلِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ يَكُونُ إجَازَةً
وَمِنْهَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ
تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ
وَمِنْهَا سُكُوتُ الْوَاهِبِ أو الْمُتَصَدِّقِ عِنْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ له
وَالْمُتَصَدَّقِ عليه بِحَضْرَتِهِ أَنْ يَكُونَ إذْنًا بِالْقَبْضِ
وَمِنْهَا سُكُوتُ الْمَجْهُولِ النَّسَبِ إذَا بَاعَهُ إنْسَانٌ بِحَضْرَتِهِ
وقال له قُمْ فَاذْهَبْ مع مَوْلَاك فَقَامَ وَسَكَتَ أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا
منه بِالرِّقِّ حتى لَا تَسْمَعَ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ ذلك
وَأَمَّا سُكُوتُ الْبَائِعِ بَيْعًا صَحِيحًا بِثَمَنٍ حَالٍّ عِنْدَ قَبْضِ
الْمُشْتَرِي بِحَضْرَتِهِ هل يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ ذَكَرَ فيها ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا كما في الْبَيْعِ
الْفَاسِدِ وَدَلَائِلُ هذه الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا إذَا قال لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا أو كُلَّ شَهْرٍ
كَذَا يَصِيرُ مَأْذُونًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ من أَدَاءِ الْغَلَّةِ إلَّا
بِالْكَسْبِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ
وَكَذَلِكَ لو قال لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أو قال إنْ
أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يَصِيرُ مَأْذُونًا لِأَنَّ غَرَضَهُ
حَمْلُ الْعَبْدِ على الْعِتْقِ بِوَاسِطَةِ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَلَا
يَتَمَكَّنُ من تَحْصِيلِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ دَلِيلًا
على الْإِذْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال له أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ
سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في التَّعْلِيقِ عُرْفًا وَعَادَةً
وَلَوْ قال له أَدِّ وَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا وَيُعْتَقُ لِلْحَالِ
لِأَنَّ هذا تَنْجِيزٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ وَعَلَى هذا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ
يَصِيرُ مَأْذُونًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ أَحَقَّ
بِكَسْبِهِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِالتِّجَارَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ
لِمَنْ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لِمَنْ لَا
يَعْقِلُ سَفَهٌ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ
فَيَصِحُّ الْإِذْنُ لِلْعَبْدِ بَالِغًا كان أو صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كان
يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ كان يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ من غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ
الْحَدِيثُ على جَوَازِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ما كان لِيُجِيبَ دَعْوَةَ الْمَحْجُورِ وَيَأْكُلَ من كَسْبِهِ
فَتَعَيَّنَ الْمَأْذُونُ
وَكَذَا الْإِذْنُ لِلْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ أَنْ
عَقَلُوا التِّجَارَةَ لِأَنَّ اسْمَ الْمَمْلُوكِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ
وَكَذَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ الْحُرِّ بِالتِّجَارَةِ إذَا كان يَعْقِلُ
التِّجَارَةَ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ
بِالتِّجَارَةِ بِحَالٍ حُرًّا كان أو عَبْدًا وَكَذَا سَلَامَةُ الْعَقْلِ عن
الْفَسَادِ أَصْلًا ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ عِنْدَنَا حتى يَجُوزَ
الْإِذْنُ لِلْمَعْتُوهِ الذي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالتِّجَارَةِ
وَعِنْدَهُ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ التِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ
الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ بالعقل ( ( (
بالعقد ) ) ) الْكَامِلِ لأنها تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا
بُدَّ لها من كَمَالِ الْعَقْلِ وَعَقْلُ الصَّبِيِّ نَاقِصٌ فَلَا يَكْفِي لِأَهْلِيَّةِ
التِّجَارَةِ وَلِهَذَا لم يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ في الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أَمَرَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَوْلِيَاءَ بِابْتِلَاءِ الْيَتَامَى والإبتلاء هو
الْإِظْهَارُ فَابْتِلَاءُ الْيَتِيمِ إظْهَارُ عَقْلِهِ بِدَفْعِ شَيْءٍ من
أَمْوَالِهِ إلَيْهِ لِيَنْظُرَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ هل يَقْدِرُ على حِفْظِ
أَمْوَالِهِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَلَا يَظْهَرُ ذلك إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ
الْأَمْرُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كان
يَعْقِلُ التِّجَارَةَ يَعْقِلُ النَّافِعَ من الضَّارِّ فَيَخْتَارُ
الْمَنْفَعَةَ على الْمَضَرَّةِ ظَاهِرًا فَكَانَ أَهْلًا لِلتِّجَارَةِ
كَالْبَالِغِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا
لِأَنَّهَا من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ لِكَوْنِهَا إزَالَةَ
مِلْكٍ لَا إلَى عِوَضٍ فلم يُجْعَلْ الصَّبِيُّ أَهْلًا لها نَظَرًا دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عنه
وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِذْنِ
بِلَا خِلَافٍ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الناس ضَرْبَانِ إذْنُ
إسْرَارٍ وَإِذْنُ إعْلَانٍ وهو الْمُسَمَّى بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ في
الْكِتَابِ فَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لِعَبْدِي في التِّجَارَةِ لَا على
وَجْهٍ يُنَادِي أَهْلَ السُّوقِ فيقول بَايِعُوا عَبْدِي فُلَانًا فَإِنِّي قد
أَذِنْت له في التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْعِلْمَ بِالْإِذْنِ شَرْطٌ
لِصِحَّةِ الْإِذْنِ في هذا النَّوْعِ لِأَنَّ الْإِذْنَ هو الْإِعْلَامُ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَأَذَانٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ إعْلَامٌ وَالْفِعْلُ
لَا يُعْرَفُ إعْلَامًا إلَّا بَعْدَ تَعَلُّقِهِ بالمعلم ( ( ( بالعلم ) ) )
وَلِأَنَّ إذْنَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ ثُمَّ حُكْمُ الْإِذْنِ
من الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ في حَقِّ الْمَأْذُونِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ
فَعَلَى ذلك إذْنُ الْعَبْدِ وَلِهَذَا كان الْعِلْمُ بِالْوَكَالَةِ شَرْطًا
لِصِحَّتِهَا على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
كَذَا هذا حتى لم يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قبل الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ
وَأَمَّا في الْإِذْنِ الْعَامِّ فَقَدْ ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قال لِأَهْلِ السُّوقِ بَايِعُوا ابْنِي
فُلَانًا فَبَايَعُوهُ وَالصَّبِيُّ لَا يَعْلَمُ==
ج22.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587.
= بِالْإِذْنِ
أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا ما لم يَعْلَمْ بِإِذْنِ الْأَبِ منهم من أَثْبَتَ
اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ في جَوَازِ الْإِذْنِ الْقَائِمِ من غَيْرِ عِلْمِ
الْعَبْدِ وَمِنْهُمْ من لم يُثْبِتْ الِاخْتِلَافَ
وَفَرَّقَ بين الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ فَجَعَلَ الْعِلْمَ شَرْطًا في الصَّبِيِّ
دُونَ الْعَبْدِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْعَبْدِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ فإذا أَذِنَ
أنفك بِمُبَايَعَتِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَانْفَكَّ الْحَجْرُ
فَصَارَ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ انْحِجَارَهُ عن التَّصَرُّفِ
لِحَقِّ نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ أبيه
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُهُ دُونَ أبيه فَشَرْطُ عِلْمِهِ
بِالْإِذْنِ الذي هو إزَالَةُ الْحَجْرِ لِيَكُونَ لُزُومُ الْعُهْدَةِ في
التِّجَارَةِ مُضَافًا إلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا من وَجْهٍ
آخَرَ وهو أَنَّ الْإِذْنَ على سَبِيلِ الاستفادة ( ( ( الاستفاضة ) ) ) سَبَبٌ
لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمَا جميعا إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَا يُقَامُ مَقَامَ
الْمُسَبِّبِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَالضَّرُورَةُ في حَقِّ الْعَبْدِ دُونَ
الصَّبِيِّ لِأَنَّ الناس يَحْتَاجُونَ إلَى مُبَايَعَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ
لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ من عَادَاتِ التُّجَّارِ وإذا وُجِدَ
الْإِذْنُ على الِاسْتِفَاضَةِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ غَالِبًا
فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً على هذه الدَّلَالَةِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ
ليس بِمَأْذُونٍ لِانْعِدَامِ الْعِلْمِ حَقِيقَةً فَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُمْ
بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُؤَدِّي إلَى
الضَّرَرِ بِهِمْ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ لِأَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ
ليس من عَادَةِ التُّجَّارِ وَالنَّاسُ أَيْضًا لَا يُعَامِلُونَ الصِّبْيَانَ
عَادَةً
وَلَوْ تَوَقَّفَ الْإِذْنُ على حَقِيقَةِ الْعِلْمِ لَا يَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ
إلَّا على سَبِيلِ النُّدْرَةِ
وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَنَقُولُ ما
يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا من جِهَةِ
الْمَوْلَى وَالثَّانِي من جِهَةِ الْعَبْدِ
أَمَّا الذي من جِهَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ تَشْهِيرُهُ الْإِذْنَ وَإِشَاعَتُهُ
بِأَنْ يُنَادِيَ أَهْلَ السُّوقِ إنِّي قد أَذِنْت لِعَبْدِي فُلَانًا
بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ وهو الْمُسَمَّى بِالْإِذْنِ الْعَامِّ
وَأَمَّا الذي من جِهَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ إخْبَارُهُ عن كَوْنِهِ مَأْذُونًا
بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ لم يَكُنْ الْإِذْنُ من الْمَوْلَى عَامًّا أو قَدِمَ
مِصْرًا لم يَشْتَهِرْ فيه إذْنُ الْمَوْلَى فقال إنَّ مَوْلَايَ أَذِنَ لي في
التِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ يَظْهَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من
النَّوْعَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فيه لِحُصُولِ الْعِلْمِ
لِلسَّامِعِينَ بِحِسِّ السَّمْعِ من الأذن وَلِغَيْرِ السَّامِعِينَ بِالنَّقْلِ
بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ في الْمُعَامَلَاتِ
وَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو جاء عَبْدٌ أو أَمَةٌ إلَى إنْسَانٍ فقال هذه هَدِيَّةٌ
بَعَثَنِي بها مَوْلَايَ إلَيْك جَازَ له الْقَبُولُ
كَذَا هذا وَهَذَا لِأَنَّ هذه الْمُعَامَلَاتِ في الْعَادَاتِ يَتَعَاطَاهَا
الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ
وَالْفِسْقُ فِيهِمْ غَالِبٌ فَلَوْ لم يُقْبَلْ خَبَرُهُمْ فيها لَوَقَعَ الناس
في الْحَرَجِ وإذا قُبِلَ خَبَرُهُ ظَهَرَ الْإِذْنُ فَيَسْعَ الناس أَنْ
يُعَامِلُوهُ غير أَنَّهُمْ إنْ بَنَوْا مُعَامَلَاتِهِمْ على الْإِذْنِ الْعَامِّ
فَعَامَلُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ فيه كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ بِدَيْنِ
التِّجَارَةِ وَإِنْ عَامَلُوهُ بِنَاءً على إخْبَارِهِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ
كَسْبُهُ بِالدَّيْنِ وَلَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ ما لم يَحْضُرْ الْمَوْلَى فَيُقِرُّ
بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ من التَّصَرُّفِ وما لَا
يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ كُلُّ ما كان من بَابِ
التِّجَارَةِ أو تَوَابِعِهَا أو ضَرُورَاتِهَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وما لَا
فَلَا لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَاخِلٌ في الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ
الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّ كُلَّ
ذلك من التِّجَارَةِ وَمِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ
وَالشِّرَاءَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ من التِّجَارَةِ وَلَا
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه حتى مَلَكَهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ
وَكَذَا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ في مَعْنَى التَّبَرُّعِ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَهُ الْمَرِيضُ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كما في
سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا بَيْعٌ وَشِرَاءٌ على
الْإِطْلَاقِ لِوُقُوعِ اسْمِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عليه مُطْلَقًا فَكَانَ
تِجَارَةً مُطْلَقَةً فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ
ثُمَّ فَرَّقَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بين الْمَأْذُونِ وَبَيْنَ
الْوَكِيلِ حَيْثُ سَوَّى بين الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ في الْمَأْذُونِ وَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا في الْوَكِيلِ حَيْثُ قال إنَّ الْمَأْذُونَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ
وَالشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ
بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِالْإِجْمَاعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ
الْفَاحِشِ في بَابِ الْوَكَالَةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ
اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فلما ظَهَرَ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ فلم
يَجُزْ التهمة ( ( ( للتهمة ) ) ) حتى إن الْوَكِيلَ لو كان وَكَّلَ بِشِرَاءِ
شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يَنْفُذُ على الْمُوَكَّلِ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّهُ
لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَقَدَّرُ في
الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَاسْتَوَى فيه الْبَيْعُ
وَالشِّرَاءُ وَهَلْ يَمْلِكُ الْمَأْذُونُ أَنْ
____________________
(7/194)
يَبِيعَ
شيئا من مَوْلَاهُ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لَا يُتَصَوَّرُ الْبَيْعُ من
الْمَوْلَى لِاسْتِحَالَةِ بَيْعِ مَالِ الْإِنْسَانِ منه وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ
فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو أَكْثَرَ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ من
قِيمَتِهِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَصْلًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَكَذَلِكَ لو بَاعَ الْمَوْلَى شيئا منه فَإِنْ لم يَكُنْ
عليه دَيْنٌ لم يَكُنْ بَيْعًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان عليه فَإِنْ بَاعَهُ
بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ من
قِيمَتِهِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَتَبْطُلُ
الزِّيَادَةُ
وَعَلَى هذا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْعَبْدِ إنْ لم
يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالشُّفْعَةُ له لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ فَالدَّارُ الذي ( ( ( التي ) ) ) في يَدِ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ
الْمَوْلَى فَلَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَأَخَذَهَا هو فَكَيْفَ يَأْخُذُ مِلْكَ
نَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ من نَفْسِهِ وَإِنْ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ
يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْمَوْلَى فَإِنْ لم يَكُنْ على
الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا حَاجَةَ لِلْمَوْلَى إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ
لِأَنَّهَا خَالِصُ مِلْكِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا
بِالشُّفْعَةِ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ
بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَالْبَيْعِ
بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ على الِاتِّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ
وَهَذَا إذَا بَاعَ من أَجْنَبِيٍّ أو اشْتَرَى منه فَإِنْ بَاعَ من أبيه شيئا أو
اشْتَرَى منه فَإِنْ بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو أَكْثَرَ وَاشْتَرَى بِمِثْلِ
الْقِيمَةِ أو أَقَلَّ جَازَ وَلَوْ كان فيه غَبْنٌ وإن كان مِمَّا يَتَغَابَنُ
الناس فيه جَازَ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عنه غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِنْ كان مِمَّا لَا
يَتَغَابَنُ الناس فيه لم يَجُزْ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ
من قِبَلِ أبيه كَأَنَّهُ نَائِبُهُ في التَّصَرُّفِ فَصَارَ كما لو اشْتَرَى
الْأَبُ شيئا من مَالِ ابْنِهِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ أو اشْتَرَى شيئا من مَالِهِ
بِنَفْسِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كان الْجَوَابُ فيه هَكَذَا كَذَا هذا
وَلَوْ بَاعَ من وَصِيِّهِ أو اشْتَرَى منه فَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِمَا نَفْعٌ
ظَاهِرٌ له لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ فَإِنْ
كان بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ فَكَذَلِكَ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ
يُسَلِّمَ فِيمَا يَجُوزُ فيه السَّلَمُ وَيُقْبَلُ السَّلَمُ فيه لِأَنَّ
السَّلَمَ من قِبَلِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَمِنْ
قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ شِرَاءُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَكُلُّ ذلك تِجَارَةٌ
وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّ ذلك من عَادَاتِ
التُّجَّارِ والتاجر لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذلك كُلَّهُ بِنَفْسِهِ
فَكَانَ تَوْكِيلُهُ فيه من أَعْمَالِ التِّجَارَةِ وَكَذَا له أَنْ يَتَوَكَّلَ
عن غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بالإجمال ( ( ( بالإجماع ) ) ) وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عليه
وَلَوْ تَوَكَّلَ عن غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ يُنْظَرُ إنْ وَكَّلَهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ أَشْيَاءَ بِالنَّقْدِ جَازَ اسْتِحْسَانًا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ
أو لم يَدْفَعْ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عليه وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هذه
الْوَكَالَةُ
وَوَجْهُهُ أنها لو جَازَتْ للزمه ( ( ( للزمته ) ) ) الْعُهْدَةُ وَهِيَ
تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فَيَصِيرُ في مَعْنَى الْكَفِيلِ بِالثَّمَنِ وَلَا تَجُوزُ
كَفَالَتُهُ فَلَا تَجُوزُ وَكَالَتُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ في مَعْنَى
التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ فَكَانَ هذا في مَعْنَى
الْبَيْعِ لَا في مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَلَوْ تَوَكَّلَ عن غَيْرِهِ بِشِرَاءِ
شَيْءٍ نَسِيئَةً فَاشْتَرَى لم يَجُزْ حتى كان الشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ دُونَ الْآخَرِ
لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان نَسِيئَةً لَا يَمْلِكُ حَبْسَ المشترى
لِاسْتِيفَائِهِ بَلْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوَكَّلِ فَكَانَتْ
وَكَالَتُهُ في هذه الصُّورَةِ الْتِزَامَ الثَّمَنِ فَكَانَتْ كَفَالَةً مَعْنًى
فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ إنْسَانًا يَعْمَلُ معه
أو مَكَانًا يَحْفَظُ فيه أَمْوَالَهُ أو دوابا ( ( ( دواب ) ) ) يَحْمِلُ عليها
أَمْتِعَتَهُ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ هذه الْأَشْيَاءِ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ
وَكَذَا له أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّوَابَّ وَالرَّقِيقَ وَنَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ من التِّجَارَةِ حتى كان الْإِذْنُ بِالْإِجَارَةِ إذْنًا
بِالتِّجَارَةِ
وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيَقْبَلَ الْوَدِيعَةَ
لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ من عَادَاتِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ
أَيْضًا وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذَ من غَيْرِ
مُضَارَبَةٍ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْأَخْذَ وَالدَّفْعَ من بَابِ الْإِجَارَةِ
وَالِاسْتِئْجَارِ وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ ذلك كُلَّهُ
وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ لِأَنَّهَا من صَنِيعِ
التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ وَلَيْسَ له أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ
مُفَاوَضَةٍ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ له وَلَا يَمْلِكُ
الْكَفَالَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْمُفَاوَضَةَ فإذا فَاوَضَ تَنْقَلِبُ شَرِكَةَ
عِنَانٍ لِأَنَّ هذا حُكْمُ فَسَادِ الْمُفَاوَضَةِ
وَلَوْ اشْتَرَكَ عَبْدَانِ مَأْذُونَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ على أَنْ يَشْتَرِيَا
بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ جَازَ ما اشْتَرَيَا بِالنَّقْدِ وما اشْتَرَيَا
بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ له خَاصَّةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ
وقد ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ الْمَأْذُونُ من غَيْرِهِ
بِالشِّرَاءِ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ
نَسِيئَةً وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ هذا من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ
إذْ لو لم يَمْلِكْ لَامْتَنَعَ الناس عن مُبَايَعَتِهِ خَوْفًا من تَوَاءِ
أَمْوَالِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ
إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَيَصِحُّ وَيَمْلِكُ
الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ لِأَنَّ الْعَادَةَ قد جَرَتْ بِشِرَاءِ
____________________
(7/195)
كَثِيرٍ
من الْأَشْيَاءِ بِظُرُوفِهَا فَلَوْ عَلِمَ الناس أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
بِالْعَيْنِ لَامْتَنَعُوا عن تَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ إلَيْهِ فَلَا يَلْتَئِمُ
أَمْرُ التِّجَارَةِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ ليس من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ
الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ منه وَلَا يُطَالَبُ بها بَعْدَ
الْعَتَاقِ أَيْضًا لِأَنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ يَلْزَمُ الْمَوْلَى دُونَ
الْعَبْدِ فَكَانَ ذلك شَهَادَةً على الْمَوْلَى لَا إقْرَارًا على نَفْسِهِ فلم
يَصِحَّ أَصْلًا إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَيَجُوزُ عليه وَلَا يَجُوزُ
على الْغُرَمَاءِ
وَهَلْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِافْتِضَاضِ أَمَةٍ بِأُصْبُعِهِ غَصْبًا
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رضي اللَّهُ عنهما لَا يَصِحُّ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لَا
وَيَضْرِبُ مولى الْأَمَةِ مع الْغُرَمَاءِ في ثَمَنِ الْعَبْدِ وَهَذَا
الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ هذا الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ أَمْ بِالْمَالِ
فَعِنْدَهُمَا هذا إقْرَارٌ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَصِحُّ من غَيْرِ تَصْدِيقِ
الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ هذا إقْرَارٌ بِالْمَالِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ تَصْدِيقِهِ
وَعَلَى هذا إذَا أَقَرَّ بِمَهْرٍ وَجَبَ عليه بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أو فَاسِدٍ أو
شُبْهَةٍ فَإِنْ لم يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ حتى لَا
يُؤَاخَذَ بِهِ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالنِّكَاحِ وَأَنَّهُ ليس
بِتِجَارَةٍ وَلَا هو في مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَسْتَوِي فيه إقْرَارُ
الْمَأْذُونِ وَالْمَحْجُورِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى جَازَ ذلك عليه ولم
يَجُزْ على الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يُعْتَبَرُ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في
إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَيُبَاعُ في دَيْنِ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ
منه يُصْرَفْ إلَى دَيْنِ الْمَرْأَةِ وَإِلَّا فَيَتَأَخَّرُ ما بَعْدَ الْعِتْقِ
وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ يَمْلِكُ
فَالْمَأْذُونُ أَوْلَى وإذا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى
لِلِاسْتِيفَاءِ بِلَا خِلَافٍ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عليها فيه
خِلَافٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَهَلْ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ دَيْنٍ له وَجَبَ على
إنْسَانٍ فَإِنْ وَجَبَ له وَحْدَهُ يَمْلِكُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ
يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَكَذَا هو من عَادَةِ التجارة ( ( ( التجار ) ) ) وَإِنْ
وَجَبَ له وَلِرَجُلٍ آخَرَ دَيْنٌ على إنْسَانٍ فَأَخَّرَ الْمَأْذُونُ نَصِيبَ
نَفْسِهِ فَالتَّأْخِيرُ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّأْخِيرَ منه تَصَرُّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ
كما لو كان كُلُّ الدَّيْنِ له فَأَخَّرَهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لو صَحَّ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ
وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ في نَصِيبِ نَفْسِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لإنعدام الْمِلْكِ
وَالْوِلَايَةِ وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا
وِلَايَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل
الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِيكَهُ لو قَبَضَ شيئا من نَصِيبِهِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ
يَخْتَصُّ بِالْمَقْبُوضِ وَلَا يُشَارِكُهُ فيه
وَمَعْنَى الْقِسْمَةِ هو الِاخْتِصَاصُ بِالْمَقْسُومِ وقد وُجِدَ فَثَبَتَ أَنَّ
هذا قِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ وأنها غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ
اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاجِبٍ وهو فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ وَالْمَالُ حُكْمِيٌّ في
الذِّمَّةِ وَكُلُّ ذلك عَدَمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ له حُكْمُ
الْوُجُودِ لِحَاجَةِ الناس لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَمْلِكُ ما يَدْفَعُ بِهِ
حَاجَتَهُ من الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِقْرَاضِ
وَالشِّرَاءِ بِثَمَنِ دَيْنٍ فَأُعْطِيَ له حُكْمُ الْوُجُودِ لِهَذِهِ
الْحَاجَةِ
وَلَا حَاجَةَ إلَى قِسْمَتِهِ فَبَقِيَ في حَقِّ الْقِسْمَةِ على أَصْلِ
الْعَدَمِ وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
وَإِذًا لم يَصِحَّ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَوْ
أَخَذَ شَرِيكُهُ من الدَّيْنِ كان الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا على الشَّرِكَةِ كما
قبل التَّأْخِيرِ وَعِنْدَهُمَا كان الْمَأْخُوذُ له خَاصَّةً وَلَا يُشَارِكُهُ
حتى يَحِلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ
وَالْمُطَالَبَةَ فإذا حَلَّ الْأَجَلُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ شَارَكَهُ
في الْمَقْبُوضِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حَقَّهُ من الْغَرِيمِ لِأَنَّ الدَّيْنَ
حَلَّ بِحُلُولِ الْأَجَلِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ في الْأَصْلِ مِنْهُمَا جميعا مُؤَجَّلًا فَأَخَذَ
أَحَدُهُمَا شيئا قبل حِلِّ الْأَجَلِ شَارَكَهُ فيه صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَخَذَ شيئا قبل حِلِّ الْأَجَلِ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ عن قَدْرِ الْمَقْبُوضِ
وَصَارَ حَالًّا فَصَارَ الْمَقْبُوضُ من النَّصِيبَيْنِ جميعا فَيُشَارِكُهُ فيه
صَاحِبُهُ كما في الدَّيْنِ الْحَالِّ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَأَخَّرَهُ
الْعَبْدُ سَنَةً أُخْرَى لم يَجُزْ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حتى لو أَخَذَ شَرِيكُهُ من الْغَرِيمِ شيئا في السَّنَةِ
الْأُولَى شَارَكَهُ فيه عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يُشَارِكُهُ حتى يَحِلَّ دَيْنُهُ فإذا حَلَّ فَلَهُ الْخِيَارُ
على ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عن الدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ليس من
التِّجَارَةِ بَلْ هو تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ
وَهَلْ يَمْلِكُ الْحَطَّ فَإِنْ كان الْحَطُّ من غَيْرِ عَيْبٍ لَا يَمْلِكُهُ
أَيْضًا لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان الْحَطُّ من عَيْبٍ بِأَنْ بَاعَ شيئا ثُمَّ حَطَّ من ثَمَنِهِ
يُنْظَرُ إنْ حَطَّ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ حَطَّ مِثْلَ ما يَحُطُّهُ التُّجَّارُ
عَادَةً جَازَ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْحَطِّ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَإِنْ لم
يَكُنْ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ كان فَاحِشًا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وقد ذَكَرْنَا أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَبْلُ
وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ بِأَنْ وَجَبَ له على إنْسَانٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ على
بَعْضِ
____________________
(7/196)
حَقِّهِ
فَإِنْ كان له عليه بَيِّنَةٌ لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ حَطَّ بَعْضَ الدَّيْنِ
وَالْحَطُّ من غَيْرِ عَيْبٍ ليس من التِّجَارَةِ بَلْ هو تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ
الْمَأْذُونُ وَإِنْ لم يَكُنْ له عليه بَيِّنَةٌ جَازَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ
عليه بَيِّنَةٌ فَلَا حَقَّ له إلَّا الْخُصُومَةَ وَالْحَلِفَ وَالْمَالُ خَيْرٌ
من ذلك فَكَانَ في هذا الصُّلْحِ مَنْفَعَةٌ فَيَصِحُّ
وَكَذَا الصُّلْحُ على بَعْضِ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الاستيفاء ( ( ( استيفاء
) ) ) كُلِّهِ من عَادَاتِ التُّجَّارِ
فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وبملك ( ( ( ويملك ) ) )
الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا فَيَأْذَنُ له بِالتِّجَارَةِ
لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ من عَادَاتِ التُّجَّارِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ
فإنه لَا يمكلها ( ( ( يملكها ) ) ) الْمَأْذُونُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ
من التِّجَارَةِ بَلْ هِيَ اعتاق مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
فَلَا يَمْلِكُهَا وَيَمْلِكُ الِاسْتِقْرَاضَ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ حَقِيقَةٌ
وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ وهو من عَادَاتِ التُّجَّارِ
وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ
وَلِهَذَا لم يَلْزَمْ فيه الْأَجَلُ وَلَا يَكْفُلُ بِمَالٍ وَلَا بِنَفْسٍ
لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ إلَّا إذَا أَذِنَ له الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ
ولم يَكُنْ عليه دَيْنٌ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فإنه لَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ
أَصْلًا على ما مَرَّ في كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَهَبُ دِرْهَمًا تَامًّا لَا
بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا بِعِوَضٍ وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَلَا يَكْسُو
ثَوْبًا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَيَجُوزُ تَبَرُّعُهُ بِالطَّعَامِ الْيَسِيرِ إذَا
وَهَبَ أو أَطْعَمَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ
تَبَرُّعٌ وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ كان يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَلِأَنَّ هذا من ضَرُورَاتِ
التِّجَارَةِ عَادَةً فَكَانَ الْإِذْنُ فيه ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ
فَيَمْلِكُهُ وَلِهَذَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ
كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ من مَالِ زَوْجِهَا لِكَوْنِهَا مَأْذُونَةً في ذلك
دَلَالَةً
كَذَا هذا
وَلَا يَتَزَوَّجُ من غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ ليس من بَابِ
التِّجَارَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى وَلَا يَتَسَرَّى جَارِيَةً من اكتسابه
( ( ( إكسابه ) ) ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ حَقِيقَةً وَحِلُّ الْوَطْءِ
بِدُونِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ مَنْفِيٌّ شَرْعًا وَسَوَاءٌ أَذِنَ له الْمَوْلَى
بِالتَّسَرِّي أو لم يَأْذَنْ له لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ
شيئا لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَبِالْإِذْنِ لَا
يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَلَا تَنْدَفِعُ الِاسْتِحَالَةُ وَلَا
يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ ليس من التِّجَارَةِ
وَفِيهِ أَيْضًا ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى
وَهَلْ له أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُزَوِّجُ
وقال أبو يُوسُفَ يُزَوِّجُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ في حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ
مُقَابَلَةُ ما ليس بِمَالٍ فَكَانَ أَنْفَعَ من الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
الْبَيْعَ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ هو التِّجَارَةُ
وَإِنْكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ كان نَافِعًا في حَقِّ الْمَوْلَى فَلَيْسَ
بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ ولم تُوجَدْ فَلَا
يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْتِقُ وَإِنْ كان على مَالٍ لِأَنَّهُ ليس بِتِجَارَةٍ بَلْ
هو تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ وَلَا
يَمْلِكُ الْقَرْضَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ على مَالٍ
وَإِنْ أَعْتَقَ على مَالٍ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ وَقَفَ على إجَازَةِ
الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ يَمْلِكُ الْمَوْلَى إنْشَاءَ الْعِتْقِ فيه فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ
بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْعَبْدِ
لِمَا نَذْكُرُ
وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذلك لم يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ حَقٌّ في هذا لمالك (
( ( المال ) ) ) لِأَنَّهُ كَسْبُ الْحُرِّ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لم يَجُزْ
الْإِعْتَاقُ وَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ
وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ على الْعِوَضِ بِخِلَافِ ما إذَا كان مَكَانُ
الْإِعْتَاقِ كِتَابَةً أَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ
بِالْبَدَلِ وَهَهُنَا لَا يَتَعَلَّقُ لِأَنَّ هذا كَسْبُ الْحُرِّ وَذَاكَ
كَسْبُ الرَّقِيقِ وَحَقُّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الرَّقِيقِ وَلَا
يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْحُرِّ وَلَا يُكَاتِبُ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لم
يَكُنْ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ فَلَا يمكلها ( ( ( يملكها ) )
) الْمَأْذُونُ وَلِأَنَّهَا إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وهو لَا يَمْلِكُ
الْإِعْتَاقَ فَإِنْ كَاتَبَ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ وَقَفَ على إجَازَةِ
الْمَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ مِلْكِ
الْمَوْلَى لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيه فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ فَالْإِجَازَةُ أَوْلَى فَإِنْ أَجَازَ
نَفَذَ وَصَارَ مُكَاتِبًا لِلْمَوْلَى وَوِلَايَةُ قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
لِلْمَوْلَى لَا العبد ( ( ( للعبد ) ) ) لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ
بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلِ
الْمَوْلَى في الْكِتَابَةِ وَحُقُوقُ الْكِتَابَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى لَا
إلَى الْوَكِيلِ لِذَلِكَ لم يَمْلِكْ الْمَأْذُونُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
وَمَلَكَهُ الْمَوْلَى
وَلَوْ لَحِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذلك دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ فِيمَا على
الْمُكَاتِبِ حَقٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى فَقَدْ صَارَ
كَسْبًا مُنْتَزَعًا من يَدِ الْمَأْذُونِ فَلَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ عليه
سَبِيلٌ وَإِنْ كان الْمُكَاتَبُ قد أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى
الْمَأْذُونِ قبل إجَازَةِ الْمَوْلَى لم يُعْتَقْ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لم
تَنْفُذْ لِانْعِدَامِ شَرْطِ النَّفَاذِ وهو الْإِجَازَةُ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ
مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا في يَدِهِ لَا تَصِحُّ إجَازَةُ الْمَوْلَى عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لَا يُعْتَقَ إذَا أَدَّى الْبَدَلَ
____________________
(7/197)
لِأَنَّ
كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الذي عليه دَيْنٌ مُحِيطٌ لَا يَكُونُ مِلْكًا
لِلْمَوْلَى عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ فَلَا
يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ كما يَصِحُّ إنْشَاءُ
الْكِتَابَةِ منه وَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ
لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ فَصَارَ مُتْلِفًا عليهم حَقَّهُمْ وما
قَبَضَ الْمَأْذُونُ من بَدَلِ الْكِتَابَةِ قبل الْإِجَازَةِ يُسْتَوْفَى منه
الدَّيْنُ عِنْدَهُمَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ قبل الْإِجَازَةِ
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ على مَالٍ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ لَهُمَا
فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ في معنى ( ( ( المعنى ) ) ) إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ وَلَوْ
أَنْشَأَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ عِنْدَهُمَا كَذَا هذا
وَإِنْ لم يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا في يَدِهِ جَازَتْ
إجزاته ( ( ( إجازته ) ) ) بِالْإِجْمَاعِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ
لِإِتْلَافِ حَقِّهِمْ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في
الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ وما لَا يَمْلِكُ وَبَيَانُ حُكْمِ تَصَرُّفِهِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ
سَوَاءٌ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ أو كان عليه دَيْنٌ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ
تَقِفُ على مِلْكِ الرَّقَبَةِ وقد وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ على
الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا شَيْءَ على الْمَوْلَى وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ
فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْمَوْلَى بِالْأَقَلِّ من
قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَأَتْلَفَ
حَقَّ الْغَيْرِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءِ بِالرَّقَبَةِ فيراعي جَانِبُ
الْحَقِيقَةِ بِتَنْفِيذِ الْإِعْتَاقِ وَيُرَاعَى جَانِبُ الْحَقِّ بِإِيجَابِ
الضَّمَانِ مُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ عَمَلًا بالدليليين ( ( ( بالدليلين ) ) )
فَيُنْظَرُ إنْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ غَرِمَ ذلك وَإِنْ كانت
أَكْثَرَ منه غَرِمَ قِيمَةَ الدَّيْنِ وَإِنْ كانت أَقَلَّ منه غَرِمَ ذلك
الْقَدْرَ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ عليهم بِالْإِعْتَاقِ إلَّا الْقَدْرَ
الْمُتَعَلِّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ وَيَتْبَعُ
الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ بِالْبَاقِي وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِكُلِّ
الدَّيْنِ فَيَسْتَسْعُوهُ فيه لِأَنَّ كُلَّ الدَّيْنِ كان وَاجِبًا عليه
لِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ منه حَقِيقَةً وهو الْمُعَامَلَةُ إلَّا أَنَّ
رَقَبَتَهُ تَعَيَّنَتْ لِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ ما يَحْتَمِلُهُ من الدَّيْنِ منها
بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى أو شَرْعًا على ما نذكره ( ( ( نذكر ) ) ) في مَوْضِعِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ على ذلك في ذِمَّةِ الْعَبْدِ
وقد عَتَقَ فَيُطَالَبُ بِهِ وَأَيَّهُمَا اخْتَارُوا اتِّبَاعَهُ لَا يَبْرَأُ
الْآخَرُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ في بَابِ الْغَصْبِ يَتَضَمَّنُ
الْمَغْصُوبَ وَالتَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عنه
فَأَمَّا اخْتِيَارُ اتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا هَهُنَا لَا يُوجِبُ مِلْكَ الدَّيْنِ
منه وَلَوْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَكِنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا آخَرَ
خَطَأً وَعَلِمَ الْمَوْلَى بِهِ فَأَعْتَقَهُ وهو عَالِمٌ بِهِ يَصِيرُ
مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ يَغْرَمُ الْمَوْلَى تَمَامَ قِيمَةِ الْعَبْدِ
الْمَقْتُولِ إنْ كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَإِنْ كان كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ
كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ غَرِمَ عَشَرَةَ آلَافٍ إلَّا
عَشَرَةً فَرَّقَ بين الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
وهو عَالِمٌ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الدَّيْنِ بَلْ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ
وَمِنْ الدَّيْنِ عَلِمَ بِالدَّيْنِ أو لم يَعْلَمْ وَهَهُنَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ
الْقِيمَةِ إذَا كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقَ أن مُوجِبٌ جِنَايَةَ الْعَبْدِ على الْمَوْلَى وهو الدَّفْعُ
لَكِنْ جَعَلَ له سَبِيلَ الْخُرُوجِ عنه بِالْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ فإذا
أَعْتَقَهُ مع الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ
فَيَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ
تَكُونَ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ منه عَشَرَةً إذْ لَا مَزِيدَ
لِدِيَةِ الْعَبْدِ على هذا الْقَدْرِ فَأَمَّا مُوجَبُ مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ وهو
الدَّيْنُ فَعَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنَّ الْقِيمَةَ التي في
مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا تُعَلَّقُ بها وَبِالْإِعْتَاقِ ما أَبْطَلَ
عليهم إلَّا ذلك الْقَدْرَ من حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُهُ وَالزِّيَادَةُ بَقِيَتْ في
ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان قَتَلَ حُرًّا خَطَأً فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو عَالِمٌ
بِهِ غَرِمَ الْمَوْلَى دِيَةَ الْحُرِّ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مع الْعِلْمِ
بِالْجِنَايَةِ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَدِيَةُ الْحُرِّ مُقَدَّرَةٌ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَغْرَمُهَا الْمَوْلَى
هذا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ فَأَمَّا إذَا لم
يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَغْرَمُ قِيمَةَ عَبْدِهِ لِأَوْلِيَاءِ
الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَقْتَ
الْإِعْتَاقِ لم يَكُنْ إعْتَاقُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِأَنَّ هذا
النَّوْعَ من الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَيَلْزَمُهُ
قِيمَةُ عَبْدِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ على الْمَوْلَى هو دَفْعُ
الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ الْعَبْدُ قبل اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا شَيْءَ
على الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ من الْعَيْنِ إلَى الْفِدَاءِ بِاخْتِيَارِ
الْفِدَاءِ فإذا لم يَكُنْ الْإِعْتَاقُ قبل الْعِلْمِ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ
بَقِيَ الدَّفْعُ وَاجِبًا وَتَعَذَّرَ عليه دَفْعُ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ
مَالِيَّتِهِ إذْ هو دَفْعُ الْعَيْنِ من حَيْثُ الصُّورَةِ
وَلَوْ كان على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَجَنَى
جِنَايَاتٍ تُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو لَا يَعْلَمُ
بِالْجِنَايَةِ فإنه يَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ قيمة ( ( ( قيمته ) ) )
كَامِلَةً وَيَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قِيمَةً أُخْرَى إلَّا أَنْ
تَكُونَ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ منها عَشَرَةً لِأَنَّ
حَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ قد تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَحَقَّ أصح 4 اب
الْجِنَايَةِ قد تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ
____________________
(7/198)
أَبْطَلَ
الْحَقَّيْنِ جميعا ( ( ( جمعا ) ) ) فَيَضْمَنُهَا
وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ يَضْمَنُ قِيمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ
بِالْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافِ النَّفْسِ وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَعَدَّدُ
ضَمَانُهَا
فَأَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِالْإِعْتَاقِ فَضَمَانُ إبْطَالِ الْحَقِّ
فَيَتَعَدَّدُ ضَمَانُهُ فَهُوَ الحق ( ( ( الفرق ) ) ) وَاَللَّهُ تَعَالَى
الْمُوَفِّقُ
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَصْحَابَ الْجِنَايَةِ
فَالْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْحَقَّيْنِ فَالدَّفْعُ يَتَعَلَّقُ
بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَهُمَا مَحَلَّانِ
مُخْتَلِفَانِ فَتَعَذَّرَتْ الْمُشَارَكَةُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إعْتَاقَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونَيْنِ في
التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلَا ضَمَانَ على الْمَوْلَى من
الدَّيْنِ وَلَا من قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ دَيْنَ التِّجَارَةِ
لم يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا فَخُرُوجُهُمَا عن احْتِمَالِ الِاسْتِيفَاءِ
مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فلم يُوجَدْ منه إتْلَافُ حَقِّ
الْغُرَمَاءِ فَلَا يَضْمَنُ
وَهَلْ يَمْلِكُ إعْتَاقَ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ
إذَا لم يَكُنْ على الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَصْلًا يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ
وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مَحَلًّا هو خَالِصُ مِلْكِهِ لَا
حَقَّ لِأَحَدٍ فيه فَيَنْفُذُ وَلَا يَضْمَنُ شيئا فإن كان عليه دَيْنٌ كثير
يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إلَّا أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِأَنْ
يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ أو تبرئة الْغُرَمَاءُ من الدَّيْنِ أو يَشْتَرِيَهُ
الْمَوْلَى من الْغُرَمَاءِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ
إعْتَاقُهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا سَعَى
الْعَبْدُ فيه وَيَرْجِعُ على الْمَالِكِ
وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ
الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ
عِنْدَهُ لَا يُمْلَكُ وَعِنْدَهُمَا يُمْلَكُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بها حَقُّ
الْغُرَمَاءِ فَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَلَكَ إعْتَاقَهُ
وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ عِلَّةُ مِلْكِ الْكَسْبِ فَيَمْلِكُ الْكَسْبَ كما يَمْلِكُ
الرَّقَبَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ
لِلْمَوْلَى في كَسْبِ الْعَبْدِ فَرَاغُهُ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ ولم يُوجَدْ
فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ له فيه كما لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ في التَّرِكَةِ
الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطٌ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى في كَسْبِ
الْعَبْدِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ لأنه لم يَحْصُلْ بِكَسْبِهِ
حَقِيقَةً وقال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما
سَعَى } وَهَذَا ليس من سَعْيِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ له بِظَاهِرِ النَّصِّ
إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ الْفَارِغَ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ خُصَّ عن عُمُومِ النَّصِّ
وَجُعِلَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى فَبَقِيَ الْكَسْبُ الْمَشْغُولُ بِحَاجَتِهِ على
ظَاهِرِ النَّصِّ
هذا إذَا كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنْ لم يَكُنْ
مُحِيطًا بِهِمَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ
الْمُحِيطَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ فَغَيْرُ الْمُحِيطِ أَوْلَى
وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ كان يقول أَوَّلًا يَمْنَعُ حتى
لَا يَصِحَّ إعْتَاقُهُ شيئا من كَسْبِهِ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَمْنَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ ثُبُوتِ
الْمِلْكِ له فَالشُّغْلُ وَإِنْ قَلَّ يَكُونُ مَانِعًا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ
أَنَّ الْمَانِعَ من مِلْكِ الْمَوْلَى كَوْنُ الْكَسْبِ مَشْغُولًا لِحَاجَةِ
الْعَبْدِ وَبَعْضُهُ مَشْغُولٌ وَبَعْضُهُ فَارِغٌ
فَإِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الشُّغْلِ في الْمَنْعِ من ثُبُوتِ الْمِلْكِ له
في كُلِّهِ وَإِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الْفَرَاغِ في إيجَابِ الْمِلْكِ له
في كُلِّهِ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْفَرَاغِ أَوْلَى لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا
جَانِبَ الْفَرَاغِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ الْمِلْكِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْك له
وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لهم فإذا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ
الشُّغْلِ فَقَدْ رَاعَيْنَا جَانِبَ الْغُرَمَاءِ وَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمَالِكِ
أَصْلًا فَقَضَيْنَا حَقَّ الْمَالِكِ بِتَنْفِيذِ إعْتَاقِهِ وَقَضَيْنَا حَقَّ
الْغُرَمَاءِ بِالضَّمَانِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ عن الْإِبْطَالِ عَمَلًا
بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا ثبت ( ( ( أثبت ) ) ) الْمِلْكُ
لِلْوَارِثِ في كل التَّرِكَةِ إذَا لم يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بها كَذَا هذا
وَلَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَ الْغُرَمَاءِ من خَالِصِ
مِلْكِهِ أو أَبْرَأهُ الْغُرَمَاءُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ عِنْدَ عَامَّةِ
أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْفُذُ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ كَسْبًا مَشْغُولًا بِحَاجَةِ
الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَقْصُورًا على حَالِ الْقَضَاءِ
وَالْإِبْرَاءِ فَيُمْنَعُ النَّفَاذُ كما إذَا أَعْتَقَ عبده مُكَاتَبِهِ ثُمَّ
عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ النَّفَاذَ كان مَوْقُوفًا على سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وقد
سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَظَهَرَ النَّفَاذُ من حِينِ
وُجُودِهِ من كل وَجْهٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا من أَكْسَابِ
مُكَاتَبِهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهِ من الْمَوْلَى لِأَنَّهُ
فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ وَبِالْعَجْزِ لَا يُتَبَيَّنُ
أَنَّهُ لم يَكُنْ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فلم يَنْفُذْ إعْتَاقُ الْمَوْلَى وَعَلَى
هذا الْخِلَافِ لو أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا من التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ
بِالدَّيْنِ ثُمَّ قَضَى الْوَارِثُ الدَّيْنَ من مَالِ نَفْسِهِ أو أَبْرَأَ
الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ من الدَّيْنِ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ خِلَافًا
لِلْحَسَنِ
وَلَوْ وطىء الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
مُحِيطٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَصَارَتْ
____________________
(7/199)
الْجَارِيَةُ
أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا يَغْرَمُ لهم
شيئا من عُقْرِهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا
أَمَّا صِحَّةُ الدَّعْوَةِ فَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنْ لم يَظْهَرْ في
الْكَسْبِ في الْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَهُ فيه حَقُّ
الْمِلْكِ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ
وَأَمَّا لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ فَلِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ
أَبْطَلَ حَقَّهُمْ وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ من
ظُهُورِ مِلْكِهِ في الْكَسْبِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وقد سَقَطَ حَقُّهُمْ
بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ له فيه من حِينِ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وطىء مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
مُحِيطٌ ثُمَّ وَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى صَحَّتْ
دَعْوَتُهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ
لِمَا قُلْنَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ منه لم يُحْكَمْ بِنَفَاذِهِ
لِلْحَالِ فَكَانَ حَقُّ الْمِلْكِ ثَابِتًا له إلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ هَهُنَا
تَصِيرُ حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ وَعَلَى الْمَوْلَى الْعُقْرُ
لِلْجَارِيَةِ
أَمَّا صَيْرُورَتُهَا حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
السَّابِقَ كان نَفَاذُهُ مَوْقُوفًا على سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وقد سَقَطَ
بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى فَنَفَذَ فَصَارَتْ حُرَّةً بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ وأمالزوم
الْعُقْرِ لِلْجَارِيَةِ فَلِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ الْحُرَّةَ من وَجْهٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَيَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ
لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا
بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أو بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ أو
بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَوْ أَذِنَ له بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لَا
يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ لِمَا نَذْكُرُهُ في بَيَانِ حكم
( ( ( حق ) ) ) تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَيَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْعَبْدِ من يَدِهِ
إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لِأَنَّهُ فَارِغٌ عن حَاجَتِهِ لأنه ( ( ( فكان ) ) )
خَالِصَ مِلْكِهِ
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذلك فَالْمَأْخُوذُ سَالِمٌ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ
شَرْطَ خُلُوصِ الْمِلْكِ له فيه كَوْنُهُ فَارِغًا عِنْدَ الْأَخْذِ وقد وُجِدَ
وَلَوْ كان الْكَسْبُ في يَدِ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عليه فلم يَأْخُذْ
الْمَوْلَى حتى لَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ لَا يَمْلِكُ
أَخْذَهُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْفَرَاغُ عِنْدَ الْأَخْذِ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ وفي يَدِهِ كَسْبٌ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ لِأَنَّهُ
مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَلَوْ أَخَذَهُ
الْمَوْلَى فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوهُ منه إنْ كان قَائِمًا وَقِيمَتَهُ
إنْ كان هَالِكًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمَأْخُوذِ فَعَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ
أو بَدَلِهِ وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ آخَرُ بعد ما أَخَذَهُ الْمَوْلَى اشْتَرَكَ
الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ في الْمَأْخُوذِ وَأَخَذُوا عَيْنَهُ أو
قِيمَتَهُ لِأَنَّ زَمَانَ الْإِذْنِ مع تَعَدُّدِهِ حَقِيقَةٌ في حُكْمِ زَمَانٍ
وَاحِدٍ كَزَمَانِ الْمَرَضِ فَكَانَ زَمَانُ تَعَلُّقِ الدُّيُونِ كُلِّهَا
وَاحِدًا
لِذَلِكَ اشْتَرَكُوا فيه
وَلَوْ كان الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْغَلَّةَ من الْعَبْدِ في كل شَهْرٍ فَلَحِقَهُ
دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَهَلْ يَجُوزُ له قَبْضُ الْغَلَّةِ مع
قِيَامِ الدَّيْنِ يُنْظَرُ إنْ كان يَأْخُذُ عليه مثله جَازَ له ذلك
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ
بِالْغَلَّةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ
لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَلَوْ مَنَعَ الْمَوْلَى
عن أَخْذِ غَلَّةِ الْمِثْلِ لِحَجْرِهِ عن التِّجَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ من
الْكَسْبِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ فَكَانَ إطْلَاقُ هذا الْقَدْرِ
وَسِيلَةً إلَى غَرَضِهِمْ فَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْغَلَّةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ من غَلَّةِ الْمِثْلِ وَلَوْ أَخَذَ رَدَّ
الْفَضْلَ على الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ظُهُورِ حَقِّهِمْ في غَلَّةِ
الْمِثْلِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الزِّيَادَةِ فَيَظْهَرُ حَقُّهُمْ
فيها مع ما أَنَّ في إطْلَاقِ ذلك إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْمَوْلَى
يُوَظَّفُ عليه غَلَّةٌ تَسْتَغْرِقُ كَسْبَ الشَّهْرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ
الْغُرَمَاءُ
وَعَلَى هذا إذَا كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ وفي يَدِهِ مَالٌ فَاخْتَلَفَ
الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيَقْضِي منه الدَّيْنَ
لِأَنَّ الْكَسْبَ في يَدِهِ وَالْمَأْذُونُ في اكسابه التي في يَدِهِ كَالْحُرِّ
وَلَوْ كان الْمَالُ في يَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في
الْيَدِ وَإِنْ كان ثَمَّةَ ثَالِثٌ فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ المولى ( ( ( والمولى ) ) )
وَأَجْنَبِيٌّ فَهُوَ بين الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ
عليه دَيْنٌ فَلَا عِبْرَةَ لِيَدِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ
فَبَقِيَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ
وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ الْعَبْدُ في مَنْزِلِ الْمَوْلَى
فَإِنْ كان في مَنْزِلِ الْمَوْلَى وفي يَدِهِ ثَوْبٌ فَاخْتَلَفَا فَإِنْ كان
الثَّوْبُ من تِجَارَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ له لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في ظَاهِرِ
الْيَدِ وَتُرَجَّحُ يَدُ الْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ من
تِجَارَتِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى
وَلَوْ كان الْعَبْدُ رَاكِبًا على دَابَّةٍ أو لَابِسًا ثَوْبًا فَهُوَ
لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كان من تِجَارَتِهِ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ تُرَجَّحُ يَدُهُ
بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَتْ أَوْلَى من يَدِ الْمَوْلَى
وَلَوْ تَنَازَعَ الْمَأْذُونُ وَأَجْنَبِيٌّ فِيمَا في يَدِهِ من الْمَالِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى
السَّيِّدِ كَالْحُرِّ
وَلَوْ أجر الْحُرُّ أو الْمَأْذُونُ نَفْسَهُ من خَيَّاطٍ يَخِيطُ معه أو من
تَاجِرٍ يَعْمَلُ معه وفي يَدِ الْأَجِيرِ ثَوْبٌ وَاخْتَلَفَا فقال
الْمُسْتَأْجِرُ هو لي وقال الْأَجِيرُ هو لي فَإِنْ كان الْأَجِيرُ في حَانُوتِ
التَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ فَهُوَ لِلتَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ
____________________
(7/200)
وَإِنْ
لم يَكُنْ في مَنْزِلِهِ وكان في السِّكَّةِ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ لِأَنَّ
الْأَجِيرَ إذَا كان في دَارِ الْخَيَّاطِ وَدَارُ الْخَيَّاطِ في يَدِ
الْخَيَّاطِ كان الْأَجِيرُ مع ما في يَدِهِ في يَدِ الْخَيَّاطِ ضَرُورَةً وإذا
كان في السِّكَّةِ لم يَكُنْ هو في يَدِهِ فَكَذَا ما في يَدِهِ كما لو كان
مَكَانَ الْأَجِيرِ أَجْنَبِيٌّ
وَلَوْ آجَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَحْجُورَ من رَجُلٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ فَادَّعَاهُ
الْمَوْلَى وَالْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ كان الْعَبْدُ في
مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أو لم يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ إذَا لم يَكُنْ في
مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ نِيَابَةٍ عن الْمَوْلَى وقد
صَارَ مع ما في يَدِهِ بِالْإِجَارَةِ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ
قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ فَأَمَّا يَدُ الْأَجِيرِ فَيَدُ أَصَالَةٍ إذْ هو في
حَقِّ الْيَدِ كَالْحُرِّ فَلَا يَصِيرُ بِنَفْسِ الْإِجَارَةِ في يَدِ
الْمُسْتَأْجِرِ
وَلَوْ كان الْمَحْجُورُ في مَنْزِلِ الْمَوْلَى فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ
إذَا كان في مَنْزِلِ الْمَوْلَى كان في يَدِهِ لِكَوْنِ مَنْزِلِهِ في يَدِهِ
فَتَزُولُ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْغُرُورِ في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا جاء رَجُلٌ بِعَبْدٍ إلَى السُّوقِ وقال هذا
عَبْدِي أَذِنْت له بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَهُ أَهْلُ السُّوقِ
فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أو تُبُيِّنَ أَنَّهُ كان حُرًّا أو
مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ
كان الرَّجُلُ حُرًّا وَإِمَّا أن كان عَبْدًا فَإِنْ كان حُرًّا فَعَلَيْهِ
الْأَقَلُّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ أَمَّا وُجُوبُ أَصْلِ
الضَّمَانِ عليه فَلِأَنَّهُ غَرَّهُمْ بِقَوْلِهِ هذا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ
حَيْثُ أَضَافَ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ
فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ
وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ إخْبَارٌ منه عن كَوْنِهِ
مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ وَإِضَافَةُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ إخْبَارٌ عن
كَوْنِهِ مِلْكًا له وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مع عبد الْإِذْنِ يُوجِبُ
تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مع الْإِضَافَةِ دَلِيلًا على
الْكَفَالَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ التي هِيَ مَمْلُوكَةٌ له فَيُؤْخَذُ
بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ في الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ
الْكَفَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَقَلِّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ
الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ هذا الْقَدْرُ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرْجِعُوا
على الذي وُلِّيَ مُبَايَعَتَهُمْ إنْ كان حُرًّا لِأَنَّهُ الذي بَاشَرَ سَبَبَ
الْوُجُوبِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان مُسْتَحَقًّا أو مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا أو
أُمَّ وَلَدٍ يَرْجِعُ عليهم بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ رِقَابَهُمْ لَا
تَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ قبل الْعَتَاقِ وَسَوَاءٌ قال أَذِنْت له
بِالتِّجَارَةِ أو لم يَقُلْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَايَعَةِ يُغْنِي عن
التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ وَسَوَاءٌ أَمَرَ بِتِجَارَةٍ عَامَّةٍ أو خَاصَّةٍ لِأَنَّ
التَّخْصِيصَ لَغْوٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ ما إذَا قال ما بَايَعْتُ فُلَانًا من
الْبَزِّ فَهُوَ على أَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَفِيلًا بِغَيْرِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ
التَّخْصِيصَ صَحِيحٌ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ في كَفَالَةٍ مَقْصُودَةٍ
وَالْكَفَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فَأَمَّا هَهُنَا
فَالْكَفَالَةُ له ما ثَبَتَتْ مَقْصُودَةً وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ مُقْتَضَى
الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ وَالْأَمْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَا
الْكَفَالَةُ هذا إذَا أَضَافَ الْعَبْدَ إلى نَفْسَهُ وَأَمَرَهُمْ
بِمُبَايَعَتِهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا ضَمَانَ
عليه لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ
فَلَا بُدَّ من وُجُودِهِمَا
وَلَوْ كان هذا الْعَبْدُ الدي ( ( ( الذي ) ) ) أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَ
الناس بِمُبَايَعَتِهِ مِلْكًا لِلْآمِرِ فَدَبَّرَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ لَحِقَهُ
دَيْنٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لم يَضْمَنْ الْمَوْلَى شيئا لِأَنَّهُ لم يَغُرَّهُمْ
حَيْثُ لم يَظْهَرْ الآمر بِخِلَافِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ
وَكَذَا لم يُتْلِفْ عليهم حَقَّهُمْ بِالتَّدْبِيرِ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ
عِنْدَهُ وَكَذَا لو أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ بَايَعُوهُ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا كان الْآمِرُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كان عَبْدًا فَإِنْ كان مَحْجُورًا
فَلَا ضَمَانَ عليه حتى يُعْتَقَ لِأَنَّ هذا ضَمَانُ كَفَالَةٍ وَكَفَالَةُ
الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لَا تَنْفُذُ لِلْحَالِّ
وَإِنْ كان مَأْذُونًا أو مُكَاتَبًا وكان الْمَأْذُونُ حُرًّا لَا ضَمَانَ على
الْآمِرِ في شَيْءٍ
وَكَذَا لو كان الْآمِرُ صَبِيًّا مَأْذُونًا لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ
لَا تَنْفُذُ كَفَالَتُهُمَا لِلْحَالِّ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ فيؤاخذان ( ( (
فيؤاخذن ) ) ) بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالصَّبِيُّ لَا تَنْعَقِدُ كَفَالَتُهُ
فَلَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُهُ تَعَلُّقُهُ بِمَحَلٍّ يستوفي منه إذَا ظَهَرَ
فَلَا بُدَّ من بَيَانِ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ سَبَبِ ظُهُورِ
الدَّيْنِ وَبَيَانِ حُكْمِ التَّعَلُّقِ
أَمَّا بَيَانُ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَلِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَسْبَابٌ
منها التِّجَارَةُ من الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ
وَالِاسْتِدَانَةِ
وَمِنْهَا ما هو في مَعْنَى التِّجَارَةِ كَالْغَصْبِ وَجُحُودِ الْأَمَانَاتِ من
الْوَدَائِعِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ وَجُحُودَ الْأَمَانَةِ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الْمِلْكِ في الْمَغْصُوبِ وَالْمَجْحُودِ فَكَانَ في مَعْنَى
التِّجَارَةِ وَكَذَا الِاسْتِهْلَاكُ مَأْذُونًا كان أو مَحْجُورًا بِأَنْ عَقَرَ
دَابَّةً أو خَرَقَ ثَوْبًا خَرْقًا فَاحِشًا
____________________
(7/201)
لِأَنَّهُ
سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْعَيْنِ قبل الْهَلَاكِ فَكَانَ في مَعْنَى
التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ عُقْرُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى
جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَإِنْ كان قِيمَةَ
مَنَافِعِ الْبُضْعِ لَكِنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا
بِالْعَقْدِ فَتُلْحَقُ بِالْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ في حُكْمِ ضَمَانِ
التِّجَارَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَمِنْهَا
النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ بِدُونِ الْمَهْرِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ فَسَبَبُ ظُهُورِهِ شَيْئَانِ
أَحَدُهُمَا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَبِكُلِّ ما هو سَبَبٌ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ
بِمَحَلٍّ يُسْتَوْفَى منه وهو ما ذَكَرْنَا لِأَنَّ إظْهَارَ ذلك بِالْإِقْرَارِ
من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما بَيَّنَّا فَيَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ
وَالثَّانِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ على ذلك عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ
الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْمَوْلَى
بَلْ يقضي عليه
وَلَوْ كان مَحْجُورًا فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليه بِالْغَصْبِ لم يُقْضَ عليه
حتى يَحْضُرَ الْمَوْلَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ في الْمَأْذُونِ قَامَتْ عليه لَا على
الْمَوْلَى لِأَنَّ يَدَ التَّصَرُّفِ له لَا لِلْمَوْلَى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ
فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عليه لَا على الْمَوْلَى فَلَا مَعْنَى لِشَرْطِ
حُضُورِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ له فَلَا يَمْلِكُ
الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً على الْمَوْلَى فَشُرِطَ حُضُورُهُ
لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءً على الْغَائِبِ
وَلَوْ ادَّعَى على الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَدِيعَةً مُسْتَهْلَكَةً أو بِضَاعَةً
أو شيئا كان أَصْلُهُ أَمَانَةً لَا يُقْضَى بها لِلْحَالِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُقْضَى بها لِلْحَالِّ بِنَاءً على أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ
وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْحَالِّ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ
بَعْدَ الْعَتَاقِ فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ إلَيْهِ وَعِنْدَهُ يؤخذ
( ( ( يؤاخذ ) ) ) بِهِ لِلْحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ لو أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ على إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ قُضِيَ
عليه وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِ الْمَحْجُورِ بِالْغَصْبِ لم يُقْضَ
عليه وَإِنْ كان الْمَوْلَى حَاضِرًا لِأَنَّ الْمَحْجُورَ لو أَقَرَّ بِذَلِكَ
لَمَا نَفَذَ على مَوْلَاهُ لِلْحَالِّ
كَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أو الْمَحْجُورِ على
سَبَبِ قِصَاصٍ أو حَدٍّ من الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ لم
يُقْضَ بها حتى يَحْضُرَ الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ يُقْضَى بها وَإِنْ كان غَائِبًا وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو أَقَرَّ
بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهَا تُقَامُ من غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَبْدَ أَجْنَبِيٌّ عن الْمَوْلَى فِيمَا
يَرْجِعُ إلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ
بِهِمَا من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى من
غَيْرِ تَصْدِيقِهِ فَكَانَتْ هذه شَهَادَةً قَائِمَةً عليه لَا على الْمَوْلَى
فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ الْمَوْلَى في
الْإِقْرَارِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مَالُ الْمَوْلَى
وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إتْلَافُ مَالِهِ عليه فَيُصَانُ حَقُّهُ عن
الْإِتْلَافِ ما أَمْكَنَ وفي شَرْطِ الْحُضُورِ صِيَانَةُ حَقِّهِ عن
الْإِتْلَافِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهُ لو كان حَاضِرًا عَسَى يَدَّعِي
شُبْهَةً مَانِعَةً من الْإِقَامَةِ وَحَقُّ الْمُسْلِمِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عن
الْبُطْلَانِ ما أَمْكَنَ
وَمِثْلُ هذه الشُّبْهَةِ مِمَّا لَا يتعد ( ( ( يعد ) ) ) في الْإِقْرَارِ بَعْدَ
صِحَّتِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على عَبْدٍ أَنَّهُ سَرَقَ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ وهو يَجْحَدُ ذلك أَنَّهُ لو كان الْمَوْلَى حَاضِرًا تقطع ( ( ( يقطع )
) ) وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ مَأْذُونًا كان أو مَحْجُورًا بِلَا خِلَافٍ
لِأَنَّ الْقَطْعَ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ كان غَائِبًا فإذا كان
الْعَبْدُ مَأْذُونًا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ غَيْبَةَ
الْمَوْلَى لَا تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ في حَقِّ الْمَأْذُونِ وَمَتَى
وَجَبَ الضَّمَانُ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ
وَعَلَى قِيَاسِ أبي يُوسُفَ هذا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ يُقْطَعُ وَلَا
يَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ
لِلْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ وَالْقَطْعُ يَمْنَعُ الضَّمَانَ
وَإِنْ كان مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ على السَّرِقَةِ فَلَا يُقْضَى
عليه بِقَطْعٍ وَلَا ضَمَانٍ عِنْدَهُمَا
أَمَّا الْقَطْعُ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى شَرْطٌ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا
الضَّمَانُ فَلِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ في
حَقِّ الْمَحْجُورِ وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ وَلَا يُضْمَنُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على سَرِقَةِ ما دُونَ النِّصَابِ فَإِنْ كان
مَأْذُونًا قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَ الْقَطْعِ سَوَاءٌ حَضَرَ
الْمَوْلَى أو غَابَ لِأَنَّ سَرِقَةَ ما دُونَ النِّصَابِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ
فَبَقِيَ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَدَعْوَى الضَّمَانِ على الْمَأْذُونِ وَحَضْرَةُ
الْمَوْلَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ على الْمَأْذُونِ وَإِنْ
كان مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ أَصْلًا
أَمَّا على الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا على الْمَالِ فَلِأَنَّ حُضُورَ
الْمَوْلَى شَرْطُ الْقَضَاءِ على
____________________
(7/202)
الْمَحْجُورِ
بِالْمَالِ
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقراره ( ( ( إقرار ) ) ) الْمَأْذُونِ أو
الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ أو الْحَدِّ لَزِمَهُ الْقَوَدُ وَحُدَّ حَدَّ
الْقَذْفِ حَضَرَ الْمَوْلَى أو غَابَ وَلَا يَلْزَمُهُ ما سِوَاهُمَا من
الْحُدُودِ وَإِنْ كان الْمَوْلَى حَاضِرًا لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ
وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ فيه حَقُّ الْعَبْدِ وَسَائِرُ الْحُدُودِ حُقُوقُ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا فَالْبَيِّنَةُ وَإِنْ أَظْهَرَتْ
الْإِقْرَارَ فَالْإِنْكَارُ منه رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ وَالرُّجُوعُ عن
الْإِقْرَارِ يَصِحُّ في حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا في حُقُوقِ
الْعِبَادِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ ما سِوَاهُمَا غير أَنَّهُ
إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ
إنْ كان مَأْذُونًا سَوَاءٌ بَلَغَ نِصَابًا أو لم يَبْلُغْ حَضَرَ الْمَوْلَى أو
غَابَ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ لِلرُّجُوعِ وَالرُّجُوعُ في حَقِّ الْمَالِ لم
يَصِحَّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كان الْمَوْلَى
وَلَوْ كان مَحْجُورًا لَا قَطْعَ عليه وَلَا ضَمَانَ
أَمَّا الْقَطْعُ فَلِمَكَانِ الرُّجُوعِ وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّ إقْرَارَ
الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ غَيْرُ نَافِذٍ في الْحَالِّ فَلَا تَصِحُّ إقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ عليه
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ أو الْمَعْتُوهِ
الْمَأْذُونِ على قَتْلٍ أو سَبَبِ حَدٍّ قُبِلَتْ على الْقَتْلِ وَتَجِبُ
الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ وَلَا تُقْبَلُ على الْحَدِّ لِتَصَوُّرِ سَبَبِ
وُجُوبِ الدِّيَةِ منه وهو الْقَتْلُ الْخَطَأُ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ
وَانْعِدَامُ تَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ منه من الزِّنَا وَغَيْرِهِ غير
أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليه على السَّرِقَةِ قُبِلَتْ على الْمَالِ
وَضَمَّنَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ من أَهْلِ الْقَضَاءِ عليه
بِالْمَالِ
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقراه ( ( ( إقراره ) ) ) بِالْقَتْلِ لم
تُقْبَلْ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ
عليه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ
لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ عَيَّنَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ أو
تَعَيَّنَ شَرْعًا نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ سَوَاءٌ كان كَسْبَ التِّجَارَةِ أو
غَيْرَهُ من الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا قَوْلُ
عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِكَسْبِ التِّجَارَةِ
وَتَكُونُ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا لِلْمَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ التَّعَلُّقَ حُكْمُ الْإِذْنِ وَالْإِذْنُ
بِالتِّجَارَةِ لَا لِغَيْرِهَا وَهَذِهِ لَيْسَتْ من كَسْبِ التِّجَارَةِ فَلَا
يَتَعَلَّقُ بها الدَّيْنُ
وَلَنَا إن شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى في كَسْبِ الْعَبْدِ أَيَّ
كَسْبٍ كان فَرَاغُهُ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ لِلْفِقْهِ الذي ذَكَرْنَا من قَبْلُ
ولم يُوجَدْ الْفَرَاغُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ له وَسَوَاءٌ حَصَلَ الْكَسْبُ
بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أو كان حَاصِلًا قَبْلَهُ إلَّا الْوَلَدَ وَالْأَرْشَ
فإن ما وَلَدَتْ الْمَأْذُونَةُ من غَيْرِ مَوْلَاهَا بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ
يَتَعَلَّقُ بِهِ وما وَلَدَتْهُ قبل ذلك لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ
وَيَكُونُ المولى ( ( ( للمولى ) ) ) وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ بِأَنْ فُقِئَتْ
عَيْنُهَا فَوَجَبَ الْأَرْشُ على الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْوَلَدِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ من
الْأُمِّ إلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ على وَصْفِ الْأُمِّ وَمَعْنَى
السِّرَايَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ في الْحَادِثِ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ لَا
قَبْلَهُ لِأَنَّهُ كان وَلَا دَيْنَ على الْأُمِّ فلما حَدَثَ حَدَثَ على مِلْكِ
الْمَوْلَى
وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ في حُكْمِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ من
الْأَصْلِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ من الْأَصْلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ
حُكْمُ الْأَصْلِ
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِمَا فَلَيْسَ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ بَلْ
الشُّغْلُ بِحَاجَةِ الْعَبْدِ فإذا لم يَنْزِعْهُ الْمَوْلَى من يَدِهِ حتى
لَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَقَدْ صَارَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ فَلَا يَظْهَرُ
مِلْكُ الْمَوْلَى فيه فَهُوَ الْفَرْقُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَهَهُنَا فَرْقٌ آخَرُ وهو أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ بَعْدَ لُحُوقِ
الدَّيْنِ يَدْخُلُ في الدَّيْنِ وَوَلَدُ الْجِنَايَةِ لَا يَدْخُلُ في
الْجِنَايَةِ لِأَنَّ دُخُولَهُ في الدَّيْنِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ لِأَنَّ
الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْأُمِّ فَسَرَى ذلك إلَى الْوَلَدِ فَحَدَثَ
على وَصْفِ الْأُمِّ وَالْجِنَايَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ
فَلَا تَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ أَذِنَ له الْمَوْلَى دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَعْمَلَ بِهِ فَبَاعَ
وَاشْتَرَى وَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ
إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ وَذَا ليس كَسْبَهُ
أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
وَأَمَّا رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بها اُخْتُلِفَ فيه قال
عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَعَلَّقُ وقال زُفَرُ
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا إنْ كان دَيْنَ الْعَبْدِ فَالرَّقَبَةُ مِلْكُ
الْمَوْلَى وَدَيْنُ الْإِنْسَانِ لَا يقضي من مَالٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ إلَّا
بِإِذْنِهِ ولم يُوجَدْ وَإِنْ كان دَيْنَ الْمَوْلَى فَلَا يَتَعَيَّنُ له مَالٌ
دُونَ مَالٍ كَسَائِرِ دُيُونِ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يُقْضَى من الْكَسْبِ
لِوُجُودِ التَّعْيِينِ فَالْإِذْنُ من الْمَوْلَى دَلَالَةُ الْإِذْنِ
بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ قَضَاءُ دَيْنِ التِّجَارَةِ من كَسْبِ التِّجَارَةِ
فَكَانَ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً وَمِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ لم يُوجَدْ في
الرَّقَبَةِ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ ليس ( ( ( ليست ) ) ) من كَسْبِ التِّجَارَةِ
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ هذا دَيْنُ الْعَبْدِ لَكِنْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ
____________________
(7/203)
الْمَوْلَى
وَدَيْنُ الْعَبْدِ إذَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْلَى يقضي من رَقَبَتِهِ
التي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ
أو نَقُولُ هذا دَيْنُ الملولى ( ( ( المولى ) ) ) فَيُقْضَى من الْمَالِ الذي
عَيَّنَهُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ منه كَالرَّهْنِ وَالْمَوْلَى بِالْإِذْنِ
عَيَّنَ الرَّقَبَةَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ منها فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ
الْمَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وإذا كان الرَّقَبَةُ وَالْكَسْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ
الدَّيْنِ بِهِ فإذا اجْتَمَعَ الْكَسْبُ وَالرَّقَبَةُ يُبْدَأُ بِالِاسْتِيفَاءِ
من الْكَسْبِ لِأَنَّ الْكَسْبَ مَحَلٌّ لِلتَّعَلُّقِ قَطْعًا وَمَحَلِّيَّةُ الرَّقَبَةِ
لِتَعَلُّقِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بِالْكَسْبِ أَوْلَى
فإذا قُضِيَ الدَّيْنُ منه فَإِنْ فَضَلَ من الْكَسْبِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى
لِأَنَّهُ كَسْبٌ فَارِغٌ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ
يُسْتَوْفَى من الرَّقَبَةِ عِنْدَنَا فَإِنْ فَضَلَ على الثَّمَنِ يُتْبَعْ
الْعَبْدُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ على ما نَذْكُرُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
إنَّ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَحْكَامًا
ومنها وِلَايَةُ طَلَبِ الْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ من الْقَاضِي لِأَنَّ مَعْنَى
تَعَلُّقِ الدَّيْنِ منه ليس إلَّا تَعَيُّنُهُ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ منه وهو
في الْحَقِيقَةِ تَعَيُّنُ مَالِيَّتِهِ لِلِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ
الدَّيْنِ من جِنْسِهِ يَكُونُ وَذَلِكَ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ وَذَلِكَ
بَيْعُهُ وَأَخْذُ ثَمَنِهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دُيُونَهُمْ
فَتَخْلُصُ له الرَّقَبَةُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ في الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ
وقد قَضَى حَقَّهُمْ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ كان ثَمَنُهُ بين الْغُرَمَاءِ
بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ لهم على قَدْرِ
تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمُبْدَلِ وهو الرَّقَبَةُ وكان ذلك بِالْحِصَصِ فَكَذَا
الثَّمَنُ كَثَمَنِ التَّرِكَةِ إذَا بِيعَتْ
ثُمَّ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ من ثَمَنِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى
وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ لَا يُطَالَبُ الْمَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ على
الْمَوْلَى وَيَتْبَعُ الْعَبْدَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الدَّيْنَ كان
عليه إلَّا أَنَّ الْقَدْرَ الذي تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ صَارَ مَقْضِيًّا
فَبَقِيَ الْفَاضِلُ عليع وَإِنَّمَا يُبَاعُ الْعَبْدُ في الدَّيْنِ إذَا كان
حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا لَا يُبَاعُ إلَى حِلِّ الْأَجَلِ لِأَنَّ
الْبَيْعَ يَتْبَعُ التَّعَلُّقَ وَالتَّعَلُّقَ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ وَالْوُجُوبَ
على التَّضْيِيقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حَلّ الْأَجَلِ فَكَذَا التَّعَلُّقُ
وَلَوْ كان بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْحَالِّ
الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى أَصْحَابَ الْحَالِّ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ
وَأَمْسَكَ حِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَجَلِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ على التَّضْيِيقِ
ثَبَتَ في حَقِّ أَصْحَابِ الْحَالِّ لَا في حَقِّ أَصْحَابِ الْأَجَلِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْغُرَمَاءُ بَعْضُهُمْ حُضُورًا وَبَعْضُهُمْ غُيَّبًا
فَطَلَبَ الْحُضُورُ الْبَيْعَ من الْقَاضِي بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى
الْحُضُورَ حِصَّتَهُمْ وَوَقَفَ حِصَّةَ الْغُيَّبِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم
على الِانْفِرَادِ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ وَذَا يُوجِبُ التحريج ( (
( التحويج ) ) ) إلَى الْبَيْعِ فَغَيْبَةُ الْبَعْضِ لَا تَكُونُ مَانِعَةً
وَكَذَلِكَ إذَا كان بَعْضُ الدُّيُونِ ظَاهِرًا وَالْبَعْضُ لَا يَظْهَرُ لَكِنْ
ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِهِ بِأَنْ كان عليه دَيْنٌ فَحَفَرَ بِئْرًا على طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبَ الْغَرِيمُ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي في دَيْنِهِ
وَأَعْطَاهُ دَيْنَهُ وَإِنْ كان لَا يُفْضِلُ الثَّمَنُ عن دَيْنِهِ شيئا لِأَنَّ
ظُهُورَ دَيْنِهِ أَوْجَبَ التَّعَلُّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ
الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ بِمَا لم يَظْهَرْ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ فيها بَهِيمَةٌ
فَعَطِبَتْ رَجَعَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ على الْغَرِيمِ فَيَتَضَارَبَانِ فَيَضْرِبُ
صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِقِيمَتِهَا وَيَضْرِبُ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَيَكُونُ
الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى وَقْتِ
وُجُودِ سَبَبِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كان شَرِيكَهُ في الرَّقَبَةِ في
تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَيَتَشَارَكَانِ في بَدَلِهَا بِالْحِصَصِ
وَلَوْ كان عليه دَيْنٌ فَأَقَرَّ قبل أَنْ يُبَاعَ لِغَائِبٍ يُصَدَّقُ في ذلك
صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ أو كَذَّبُوهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ
بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وإذا بِيعَ
وَقَفَ الْقَاضِي من ثَمَنِهِ حِصَّةَ الْغَائِبِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِغَائِبٍ بعدما بِيعَ في الدَّيْنِ لم يَجُزْ إقْرَارُهُ
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا بِيعَ فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عليه
وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى
فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً على الدَّيْنِ اتبع الْغُرَمَاءَ
بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ظَهَرَ أنه كان
شَرِيكَهُمْ في الرَّقَبَةِ في تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَشَارَكَهُمْ في بَدَلِهَا
وَلَا سَبِيلَ له على الْعَبْدِ وَلَا على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ حَقَّهُ في
الدَّيْنِ وَمَحَلُّ تَعَلُّقِهِ الرَّقَبَةُ لَا غَيْرُ فَلَا سَبِيلَ له على
غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الذي عليه دَيْنٌ
إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أو بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أو بِإِذْنِ الْقَاضِي
بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَوْ بَاعَ لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ
الثَّمَنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ
بِرَقَبَتِهِ وفي الْبَيْعِ إبْطَالُ هذا الْحَقِّ عليهم فَلَا يَنْفُذُ من غَيْرِ
رِضَاهُمْ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ إلَّا أَنْ يَصِلَ ثَمَنُهُ إلَيْهِمْ وَفِيهِ
وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ فَيَنْفُذُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمْ في مَعْنَى
الرَّقَبَةِ لَا في صُورَتِهَا فَصَارَ كما لو قَضَى الْمَوْلَى الدَّيْنَ من
خَالِصِ مَالِهِ
وَدَلَّ إطْلَاقُ هذه الرِّوَايَةِ على أَنَّ الدَّيْنَ حَالَ قِيَامِ الْكَسْبِ
يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ جميعا لِأَنَّهُ بَقِيَ جَوَازُ بَيْعِ
الْمَوْلَى مُطْلَقًا عن شَرْطِ عَدَمِ الْكَسْبِ وَلَوْ كان قِيَامُ الْكَسْبِ
مَانِعًا من التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ
____________________
(7/204)
لَجَازَ
لِأَنَّ الرَّقَبَةَ إذْ ذَاكَ تَكُونُ خَالِصَ مِلْكِ الْمَوْلَى وَتَصَرُّفُ
الْإِنْسَانِ في خَالِصِ مِلْكِهِ نَافِذٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ على حَالِ عَدَمِ
الْكَسْبِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ واللهأعلم ( ( ( والله ) ) )
وَلَوْ أَذِنَ له بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لم يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ
الْبَاقُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كل وَاحِدٍ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ الْبَيْعُ
تَصَرُّفًا في حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَنْفُذُ من غَيْرِ إجَازَتِهِمْ
ثُمَّ فَرْقٌ بين بَيْعِ الْمَوْلَى وَبَيْنَ بَيْعِ الْوَصِيِّ التَّرِكَةَ في
الدَّيْنِ من غَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ أَنَّهُ يَنْفُذُ هُنَاكَ وَهُنَا لَا
يَنْفُذُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ اسْتِسْعَاءِ الْمَأْذُونِ وَهَذَا
الْحَقُّ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَكَانَ امْتِنَاعُ النَّفَاذِ مُفِيدًا وَلَيْسَ
لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ التَّرِكَةِ لِمَا فيه من تَأْخِيرِ قَضَاءِ
دَيْنِ الْمَيِّتِ فَكَانَ عَدَمُ النَّفَاذِ لِلْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ خَاصَّةً
وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِبَيْعِ الْوَصِيِّ فلم يَكُنْ التَّوَقُّفُ مُفِيدًا فَلَا
يَتَوَقَّفُ
هذا إذَا كان الدَّيْنُ حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا نَفَذَ الْبَيْعُ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من النَّفَاذِ هو التعليق ( ( ( التعلق )
) ) عن التَّضْيِيقِ ولم يُوجَدْ ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ كانت
دُيُونُهُمْ مِثْلَ الثَّمَنِ أو أَقَلَّ أَخَذُوا منه وَإِنْ كانت دُيُونُهُمْ
أَكْثَرَ من الثَّمَنِ ضَمَّنُوا الْمَوْلَى إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ
بَيْعُ الْمَوْلَى لِوُجُودِ أَصْلِ التَّعْلِيقِ
هذا إذَا كان الْعَبْدُ قَائِمًا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان هَالِكًا
فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤوا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى وَإِنْ شاؤوا ضَمَّنُوا
الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ
لِحَقِّهِمْ فَكَانَ لهم تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شاؤوا فَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ
الْمَوْلَى نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ خَلَصَ مِلْكُهُ فيه عِنْدَ الْبَيْعِ
بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَكَأَنَّهُمْ بَاعُوهُ منه بِثَمَنٍ هو قَدْرُ قِيمَتِهِ
وَاشْتَرَاهُ منهم بِهِ حتى لو وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِهِ
له أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ على الْمَوْلَى وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ
على الْغُرَمَاءِ وَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ
لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ منه بِالضَّمَانِ فَبَطَلَ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ
وَلَوْ لم يَهْلِكْ الْعَبْدُ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ غَابَ الْمَوْلَى
فَإِنْ وَجَدُوهُ ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ وَإِنْ لم يَجِدُوهُ فَلَا خُصُومَةَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا وما إذَا كان الْمَوْلَى
حَاضِرًا سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالرَّقَبَةِ عِنْدَ
الِانْفِرَادِ فَأَمَّا حُكْمُ تَعَلُّقِهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِأَنْ اجْتَمَعَ
الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا اجْتَمَعَ
الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ رَجُلًا خَطَأً وَعَلَيْهِ
دَيْنٌ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ في
الْأَصْلِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَلَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عنه بِالْفِدَاءِ أو
التَّخْيِيرِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الدَّيْنَ
لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ مُتَعَلِّقًا رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ
وَكَذَا لَا يُنَافِيهِ الْفِدَاءُ لَا شَكَّ فيه
فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ
حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ مَعًا وَإِمَّا أن حَضَرَ أَصْحَابُ
الْجِنَايَةِ وَإِمَّا أن حَضَرَ أَصْحَابُ الدِّينِ
فَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ جميعا يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى
أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ في دَيْنِهِمْ
فَإِنَّا إذَا دَفَعْنَاهُ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ أَصْحَابِ
الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَرَاعَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ
بِدَيْنِهِمْ
وإذا دَفَعْنَاهُ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَبْطَلْنَا حَقَّ أَصْحَابِ
الْجِنَايَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْبَيْعِ إذْ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي
مِلْكٌ جَدِيدٌ خَالٍ عن الْجِنَايَةِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْجِنَايَةِ
مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ من الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى ثُمَّ في الدَّفْعِ
إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ فَائِدَةٌ وَهِيَ
الِاسْتِخْلَاصُ بِالْفِدَاءِ لِأَنَّ الناس ( ( ( للناس ) ) ) في أَعْيَانِ
الْأَشْيَاءِ رَغَائِبُ ما ليس في أبدالها
وإذا دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ
قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لهم بِالدَّفْعِ فَكَانَ
الدَّفْعُ منه تملكيا ( ( ( تمليكا ) ) ) منهم بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عليه وَمَنْ أتى
بِفِعْلٍ وَاجِبٍ عليه لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُهُ عن إقَامَةِ
الْوَاجِبِ فَيَتَنَاقَضُ
ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ فَبِيعَ لِلْغُرَمَاءِ فَإِنْ فَضَلَ عن دَيْنِهِمْ
شَيْءٌ من الثَّمَنِ صُرِفَ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ
مِلْكًا لهم بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا بِيعَ على مِلْكِهِمْ إلَّا أَنَّ
أَصْحَابَ الدَّيْنِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ دَيْنِهِمْ فَبَقِيَ الْفَاضِلُ
من دَيْنِهِمْ على مِلْكِ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ كما إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ
جِنَايَةٌ فَبَاعَهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ وَفَضَلَ من ثَمَنِهِ شَيْءٌ إن
الْفَاضِلَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَذَا هذا
وَلَوْ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِمْ إنْ كان
عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا
لِلْفِدَاءِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بها يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ
الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ دَفْعُ عَيْنِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْفِدَاءُ
لِلْخُرُوجِ عنه بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ على ما بَيَّنَّا وَالدَّفْعُ من غَيْرِ
عِلْمٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَبَقِيَ دَفْعُ الْعَيْنِ
وَاجِبًا وقد تَعَدَّدَ دَفْعُ عَيْنِهِ بِالدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ
فَيَجِبُ دَفْعُ قِيمَتِهِ إذْ هو دَفْعُ الْعَيْنِ مَعْنًى وَإِنْ حَضَرَ
أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ أَوَّلًا فَكَذَلِكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَيْهِمْ وَلَا
____________________
(7/205)
يَنْتَظِرُ
حُضُورَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُمْ لو كَانُوا حُضُورًا لَكَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا
فَلَا مَعْنَى لِلِانْتِظَارِ
وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَوَّلًا فَإِنْ كان الْقَاضِي عَالِمًا
بِالْجِنَايَةِ لَا يَبِيعُهُ في دُيُونِهِمْ لِأَنَّ في الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ
أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بها فَبَاعَهُ بَطَلَ حَقُّ
أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ حتى لو حَضَرُوا بَعْدَ ذلك لَا ضَمَانَ على الْقَاضِي
وَلَا على الْمَوْلَى
أَمَّا الْقَاضِي فَلِأَنَّهُ لَا عُهْدَةَ تَلْزَمُ الْقَاضِي فِيمَا يَفْعَلُهُ
لِكَوْنِهِ أَمِينًا
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَانَ مُضَافًا
إلَى الْقَاضِي
وَلَوْ كان بَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي فَإِنْ بَاعَهُ مع عِلْمِهِ
بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ
وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَقَلُّ من قِيمَةِ
الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِمَا بَيَّنَّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ
إنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يَبْطُلُ بِضِدِّهِ وهو الْحَجْرُ فَيَحْتَاجُ إلَى
بَيَانِ ما يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ مَحْجُورًا وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى وَبَعْضُهَا إلَى الْعَبْدِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى
الْمَوْلَى فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ وَالصَّرِيحُ
نَوْعَانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ
أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ الْحَجْرُ بِاللِّسَانِ على سَبِيلِ الاشهار
وَالْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَحْجُرَهُ في أَهْلِ سُوقِهِ بِالنِّدَاءِ بِالْحَجْرِ
وَهَذَا النَّوْعُ من الْحَجْرِ يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ
جميعا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا
لِلْبُطْلَانِ وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بثمله ( ( ( بمثله ) ) ) وَبِمَا هو فَوْقَهُ
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بين الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَلَا
يَكُونُ على سَبِيلِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ
وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْعَامُّ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا
يَبْطُلُ بِمَا هو دُونَهُ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ إذَا لم يَشْتَهِرْ فَالنَّاسُ
يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً على الْإِذْنِ الْعَامِّ ثُمَّ يَظْهَرُ الْحَجْرُ
فَيَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وهو إتْلَافُ دُيُونِهِمْ في ذِمَّةِ
الْمُفْلِسِ وَمَعْنَى التعزير ( ( ( التغرير ) ) ) لَا يَتَحَقَّقُ في الْإِذْنِ
الْعَامِّ لِأَنَّ الناس يَمْتَنِعُونَ عن مُعَامَلَتِهِ فَلَا يَلْحَقُهُمْ
ضَرَرُ الْغُرُورِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ لِأَنَّ الْحَجْرَ صَحِيحٌ
في حَقِّهِمَا حَسَبَ صِحَّةِ الْإِذْنِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ لِأَنَّ
الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بمثله
وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عِلْمُ الْعَبْدِ بِهِمَا فَإِنْ لم
يَعْلَمْ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا لِأَنَّ الْحَجْرَ مَنْعٌ من تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ
وَحُكْمُ الْمَنْعِ في الشَّرَائِعِ لايلزم الْمَمْنُوعَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ
كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
وَلَوْ أخبره بِالْحَجْرِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَدْلًا كان أو غير
عَدْلٍ صَارَ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ إذَا أخبره وَاحِدٌ عَدْلٌ رَجُلًا كان أو امْرَأَةً حُرًّا كان أو
عَبْدًا أو أخبره وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ وَصَدَّقَهُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ في
الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ من غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ
وَالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ إذَا صَدَّقَهُ فيه وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ فَلَا
يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ
الْمُخْبِرِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مَحْجُورًا صَدَّقَهُ أو كَذَّبَهُ إذَا ظَهَرَ
صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَلَوْ كان الْمُخْبِرُ رَسُولًا يَصِيرُ مَحْجُورًا
بِالْإِجْمَاعِ صَدَّقَهُ أو كَذَّبَهُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ له بِالتِّجَارَةِ فَحَجَرَ
الْمَوْلَى على أَحَدِهِمَا فَإِنْ حَجَرَ على الْأَسْفَلِ لم يَصِحَّ سَوَاءٌ كان
على الْأَعْلَى دَيْنٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ من جِهَةِ الْأَعْلَى لَا
من جِهَةِ الْمَوْلَى وَإِنْ حَجَرَ على الْأَعْلَى يُنْظَرْ إنْ لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ لَا يَصِيرُ الْأَسْفَلُ مَحْجُورًا عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ فَهُمَا عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَذِنَ
لَهُمَا ثُمَّ حَجَرَ على أَحَدِهِمَا وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَنْحَجِرُ أَحَدُهُمَا
بِحَجْرِ الْآخَرِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان على الْأَعْلَى دَيْنٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِنَاءً على أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ
كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا لم يَمْلِكْ عَبْدَهُ وقد اسْتَفَادَ
الْإِذْنَ من جِهَةِ الْأَعْلَى لَا من جِهَةِ الْمَوْلَى صَارَ حَجْرُ الْأَعْلَى
كَمَوْتِهِ
وَلَوْ مَاتَ لَصَارَ الثَّانِي مَحْجُورًا كَذَا هذا وَلَمَّا مَلَكَ عِنْدَهُمَا
صَارَ الْجَوَابُ في هذا وفي الْأَوَّلِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَأَنْوَاعٌ منها الْبَيْعُ وهو أَنْ يَبِيعَهُ الْمَوْلَى
وَلَا دَيْنَ عليه لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَحَدَثَ لِلْمُشْتَرِي
فيه مِلْكٌ جَدِيدٌ فَيَزُولُ إذْنُ الْبَائِعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ ولم يُوجَدْ
الْإِذْنُ من الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ مَحْجُورًا
وَمِنْهَا الِاسْتِيلَادُ بِأَنْ كان الْمَأْذُونُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا
الْمَوْلَى اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ
لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ على التَّصَرُّفِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التِّجَارَةَ لَا بُدَّ لها من الْخُرُوجِ إلَى
الْأَسْوَاقِ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ مَمْنُوعَاتٌ عن الْخُرُوجِ في
الْعَادَاتِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ حَجْرًا دَلَالَةً
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَا يَكُونُ حَجْرًا لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْإِذْنَ إذْ
الْإِذْنُ إطْلَاقٌ وَالتَّدْبِيرُ لَا يُنَافِيهِ وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ
الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لِأَنَّ الرِّدَّةَ مع اللُّحُوقِ تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ
وَذَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِذْنِ فَكَانَ حَجْرًا دَلَالَةً فَإِنْ لم يَلْحَقْ
بِدَارِ الْحَرْبِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي
____________________
(7/206)
حَنِيفَةَ
رضي اللَّهُ عنه يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ بَعْدَ الرِّدَّةِ
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها مَوْتُهُ لِأَنَّ الْمَوْتَ
مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ على ما
بَيَّنَّا
وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْإِذْنِ شَرْطُ
بَقَاءِ الْإِذْنِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ
لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْإِذْنِ لَا يَصِحُّ من
غَيْرِ الْأَهْلِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ مُبْطِلٌ
لِلْأَهْلِيَّةِ فَصَارَ مَحْجُورًا
فَإِنْ أَفَاقَ يعود ( ( ( يعد ) ) ) مَأْذُونًا لِأَنَّ بُطْلَانَ الْإِذْنِ
لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ مع احْتِمَالِ الْعَوْدِ فإذا أَفَاقَ عَادَتْ
الْأَهْلِيَّةُ فَعَادَ مَأْذُونًا وَصَارَ كَالْمُوَكَّلِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ
جُنُونِهِ أَنَّهُ تَعُودُ الْوَكَالَةُ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ
الْأَهْلِيَّةَ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً
وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها إبَاقُهُ
لِأَنَّهُ بِالْإِبَاقِ تَنْقَطِعُ مَنَافِعُ تَصَرُّفِهِ عن الْمَوْلَى فَلَا
يَرْضَى بِهِ الْمَوْلَى وَهَذَا يُنَافِي الْإِذْنَ لِأَنَّ تَصَرُّفَ
الْمَأْذُونِ بِرِضَا الْمَوْلَى
وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ أَهْلِيَّةَ
التِّجَارَةِ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَّا على سَبِيلِ النُّدْرَةِ
لِزَوَالِ ما هو مَبْنِيٌّ عليه وهو الْعَقْلُ فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْإِذْنِ
فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ
وَلَوْ أَفَاقَ بَعْدَ ذلك لَا يَعُودُ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الْمُوَكَّلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْجُنُونُ الذي هو غَيْرُ مُطْبِقٍ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لِأَنَّ غير
الْمُطْبَقِ منه ليس بِمُبْطِلٍ لِلْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ الزَّوَالِ
فَكَانَ في حُكْمِ الْإِغْمَاءِ
وَمِنْهَا رِدَّتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ
بِنَاءً على وُقُوفِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ وَنُفُوذِهَا عِنْدَهُمَا
وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْأَهْلِيَّةِ
فَيَصِيرُ مَحْجُورًا لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ من وَقْتِ
الرِّدَّةِ وَعِنْدَهُمَا من وَقْتِ اللُّحُوقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْحَجْرِ فَهُوَ انْحِجَارُ الْعَبْدِ في حَقِّ
الْمَوْلَى عن كل تَصَرُّفٍ كان يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فَلَا يَمْلِكُ
الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ
الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ لِكَوْنِهِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما بَيَّنَّا
وَلَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِمَا هو من
ضَرُورَاتِهَا في حَقِّ الْمَوْلَى لَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ
لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ في نَفْسِهِ لِصُدُورِهِ من الْأَهْلِ لَكِنْ لم
يَظْهَرْ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
فَيَظْهَرُ
وَإِنْ كان في يَدِهِ مَالٌ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِيمَا في يَدِهِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ فَكَيْفَ
يَنْفُذُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ فِيمَا في
يَدِهِ ولم يَصِحَّ الْحَجْرُ في حَقِّ ما في يَدِهِ لِأَنَّهُ لو صَحَّ
لَتَبَادَرَ الْمَوَالِي إلَى حَجْرِ عَبِيدِهِمْ الْمَأْذُونِينَ في التِّجَارَةِ
إذَا عَلِمُوا أَنَّ عليهم دَيْنًا لِتَسْلَمَ لهم أَكْسَابُهُمْ التي في
أَيْدِيهِمْ وقد لَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بَيِّنَةٌ على ذلك فَيَتَضَرَّرُ بِهِ
الْغُرَمَاءُ لِتَعَلُّقِ دُيُونِهِمْ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ
إقْرَارُهُ فِيمَا في يَدِهِ من الْمَالِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَأَشْبَهَ
إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ
الْحَجْرَ من الْمَوْلَى لِلْوُصُولِ إلَى الْكَسْبِ فإذا لم يَكُنْ في يَدِهِ
كَسْبٌ فَلَا يَحْجُرُ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ
وَلَوْ ظَهَرَ عليه الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ أو الْمُعَايَنَةِ وفي يَدِهِ كَسْبٌ
فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى لَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى على الْكَسْبِ لِأَنَّ حَقَّ
الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أو كَذَّبَهُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى
في نَفْسِهِ في حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَاسْتَوَى فيه تَصْدِيقُهُ
وَتَكْذِيبُهُ وَلَا يَحْتَاجُ في إقَامَتِهَا إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى
بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا إذَا ثَبَتَ ذلك بِبَيِّنَةٍ قامت ( ( ( قام ) ) ) عليه
اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ وَالْمَحْجُورُ في الْجِنَايَةِ عَمْدًا أو
خَطَأً وَالْمَأْذُونُ سَوَاءٌ وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ حُكْمِ جِنَايَتِهِمَا
كِتَابُ الدِّيَاتِ وَسَنَذْكُرُهُ فيه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
كِتَابُ الْإِقْرَارِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ رُكْنِ الْإِقْرَارِ وفي بَيَانِ الشَّرَائِطِ التي يَصِيرُ الرُّكْنُ بها
إقْرَارًا شَرْعًا وفي بَيَانِ ما يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِيمَا أَلْحَقَ
بِإِقْرَارِهِ من الْقَرَائِنِ ما لَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وما لَا
يُصَدَّقُ فيه مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا عنه وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ
الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ
أَمَّا رُكْنُ الْإِقْرَارِ فَنَوْعَانِ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ نَحْوُ
أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ
كَلِمَةُ إيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَكَذَا إذَا قال
____________________
(7/207)
لِرَجُلٍ
لي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال الرَّجُلُ نعم لِأَنَّ كَلِمَةَ نعم خَرَجَتْ
جَوَابًا لِكَلَامِهِ
وَجَوَابُ الْكَلَامِ إعَادَةٌ له لُغَةً كَأَنَّهُ قال لك عَلَيَّ أَلْفُ
دِرْهَمٍ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ في ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ ما في
الذِّمَّةِ هو الدَّيْنُ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ علي ( ( ( قبلي ) ) ) أَلْفُ دِرْهَمٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ في يَدِهِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقَبَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ قال
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز من قَائِلٍ { وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ
كَفِيلًا وَالْكَفَالَةُ هِيَ الضَّمَانُ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } على قِرَاءَةِ
التَّخْفِيفِ أَيْ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِأَمْرِهَا وَجْهُ ما ذَكَرَهُ
الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَبَالَةَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى
الضَّمَانِ وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمَانَةِ فإن مُحَمَّدًا رَحِمَهُ
اللَّهُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ من قال لَا حَقَّ لي على فُلَانٍ يَبْرَأُ عن
الدَّيْنِ
وَمَنْ قال لَا حَقَّ لي عِنْدَ فُلَانٍ أو معه يَبْرَأُ عن الْأَمَانَةِ
وَلَوْ قال لَا حَقَّ لي قِبَلَهُ يَبْرَأُ عن الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جميعا
فَكَانَتْ الْقَبَالَةُ مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ وَالضَّمَانُ لم
يُعْرَفْ وُجُوبُهُ فَلَا يَجِبُ بِالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ قال له في دَرَاهِمِي هذه أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ
وَلَوْ قال له في مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ هذا إقْرَارٌ
له ولم يذكر أَنَّهُ مَضْمُونٌ أو أَمَانَةٌ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال الْجَصَّاصُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ له كما
في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِلْمُقَرِّ بِهِ وهو
الْأَلْفُ فَيَقْتَضِي الْخَلْطَ وهو مَعْنَى الشَّرِكَةِ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان مَالُهُ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَظَاهِرُ إطْلَاقِ
الْكِتَابِ يَدُلُّ على الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَيْفَمَا كان لِأَنَّ كَلِمَةَ
الظَّرْفِ في مِثْلِ هذا تُسْتَعْمَلُ في الْوُجُوبِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ في الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ وفي خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ
شَاةٌ وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ
وَلَوْ قال له في مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ
هِبَةً لِأَنَّهُ ليس فيه ما يَدُلُّ على الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ لِأَنَّ
اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى أَهْلِ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ بِغَيْرِ
عِوَضٍ هِبَةٌ وإذا كان هِبَةً فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِالْقَبُولِ
وَالتَّسْلِيمِ
وَلَوْ قال له في مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ له فيها فَهُوَ إقْرَارٌ
بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَلْفَ التي لَا حَقَّ له فيها لَا تَكُونُ دَيْنًا إذْ لو
كانت هِبَةً لَكَانَ له فيها حَقٌّ
وَلَوْ قال له عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ وَدِيعَةٌ لِأَنَّ عِنْدِي لَا
تَدُلُّ على الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ بَلْ هِيَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَقُرْبٍ وَلَا
اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِالْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ فَلَا يُثْبِتُ
الْوُجُوبُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ مَعِي أو في مَنْزِلِي أو في بَيْتِي أو في
صُنْدُوقِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ وَدِيعَةٌ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ
لَا تَدُلُّ إلَّا على قِيَامِ الْيَدِ على الْمَذْكُورِ وَذَا لَا يَقْتَضِي
الْوُجُوبَ في الذِّمَّةِ لَا مَحَالَةَ فلم يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ
فَكَانَتْ وَدِيعَةً لِأَنَّهَا في مُتَعَارَفِ الناس تُسْتَعْمَلُ في
الْوَدَائِعِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَيْهَا
وَلَوْ قال له عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةً فَهُوَ قَرْضٌ لِأَنَّ عِنْدِي
تُسْتَعْمَلُ في الْأَمَانَاتِ وقد فَسَّرَ بِالْعَارِيَّةِ وَعَارِيَّةُ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تَكُونُ قَرْضًا إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها
إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا وَإِعَارَةُ ما لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا
بِاسْتِهْلَاكِهِ يَكُونُ قَرْضًا في الْمُتَعَارَفِ
وَكَذَلِكَ هذا في كل ما يُكَالُ أو يُوزَنُ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بها
بِدُونِ الِاسْتِهْلَاكِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِإِعَارَتِهَا إقْرَارًا
بِالْقَرْضِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ له رَجُلٌ لي عَلَيْكَ أَلْفٌ فيقول قد
قَضَيْتُهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْلِ الْوَاجِبِ في
الذِّمَّةِ فَيَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ
بِالْقَضَاءِ إقْرَارًا بِالْوُجُوبِ ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عنه بِالْقَضَاءِ
فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال له رَجُلٌ لي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال أتزنها لِأَنَّهُ
أَضَافَ الِاتِّزَانَ إلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْمَرُ
الْمُدَّعِي بِاتِّزَانِ الْمُدَّعَى إلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عليه فَكَانَ
الْأَمْرُ بِالِاتِّزَانِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ دَلَالَةً
وَكَذَلِكَ إذَا قال انْتَقِدْهَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال أَتَّزِنُ أو أتنقد ( ( ( أنتقد ) ) ) لم يَكُنْ إقْرَارًا لِأَنَّهُ
لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُدَّعَى فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرُ بِاتِّزَانِ
شَيْءٍ آخَرَ فَلَا يُحْمَلُ على الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَا إذَا قال
أَجِّلْنِي بها لِأَنَّ التَّأْجِيلَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مع قِيَامِ أَصْلِ
الدَّيْنِ في الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قال له رَجُلٌ لي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال حَقًّا يَكُونُ إقْرَارًا
لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقَّقْتَ فِيمَا قُلْتَ
لِأَنَّ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ لَا بُدَّ له من إظْهَارِ صَدْرِهِ وهو الْفِعْلُ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ قُلْ حَقًّا أو إلزم حَقًّا وَلَكِنَّ
الْأَوَّلَ أَظْهَرُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال الْحَقَّ لِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الْمَصْدَرِ وهو قَوْلُهُ
حَقًّا وَكَذَلِكَ لو قال صِدْقًا أو الصِّدْقَ أو يَقِينًا أو الْيَقِينَ لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ قال بِرًّا أو الْبِرَّ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبِرِّ
مُشْتَرَكٌ تُذْكَرُ على إرَادَةِ الصِّدْقِ وَتُذْكَرُ على إرَادَةِ التَّقْوَى
وَتُذْكَرُ على إرَادَةِ الْخَيْرِ فَلَا يُحْمَلُ على الْإِقْرَارِ
بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ لو قال صَلَاحًا أو
____________________
(7/208)
الصَّلَاحَ
لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّلَاحِ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى
التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فإنه لو صرخ ( ( ( صرح ) ) ) وقال له صَلَحْتَ لَا
يَكُونُ تَصْدِيقًا فَيُحْمَلُ على الْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ وَالِاجْتِنَابِ عن
الْكَذِبِ هذا إذَا ذَكَرَ لَفْظَةً مُفْرَدَةً من هذه الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ
فَإِنْ جَمَعَ بين لَفْظَتَيْنِ مُتَجَانِسَتَيْنِ أو مُخْتَلِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُ
يُعْرَفُ في إقْرَارِ الْجَامِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ رُكْنُ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِقَرِينَةٍ فَالْمُطْلَقُ هو قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ
كَذَا وما يَجْرِي مَجْرَاهُ خَالِيًا عن الْقَرَائِنِ
وَأَمَّا الْمُلْحَقُ بِالْقَرِينَةِ فَبَيَانُهُ يَشْتَمِلُ على فَصْلِ بَيَانِ
ما يُصَدَّقُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ من الْقَرَائِنِ ما لَا
يَكُونُ رُجُوعًا وما لَا يُصَدَّقُ فيه مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا فَنَقُولُ
الْقَرِينَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ
مَبْنِيَّةٌ على الْحَقِيقَةِ وَقَرِينَةٌ مَبْنِيَّةٌ على الْإِطْلَاقِ
أَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْمَبْنِيَّةُ على
الْحَقِيقَةِ فَهِيَ الْمُسْقِطَةُ لِاسْمِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ بها الِاسْمُ
لَكِنْ يَتَبَيَّنُ بها الْمُرَادُ فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً تَبْيِينًا مَعْنًى
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ فَتَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ
يَدْخُلُ في أَصْلِ الْإِقْرَارِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ
وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على قَدْرِهِ وَكُلُّ ذلك قد يَكُونُ مُتَّصِلًا وقد يَكُونُ
مُنْفَصِلًا
أَمَّا الذي يَدْخُلُ على أَصْلِ الْإِقْرَارِ فَنَحْوُ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ
دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ
أَصْلًا لِأَنَّ تَعْلِيقَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكَوْنِ
الْأَلْفِ في الذِّمَّةِ أمر ( ( ( أمرا ) ) ) لَا يُعْرَفُ فَإِنْ شَاءَ كان
وَإِنْ لم يَشَأْ لم يَكُنْ فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مع الِاحْتِمَالِ
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ وَالْكَائِنُ لَا يَحْتَمِلُ
تَعْلِيقَ كَوْنِهِ بِالْمَشِيئَةِ فإن الْفَاعِلَ إذَا قال أنا فَاعِلٌ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ وَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ
في الْأَيْمَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِمَا
قُلْنَا وَلَوْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ
الْإِقْرَارُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن ثَابِتٍ في
الذِّمَّةِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ في مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْإِقْرَارُ في حُقُوقِ
الْعِبَادِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَإِنْ كان مُتَّصِلًا
بِاللَّفْظِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً يَصِحُّ
وَيَكُونُ إقْرَارًا بالوديعة وَإِنْ كان مُنْفَصِلًا عنه بِأَنْ سَكَتَ ثُمَّ قال
عَنَيْتُ بِهِ الْوَدِيعَةَ لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ
بَيَانَ الْمُغَيِّرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إخْبَارٌ عن وُجُوبِ
الْأَلْفِ عليه من حَيْثُ الظَّاهِرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو سَكَتَ عليه لَكَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَنَ بِهِ قَوْلَهُ
وَدِيعَةً وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ فَقَدْ غَيَّرَ حُكْمَ الظَّاهِرِ من
وُجُوبِ الْعَيْنِ إلَى وُجُوبِ الْحِفْظِ فَكَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ فَلَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ
مَوْصُولًا لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَحْتَمِلُ وُجُوبَ الحفظ
الْحِفْظِ أَيْ عَلَيَّ حِفْظُ أَلْفٍ دِرْهَم وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ
فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً قَرْضًا أو مُضَارَبَةً قَرْضًا أو
بِضَاعَةً قَرْضًا أو قال دَيْنًا مَكَانَ قَوْلِهِ قَرْضًا فَهُوَ إقْرَارٌ
بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بين اللَّفْظَيْنِ في مَعْنَاهُمَا مُمْكِنٌ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يَصِيرُ مَضْمُونًا في
الِانْتِهَاءِ إذْ الضَّمَانُ قد يَطْرَأُ على الْأَمَانَةِ كَالْوَدِيعَةِ
الْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَحْوِهَا سَوَاءٌ وَصَلَ أو فَصَلَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ في
الْإِقْرَارِ بِالضَّمَانِ على نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا
الِاسْتِثْنَاءُ
وَالثَّانِي الِاسْتِدْرَاكُ
أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ في الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ
الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ من خِلَافِ جِنْسِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
نَوْعَانِ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ فَإِنْ كان الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ المستنثى (
( ( المستثنى ) ) ) منه وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ فَهُوَ على ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ من
الْقَلِيلِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ
عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ
وَيَلْزَمُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ في الْحَقِيقَةِ
تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا كَأَنَّهُ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ
سَبْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَنَّ لِلسَّبْعَةِ اسمان ( ( ( اسمين ) ) ) أَحَدُهُمَا
سَبْعَةٌ وَالْآخَرُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا
خَمْسِينَ عَامًا } مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ
عَامًا وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ سِوَى ثَلَاثَةِ
دَرَاهِمَ لِأَنَّ سِوَى من أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ
وَكَذَا إذَا قال غير ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ غير بِالنَّصْبِ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ
قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غير دَانِقٍ يَلْزَمُهُ خَمْسَةُ دَوَانِقَ وَلَوْ
قال غَيْرُ دَانِقٍ بِالرَّفْعِ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ تَامٌّ
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ
تِسْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةً فَجَائِزٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ
____________________
(7/209)
إلَّا
ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عن أَئِمَّةِ
اللُّغَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ
الثِّنْيَا وَهَذَا الْمَعْنَى كما يُوجَدُ في اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ من
الْكَثِيرِ يُوجَدُ في اسْتِثْنَاءِ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ إلَّا أَنَّ هذا
النَّوْعَ من الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
لِأَنَّهُمْ إنَّمَا وَضَعُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِدْرَاكِ
الْغَلَطِ وَمِثْلُ هذا الْغَلَطِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ غَايَةَ النُّدْرَةِ
فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ في الْجُمْلَةِ
فَيَصِحُّ
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ بِأَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ
عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَبَاطِلٌ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ لِأَنَّ هذا ليس بِاسْتِثْنَاءٍ إذْ هو تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ
الثِّنْيَا وَلَا حَاصِلَ هَهُنَا بَعْدَ الثِّنْيَا فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً
بَلْ يَكُونُ ابطالا لِلْكَلَامِ وَرُجُوعًا عَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ وَالرُّجُوعُ
عن الْإِقْرَارِ في حَقِّ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ فَبَطَلَ الرُّجُوعُ وَبَقِيَ
الْإِقْرَارُ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا زَائِفًا لَا
يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلَيْهِ
عَشَرَةٌ جِيَادٌ
وقال أبو يُوسُفَ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ لِلْمُقَرِّ له وَعَلَى
الْمُقَرِّ له دِرْهَمٌ زَائِفٌ لِلْمُقِرِّ بِنَاءً على أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقِفُ على صِفَةِ
الْجَوْدَةِ بَلْ تَقِفُ على الْوَزْنِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَتَحَقَّقُ
الْمُقَاصَّةُ إلَّا بِهِمَا جميعا
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّهُ لو صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لَوَجَبَ
على الْمُقَرِّ له دِرْهَمٌ زَائِفٌ وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ لِأَنَّ
اخْتِلَافَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لَا تَمْنَعُ الْمُقَاصَّةَ عِنْدَهُ وإذا وَقَعَتْ
الْمُقَاصَّةُ يَصِيرُ الْمُسْتَثْنَى دِرْهَمًا جَيِّدًا لَا زَائِفًا وَهَذَا
خِلَافُ مُوجَبِ تَصَرُّفِهِ فلم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا كان اتِّحَادُهُمَا في صِفَةِ
الْجَوْدَةِ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْمُقَاصَّةِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لَا تَقَعُ
الْمُقَاصَّةُ وإذا لم تَقَعْ كان الْوَاجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَاءَ ما
عليه فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ
الْجَوْدَةَ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا
لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ
وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ وَلَوْ انْعَدَمَتْ حَقِيقَةً
لَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ كَذَا إذَا انْعَدَمَتْ شَرْعًا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمَ سَتُّوق فَقِيَاسُ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا قِيمَةَ دِرْهَمٍ سَتُّوقٍ
وَقِيَاسُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بِنَاءً على أَنَّ
الْمُجَانَسَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ الإستثناء عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ شَرْطٌ على ما سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا قَلِيلًا فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ من
نِصْفِ الْأَلْفِ وَالْقَوْلُ في الزِّيَادَةِ على الْخَمْسِمِائَةِ قَوْلُهُ
لِأَنَّ الْقَلِيلَ من أَسْمَاء الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ما
يُقَابِلُهُ أَكْثَرَ منه لِيَكُونَ هو بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ قَلِيلًا فإذا
اسْتَثْنَى الْقَلِيلَ من الْأَلْفِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى
منه أَكْثَرَ من الْمُسْتَثْنَى وهو الْأَكْثَرُ من نِصْفِ الْأَلْفِ وَلِهَذَا
قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } إنَّ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ من الْأَمْرِ
بِقِيَامِ اللَّيْلِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ
وَالْقَوْلُ في مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ على نِصْفِ الْأَلْفِ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ
الْمُجْمَلُ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال إلَّا شيئا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِلَفْظَةِ شَيْءٍ لَا
يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْقَلِيلِ هذا إذَا كان الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ
الْمُسْتَثْنَى منه فَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُسْتَثْنَى
مِمَّا لَا يُثْبِتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا كَالثَّوْبِ لَا يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ
وَعَلَيْهِ جَمِيعُ ما أَقَرَّ بِهِ عِنْدَنَا بِأَنْ قال له عَلَيَّ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ إلَّا ثَوْبًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ قَدْرُ قِيمَةِ
الثَّوْبِ
وَإِنْ كان الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يُثْبِتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا من
الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ
عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا أو إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ أو مِائَةُ دِينَارٍ
إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أو دِينَارٌ إلَّا مِائَةَ جَوْزَةٍ يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما
وَيَطْرَحُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ
أَصْلًا
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ
حُكْمًا على حِدَةٍ كما لِنَصِّ الْمُسْتَثْنَى منه من النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ
لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ من النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ لُغَةً
فَقَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا مَعْنَاهُ إلَّا
دِرْهَمًا فإنه ليس عَلَيَّ فَيَصِيرُ دَلِيلُ النَّفْيِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ
الْإِثْبَاتِ في قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَلِهَذَا قال إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَصَارَ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ
دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا أَيْ إلَّا ثَوْبًا فإنه ليس عَلَيَّ من الْأَلِفِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَيْنَ
____________________
(7/210)
الثَّوْبِ
من الْأَلْفِ ليس عليه فَكَانَ الْمُرَادُ قَدْرَ قِيمَتِهِ أَيْ مِقْدَارَ
قِيمَةِ الثَّوْبِ ليس عَلَيَّ من الْأَلْفِ
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِنَصِّ
الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا بَيَانُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى لم يَدْخُلْ تَحْتَ
الْمُسْتَثْنَى منه أَصْلًا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قالوا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَإِنَّمَا يَكُونُ تَكَلُّمًا
بِالْبَاقِي إذَا كان ثَابِتًا فَكَانَ انْعِدَامُ حُكْمِ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى
منه في الْمُسْتَثْنَى لِانْعِدَامِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ إيَّاهُ لَا
لِلْمُعَارَضَةِ مع ما أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ
أَحَدُهَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُقَارِنٌ لِلْمُسْتَثْنَى منه فَكَانَتْ
الْمُعَارَضَةُ مُنَاقِضَةً
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِدَلِيلٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ
وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ ليس بِنَصٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ
مُعَارِضًا إلَّا أَنْ يُزَادَ عليه قَوْلُهُ إلَّا كَذَا فإنه كَذَا
وَهَذَا تَغْيِيرٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ من غَيْرِ
تَغْيِيرٍ كان أَوْلَى
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ يَكُونُ رُجُوعًا عن الْإِقْرَارِ
وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ كما إذَا قال له
عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ له عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وإذا كان
بَيَانًا فَمَعْنَى الْبَيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كان الْمُسْتَثْنَى من
جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه إمَّا في الِاسْمِ أو في احْتِمَالِ الْوُجُوبِ في
الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَقَوْلُهُمْ الِاسْتِثْنَاءُ من الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ
مَحْمُولٌ على الظَّاهِرِ إذْ هو في الظَّاهِرِ كَذَلِكَ دُونَ الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وهي مُحَالٌ على ما ذَكَرْنَا وَجْهَ
إحَالَتِهِ فَيَكُونُ بَيَانًا حَقِيقَةً نَفْيًا أو إثْبَاتًا جَمْعًا بين
النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ ما لَوْلَاهُ
لَدَخَلَ تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى منه وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا في
الْجِنْسِ وَلِهَذَا لو كان الْمُسْتَثْنَى ثَوْبًا لم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ قَوْلِهِ
لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا
مُسَمَّاةٌ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ لم يُمْكِنْ تَحْقِيقُ مَعْنَى المجالسة ( ( (
المجانسة ) ) ) في اسْمِ الدَّرَاهِمِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهَا في الْوُجُوبِ في
الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ في احْتِمَالِ الْوُجُوبِ في
الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ
أَلَا تَرَى أنها تَجِبُ دَيْنًا مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ حَالًّا
بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كما تَجِبُ سَلَمًا وَثَمَنًا حَالًّا
كَالدَّرَاهِمِ
فَأَمَّا الثَّوْبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ
بَلْ سَلَمًا أو ثَمَنًا مُؤَجَّلًا
فَأَمَّا ما لَا يَحْتَمِلُهُ اسْتِقْرَاضًا وَاسْتِهْلَاكًا وَثَمَنًا حَالًّا
غير مُؤَجَّلِ فَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا في وَصْفِ
الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ إنْ لم يَكُنْ في اسْمِ الدَّرَاهِمِ
فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ في تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ وهو الْبَيَانُ من
وَجْهٍ وَلَا مُجَانَسَةَ بين الثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ لَا في الِاسْمِ وَلَا في
احْتِمَالِ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى
الِاسْتِثْنَاءِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ
فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ
لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً على الْعَرْصَةِ في اللُّغَةِ وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ
فيها بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فلم يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى
منه فلم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَكُونُ الدَّارُ مع الْبِنَاءِ لِلْمُقَرِّ له
لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ اسْمًا عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هذه الْأَجْزَاءَ
بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ كَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ كان له الْحَلْقَةُ
وَالْفَصُّ لَا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ بَلْ هو اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وهو
الْمُرَكَّبُ من الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ
التَّضَمُّنِ
وَكَذَا من أَقَرَّ بِسَيْفٍ لِغَيْرِهِ كان له النَّصْلُ وَالْجَفْنُ
وَالْحَمَائِلُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا من أَقَرَّ بِحَجْلَةٍ كان له الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ بِخِلَافِ ما
إذَا اسْتَثْنَى رُبُعَ الدَّارِ أو ثُلُثَهَا أو شيئا منها أَنَّهُ يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَكَانَ
الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه فَصَحَّ
وَلَوْ قال بِنَاءُ هذه الدَّارِ لي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ صَحَّ لِأَنَّ اسْمَ
الْبِنَاءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا وَرَدَ على الْجُمْلَةِ
الْمَلْفُوظَةِ فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ على الِاسْتِثْنَاءِ
فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الدَّاخِلَ على الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ
اسْتِثْنَاءً من الْمُسْتَثْنَى منه لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى منه أَقْرَبُ
الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي إلَيْهِ وَيُجْعَلُ
الْبَاقِي منه مُسْتَثْنًى من الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ
وَعَلَى هذا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ على الِاسْتِثْنَاءِ مَرَّةً بَعْدَ
أُخْرَى وَإِنْ كَثُرَ فَالْأَصْلُ فيه أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى ما
يَلِيهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُبْدَأُ من الِاسْتِثْنَاءِ
الْأَخِيرِ فَيُسْتَثْنَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي
مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي هَكَذَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ
الْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي منه فَيُسْتَثْنَى ذلك من الْجُمْلَةِ
الْمَلْفُوظَةِ فما بَقِيَ منها فَهُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ
بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ
لِأَنَّا صَرْفنَا
____________________
(7/211)
الِاسْتِثْنَاءَ
الْأَخِيرَ إلَى ما يَلِيهِ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا من الْعَشَرَةِ
فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبَرًا عن الْمَلَائِكَة {
قالوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إنَّهَا لَمِنْ
الْغَابِرِينَ }
اسْتَثْنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى آلَ لُوطٍ من أَهْلِ الْقَرْيَةِ لَا من
الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ من الْجِنْسِ وَآلُ لُوطٍ لم
يَكُونُوا مُجْرِمِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ من آلِهِ فَبَقِيَتْ في
الْغَابِرِينَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسَبْعَةٍ لِأَنَّا
جَعَلْنَا الدِّرْهَمَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ
دِرْهَمَانِ اسْتَثْنَاهُمَا من خَمْسَةٍ فَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ اسْتَثْنَاهَا من
الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَبَقِيَ سَبْعَةٌ
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ
إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ
إقْرَارًا بِسِتَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا من الْأَصْلِ وَهَذَا الْأَصْلُ لَا يخطىء (
( ( يخطئ ) ) ) في إيرَادِ الِاسْتِثْنَاءِ على الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَثُرَ
هذا إذَا كان الْأَصْلُ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ
فَأَمَّا إذَا كان مُنْفَصِلًا عنها بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قال إلَّا دِرْهَمًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
إلَّا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ يَصِحُّ
وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الناس
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا
وَمُنْفَصِلًا كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالتَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ عِنْدَنَا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إن صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا انْفَصَلَتْ عن
الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لَا تَكُونُ كَلَامَ اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً لِأَنَّ
الْعَرَبَ ما تَكَلَّمَتْ بِهِ أَصْلًا وَلَوْ اشْتَغَلَ بِهِ أَحَدٌ يُضْحَكُ
عليه كَمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا ثُمَّ قال بَعْدَ شَهْرٍ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعَدُّ ذلك تَعْلِيقًا بِالْمَشِيئَةِ حتى لَا يَصِحَّ
كَذَا هذا
وَالرِّوَايَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَكَادُ تَصِحُّ بِخِلَافِ بَيَانِ
الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ
عِنْدَهُمْ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قال أنت حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ تَكْرِيرَ صِيغَةِ
التَّحْرِيرِ لَغْوٌ فَكَانَ في مَعْنَى السَّكْتَةِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ إلَّا كُرَّ
حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ
بِالِاتِّفَاقِ لِانْصِرَافِ كُرِّ الْحِنْطَةِ إلَى جِنْسِهِ فَيَكُونُ
اسْتِثْنَاءً الكل ( ( ( للكل ) ) ) من الْكُلِّ فلم يَصِحَّ
وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْقَفِيزِ من الشَّعِيرِ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لم يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ فَقَدْ
لَغَا فَكَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَثْنَى قَفِيزَ شَعِيرٍ فلم يَصِحَّ
اسْتِثْنَاؤُهُ أَصْلًا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ فَهُوَ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ في الْقَدْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في الصِّفَةِ فَإِنْ كان
في الْقَدْرِ فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في الْجِنْسِ وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ في خِلَافِ الْجِنْسِ
فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ
فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عليه ثَلَاثَةُ
آلَافٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ
بِأَلْفٍ وَقَوْلُهُ لَا رُجُوعَ وَقَوْلُهُ بَلْ اسْتِدْرَاكٌ وَالرُّجُوعُ عن
الْإِقْرَارِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ
فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ في خِلَافِ الْجِنْسِ وَكَمَا إذَا قال لِامْرَأَتِهِ
أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثنتين أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ عنه مِمَّا
يَجْرِي الْغَلَطُ في قَدْرِهِ أو وَصْفِهِ عَادَةً فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى
اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ فيه فَيُقْبَلُ إذَا لم يَكُنْ مُتَّهَمًا فيه وهو غَيْرُ
مُتَّهَمٍ في الزِّيَادَةِ على الْمُقَرِّ بِهِ فَتُقْبَلُ منه بِخِلَافِ
الِاسْتِدْرَاكِ في خِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْغَلَطَ في خِلَافِ الْجِنْسِ لَا
يَقَعُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى استداركه ( ( ( استدراكه ) ) )
وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءُ
الطَّلَاقِ لُغَةً وَشَرْعًا وَالْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ حتى لو كان
إخْبَارًا بِأَنْ قال لها كنت طَلَّقْتُكِ أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ
لَا يَقَعُ عليها إلَّا طَلَاقَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرَّانِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفُ دِرْهَمٍ
فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في النُّقْصَانِ فَلَا يَصِحُّ
اسْتِدْرَاكُهُ مع ما أَنَّ مِثْلَ هذا الْغَلَطِ نَادِرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى
استدركه ( ( ( استدراكه ) ) ) لإلتحاقه بِالْعَدَمِ
وَأَمَّا في خِلَافِ الْجِنْسِ كما لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا
بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ أو لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرُّ
شَعِيرٍ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هذا الْغَلَطِ لَا يَقَعُ
إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
هذا إذَا وَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ في قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ
في صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ
لَا بَلْ سُودٌ يُنْظَرُ فيه إلَى أَرْفَعِ الصِّفَتَيْنِ وَعَلَيْهِ ذلك
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في زِيَادَةِ الصِّفَةِ مُتَّهَمٌ في النُّقْصَانِ
فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا في الْأَوَّلِ رَاجِعًا في الثَّانِي
فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كما في الْأَلْفِ
____________________
(7/212)
وَالْأَلْفَيْنِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا رَجَعَ الِاسْتِدْرَاكُ إلَى الْمُقَرّ بِهِ فَأَمَّا إذَا رَجَعَ إلَى
الْمُقَرِّ له بِأَنْ قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ
وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ له الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بها لِلْأَوَّلِ صَحَّ إقْرَارُهُ له فَصَارَ وَاجِبَ
الدَّفْعِ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ لَا بَلْ لِفُلَانٍ رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ
الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ في حَقِّ الْأَوَّلِ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بها
لِلثَّانِي في حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ
قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي لِأَنَّ إقْرَارَهُ بها لِلثَّانِي في
حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ إن لم يَصِحَّ في حَقِّ الْأَوَّلِ وإذا صَحَّ صَارَ
وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ فإذا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَهَا
عليه فَيَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا
يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لو ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ بِالدَّفْعِ
وَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَ بِالْإِقْرَارِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ
مَجْبُورٌ في الدَّفْعِ من جِهَةِ الْقَاضِي فَيَكُونُ كَالْمُكْرَهِ وَلَا
سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَيْرِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا
يُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلَوْ قال غَصَبْتُ هذا الْعَبْدَ من فُلَانٍ لَا بَلْ من فُلَانٍ يَدْفَعُ إلَى
الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي سَوَاءٌ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أو
بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ
الْإِقْرَارُ بِهِ إقرار ( ( ( إقرارا ) ) ) بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
وهو رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَقِيمَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ وقد
عَجَزَ عن رَدِّ الْعَيْنِ إلَى الْمُقَرِّ له الثَّانِي فَيَلْزَمُهُ رَدُّ
قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ
الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ ليس بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لإنعدام الْإِتْلَافِ
وَإِنَّمَا التَّلَفُ في تَسْلِيمِ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ بِاخْتِيَارِهِ
على وَجْهٍ يَعْجِزُ عن الْوُصُولِ إلَيْهِ فَلَا جَرَمَ إذَا وُجِدَ يَجِبُ
الضَّمَانُ
وَكَذَلِكَ لو قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَخَذْتُهَا من فُلَانٍ أو
أَقْرَضَنِيهَا فُلَانٌ وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلْمُقَرِّ
له الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ منه أو أَقْرَضَهُ
أَلْفًا مثله لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْقَرْضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِمَا إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ
وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَرُدُّ الْأَلْفَ الْقَائِمَةَ إلَى الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ
إقْرَارِهِ بها له وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي أَلْفًا أُخْرَى ضَمَانًا لِلْأَخْذِ
وَالْقَرْضِ وَلَوْ قال أَوْدَعَنِي فُلَانٌ هذه الْأَلْفَ لَا بَلْ فُلَانٌ
يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ له الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ دَفَعَ إلَيْهِ
بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ دَفَعَ
بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِيدَاعِ من
الثَّانِي صَحِيحٌ في حَقِّ الثَّانِي فَوَجَبَ عليه الْحِفْظُ بِمُوجَبِ
الْعَقْدِ وقد فَوَّتَهُ بِالْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَلْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَانَ
مَضْمُونًا عليه
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فَوَاتَ الْحِفْظِ وَالْهَلَاكَ
حَصَلَ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِالْإِقْرَارِ وَالدَّفْعُ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال دَفَعَ إلَيَّ هذه الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ وَادَّعَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أنها له فَهِيَ لِلدَّافِعِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِدَفْعِ
فُلَانٍ قد صَحَّ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عليه وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ
إقْرَارِهِ لِلثَّانِي في حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنْ يَصِحُّ في حَقِّ الثَّانِي
وَلَوْ قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ فُلَانٌ فَهِيَ لِلْمُقَرِّ
له بِالْمِلْكِ وَلَا يَكُونُ لِلدَّافِعِ شَيْءٌ فإذا ادَّعَى الثَّانِي ضَمِنَ
له أَلْفًا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بها لِلْأَوَّلِ يُوجِبُ
الرَّدَّ إلَيْهِ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي في حَقِّ
الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ يَصِحُّ في حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى
الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ
وَالْحُجَجُ من الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَرْسِلْ بها إلَى فُلَانٍ فإنه يَرُدُّهَا
على الذي أَقَرَّ أنها مِلْكُهُ
وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى لِمَا قُلْنَا وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
فَرَّقَ أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ بين الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِأَنْ قال
لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَبَضْتَهَا من فُلَانٍ فَادَّعَاهَا كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ عليه لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ هُنَاكَ أَلْفٌ في
الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُهُ ذلك بِإِقْرَارِهِ له وَلَزِمَهُ أَلْفٌ أُخْرَى
لِفُلَانٍ بِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهَا منه إذْ الْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ فَلَزِمَهُ أَلْفَانِ
وَهَهُنَا الْمُقَرُّ بِهِ عَيْنٌ مُشَارٌ إلَيْهَا فَمَتَى صَحَّ إقْرَارُهُ بها
لم يَصِحَّ لِلثَّانِي وَذَكَرَ قَوْلَ أبي يُوسُفَ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه لِلثَّانِي بِحَالٍ بِانْتِهَاءِ
الرِّسَالَةِ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ وفي الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ
بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ فَإِنْ قال الذي أَقَرَّ له أنها مِلْكُهُ
لَيْسَتْ الْأَلْف لي وَادَّعَاهَا الرَّسُولُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَوَّلِ قد
ارْتَدَّ بِرَدِّهِ وقد أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلرَّسُولِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ
إلَيْهِ
وَلَوْ كان الذي أَقَرَّ له أنها مِلْكُهُ غَائِبًا وَأَرَادَ الرَّسُولُ أَنْ
يَأْخُذَهَا وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ لم يَأْخُذْهَا
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قد انْتَهَتْ بِالْوُصُولِ إلَى
الْمُقِرِّ وَلَوْ أَقَرَّ إلَى خَيَّاطٍ فقال هذا الثَّوْبُ أَرْسَلَهُ إلَيَّ
فُلَانٌ لِأَقْطَعَهُ قَمِيصًا وهو لِفُلَانٍ فَهُوَ الذي ( ( ( للذي ) ) )
____________________
(7/213)
أَرْسَلَهُ
إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْمُرْسِلِ
فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عليه وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ
الثَّانِي كما إذَا قال دَفَعَ إلَيَّ هذه الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ على
ما بَيَّنَّا
وَلَوْ قال الْخَيَّاطُ هذا الثَّوْبُ الذي في يَدِي لِفُلَانٍ أَرْسَلَهُ إلَيَّ
فُلَانٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ له أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شيئا في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِنَاءً على أَنَّ الْأَجِيرَ
الْمُشْتَرَكَ لَا ضَمَانَ عليه فِيمَا هَلَكَ في يَدِهِ عِنْدَهُ فَأَشْبَهَ
الْوَدِيعَةَ وَعِنْدَهُمَا عليه الضَّمَانُ فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَلِيمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ على الاطلاق فَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ
لِبَعْضِ ما يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِأَنْ كان اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ هذا وَذَاكَ
قبل وُجُودِ الْقَرِينَةِ فإذا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ بتعين ( ( ( يتعين ) ) )
الْبَعْضُ مُرَادًا بِاللَّفْظِ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَصْلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ
كان اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا على السَّوَاءِ يَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا كان
أو مُنْفَصِلًا وَإِنْ كان لِأَحَدِهِمَا ضَرْبُ رُجْحَانٍ فَإِنْ كان
الْإِفْهَامُ إلَيْهِ أَسْبَقَ عِنْد الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ فَإِنْ كان
مُنْفَصِلًا لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان مُتَّصِلًا يَصِحُّ إذَا لم يَتَضَمَّنْ
الرُّجُوعَ وَإِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الرُّجُوعِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ
الْمُقَرِّ له وَهَذَا النَّوْعُ من الْقَرِينَةِ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ
أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَدْخُلُ على أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على
وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ
أَمَّا الذي يَدْخُلُ على أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ
بِهِ مَجْهُولَ الذَّاتِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أو حَقٌّ يَصِحُّ
لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ وَذَلِكَ قد يَكُونُ مَعْلُومًا وقد يَكُونُ
مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ على آخَرَ شيئا ليس من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
فَوَجَبَتْ عليه قِيمَتُهُ أو جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً ليس لها في الشَّرْعِ أَرْشٌ
مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالْأَرْشِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ
بِالْمَجْهُولِ إخْبَارًا عن الْمُخْبِرِ على ما هو بِهِ وهو حَدُّ الصِّدْقِ
بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ
بِالشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ
فَيَصِحُّ وَيُقَالُ له بَيِّنْ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ عليه
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فإذا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ
إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا
لِأَنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْوَصْلُ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ
وَالْمُشْتَرَكَ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شيئا له قِيمَةٌ لِأَنَّهُ
أَقَرَّ بِمَا في ذِمَّتِهِ وما لَا قِيمَةَ له لَا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ
ثُمَّ إذَا بَيَّنَ شيئا له قِيمَةٌ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ في ذلك وَادَّعَى عليه زِيَادَةً وَإِمَّا أن كَذَّبَهُ
وَادَّعَى عليه مَالًا آخَرَ فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا بَيَّنَ وَادَّعَى عليه زِيَادَةً
أَخَذَ ذلك الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الزِّيَادَةِ
وَإِلَّا حَلَّفَهُ عليها إنْ أَرَادَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ
وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عليه مَالًا آخَرَ أَقَامَ البينة ( ( ( بينة ) ) )
على مَالٍ آخَرَ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عليه وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ الْقَدْرَ
الْمُبَيَّنَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ إقْرَارَهُ له بِالتَّكْذِيبِ وَكَذَلِكَ إذَا
أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ من فُلَانٍ شيئا ولم يُبَيِّنْ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ
لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شيئا يَتَمَانَعُ في
الْعَادَةِ وَيُقْصَدُ بِالْغَصْبِ لِأَنَّ ما لَا يَتَمَانَعُ عَادَةً وَلَا
يُقْصَدُ غَصْبُهُ نَحْوُ كَفٍّ من تُرَابٍ أو غَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ فيه اسْمُ
الْغَصْبِ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ مع ذلك أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا يُشْتَرَطُ وقال مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى يُشْتَرَطُ حتى لو بَيَّنَ أَنَّهُ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا أو غَصَبَ
جِلْدَ مَيْتَةٍ أو خَمْرَ مُسْلِمٍ يُصَدَّقُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَلَا
يُصَدَّقُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حتى يُبَيِّنَ شيئا هو مَالٌ مُتَقَوِّمٌ
وَجْهُ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ
وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَهَذَا لَا يَقِفُ على كَوْنِ الْمَغْصُوبِ مَالًا
مُتَقَوِّمًا
وَجْهُ قَوْلِ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ وَلَهُ
ضَمَانَانِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالثَّانِي
وُجُوبُ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِغَصْبِ شَيْءٍ
إقْرَارًا بِغَصْبِ ما يَحْتَمِلُ مُوجِبُهُ وهو الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ
وَلَوْ بَيَّنَ غَصْبَ الْعَقَارِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
يُصَدَّقُ وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ
لِأَنَّ الْعَقَارَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ
بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى هو مَضْمُونُ
الْقِيمَةِ أَيْضًا فَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِنَا على قِيَاسِ قَوْلِ
مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ
وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ
الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ يُصَدَّقُ في الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمُ ما يُتَمَوَّلُ وَذَا يَقَعُ على الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَلَوْ قال لِفُلَانٍ
عَلَيَّ أَلْفٌ ولم يُبَيِّنْ فَالْبَيَانُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ
____________________
(7/214)
فَصْلٌ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الْأَصْلِ مَجْهُولَ الْوَصْفِ نحوأن يَقُولَ غَصَبَ من
فُلَانٍ عَبْدًا أو جَارِيَةً أو ثَوْبًا من الْعُرُوضِ فَيُصَدَّقُ في الْبَيَانِ
من جِنْسِ ذلك سَلِيمًا كان أو مَعِيبًا لِأَنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ على السَّلِيمِ
وَالْمَعِيبِ عَادَةً وقد بَيَّنَ الْأَصْلَ وَأَجْمَلَ الْوَصْفَ فَيَرْجِعُ في
بَيَانِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَمَتَى صَحَّ
بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إنْ قَدَرَ عليه وَإِنْ عَجَزَ عنه تَلْزَمُهُ
الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ على هذا الْوَجْهِ وَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ في مِقْدَارِ قِيمَتِهِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع الْيَمِينِ
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ من فُلَانٍ دَارًا وقال هِيَ بِالْبَصْرَةِ
يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الْمَكَانَ فَكَانَ الْقَوْلُ في بَيَانِ الْمَكَانِ
إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ إنْ قَدَرَ عليه وَإِنْ عَجَزَ
عنه بِأَنْ خُرِّبَتْ أو قال هِيَ هذه الدَّارُ التي في يَدَيْ زَيْدٍ وَزَيْدٌ
يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَر وَلَا يَضْمَنُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ
قِيمَةَ الدَّارِ بِنَاءً على أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ
بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا له فإذا أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال هِيَ
زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ مُطْلَقًا من غَيْرِ بَيَانِ الْجِهَةِ وَإِمَّا أن
بَيَّنَ الْجِهَةَ فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ
ولم يذكر له جِهَةً أَصْلًا وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَإِنْ وَصَلَ
يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ اسْمُ جِنْسٍ
يَقَعُ على الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ فَكَانَ قَوْلُهُ زُيُوفٌ بَيَانًا لِلنَّوْعِ
إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
تُصْرَفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ فَصْلُ الْبَيَانِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ
فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ
يُصَدَّقُ وَصَلَ أو فَصَلَ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ بالوديعة والوديعة مَالٌ
مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْمُودَعِ
وقد يَكُونُ ذلك جَيِّدًا وقد يَكُونُ زُيُوفًا على حَسَبِ ما يُودَعُ فَيُقْبَلُ
بَيَانُهُ
هذا إذَا أَطْلَقَ ولم يُبَيِّنْ الْجِهَةَ أَمَّا إذَا بَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ
قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو
نَبَهْرَجَةٌ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ وَعَلَيْهِ الْجِيَادُ إذَا ادَّعَى
الْمُقَرُّ له الْجِيَادَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا
يُصَدَّقْ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَقَعُ على
الزُّيُوفِ كما يَقَعُ على الجهاد ( ( ( الجياد ) ) ) إذْ هو اسْمُ جِنْسٍ
وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فيها وَاسْمُ كل جِنْسٍ يَقَعُ على السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ
من ذلك الْجِنْسِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ من الْجِنْسِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مَوْصُولًا لِوُقُوعِهِ
تَعْيِينَا لِبَعْضِ ما يَحْتَمِلهُ اللَّفْظُ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا
لِكَوْنِهِ رُجُوعًا عن الْإِقْرَارِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ بَعْدَ
النِّسْبَةِ إلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ
بَيَانُهُ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ
الْبَدَلَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ لَا يَرْضَى إلَّا
بِالْبَدَلِ السَّلِيمِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِكَوْنِ الدَّرَاهِمِ ثَمَنًا
إقْرَارًا بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِخْبَارُهُ عن الزِّيَافَةِ يَكُونُ رُجُوعًا
فَلَا يَصِحُّ كما إذَا قال بِعْتُكَ هذا الْعَبْدَ على أَنَّهُ مَعِيبٌ لَا
يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا وقال هِيَ زُيُوفٌ
فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في الْبَيْعِ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ
لَا يُصَدَّقْ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْقَرْضَ
في الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ فَكَانَ في
اسْتِدْعَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ كَالْبَيْعِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْغَصْبَ لِأَنَّهُ
يَتِمُّ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ ثُمَّ بَيَانُ الزِّيَافَةِ مَقْبُولٌ في
الْغَصْبِ كَذَا في الْقَرْضِ وَيُشْبِهُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ
بِمَالٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْغَصْبِ احْتَمَلَ الْبَيَانَ في الْجُمْلَةِ
وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ شَرَطْنَا الْوَصْلَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ
وَلَوْ قال غَصَبَ من فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ
يُصَدَّقُ سَوَاءٌ وَصَلَ أو فَصَلَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا
يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ
الْغَصْبَ في الْأَجْوَدِ لَا يَسْتَدْعِي صِفَةَ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ كما
يَرِدُ على السَّلِيمِ يَرِدُ على الْمَعِيبِ على حَسَبِ ما يَتَّفِقُ فَكَانَ
مُحْتَمِلًا لِلْبَيَانِ مُتَّصِلًا أو مُنْفَصِلًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى
الرُّجُوعِ فيه وَلِهَذَا لو كان الْمُقَرُّ بِهِ غَصْبُ عبدا بِأَنْ قال غَصَبْتُ
من فُلَانٍ عَبْدًا ثُمَّ قال غَصَبْتُهُ وهو مَعِيبٌ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال أَوْدَعَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ يُصَدَّقُ
بِلَا خِلَافٍ فَصَلَ أو وَصَلَ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ اسْتِحْفَاظُ الْمَالِ
وَكَمَا يُسْتَحْفَظُ السَّلِيمُ يُسْتَحْفَظُ الْمَعِيبُ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عن
الزِّيَافَةِ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْوَصْلُ
لِانْعِدَامِ تَضَمُّنِ مَعْنَى الرُّجُوعِ
وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ على ما رُوِيَ عنه فَرَّقَ بين الْوَدِيعَةِ
وَبَيْنَ الْغَصْب حَيْثُ صَدَّقَهُ في الْوَدِيعَةِ مَوْصُولًا كان الْبَيَانُ أو
مَفْصُولًا ولم يُصَدِّقْهُ
____________________
(7/215)
في
الْغَصْبِ إلَّا مَوْصُولًا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضمان مُبَادَلَةٌ إذ الْمَضْمُونَاتُ
تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْمَبِيعِ وهو الثَّمَنُ
وفي بَابِ الْبَيْعِ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ عِنْدَهُ كَذَا في الْغَصْبِ
فَأَمَّا الْوَاجِبُ في بَابِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْحِفْظُ وَالْمَعِيبُ في
احْتِمَالِ الْحِفْظِ كَالسَّلِيمِ فَهُوَ الْفَرْقُ له
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
هذا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَأَمَّا إذَا
أَقَرَّ بها وقال هِيَ سَتُّوقَةٌ أو رَصَاصٌ فَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ
يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ لِأَنَّ السَّتُّوقَ
وَالرَّصَاصَ لَيْسَا من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى بها مَجَازًا
فَكَانَ الْإِخْبَارُ عن ذلك بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا
مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَأَمَّا في الْبَيْعِ إذَا قال ابْتَعْتُ بِأَلْفِ سَتُّوقَةٍ أو رَصَاصٍ فَلَا
يُصَدَّقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَصَلَ أو وَصَلَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عِنْدَهُ
لِأَنَّهُ لو قال ابْتَعْتُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُ وَصَلَ أو
فَصَلَ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُصَدَّقُ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ
أَمَّا التَّصْدِيقُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَتُّوقَةٌ أو رَصَاصٌ خَرَجَ بَيَانًا
لِوَصْفِ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ كما إذَا قال بِأَلْفٍ بِيضٍ أو بِأَلْفٍ سُودٍ
وَأَمَّا فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ السَّتُّوقَةِ في الْبَيْعِ
يُوجِبُ فَسَادَهُ كَتَسْمِيَةِ الْعُرُوضِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ
زُيُوفٌ أو وَضَحٌ زُيُوفٌ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ زُيُوفٌ أو فقد ( ( ( نقد )
) ) بَيْتِ الْمَالِ زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ
الْبَيَاضَ يَحْتَمِلُ الْجُودَةَ وَالزِّيَافَةَ إذْ الْبِيضُ قد تَكُونُ
جِيَادًا وقد تَكُونُ زُيُوفًا فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جِيَادٌ
لِأَنَّ الْجُودَةَ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَافَةَ لِتَضَادٍّ بين الصِّفَتَيْنِ
فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا
وَعَلَى هذا إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ لم يَقْبِضْهُ
فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ ذَكَرَ عَبْدًا مُعَيَّنًا
مُشَارًا إلَيْهِ بِأَنْ قال ثَمَنُ هذا الْعَبْدِ وَإِمَّا أن ذَكَرَ عَبْدًا من
غَيْرِ تَعْيِينٍ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنِ عَبْدٍ
اشْتَرَيْتُهُ منه ولم أَقْبِضْهُ فَإِنْ ذكر ( ( ( ذكرا ) ) ) عَبْدًا بِعَيْنِهِ
فَإِنْ صَدَّقَهُ في الْبَيْعِ يُقَالُ لِلْمُقَرِّ له إنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ
الْأَلْفَ فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لك لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ
ثَمَنُ الْمَبِيعِ وقد ثَبَتَ الْبَيْعُ بِتَصَادُقِهِمَا وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي
تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ في الْبَيْعِ وقال ما بِعْتُ مِنْكَ
شيئا وَالْعَبْدُ عَبْدِي وَلِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ بِسَبَبٍ آخَرَ
فَالْعَبْدُ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّهُ يَدَّعِي عليه الْبَيْعَ وهو يُنْكِرُ وَلَا
شَيْءَ له على الْمُقَرِّ من الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ
لَا غَيْرُهُ ولم يَثْبُتْ الْبَيْعُ
فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَلَا يُصَدَّقُ في عَدَمِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ
صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ له في الْبَيْعِ أو كَذَّبَهُ وكان أبو يُوسُفَ أَوَّلًا
يقول إنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ
ثُمَّ رَجَعَ وقال يسئل ( ( ( يسأل ) ) ) الْمُقَرُّ له عن الْجِهَةِ فَإِنْ
صَدَّقَهُ فيها لَكِنْ كَذَّبَهُ في الْقَبْضِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ
سَوَاءٌ وَصَلَ أو فَصَلَ
وَإِنْ كَذَّبَهُ في الْبَيْعِ وَادَّعَى عليه أَلْفًا أُخْرَى إنْ وَصَلَ
يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قول الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ وَالْمَبِيعُ قد
يَكُونُ مَقْبُوضًا وقد لَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ الْغَالِبَ هو الْقَبْضُ فَكَانَ
قَوْلُهُ لم أَقْبِضْهُ بَيَانًا فيه مَعْنَى التَّغْيِيرِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ
فَيُصَدَّقُ بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَجْهُ قول الْآخَرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ ثُبُوتِ
الْجِهَةِ بِتَصَادُقِهِمَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لِأَنَّ الْقَبْضَ
لَا يَلْزَمُ في الْبَيْعِ فَكَانَ قَوْلُهُ لم أَقْبِضْهُ تَعْيِينًا لِبَعْضِ ما
يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَكَانَ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ له الْوَصْلُ
لِبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ
وإذا كَذَّبَهُ يُشْتَرَطُ الْوَصْلُ لِأَنَّهُ لو اقْتَصَرَ على قَوْلِهِ
لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَوَجَبَ عليه التَّسْلِيمُ للحال ( ( ( للمال
) ) )
فإذا قال ثَمَنُ عَبْدٍ لم أَقْبِضْهُ لَا يَجِبُ عليه التَّسْلِيمُ إلَّا
بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ فَكَانَ بَيَانًا فيه مَعْنَى التَّغْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ
إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَوَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَهُ لم أَقْبِضْهُ
رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ
عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُقَرِّ له
بِالْأَلْفِ وَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ إلَّا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ
فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَوْلُهُ لم
أَقْبِضْهُ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٍ ثَمَنُ خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ فَعَلَيْهِ
أَلْفٌ وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ في
ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِ
لَا تَحْتَمِلُهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ
أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَاجِبٍ في ذِمَّتِهِ وَقَوْلُهُ ثَمَنُ خَمْرٍ
أو خِنْزِيرٍ إبْطَالٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ
لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ
فَكَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال اشْتَرَيْتُ من فُلَانٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنِّي لم
أَقْبِضْهُ يُصَدَّقُ وَصَلَ أو فَصَلَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ قد
____________________
(7/216)
يَتَّصِلُ
بِهِ الْقَبْضُ وقد لَا يَتَّصِلُ فَكَانَ قَوْلُهُ لم أَقْبِضْ بَيَانًا مَحْضًا
فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا أو مُنْفَصِلًا
وَلَوْ قال أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ ولم أَقْبِضْ إنَّمَا طَلَبْتُ
أليه الْقَبْضَ فَأَقْرَضَنِي ولم أَقْبِضْ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ
لَا يُصَدَّقْ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ وَصَلَ أو فَصَلَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ هو الْقَرْضُ وهو اسْمٌ لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ
فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ كما لَا يَكُونُ
الْإِقْرَار بِالْبَيْعِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ كما أَنَّ تَمَامَ
الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ
ظَاهِرًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ في الْحُكْمِ فَكَانَ قَوْلُهُ لم
أَقْبِضْ بَيَانًا مَعْنًى فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ
كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِدْرَاكِ
وَكَذَلِكَ لو قال أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أو أَوْدَعْتَنِي أو
أَسْلَفْتَنِي أو أَسْلَمْتَ إلَيَّ وقال لم أَقْبِضْ لَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ
وَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْإِيدَاعَ وَالْإِسْلَافَ
يَسْتَدْعِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً خُصُوصًا عِنْدَ الْإِضَافَةِ فَلَا يَصِحُّ
مُنْفَصِلًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْعَدَمَ في الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا
وَلَوْ قال بِعْتَنِي دَارَكَ أو آجَرْتَنِي أو أَعَرْتَنِي أو وَهَبْتَنِي أو
تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ وقال لم أَقْبِضْ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ
أَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ لِأَنَّ الْقَبْضَ ليس بِشَرْطٍ
لِصِحَّةِ هذه التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بها إقْرَارًا
بِالْقَبْضِ وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ اسْمٌ
لِلرُّكْنِ وهو التَّمْلِيكُ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَإِنَّمَا الْقَبْضُ
فِيهِمَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ
فَفَعَلَ ولم يَقْبِضْ الْمَوْهُوبُ له وَالْمُتَصَدَّقُ عليه يَحْنَثُ
وَلَوْ قال نَقَدْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أو دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وقال
لم أَقْبِضْ إنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ وَصَلَ لَا يُصَدَّقْ
عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْدَ وَالدَّفْعَ يَقْتَضِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً
بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِسْلَامِ
وَيَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ في الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ بِشَرِيطَةِ الْوَصْلِ كما
في هذه الْأَشْيَاءِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبْضَ من لَوَازِمَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ
أَعْنِي النَّقْدَ وَالدَّفْعَ خُصُوصًا عِنْدَ صَرِيحِ الْإِضَافَةِ
وَالْإِقْرَارُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إقْرَارٌ بِالْآخَرِ فَقَوْلُهُ لم
أَقْبِضْ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَعَلَى هذا إذَا قال لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً
فَهَلَكَتْ عِنْدِي فقال الرَّجُلُ لَا بَلْ أَخَذْتَهَا غَصْبًا لَا يُصَدَّقُ
فيه الْمُقِرُّ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له مع يَمِينِهِ وَالْمُقِرُّ
ضَامِنٌ
وَلَوْ قال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ أَقْرَضْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مع
يَمِينِهِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في
الْأَصْلِ لِقَوْلِ النبي على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّ فَكَانَ
الْإِقْرَارُ بِالْأَخْذِ إقْرَارًا بِسَبَبِ الْوُجُوبِ فَدَعْوَى الْإِذْنِ
تَكُونُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عن الضَّمَانِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَقْرَضْتُكَ لِأَنَّ
إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ إقْرَارٌ بِالْأَخْذِ بِالْإِذْنِ فَتَصَادَقَا على أَنَّ
الْأَخْذَ كان بِإِذْنٍ وَالْأَخْذُ بِإِذْنٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ في الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِقْرَاضِ دَعْوَى الْأَخْذِ بِجِهَةِ
الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ قال أَوْدَعْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أو دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَدِيعَةً أو أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي وقال
الْمُقَرُّ له لَا بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ مع
يَمِينِهِ لِأَنَّهُ ما أَقَرَّ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إذْ الْمُقَرُّ بِهِ
هو الْإِيدَاعُ وَالْإِعْطَاءُ وَإِنَّهُمَا لَيْسَا من أَسْبَابِ الضَّمَانِ
وَلَوْ قال له أَعَرْتَنِي ثَوْبَك أو دَابَّتَك فَهَلَكَتْ عِنْدِي وقال
الْمُقَرُّ له غَصَبْتَ مِنِّي نُظِرَ في ذلك إنْ هَلَكَ قبل اللُّبْسِ أو
الرُّكُوبِ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْإِعَارَةُ وَإِنَّهَا
لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَالرُّكُوبِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ وَرُكُوبَ
دَابَّةِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى
الْإِذْنِ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عن الضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ إذَا قال له دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَهَلَكَتْ
عِنْدِي فقال الْمُقَرُّ له بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي أَنَّهُ إنْ هَلَكَ قبل
التَّصَرُّفِ فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا
في الْإِعَارَةِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ
أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ هِيَ حَالَّةٌ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ على نَفْسِهِ وَدَعْوَى
الْأَجَلِ على الْغَيْرِ فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إلَّا
بِحُجَّةٍ وَيَحْلِفُ الْمُقَرُّ له على الْأَجَلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْأَجَلِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع الْيَمِينِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَقَرَّ
وقال كَفَلْتُ لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ
وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ كَفَلْتَ بها حَالَّةً أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ
الْمُقِرِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ
لِلْمُقِرِّ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَادَةً بِخِلَافِ
الدَّيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى من فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كانت له
عليه وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ
____________________
(7/217)
له
أَنْ يَكُونَ له عليه شَيْءٌ وقال هو مَالِي قَبَضْتَهُ مِنِّي فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
بِالِاقْتِضَاءِ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في
الْأَصْلِ بِالنَّصِّ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ إقْرَارًا بِوُجُودِ
سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ منه فَهُوَ بِدَعْوَةِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ
الِاقْتِضَاءِ يَدَّعِي بَرَاءَتَهُ عن الضَّمَانِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَيَكُونُ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ منه أَلْفَ دِرْهَمٍ كانت عِنْدَهُ
وَدِيعَةً وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ قال أَسْكَنْتُ فُلَانًا بَيْتِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَادَّعَى السَّاكِنُ
أَنَّهُ له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ مع يَمِينِهِ
وَلَوْ قال أَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا منه وقال صَاحِبُهُ هِيَ لي
فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَسْكَنْتُهُ دَارِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ
وَأَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا منه إقْرَارٌ منه بِالْيَدِ لَهُمَا
ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْهُمَا فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّ وَلِهَذَا لو
غَايَبَاهُ سَكَنَ الدَّارَ فَزَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّهُ أَعَارَهُمَا منه لم
يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ليس هو الْيَدُ الْمُطْلَقَةُ
بَلْ الْيَدُ بِجِهَةِ الْإِعَارَةِ وَالسُّكْنَى وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا
ما عُرِفَتْ إلَّا بِإِقْرَارِهِ فَبَقِيَتْ على الْوَجْهِ الذي أَقَرَّ بِهِ
فَيُرْجَعُ في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْيَدِ إلَيْهِ
وَلَوْ أَقَرَّ فقال إنَّ فُلَانًا الْخَيَّاطَ خَاطَ قَمِيصِي بِدِرْهَمٍ
وَقَبَضْتُ منه الْقَمِيصَ وَادَّعَى الْخَيَّاطُ أَنَّهُ له فَهُوَ على هذا
الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَلَوْ قال خَاطَ لي هذا الْقَمِيصَ ولم يَقُلْ قَبَضَهُ منه لم يُؤْمَرُ
بِالرَّدِّ عليه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يقل ( ( ( يقبل ) ) ) قَبْضَهُ
منه لم يُوجَدْ منه الْإِقْرَارُ بِالْيَدِ لِلْخَيَّاطِ لِجَوَازِ أَنَّهُ
خَاطَهُ في بَيْتِهِ فلم تَثْبُتْ يَدُهُ عليه فَلَا يُجْبَرُ على الرَّدِّ
هذا إذَا لم يَكُنْ الدَّارُ وَالثَّوْبُ مَعْرُوفًا له فَإِنْ كان مَعْرُوفًا
لِلْمُقِرِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ
مَعْرُوفًا له كان قَوْلُ صَاحِبِهِ هو لي منه دَعْوَى التَّمَلُّكِ فَلَا تسمع (
( ( يسمع ) ) ) منه إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا سَاكِنٌ في هذا الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ لي وَادَّعَى
ذلك الرَّجُلُ الْبَيْتَ فَهُوَ له وَعَلَى الْمُقِرِّ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِالسُّكْنَى إقْرَارٌ بِالْيَدِ فَصَارَ هو صَاحِبَ يَدٍ فَلَا
يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هذه الْأَرْضَ أو بَنَى هذه الدَّارَ أو
غَرَسَ هذا الْكَرْمَ وَذَلِكَ في يَدَيْ الْمُقِرِّ وَادَّعَى الْمُقَرُّ له
أَنَّهُ له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزَّرْعِ
وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْيَدِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا
في يَدِ الْغَيْرِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا أَنَّ من أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ أَخَذَ
منه هذا الشَّيْءَ في حَالِ الرِّقِّ وهو قَائِمٌ بِعَيْنِهِ وقال الْعَبْدُ لَا
بَلْ أَخَذْتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُؤْمَرُ
بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ
الرَّدِّ وَقَوْلَ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَلْ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ
الْأَخْذَ في الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الرَّدِّ وَالْإِضَافَةُ إلَى
حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فإن الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ كَسْبَ
عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إلَيْهِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِتْلَافِ بِأَنْ قال أَتْلَفْتُ عَلَيْكَ مَالًا وَأَنْتَ
عَبْدِي وقال الْعَبْدُ لَا بَلْ أَتْلَفْتَهُ وأنا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْعَبْدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ إذَا قال الْمَوْلَى قَطَعْتُ يَدَك قبل الْعِتْقِ وقال
الْعَبْدُ لَا بَلْ قَطَعْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ
وَلَوْ تَنَازَعَا في الضَّرِيبَةِ فقال الْمَوْلَى أَخَذْتُ مِنْكَ ضَرِيبَةَ كل
شَهْرٍ كَذَا وَهِيَ ضَرِيبَةُ مِثْلِهِ وقال الْعَبْدُ لَا بَلْ كان بَعْدَ
الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى الْمَوْلَى وَطْءَ الْأَمَةِ قبل الْعِتْقِ وَادَّعَتْ
الْأَمَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَوْلَى يُنْكِرُ
وُجُوبَ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَضَافَ
الضَّمَانَ إلَى حَالِ الرِّقِّ حَيْثُ قال أَتْلَفْتُ وهو رَقِيقٌ وَالرِّقُّ
يُنَافِي الضَّمَانَ إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عليه لِعَبْدِهِ ضَمَانٌ فَكَانَ
مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْعَبْدُ بِقَوْلِهِ أَتْلَفْتَ بَعْدَ الْعِتْقِ
يَدَّعِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عليه وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلِهَذَا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ في الْغَلَّةِ وَالْوَطْءِ وكذا هذا وَجْهُ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
اعْتِبَارَ قَوْلِ الْعَبْدِ يُوجِبُ الضَّمَانَ على الْمَوْلَى لِأَنَّ إتْلَافَ
مَالِ الْحُرِّ يُوجِبُ الضَّمَانَ
وَاعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ
بِالْأَخْذِ وَالْأَخْذُ في الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَالْإِضَافَةُ
إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فإن إتْلَافَ كَسْبِ الْعَبْدِ
الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِلرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ
مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فإذا وُجِدَ الْمُوجِبُ وَانْعَدَمَ الْمَانِعُ بَقِيَ
خَبَرُهُ وَاجِبَ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ
الرقيق ( ( ( الرقيقة ) ) ) لَا يُوجِبُ الضَّمَانِ أَصْلًا
وَكَذَلِكَ أَخْذُ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ الْغَلَّةُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
على الْمَوْلَى فإن الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ ضَرِيبَةَ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
مُسْتَغْرِقٌ ليس لِلْغُرَمَاءِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ على ما مَرَّ في كِتَابِ
الْمَأْذُونِ فَكَانَ الْمَوْلَى بِقَوْلِهِ
____________________
(7/218)
قبل
الْعِتْقِ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع ما أَنَّ
الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْوَطْءِ أَنْ لَا يَكُونَ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ
وَالْأَصْلُ في الْمَنَافِعِ أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ
فَتَرَجَّحَ خَبَرُ الْمَوْلَى بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ له فَكَانَ أَوْلَى
بِالْقَبُولِ كما في الْإِخْبَارِ عن طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ
فَأَمَّا الْأَصْلُ في أَخْذِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْعَبْدِ
وَكَذَلِكَ الْغَلَّةُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ في
الْأَصْلِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم
وَعَلَى هذا إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ أو صَارَ ذِمَّةً فقال له رَجُلٌ
مُسْلِمٌ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ
فقال له الْمُقِرُّ لَا بَلْ أَخَذْتَهُ وأنا مُسْتَأْمَنٌ أو ذِمِّيٌّ في دَارِ
الْإِسْلَامِ وَالْأَلْفُ قَائِمَةٌ بعينها ( ( ( بعينهما ) ) ) فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُقَرِّ له وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ
ولو قال أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفًا فَاسْتَهْلَكْتَهَا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ في دَارِ
الْحَرْبِ أو قال قَطَعْت يَدَك وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ فَعَلْت وأنا
مُسْتَأْمَنٌ أو ذِمِّيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له
وَيَضْمَنُ له الْمُقِرُّ ما قَطَعَ وَأَتْلَفَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَضْمَنُ شيئا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ
لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْوُجُوبِ وَهِيَ حَالَةُ
الْحِرَابِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْعَبْدِ
إذْ الْعِصْمَةُ أَصْلٌ في النُّفُوسِ وَالسُّقُوطُ بِعَارِضِ الْمُسْقِطِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَشْهَدُ له الْأَصْلُ
وَعَلَى هذا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ولم يذكر الْوَزْنَ
يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ في الْأَصْلِ
مَوْزُونَةٌ إلَّا إذَا كان الْإِقْرَارُ في بَلْدَةٍ دَرَاهِمُهَا عَدَدِيَّةٌ
فَيَنْصَرِفُ إلَى الْعَدَدِ الْمُتَعَارَفِ
وكذلك إذَا ذَكَرَ الْعَدَدَ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ
عَدَدًا يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَيَلْغُو ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيَقَعُ
على ما يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ الْبَلَدِ من الْوَزْنِ وهو في دِيَارِنَا
وَخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَزْنُ سَبْعَةٍ وهو الذي يَكُونُ كُلُّ عَشَرَةٍ منها
سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ فَإِنْ كان الْإِقْرَارُ في هذه الْبِلَادِ يَلْزَمُهُ بهذا
الْوَزْنِ وَإِنْ كان الْإِقْرَارُ في بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ فيه بِدَرَاهِمَ
وَزْنُهَا يَنْقُصُ عن وَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ يَقَعُ إقْرَارُهُ على ذلك
الْوَزْنِ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ حتى لو ادَّعَى
وَزْنًا أَقَلَّ من وَزْنِ بَلَدِهِ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَوْ
كان في الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ كما في نَقْدِ
الْبَلَدِ فَإِنْ اسْتَوَتْ يُحْمَلْ على الْأَقَلِّ منها لِأَنَّ الْأَقَلَّ
مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فيها وَالْوُجُوبُ في الذِّمَّةِ أو لم
يَكُنْ وَالْوُجُوبُ في أَقَلِّهِ لم يَكُنْ فَمَتَى وَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِهِ
فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ
وَلَوْ سَمَّى زِيَادَةً على وَزْنِ الْبَلَدِ أو أَنْقَصَ منه بِأَنْ قال
لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ إنْ كان مَوْصُولًا يُقْبَلْ
وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ
الظَّاهِرِ فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ الْمَوْصُولَ وَلَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ
لِانْصِرَافِ الْأَفْهَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى وَزْنِ الْبَلَدِ فَكَانَ
الْإِخْبَارُ عن غَيْرِهِ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ يَلْزَمُهُ ذلك
لِأَنَّهُ زَادَ على الْوَزْنِ الْمَعْرُوفِ وهو غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ
على نَفْسِهِ بِالزِّيَادَةِ فَيُقْبَلُ منه
وَلَوْ أَقَرَّ وهو بِبَغْدَادَ فقال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ
طَبَرِيَّةٍ يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ لَكِنْ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ
لِأَنَّ قَوْلَهُ طَبَرِيَّةٍ خَرَجَ وَصْفًا لِلدَّرَاهِمِ أَيْ دَرَاهِمَ
مَنْسُوبَةٍ إلَى طَبَرِسْتَانَ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ وَزْنِ للبلد ( ( ( البلد
) ) )
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ وَالْمُقِرُّ
بِبَغْدَادَ يَلْزَمُهُ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ لَكِنْ بِكَيْلِ بَغْدَادَ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ شَامِيٌّ أو كُوفِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُعْطِيَهُ دِينَارًا وَاحِدًا وَزْنُهُ مِثْقَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ
دِينَارَيْنِ وَزْنُهُمَا جميعا مِثْقَالٌ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ أَنَّهُ إذَا
أَعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ صَغِيرَيْنِ مَكَانَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ أَنَّهُ
يُجْبَرُ على الْقَبُولِ
كَذَا ذَكَرَ في الْكِتَابِ وكان في عُرْفِهِمْ أَنَّ الدِّينَارَ إذَا كان
نَاقِصَ الْوَزْنِ يَكُونُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ
فَكَانَ نُقْصَانُ الْوَزْنِ فيه وَضِيعَةً
كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْوَزْنُ وَالْعَدَدُ جميعا وفي الدَّرَاهِمِ بِخِلَافٍ
فَأَمَّا في عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْعِبْرَةُ لِلْوَزْنِ فَسَوَاءٌ أَعْطَاهُ
دِينَارًا وَاحِدًا أو دِينَارَيْنِ يُجْبَرُ على الْقَبُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
وَزْنُهُمَا مِثْقَالًا
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فَهُوَ بِقَفِيزِ الْبَلَدِ
وَكَذَلِكَ الْأَوْقَارُ وَالْأَمْنَانُ لِمَا قُلْنَا في الدَّرَاهِمِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَأَنَّهُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من
أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ
بين عَدَدَيْنِ فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أو
دَنَانِيرُ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ
الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَكَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وفي الزِّيَادَةِ عليها شَكٌّ
وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ لَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ
____________________
(7/219)
أو
دُنَيْنِيرٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ تَامٌّ وَدِينَارٌ كَامِلٌ لِأَنَّ التَّصْغِيرَ
له قد يُذْكَرُ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وقد يُذْكَرُ لِاسْتِحْقَارِ الدِّرْهَمِ
وَاسْتِقْلَالِهِ وقد يُذْكَرُ لِنُقْصَانِ الْوَزْنِ فَلَا يَنْقُصُ عن الْوَزْنِ
بِالشَّكِّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ من دَرَاهِمَ أو
شَيْءٌ من الدَّرَاهِمِ أَنَّ عليه ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ
الشَّيْءَ وَفَسَّرَهُ بِدَرَاهِمَ أَيْ الشَّيْءِ الذي هو دَرَاهِمُ كما في
قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ من الْأَوْثَانِ } أَيْ
الرِّجْسِ التي هِيَ أَوْثَانٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من
سِتَّةٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ لِلدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلُّ
التَّضْعِيفِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فإذا ضَعَّفْنَا الثَّلَاثَةَ مَرَّةً تَصِيرُ
سِتَّةً
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أضاعفا ( ( ( أضعافا ) ) ) مُضَاعَفَةً
لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ
الدَّرَاهِمَ الْمُضَاعَفَةَ سِتَّةٌ وَأَقَلُّ أَضْعَافِ السِّتَّةِ ثلاثة ( ( (
ثلاث ) ) ) مَرَّاتٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً لَا
يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وَضَاعَفَ عليها أَضْعَافَهَا مُضَاعَفَةً وَأَقَلُّ أَضْعَافِ الْعَشَرَةِ
ثَلَاثُونَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ وَأَقَلُّ تَضْعِيفِ الْأَرْبَعِينَ مَرَّةٌ
فَذَلِكَ ثَمَانُونَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَنَّ عليه
أَلْفَيْنِ وَلَوْ قال غَيْرُ أَلْفَيْنِ عليه أَرْبَعَةُ آلَافٍ لِأَنَّ غير من
أَسْمَاءِ الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي ما يُغَايِرُهُ لِاسْتِحَالَةِ مُغَايَرَةِ
الشَّيْءِ نَفْسَهُ فَاقْتَضَى أَلْفًا تُغَايِرُ الْأَلْفَ الذي عليه فَصَارَ
مَعْنَاهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ غَيْرُ هذا الْأَلْفِ آخَرُ
فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ
وَكَذَا هذا الِاعْتِبَارُ في قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ قَوْلُهُ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ مِثْلُ أَلْفٍ لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ من
لَوَازِمِ الْمُمَاثَلَةِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُمَاثِلًا لِنَفْسِهِ
وَلِهَذَا قِيلَ في حَدِّهَا غير أَنْ يَنُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ
صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَالْمُلَازَمَةُ بين شَيْئَيْنِ طَرِيقُ
الْكِتَابَةِ فَصَحَّتْ الْكِتَابَةُ عن الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُغَايَرَةِ فإذا قال
لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ قال مِثْلُ أَلْفٍ
وَمِثْلُ الْأَلْفِ أَلْفٌ مِثْلُهُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ
وَكَذَا هذا الِاعْتِبَارُ في قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ زُهَاءُ أَلْفٍ أو عِظَمُ أَلْفٍ أو جُلُّ أَلْفٍ فَعَلَيْهِ
خَمْسُمِائَةٍ وَشَيْءٌ لِأَنَّ هذه عِبَارَاتٌ عن أَكْثَرِ هذا الْقَدْرِ في
الْعُرْفِ
وَكَذَا إذَا قال قَرِيبٌ من أَلْفٍ لِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ وَشَيْئًا أَقْرَبُ
إلَى الْأَلْفِ من خَمْسِمِائَةِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ
وما دُونَ الْمِائَتَيْنِ في حَدِّ الْقِلَّةِ وَلِهَذَا لم يُعْتَبَرْ ما دُونَهُ
نِصَابُ الزَّكَاةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ جَعَلَ الْكَثْرَةَ صِفَةً
لِلدَّرَاهِمِ وَأَكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ فيه اسْمُ الدَّرَاهِمِ الْعَشَرَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا زَادَ على الْعَشَرَةِ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا
وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا هَكَذَا وَلَا يُقَالُ دَرَاهِمُ فَكَانَتْ
الْعَشَرَةُ أَكْثَرَ ما يُسْتَعْمَلُ فيه اسْمُ الدَّرَاهِمِ فَلَا تَلْزَمُهُ
الزِّيَادَةُ عليها
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ أو كَثِيرٌ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ
من مِائَتَيْ دِرْهَمٍ في الْمَشْهُورِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عليه عَشَرَةً
وَجْهُ ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ وَصَفَ الْمَالَ بِالْعِظَمِ وَالْعَشَرَةُ لها
عِظَمٌ في الشَّرْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَّقَ قَطْعَ الْيَدِ بها في بَابِ السَّرِقَةِ وَقَدَّرَ
بها بَدَلَ الْبُضْعِ وهو الْمَهْرُ في بَابِ النِّكَاحِ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُسْتَعْظَمُ في الْعُرْفِ
وَإِنَّمَا يُسْتَعْظَمُ النِّصَابُ وَلِهَذَا اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ
عَلَّقَ وُجُوبَ الْمُعْظَمِ وهو الزَّكَاةُ بِهِ فَكَانَ هذا أَقَلَّ ما
اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ عُرْفًا فَلَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ذلك
وَقِيلَ إنْ كان الرَّجُلُ غَنِيَّا يَقَعُ على ما يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ
الْأَغْنِيَاءِ وَإِنْ كان فَقِيرًا يَقَعُ على ما يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ
الْفُقَرَاءِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَعَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ
عِظَامٌ جَمْعُ عَظِيمٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا على
الْمَشْهُورِ من الرِّوَايَاتِ
فَأَمَّا على ما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَيَقَعُ على ثَلَاثِينَ
دِرْهَمًا
وَلَوْ قال غَصَبْت فُلَانًا إبِلًا كَثِيرَةً فَهُوَ على خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِالْكَثْرَةِ وَلَا تَكْثُرُ إلَّا إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا
تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها في جِنْسِهَا وَأَقَلُّ ذلك خَمْسٌ وَعِشْرُونَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ حِنْطَةٌ كَثِيرَةٌ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ الْبَيَانُ إلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من خَمْسَةِ
أَوْسُقٍ بِنَاءً على أَنَّ النِّصَابَ في بَابِ الْعَشْرِ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ما بين مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ أو من مِائَةٍ إلَى
مِائَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عليه مِائَتَانِ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه تِسْعَةٌ
وَتِسْعُونَ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ما بين دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أو من
دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ فَعَلَيْهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا
____________________
(7/220)
عليه
عَشَرَةٌ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه ثَمَانِيَةٌ
وَلَوْ قال ما بين هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لِفُلَانٍ لم يَدْخُلْ الْحَائِطَانِ
في إقْرَارِهِ بِالْإِجْمَاعِ وكذلك لو وَضَعَ بين يَدَيْهِ عَشَرَةً مُرَتَّبَةً
فقال ما بين هذا الدِّرْهَمِ إلَى هذا الدِّرْهَمِ وَأَشَارَ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ
لِفُلَانٍ لم يَدْخُلْ الدِّرْهَمَانِ تَحْتَ إقْرَارِهِ بِالِاتِّفَاقِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلَانِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ الْأَوَّلُ دُونَ الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ما ضُرِبَتْ بِهِ الْغَايَةُ لَا
الْغَايَةُ فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ
وَهُنَا لم يَدْخُلْ في بَابِ الْبَيْعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمَا غَايَتَيْنِ فَلَا بُدَّ من
وُجُودِهِمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهِمَا لُزُومُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإن من
تَكَلَّمَ بِمِثْلِ هذا الْكَلَامِ يُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْغَايَةِ الْأُولَى
دُونَ الثَّانِيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ سِنُّ فُلَانٍ ما بين
تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ دُخُولُ الْمِائَةِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ما بين كُرِّ شَعِيرٍ إلَى كُرِّ حِنْطَةٍ
فَعَلَيْهِ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ 8 حِنْطَةٍ إلَّا قَفِيزًا على قِيَاسِ قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا عليه كُرَّانِ وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ من
دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أو من دِينَارٍ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ
دَرَاهِمَ تُجْعَلُ الْغَايَةُ الْأَخِيرَةُ من أَفْضَلِهِمَا وَعِنْدَهُمَا عليه
خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه من كل جِنْسٍ
أَرْبَعَةٌ
وَلَوْ قال له عَلَيَّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ عليه
عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَكَذَلِكَ لو قال له عَلَيَّ من عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
قَدَّمَ أو أَخَّرَ وَعِنْدَهُمَا عليه الْكُلُّ
وَكَذَلِكَ هذا الِاخْتِلَافُ في الْوَصِيَّةِ وَالطَّلَاقِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ في خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَنَوَى
الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ وقال زُفَرُ عليه خَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ خَمْسَةً في خَمْسَةٍ على طَرِيقِ الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ
خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَلْزَمُهُ ذلك
وَلَنَا أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَكَثَّرُ في نَفْسِهِ بِالضَّرْبِ وَإِنَّمَا
يَتَكَثَّرُ بِأَجْزَائِهِ فَخَمْسَةٌ في خَمْسَةٍ له خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ
فَيَلْزَمُهُ ذلك بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ نَوَى بِهِ خَمْسَةً مع خَمْسَةٍ
فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ لِأَنَّ في تَحْتَمِلُ مع لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا في
مَعْنَى الِاتِّصَالِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ في قَوْصَرَّةٍ فَعَلَيْهِ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ
جميعا
وَكَذَلِكَ إذَا قال غَصَبْت من فُلَانٍ ثَوْبًا في مِنْدِيلٍ يَلْزَمُهُ
الثَّوْبُ وَالْمِنْدِيلُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الظَّرْفُ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ في إصْطَبْلٍ لَا
يَلْزَمُهُ الْإِصْطَبْلُ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ
الْإِقْرَارِ التَّمْرُ وَالثَّوْبُ لَا الْقَوْصَرَّةُ وَالْمِنْدِيلُ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك ظَرْفًا فَالْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ في ظَرْفِهِ لَا يَكُونُ
إقْرَارًا بِهِ وَبِظَرْفِهِ كَالْإِقْرَارِ بِدَابَّةٍ في الْإِصْطَبْلِ
وَبِنَخْلَةٍ في الْبُسْتَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِصْطَبْلِ
وَالْبُسْتَانِ
وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالتَّمْرِ في قَوْصَرَّةٍ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ
وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ في
مِنْدِيلٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُغْصَبُ مع الْمِنْدِيلِ الْمَلْفُوفِ فيه عَادَةً
وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مع الْقَوْصَرَّةِ
وَأَمَّا غَصْبُ الدَّابَّةِ مع الْإِصْطَبْلِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ مع ما أَنَّ
الْعَقَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْغَصْبَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ثَوْبٌ في ثَوْبٍ فَعَلَيْهِ
ثَوْبَانِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال ثَوْبٌ في عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَيْسَ عليه إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ
عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه أَحَدَ عَشَرَ
ثَوْبًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَعَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ
ظَرْفًا لِثَوْبٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ بِأَنْ يَكُونَ في وَسَطِ
الْعَشَرَةِ فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ بِثَوْبٍ في مِنْدِيلٍ أو في ثَوْبٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ
مُعْتَادٍ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ لِلْمُعْتَادِ هذا إذَا ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا
مُجْمَلًا فَإِنْ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مَعْلُومًا لَكِنْ أَضَافَهُ إلَى
صِنْفَيْنِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أو
كُرَّا حِنْطَةٍ وشعيرا ( ( ( وشعير ) ) ) فَلَهُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
النِّصْفُ
وَكَذَلِكَ لو سَمَّى أَجْنَاسًا ثَلَاثَةً فَعَلَيْهِ من كل وَاحِدٍ الثُّلُثُ
وَكَذَلِكَ لو تَزَوَّجَ على ذلك لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَأَضَافَهُ
إلَى عَدَدَيْنِ من غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَكُونُ
حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على السَّوَاءِ كما إذَا أَضَافَهُ إلَى شَخْصٍ
وَاحِدٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِرَجُلَيْنِ فإن لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا النِّصْفَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال اسْتَوْدَعَنِي ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُقِرِّ إنْ شَاءَ جَعَلَ زُطِّيَّيْنِ وَيَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ
جَعَلَ يَهُودِيَّيْنِ وَزُطِّيًّا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَثْوَابَ الثَّلَاثَةَ من
جِنْسِ الزُّطِّيِّ وَالْيَهُودِيِّ فَيَكُونُ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ مُرَادًا
بِيَقِينٍ فَكَانَ الْبَيَانُ في الْآخَرِ إلَيْهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ
فيه
وَلَوْ قال اسْتَوْدَعَنِي عَشَرَةَ أَثْوَابٍ هَرَوِيَّةٍ وَمَرْوِيَّةٍ كان من
كل صِنْفٍ النِّصْفُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا مُمْكِنٌ
وَأَمَّا إذَا جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ جَمَعَ بين
عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ وَإِمَّا أن أَجْمَلَ
____________________
(7/221)
أَحَدَهُمَا
وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَإِنْ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ بِأَنْ قال
لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وكذا دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَحَدَ
عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَجَعَلَهُمَا
اسْمًا وَاحِدًا من غَيْرِ حَرْفِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَحَدَ عَشَرَ
وَاثْنَيْ عَشَرَ هَكَذَا إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ إلَّا أَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ
يُعَبَّرُ عنه بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَحَدَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ عليه لِكَوْنِهِ
مُتَيَقَّنًا بِهِ وَيَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ فَسَّرَ هذا
الْعَدَدَ بِالدَّرَاهِمِ لَا بِغَيْرِهَا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ
من إحْدَى وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ
بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا وَأَقَلُّ ذلك إحْدَى
وَعِشْرُونَ
وَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ
لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنَيِّفٌ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ في النَّيِّفِ من دِرْهَمٍ أو أَكْثَرَ أو أَقَلَّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ
عن مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ بِضْعٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ في
بَيَانِ الْبِضْعِ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْبِضْعَ في
اللُّغَةِ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ من الْعَدَدِ وفي عُرْفِ اللُّغَةِ يُسْتَعْمَلُ في
الثَّلَاثَةِ إلَى التِّسْعَةِ فَيُحْمَلُ على أَقَلِّ الْمُتَعَارَفِ لِأَنَّهُ
مُتَيَقَّنٌ بِهِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَدَانِقٌ أو قيراط ( ( ( قيراطا
) ) ) فَالدَّانِقُ وَالْقِيرَاطُ من الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن جُزْءٍ
من الدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَسُدُسٌ وَلَوْ قال
لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَالْمِائَةُ دَرَاهِمُ
وَلَوْ قال مِائَةٌ وَدِينَارٌ فَالْمِائَةُ دَنَانِيرُ وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ
عليه من جِنْسِ الْمَعْطُوفِ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
في الْمِائَةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْمِائَةَ وَعَطَفَ الدِّرْهَمَ عليها
فَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفُهُ على حَسَبِ ما أَوْقَعَهُ فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ
وَالْقَوْلُ في الْمُبْهَمِ قَوْلُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَيْ
مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ هذا مَعْنَى هذا في عُرْفِ الناس إلَّا أَنَّهُ
حَذَفَ الدِّرْهَمَ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ على ما عليه عَادَةُ الْعَرَبِ من
الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ في الْكَلَامِ
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَشَاةٌ فَالْمِائَةُ من الشِّيَاهِ
عليه تعرف الناس
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ على مِائَةٌ وَثَوْبٌ فَعَلَيْهِ ثَوْبٌ وَالْقَوْلُ في
الْمِائَةِ قَوْلُهُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا لَا يُسْتَعْمَلُ في بَيَانِ كَوْنِ
الْمَعْطُوفِ عليه من جِنْسِ الْمَعْطُوفِ فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ مُجْمَلَةً
فَكَانَ الْبَيَانُ فِيمَا أَجْمَلَ عليه
وَكَذَلِكَ إذَا قال مِائَةٌ وَثَوْبَانِ
وَلَوْ قال مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ ثِيَابٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ
مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْمَلٌ
وَقَوْلُهُ أَثْوَابٌ يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لَهُمَا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُمَا
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ
عَشَرَةٌ وَعَبْدٌ أَنَّ عليه عبد ( ( ( عبدا ) ) ) وَالْبَيَانُ في الْعَشَرَةِ
إلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَوَصِيفَةٌ أَنَّ عليه وَصِيفَةً
وَالْبَيَانُ في الْعَشَرَةِ إلَيْهِ
وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ في مَجْلِسٍ ثُمَّ أَقَرَّ له بِأَلْفٍ أُخْرَى
نُظِرَ في ذلك فَإِنْ أَقَرَّ له في مَجْلِسٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عليه أَلْفٌ
وَاحِدَةٌ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
أَيْضًا وَإِنْ أَقَرَّ له في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَهُمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّ
عليه أَلْفًا وَاحِدًا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ذُكِرَ عن الْكَرْخِيُّ أَنَّ عليه أَلْفَيْنِ
وَذُكِرَ عن الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عليه أَلْفًا وَاحِدًا وهو الصَّحِيحُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَادَةَ بين الناس بِتَكْرَارِ
الْإِقْرَارِ بِمَالٍ وَاحِدٍ في مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِتَكْثِيرِ
الشُّهُودِ كما جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِيَفْهَمَ
الشُّهُودُ فَلَا يُحْمَلُ على إنْشَاءِ الْإِقْرَارِ مع الشَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَلْفَ الْمَذْكُورَ في الْإِقْرَارِ
الثَّانِي غَيْرُ الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ في الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ من الْأَلْفَيْنِ مُنَكَّرًا
وَالْأَصْلُ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا كُرِّرَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرُ
الْأَوَّلِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فإن مع الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مع
الْعُسْرِ يُسْرًا } حتى قال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ
إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هذا الْأَصْلَ في الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ لِلْعَادَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا يَعُمُّ
الْأَقَارِيرَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ
إقْرَارُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ
فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالدَّيْنِ
وَالْعَيْنِ لِأَنَّ ذلك من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ
الْمَأْذُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ من
التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْقَبُولُ من
الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ ولم يُوجَدْ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ
إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا في
كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ
على الْمَوْلَى لِلْحَالِ حتى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ
____________________
(7/222)
الْمَأْذُونِ
لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ إنَّمَا صَحَّ لِكَوْنِهِ من ضَرُورَاتِ
التِّجَارَةِ على ما ذُكِرَ في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَالْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ ما هو من ضرورواتها ( (
( ضروراتها ) ) ) إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ حتى
يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ
الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ على الْمَوْلَى
لِلْحَالِ لِحَقِّهِ فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ
وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ
لِأَنَّ نَفْسَهُ في حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عن مِلْكِ
الْمَوْلَى
وَلِهَذَا لو أَقَرَّ الْمَوْلَى عليه بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ
وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْمَرَضُ ليس
بِمَانِعٍ حتى يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ
إقْرَارِ الصَّحِيحِ يرجحان ( ( ( برجحان ) ) ) جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ
الْكَذِبِ وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ على الصِّدْقِ فَكَانَ إقْرَارُهُ أَوْلَى
بِالْقَبُولِ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ في
الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا في إقْرَارِهِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ
بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في إقْرَارِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ
الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ شَهَادَةٌ قال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ على
أَنْفُسِكُمْ } وَالشَّهَادَةُ على نَفْسِهِ إقْرَارٌ دَلَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ
شَهَادَةٌ وَأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ وَفُرُوعُ هذه الْمَسَائِلِ تَأْتِي في
خِلَالِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الطَّوْعُ حتى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمُكْرَهِ لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الْإِكْرَاهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حتى لو قال رَجُلَانِ لِفُلَانٍ على
وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ مَعْلُومًا
لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ له من الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ في هذا
الْإِقْرَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ
وَكَذَلِكَ إذَا قال أَحَدُهُمَا غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا وَكَذَلِكَ إذَا قال
وَاحِدٌ مِنَّا زَنَى أو سَرَقَ أو شَرِبَ أو قَذَفَ لِأَنَّ من عليه الْحَدُّ
غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ وَأَمَّا الذي يَخُصُّ بَعْضَ
الْأَقَارِيرِ دُونَ الْبَعْضِ فَمَعْرِفَتُهُ مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ
أَنْوَاعِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى
إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
عز شَأْنُهُ
وَالثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ
أَمَّا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا
أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وهو حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ
وَالشُّرْبِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فيه حَقٌّ وهو حَدُّ الْقَذْفِ وَلِصِحَّةِ
الْإِقْرَارِ بها شَرَائِطُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْحُدُودِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَالُ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ
لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بها ما يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ ما ذَكَرْنَا من الْعَدَدِ ويجلس ( ( ( ومجلس ) ) )
الْقَضَاءِ وَالْعِبَارَةِ حتى إنَّ الْأَخْرَسَ إذَا كَتَبَ الْإِقْرَارَ بيده أو
أَوْمَأَ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ
بِخِلَافِ الذي اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لِأَنَّ لِلْأَخْرَسِ إشَارَةً مَعْهُودَةً
فإذا أتى بها يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَيْسَ ذلك لِمَنْ
اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ
أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ أَصْلِيٌّ
فَأَمَّا اعْتِقَالُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ من بَابِ الضَّرُورَةِ لِكَوْنِهِ على
شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذلك إقْرَارًا
بِالْحُدُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مبني الْحُدُودِ على صَرِيحِ الْبَيَانِ
بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فإنه غَيْرُ مَبْنِيِّ على صَرِيحِ الْبَيَانِ فإنه إذَا
أَقَرَّ مُطْلَقًا عن صِفَةِ التَّعَمُّدِ بِذِكْرِ آلَةٍ دَالَّةٍ عليه وَهِيَ
السَّيْفُ وَنَحْوُهُ يستوفي بمثله الْقِصَاصُ
وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بها الصَّحْوُ حتى يَصِحَّ
إقْرَارُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ في حَقِّ الْمُقَرِّ له أَنَّهُ غَيْرُ
صاحي ( ( ( صاح ) ) ) أو لِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَقْلُهُ قَائِمًا في حَقِّ هذه
التَّصَرُّفَاتِ فَيُلْحَقُ فيها بِالصَّاحِي مع زَوَالِهِ حَقِيقَةً عُقُوبَةً
عليه وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مع الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى لَكِنْ الشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَاد
نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ له وَنَوْعٌ رجع ( ( ( يرجع ) ) ) إلَى
الْمُقَرِّ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ له فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ
مَعْلُومًا مَوْجُودًا كان أو حَمْلًا حتى لو كان مَجْهُولًا بِأَنْ قال لِوَاحِدٍ
من الناس عَلَيَّ أو لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ أَحَدٌ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ حتى لو عَيَّنَ
وَاحِدًا بِأَنْ قال عَنَيْت بِهِ فُلَانًا يَصِحُّ
وَلَوْ قال لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَيَّنَ جِهَةً
يَصِحُّ وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْحَمْلِ من تِلْكَ الْجِهَةِ بِأَنْ قال الْمُقِرُّ
أَوْصَى بها فُلَانٌ له أو مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ
الْحَقَّ يَجِبُ له من هذه الْجِهَةِ فَكَانَ صَادِقًا في إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ
وَإِنْ أَجْمَلَ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ إقْرَارَ الْعَاقِلِ يَجِبُ حَمْلُهُ على
الصِّحَّةِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ على إقْرَارِهِ على جِهَةٍ
مُصَحِّحَةٍ له وَهِيَ ما ذَكَرْنَا فَوَجَبَ
____________________
(7/223)
حَمْلُهُ
عليه
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُبْهَمَ له جِهَةُ الصِّحَّةِ
وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ إنْ كان يَصِحُّ بِالْحَمْلِ على الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثُ
يَفْسُدُ بِالْحَمْلِ على الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَلَا يَصِحُّ مع
الشَّكِّ مع ما أَنَّ الْحَمْلَ في نَفْسِهِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ
وَالشَّكُّ من وَجْهٍ وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ
أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا أَقَرَّ لِلْحَمْلِ أَمَّا إذَا أَقَرَّ بِالْحَمْلِ بِأَنْ أَقَرَّ
بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أو بِحَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ أَيْضًا لِأَنَّ حَمْلَ
الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ في الذِّمَّةِ بِأَنْ
أَوْصَى له بِهِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ فَأَقَرَّ بِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ
وَالدَّيْنِ فَشَرْطُ صِحَّةِ الْفَرَاغِ عن تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ كان
مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ لم يَصِحَّ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ
مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ من غَيْرِ رِضَاهُ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ
وَقْتِ التَّعَلُّقِ وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ
أَمَّا وَقْتُ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ فما دَامَ
الْمَدْيُونُ صَحِيحًا فَالدَّيْنُ في ذِمَّتِهِ فإذا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ
يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ أَيْ يَتَعَيَّنُ فيها وَيَتَحَوَّلُ من الذِّمَّةِ
إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا
بِالْمَوْتِ فإذا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَضَ كان مَرَضَ
الْمَوْتِ من وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَلُّقَ يَثْبُتُ من ذلك
الْوَقْتِ وَبَيَانُ ذلك الْوَقْتِ بِبَيَانِ حُكْمِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ
وَالصَّحِيحِ وما يَفْتَرِقَانِ فيه وما يَتَّصِلُ بِهِ وما يَسْتَوِيَانِ فيه
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ
إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ من
غَيْرِهِ
فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إما أن أَقَرَّ بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أو لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِوَارِثٍ
فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جِهَةَ الصِّحَّةِ
لِلْإِقْرَارِ هِيَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ
وَهَذَا في الْوَارِثِ مِثْلُ ما في الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يُقْبَلُ إقْرَارُ
الْأَجْنَبِيِّ كَذَا الْوَارِثِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِهِ سَيِّدِنَا عبد اللَّهِ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا إذا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لم
يَجُزْ وإذا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ
ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ
في هذا الْإِقْرَارِ لِجَوَازِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ على بَعْضٍ
بِمَيْلِ الطَّبْعِ أو بِقَضَاءِ حَقٍّ مُوجِبٍ لِلْبَعْثِ على الْإِحْسَانِ وهو
لَا يَمْلِكُ ذلك بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ فَأَرَادَ تَنْفِيذَ
غَرَضِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوَارِثِ عليه دَيْنٌ
فَكَانَ مُتَّهَمًا في إقْرَارِهِ فَيُرَدُّ وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ
الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ
أَنْ يَتَبَرَّعَ عليه بِشَيْءٍ من الثُّلُثِ مع ما أَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا
حَقَّ لِأَجْنَبِيٍّ فيه فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْبَعْضِ إبْطَالًا لِحَقِّ
الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِمْ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لم تَجُزْ
لِوَارِثٍ فَالْإِقْرَارُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لو جَازَ الْإِقْرَارُ لَارْتَفَعَ
بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى الْإِقْرَارِ اخْتِيَارًا
لِلْإِيثَارِ بَلْ هو أَوْلَى من الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ
بِالْوَصِيَّةِ إلَّا الثُّلُثُ وَبِالْإِقْرَارِ يَذْهَبُ جَمِيعُ الْمَالِ
فَكَانَ إبْطَالُ الْإِقْرَارِ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِوَارِثٍ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَوَانِعِ
مُنْعَدِمَةٌ في إقْرَارِهِ
هذا إذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ في حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ من جَمِيعِ
التَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا في الثُّلُثِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ مُتَعَلِّقٌ
وَلِهَذَا لم يَمْلِكْ التَّبَرُّعَ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ لَكِنَّا تَرَكْنَا
الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ
وهو ما رُوِيَ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّهُ قال
إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ ذلك من جَمِيعِ تَرِكَتِهِ
ولم يُعْرَفْ له فيه من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخَالِفٌ
فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ في الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ
مُتَّهَمٍ فَيَصِحُّ
وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِلْأَجْنَبِيِّ من جَمِيعِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ
تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ في حَالَةِ الصِّحَّةِ بَلْ الدَّيْنُ في
الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ حَالَةَ الْمَرَضِ
وَكَذَا لو أَقَرَّ الصَّحِيحُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ
بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ جَازَ عليه كُلُّهُ لِأَنَّ حالة ( ( ( حال ) ) )
الصِّحَّةِ حَالُ الْإِطْلَاقِ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِلْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا
الِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أو لِلتُّهْمَةِ وَكُلُّ ذلك
هَهُنَا مُنْعَدِمٌ وَيَسْتَوِي فيه الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ لِحُصُولِ
الْكُلِّ في حَالَةِ الْإِطْلَاقِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ
أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ جَازَ ذلك كُلُّهُ وَاسْتَوَى فيه الْمُتَقَدِّمُ
وَالْمُتَأَخِّرُ اسْتِوَاءَ الْكُلِّ في التَّعَلُّقِ لِاسْتِوَائِهِمَا في
زَمَانِ التَّعَلُّقِ وهو زَمَانُ الْمَرَضِ إذْ زَمَنُ الْمَرَضِ مع امْتِدَادِهِ
بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ زَمَانٍ وَاحِدٍ في الْحُكْمِ
فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ
وَلَوْ أَقَرَّ وهو مَرِيضٌ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّ هذا
الشَّيْءَ الذي في يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهُمَا دَيْنَانِ وَلَا تُقَدَّمُ
____________________
(7/224)
الْوَدِيعَةُ
لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ قد صَحَّ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ
بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً له من حَيْثُ الظَّاهِرِ وَالْإِقْرَارُ
بالوديعة لَا يُبْطِلُ التَّعَلُّقَ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يُصَانُ عن
الْإِبْطَالِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذلك إقْرَارًا بِالدَّيْنِ
لِإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ
عليه وإذا صَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَالْإِقْرَارُ
بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ كَانَا
دَيْنَيْنِ
وَلَوْ أَقَرَّ بالوديعة أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ
بالوديعة أَوْلَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بالوديعة لَمَّا صَحَّ خَرَجَتْ
الْوَدِيعَةُ من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّعَلُّقِ لِخُرُوجِهَا عن مِلْكِهِ
فَلَا يَثْبُتُ التَّعَلُّقُ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ المرض ( ( (
المريض ) ) ) يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَا بِغَيْرِهَا ولم يُوجَدْ
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِمَالٍ في يَدِهِ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ أو
مُضَارَبَةٌ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
هذا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عليه دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ
في حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ
فَأَمَّا إذَا كان عليه دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ ثُمَّ
أَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ نُظِرَ في ذلك فَإِنْ لم يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا
مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الظَّاهِرَةُ لِغُرَمَاءِ
الصِّحَّةِ في الْقَضَاءِ فَتُقْضَى دُيُونُهُمْ أَوَّلًا من التَّرِكَةِ فما
فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَوِيَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ غَرِيمَ الْمَرَضِ مع غَرِيمِ الصِّحَّةِ اسْتَوَيَا في
سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا كان سَبَبًا
لِظُهُورِ الْحَقِّ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ
وَحَالَةُ الْمَرَضِ أَدَلُّ على الصِّدْقِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَدَارَكُ
الْإِنْسَانُ فيها ما فَرَّطَ في حَالَةِ الصِّحَّةِ فإن الصِّدْقَ فيها أَغْلَبُ
فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ في حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ لم
يُوجَدْ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِ وَدَلِيلُ ذلك أَنَّ الشَّرْطَ فَرَاغُ الْمَالِ
عن تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا ولم يُوجَدْ لِأَنَّ حَقَّ
غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ من أَوَّلِ الْمَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ
لو تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ من مَالِهِ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ
حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لَنَفَذَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كان التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا
من الْأَصْلِ في مَحَلٍّ هو خَالِصُ مِلْكِهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ في مِثْلِهِ
النَّفَاذُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ على تَعَلُّقِ النَّفَاذِ وإذا ثَبَتَ
التَّعَلُّقُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْفَرَاغُ الذي هو شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ في
حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ
وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ سِوَى إقْرَارِهِ كان مُتَّهَمًا في هذا
الْإِقْرَارِ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له ضَرْبُ
عِنَايَةٍ في حَقِّ شَخْصٍ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أو
بَيْنَهُمَا حُقُوقٌ تَبْعَثُهُ على الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَةِ في حَقِّهِ وَلَا
يَمْلِكُ ذلك بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيُرِيدُ بِهِ تَحْصِيلَ مُرَادِهِ
بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ مُتَّهَمًا في حَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ
الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عليه دَيْنٌ
فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ بِالتُّهْمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِعَبْدِهِ في يَدِهِ
أَنَّهُ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ
وَكَانُوا أَحَقَّ بِالْغُرَمَاءِ من الذي أَقَرَّ له لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ
مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَبْدِ لِمَا
بَيَّنَّا وكان الْإِقْرَارُ بِالْعَبْدِ لِفُلَانٍ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ فَلَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّهِمْ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا
بِغَيْرِ إقْرَارِهِ
فَأَمَّا إذَا كان بِأَنْ كان بَدَلًا عن مَالٍ مَلَكَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ
وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أو بَدَلًا عن مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
دَيْنِ الصِّحَّةِ وَيُقَدَّمَانِ جميعا على دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا كان
ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لم يَحْتَمِلْ الرَّدَّ فَيَظْهَرُ
وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ من أَوَّلِ الْمَرَضِ
وَكَذَا إذَا كان ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَا يُتَّهَمُ في
إقْرَارِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً في مَرَضِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ
مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ ذلك على غُرَمَاءِ الصِّحَّة وَالْمَرْأَةُ
تحاصصهم ( ( ( تخاصمهم ) ) ) بِمَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ وَلَا
يَجُوزُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ كان وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا لِظُهُورِ
سَبَبِ وُجُوبِهِ وهو النِّكَاحُ فلم يَكُنْ وُجُوبُهُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ
فَيَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ ضَرُورَةً
يُحَقِّقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا لم يَجُزْ بِدُونِ وُجُوبِ الْمَهْرِ
وَالنِّكَاحُ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ
الْمَهْرِ الذي هو من لَوَازِمِهِ شَرْعًا وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عن
صَرْفِ مَالِهِ إلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ
وَالْأَدْوِيَةِ وَإِنْ كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ
وَلِلصَّحِيحِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ على بَعْضٍ حتى أَنَّهُ لو قَضَى
دَيْنَ أَحَدِهِمْ لَا يُشَارِكُهُ فيه الْبَاقُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ
الدَّيْنَ في حَالَةِ الصِّحَّةِ لم يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ بَلْ هو في الذِّمَّةِ
فَلَا يَكُونُ في إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ
يُقِرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فما قَبَضَ أَحَدُهُمَا منه شيئا كان
لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فيه لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ
الْمَقْبُوضُ على الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ
غُرَمَائِهِ على بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الْمَرَضِ أو غُرَمَاءَ
الصِّحَّةِ حتى أَنَّهُ لو قَضَى
____________________
(7/225)
دَيْنَ
أَحَدِهِمْ شَارَكَهُ الْبَاقُونَ في الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ
تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالتَّرِكَةِ وَحُقُوقُهُمْ في التَّعَلُّقِ على السَّوَاءِ
فَكَانَ في إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك
بَدَلَ قَرْضٍ أو ثَمَنَ مَبِيعٍ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ في مَرَضِهِ أو اشْتَرَى شيئا
بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وكان ذلك ظَاهِرًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَرْضَ
وَيَنْقُدَ الثَّمَنَ وَلَا يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ في الْمَقْبُوضِ
وَالْمَنْقُودِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ في هذه الصُّورَةِ ليس إبْطَالًا لِحَقِّ
الْبَاقِينَ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ لَا
بِصُورَتِهَا وَالتَّرِكَةُ قَائِمَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِيَامِ بَدَلِهَا
لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مقامه كَأَنَّهُ هو فلم يَكُنْ ذلك إبْطَالًا
مَعْنًى
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أو اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَنَقَدَهُمَا الْمَهْرَ
وَالْأُجْرَةَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمَا الْمَنْقُودَ بَلْ الْغُرَمَاءُ
يَتْبَعُونَهُمَا وَيُخَاصِمُونَهُمَا بِدُيُونِهِمْ وَكَانُوا أُسْوَةَ
الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَعْنِي جَعْلَ الْمَنْقُودِ سَالِمًا لَهُمَا
إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ عن
مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ حَقِّ
الْغُرَمَاءِ بِهِ
وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ بَدَلٌ عن الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَهِيَ مِمَّا
لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِهِ لِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِوَاءُ في
الْقِسْمَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ على الْوَصِيَّةِ
وَالْمِيرَاثِ
لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَقٌّ وُضِعَ في الْمَالِ الْفَارِغِ عن حَاجَةِ الْمَيِّتِ
فإذا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ وَالتَّرِكَةُ
مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ جَرَيَانِ الْإِرْثِ فيه قال اللَّهُ
تَعَالَى عز من قَائِلٍ { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصي بها أو دَيْنٍ } وقد قَدَّمَ
الدَّيْنَ على الْمِيرَاثِ وَسَوَاءٌ كان دَيْنَ الصِّحَّةِ أو دَيْنَ الْمَرَضِ
لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وهو ما بَيَّنَّا
وإذا اجْتَمَعَتْ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ على قَدْرِ
دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ وَلَوْ تَوَى شَيْءٌ من التَّرِكَةِ قبل الْقِسْمَةِ
اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَلُ التَّاوِي كَأَنَّهُ لم
يَكُنْ أَصْلًا لِأَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ منهم تَعَلَّقَ بِكُلِّ جُزْءٍ من
التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ على قَدْرِ دُيُونِهِمْ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فَمَحَلُّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ
هو الْمَالُ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى من الْمَالِ لَا من غَيْرِهِ فَيَتَعَلَّقُ
حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ مَتْرُوكٍ هو مَالٌ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنُ وَدِيَةُ
الْمَدْيُونِ وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ الْوَاجِبَةُ له بِالْجِنَايَةِ عليه خَطَأً
أو عَمْدًا لِأَنَّ كُلَّ ذلك مَالٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ
وما دُونَهَا حتى لَا يَصِحَّ عَفْوُهُمْ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ
وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عن الْقِصَاصِ حتى انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ
ما لا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ ويقضي منه دُيُونُهُمْ لِأَنَّهُ
بَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ حَقَّهُ فَيُصْرَفُ إلَى دُيُونِهِ كَسَائِرِ
أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ
وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ إذَا كانت امْرَأَةً يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ
بِمَهْرِهَا وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وما عُرِفَ من أَحْكَامِ الْأَقَارِيرِ وَتَفَاصِيلِهَا في الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ
في إقْرَارِ الْحُرِّ فَهُوَ الْحُكْمُ في إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِكَوْنِهِ من
ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما بَيَّنَّا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ هو في
حُكْمِ الْإِقْرَارِ وَالْحُرُّ سَوَاءً
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ في مَرَضِهِ جَازَتْ مُحَابَاتُهُ من جَمِيعِ
الْمَالِ وَمُحَابَاةُ الْحُرِّ الْمَرِيضِ لَا تَجُوزُ إلَّا من الثُّلُثِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْحُرِّ عن الْمُحَابَاةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْوَرَثَةِ وَالْعَبْدُ لَا وَارِثَ له وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ
فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ في مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَابَى أَنَّهُ
تَجُوزُ مُحَابَاتُهُ من جَمِيعِ الْمَالِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ وفي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أَخَذَ
الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَجَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِيمَا بَقِيَ من الْمَالِ
وَإِنْ كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا في يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت
فَأَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْمَبِيعَ كَالْحُرِّ
الْمَرِيضِ إذَا حَابَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على غَيْرِهِ
فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ
وَجَبَ له على وَارِثٍ وَإِمَّا أن أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على
أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على أَجْنَبِيٍّ
فَإِمَّا أن أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الصِّحَّةِ
وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ
أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ
وَيُصَدَّقُ في إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ حتى يَبْرَأَ الْغَرِيمُ عن الدَّيْنِ
سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ الْوَاجِبُ في حَالَةِ الصِّحَّةِ بَدَلًا عَمَّا ليس
بِمَالٍ نحو أَرْشِ جِنَايَةٍ أو بَدَلِ صُلْحٍ عن عَمْدٍ أو كان بَدَلًا عَمَّا
هو مَالٌ نحو بَدَلِ قَرْضٍ أو ثَمَنِ مَبِيعٍ وَسَوَاءٌ لم يَكُنْ عليه دَيْنُ
الصِّحَّةِ أو كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ
أَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هو مَالُ فلأن الْمَرِيضِ
____________________
(7/226)
بهذا
الْإِقْرَارِ لم يَبْطُلْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ اسْتَحَقَّ
الْبَرَاءَةَ عن الدَّيْنِ بِالْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حَالَةَ
الصِّحَّةِ كما اسْتَحَقَّهَا بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بين الْمَالِ
وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْعَارِضُ هو الْمَرَضُ وَأَثَرُهُ في حَجْرِ
الْمَرِيضِ عَمَّا كان له لَا في حَجْرِهِ عَمَّا كان حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه كَالْعَبْدِ
الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ ثَبَتَ له في
حَالَةِ الْإِذْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بَلْ
أَوْلَى لِأَنَّ حَجْرَ الْعَبْدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا عن
الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمَرِيضُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عن الْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ ثُمَّ أَثَرُ الْحَجْرِ هُنَاكَ ظَهَرَ فِيمَا له لَا فِيمَا عليه
فَهَهُنَا أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ فَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ لم
يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ وهو النَّفْسُ لِأَنَّهُ ليس
بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ وإذا لم يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِهِ فَلَا
يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ
فَيَصِحُّ وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
الْوَاقِعَةِ في حَالَةِ الصِّحَّةِ يُصَدَّقُ وَيَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ لِمَا
قُلْنَا
هذا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَمَّا
إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ وَجَبَ
بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ ولا يُصَدَّقُ في حَقِّ غُرَمَاءِ
الصِّحَّةِ وَيُجْعَلُ ذلك منه إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ
فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ الْبَيْعُ
وَالْقَرْضُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ عن الْمُبْدَلِ إلَّا أَنْ يَصِلَ الْبَدَلُ
إلَيْهِمْ فَيَكُونُ بَدَلًا مَعْنًى لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ لَمَّا
أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا وُصُولَ لِلْبَدَلِ إلَيْهِمْ فلم يَصِحَّ
إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ في حَقِّهِمْ فَبَقِيَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ من اسْتَوْفَى
دَيْنًا من غَيْرِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا في ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي
ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا
بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ لَا
يَصِحُّ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ
وَكَذَلِكَ لو أَتْلَفَ رَجُلٌ على الْمَرِيضِ شيئا في مَرَضِهِ فَأَقَرَّ
الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ منه لم يُصَدَّقْ في ذلك إذَا كان عليه دَيْنُ
الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْحَقَّ كان مُتَعَلِّقًا بِالْمُبْدَلِ حَالَةَ الْمَرَضِ
فَيَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ
وَلَوْ أَتْلَفَ في حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ في حَالَةِ الْمَرَضِ صَحَّ
لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ دَيْنِ الصِّحَّةِ في حَالَةِ الْمَرَضِ صَحِيحٌ
وَإِنْ كان بَدَلًا عَمَّا هو بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا
عَمَّا ليس بِمَالٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِالْمَرَضِ لم يَتَعَلَّقْ
حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ
لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ فَصَارَ الْإِقْرَارُ
بِاسْتِيفَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حالة ( ( ( حال
) ) ) الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَذَلِكَ صَحِيحٌ كذا هذا
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ رَجُلٌ لِلْمَرِيضِ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا في مَرَضِهِ
خَطَأً أو قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ أو قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على ذلك فَلَزِمَهُ
نِصْفُ الْقِيمَةِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ بَدَلُ النَّفْسِ عِنْدَنَا لَا بَدَلُ
الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ مُقَدَّرًا كَأَرْشِ الْأَحْرَارِ حتى لو
قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ
آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ فَيُنْقِصُ عَشَرَةً عن عَشْرَةِ آلَافٍ لِئَلَّا يَبْلُغَ دِيَةَ
الْحُرِّ وَيُنْقِصُ الدِّرْهَمُ الْحَادِيَ عَشَرَ لِئَلَّا تَبْلُغَ بَدَلُ
يَدِهِ بَدَلَ نَفْسِهِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ بِقَطْعِ يَدِ هذا الْعَبْدِ خَمْسَةُ
آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَلَّ أَنَّ أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ وَجَبَ
مُقَدَّرًا فَكَانَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كَأَرْشِ الْحُرِّ فَلَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ
إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ
وَكَذَلِكَ لو كان الْجَانِي قَتَلَ الْعَبْدَ مُتَعَمِّدًا فَصَالَحَهُ
الْمَرِيضُ على مَالٍ ثُمَّ أَقَرَّ إنه استوفي بَدَلَ الصُّلْحِ جَازَ وكان
مُصَدَّقًا لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ بَدَلٌ عَمَّا ليس بِمَالٍ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بالصواب
فَصْلٌ وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على وَارِثٍ لَا يَصِحُّ
سَوَاءٌ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ أو بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ لِأَنَّهُ
إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ
الْمُقَاصَّةِ وهو أَنْ يَصِيرَ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا في ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي
فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ
الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ
وَعَلَى هذا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ في مَرَضِ مَوْتِهَا أنها
اسْتَوْفَتْ مَهْرَهَا من زَوْجِهَا وَلَا يُعْلَمُ ذلك إلَّا بِقَوْلِهَا وَعَلَيْهَا
دَيْنُ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَاتَتْ قبل أَنْ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا وَلَا مَالَ لها
غَيْرُ الْمَهْرِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ الْمَهْرِ
إلَى الْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ بين الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الزَّوْجَ
وَارِثُهَا وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ وَجَبَ له على وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ
وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذلك إقْرَارٌ
بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ وإنه بَاطِلٌ
وَلَوْ أَقَرَّتْ في مَرَضِهَا أنها اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ من زَوْجِهَا ثُمَّ
طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها يَصِحُّ إقْرَارُهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ
بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لها فلم يَكُنْ
إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ منه إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ
فَصَحَّ وَلَيْسَ
____________________
(7/227)
لِلزَّوْجِ
أَنْ يُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ فيقول إنها أَقَرَّتْ
بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَهْرِ مِنِّي وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ قبل
الدُّخُولِ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فَصَارَ نِصْفُ الْمَهْرِ دَيْنًا لي عليها فَأَنَا
أَضْرِبُ مع غُرَمَائِهَا لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يَصِحُّ
في حَقِّ بَرَاءَةِ الزَّوْجِ عن الْمَهْرِ لَا في حَقِّ إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ في
مَالِهَا مع غُرَمَائِهَا لِأَنَّ دُيُونَهُمْ دُيُونُ الصِّحَّةِ وَإِقْرَارُهَا
لِلزَّوْجِ في حَالَةِ الْمَرَضِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِمْ
وَلَوْ كان الزَّوْجُ دخل بها فَأَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ ثُمَّ
طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا أو رَجْعِيًّا ثُمَّ مات ( ( ( ماتت ) ) ) بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ الزَّوْجَ عِنْدَ الْمَوْتِ
ليس بِوَارِثٍ
وَلَوْ مَاتَتْ قبل انْقِضَاءِ الْعِدَّة لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا
أَمَّا في الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ
وَالْوِرَاثَةَ قَائِمَةٌ وَأَمَّا في الْبَائِنِ فَلِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ
وَكَانَتْ مَمْنُوعَةً من هذا الْإِقْرَارِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ في حَالَةِ
الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ ما
دَامَ الْمَانِعُ قَائِمًا من وَجْهٍ
وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِزَوْجِهَا
وَإِنْ كان الطَّلَاقُ بَائِنًا وإذا لم يَصِحَّ إقْرَارُهَا وَعَلَيْهَا دُيُونُ
الصِّحَّةِ فَيَسْتَوْفِي أَصْحَابُ دُيُونِ الصِّحَّةِ دُيُونَهُمْ فَإِنْ فَضَلَ
من مَالِهَا شَيْءٌ يُنْظَرُ إلَى الْمَهْرِ وَإِلَى مِيرَاثِهِ منها فَيُسَلَّمُ
له الْأَقَلُّ مِنْهُمَا وَمَشَايِخُنَا يَقُولُونَ إنَّ هذا الْجَوَابَ على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ
الْمَهْرِ من الزَّوْجِ صَحِيحًا في حَقِّ التَّقْدِيمِ على الْوَرَثَةِ في
جَمِيعِ ما أَقَرَّتْ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ في الْمَرِيضِ يُطَلِّقُ
امْرَأَتَهُ بِسُؤَالِهَا ثُمَّ يُقِرُّ لها بِمَالٍ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ
عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ لَا مِيرَاثَ لها منه وأبو حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه يقول لها الْأَقَلُّ من نَصِيبِهَا من الْمِيرَاثِ وَمِمَّا أَقَرَّ
لها بِهِ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ ظَاهِرَ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً وأبو حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يقول يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا على ذلك لِيُقِرَّ لها
بِأَكْثَرَ من نَصِيبِهَا فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا زَادَ على مِيرَاثِهَا في
حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فلم يَصِحَّ فَهَذَا كَذَلِكَ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ
في حَالَةِ الْمَرَضِ في الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ
وَالْمَرَضِ كَالْحُرِّ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ
وَقَبْضِهِ كَالْحُرِّ فَكُلُّ ما صَحَّ من الْحُرِّ يَصِحُّ منه وما لَا فَلَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالْإِبْرَاءِ بِأَنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ
أَنَّهُ كان أَبْرَأَ فُلَانًا من الدَّيْنِ الذي عليه في صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ لِلْحَالِ فَلَا يَمْلِكُ
الْإِقْرَارَ بِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ
إقْرَارٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ
الأخبار عنه بِالْإِقْرَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ وهو
نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا إقْرَارُ الرَّجُلِ بِوَارِثٍ وَالثَّانِي إقْرَارُ
الْوَارِثِ بِوَارِثِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَانِ حُكْمُ
النَّسَبِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَلِصِحَّتِهِ في
حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ شَرَائِطُ منها أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلَ
الثُّبُوتِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ فإذا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ
فالأخبار عن كَائِنٍ يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا
وَبَيَانُهُ أنه من أَقَرَّ بِغُلَامٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مثله
لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا له فَكَانَ
كَذِبًا في إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ من
غَيْرِهِ
فَإِنْ كان لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ من غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ
ثُبُوتَهُ له بَعْدَهُ
وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ إذَا كان في يَدِ نَفْسِهِ
لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ
وَلَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ حتى
يَصِحَّ من الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ جميعا لِأَنَّ الْمَرَضَ ليس بِمَانِعٍ
لِعَيْنِهِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ أو التُّهْمَةِ فَكُلُّ ذلك
مُنْعَدِمٌ أَمَّا التَّعَلُّقُ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ
التَّعَلُّقُ في مَجْهُولِ النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ مَعْنَى التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْإِرْثَ ليس من لَوَازِمِ النَّسَبِ فإن
لِحِرْمَانِ الْإِرْثِ أَسْبَابًا لَا تَقْدَحُ في النَّسَبِ من الْقَتْلِ
وَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فيه حَمْلُ النَّسَبِ على الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَذَّبَهُ
الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ أو صَدَّقَهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ على
نَفْسِهِ لَا على غَيْرِهِ لِأَنَّهُ على غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أو دَعْوَى
وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا
يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ وهو من بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَالْإِقْرَارُ الذي فيه حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ على غَيْرِهِ إقْرَارٌ على
غَيْرِهِ لَا على نَفْسِهِ فَكَانَ دَعْوَى أو شَهَادَةً وَكُلُّ ذلك لَا يُقْبَلُ
إلَّا بِحُجَّةٍ
وَعَلَى هذا يَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِخَمْسَةِ نَفَرٍ الْوَالِدَيْنِ
وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى وَيَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ
نَفَرٍ الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى
وَلَا يَجُوزُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّهُ ليس في الْإِقْرَارِ بِهَؤُلَاءِ حَمْلُ
نَسَبِ الْغَيْرِ على غَيْرِهِ
أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَاءِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ليس فيه حَمْلُ نَسَبٍ إلَى
أَحَدٍ
____________________
(7/228)
وَكَذَلِكَ
الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ ليس فيه حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ على غَيْرِهِ
لَكِنْ لَا بُدَّ من التَّصْدِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ
في حَالِ حَيَاةِ الْمُقِرِّ جَازَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
فَإِنْ كان الْإِقْرَارُ من الزَّوْجِ يَصِحُّ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ
صَدَّقَتْهُ في حَالِ حَيَاتِهِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ
أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَاتَ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ
لِأَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ من وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ
أَحْكَامِهِ في الْعِدَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّصْدِيقِ
وَإِنْ كان الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ من الْمَرْأَةِ فَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ
بَعْدَ مَوْتِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ من
وَجْهٍ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ كما إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالزَّوْجِيَّةِ
وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النِّكَاحَ لِلْحَالِ عَدَمٌ
حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّصْدِيقِ إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ له حُكْمُ
الْبَقَاءِ لِاسْتِيفَاءِ أَحْكَامٍ كانت ثَابِتَةً قبل الْمَوْتِ
وَالْمِيرَاثُ حُكْمٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ زَائِلًا في
حَقِّ هذا الْحُكْمِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ ليس فيه حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ
على غَيْرِهِ بَلْ على نَفْسِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا على نَفْسِهِ لَا على غير ( (
( غيره ) ) ) فَيُقْبَلُ لَكِنْ لَا بُدَّ من التَّصْدِيقِ إذَا كان في يَدِ
نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ في حَالِ حَيَاتِهِ أو بَعْدَ
وَفَاتِهِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ في
الْحَالَيْنِ جميعا
وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْوَالِدَيْنِ ليس فيه حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ على
غَيْرِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا على نَفْسِهِ لَا على غَيْرِهِ فَيُقْبَلُ
وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِهَؤُلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا الْوَلَدَ
لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ وهو نَسَبُ الْوَلَدِ على
الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ أو تَشْهَدُ امْرَأَةٌ
على الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ الْوَلَدِ على
نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ من الْعَمِّ وَالْأَخِ
لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ وهو الْأَبُ وَالْجَدُّ
وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ في حَقِّ حُكْمِ الْمِيرَاثِ يُشْتَرَطُ له ما
يُشْتَرَطُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وهو ما ذَكَرْنَا إلَّا
شَرْطَ حَمْلِ النَّسَبِ على الْغَيْرِ فإن الْإِقْرَارَ بِنَسَبٍ يَحْمِلُهُ
الْمُقِرُّ على غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ أَصْلًا
وَيَصِحُّ في حَقِّ الْمِيرَاثِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ له وَارِثٌ
أَصْلًا وَيَكُونَ مِيرَاثُهُ له لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ وَاجِبُ
التَّصْحِيحِ ما أَمْكَنَ فَإِنْ لم يُمْكِنْ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِفَقْدِ
شَرْطِ الصِّحَّةِ أَمْكَنَ في حَقِّ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كان ثَمَّةَ وَارِثٌ
قَرِيبًا كان أو بَعِيدًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا وَلَا شَيْءَ له في
الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أو خَالَةٌ فَمِيرَاثُهُ
لِعَمَّتِهِ أو لِخَالَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّهُمَا وَارِثَانِ
بِيَقِينٍ فَكَانَ حَقُّهُمَا ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ
بِالصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمَا
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ أو ابْنِ ابْنٍ وَلَهُ مولى الْمُوَالَاةِ ثُمَّ
مَاتَ فَالْمِيرَاثُ لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّ الْوَلَاءَ
من أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ رُجُوعًا عن عَقْدِ
الْمُوَالَاةِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ الْعَقْدُ وإنه
يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ وَكَذَلِكَ لو كان مولى
الْمُوَالَاةِ هو مولى الْعَتَاقَةِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ
وَلَوْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِرَجُلٍ
فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى له وَالْبَاقِي لِلْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ لِأَنَّهُ
وَارِثٌ في زَعْمِهِ وَظَنِّهِ
وَلَوْ كان مع الْمُوصَى له بِالْمَالِ مولى الْمُوَالَاةِ أَيْضًا فالموصى ( ( (
فللموصى ) ) ) له الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ له
لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَكِنَّهَا تَمْنَعُ
صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ لِمَا بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو كان مَكَانَ مولى الْمُوَالَاةِ مولى الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ مولى
الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ على ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوْلَى
الْمُوَالَاةِ آخِرُ الْوَرَثَةِ مُؤَخَّرٌ عن ذَوِي الْأَرْحَامِ فَأَضْعَفُ
الْوِلَاءَيْنِ لَمَّا مَنَعَ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ فَأَقْوَاهُمَا
أَوْلَى
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ له ثُمَّ
أَنْكَرَ الْمَرِيضُ بَعْدَ ذلك وقال ليس بَيْنِي وَبَيْنَك قَرَابَةٌ بَطَلَ
إقْرَارُهُ في حَقِّ الْمِيرَاثِ أَيْضًا حتى إنه لو أَوْصَى بَعْدَ الْإِنْكَارِ
بِمَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ له فَالْمَالُ كُلُّهُ
لِلْمُوصَى له بِجَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ منه رُجُوعٌ وَالرُّجُوعُ
عن مِثْلِ هذا الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ لم
يَكُنْ وَصِيَّةً في الْحَقِيقَةِ وَالرُّجُوعُ عن الْوَصِيَّةِ صَحِيحٌ
وَلَوْ أَنْكَرَ وَلَيْسَ هُنَاكَ مُوصًى له بِالْمَالِ أَصْلًا فَالْمَالُ
لِبَيْتِ الْمَالِ لِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ أَصْلًا بِالرُّجُوعِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَالثَّانِي في حَقِّ الْمِيرَاثِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فيه لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أن كان
الْوَارِثُ وَاحِدًا وَإِمَّا أن كان أَكْثَرَ من وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ
وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هل يَثْبُتُ نَسَبُهُ من الْمَيِّتِ اُخْتُلِفَ
فيه
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ
وَاحِدٍ
وقال أبو يُوسُفَ يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ
____________________
(7/229)
الْكَرْخِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِنْ كان أَكْثَرَ من وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أو رَجُلًا
وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ
في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا في حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ
الْجَمَاعَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ الْإِقْرَارَ
بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ على غَيْرِهِ لِمَا فيه من حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ على
غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِخِلَافِ
ما إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ في النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ
وَأَمَّا في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِد بِوَارِثٍ
يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ في حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ
بِأَخٍ
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا في يَدِهِ من الْمِيرَاثِ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ
الْمَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ على غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ
مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ دَعْوًى في الْحَقِيقَةِ أو شَهَادَةٌ وَالْإِقْرَارُ
بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إقْرَارٌ على نَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَقْبُولٌ وَمِثْلُ هذا
جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غير مَقْبُولٍ
بِجِهَةٍ أُخْرَى كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كان
أَعْتَقَهُ قبل الْبَيْعِ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ في حَقِّ الْعِتْقِ وَلَا يُقْبَلُ
في حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ فَعَلَى ذلك هَهُنَا
جَازَ أَنْ يُقْبَلَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ في حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَا يُقْبَلُ
في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ
وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ ما في يَدِهِ
لِأَنَّ إقْرَارَهُ قد صَحَّ في حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مع الْأَخِ ثُلُثُ
الْمِيرَاثِ
ولوأقر بِامْرَأَةٍ أنها زَوْجَةُ أبيه فَلَهَا ثَمَنُ ما في يَدِهِ وَلَوْ
أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ ما في يَدِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا في يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ ما لو
ثَبَتَ النَّسَبُ
وَلَوْ أَقَرَّ ابن الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ الميت ( ( ( للميت ) ) ) وَصَدَّقَهُ
لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ
وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ
الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ له وَالْمَالُ كُلُّهُ له ما لم يُقِمْ الْبَيِّنَةَ
على النَّسَبِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا على إثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ له
وَاخْتَلَفَا في وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عليه وَيَقِفُ
الْمُخْتَلَفُ فيه على قِيَامِ الدَّلِيلِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُقَرَّ له إنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ من
جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ
وفي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ له
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ بإبنة لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَتْهُ لَكِنَّهَا أَنْكَرَتْ
أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ بِأَخٍ لِلزَّوْجِ الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهَا الْأَخُ
وَلَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هِيَ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُقَرِّ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى وهو الْقِيَاسُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ إثْبَاتُ الزَّوْجِيَّةِ
بِالْبَيِّنَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَالْمَالُ
بَيْنَهُمَا على قَدْرِ مواريثهما ( ( ( مواريثها ) ) )
وَلَوْ أَقَرَّ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ بِأَخٍ لها وَصَدَّقَهُ الْأَخُ
لَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هو زَوْجُهَا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ قِيَاسُ هذه الْمَسْأَلَةِ على الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ الذي ذَكَرْنَاهُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْإِقْرَارُ بِسَبَبٍ
مُنْقَطِعٍ لَا يُسْمَعُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ النَّسَبِ
وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بأخر ( ( ( بأخ ) ) ) ثَالِثٍ فَإِنْ
صَدَّقَهُ الْأَخُ الْمَعْرُوفُ في ذلك شَارَكَهُمَا في الْمِيرَاثِ كما إذَا
أَقَرَّا جميعا لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كَذَّبَهُ فيه فإنه يُقْسَمُ الْمَالُ بين الْأَخَوَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ
أَوَّلًا نِصْفَيْنِ فَيُدْفَعُ النِّصْفُ إلَى الْأَخِ الْمُنْكِرِ وَأَمَّا
النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُقْسَمُ بين الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ له
نِصْفَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى أَثْلَاثًا
ثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ وَثُلُثُهُ لِلْمُقَرِّ له
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ من زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الْمَالَ بين
الأخوة الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثٌ وَأَنَّ ثُلُثَ الْمُقَرِّ له نِصْفُهُ في يَدِهِ
وَنِصْفُهُ في يَدِ أَخِيهِ الْمُنْكِرِ على الشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ
على أَخِيهِ لَا يَنْفُذُ فِيمَا في يَدِ أَخِيهِ فَيَنْفُذُ فِيمَا في يَدِهِ
فَيُعْطِيهِ ثُلُثَ ذلك
وَلَنَا أَنَّ من زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ في
الْمِيرَاثِ حَقُّهُ وَأَنَّ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ من الزِّيَادَةِ وهو
النِّصْفُ التَّامُّ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ ما في يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ
فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا رُبْعُ الْمَالِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ
ظَاهِرٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَيُقْسَمُ الْمَالُ أَوَّلًا نِصْفَيْنِ بين الْأَخَوَيْنِ
النِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ ثُمَّ يُقْسَمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بين الْأَخِ
الْمُقِرِّ وَأُخْتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِامْرَأَةٍ أنها زَوْجَةُ أَبِينَا فَإِنْ صَدَّقَهُ
الْآخَرُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عليها فَتُصَحِّحْ
الْمَسْأَلَةَ فَتَضْرِبُ سَهْمَيْنِ في ثَمَانِيَةٍ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ لها
ثُمُنُهَا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ وَإِنْ
كَذَّبَهُ فَلَهَا تُسْعُ ما في يَدِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لها ثُمُنُ ما في يَدِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ في أَنَّ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ
____________________
(7/230)
لِلْمَرْأَةِ
ثُمُنَ ما في يَدَيْ الْأَخَوَيْنِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحَّ فِيمَا في يَدِ
نَفْسِهِ ولم يَصِحَّ في حَقِّ صَاحِبِهِ وإذا صَحَّ في حَقِّ نَفْسِهِ يُعْطِيهَا
ثُمُنَ ما في يَدِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ في زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ ثُمُنَ التَّرِكَةِ
لها وَسَبْعَةَ أَثْمَانِهَا لَهُمَا بَيْنَهُمَا على السَّوِيَّةِ بأصل ( ( ( أصل
) ) ) الْمَسْأَلَةِ وَقِسْمَتُهَا ما ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ الْأَخَ الْمُنْكِرَ
فِيمَا يَأْخُذُ من الزِّيَادَةِ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ ما في يَدِهِ كَالْهَالِكِ
وَيُقْسَمُ النِّصْفُ الذي في يَدِ الْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا على قَدْرِ
حَقِّهِمَا وَيُجْعَلُ ما يَحْصُلُ لِلْمُقِرِّ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ على تِسْعَةِ
أَسْهُمٍ سَهْمَانِ من ذلك لها وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ له وإذا جُعِلَ هذا النِّصْفُ
على تِسْعَةٍ صَارَ كُلُّ الْمَالِ على ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تِسْعَةٌ منها لِلْأَخِ
الْمُنْكِرِ وَسَهْمَانِ لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ الْمُقِرِّ
هذا إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِوَارِثٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ
بَعْدَ وَارِثٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِوَارِثٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ
فَالْأَصْلُ في هذا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ صَدَّقَ الْمُقِرُّ بوارثة ( ( (
بوراثة ) ) ) الْأَوَّلِ في إقْرَارِهِ بِالْوِرَاثَةِ لِلثَّانِي فَالْمَالُ
بَيْنَهُمْ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَذَّبَهُ فيه فَإِنْ كان
الْمُقِرُّ دَفَعَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ
وَيُجْعَلُ ذلك كَالْهَالِكِ وَيُقْسَمَانِ على ما في يَدِ الْمُقِرِّ على قَدْرِ
حَقِّهِمَا وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ
الْمَدْفُوعُ كَالْقَائِمِ في يَدِهِ فيعطي الثَّانِي حَقَّهُ من كل الْمَالِ
بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ له من
أبيه وَأُمِّهِ فإنه يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
إقْرَارَهُ بالأخوة صَحِيحٌ في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ
فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَمَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ
وَإِمَّا أن أَقَرَّ قبل أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ
فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بعدما دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ فَإِنْ كان الدَّفْعُ
بِقَضَاءِ فَلِلثَّانِي رُبْعُ الْمَالِ وَيَبْقَى في يَدِ الْمُقِرِّ الرُّبْعُ
لِأَنَّ الرُّبْعَ في الْقَضَاءِ في حُكْمِ الْهَالِكِ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا في
الدَّفْعِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نصفان ( ( ( نصفين ) ) ) لِأَنَّ في
زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الثَّانِيَ يُسَاوِيهِ في اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ
فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ النِّصْفِ وهو رُبْعُ الْكُلِّ
وَكَذَلِكَ إذَا كان لم يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شيئا لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ
صَارَ مُسْتَحَقَّ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ كالصروف ( ( ( كالمصروف ) )
)
وإن كان دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ القضاي ( ( ( القاضي ) ) ) أَعْطَى
الثَّانِيَ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ
قَضَاءٍ مَضْمُونٌ عليه وَالْمَضْمُونُ كَالْقَائِمِ فَيَدْفَعُ ثُلُثَ جَمِيعِ
الْمَالِ إلَيْهِ وَيَبْقَى في يَدِهِ الثُّلُثُ فَإِنْ دَفَعَ ثُلُثَ الْمَالِ
إلَى الثَّانِي بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ ثَالِثٍ
وَكَذَّبَهُ الثَّالِثُ في الْإِقْرَارِ بِالْأَوَّلَيْنِ أَخَذَ الثَّالِثُ من
الِابْنِ الْمَعْرُوفِ رُبْعَ جَمِيعِ الْمَالِ
لِأَنَّ كُلَّ الْمَالِ قَائِمٌ مَعْنًى لِأَنَّ الدَّفْعَ بغيرالقضاء مَضْمُونٌ
على الدَّافِعِ فَيَأْخُذُ السُّدُسَ الذي في يَدِ الْمُقِرِّ وَنِصْفَ سُدُسٍ
آخَرَ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لم
يَصِحَّ في حَقِّ الثَّالِثِ فَيَضْمَنُ له قَدْرَ نِصْفِ سُدُسٍ فَيَدْفَعُهُ مع
السُّدُسِ الذي في يَدِهِ إلَيْهِ
وَعَلَى هذا إذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثُمَّ أَقَرَّ
آخَرَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ اشْتَرَكُوا في الْمِيرَاثِ وَإِنْ
كَذَّبَهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلُ فَنِصْفُ
الْمَالِ بَيْنَهُمْ أثلاثا ( ( ( أثلاث ) ) ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوِرَاثَةِ
في حَقِّهِ وفي حَقِّ الْمُقَرِّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لم
يَصِحَّ في حَقِّ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ وكان النِّصْفُ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ
وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ كان
الْمُقِرُّ دَفَعَ نِصْفَ ما في يَدِهِ وهو رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ
بِقَضَاءِ الْقَاضِي كان الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي نِصْفَيْنِ لِأَنَّ
الدَّفْعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي في حُكْمِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَاقِي
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُمُنُ الْمَالِ وَإِنْ كان دَفَعَ
إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كان الْمُقِرُّ يُعْطِي الثَّانِيَ
مِمَّا في يَدِهِ وهو رُبْعُ الْمَالِ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الدَّفْعَ
بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ على الدَّافِعِ فَيَكُونُ ذلك الرُّبْعُ كَالْقَائِمِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ وَدَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا ثُمَّ أَقَرَّ
بِأُخْتٍ أُخْرَى وَكَذَّبَهُ الْأَخُ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُخْتُ الْأُولَى
فَنِصْفُ الْمَالِ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَالنِّصْفُ بين الْأَخِ الْمُقِرِّ
وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ
كَذَّبَتْهُ فَإِنْ كان دَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا وهو ثُلُثُ النِّصْفِ وَذَلِكَ
سُدُسُ الْكُلِّ بِقَضَاءٍ فالباقي ( ( ( والباقي ) ) ) بين الْمُقِرِّ وَبَيْنَ
الْأُخْتِ الْأُخْرَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا مَرَّ أَنَّ
الْمَدْفُوعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ في حُكْمِ الْهَالِكِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا على
الدَّافِعِ
وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فإن الْمُقِرَّ يُعْطِي لِلْأُخْتِ
الْأُخْرَى مِمَّا في يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ
لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ إتْلَافٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ في
يَدِهِ وقد أَقَرَّ بِأُخْتَيْنِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَكُونُ لَهُمَا رُبْعُ
جَمِيعِ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ الثُّمُنُ كَذَلِكَ هَهُنَا يُعْطِي الْأُخْتَ
الْأُخْرَى مِمَّا في يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ولو أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِأَبِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْرَى فَإِنْ
أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا فَذَلِكَ التُّسْعَانِ لَهُمَا جميعا
وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ
وَالْكَثْرَةِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأُولَى وَدَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ
____________________
(7/231)
بِالْأُخْرَى
فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُولَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ
فَالنِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَتُسْعَانِ لِلْأُولَى فَبَقِيَ هُنَاكَ
الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَرْأَةُ الْأُخْرَى فَيُنْظَرُ إنْ كان دَفَعَ
التُّسْعَيْنِ إلَى الْأُولَى بِالْقَضَاءِ يُجْعَلُ ذلك كَالْهَالِكِ وَيُجْعَلُ
كَأَنْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الْبَاقِي وهو سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ ذلك
بين الِابْنِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى على ثَمَانِيَةِ
أَسْهُمٍ ثُمُنٌ من ذلك لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةٌ لِلِابْنِ الْمُقِرِّ وَإِنْ كان
دَفَعَ إلَيْهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ يُعْطِي من التِّسْعَةِ التي هِيَ عِنْدَهُ
سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وهو سُبُعُ نِصْفِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ
الْمَدْفُوعَ القائم ( ( ( كالقائم ) ) ) عِنْدَهُ
وَلَوْ كان نِصْفُ الْمَالِ عِنْدَهُ قَائِمًا يُعْطِي الْأُخْرَى التُّسْعَ
وَذَلِكَ سَهْمٌ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثُمُنُ الْمَالِ لِلْمَرْأَتَيْنِ جميعا
وَالثُّمُنُ هو تُسْعَانِ تُسْعٌ لِلْأُولَى وَتُسْعٌ لِلْأُخْرَى إلَّا أَنَّ
الْأُولَى ظَلَمَتْ حَيْثُ أَخَذَتْ زِيَادَةَ سَهْمٍ وَذَلِكَ الظُّلْمُ حَصَلَ
على الآخر ( ( ( الأخ ) ) ) الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ هو الذي دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ
الْقَاضِي فَيَدْفَعُ التُّسْعَ الثَّانِي إلَى الْأُخْرَى وهو سُبْعُ نِصْفِ
الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وهو سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ في يَدِهِ
فَادَّعَى رَجُلٌ على الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أو نَكَلَ
عن الْيَمِينِ فَدَفَعَ إلَى الْغَرِيمِ ذلك ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ على
الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أو نَكَلَ عن الْيَمِينِ فَإِنْ
كان دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ لم يَضْمَنْ لِلثَّانِي شيئا لِأَنَّهُ في
الدَّفْعِ مَجْبُورٌ فَكَانَ في حُكْمِ الْهَالِكِ وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءٍ
يَضْمَنُ لِلثَّانِي نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ في الدَّفْعِ فَكَانَ
إتْلَافًا فَيَضْمَنُ كما إذَا أَقَرَّ لَهُمَا ثُمَّ دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَسْت
بِأَخٍ لي وَإِنَّمَا أَخِي هذا الرَّجُلُ الْآخَرُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ بِذَلِكَ
وَكَذَّبَهُ في الْإِقْرَارِ الْأَوَّلُ فَإِنْ كان دَفَعَ النِّصْفَ إلَى
الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ يُشَارِكُهُ الثَّانِي فِيمَا في يَدِهِ فَيَقْتَسِمَانِ
نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءٍ في حُكْمِ الْهَلَاكِ
وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَدْفَعُ جَمِيعَ ما في يَدِهِ وهو نِصْفُ الْمَالِ
إلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ على الْمَيِّتِ
أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ وَدَفَعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ
قَضَاءٍ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ على الْمَيِّتِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَكَذَّبَهُ الْوَارِثُ وَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ وَأَنْكَرَ الْغَرِيمُ
الثَّانِي دَيْنَ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ لم يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ
وَيَقْتَسِمَانِ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ
الْغَرِيمِ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وهو
يُصَدِّقُهُ وهو ما أَقَرَّ له إلَّا بِالنِّصْفِ وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ
الْغَرِيمُ الثَّانِي لِغَرِيمٍ لثالث ( ( ( ثالث ) ) ) فإن الْغَرِيمَ الثَّالِثَ
يَأْخُذُ نِصْفَ ما في يَدِهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا في يَدِ رَجُلٍ فقال الرَّجُلُ أنا أَخُوهُ
لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْتَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ
بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَخًا له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا
على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ قال الْمُقِرُّ لِلْمُقَرِّ بِهِ أنا وَأَنْتَ أَخَوَاهُ لِأَبِيهِ
وَأُمِّهِ وَلِي عليه أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ
الدَّيْنَ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ دَعْوَى
أَمْرٍ عَارِضٍ مَانِعٍ من الْإِرْثِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ على الْمَيِّتِ
أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ بِذَلِكَ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى
رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى له بِثُلُثِ مَالِهِ أو ادَّعَى أَنَّهُ
ابن الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُمَا بِذَلِكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَكَذَّبَاهُ
فِيمَا أَقَرَّ
فَإِنْ كان دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَا ضَمَانَ على الدَّافِعِ لِأَنَّ
الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةَ مُؤَخَّرَانِ عن الدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ لم يَصِحَّ في
حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ في حَقِّ الْمِيرَاثِ ولم يُوجَدْ
الْمِيرَاثُ
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُمَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَدَفَعَ إلَيْهِمَا ثُمَّ أَقَرَّ
لِلْغَرِيمِ كان لِلْغَرِيمِ أَنْ يُضَمِّنَهُ ما دَفَعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ
لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ فإذا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ أَتْلَفَ على
الْغَرِيمِ حَقَّهُ وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا ضَمَانَ عليه لِمَا
بَيَّنَّا
وَلَوْ ثَبَتَ الْوَصِيَّةُ أو الْمِيرَاثُ بِالْبَيِّنَةِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ
قَضَاءٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَلَا ضَمَانَ عليه لِلْغَرِيمِ
فِيمَا دَفَعَهُ إلَى الوراث ( ( ( الوارث ) ) ) وَالْمُوصَى له لِأَنَّهُ لَمَّا
قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الْمِيرَاثِ أو الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ
وَارِثٌ مَعْرُوفٌ أو مُوصًى له فَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ
حَقِّهِمَا وَلَوْ لم يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَدْفَعَ إلَى
الْغَرِيمِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي على الدَّفْعِ إلَى الْوَارِثِ وَالْمُوصَى له
لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ
بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ له في أَحَدِ نَوْعَيْ
الْإِقْرَارِ وهو الْإِقْرَارُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ
دَلِيلُ لُزُومِ الْمُقَرِّ بِهِ وَتَكْذِيبُ الْمُقِرِّ له دَلِيلُ عَدَمِ
اللُّزُومِ وَاللُّزُومُ لم يُعْرَفْ ثُبُوتُهُ فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ
وَالثَّانِي رُجُوعُ الْمُقِرِّ عن إقْرَارِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ في
أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَالِصًا
كَحَدِّ الزِّنَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في الْإِنْكَارِ
فَيَكُونُ كَاذِبًا
____________________
(7/232)
في
الْإِقْرَارِ ضَرُورَةً فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً في وُجُوبِ الْحَدِّ وَسَوَاءٌ
رَجَعَ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل تَمَامِ الْجَلْدِ أو الرَّجْمِ قبل
الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا
وَرُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ هَرَبَ من أَرْضٍ
قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ فلما بَلَغَ ذلك إلَى
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُبْحَانَ
اللَّهِ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ
تَلْقِينُ الْمُقِرِّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ لَعَلَّك لَمَسْتَهَا أو قَبَّلَتْهَا
كما لَقَّنَ عليه السلام ( ( ( وسلم ) ) ) مَاعِزًا وَكَمَا لَقَّنَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ ما
أخاله سَرَقَ أو أَسَرَقْت قُولِي لَا لو لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلرُّجُوعِ لم
يَكُنْ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى وَفَائِدَةٌ فَكَانَ التَّلْقِينُ منه عليه أَفْضَلُ
التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِ
بِقَوْلِهِ عليه أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ
وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ
الْحَدَّ الْوَاجِبَ بِهِمَا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا
فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِهِمَا إلَّا أَنَّ في السَّرِقَةِ يَصِحُّ
الرُّجُوعُ في حَقِّ الْقَطْعِ لَا في حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ على الْخُلُوصِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه
فَأَمَّا الْمَالُ فَحَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فيه
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ فيه
لِأَنَّ لِلْعَبْدِ فيه حَقًّا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا في الرُّجُوعِ فَلَا يَصِحُّ
كَالرُّجُوعِ عن سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَة لِلْعِبَادِ
وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ
حَقِّ الْعِبَادِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْجِنَايَاتِ الْجِنَايَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ جِنَايَةٌ على
الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَجِنَايَةٌ على الْآدَمِيِّ
أَمَّا الْجِنَايَةُ على الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا غَصْبٌ
وَإِتْلَافٌ وقد ذَكَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في كِتَابِ الْغَصْبِ
وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ على الْآدَمِيِّ
خَاصَّةً فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ الْجِنَايَةُ على
الْآدَمِيِّ في الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ جِنَايَةٌ على النَّفْسِ مُطْلَقًا
وَجِنَايَةٌ على ما دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا وَجِنَايَةٌ على ما هو نَفْسٌ من
وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
أَمَّا الْجِنَايَةُ على النَّفْسِ مُطْلَقًا فَهِيَ قَتْلُ الْمَوْلُودِ
وَالْكَلَامُ في الْقَتْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وفي
بَيَانِ صِفَةِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَتْلُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ قَتْلٌ هو عَمْدٌ مَحْضٌ ليس
فيه شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وَقَتْلٌ عَمْدٌ فيه شُبْهَةُ العدم ( ( (
العمد ) ) ) وهو الْمُسَمَّى بشبة الْعَمْدِ وَقَتْلٌ هو خَطَأٌ مَحْضٌ ليس فيه
شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وَقَتْلٌ هو في مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ
أَمَّا الذي هو عَمْدٌ مَحْضٌ فَهُوَ أَنْ يقص ( ( ( يقصد ) ) ) الْقَتْلَ
بِحَدِيدٍ له حَدٌّ أو طَعْنٌ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَالرُّمْحِ والأشفار ( (
( والإشفى ) ) ) وَالْإِبْرَةِ وما أَشْبَهَ ذلك أو ما يَعْمَلُ عَمَلَ هذه
الْأَشْيَاءَ في الْجَرْحِ وَالطَّعْنِ كَالنَّارِ وَالزُّجَاجِ وَلِيطَةِ
الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالرُّمْحِ الذي لَا سِنَانَ له وَنَحْوِ ذلك
وَكَذَلِكَ الْآلَةُ الْمُتَّخَذَةُ من النُّحَاسِ
وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ له كَالْعَمُودِ وَصَنْجَةِ الْمِيزَانِ
وَظَهْرِ الْفَأْسِ وَالْمَرْوِ وَنَحْوُ ذلك عَمْدٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ ليس
بِعَمْدٍ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْعِبْرَةُ لِلْحَدِيدِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ
جَرَحَ أو لَا
وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ الْعِبْرَةُ لِلْجَرْحِ نَفْسِهِ حَدِيدًا كان أو
غَيْرَهُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان في مَعْنَى الْحَدِيدِ
كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْآنُكِ وَالرَّصَاصِ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة
فَحُكْمُهُ حُكْم الْحَدِيدِ
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ على
كَوْنِهِ شِبْهُ عَمْدٍ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فيه
أَمَّا الْمُتَّفَقُ عليه فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أو
بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أو لَطْمَةٍ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا لَا يَكُونُ الْغَالِبَ فيه
الْهَلَاكُ كَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أو ضَرْبَتَيْنِ ولم
يُوَالِ في الضَّرَبَاتِ
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ
وَيُوَالِيَ في الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ وَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ بِلَا
خِلَافٍ بَيْن أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو عَمْدٌ وَإِنْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا
يَغْلِب فيه الْهَلَاكُ مِمَّا ليس بِجَارِحٍ وَلَا طَاعِنٍ كَمِدَقَّةِ
الْقَصَّارِينَ وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ وَنَحْوِهَا
فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا
وَالشَّافِعِيِّ هو عَمْدٌ وَلَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ
فما كان شِبْهُ عَمْدٍ في النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ
ما دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً
فَاسْتَوَتْ الْآلَاتُ كُلُّهَا في الدَّلَالَةِ على الْقَصْدِ فَكَانَ الْفِعْلُ
عَمْدًا
____________________
(7/233)
مَحْضًا
فَيُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَإِنْ لم يُمْكِنْ
يَجِبْ الْأَرْشُ
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَالْخَطَأُ قد يَكُونُ في نَفْسِ الْفِعْلِ وقد
يَكُونُ في ظَنِّ الْفَاعِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقْصِدَ صَيْدًا
فَيُصِيبَ آدَمِيًّا وَأَنْ يَقْصِدَ رَجُلًا فَيُصِيبَ غَيْرَهُ فَإِنْ قَصْدَ
عُضْوًا من رَجُلٍ فَأَصَابَ عُضْوًا آخَرَ منه فَهَذَا عَمْدٌ وَلَيْسَ بِخَطَأٍ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَحْوَ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ على ظَنِّ أَنَّهُ
حَرْبِيٌّ أو مُرْتَدٌّ فإذا هو مُسْلِمٌ
وَأَمَّا الذي هو في مَعْنَى الْخَطَأِ فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ وَصِفَتَهُ بَعْدَ هذا
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ صِفَاتُ هذه الْأَنْوَاعِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِهَا فَوُقُوعُ الْقَتْلِ بِإِحْدَى هذه الصِّفَاتِ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ عُلِمَ وَإِمَّا أَنْ لم يُعْلَمْ بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ لَا
يُعْلَمُ قَاتِلُهُ فَإِنْ عُلِمَ ذلك
أَمَّا الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ
الْقِصَاصِ وَالْكَلَامُ في الْقِصَاصِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ
الْقِصَاصِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ
وفي بَيَانِ من يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ
وفي بَيَانِ من يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ وفي
بَيَانِ ما يستوفي بِهِ الْقِصَاصُ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ
وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوُجُوبِ الْقِصَاصِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْقَاتِلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
نَفْسِ الْقَتْلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَخَمْسَةٌ
أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَإِنْ كان
مَجْنُونًا أو صَبِيًّا لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَهُمَا لَيْسَا
من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ وَفِعْلُهُمَا
لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا لم تَجِبْ عَلَيْهِمَا الْحُدُودُ
وَأَمَّا ذُكُورَةُ الْقَاتِلِ وَحُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ فَلَيْسَ من
شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا في الْقَتْلِ
قَاصِدًا إيَّاهُ فَإِنْ كان مُخْطِئًا فَلَا قِصَاصَ عليه لِقَوْلِ النبي
الْعَمْدُ قَوَدٌ أَيْ الْقَتْلُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْقَوَدَ شَرَطَ الْعَمْدَ
لِوُجُوبِ الْقَوَدِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً
مُتَنَاهِيَةً
وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَنَاهَى إلَّا بِالْعَمْدِ وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ
الْقَتْلُ منه عَمْدًا مَحْضًا ليس فيه شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) )
لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُرِطَ الْعَمْدُ مُطْلَقًا بِقَوْلِ
النبي الْعَمْدُ قَوَدٌ وَالْعَمْدُ الْمُطْلَقُ هو الْعَمْدُ من كل وَجْهٍ وَلَا
كَمَالَ مع شُبْهَةِ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ في هذا
الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أو ضَرْبَتَيْنِ على قَصْدِ الْقَتْلِ
أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ لِأَنَّ الضَّرْبَةَ أو الضَّرْبَتَيْنِ مِمَّا لَا
يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ عَادَةً بَلْ التَّأْدِيبُ وَالتَّهْذِيبُ فَتَمَكَّنَتْ
في الْقَصْدِ شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) )
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في الْمُوَالَاةِ
في الضَّرَبَاتِ أنها لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُوَالَاةَ في الضَّرَبَاتِ دَلِيلُ قَصْدِ الْقَتْلِ
لِأَنَّهَا لَا يُقْصَدُ بها التَّأْدِيبُ عَادَةً وَأَصْلُ الْقَصْدِ مَوْجُودٌ فَيَتَمَحَّضُ
الْقَتْلُ عَمْدًا فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ
وَلَنَا أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْقَصْدِ ثَابِتَةٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حُصُولُ
الْقَتْلِ بِالضَّرْبَةِ وَالضَّرْبَتَيْنِ على سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ من غَيْرِ
الْحَاجَةِ إلَى الضَّرَبَاتِ الْأُخَرِ وَالْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أو ضَرْبَتَيْنِ
لَا يَكُونُ عَمْدًا فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وإذا
جاء الِاحْتِمَالُ جَاءَتْ الشُّبْهَةُ وَزِيَادَةٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ أَنَّهُ
لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ خِلَافًا لَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الضَّرْبَ بالمثل ( ( ( بالمثقل ) ) ) مُهْلِكٌ عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْقَتْلِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ
دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ وقد انْضَمَّ إلَيْهِ
أَصْلُ الْقَصْدِ فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِهِ عَمْدًا مَحْضًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ على حَسَبِ
اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عنه
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ بِآلَةٍ غَيْرِ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ دَلِيلُ عَدَمِ
الْقَصْدِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ كل فِعْلٍ بِالْآلَةِ الْمُعَدَّةِ له فَحُصُولُهُ
بِغَيْرِ ما أُعِدَّ له دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ وَالْمُثْقَلُ وما يَجْرِي
مَجْرَاهُ ليس بِمُعَدٍّ لِلْقَتْلِ عَادَةً فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلَالَةُ
عَدَمِ الْقَصْدِ فَيَتَمَكَّنُ في الْعَمْدِيَّةِ شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) )
) بِخِلَافِ الْقَتْل بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ له لِأَنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ مُعَدَّةٌ
لِلْقَتْلِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه بَأْسٌ شَدِيدٌ
} وَالْقَتْلُ بِالْعَمُودِ مُعْتَادٌ فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلِيلُ الْقَصْدِ
فَيَتَمَحَّضُ عَمْدًا
وَهَذَا على قِيَاسِ ظاهرة الرِّوَايَةِ
وَالثَّانِي وهو قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو اعْتِبَارُ
الْجُرْحِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقُصُورُ في هذا الْقَتْلِ لِوُجُودِ فَسَادِ
الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ وهو نَقْضُ التَّرْكِيبِ وفي الِاسْتِيفَاءِ إفْسَادُ
الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ جميعا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا خَنَقَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أو غَرَّقَهُ بِالْمَاءِ
أو أَلْقَاهُ من جَبَلٍ أو سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيه عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَلَوْ طَيَّنَ على أَحَدٍ بَيْتًا حتى مَاتَ
جُوعًا أو عَطَشًا لَا يَضْمَنُ شيئا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ
الدِّيَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الطِّينَ الذي عليه تَسْبِيبٌ لِإِهْلَاكِهِ لِأَنَّهُ
لَا بَقَاءَ لِلْآدَمِيِّ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمَنْعُ عِنْدَ
اسْتِيلَاءِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عليه يَكُونُ
____________________
(7/234)
إهْلَاكًا
له فَأَشْبَه حَفْرَ الْبِئْرِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِالْجُوعِ
وَالْعَطَشِ لَا بِالتَّطْيِينِ وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ في الْجُوعِ وَالْعَطَشِ
بِخِلَافِ الْحَفْرِ فإنه سَبَبٌ لِلْوُقُوعِ وَالْحَفْرُ حَصَلَ من الْحَافِرِ فَكَانَ
قَتْلًا تَسْبِيبًا
وَلَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ سُمًّا فَمَاتَ فَإِنْ كان تَنَاوَلَ بِنَفْسِهِ فَلَا
ضَمَانَ على الذي أَطْعَمَهُ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ لَكِنَّهُ
يُعَزَّرُ وَيُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جِنَايَةً ليس لها حَدٌّ مُقَدَّرٌ
وَهِيَ الْغَرُورُ
فَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الْقِصَاصُ
وَلَوْ غَرَّقَ إنْسَانًا فَمَاتَ أو صَاحَ على وَجْهِهِ فَمَاتَ فَلَا قَوَدَ
عليه عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَعِنْدَهُ عليه الْقَوَدُ
وَالْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اختار ( ( ( اختيار ) ) )
الْإِيثَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْمُكْرَهُ على الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه
عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعِ أَحَدُهَا أَنْ
لَا يَكُونَ جُزْءَ الْقَاتِلِ حتى لو قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ لَا قِصَاصَ عليه
وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ أو أَبُ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَا وَكَذَلِكَ إذَا
قَتَلَ الرَّجُلُ وَلَدَ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا
وَكَذَا الْأُمُّ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَهَا أو أُمُّ الْأُمِّ أو أُمُّ الْأَبِ
إذَا قَتَلَتْ وَلَدَ وَلَدِهَا وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَاسْمُ
الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَالِدٍ وَإِنْ عَلَا وَكُلَّ وَلَدٍ
وَإِنْ سَفَلَ
وَلَوْ كان في وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ وَلَدُ الْقَاتِلِ أو وَلَدُ وَلَدِهِ فَلَا
قِصَاصَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ لِلْوَلَدِ في نَصِيبِهِ فَلَا
يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلْبَاقِينَ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ
لِلْكُلِّ
وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعُمُومَاتِ الْقِصَاصِ من غَيْرِ فَصْلٍ
ثُمَّ خُصَّ منها الْوَالِدُ بِالنَّصِّ الخاص ( ( ( الخالص ) ) ) فَبَقِيَ
الْوَلَدُ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ
حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ في جَانِبِ
الْوَلَدِ لَا في جَانِبِ الْوَالِدِ لِأَنَّ الْوَالِدَ يُحِبُّ وَلَدَهُ
لِوَلَدِهِ لَا لِنَفْسِهِ بِوُصُولِ النَّفْعِ إلَيْهِ من جِهَتِهِ أو يُحِبُّهُ
لِحَيَاةِ الذِّكْرِ لِمَا يحيى ( ( ( يحيا ) ) ) بِهِ ذِكْرُهُ وَفِيهِ أَيْضًا
زِيَادَةُ شَفَقَةٍ تَمْنَعُ الْوَالِدَ عن قَتْلِهِ
فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّمَا يجب ( ( ( يحب ) ) ) وَالِدَهُ لَا لِوَالِدِهِ
بَلْ لِنَفْسِهِ وهو وُصُولُ النَّفْعِ إلَيْهِ من جِهَتِهِ فلم تَكُنْ
مَحَبَّتُهُ وَشَفَقَتُهُ مَانِعَةً من الْقَتْلِ فَلَزِمَ الْمَنْعُ بِشَرْعِ
الْقِصَاصِ كما في الْأَجَانِبِ
وَلِأَنَّ مَحَبَّةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَمَّا كانت لِمَنَافِعَ تَصِلُ
إلَيْهِ من جِهَتِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَرُبَّمَا يَقْتُلُ الْوَالِدَ لِيَتَعَجَّلَ
الْوُصُولَ إلَى أَمْلَاكِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كان لَا يَصِلُ النَّفْعُ إلَيْهِ
من جِهَتِهِ لِعَوَارِضَ
وَمِثْلُ هذا يَنْدُرُ في جَانِبِ الْأَبِ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكَ الْقَاتِلِ وَلَا له فيه شُبْهَةُ الْمِلْكِ
حتى لَا يُقْتَلَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ وَلِأَنَّهُ لو
وَجَبَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ له وَالْقِصَاصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَجِبُ له
وَعَلَيْهِ
وَكَذَا إذَا كان يَمْلِكُ بَعْضَهُ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عليه لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ متجزىء
وَكَذَا إذَا كان له فيه شُبْهَةُ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ عَبْدًا
من كَسْبِهِ لِأَنَّ لَلْمُكَاتَبِ شُبْهَةٌ الملك في أَكْسَابِهِ وَالشُّبْهَةُ
في هذا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَّبَّرِهِ
وَأُمِّ وَلَدِهِ وَمُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ هَؤُلَاءِ
إلَّا الْمُكَاتَبُ فإنه لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقُصُورٍ في
الْإِضَافَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ
بِمَوْلَاهُ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ لِعُمُومَاتِ
النُّصُوصِ وَلِتَحْقِيقِ ما شُرِعَ له الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ بِالزَّجْرِ
وَالرَّدْعِ بِخِلَافِ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ شَفَقَةَ
الْمَوْلَى على مَالِهِ تَمْنَعُهُ عن الْقَتْلِ عِنْدَ سَيَحَانِ الْعَدَاوَةِ
الْحَامِلِ على الْقَتْلِ إلَّا نَادِرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ
بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ
وَلَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ في قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَجِبُ
الْقِصَاصُ عليه لو انْفَرَدَ وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ عليه لو انْفَرَدَ مِمَّنْ
ذَكَرْنَا كَالصَّبِيِّ مع الْبَالِغِ وَالْمَجْنُونِ مع الْعَاقِلِ والخاطىء ( (
( والخاطئ ) ) ) مع الْعَامِدِ وَالْأَبِ مع الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَوْلَى مع
الأجنبى لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْعَاقِلِ
وَالْبَالِغِ وَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا الْعَامِدَ فإنه لَا قِصَاصَ عليه إذَا
شَارَكَهُ الخاطىء
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو
الْقَتْلُ الْعَمْدُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الْوُجُوبُ على أَحَدِهِمَا
لِمَعْنًى يَخُصُّهُ فَيَجِبُ على الْآخَرِ
وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَتْلِ في فِعْلِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ من لَا يَجِبُ عليه
الْقِصَاصُ لو انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا في الْقَتْلِ فَيَكُونُ فِعْلُ الْآخَرِ
فَضْلًا وَيُحْتَمَلُ على الْقَلْبِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةٌ في
الشَّرِيكَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا
وَأَلْحَقَهَا بِالْعَدَمِ فَتْحًا لِبَابِ الْقِصَاصِ وَسَدًّا لِبَابِ
الْعُدْوَانِ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ ثَمَّ يَكُونُ أَغْلَبَ وَهَهُنَا أَنْدَرَ
فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَلَا يُلْحَقُ
____________________
(7/235)
بِهِ
وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ
الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ثُمَّ ما يَجِبُ على الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ والخاطىء ( ( ( والخاطئ ) ) ) تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وما
يَجِبُ على الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ وَالْعَامِدِ يَكُونُ في مَالِهِ لِأَنَّ
الْقَتْلَ عَمْدٌ لَكِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ وَالْعَاقِلَةُ لَا
تَعْقِلُ الْعَمْدَ وفي الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ الدِّيَةُ في مَالِهِمَا لِأَنَّ
الْقَتْلَ عَمْدٌ وفي الْمَوْلَى مع الْأَجْنَبِيِّ على الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ
قِيمَةِ الْعَبْدِ في مَالِهِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيٌّ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ على
الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ
الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجُرْحَيْنِ أَحَدُهُمَا هَدَرٌ وَالْآخَرُ مُعْتَبَرٌ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ تَأْتِي في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ
وَلَا ذِمِّيٌّ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَلَا بِالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ
الْعِصْمَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَلَا بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
لِأَنَّ عِصْمَتَهُ ما ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ
مَقَامِهِ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ من أَهْلِ دَارِ
الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ بَلْ
لِعَارِضِ حَاجَةٍ يَدْفَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ
فَكَانَتْ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ
وَقْتَ الْقَتْلِ
وَهَلْ يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ذَكَرَ في السِّيَرِ
الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُقْتَلُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُقْتَلُ
الْعَادِلُ بِالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ
يَقْصِدُونَ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا وَيَسْتَحِلُّونَهَا وقد قال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاتِلْ دُونَ نَفْسِك وقال قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَلَا
يُقْتَلُ الْبَاغِي بِالْعَادِلِ أَيْضًا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْتَلُ
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا
وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ في زَعْمِ الْبَاغِي لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ دَمَ
الْعَادِلِ بِتَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنَّ له مَنَعَةً
وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ وُجُودِ المتعة ( ( ( المنعة ) ) ) أُلْحِقَ بِالتَّأْوِيلِ
الصَّحِيحِ في حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قال وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ
وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا على أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ
بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قال الرَّجُلُ لِآخَرَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ
أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
يَجِبُ الْقِصَاصَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الأمر بِالْقَتْلِ لم يَقْدَحْ في الْعِصْمَةِ
لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْقَوْلِ فَكَانَ الْأَمْرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ لِأَنَّ عِصْمَةَ الطَّرَفِ تَحْتَمِلُ
الْإِبَاحَةَ في الْجُمْلَةِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الْأَمْرُ فيها
وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ في هذه الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّ
الْأَمْرَ وَإِنْ لم يَصِحَّ حَقِيقَةً فَصِيغَتُهُ تُورِثُ شُبْهَةً
وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَاب لها حُكْمُ الْحَقِيقَةِ
وإذا لم يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فيه ( ( ( فيها ) ) )
رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في رِوَايَةٍ تَجِبُ وفي رِوَايَةٍ
لَا تَجِبُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا أَصَحُّ
الرِّوَايَتَيْنِ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
الْأَصَحُّ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْحُرْمَةِ
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ
وُجُوبَ الْمَالِ
وَلَوْ قال اقْطَعْ يَدَيَّ فَقَطَعَ لَا شَيْءَ عليه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بها مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَعِصْمَةُ الْأَمْوَالِ
تَثْبُتُ حَقًّا له فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ
وَالْإِذْنِ كما لو قال له اتلف مَالِي فَأَتْلَفَهُ
وَلَوْ قال اُقْتُلْ عَبْدِي أو اقْطَعْ يَدَهُ فَقَتَلَ أو قَطَعَ فَلَا ضَمَانَ
عليه لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ وَعِصْمَةُ مَالِهِ ثَبَتَتْ حَقًّا له فَجَازَ
أَنْ يَسْقُطَ بِإِذْنِهِ كما في سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلَوْ قال اُقْتُلْ أَخِي
فَقَتَلَهُ وهو وَارِثُهُ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ وقال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ
الدِّيَةَ من الْقَاتِلِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَخَ الْآمِرَ أَجْنَبِيٌّ عن دَمِ أَخِيهِ فَلَا
يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْقَتْلِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقِصَاصَ لو وَجَبَ بِقَتْلِ أَخِيهِ لَوَجَبَ له
وَالْقَتْلُ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْإِذْنُ إنْ لم يَعْمَلْ شَرْعًا لَكِنَّهُ
وُجِدَ حَقِيقَةً من حَيْثُ الصِّيغَةُ فَوُجُودُهُ يُورِثُ شُبْهَةً كَالْإِذْنِ
بِقَتْلِ نَفْسِهِ وَالشُّبْهَةُ لَا تُؤَثِّرُ في وُجُوبِ الْمَالِ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا
أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ فقلته ( ( ( فقتله ) ) ) أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَهَذَا
يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ فَلَا شَيْءَ عليه إنْ لم يَمُتْ من
الشَّجَّةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّجَّةِ كَالْأَمْرِ بِالْقَطْعِ وَإِنْ مَاتَ
منها كانت عليه الدِّيَةُ كَذَا ذُكِرَ في الْكِتَابِ وَيَحْتَمِلُ هذا أَنْ
يَكُونَ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَاصَّةً بِنَاءً على أَنَّ
الْعَفْوَ عن الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عن الْقَتْلِ عِنْدَهُ فَكَذَا
الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ
وَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ لَا
شَجًّا وكان
____________________
(7/236)
الْقِيَاسُ
أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
فَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عليه شَيْءٌ لِأَنَّ
الْعَفْوَ عن الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عن الْقَتْلِ عِنْدَهُمَا فَكَذَا
الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ
وروى ( ( ( روى ) ) ) ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ
أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَفَعَلَ فَمَاتَ من ذلك أَنَّهُ لَا
شَيْءَ على قَاطِعِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا قَوْلَهُمَا خَاصَّةً كما
قَالَا فِيمَنْ له الْقِصَاصُ في الطَّرَفِ إذَا قَطَعَ طَرَفَ من عليه الْقِصَاصُ
فَمَاتَ أنه لَا شَيْءَ عليه
فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ
الدِّيَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا
وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ وكان الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ
الْقِصَاصَ كما قال فِيمَنْ له الْقِصَاصُ في الطَّرَفِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ
لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدنَا
لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مُسْلِمًا فَهُوَ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ
قال اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو
مُؤْمِنٌ } فَكَوْنُهُ من أَهْل دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً في عِصْمَتِهِ
وَلِأَنَّهُ إذَا لم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَهُوَ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ
وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ منهم على لِسَانِ رسول اللَّهِ وهو وَإِنْ
لم يَكُنْ منهم دِينًا فَهُوَ منهم دَارًا فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ
وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ تَاجِرَيْنِ أو أَسِيرَيْنِ في دَارِ الْحَرْبِ
فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا وَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَالْكَفَّارَةُ في التَّاجِرَيْنِ وفي الْأَسِيرَيْنِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ في
كِتَابِ السِّيَرِ
وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِثْلَ الْقَاتِلِ في كَمَالِ الذَّات
وهو سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ وَلَا أَنْ يَكُونَ مثله في الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ
فَيُقْتَلُ سَلِيمُ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ وَالْأَشَلِّ
وَيُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ وَالشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ وَالْعَاقِلُ
بِالْمَجْنُونِ
وَالْبَالِغُ بِالصَّبِيِّ
وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ
الذي يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ وَتَجْرِي عليه أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوْنُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ الْقَاتِلِ في
شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَنُقْصَانُ
الْكُفْرِ وَالرِّقِّ يَمْنَعُ من الْوُجُوبِ فَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ
بِالذِّمِّيِّ وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ
وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ
الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا
ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ
اُحْتُجَّ في عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عنه عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَهَذَا
نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِثُبُوتِهَا مع الْقِيَامِ
الْمُنَافِي وهو الْكُفْرُ لِأَنَّهُ مُبِيحٌ في الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً
مُتَنَاهِيَةً فَيُوجِبُ عُقُوبَةً مُتَنَاهِيَةً وهو الْقَتْلُ لِكَوْنِهِ من
أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ من قَتْلِهِ
لِغَيْرِهِ وهو نَقْضُ الْعَهْدِ الثَّابِتِ بِالذِّمَّةِ فَقِيَامُهُ يُورِثُ
شُبْهَةً وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا
الذِّمِّيُّ
وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْن
الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مَشْهُودٌ له بِالسَّعَادَةِ وَالْكَافِرُ
مَشْهُودٌ له بِالشَّقَاءِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ من نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى }
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ }
وَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } من غَيْرِ فَصْلٍ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ
وَنَفْسٍ وَنَفْسٍ
وَمَظْلُومٍ وَمَظْلُومٍ
فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز من قَائِلٍ { وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ }
وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَيَاةِ في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَبْلَغُ منه
في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ
لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ تَحْمِلُهُ على الْقَتْلِ خُصُوصًا عِنْدَ
الْغَضَبِ وَيَجِبُ عليه قَتْلُهُ لِغُرَمَائِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى
الزَّاجِرِ أَمَسَّ فَكَانَ في شَرْعِ الْقِصَاصِ فيه في تَحْقِيقِ مَعْنَى
الْحَيَاةِ أَبْلَغُ
وَرَوَى محمد بن الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ أَقَادَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنا
أَحَقُّ من وَفَّى ذِمَّتَهُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ من الْكَافِرِ
الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُقْتَلُ
مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ عَطَفَ قَوْلَهُ وَلَا ذُو
عَهْدٍ في عَهْدِهِ على الْمُسْلِمِ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ
بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ بِهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أو نَحْمِلُهُ على هذا
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ
مَمْنُوعٌ بَلْ دَمُهُ حَرَامٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ مع قِيَامِ
الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ مع قِيَامِ الْإِسْلَامِ
وَقَوْلُهُ الْكُفْرُ مُبِيحٌ على الْإِطْلَاقِ
مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُبِيحُ هو الْكُفْرُ الْبَاعِثُ على الْحِرَابِ وَكُفْرُهُ ليس
بِبَاعِثٍ على الْحِرَابِ فَلَا يَكُونُ مُبِيحًا
وَقَوْلُهُ لَا مُسَاوَاةَ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
قُلْنَا الْمُسَاوَاةُ في الدِّينِ ليس بِشَرْطٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ
إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا وَلَا
مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا في الدِّينِ لَكِنَّ الْقِصَاصَ مِحْنَةٌ اُمْتُحِنُوا
الْخَلْقُ بِذَلِكَ فَكُلُّ من كان أَقْبَلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْكَرَ
لِنِعَمِهِ كان أَوْلَى بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ لِأَنَّ الْعُذْرَ له في ارْتِكَابِ
الْمَحْذُورِ أَقَلُّ وهو بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى
وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى في حَقِّهِ أَكْمَلُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَعْظَمَ
وَاحْتُجَّ في قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ }
____________________
(7/237)
وَفُسِّرَ
الْقِصَاصُ الْمَكْتُوبُ في صَدْرِ الْآيَةِ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ قَتْلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ
قِصَاصًا وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بين النَّفْسَيْنِ في الْعِصْمَةِ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُرَّ آدَمِيٌّ من كل وَجْهٍ وَالْعَبْدَ
آدَمِيٌّ من وَجْهٍ مَالٌ من وَجْهٍ وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَكُونُ له وَعِصْمَةُ
الْمَالِ تَكُونُ لِلْمَالِكِ
وَالثَّانِي أَنَّ في عِصْمَةِ الْعَبْدِ شُبْهَةَ الْعَدَم لِأَنَّ الرِّقَّ
أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ في الْأَصْلِ فَكَانَ في عِصْمَتِهِ
شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَثْبُتُ مُطْلَقَةً فَأَنَّى
يَسْتَوِيَانِ في الْعِصْمَةِ
وَكَذَا لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا في الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ لِأَنَّ
الرِّقَّ يُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالنُّقْصَانِ
وَالْحُرِّيَّةَ تنبىء عن الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ
وَلِأَنَّ ما شُرِعَ له الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِيجَابِ
الْقِصَاصِ على الْحُرِّ بِقَتْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّ حُصُولَهُ يَقِفُ على حُصُولِ
الِامْتِنَاعِ عن الْقَتْلِ خَوْفًا على نَفْسِهِ فَلَوْ لم يَجِبْ الْقِصَاصُ بين
الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لَا يَخْشَى الْحُرُّ تَلَفَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ الْعَبْدِ فَلَا
يَمْتَنِعُ عن قَتْلِهِ بَلْ يَقْدُمُهُ عليه عِنْدَ أَسْبَابٍ حامله على الْقَتْل
من الْغَيْظِ الْمُفْرِطِ وَنَحْوِ ذلك فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ وَلَا
حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها أَنَّ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ قِصَاصٌ وَهَذَا لَا ينافي ( ( ( ينفي ) ) ) أَنْ يَكُونَ
قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا لِأَنَّ التَّنْصِيصَ لَا يَدُلُّ على
التَّخْصِيصِ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بالثيب جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ
بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ الْبِكْرُ إذَا زَنَى بِالثَّيِّبِ وَجَبَ الْحُكْمُ
الثَّابِتُ بِالْحَدِيثِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس في ذِكْرِ شَكْلٍ بِشَكْلٍ تَخْصِيصُ
الْحُكْمِ بِهِ
يَدُلُّ عليه أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ
وَلَوْ كان التَّنْصِيصُ على الْحُكْمِ في نَوْعٍ مُوجِبًا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ
بِهِ لَمَا قُتِلَ
ثَمَّ قَوْله تَعَالَى { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ
لِأَنَّهُ قاتل ( ( ( قال ) ) ) الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي
أَنْ تُقْتَلَ الْحُرَّةُ بِالْأَمَةِ وَعِنْدكُمْ لَا تُقْتَلُ فَكَانَ حُجَّةً
عَلَيْكُمْ
وَقَوْلُهُ الْعَبْدُ آدَمِيٌّ من وَجْهٍ
مَالٌ من وَجْهٍ قُلْنَا لَا بَلْ آدَمِيٌّ من كل وَجْهٍ
لِأَنَّ الأدمي اسْمٌ لِشَخْصٍ على هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَنْسُوبٍ إلَى
سَيِّدِنَا آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْعَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ
فَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِثْلَ عِصْمَةِ الْحُرِّ بَلْ فَوْقَهَا على أَنَّ نَفْسَ
الْعَبْدِ في الْجِنَايَةِ له لَا لِمَوْلَاهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ لو
أَقَرَّ على نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ يُؤْخَذُ بِهِ
وَلَوْ أَقَرَّ عليه مَوْلَاهُ بِذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فَكَانَ نَفْسُ
الْعَبْدِ في الْجِنَايَةِ له لَا لِلْمَوْلَى كَنَفْسِ الْحُرِّ لِلْحُرِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحُرُّ أَفْضَلُ من الْعَبْدِ فَنَعَمْ لَكِنَّ التَّفَاوُتَ
في الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لو قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ أُعْتِقَ الْقَاتِلُ
يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا وَإِنْ اسْتَفَادَ فَضْلَ الْحُرِّيَّةِ
وَكَذَا الذَّكَرُ يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى
وَإِنْ كان الذكر أَفْضَلَ من الْأُنْثَى وَكَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُمَاثَلَةُ
في الْعَدَدِ في الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ في الْفِعْلِ
بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ زَجْرًا وفي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا حتى لو
قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا يُقْتَلُونَ بِهِ قِصَاصًا وَإِنْ لم يَكُنْ بين
الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ مُمَاثَلَةٌ لِوُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ في الْفِعْلِ
وَالْفَائِتِ بِهِ زَجْرًا وَجَبْرًا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَأَحَقُّ ما يُجْعَلُ فيه الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ الْوَاحِدَ
لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ عَادَةً إلَّا على سَبِيلِ التَّعَاوُنِ والإجتماع
فَلَوْ لم يُجْعَلْ فيه الْقِصَاصُ لا نسد بَابُ الْقِصَاصِ إذْ كُلُّ من رَامَ
قَتْلَ غَيْرِهِ اسْتَعَانَ بِغَيْرٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ لِيُبْطِلَ
الْقِصَاصَ عن نَفْسِهِ وَفِيهِ تَفْوِيتُ ما شُرِعَ له الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ
هذا إذَا كان الْقَتْلُ على الإجتماع فَأَمَّا إذَا كان على التَّعَاقُبِ بِأَنْ
شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهُ ثُمَّ حَزَّ آخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقِصَاصُ على الْحَازِّ
إنْ كان عَمْدًا وَإِنْ كان خَطَأً فَالدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ هو
الْقَاتِلُ لَا الشَّاقُّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قد يَعِيشُ بَعْدَ شَقِّ الْبَطْنِ بِأَنْ يُخَاطَ بَطْنُهُ
وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَ حَزِّ رَقَبَتِهِ عَادَةً
وَعَلَى الشَّاقِّ أَرْشُ الشَّقِّ وهو ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ
وَإِنْ كان الشَّقُّ نَفَذَ من الْجَانِبِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ
في سَنَتَيْنِ في كل سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُمَا جَائِفَتَانِ هذا إذَا
كان الشَّقُّ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ يَوْمًا أو بَعْضَ يَوْمٍ
فَأَمَّا إذَا كان لَا يُتَوَهَّمُ ذلك ولم يَبْقَ معه إلَّا غَمَرَاتُ الْمَوْتِ
وَالِاضْطِرَابُ فَالْقِصَاصُ على الشَّاقِّ لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ وَلَا ضَمَانَ
على الْحَازِّ لِأَنَّهُ قَتَلَ الْمَقْتُولَ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّهُ
يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً ليس لها حد مُقَدَّرٌ
وَكَذَلِكَ لو جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً مُثْخِنَةً لَا يَعِيشُ
____________________
(7/238)
مَعَهَا
عَادَةً ثُمَّ جَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى فَالْقِصَاصُ على الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ لِإِتْيَانِهِ بِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ
عَادَةً فَإِنْ كانت الْجِرَاحَتَانِ مَعًا فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا
قَاتِلَانِ
وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ
فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ قد يَمُوتُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَمُوتُ بِجِرَاحَاتٍ
كَثِيرَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ قِصَاصًا اكْتِفَاءً وَلَا يَجِبُ
مع الْقَوَدِ شَيْءٌ من الْمَالِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ لله إنْ قَتَلَهُمْ على التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ
بِالْأَوَّلِ قِصَاصًا وَتُؤْخَذُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ من تَرِكَتِهِ وَإِنْ
قَتَلَهُمْ مَعًا فَلَهُ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ
خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ يُقْتَل وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْبَاقِينَ وفي قَوْلٍ
يَجْتَمِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُ وَتُقَسَّمُ دِيَاتُ
الْبَاقِينَ بَيْنَهُمْ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَشْرُوطَةٌ في
بَابِ الْقِصَاصِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ على طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ
بِهِ فَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ وَتَجِبُ الدِّيَاتُ لِلْبَاقِينَ
كما لو قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِمَا
اكْتِفَاءً بَلْ يُقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْأُخْرَى لِمَا
قُلْنَا كَذَا هذا
وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا
إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ غير مَعْقُولٍ أو مَعْقُولًا بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَا
يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى
الزَّجْرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم قَاتِلًا على الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه
غَيْرُهُ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ
وَقَتْلُ الْوَاحِدِ بالجماعة ( ( ( الجماعة ) ) ) لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ
يَنْدُرُ فلم يَكُنْ في مَعْنَى ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
وَإِنَّا نَقُولُ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ في الْقَتْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لهم
فَلَوْ أَوْجَبْنَا معه الْمَالَ لَكَانَ زِيَادَةً على الْقَتْلِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لهم أَنَّ
التَّمَاثُلَ في بَابِ الْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يُرَاعَى في الْفِعْلِ زَجْرًا
وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى في الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا وَإِمَّا أَنْ يراعي
فِيهِمَا جميعا وَكُلُّ ذلك مَوْجُودٌ هَهُنَا
أَمَّا في الْفِعْلِ زَجْرًا فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الْوَاحِدِ في حَقِّ كل
وَاحِدٍ من الْجَمَاعَةِ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً
وَالْمُسْتَحَقُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى قِبَلَ الْقَاتِلِ
قَتْلُهُ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ وَأَمَّا في الْفَائِتِ جَبْرًا
فَلِأَنَّهُ بِقَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ ظُلْمًا انْعَقَدَ سَبَبُ هَلَاكِ وَرَثَةِ
الْقَتْلَى لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ طَلَبًا لِلثَّأْرِ وَتَشَفِّيًا
لِلصَّدْرِ فَيَقْصِدُ هو قَتْلَهُمْ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ فَتَقَعُ
الْمُحَارَبَةُ بين الْقَبِيلَتَيْنِ وَمَتَى قُتِلَ منهم قِصَاصًا سَكَنَتْ
الْفِتْنَةُ وَانْدَفَعَ سَبَبُ الْهَلَاكِ عن وَرَثَتِهِمْ فَتَحْصُلُ الْحَيَاةُ
لِكُلِّ قَتِيلٍ مَعْنًى بِبَقَاءِ حَيَاةِ وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ
فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ دَخِرَ حَيَاةَ كل قَتِيلٍ تَقْدِيرًا بِدَفْعِ
سَبَبِ الْهَلَاكِ عن وَرَثَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْجَبْرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
كما في قَتْلِ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ من غَيْرِ
تَفَاوُتٍ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ
الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ كان تَسْبِيبًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً وَالْجَزَاءُ
قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ من حَفَرَ بِئْرًا على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فيها
إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على الْحَافِرِ لِأَنَّ الْحَفْرَ قَتْلٌ
سَبَبًا لَا مُبَاشَرَةً وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ شُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا
بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عليه أو جاء الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا أَنَّهُ
لَا قِصَاصَ عليهم عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَقَعَتْ قَتْلًا لِأَنَّ الْقَتْلَ
اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وقد وُجِدَ من الشُّهُودِ
لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ في ظُهُورِ الْقِصَاصِ وَالظُّهُورَ مُؤَثِّرٌ
في وُجُوبِ الْقَضَاءِ على الْقَاضِي وَقَضَاءَ الْقَاضِي مُؤَثِّرٌ في وِلَايَةِ
الِاسْتِيفَاءِ وَوِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ مُؤَثِّرَةٌ في الِاسْتِيفَاء طَبْعًا
وَعَادَةً فَكَانَتْ فَوَاتُ الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى
الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَتْلًا تَسْبِيبًا
وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا مِثْلُ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً في حَقّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ
كَالْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ على الْمُكْرَهِ وَإِنْ
لم يَكُنْ قَتْلًا بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ قَتْلًا بِطَرِيقِ
التَّسْبِيبِ كَذَا هذا
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ
مُبَاشَرَةً لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا قَتْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً وَالْقَتْلُ
مُبَاشَرَةً قَتْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً بِخِلَافِ
الْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ يَجْعَلُ
الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ وَضَرَبَهُ على الْمُكْرَهِ على
قَتْلِهِ وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ فَكَانَ قَتْلًا
مُبَاشَرَةً وَيَضْمَنُونَ الدِّيَةَ لوجود ( ( ( بوجود ) ) ) الْقَتْلِ منهم
وَهَلْ يَرْجِعُونَ بها على الْوَلِيِّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَرْجِعُونَ وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ
لهما ( ( ( ولهما ) ) ) أَنَّ الشُّهُودَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامُوا مَقَامَ
الْمَقْتُولِ في مِلْكِ بَدَلِهِ إنْ لم يَقُومُوا مَقَامَهُ في مِلْكِ
____________________
(7/239)
عَيْنِهِ
فَأَشْبَهَ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ إذَا غَصَبَ منه فَمَاتَ في يَدِ الْغَاصِبِ
الثَّانِي أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ على الثَّانِي بِمَا ضَمِنَهُ
الْمَالِكُ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ وَنَفْسُ
الْحُرِّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لهم في الْبَدَلِ
بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا
إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فيه لِمُعَارِضٍ وهو التَّدْبِيرُ
فَيَثْبُتُ في بَدَلِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ فَوَاحِدٌ أَيْضًا وهو أَنْ
يَكُونَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَإِنْ كان مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصَ وُجُوبٌ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ من
الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ له وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما
إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً أَحْرَارًا غير الْمَوْلَى
أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على الْقَاتِلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَبَهٌ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْوَارِثَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُون هو الْمَوْلَى
لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في مَوْتِهِ حُرًّا أو
عَبْدًا فَإِنْ مَاتَ حُرًّا كان وَلِيُّهُ الْوَارِثَ وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كان
وَلَيُّهُ الْمَوْلَى وَمَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ مَوْضِعُ التَّعَارُضِ
وَالِاشْتِبَاهِ فلم يَكُنْ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَإِنْ
اجْتَمَعَا ليس لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ
بِالِاجْتِمَاعِ
هذا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً غير الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا تَرَكَ وَفَاءً
ولم يَتْرُكْ وَرَثَةً غير الْمَوْلَى فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ
الْقِصَاصُ أَصْلًا وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ في سَبَبِ ثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا كان سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ القرابة
فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كان السَّبَبُ هو
الْمِلْكُ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ للملوى ( ( ( للمولى ) ) ) فَوَقَعَ
الِاشْتِبَاهُ في ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَلَا تَثْبُتُ
وَلَهُمَا أَنَّ من له الْحَقُّ مُتَعَيَّنٌ غَيْرُ مُشْتَبَهٍ
لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ مُوجِبٌ الْمُزَاحِمَةَ ولم يُوجَدْ وَلَوْ قُتِلَ ولم
يَتْرُكْ وَفَاءً وَجَبَ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَعْلُومٌ
وهو الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَمُوتُ رَقِيقًا بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ الْقِصَاصُ
لِلْمَوْلَى كَالْعَبْدِ الْقَنِّ أذا قُتِلَ
وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَوَلَدُهَا
بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا على مِلْكِ الْمَوْلَى
فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا وَلَوْ قُتِلَ عبد الْمُكَاتَبِ فَلَا قِصَاصَ
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ له نَوْعُ مِلْكِ وَلِلْمَوْلَى أَيْضًا فيه نَوْعُ مِلْكٍ
فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ
ثُمَّ مَاتَ من ذلك أَنَّهُ إنْ كان لِلْعَبْدِ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرُ الْمَوْلَى
فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ
الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْقَطْعِ السَّابِقِ وَالْحَقُّ عِنْدَ الْقَطْعِ
لِلْمَوْلَى لَا لِلْوَرَثَةِ وَعِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وهو الْوُجُوبُ
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ لَا لَلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ
الْمَوْلَى فلم يَجِبْ الْقِصَاصُ
وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْلَى مع الْوَارِثِ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ
لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُوصَى
بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ قُتِلَ وَاجْتَمَعَا أَنَّهُ
يَجِبُ الْقِصَاصَ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ لِأَنَّ لِصَاحِبِ
الرَّقَبَةِ مِلْكًا وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقًّا يُشْبِهُ الْمِلْكِ فلم
يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ وَهَهُنَا أشتبه الْوَلِيُّ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَطْعِ لم
يَكُنْ لِلْوَارِثِ فيه حَقٌّ وَوَقْتُ الْمَوْتِ لم يَكُنْ لِلْمَوْلَى فيه حَقٌّ
فَصَارَ الْوَلِيُّ مُشْتَبَهًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبَ وَإِنْ لم يَكُنْ وَارِثٌ
سِوَى الْمَوْلَى فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ على قَوْلِهِمَا
لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ لِأَنَّ الْحَقَّ له وَقْتَ الْقَطْعِ
وَوَقْتَ الْمَوْتِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ليس له حَقُّ الِاقْتِصَاصِ
لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ للملوى ( ( ( للمولى ) ) )
وَقْتَ الْقَطْعِ كان وِلَايَةَ الْمِلْكِ وَبَعْدَ المولت ( ( ( الموت ) ) ) له
وِلَايَةُ الْعَتَاقَةِ فَاشْتَبَهَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ
هذا إذَا كان الْقَطْعُ عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كان خَطَأً فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ
مَاتَ من ذلك فَلَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ وهو نِصْفُ
قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِعْتَاقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ بُرْئِهِ في الْيَدِ
لِتَبَدُّلِ الْمَحَلِّ حُكْمًا بِالْإِعْتَاقِ فَتَنْقَطِعُ آيَةُ السِّرَايَةِ
هذا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ عَمْدًا أو خَطَأً فَمَاتَ من
ذلك فَأَمَّا إذَا لم يُعْتِقْهُ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةً
فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَاتَ من ذلك فَإِنْ كان الْقَطْعُ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى
الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْحَقَّ له وَقْتَ الْقَطْعِ وَالْمَوْتِ جميعا فلم يشتبه ( (
( يشبه ) ) ) الْوَلِيَّ
وَإِنْ كان خَطَأً لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ دِيَةُ
الْيَدِ وَيَجِبُ ما نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قبل الْمَوْتِ لِحُصُولِ ذلك في
مِلْكِ الْمَوْلَى
وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ كان الْقَطْعُ عَمْدًا
يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا
وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَإِنْ كان له وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أو
يُشَارِكُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ أَرْشُ
الْيَدِ لَا غَيْرُ وَلَوْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ غير الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى
أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس له أَنْ يَقْتَصَّ وَعَلَيْهِ
أَرْشُ الْيَدِ وَإِنْ كان الْقَطْعُ خَطَأً لَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ إلَّا
أَرْشَ الْيَدِ وهو نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى وَتَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ
____________________
(7/240)
هذا
إذَا كان الْقَطْعُ قبل الْكِتَابَةِ فَإِنْ كان بَعْدَهَا فَمَاتَ فَإِنْ كان
الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ
لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَإِنْ كان مع الْمَوْلَى
وَارِثٌ آخَرَ أو غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ في الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ
الْوَلِيِّ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ غير الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي
ذَكَرْنَا وَإِنْ كان الْقَطْعُ خَطَأً فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ
لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ
لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا
حتى لَا يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ من الْقَاتِلِ من غَيْرِ
رِضَاهُ وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أو عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا
وَهَذَا عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ في قَوْلٍ
الْقِصَاصِ ليس واجب ( ( ( بواجب ) ) ) عَيْنًا بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ
الشَّيْئَيْنِ غير عَيْنٍ إمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ وَلِلْوَلِيِّ
خِيَارُ التَّعْيِينِ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
الدِّيَةَ من غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ
فَعَلَى هذا الْقَوْلِ إذَا مَاتَ الْقَاتِلُ يَتَعَيَّنُ الْمَالُ وَاجِبًا فإذا
عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا وفي قَوْلٍ الْقِصَاصُ وَاجِبٌ
عَيْنًا لَكِنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ من غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ
وإذا عَفَا له أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ وإذا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَ الْمُوجِبُ
أَصْلًا
احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } مَعْنَاهُ فَلْيَتَتَبَّعْ
وَلْيُؤَدِّ الدِّيَةَ
أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الْقَاتِلِ أَدَاءَ الدِّيَةِ إلَى
الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الرِّضَا لِأَنَّ أَدَاءَ الدِّيَةِ صِيَانَةُ
النَّفْسِ عن الْهَلَاكِ وأنه وَاجِبٌ
قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ
} وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ
وَرَدَتْ على حَقِّهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ بها حَقًّا له وَحَقُّ الْعَبْدِ ما
يَنْتَفِعُ بِهِ
وَالْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ وَيَنْتَفِعُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ
تُقْضَى منه دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ منه وَصَايَاهُ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا
يُشْرَعَ الْقِصَاصُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ لَا يَمْتَنِعُ من قَتْلِ عَدُوِّهِ خَوْفًا من لُزُومِ الْمَالِ
فَشُرِعَ ضَمَانًا زَاجِرًا كان يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا كما في
شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِأَنَّ الدِّيَةَ
بَدَلُ النَّفْسِ وفي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } والياء ( ( (
والباء ) ) ) تُسْتَعْمَلُ في الأبدال فَتُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بين
الْبَدَلَيْنِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى } وَهَذَا يُفِيدُ تَعَيُّنَ الْقِصَاصِ مُوجَبًا
وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْإِبْهَامِ جميعا
أَمَّا الْإِبْهَامُ فَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عن كَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا
فَيَصْدُقُ الْقَوْلُ عليه بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَإِنْ كان عليه أَحَدُ حَقَّيْنِ
لَا يَصْدُقُ الْقَوْلَ على أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ أَوْجَبُ
وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلِأَنَّهُ إذَا وجب ( ( ( أوجب ) ) ) الْقِصَاصَ على
الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ بِضَرُورَةِ النَّصِّ
لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِاخْتِيَارِ
الدِّيَةِ من غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كان عَيْنَ حَقِّهِ كانت الدِّيَةُ بَدَلَ حَقِّهِ
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِلَ من غَيْرِ الْحَقِّ إلَى بَدَلِهِ من
غَيْرِ رِضَا من عليه الْحَقُّ كَمَنْ عليه حِنْطَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَأَرَادَ
صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ منه قِيمَتَهَا من غَيْرِ رِضَاهُ ليس له ذلك
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَمْدُ قَوَدٌ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ
بِهِ على نَحْوِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَلِأَنَّ ضَمَان
الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ على حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِصَاصُ
وهو الْقَتْلُ الثَّانِي مِثْلُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يتوب ( ( ( ينوب )
) ) مَنَابَ الْأَوَّلِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ الذي
يَنُوبُ مَنَابَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَنُوبُ مَنَابَ
الْقَتْلِ وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ فَلَا يَكُونُ مِثْلًا له فَلَا يَصْلُحُ
ضَمَانًا لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا
أَنَّ الْوُجُوبَ في قَتْلِ الْخَطَأِ ثَبَتَ شَرْعًا تَخْفِيفًا على الخاطىء
نَظَرًا له إظْهَارًا لِخَطَرِ الدَّمِ صِيَانَةً له عن الْهَدَرِ وَالْعَامِدُ
لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ
وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْقِصَاصِ فَبَقِيَ ضَمَانًا أَصْلِيًّا في الْبَابِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
{ فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ } هو الْوَلِيُّ لَا الْقَاتِلُ
لِأَنَّهُ قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له } وَالْقَاتِلُ مَعْفُوٌّ
عنه لَا مَعْفُوٌّ له وَلِأَنَّهُ قال تَعَالَى اسْمُهُ { فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ } فَلْيَتَّبِعْ وأنه أَمْرٌ لِمَنْ دخل تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا بَلْ هو الْمُتَّبَعُ
وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ هو الْوَلِيُّ فَكَانَ هو الدَّاخِلُ تَحْتَ كَلِمَةِ
فَمَنْ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمَنْ بُذِلَ له وَأُعْطِيَ له من
أَخِيهِ شَيْءُ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ وَالسُّهُولَةِ فَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعَفْوِ بِمَعْنَى الْفَضْلِ لُغَةً قال اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ }
أَيْ الْفَضْلَ وَتَقُولُ الْعَرَبُ خُذْ ما أَتَاكَ عَفْوًا أَيْ فَضْلًا
وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أنه يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ من الْقَاتِلِ بِرِضَاهُ
وَقِيلَ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ نَزَلَتْ في الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ
وَقِيلَ نَزَلَتْ في دَمٍ بَيْن نَفَرٍ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عن الْقَاتِلِ
فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا بِالْمَعْرُوفِ في نَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُ قال
سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ }
____________________
(7/241)
وهو
الْعَفْوُ عن بَعْضِ الْحَقِّ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أُوقِعَ الِاحْتِمَالُ في
الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بها مع الِاحْتِمَالِ
وَقَوْلُهُ في دَفْعِ الدِّيَةِ صِيَانَةُ نَفْسِ الْقَاتِلِ عن الْهَلَاكِ
وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
قُلْنَا نعم لَكِنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ يَصِيرَ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ لَا أَنْ
يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَخْذَهُ من غَيْرِ رِضَاهُ
كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَعِنْدَ صَاحِبِهِ طَعَامٌ يَبِيعُهُ بِمِثْلِ
قِيمَتِهِ يَجِبُ عليه أَنْ يَشْتَرِيَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ فَإِنْ
امْتَنَعَ عن الشِّرَاءِ ليس لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَدْفَعَ الطَّعَامَ
إلَيْهِ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ من غَيْرِ رِضَاهُ
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُ الْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ
فلنا ( ( ( قلنا ) ) ) مَمْنُوعٌ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ
بِالْمَالِ لِأَنَّ فيه إحياؤه ( ( ( إحياءه ) ) ) بِإِكْفَاءِ وَرَثَتِهِ
أَحْيَاءً
وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِ على ما عُرِفَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ
الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُون حُرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا
فَإِنْ كان حُرًّا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ له وَارِثٌ وَإِمَّا أَنْ لم
يَكُنْ فَإِنْ كان له وَارِثٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هو الْوَارِثُ
كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ وَالْوَارِثُ أَقْرَبُ الناس
إلَى الْمَيِّتِ فَيَكُونُ له
ثُمَّ إنْ كان الْوَارِثُ وَاحِدًا اسْتَحَقَّهُ وَإِنْ كان جَمَاعَةً
اسْتَحَقُّوهُ على سَبِيلِ الشَّرِكَةِ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ عنه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في تَمْهِيدِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ مُوجَبُ
الْجِنَايَةِ وإنها وَرَدَتْ على الْمَقْتُولِ فَكَانَ مُوجَبُهَا حَقًّا له إلَّا
أَنَّهُ بِالْمَوْتِ عَجَزَ عن الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَتَقُومُ الْوَرَثَةُ
مَقَامَهُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عنه وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا
تَجْرِي فيه سِهَامُ الْوَرَثَةِ من النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ وَغَيْرِ
ذلك كما تَجْرِي في الْمَالِ
وَهَذَا آيَةُ الشَّرِكَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْقِصَاصِ هو
التَّشَفِّي وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ
حَقًّا لهم ابْتِدَاءً
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ كَأَنْ
ليس معه غَيْرُهُ لَا على سَبِيلِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ
وَالشَّرِكَةُ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ مُحَالٌ إذْ الشَّرِكَةُ الْمَعْقُولَةُ
هِيَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لِهَذَا وَالْبَعْضُ لِذَلِكَ كَشَرِيكِ الْأَرْضِ
وَالدَّارِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ مُحَالٌ
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما لَا يَتَجَزَّأُ من الْحُقُوقِ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ وقد
وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم
على سَبِيلِ الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ
وَوِلَايَةِ الْأَمَانِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قُتِلَ إنْسَانٌ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ
أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ على الْقَتْلِ ثُمَّ
حَضَرَ الْغَائِبُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا
يُعِيدُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كان خَطَأً لَا يُعِيدُ وَكَذَلِكَ
الدَّيْنُ
بِأَنْ كان لِأَبِيهِمَا دَيْنٌ على إنْسَانٍ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَمَّا كان
الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَجْنَبِيًّا عن صَاحِبِهِ فَيَقَعُ إثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ له لَا لِلْمَيِّتِ
فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عن الْمَيِّتِ في الْإِثْبَاتِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى
إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَمَّا كان حَقًّا مَوْرُوثًا على فَرَائِضِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُمَا
وَالْوَرَثَةُ خُلَفَاؤُهُ في اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ يَقَعُ الْإِثْبَاتُ
لِلْمَيِّتِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عن الْمَيِّتِ في
حُقُوقِهِ كما في الدِّيَةِ وَالدَّيْنِ فَيَصِحُّ منه إثْبَاتُ الْكُلِّ
لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَخْلُفُونَهُ كما في الْمَالِ
وَلَوْ قُتِلَ إنْسَانٌ وَلَهُ وَلِيَّانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَأَقَامَ
الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ على الْحَاضِرِ أَنَّ الْغَائِبَ قد عَفَا فَالشَّاهِدُ
خَصْمٌ
لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَفْوِ من الْغَائِبِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَاضِرِ عن
الْقِصَاصِ فَكَانَ الْقَاتِلُ مُدَّعِيًا على الْحَاضِرِ بُطْلَانَ حَقِّهِ
فَكَانَ خَصْمًا له ويقضى عليه وَمَتَى قضي عليه يَصِيرُ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا
عليه تَبَعًا له
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ لم يَكُنْ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ لم يَكُنْ له أَنْ يَسْتَحْلِفَ
الْحَاضِرَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَنْتَصِبُ خَصْمًا عن غَيْرِهِ في إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ ما لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عن غَيْرِهِ في الْيَمِينِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقِصَاصُ إذَا كان بين صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَنَّ
لِلْكَبِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا ليس له ذلك
وَيُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا كان
الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على
سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لِاسْتِقْلَالِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ
منهم وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ في نَفْسِهِ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على
الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ الِاسْتِيفَاءِ على
بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كان حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْن الْكُلِّ
فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ في مَحَلٍّ مُشْتَرَكٍ
بِدُونِ رِضَا شَرِيكِهِ إظْهَارًا لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ وَتَحَرُّزًا عن
الضَّرَرِ
وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أبي حَنِيفَةَ
____________________
(7/242)
رضي
اللَّهُ عنه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ
وَالشَّرِكَةُ في غَيْرِ المتجزىء ( ( ( المتجزئ ) ) ) مُحَالٌ وَإِنَّمَا
تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ إذَا انْقَلَبَ مَالًا لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ قَابِلٌ
لِلشَّرِكَةِ على أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنْ سَلَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ
بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ
الْقَتْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْكَبِيرِ في نَصِيبِهِ بطريق ( (
( بطرق ) ) ) الْأَصَالَةِ وفي نَصِيبِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا
كَالْقِصَاصِ إذَا كان بين إنْسَانٍ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْجَامِعُ
بَيْنَهُمَا حَاجَتُهُمَا إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ
وَعَجْزُ الصَّغِيرِ عن الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ وَقُدْرَةُ الْكَبِيرِ على ذلك
وَكَوْنُ تَصَرُّفِهِ في النَّظَرِ وَالشَّفَقَةُ في حَقِّ الصَّغِيرِ مِثْلُ
تَصَرُّفِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ لو كان أَهْلًا وَلِهَذَا يَلِي الْأَبُ
وَالْجَدُّ اسْتِيفَاءَ قِصَاصٍ وَجَبَ كُلُّهُ لِلصَّغِيرِ فَهَذَا أَوْلَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فإنه رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَحَ ابن مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ عَلِيًّا كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ فقال لِلْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ وَإِنْ
شِئْت فَاعْفُ عنه وإن تَعْفُوَ خَيْرٌ لَك
فَقَتَلَهُ سَيِّدُنَا الْحَسَنُ رضي اللَّهُ عنه وكان في وَرَثَةِ سَيِّدِنَا
عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه صَغَارٌ
وَالِاسْتِدْلَالُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي
اللَّهُ عنه
وَالثَّانِي بِفِعْلِ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَيَّرَ سَيِّدَنَا الْحَسَنَ رضي اللَّهُ عنه
حَيْثُ قال إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ مُطْلَقًا من غَيْرِ التَّقْيِيدِ بِبُلُوغِ
الصِّغَارِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْحَسَنَ رضي اللَّهُ عنه قَتَلَ ابْنَ مُلْجَمٍ
لَعَنَهُ اللَّهُ ولم يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الصِّغَارِ
وَكُلُّ ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم
يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَإِنْ لم
يَكُنْ له وَارِثٌ وكان له مولى الْعَتَاقَةِ وهو الْمُعْتَقُ فَالْمُسْتَحِقُّ
لِلْقِصَاصِ هو لِأَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ
ثُمَّ إنْ كان وَاحِدًا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً
اسْتَحَقُّوهُ
وَإِنْ كان لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا فَلَا قِصَاصَ
لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُشْتَبَهٌ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ فَالسَّبَبُ في
حَقِّ الْوَارِثِ هو الْقَرَابَةُ وفي حَقِّ الْمَوْلَى الْوَلَاءُ وَهُمَا
سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ وَاشْتِبَاهُ الْوَلِيِّ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِلْقِصَاصِ
وَكَذَلِكَ إنْ لم يَكُنْ له مولى الْعَتَاقَةِ وَلَهُ مولى الْمُوَالَاةِ
لِأَنَّهُ أخر الْوَرَثَةِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقِصَاصَ كما يَسْتَحِقُّ
الْمَالَ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ وَلَا له مولى الْعَتَاقَةِ وَلَا مولى
الْمُوَالَاةِ كَاللَّقِيطِ وَغَيْرِهِ فَالْمُسْتَحِقُّ هو السُّلْطَانُ في
قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا كان الْمَقْتُولُ في
دَارِ الْإِسْلَامِ
وَالْحُجَجُ تأتى في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كان الْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْمُسْتَحِقُّ هو الْمَوْلَى لِأَنَّ الْحَقَّ
قد ثَبَتَ وَأَقْرَبُ الناس إلَى الْعَبْدِ مَوْلَاهُ
ثُمَّ إنْ كان الْمَوْلَى واحد ( ( ( واحدا ) ) ) اسْتَحَقَّ كُلَّهُ
وَإِنْ كان جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ في حَقِّ
الْكُلِّ وهو الْمِلْكُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَشَرْطِ جَوَازِ
اسْتِيفَائِهِ فَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ تَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ منها
الْوِرَاثَةُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان وَاحِدًا
وَإِمَّا أن كَانُوا جَمَاعَةً فَإِنْ كان وَاحِدًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان
كَبِيرًا وَإِمَّا أَنْ كان صَغِيرًا فَإِنْ كان كَبِيرًا فَلَهُ أَنْ
يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَلِوُجُودِ سَبَبِ
الْوِلَايَةِ في حَقِّهِ على الْكَمَالِ وهو الْوِرَاثَةُ من غَيْرِ مُزَاحِمَةٍ
وَإِنْ كان صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يُنْتَظَرُ
بُلُوغُهُ وقال بَعْضُهُمْ يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَإِنْ كان الْكُلُّ كِبَارًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ منهم
وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ حتى لو قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ صَارَ الْقِصَاصُ
مُسْتَوْفًى لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنْ كان حَقَّ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ من
آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمًا في اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ كما في الْمَالِ وإذا
كان حَقُّ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ
وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم إلَّا أَنَّ حُضُورَ
الْكُلِّ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ وِلَايَةُ
الِاسْتِيفَاءِ مع غَيْبَةِ الْبَعْضِ لِأَنَّ فيه احْتِمَالُ اسْتِيفَاءِ ما ليس
بِحَقٍّ له لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ من الْغَائِبِ
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال لَا أَدْرِي لَعَلَّ
الْغَائِبَ عَفَا وَكَذَا إذَا كان الْكُلُّ حُضُورًا لَا يَجُوزُ لهم وَلَا
لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُوَكِّلَ في اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مع غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِاحْتِمَالِ
أَنَّ الْغَائِبَ قد عَفَا وَلِأَنَّ في اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ رَجَاءَ
الْعَفْوِ منه عِنْدَ مُعَايَنَةِ حُلُولِ الْعُقُوبَةِ بِالْقَاتِلِ
وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }
فَأَمَّا الِاسْتِيفَاءُ بِالْوَكِيلِ فَجَائِزٌ إذَا كان الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا
على ما نَذْكُرُ وَإِنْ كان فِيهِمْ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ فَإِنْ كان الْكَبِيرَ هو
الْأَبُ بِأَنْ كان الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بين الْأَبِ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ
فَلِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لو كان لم يُقَاصِصْ
____________________
(7/243)
كان
لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَإِنْ كان الْكَبِيرُ غير الْأَبِ بِأَنْ كان أَخًا فَلِلْكَبِيرِ أَنْ
يَسْتَوْفِيَ قبل بُلُوغِ الصَّغِيرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ليس له ذلك قبل بُلُوغِ الصَّغِيرِ
وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ فِيمَا
تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا الْأُبُوَّةُ فَلِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِصَاصًا وَجَبَ
لِلصَّغِيرِ في النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ
وَمَصْلَحَةٍ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ فَتَثْبُتَ لِمَنْ كان مُخْتَصًّا
بِكَمَالِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ في حَقِّ الصَّغِيرِ
وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَا يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ بِأَنْ
قَتَلَ شَخْصٌ عبدا ليتيم ( ( ( اليتيم ) ) ) لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ لَا
يَصْدُرُ عن كما ( ( ( كمال ) ) ) النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ في حَقِّ الصَّغِيرِ
لِقُصُورٍ في الشَّفَقَةِ الْبَاعِثَةِ عليه بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ
وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ ما دُونَ
النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ على ما نَذْكُرُ وَلِلْوَصِيِّ
وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ
ومنا ( ( ( ومنها ) ) ) الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَقْتَ الْقَتْلِ فَلِلْمَوْلَى
أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إذَا قُتِلَ مَمْلُوكُهُ إذَا لم يَكُنْ في
اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ من غَيْرِ رِضَاهُ لِأَنَّ
الْحَقَّ قد ثَبَتَ له وهو أَقْرَبُ الناس إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ
وَكَذَا إذَا قُتِلَ مُدَبَّرُهُ وَمُدَبَّرَتُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ وَوَلَدُهَا
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ لا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَكَذَا إذَا
قُتِلَ الْمُكَاتَبُ ولم يَتْرُكْ وَفَاءً لِأَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا فَكَانَ
مِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمًا وَقْتَ الْقَتْلِ
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في مُعْتَقِ
الْبَعْضِ إذَا قُتِلَ عَاجِزًا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ
فَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الماكتب ( ( ( المكاتب ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَوْت الْمُكَاتَبِ عَاجِزًا يُوجِبُ إنفساخ الْكِتَابَةِ
وَجَعْلَهَا كَأَنْ لم تَكُنْ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ وهو قِنٌّ
وَمَوْتُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ إنفساخ العتاق ( ( ( العتق ) ) ) إذْ
الْإِعْتَاقُ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ
وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى في كُلِّهِ وَلَوْ قُتِلَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً
وَوَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى لَا قِصَاصَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا
يَسْتَوْفِيه الْمَوْلَى لِوُقُوعِ الشَّكِّ في قِيَامِ الْمَوْلَى وَقْتَ
الْقَتْلِ وَلَا الْوَارِثُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا لِاخْتِلَافِ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أو عَبْدًا
فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ حُرٌّ غير الْمَوْلَى فَلَهُ
أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ في يَدِ الْبَائِعِ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ اخْتَارَ
الْمُشْتَرِي إجَازَةَ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ كان له وَقْتُ الْقَتْلِ وقد تَقَرَّرَ
بِالْإِجَازَةِ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ
فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ
عنه
وقال أبو يُوسُفَ للبائه ( ( ( للبائع ) ) ) الْقِيمَةُ وَلَا قِصَاصَ له
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ لم يَكُنْ ثَابِتًا له وَقْتَ الْقَتْلِ
وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ ذلك بِالْفَسْخِ وَالسَّبَبُ حين وُجُودِهِ لم
يَنْعَقِدْ مُوجِبًا الْحُكْمَ له فَلَا يَثْبُتُ له بِمَعْنًى وُجِدَ بَعْدَ ذلك
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَدَّ الْبَيْعِ فَسْخٌ له من
الْأَصْلِ وَجَعْلُ إيَّاهُ كَأَنْ لم يَكُنْ فإذا انْفَسَخَ من الْأَصْلِ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَيُوجَبُ
الْقِصَاصُ له فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ
الِاسْتِيفَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى أن بِالْفَسْخِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ
وَقْتَ الْقَتْلِ لم يَكُنْ على مِلْكِ الْبَائِعِ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الذي هو بَدَلُ الصَّدَاقِ في يَدِ الزَّوْجِ أو بَدَلُ
الْخُلْعِ في يَدِ الْمَرْأَةِ أو بَدَلُ الصُّلْحِ عن دَمِ العبد ( ( ( العمد ) )
) في يَدَيْ الذي صَالَحَ عليه فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ
الْمُسْتَحِقَّ لِلصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إنْ اخْتَارَ اتباع
الْقَاتِلِ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ له وَإِنْ طَالَبَ
بِالْقِيمَةِ فَالْمِلْكُ في الْعَبْدِ قد انْفَسَخَ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْآخَرِ
على ما ذَكَرْنَا في الْبَيْعِ
وَلَوْ قُتِلَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الشَّرْطِ أو خِيَارُ
الرُّؤْيَةِ فَالْقِصَاصُ لَلْمُشْتَرِي قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَن أو لم
يَقْبِضْ لِأَنَّ الْخِيَارَ قد سَقَطَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَانْبَرَمَ الْبَيْعُ
وَتَقَرَّرَ الْمِلْكُ فيه لِلْمُشْتَرِي فَوَجَبَ الْقِصَاصُ له فَكَانَ له أَنْ
يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كما إذَا قُتِلَ في يَدِهِ وَلَا خِيَارَ في الْبَيْعِ
أَصْلًا
وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ اتبع الْقَاتِلَ فَقَتَلَهُ قِصَاصًا
وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ
أما اخْتِيَارُ اتباع الْقَاتِلِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ كان
مِلْكًا له
وَأَمَّا اخْتِيَارُ تضمين ( ( ( تضمن ) ) ) الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ فَلِأَنَّهُ
كان مَضْمُونًا في يَدِهِ بالقيمة ( ( ( القيمة ) ) )
أَلَا تَرَى لو هَلَكَ بِنَفْسِهِ في يَدِهِ كان عليه قِيمَتُهُ وَلَا قِصَاصَ
لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ له
بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ
وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ من وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ من وَجْهٍ فَشِبْهُ الظُّهُورِ
يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ له وَشِبْهُ الِاسْتِنَادِ يَقْتَضِي أَنْ لَا
يَجِبَ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ في الْوُجُوبِ له فَلَا يَجِبُ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا قُتِلَ في يَدَيْ الْغَاصِبِ وَاخْتَارَ
الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ لم يَكُنْ لِلْغَاصِبِ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قُتِلَ عَبْدٌ مُوصًى بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ لم
يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الْمُوصَى له
بِالْخِدْمَةِ ل
____________________
(7/244)
ا
مِلْكَ له في الرَّقَبَةِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ وَالْمُوصَى
له بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ مَلَكَ الرَّقَبَةَ لَكِنْ في اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ
إبْطَالُ حَقِّ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ لَا إلَى بَدَلٍ هو مَالٌ فَلَا
يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عليه من غَيْرِ رِضَاهُ وإذا اجْتَمَعَا فَلِلْمُوصَى
له بِالرَّقَبَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلِاسْتِيفَاءِ
مَوْجُودٌ وهو قِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالِامْتِنَاعُ كان لِحَقِّ الْمُوصَى
له بِالْخِدْمَةِ فإذا رضي بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ لم يَكُنْ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ
أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لم يَكُنْ ثَابِتًا له
وَقْتَ الْقَتْلِ فلم يُوجَدْ سَبَبُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ في حَقِّهِ
وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ
الْمُرْتَهِنِ في الدَّيْنِ من غَيْرِ رِضَاهُ لِأَنَّ الرَّهْنُ يَصِيرُ هَالِكًا
من غَيْرِ بَدَلٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كان رَهْنًا من حَيْثُ أنه مَالٌ وَالْقِصَاصُ
لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عن الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَيَصِيرَ الرَّهْنُ
هَالِكًا من غَيْرِ بَدَلٍ فَيَسْقُطَ دَيْنُهُ فَكَانَ في اسْتِيفَائِهِ
الْقِصَاصَ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ اجْتَمَعَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ
يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ
الِامْتِنَاعَ كان لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وقد رضي بِسُقُوطِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
ليس له أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَإِنْ اجْتَمَعَا على الِاسْتِيفَاءِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على قَاتِلِهِ ولم يذكر الْخِلَافَ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ
كُلٍّ من ذلك في كِتَابِ الرَّهْنِ
وَمِنْهَا الْوَلَاءُ إذَا لم يَكُنْ لِمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَارِثٌ لِأَنَّ
الْوَلَاءَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مولى
الْعَتَاقَةِ يُزَوِّجُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ وَمَوْلَى
الْمُوَالَاةِ يُزَوِّجُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ
آخِرُ الْوَرَثَةِ
فَإِنْ كان له وَارِثٌ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ
الِاسْتِيفَاءُ
وَمِنْهَا السَّلْطَنَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ وَالْمِلْكِ وَالْوَلَاءِ
كَاللَّقِيطِ وَنَحْوِهِ إذَا قُتِلَ
وَهَذَا قَوْلُهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إذَا كان
الْمَقْتُولُ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ
وَإِنْ كان من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَلَهُ
أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن وَلِيٍّ
له عَادَةً إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يُعْرَفُ وَقِيَامُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ
تَمْنَعُ وِلَايَةَ السُّلْطَانِ وَبِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ
بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ إذَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَنَّ الظَّاهِرَ
أَنْ لَا وَلِيَّ له في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ في قَتِيلٍ
لم يُعْرَفْ له وَلَيٌّ عِنْدَ الناس فَكَانَ وَلِيُّهُ السُّلْطَانَ لِقَوْلِهِ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السُّلْطَانُ وَلَيُّ من لَا وَلَيَّ له وقدر ( ( (
وقد ) ) ) رُوِيَ أَنَّهُ لَمَا قُتِلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه خَرَجَ
الْهُرْمُزَانُ وَالْخِنْجَرُ في يَدِهِ فَظَنَّ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ هذا الذي
قَتَلَ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَقَتَلَهُ فَرُفِعَ ذلك إلَى
سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه فقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه
لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ اُقْتُلْ عُبَيْدَ اللَّهِ فَامْتَنَعَ سَيِّدُنَا
عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه وقال كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا قُتِلَ أَبُوهُ أَمْسِ
لَا أَفْعَلُ وَلَكِنْ هذا رَجُلٌ من أَهْلِ الْأَرْضِ وأنا وَلِيُّهُ أَعْفُو عنه
وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْفُو عنه وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ الصُّلْحَ على الدِّيَةِ
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ على الدِّيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ
لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ أَنَّ مِيرَاثَهُ لهم
وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ في الْإِقَامَةِ وفي الْعَفْوِ إسْقَاطُ
حَقِّهِمْ أَصْلًا وَرَأْسًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلِهَذَا لَا يملك ( ( ( يملكه ) ) ) الْأَبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ كَانَا
يَمْلِكَانِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ على الدِّيَةِ كما
فَعَلَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ وَكَيْفِيَّةُ
الِاسْتِيفَاءِ فَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ
وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ حتى لو قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَمَاتَ من ذلك
فإن الْوَلِيَّ يَقْتُلُهُ وَلَيْسَ له أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
تُقْطَعُ يَدُهُ فَإِنْ مَاتَ في الْمُدَّةِ التي مَاتَ الْأَوَّلُ فيها وَإِلَّا
تُحَزُّ رَقَبَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ على الْمُمَاثَلَةِ في الْفِعْلِ
لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفِعْلِ
الْأَوَّلِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وهو أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ هو
وَالْمَوْجُودُ منه الْقَطْعُ فَيَجِبُ أَنْ يجازي بِالْقَطْعِ وَالظَّاهِرُ في
الْقَطْعِ عَدَمُ السِّرَايَةِ فَإِنْ اتَّفَقَتْ السِّرَايَةُ وَإِلَّا تُحَزُّ
رَقَبَتُهُ وَيَكُونُ الْحَزُّ تَتْمِيمًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ لَا جزاءا ( ( (
حزا ) ) ) مُبْتَدَأً
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ
وَالْقَوَدُ هو الْقِصَاصُ وَالْقِصَاصُ هو الِاسْتِيفَاءُ فَكَانَ هذا نَفْيُ
اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ
السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يجازي
إلَّا بِالْقَتْلِ
فَلَوْ قُطِعَ ثُمَّ اُحْتِيجَ إلَى الْحَزِّ كان ذلك جَمْعًا بين الْقَتْلِ
وَالْحَزِّ فلم
____________________
(7/245)
يَكُنْ
مُجَازَاةً بِالْمِثْلِ
وَقَوْلُهُ الْحَزُّ يَقَعُ تَتْمِيمًا لِلْقَطْعِ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُتَمِّمَ
لِلشَّيْءِ من تَوَابِعِهِ وَالْحَزُّ قَتْلٌ وهو أَقْوَى من الْقَطْعِ فَكَيْفَ
يَكُونُ من تَمَامِهِ
وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَا يُمَكَّنُ لِمَا
قُلْنَا وَلَوْ فَعَلَ يُعَزَّرُ لَكِنْ لَا ضَمَانَ عليه وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا
بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِالْعَصَا أو بِالْحَجَرِ أو
أَلْقَاهُ من السَّطْحِ أو أَلْقَاهُ في الْبِئْرِ أو سَاقَ عليه دَابَّةً حتى
مَاتَ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقُّهُ فإذا قَتَلَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى
حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كان إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا
بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ
وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ
بِالْقَتْلِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ
إمَّا لِضَعْفِ بَدَنِهِ أو لِضَعْفِ قَلْبِهِ أو لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ إلَيْهِ
فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنَابَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من حُضُورِهِ عِنْدَ
الِاسْتِيفَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ الْمَأْمُورُ وَالْآمِرُ حَاضِرٌ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَلَا
ضَمَان عليه فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ وَالْآمِرُ غَيْرُ حَاضِرٍ وَأَنْكَرَ وَلَيُّ
هذا الْقَتِيلِ الْأَمْرَ فإنه يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْقَاتِلِ وَلَا يُعْتَبَرُ
تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ في
الْأَصْلِ فَلَوْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْأَمْرِ
وقد كَذَّبَهُ وَلَيُّ هذا الْقَتِيلِ في الْأَمْرِ وَتَصْدِيقُ وَلَيِّ
الْقِصَاصِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ بعدما بَطَلَ حَقُّهُ عن
الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عنه فَلَا يُعْتَبَرُ
تَصْدِيقُهُ فلم يَثْبُتْ الْأَمْرُ فَبَقِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُوجِبًا للقصاص
( ( ( القصاص ) ) )
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ إنْسَانٍ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَمَاتَ
فَادَّعَى وَلَيُّ الْقَتِيلِ الدِّيَةَ فقال الْحَافِرُ حَفَرْتُهُ بِإِذْنِ
صَاحِبِ الدَّارِ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُ الدَّارِ في ذلك فَلَا ضَمَانَ على
الْحَافِرِ وَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ في فِعْلٍ يَمْلِكُ
إنْشَاءَ الْأَمْرِ بِهِ لِلْحَالِ وهو الْحَفْرُ في مِلْكِهِ فلم يَكُنْ هذا
تَصْدِيقًا بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ فَاعْتُبِرَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ
له أَنْوَاعٌ منها فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ مَاتَ من عليه الْقِصَاصُ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشَّيْءِ في غَيْر
مَحَلِّهِ وإذا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْمَوْتِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَنَا
لِأَنَّ الْقِصَاصَ هو الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَنَا وهو أَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ وقد بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِيمَا
تَقَدَّمَ
وَكَذَا إذَا قُتِلَ من عليه الْقِصَاصُ بِغَيْرِ حَقٍّ أو بِحَقٍّ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ
بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا فَقُتِلَ بِهِ قِصَاصًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ
المال لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
إذَا فَاتَ ذلك الْعُضْوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ من غَيْرِ مَالٍ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ قُطِعَ بِحَقٍّ بِأَنْ
قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَقُطِعَ بِهِ أو سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ فَقُطِعَ يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ أَيْضًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ لَكِنْ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ فَيَقَعُ
الْفَرْقُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا بين الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ بِحَقٍّ
وَالثَّانِي بين الْقَطْعِ بِغَيْرِ حَقٍ وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِحَقٍّ
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ بِحَقٍّ فَقَدْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا
عليه فَجُعِلَ كَالْقَائِمِ وَجُعِلَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا له تَقْدِيرًا كَأَنَّهُ
أَمْسَكَهُ حَقِيقَةً وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ
وَنَحْوِ ذلك وَهُنَاكَ يَجِبُ الْأَرْشُ كَذَا هذا
وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ فِيمَا إذَا قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّهُ لم
يَقْضِ حَقًّا وَاجِبًا عليه وفي الْقَتْلِ إنْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا عليه لَكِنْ
لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْعَلَ مُمْسِكًا لِلنَّفْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَقْدِيرًا
لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الطَّرَفِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا الْعَفْوُ وَالْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ
مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ رُكْنِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَافِي عَفَوْتُ أو أَسْقَطْتُ أو
أَبْرَأْتُ أو وَهَبْتُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ من صَاحِبِ الْحَقِّ
لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَلَا حَقَّ مُحَالٌ فَلَا
يَصِحُّ الْعَفْوُ من الْأَجْنَبِيِّ لِعَدَمِ الْحَقِّ وَلَا من الْأَبِ
وَالْجَدِّ في قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلصَّغِيرِ لَا
لَهُمَا وَإِنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ
وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ وَالْعَفْوُ ضَرَرٌ
مَحْضٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَمْلِكَانِهِ وهذا (
( ( ولهذا ) ) ) لَا يَمْلِكُهُ السُّلْطَانُ فِيمَا له وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ
على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَافِي عَاقِلًا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ من الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كان الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا لِأَنَّهُ من
التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذلك
وَأَمَّا حُكْمُ الْعَفْوِ فَالْعَفْوُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ من الْوَلِيِّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من الْمَجْرُوحِ فَإِنْ كان من
الْوَلِيِّ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ منه بَعْدَ الْمَوْتِ أو قبل الْمَوْتِ
بَعْدَ الْجُرْحِ فَإِنْ كان بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ
وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ فَإِنْ كان وَاحِدًا بِأَنْ كان
الْقَاتِلُ
____________________
(7/246)
وَالْمَقْتُولُ
وَاحِدًا فَعَفَا عن الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ
لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدُونِ
الِاسْتِيفَاءِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّهُ إذَا عَفَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا
يَطْلُبُ الثَّأْرَ بَعْدَ الْعَفْوِ فَلَا يَقْصِدُ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلَا
يَقْصِدُ الْقَاتِلُ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِدُونِ
الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِحُصُولِ ما شُرِعَ له اسْتِيفَاؤُهُ
بِدُونِهِ
وَهَكَذَا قال الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا الناس جميعا } أَيْ من أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ
وَقِيلَ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ذلك تَخْفِيفٌ من رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ } أَنَّ ذلك الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ على ما قِيلَ أَنَّ حُكْمَ
التَّوْرَاةِ الْقَتْلُ لَا غَيْرُ وَحُكْمُ الْإِنْجِيلِ الْعَفْوُ بِغَيْرِ
بَدَلٍ لَا غَيْرُ فَخَفَّفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذه الْأُمَّةِ فَشَرَعَ
الْعَفْوَ بِلَا بَدَلٍ أَصْلًا وَالصُّلْحَ بِبَدَلٍ سَوَاءٌ عَفَا عن الْكُلِّ
أو عن الْبَعْضِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ
وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرُ الْكُلِّ كَالطَّلَاقِ
وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ وَغَيْرِهِمَا وإذا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ لَا
يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ في الْقِصَاصِ عَيْنًا وهو
أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقد أَسْقَطَهُ لَا إلَى بَدَلٍ
وَمَنْ له الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مُطْلَقًا وهو من أَهْلِ الْإِسْقَاطِ
وَالْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ يَسْقُطُ مُطْلَقًا كَالْإِبْرَاءِ عن الدَّيْنِ
وَنَحْوِ ذلك
وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا فإذا عَفَا عن الْقِصَاصِ
انْصَرَفَ إلى الْوَاجِبُ تَصْحِيحًا لَتَصَرُّفِهِ كَمَنْ له على آخَرَ دَرَاهِمَ
أو دَنَانِيرَ وَلَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَأَبْرَأَهُ الْمَدْيُونُ عن
أَحَدِهِمَا ليس له أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْآخَرِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ عَفَا عنه ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ الْعَفْوِ يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ الناس لَا يَجِبُ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذلك
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جَعَلَ جَزَاءَ الْمُعْتَدِي وهو الْقَاتِلُ بَعْدَ
الْعَفْوِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وهو عَذَابُ الْآخِرَةِ نَسْتَجِيرُ بِاَللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من هو له فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ في الدُّنْيَا لَصَارَ
الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ في الدُّنْيَا يَرْفَعُ
عَذَابَ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ
لِلذُّنُوبِ وَفِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين شَخْصٍ وَشَخْصٍ وَحَالٍ
وَحَالٍ إلَّا شَخْصًا أو حَالًا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَكَذَا الْحِكْمَةُ التي لها شُرِعَ الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ على ما بَيَّنَّا
يَقْتَضِي الْوُجُوبَ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أن الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ هَهُنَا هو الْقِصَاصُ فإن الْقَتْلَ غَايَةُ الْعَذَابِ
الدُّنْيَوِيِّ في الْإِيلَامِ فَعَلَى هذا التَّأْوِيلِ كانت الْآيَةُ حُجَّةً
عليهم وَتَحْتَمِلُ هذا وَتَحْتَمِلُ ما قالوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مع
الِاحْتِمَالِ
وَإِنْ كان الْقِصَاصُ أَكْثَرَ بِأَنْ قَتَلَ رَجُلَانِ وَاحِدًا فَإِنْ عَفَا
عنهما سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ عَفَا عن أَحَدِهِمَا
سَقَطَ الْقِصَاصُ عنه وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصًا كَامِلًا وَالْعَفْوُ عن أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ
الْعَفْوَ عن الْآخَرِ
وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ عنهما لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجْعَلَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا على الِانْفِرَادِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ إذْ
الْقَتْلُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ من
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا
على الِانْفِرَادِ وَيُجْعَلُ قَتْلُ صَاحِبِهِ عَدَمًا في حَقِّهِ فإذا عَفَا عن
أَحَدِهِمَا وَالْعَفْوُ عن الْقَاتِلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخَرِ عَدَمًا تَقْدِيرًا
فَيُورِثُ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ لَا يستوفي مع الشُّبْهَةِ وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ
لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا ليس ما ذُكِرَ وَلَيْسَ الْقَتْلُ
اسْمًا لِتَفْوِيتِ الْحَيَاةِ بَلْ هو اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٌ في فَوَاتِ
الْحَيَاةِ عَادَةً
وَهَذَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ عن
أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ في الْآخَرِ
هذا إذَا كان الْوَلِيُّ وَاحِدًا فَأَمَّا إذَا كان اثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ
فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عن الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ
الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا
يَتَجَزَّأُ إذْ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ
دُونَ بَعْضٍ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ وَابْنٍ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء
الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عَنْهُمْ ولم
يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عليهم فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ
} نَزَلَتْ في دَمٍ بين شُرَكَاءَ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عن الْقَاتِلِ فَلِلْآخَرَيْنِ
أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِالْمَعْرُوفِ في نَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ } وَهَذَا الْعَفْوُ عن بَعْضِ
الْحَقِّ وَيَكُونُ نَصِيبُ الْآخَرِ وهو
____________________
(7/247)
نِصْفُ
الدِّيَةِ في مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ
اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ
وَيُؤْخَذُ منه في ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ
زُفَرَ في سَنَتَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُؤْخَذُ في سَنَتَيْنِ
كما لو قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً وَوَجَبَ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ أَنَّهُ
يُؤْخَذُ في سَنَتَيْنِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِمَّا يُؤْخَذُ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَحُكْمُ
الْجُزْءِ حُكْمَ الْكُلِّ
بِخِلَافِ الْقَطْعِ فإن الْوَاجِبَ هُنَاكَ كُلٌّ لَا جُزْءٌ لِأَنَّ كُلَّ
دِيَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ هذا الْقَدْرُ إلَّا أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ دِيَتِهَا
بِنِصْفِ دِيَةِ النَّفْسِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ دِيَةِ
الطَّرَفِ وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُ
ولم يَعْلَمْ بِالْعَفْوِ أو عَلِمَ بِهِ لَكِنَّهُ لم يَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ لَا
قِصَاصَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ
زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الْقِصَاصُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ
عَادَتْ بِالْعَفْوِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَرَّمَ قَتْلَهُ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِصَاصِ كما لو
قَتَلَهُ قبل وُجُودِ الْقَتْلِ منه فَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ
وَمُطْلَقُ الظَّنِّ لَا يُورِثُ شُبْهَةً كما لو قَتَلَ إنْسَانًا وقال ظَنَنْتُ
أَنَّهُ قَاتِلُ أبي
وَلَنَا أنا في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ في حَقِّ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ
قَتَلَهُ على ظَنِّ أَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ له وهو ظَنٌّ مَبْنِيٌّ على نَوْعِ
دَلِيلٍ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ وَكُلُّ
وَاحِدٍ من الْأَوْلِيَاءِ بِسَبِيلٍ من اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلْمَقْتُولِ
فَالْعَفْوُ من أَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ في حَقِّ الْآخَرِ
وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ وُجِدَ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
على الْكَمَالِ وهو الْقَرَابَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَفْوُ
أَحَدِهِمَا في حَقِّ صَاحِبِهِ
إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ هذا الدَّلِيلُ عن الْعَمَلِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما بَيَّنَّا فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ
الْعِصْمَةِ وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَابِ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ
فَتَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصَ وَيَجِبُ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ
إذَا تَعَذَّرَ إيجَابُهُ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَ عليه كَمَالُ الدِّيَةِ كان على
الْقَاتِلِ نصف الدِّيَةُ فَصَارَ النِّصْفُ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ فَيُوجَبُ عليه
النِّصْفُ الْآخَرُ وَيَكُونُ في مَالِهِ لَا على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ وَجَبَ
بِالْقَتْلِ وهو عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ
وَإِنْ عِلْمَ بِالْعَفْوِ وَالْحُرْمَةِ يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ
لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْوُجُوبِ الشُّبْهَةُ وَإِنَّهَا نَشَأَتْ عن الظَّنِّ
ولم يُوجَدْ فَزَالَ الْمَانِعُ وَلَهُ على الْمَقْتُولِ نِصْفُ الدِّيَةِ
لِأَنَّهُ قد كان انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا بِعَفْوِ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ ذلك على
الْمَقْتُولِ
هذا إذَا كان الْقِصَاصُ الْوَاحِدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا
عن نَصِيبِهِ فَأَمَّا إذَا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصٌ كَامِلٌ
قِبَلَ القتل ( ( ( القاتل ) ) ) بِأَنْ قَتَلَ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا
عن الْقَاتِلِ لَا يَسْقُطُ قِصَاصُ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
اسْتَحَقَّ عليه قِصَاصًا كَامِلًا وَلَا اسْتِحَالَةَ له في ذلك لِأَنَّ
الْقَتْلَ ليس تَفْوِيتَ الْحَيَاةِ لِيُقَالَ إنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا
يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُهَا من اثْنَيْنِ بَلْ هو اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ في
فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وَهَذَا يُتَصَوَّرُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
مَحَلٍّ وَاحِدٍ على الْكَمَالِ فَعَفْوُ أَحَدِهِمَا عن حَقِّهِ وهو الْقِصَاصُ
لَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عن الْقَاتِلِ بَعْدَ مَوْتِ وَلِيِّهِ فَأَمَّا إذَا
عَفَا عنه بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَفْوُهُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَفْوَ عن الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ
وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إلَّا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عن الْمَحَلِّ ولم
يُوجَدْ
فَالْعَفْوُ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فلم يَصِحَّ
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ
السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ فَكَانَ
عَفْوًا عن حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ وَلِهَذَا لو كان الْجُرْحُ خَطَأً فَكَفَّرَ
بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ ثُمَّ مَاتَ جَازَ التَّكْفِيرُ
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَتْلَ إنْ لم يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ
وُجُودِهِ وهو الْجُرْحُ الْمُفْضِي إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ وَالسَّبَبُ
الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذلك الشَّيْءِ في أُصُولِ الشَّرْعِ
كَالنَّوْمِ مع الْحَدَثِ وَالنِّكَاحِ مع الْوَطْءِ وَغَيْرِ ذلك وَلِأَنَّهُ
إذَا وجب سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْلِ كان الْعَفْوُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ
وُجُودِ سَبَبِهِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ كَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قبل
الْمَوْتِ في قَتْلِ الخطأ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ من الْمَوْلَى وَاحِدًا كان أو أَكْثَرَ وَالْعَفْوُ من
الْوَارِثِ سَوَاءٌ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا إلَّا أَنَّ في الْقِصَاصِ بين
الْمَوْلَيَيْنِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ حِصَّتُهُ من قِيمَةِ
الْعَبْدِ وَهَهُنَا من الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ في دَمِ الْعَمْدِ
كَالدِّيَةِ في دَمِ الْحُرِّ
فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذلك ( ( ( ذاك ) ) ) فَلَا يَخْتَلِفَانِ
هذا كُلُّهُ إذَا كان الْعَفْوُ من الْمَوْلَى أو من الْوَلِيِّ فَأَمَّا إذَا كان
من الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كان الْمَجْرُوحُ عَفَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى لَا له وَإِنْ كان حُرًّا فَإِنْ عَفَا عن
الْقَتْلِ ثُمَّ مَاتَ
____________________
(7/248)
صَحَّ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا وَإِنْ عَفَا عن
الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ أو الشَّجَّةِ أو الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ أَوَّلًا
فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجُرْحَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
عَمْدًا أو خَطَأً فَإِنْ كان عَمْدًا فَالْمَجْرُوحُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَقُول عَفَوْتُ عن الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ أو الشَّجَّةِ أو الضَّرْبَةِ
وَهَذَا كُلَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ عَفَوْتُ عن الْجِنَايَةِ
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَر معه ما يَحْدُثُ منها
وَإِمَّا أن لم يذكر وَحَالُ الْمَجْرُوحِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ برىء وَصَحَّ
وَإِمَّا أن مَاتَ من ذلك فَإِنْ برىء من ذلك صَحَّ الْعَفْوُ في الْفُصُولِ
كُلِّهَا لِأَنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عن ثَابِتٍ وهو الْجِرَاحَةُ أو مُوجِبُهَا وهو
الْأَرْشُ فَيَصِحُّ وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ كان الْعَفْوُ بِلَفْظِ
الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَا شَيْءَ على الْقَاتِلِ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ
وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها فَكَانَ ذلك عَفْوًا عن الْقَتْلِ
فَيَصِحُّ
وَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر ما يَحْدُث منها لم يَصِحَّ الْعَفْوُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وفي
الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ في مَالِ الْقَاتِلِ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ
الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ على الْقَاتِلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ وَالْعَفْوُ عن
الشَّيْءِ يَكُونُ عَفْوًا عن أَثَرِهِ كما إذَا قال عَفَوْتُ عن الْجِرَاحَةِ وما
يَحْدُثُ منها
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَفَا عن غَيْرِ
حَقِّهِ فإن حَقَّهُ في مُوجَبِ الْجِنَايَةِ لَا في عَيْنِهَا لِأَنَّ عَيْنَهَا
عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَفْوُ عنها وَلِأَنَّ
عَيْنَهَا جِنَايَةٌ وُجِدَتْ من الْخَارِجِ وَالْجِنَايَةُ لَا تَكُونُ حَقَّ
الْمَجْنِيِّ عليه فَكَانَ هذا عَفْوًا عن مُوجَبِ الْجِرَاحَةِ وَبِالسِّرَايَةِ
يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ بِهَذِهِ الْجِرَاحَةِ لِأَنَّ عِنْدَ
السِّرَايَةِ يَجِبُ مُوجَبُ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ وهو الْقِصَاصُ إنْ كان
عَمْدًا وَالدِّيَةُ إنْ كان خَطَأً
وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ وَقَطْعُ الْيَدِ مع مُوجَبِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْجَمْعَ
بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَالثَّانِي إنْ كان الْعَفْوُ عن الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ صَحِيحًا لَكِنَّ
الْقَطْعَ غَيْرُ وَالْقَتْلَ غَيْرُ فَالْقَطْعُ إبَانَةُ الطَّرَفِ وَالْقَتْلُ
فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وَمُوجَبُ أَحَدِهِمَا الْقَطْعُ
وَالْأَرْشُ وَمُوجَبُ الْآخَرِ الْقَتْلُ وَالدِّيَةُ وَالْعَفْوُ عن أَحَدِ
الْغَيْرَيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عن الْآخَرِ في الْأَصْلِ
فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ لِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ
وَعَدَمِ ما يُسْقِطُهُ
إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَكُونُ في مَالِهِ
لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ
هذا إذَا كان الْقَتْلُ عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كان خَطَأً فَإِنْ برىء من ذلك
صَحَّ الْعَفْوُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ
سَوَاءٌ كان بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو الْجِرَاحَةِ وَذَكَرَ وما يَحْدُثُ منها أو
لم يذكر لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو الْجِرَاحَةِ
وما يَحْدُثُ منها صَحَّ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ إنْ كان الْعَفْوُ في حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كان يَذْهَبُ
وَيَجِيءُ ولم يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ من جَمِيعِ مَالِهِ
وَإِنْ كان في حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ
من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ منه وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ من ثُلُثِ مَالِهِ
فَإِنْ كان قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ سَقَطَ ذلك الْقَدْرُ عن
الْعَاقِلَةِ وَإِنْ كان لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ من الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ
عن الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ منهم
وَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها لم يَصِحَّ
الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا
يَصِحُّ الْعَفْوُ
وَهَذَا وَقَوْلُهُ عَفَوْتُ عن الْجِرَاحَةِ وَعَنْ الْجِنَايَةِ وما يَحْدُثُ
منها سَوَاءٌ وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْعَفْوِ صُلْحٌ بِأَنْ صَالَحَ من الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ
على مَالٍ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ برىء الْمَجْرُوحُ
فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كان
وَسَوَاءٌ كان الْقَطْعُ عَمْدًا أو خَطَأً لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عن حَقٍّ
ثَابِتٍ فَيَصِحُّ
وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كان الصُّلْحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو
بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ
صُلْحٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ وهو الْقِصَاصُ وَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم
يذكر وما يَحْدُثُ منها فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ
الصُّلْحُ وَيُؤْخَذُ جَمِيعُ الدِّيَةِ من مَالِهِ في الْعَمْدِ وَإِنْ كان
خَطَأً يُرَدُّ بَدَلُ الصُّلْحِ وَيَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الصُّلْحِ نِكَاحٌ بِأَنْ قَطَعَتْ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ أو
جَرَحَتْهُ فَتَزَوَّجَهَا على ذلك فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من التَّفَاصِيلِ
أَنَّهُ إنْ برىء من ذلك جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ أَرْشُ ذلك مَهْرًا لها
لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مُوجَبُ ذلك الْأَرْشُ سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ عَمْدًا
أو خَطَأً لِأَنَّ الْقِصَاصَ بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَجْرِي فِيمَا
دُونَ النَّفْسِ فَكَانَ الْوَاجِبُ هو الْمَالَ فإذا تَزَوَّجَهَا عليه فَقَدْ
سَمَّى الْمَالَ فَكَانَ مَهْرًا لها وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كان
النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها
____________________
(7/249)
وكان
الْقَطْعُ خَطَأً جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ دَمُ الزَّوْجِ مَهْرًا لها لِأَنَّهُ
لَمَّا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مُوجِبًا
لِلدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ فَكَانَ التَّزَوُّجُ على مُوجَبِ الْجِنَايَةِ وهو
الدِّيَةُ وَسَقَطَتْ عن الْعَاقِلَةِ لِصَيْرُورَتِهَا مَهْرًا لها
وَهَذَا إذَا كان وَقْتَ النِّكَاحِ صَحِيحًا فَإِنْ كان مَرِيضًا فَبِقَدْرِ
مَهْرِ الْمِثْلِ يَسْقُطُ عن الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ ليس بِمُتَبَرِّعٍ في هذا
الْقَدْرِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ على ذلك فَيُنْظَرُ إنْ كانت تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ
يَسْقُطُ أَيْضًا وَإِنْ كانت لَا تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ
الثُّلُثِ يَسْقُطُ أَيْضًا وَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلزَّوْجِ تَرْجِعُ إلَى
وَرَثَتِهِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ من ثُلُثِ مَالِهِ
لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ وهو مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ
هذا في الْخَطَأِ وَأَمَّا في الْعَمْدِ جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ عَفْوًا
أما جَوَازُ النِّكَاحِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ على
تَسْمِيَةِ ما هو مَالٌ وَأَمَّا صَيْرُورَةُ النِّكَاحِ على الْقِصَاصِ عَفْوًا
له لِأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا على الْقِصَاصِ فَقَدْ أَزَالَ حَقَّهُ عنه
وَأَسْقَطَهُ وَهَذَا مَعْنَى الْعَفْوِ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ من تَرِكَةِ
الزَّوْجِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَهْرِ وَالْقِصَاصُ لَا
يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَيَجِبُ لها الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وهو
مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها
فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا في الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَطَلَ الْعَفْوُ إذَا كان عَمْدًا
وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ من مَالِ الزَّوْجِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ من مَالِهَا
فَيَتَنَاقَصَانِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَضْمَنُ الْمَرْأَةُ الزِّيَادَةَ
وَإِنْ كانت خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ على عَاقِلَتِهَا وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ
من مَالِ الزَّوْجِ وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ من مَالِ الزَّوْجِ شيئا لِأَنَّهَا
قَاتِلَةٌ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كان مَكَانَ النِّكَاحِ خُلْعٌ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ امرأة ( ( ( امرأته ) )
) أو جَرَحَهَا جِرَاحَةً فَخَلَعَهَا على ذلك فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا أنها إنْ
بَرِئَتْ جَازَ الْخُلْعُ وكان بَائِنًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَعَهَا
على أَرْشِ الْيَدِ فَصَحَّ الْخُلْعُ وَصَارَ أَرْشُ الْيَدِ بَدَلَ الْخُلْعِ
وَالْخُلْعُ على مَالٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَيَسْتَوِي فيه الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ
لِمَا مَرَّ
وَإِنْ سَرَى إلَى نفس ( ( ( النفس ) ) ) وكان خَطَأً فَإِنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ
الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها جَازَ الْخُلْعُ
وَيَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ فَكَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا على
مَالِهِ وهو الدِّيَةُ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ بَائِنًا
ثُمَّ إنْ كانت الْمَرْأَةُ صَحِيحَةً وَقْتَ الْخُلْعِ جَازَ ذلك من جَمِيعِ
الْمَالِ وَإِنْ كانت مَرِيضَةً صَارَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ الْخُلْعِ وَيُعْتَبَرُ
خُرُوجُ جَمِيعِ الدِّيَةِ من الثُّلُثِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ
هُنَاكَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ على قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ من الثُّلُثِ لِأَنَّ
تِلْكَ الْحَالَ حَالُ دُخُولِ الْبُضْعِ في مِلْكِ الزَّوْجِ
وَهَذِهِ حَالَةُ الْخُرُوجِ وَالْبُضْعُ يُعَدُّ مَالًا حَالَ الدُّخُولِ في
مِلْكِ الزَّوْجِ وَلَا يُعَدُّ مَالًا حَالَ الْخُرُوجِ عن مِلْكِهِ وَإِنْ كان
يَخْرُجُ من الثُّلُثِ سَقَطَ عن الْعَاقِلَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ لها مَالٌ
يَسْقُطُ وَالثُّلُثَانِ على الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ
هذا في الْخَطَأِ فَأَمَّا في الْعَمْدِ جَازَ الْعَفْوُ وَلَا يَكُونُ مَالًا
وَخُلْعُهَا بِغَيْرِ مَالٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا وَإِنْ كان الْخُلْعُ بِلَفْظِ
الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها فَعِنْدَهُمَا الْجَوَابُ كذلك وَعِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يَصِحَّ الْعَفْوُ وَتَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةَ
في مَالِهِ في الْعَمْدِ وفي الْخَطَأِ على الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ الْخُلْعُ
بِغَيْرِ مَالٍ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الصُّلْحُ على مَالٍ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَوْلَى وَلِصَاحِبِ
الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إذَا كان من
أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ
الْعَفْوَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ
وهو الْحَيَاةُ يَحْصُلُ بِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عن
صُلْحٍ وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلَا يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْلَ
الْقَاتِلِ فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلَ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من
اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ
وَقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمِنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ
} الْآيَةُ نزل ( ( ( نزلت ) ) ) في الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُلُّ على
جَوَازِ الصُّلْحِ وَسَوَاءٌ كان بَدَلُ الصُّلْحِ قَلِيلًا أو كَثِيرًا من جِنْسِ
الدِّيَةِ أو من خِلَافِ جِنْسِهَا حَالًّا أو مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أو
مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِ ذلك
بِخِلَافِ الصُّلْحِ من الدِّيَةِ على أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فيه الدِّيَةُ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هُنَاكَ تَمَكُّنُ الرِّبَا
ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ
بِالْمَالِ وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ وقد ذَكَرْنَا شَرَائِطَ جَوَازِ الصُّلْحِ
وَمَنْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهُ في كِتَابِ الصُّلْحِ
وَلَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ على مَالٍ ثُمَّ قَتَلَهُ يُقْتَصُّ منه
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ الناس لَا قِصَاصَ عليه وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في الْعَفْوِ
وَلَوْ كان الْوَلِيُّ اثْنَيْنِ وَالْقِصَاصُ وَاحِدٌ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا
سَقَطَ الْقِصَاصُ عن الْقَاتِلِ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا لِمَا
ذَكَرْنَا في الْعَفْوِ
وَلَوْ قَتَلَهُ الْآخَرُ بَعْد عَفْوِ صَاحِبِهِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ
وَالْخِلَافِ
____________________
(7/250)
وَالْوِفَاقِ
الذي ذَكَرْنَاهُ في الْعَفْوِ
وَلَوْ كان الْقِصَاصُ أَكْثَرَ فَصَالَحَ وَلَيُّ أَحَدِ الْقَتِيلَيْنِ
فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَكَذَا لو صَالَحَ الْوَلِيُّ مع أَحَدِ
الْقَاتِلَيْنِ كان له أَنْ يَقْتَصَّ لِلْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْعَفْوِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَوْلَى في الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ في جَمِيعِ ما
وَصَفْنَا
وَمِنْهَا إرْثُ الْقِصَاصِ بِأَنْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ من له
الْقِصَاصُ فَوَرِثَ الْقَاتِلُ الْقِصَاصَ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ
وُجُوبِ الْقِصَاصِ له وَعَلَيْهِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابن الْآخَرِ عَمْدًا
وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَارِثُ الْآخَرِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا وقال الْحَسَنُ بن
زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوَكِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا يَسْتَوْفِي
الْقِصَاصَ فَيَقْتُلُهُمَا الْوَكِيلَانِ مَعًا وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُقَالُ لِلْقَاضِي ابتد ( ( ( ابتدئ ) ) ) بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَسَلِّمْهُ إلَى
الْآخَرِ حتى يَقْتُلَهُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عن الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ على كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِوُجُودِ السَّبَبِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو الْقَتْلُ الْعَمْدُ
إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا لِأَنَّهُ إذَا استوفى
أَحَدُهُمَا يَسْقُطُ الْآخَرُ لِصَيْرُورَةِ الْقِصَاصِ مِيرَاثًا لِلْقَاتِلِ
الْآخَرِ فَكَانَ الْخِيَارُ فيه إلَى الْقَاضِي يبتدىء بِأَيِّهِمَا شَاءَ
وَيُسَلِّمُهُ إلَى الْآخَرِ حتى يَقْتُلَهُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عن الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُمَا
مُمْكِنٌ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَكِيلَيْنِ كُلَّ
وَاحِدٍ من الْقَاتِلَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَوَارَثَانِ كما في
الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبَ
الِاسْتِيفَاءِ لَا يُعْقَلُ له مَعْنًى سِوَاهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصَ لِأَنَّهُ إذَا استوفى أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْآخَرُ وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى من الْآخَرِ فعذر ( ( ( فتعذر ) ) )
الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَصْلًا وَلِأَنَّ في اسْتِيفَاءِ أَحَدِ الْقَصَاصَيْنِ
إبقاء ( ( ( بقاء ) ) ) حَقِّ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْآخَرِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَالْقَوْلُ بِاسْتِيفَائِهِمَا بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ قل ما يَتَّفِقَانِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَسْبِقُ
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَادَةً
وَكَذَا أَثَرُهُمَا الثَّابِتُ عَادَةً وهو فَوَاتُ الْحَيَاةِ وفي ذلك إسْقَاطُ
الْقِصَاصِ عن الْآخَرِ
وَقَالُوا في رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ابْنَ
الْقَاطِعِ عَمْدًا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ من الْقَطْعِ أن على
الْقَاطِعِ الْقِصَاصَ وهو الْقَتْلُ لِوَلِيِّ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ لِأَنَّهُ
مَاتَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ على وُجُودِ الْقَتْلِ منه وهو الْقَطْعُ السَّابِقُ لِأَنَّ
ذلك الْقَطْعَ صَارَ بِالسِّرَايَةِ قَتْلًا فَوَجَبَ الْقِصَاصُ على الْقَاطِعِ
وَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَبِالْعَمْدِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَجِبُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَمَحْوِ
الْإِثْمِ وَلِهَذَا وَجَبَتْ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالذَّنْبُ في الْقَتْلِ
الْعَمْدِ أَعْظَمُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ أَشَدُّ
وَلَنَا إن التَّحْرِيرَ أو الصَّوْمَ في الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَ شُكْرًا
لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ سَلِمَ له أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ في الدُّنْيَا وهو
الْحَيَاةُ مع جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْقِصَاصِ
وَكَذَا ارْتَفَعَ عنه الْمُؤَاخَذَةِ في الْآخِرَةِ مع جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ
وَهَذَا لم يُوجَدْ في الْعَمْدِ فَيُقَدَّرُ الْإِيجَابُ شُكْرًا أُوجِبَ لِحَقِّ
التَّوْبَةِ عن الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ وَأُلْحِقَ بِالتَّوْبَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ وَالذَّنْبُ هَهُنَا
أَعْظَمُ فَلَا يَصْلُحُ لِتَحْرِيرِ تَوْبَةٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الدِّيَةِ
الْمُغَلَّظَةِ على الْعَاقِلَةِ
أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ امْتَنَعَ وُجُوبُهُ مع وُجُودِ
الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَأَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ فَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ التَّغْلِيظِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتِلَافُهُمْ في الْكَيْفِيَّةِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ
وَأَمَّا الْوُجُوبُ على الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا تَعْقِلُ
الْخَطَأَ تَخْفِيفًا على الْقَاتِلِ نَظَرًا له لِوُقُوعِهِ فيه لَا عن قَصْدٍ
وفي هذا الْقَتْلِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ لِحُصُولِهِ بِآلَةٍ لَا يُقْصَدُ
بها الْقَتْلُ عَادَةً فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا النَّوْعِ من التَّخْفِيفِ
وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ
وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ قُتِلَ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ
حَقٍّ
وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةَ في هذا الْقَتْلِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ أنها تَجِبُ وَأَلْحَقَهُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ في وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا تَجِبُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ في
عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا
وَجَبَتْ في الْخَطَأِ لما ( ( ( إما ) ) ) لِحَقِّ الشُّكْرِ أو لِحَقِّ
التَّوْبَةِ على ما بَيَّنَّا
الداعي ( ( ( والداعي ) ) ) إلَى الشُّكْرِ وَالتَّوْبَةِ هَهُنَا مَوْجُودٌ وهو
سَلَامَةُ الْبَدَنِ وَكَوْنُ الْفِعْلِ جِنَايَةً فيها نَوْعُ خِفَّةٍ لِشُبْهَةِ
عَدَمِ الْقَصْدِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ
____________________
(7/251)
التَّحْرِيرُ
فيه تَوْبَةً
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ هذه جِنَايَةٌ متغلظة ( ( ( مغلظة ) ) )
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فيها ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَلَا
يَصْلُحُ التَّحْرِيرُ تَوْبَةً بها كما في الْعَمْدِ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ
الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فَنُفَصِّلُ الْكَلَامَ فيه فَنَقُولُ الْقَاتِلُ
وَالْمَقْتُولُ إمَّا أَنْ يَكُونَا جميعا حُرَّيْنِ وَإِمَّا أَنْ كان الْقَاتِلُ
حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا وَإِمَّا أَنْ كان الْقَاتِلُ عَبْدًا
وَالْمَقْتُولُ حُرًّا وَإِمَّا أَنْ كَانَا جميعا عَبْدَيْنِ فَإِنْ كَانَا
حُرَّيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ
وُجُودِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَهِيَ نَوْعَانِ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْقَاتِلِ وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْتُولِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ
فَالْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ على
الْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ
بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ وَالصَّبِيُّ
وَالْمَجْنُونُ لَا يخاطبا ( ( ( يخاطبان ) ) ) بِالشَّرَائِعِ أَصْلًا
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ
مَعْصُومًا فَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ سَوَاءٌ كان مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا أو مُسْتَأْمَنًا وَسَوَاءٌ كان مُسْلِمًا أَسْلَمَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ أو في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا لِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ } وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قد سَلِمَ له الْحَيَاةُ في الدُّنْيَا وَهِيَ
من أَعْظَمِ النِّعَمِ وَرُفِعَتْ عنه الْمُؤَاخَذَةُ في الْآخِرَةِ مع جَوَازِ
الْمُؤَاخَذَةِ في الْحِكْمَةِ لِمَا في وُسْعِ الخاطىء في الْجُمْلَةِ حِفْظُ
نَفْسِهِ عن الْوُقُوعِ في الْخَطَأِ وَهَذَا أَيْضًا نِعْمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ
الشُّكْرِ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْدِرَ الْعَبْدُ على أَدَاءِ ما
وَجَبَ عليه من أَصْلِ الشُّكْرِ بتعضية ( ( ( بتعظيمه ) ) ) الْعَقْلَ وَلِأَنَّ
فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْمُؤَاخَذَةُ عليه بِطَرِيقِ
الْعَدْلِ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ وإذا كان
جِنَايَةً فَلَا بُدَّ لها من التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ فَجُعِلَ التَّحْرِيرُ
من الْعَبْدِ بِحَقِّ التَّوْبَةِ عن الْقَتْلِ الْخَطَأِ بِمَنْزِلَةِ
التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ في غَيْرِهِ من الْجِنَايَاتِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ
التَّحْرِيرُ أو الصَّوْمُ تَوْبَةً له دُونَ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
لِخِفَّةِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ إذْ الْخَطَأُ مَعْفُوٌّ في
الْجُمْلَةِ وَجَائِزٌ الْعَفْوُ عن هذا النَّوْعِ فَخَفَّتْ تَوْبَتُهُ لِخِفَّةٍ
في الْجِنَايَةِ فَكَانَ التَّحْرِيرُ في هذه الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ
التَّوْبَةِ في سَائِرِ الْجِنَايَاتِ
وَمِنْهَا حرمات ( ( ( حرمان ) ) ) الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْقَتْلُ
مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا الْخَطَرُ وَالْحُرْمَةُ
فَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ جَائِزٌ الْمُؤَاخَذَةُ عليها عَقْلًا لِمَا
بَيَّنَّا
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ عز اسْمَهُ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا
أو أَخْطَأْنَا } وَلَوْ لم يَكُنْ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ لَكَانَ مَعْنَى
الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا وَهَذَا مُحَالٌ وَإِنَّمَا رُفِعَ
حُكْمُهَا شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه مع بَقَاءِ وَصْفِ الْفِعْلِ على حَالِهِ
وهو كَوْنُهُ جِنَايَةً
وَمِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَلَامُ في الدِّيَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وفي بَيَانِ ما تَجِبُ منه الدِّيَةُ من الْأَجْنَاسِ
وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من كل جِنْسٍ
وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه الدِّيَةُ
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ فَبَعْضُهَا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ
كَمَالِ الْوَاجِبِ
أَمَّا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الْعِصْمَةُ وهو أَنْ
يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا دِيَةَ في قَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي
لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ وُجُوبِ
الدِّيَةِ لَا من جَانِبِ الْقَاتِلِ وَلَا من جَانِبِ الْمَقْتُولِ فَتَجِبُ
الدِّيَةُ سَوَاءٌ كان الْقَاتِلُ أو الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو
حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا
وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ حتى تَجِبَ الدِّيَةُ في مَالِ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ }
وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا أو حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا
تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كان من قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ }
وَالثَّانِي التَّقَوُّمُ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُتَقَوِّمًا وَعَلَى هذا
يُبْنَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ فلم يُهَاجِرْ
إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةَ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ التَّقَوُّمَ
بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بِالْإِسْلَامِ وقد ذَكَرْنَا
تَقْرِيرَ هذا الْأَصْلِ في كِتَابِ السِّيَرِ ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ
ابْتِدَاءً
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَلَنَا قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ { فَإِنْ كان من قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }
____________________
(7/252)
وَالِاسْتِدْلَالُ
بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيرَ جَزَاءَ الْقَتْلِ
وَالْجَزَاءُ يَقْتَضِي الْكِفَايَةَ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ معه لَا تَقَعُ
الْكِفَايَةُ بِالتَّحْرِيرِ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْوَاجِبِ
بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا معه الدِّيَةَ
لَصَارَ بَعْضَ الْوَاجِبِ وَهَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ النَّصِّ
وَأَمَّا صَدْرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ هذا الْمُؤْمِنَ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ
مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ من كل وَجْهٍ وهو الْمُسْتَأْمَنُ دِينًا
وَدَارًا وَهَذَا مُسْتَأْمَنٌ دِينًا لَا دَارًا لِأَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَ
الْكَفَرَةِ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ منهم على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَفْرَدَ هذا الْمُؤْمِنَ بِالذَّكَرِ وَالْحُكْمِ وَلَوْ
تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَعَرَّفَ حُكْمَهُ بِهِ فَكَانَ
الثَّانِي تَكْرَارًا
وَلَوْ حُمِلَ على الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ لم يَكُنْ تَكْرَارًا فَكَانَ
الْحَمْلُ عليه أَوْلَى أو يُحْتَمَلْ ما ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا
بين الدَّلِيلِينَ عَمَلًا بِهِمَا جميعا ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَقْتُولِ تُعْتَبَرُ
وَقْتَ الْقَتْلِ أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَمْ في الْوَقْتَيْنِ جميعا
على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ
وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ جميعا
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الرَّمْيِ إذَا رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ
الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ وهو مُرْتَدٌّ فَمَاتَ فَعَلَى
الرَّامِي الدِّيَةُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان خَطَأً تَتَحَمَّلُهُ
الْعَاقِلَةُ وَإِنْ كان عَمْدًا يَكُونُ في مَالِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ
عليه
وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ وَإِنْ رَمَى مُرْتَدًّا أو حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ
وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ وَمَاتَ لَا شَيْءَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ عليه الدِّيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ
وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ وَلَا عِصْمَةَ
لِلْمَقْتُولِ وَقْتَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ فَكَانَ دَمُهُ هَدْرًا كما لو جَرَحَهُ
ثُمَّ ارْتَدَّ فَمَاتَ وهو مُرْتَدٌّ
لَهُمَا أَنَّ لِلْقَتْلِ تَعَلُّقًا بِالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ
فِعْلُ الْقَاتِلِ وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ في الْمَقْتُولِ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ
فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ في الْوَقْتَيْنِ جميعا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ على الْإِنْسَانِ
بِفِعْلِهِ وَلَا فِعْلَ منه سِوَى الرَّمْيِ السَّابِقِ فَكَانَ الرَّمْيُ
السَّابِقُ عِنْدَ وُجُودِ زُهُوقِ الرُّوحِ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ
وَالْمَحِلُّ كان مَعْصُومًا في ذلك الْوَقْتِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ
الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَلِهَذَا لو كان مُرْتَدًّا أو حَرْبِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ
فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وهو مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عليه عِنْدَهُمَا وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه عَلَيْهِمَا
في اعْتِبَارِ وَقْتِ الرَّمْيِ لَا غَيْرُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ في بَابِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ في
قَوْلِهِمْ جميعا حتى لو كان الرَّامِي مُسْلِمًا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ ارْتَدَّ
فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ وهو مُرْتَدٌّ يُؤْكَلُ وَإِنْ كان الْبَابُ بَابَ
الِاحْتِيَاطِ
وَبِمِثْلِهِ لو كان مَجُوسِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ
السَّهْمُ بِالصَّيْدِ وهو مُسْلِمٌ لَا يُؤْكَلُ
وَكَذَلِكَ حَلَالٌ رَمَى صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ لَا شَيْءَ عليه
وَإِنْ رَمَى وهو مُحْرِمٌ ثُمَّ حَلَّ فَأَصَابَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ
فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَجُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في اعْتِبَارِ وَقْتِ
الْفِعْلِ وَالْأَصْلُ أَنَّ ما يَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ تُعْتَبَرُ فيه
أَهْلِيَّةُ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِلَا خِلَافٍ وما كان رَاجِعًا إلَى
الْمَحِلِّ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا بِخِلَافِ ما إذَا جَرَحَ
مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ وهو مُرْتَدٌّ أَنَّهُ يُهْدَرُ
دَمُهُ لِأَنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ انْقَلَبَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ وقد
تَبَدَّلَ الْمَحِلُّ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ السِّرَايَةِ عن
ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ كَتَبَدُّلِ الْمَحِلِّ حَقِيقَةً ولم يُوجَدْ هذا
الْمَعْنَى في مَسْأَلَتِنَا
وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَمَاتَ
فَلَا دِيَةَ عليه وَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ
وقال مُحَمَّدٌ على الرَّامِي لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَضْلُ ما بين قِيمَتِهِ
مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ لَا شَيْءَ عليه غَيْرُ ذلك
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ
أبي يُوسُفَ مع قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَمَى إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ
نَاقِصًا بِالرَّمْيِ في مِلْكِ مَوْلَاهُ قبل وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ لِأَنَّهُ
أَشْرَفَ على الْهَلَاكِ بِتَوَجُّهِ السَّهْمِ إلَيْهِ فَوَجَبَ عليه ضَمَانُ
النُّقْصَانِ فَصَارَ كما لو جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ وَلَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ وَلَا
الْقِيمَةَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ
كَذَا هذا
وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه مَرَّ على أَصْلِهِ وهو اعْتِبَارُ وَقْتِ
الْفِعْلِ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِالرَّمْيِ السَّابِقِ وهو كان مِلْكُ
الْمَوْلَى حِينَئِذٍ
وَأَمَّا بَيَانُ ما تَجِبُ فيه الدِّيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الذي تَجِبُ منه الدِّيَةَ وَتُقْضَى منه
ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَعِنْدَهُمَا سِتَّةُ
أَجْنَاسٍ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ
وَالْحُلَلُ
وَاحْتَجَّا بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فإنه رُوِيَ أَنَّهُ
قَضَى بِالدِّيَةِ من هذه الْأَجْنَاس
____________________
(7/253)
بِمَحْضَرٍ
من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في
النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْوَاجِبَ من الْإِبِلِ على الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فَظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي الْوُجُوبَ منها على التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ من
الصِّنْفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَمَنْ ادَّعَى الْوُجُوبَ
من الْأَصْنَافِ الْأُخَرِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَأَمَّا قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه فَقَدْ قِيلَ
إنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ حين كانت الدِّيَاتُ على الْعَوَاقِلِ فلما
نَقَلَهَا إلَى الدِّيوَانِ قَضَى بها من الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الْمَعَاقِلِ ما يُدَلُّ على أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ
فإنه قال لو صَالَحَ الْوَلِيُّ على أَكْثَرِ من مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أو ( ( (
ومائتي ) ) ) مائتي حُلَّةٍ لم يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لم يَكُنْ ذلك من
جِنْسِ الدِّيَةِ لَجَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من كل جِنْسٍ وَبَيَانُ صِفَتِهِ فَقَدْرُ
الْوَاجِبِ من كل جِنْسٍ يَخْتَلِفُ بِذُكُورَةِ الْمَقْتُولِ وَأُنُوثَتِهِ
فَإِنْ كان ذَكَرًا فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِهِ من الْإِبِلِ
مِائَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ
مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أَنَّ الْوَاجِبَ من الذَّهَبِ
أَلْفُ دِينَارٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ
كل ذِي عَهْدٍ في عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ وَالتَّقْدِيرُ في حَقِّ الذِّمِّيِّ
يَكُونُ تَقْدِيرًا في حَقِّ الْمُسْلِمِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَأَمَّا الْوَاجِبُ من الْفِضَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَشَرَةُ آلَافٍ دِرْهَمٍ وَزْنًا
وَزْنُ سَبْعَةٍ
وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إثنا عَشْرَ أَلْفًا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قال الدِّيَةُ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا
مع ما أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سمع
من رسول اللَّهِ
وَقَدْرُ الْوَاجِبِ من الْبَقَرِ عِنْدَهُمَا مِائَتَا بَقَرَةٍ وَمِنْ الْحُلَلِ
مِائَتَا حُلَّةٍ وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ
ثُمَّ دِيَةُ الْخَطَأِ من الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ بِلَا خِلَافٍ عِشْرُونَ بِنْتَ
مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ
حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً
وَهَذَا قَوْلُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وقد رَفَعَهُ إلَى النبي
أَنَّهُ قال دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ
بَنُو مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَعِشْرُونَ
جَذَعَةٌ
وَعِنْدَهُمَا قَدْرُ كل بَقَرَةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقَدْرُ كل حُلَّةٍ
خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَقِيمَةُ
كل شَاةٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَدِيَةُ شِبْهِ العبد ( ( ( العمد ) ) ) أَرْبَاعٌ عِنْدَهُمَا خَمْسٌ
وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ
وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَثْلَاثٌ
ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ ما بين ثَنِيَّةٍ إلَى
بَازِلِ عَامِهَا كُلِّهِ خِلْفَةٌ وهو مَذْهَبُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَزَيْدِ بن
ثَابِتٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في شِبْهِ الْعَمْدِ
أَثْلَاثٌ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً
وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خِلْفَةً وَالصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مَتَى
اخْتَلَفَتْ في مَسْأَلَةٍ على قَوْلَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ يَجِبُ تَرْجِيحُ قَوْلِ
الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَالتَّرْجِيحُ هَهُنَا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي
اللَّهُ عنه لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ
الذي تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْقَبُولِ وهو قَوْلُهُ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ
وفي إيجَابِ الْحَوَامِلِ إيجَابُ الزِّيَادَةِ على الْمِائَةِ لِأَنَّ الْحَمْلَ
أَصْلٌ من وَجْهٍ
وَالثَّانِي أَنَّ ما قَالَهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَعْنًى
مَوْهُومٌ لَا يُوقَفُ عليه حَقِيقَةً فإن انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قد يَكُونُ
لِلْحَمْلِ وقد يَكُونُ لِلدَّاءِ وَنَحْوِ ذلك
وَإِنْ كان أُنْثَى فَدِيَةُ الْمَرْأَةِ على النِّصْفِ من دِيَةِ الرَّجُلِ
لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ
وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ
تَعَالَى عليهم أَنَّهُمْ قالوا في دِيَةِ الْمَرْأَةِ أنها على النِّصْفِ من
دِيَةِ الرَّجُلِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليهم أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ في مِيرَاثِهَا وَشَهَادَتِهَا على النِّصْفِ من الرَّجُلِ
فَكَذَلِكَ في دِيَتِهَا
وَهَلْ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَدِيَةُ الذِّمِّيِّ
وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ
وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَالزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَخْتَلِفُ
دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ هَؤُلَاءِ
على هذه الْمَرَاتِبِ وَلِأَنَّ الْأُنُوثَةَ لَمَّا أَثَّرَتْ في نُقْصَانِ
الْبَدَلِ فَالْكُفْرُ أَوْلَى لِأَنَّ نَقِيصَةَ الْكُفْرِ فَوْقَ كل نَقِيصَةٍ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى
____________________
(7/254)
الْقَوْلَ
بِالدِّيَةِ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ من غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ أَنَّ
الْوَاجِبَ في الْكُلِّ على قَدْرٍ وَاحِدٍ
وَرَوَيْنَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ كل ذِي عَهْدٍ في
عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ
وَرُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ
فَقَضَى رسول اللَّهِ فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال قَضَى سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ
وَسَيِّدُنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما في دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ
دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أنه قال دِيَةُ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ
يَعْتَمِدُ كَمَالَ حَالِ الْقَتِيلِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا
وَهِيَ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِصْمَةُ وقد وُجِدَ وَنُقْصَانُ
الْكُفْرِ يُؤَثِّرُ في أَحْكَامِ الدُّنْيَا
وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه الدِّيَةُ فَالدِّيَةُ تَجِبُ على الْقَاتِلِ
لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْقَتْلُ وأنه وُجِدَ من الْقَاتِلِ
ثُمَّ الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ على الْقَاتِلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجِبُ عليه في
مَالِهِ وَنَوْعٌ يَجِبُ عليه كُلِّهِ وَتَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ بَعْضَهُ
بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ إذَا كان له عَاقِلَةٌ
وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ أو شِبْهِ الْعَمْدِ
تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وما لَا فَلَا فَلَا تَعْقِلُ الصُّلْحَ لِأَنَّ
بَدَلَ الصُّلْحِ ما وَجَبَ بِالْقَتْلِ بَلْ بِعَقْدِ الصُّلْحِ وَلَا
الْإِقْرَارَ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا بِالْقَتْلِ
وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ في حَقِّ
الْعَاقِلَةِ حتى لو صَدَقُوا عَقَلُوا وَلَا الْعَبْدَ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا
خَطَأً لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الدَّفْعُ لَا الْفِدَاءُ
وَالْفِدَاءُ يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ
وَلَا الْعَمْدَ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا لِأَنَّهَا وَإِنْ
وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فلم تَجِبْ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أو شِبْهِ الْعَمْدِ
وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ من الْعَاقِلَةِ في الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ
على طَرِيقِ التَّخْفِيفِ على الخاطىء وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ
وقد رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تَعْقِلُ
الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا ما
دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ
وَقِيلَ في مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا عَبْدًا أَنَّ
الْمُرَادَ منه الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ وهو الذي قَتَلَهُ مَوْلَاهُ وهو مَأْذُونٌ
مَدْيُونٌ أو الْمُكَاتَبُ لَا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ
لَكَانَ من حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةَ عن عَبْدٍ
لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ عَقَلْتُ عن فُلَانٍ إذَا كان فُلَانٌ قَاتِلًا
وَعَقَلْتُ فُلَانًا إذَا كان فُلَانٌ مَقْتُولًا
كَذَا فَرَّقَ الْأَصْمَعِيُّ
ثُمَّ الْوُجُوبُ على الْقَاتِلِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ قَوْلُ
عَامَّةِ الْمَشَايِخِ
وقال بَعْضُهُمْ كُلُّ الدِّيَةِ في هذا النَّوْعِ تَجِبُ على الْكُلِّ ابْتِدَاءً
الْقَاتِلُ وَالْعَاقِلَةُ جميعا وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَمَعْنَاهُ فَلْيَتَحَرَّرْ وليؤد
وَهَذَا خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ لَا لِلْعَاقِلَةِ دَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ على
الْقَاتِلِ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْقَتْلُ وَأَنَّهُ
وُجِدَ من الْقَاتِلِ لَا من الْعَاقِلَةِ فَكَانَ الْوُجُوبُ عليه لَا على
الْعَاقِلَةِ وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ دِيَةً وَاجِبَةً عليه
ثُمَّ دُخُولُ الْقَاتِلِ مع الْعَاقِلَةِ في التَّحَمُّلِ مَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَاتِلُ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ بَلْ
تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ الْكُلَّ دُونَ الْقَاتِلِ
وقال أبو بَكْرٍ الْأَصَمُّ يَتَحَمَّلُ الْقَاتِلُ دُونَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عليها }
وقال جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَلِهَذَا لم
تَتَحَمَّلْ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ وَلَا ما دُونَ نِصْفِ عُشْرِ
الدِّيَةِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْغُرَّةِ على عَاقِلَةِ
الضَّارِبَةِ وَكَذَا قَضَى سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِالدِّيَةِ على
الْعَاقِلَةِ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن
الْحَمْلَ على الْعَاقِلَةِ أَخْذٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ فإن حِفْظَ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ
على عَاقِلَتِهِ فإذا لم يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا وَالتَّفْرِيطُ منهم ذَنْبٌ
وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَقْتُلُ بِظَهْرِ عَشِيرَتِهِ فَكَانُوا
كَالْمُشَارِكِينَ له في الْقَتْلِ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ كَثِيرٌ فَإِلْزَامُ
الْكُلَّ الْقَاتِلَ إجْحَافٌ بِهِ فَيُشَارَكُهُ الْعَاقِلَةُ في التَّحَمُّلِ
تَخْفِيفًا وهو مُسْتَحِقٌّ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ خاطىء ( ( ( خاطئ ) ) )
وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْمَالِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يَكْثُرُ
عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ وما دُونَ نِصْفِ عُشْرِ
الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ
عليه السَّلَامُ قَضَى بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ فَلَا يَدْخُلُ فيه
الْقَاتِلُ وَإِنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ
وَذَلِكَ على الْقَاتِلِ أَوْجَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ
ثُمَّ الْكَلَامُ في الْعَاقِلَةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ
الْعَاقِلَةِ من هُمْ وَالثَّانِي في بَيَانِ الْقَدْرِ الذي تَتَحَمَّلُهُ
الْعَاقِلَةُ من الدِّيَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان حُرَّ الْأَصْلِ
وَإِمَّا أن كان مُعْتَقًا وَإِمَّا إن كان مولى الْمُوَالَاةِ فَإِنْ كان حُرَّ
الْأَصْلِ فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كان
____________________
(7/255)
من
أَهْلِ الدِّيوَانِ وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ من الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ
الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ تُؤْخَذُ من عَطَايَاهُمْ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ من النَّسَبِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك
فإنه رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كانت الدِّيَاتُ
على الْقَبَائِلِ فلما وَضَعَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الدَّوَاوِينَ
جَعَلَهَا على أَهْلِ الدَّوَاوِينِ
فَإِنْ قِيلَ قَضَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ من
النَّسَبِ إذْ لم يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه على مُخَالِفَتِهِ فِعْلَ رسول اللَّهِ
فَالْجَوَابُ لو كان سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه فَعَلَ ذلك وَحْدَهُ
لَكَانَ يَجِبُ حَمْلُ فِعْلِهِ على وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ فِعْلَ رسول اللَّهِ
كَيْفَ وكان فِعْلُهُ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا
يُظَنُّ من عُمُومِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مُخَالَفَةُ فِعْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ كان مَعْلُولًا
بِالنُّصْرَةِ وإذا صَارَتْ النُّصْرَةُ في زَمَانِهِمْ الدِّيوَانَ نَقَلُوا
الْعَقْلَ إلَى الدِّيوَانِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ
التَّحَمُّلَ من الْعَاقِلَةِ لِلتَّنَاصُرِ وَقَبْلَ وَضْعِ الدِّيوَانِ كان
التَّنَاصُرُ بِالْقَبِيلَةِ وَبَعْدَ الْوَضْعِ صَارَ التَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ
فَصَارَ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ دِيوَانِهِ
وَلَا تُؤْخَذُ من النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ وَالرَّقِيقِ
لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ النُّصْرَةِ وَلِأَنَّ هذا الضَّمَانَ صِلَةٌ
وَتَبَرُّعٌ بِالْإِعَانَةِ
وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْمَمَالِيكُ لَيْسُوا من أَهْلِ التَّبَرُّعِ
وَإِنْ لم يَكُنْ له دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ من النَّسَبِ لِأَنَّ
اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُعْتَقًا أو مولى الْمُوَالَاةِ
فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مولى الْقَوْمِ منهم ثُمَّ عَاقِلَةُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى
قَبِيلَتُهُ إذَا لم يَكُنْ من أَهْلِ الدِّيوَانِ فَكَذَا عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ
وَلِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِمَوْلَاهُ وَقَبِيلَتِهِ فَكَانُوا عَاقِلَتَهُ
هذا إذَا كان لِلْقَاتِلِ عَاقِلَةٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له عَاقِلَةٌ
كَاللَّقِيطِ وَالْحَرْبِيِّ أو الذِّمِّيِّ الذي أَسْلَمَ فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ
الْمَالِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ
عليه من مَالِهِ لَا على بَيْتِ الْمَالِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ هو الْوُجُوبُ في مَالِ الْقَاتِلِ
لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ منه وَإِنَّمَا الْأَخْذُ من الْعَاقِلَةِ
بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فإذا لم يَكُنْ له عَاقِلَةٌ يُرَدُّ الْأَمْرُ فيه إلَى
حُكْمِ الْأَصْلِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ على الْعَاقِلَةِ لِمَكَانِ
التَّنَاصُرِ فإذا لم يَكُنْ له عَاقِلَةٌ كان اسْتِنْصَارُهُ بِعَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ
وَبَيْتُ الْمَالِ ما لهم فَكَانَ ذلك عَاقِلَتُهُ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ ما تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ من الدِّيَةِ فَلَا
يُؤْخَذُ من كل وَاحِدٍ منهم إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أو أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ
وَلَا يُزَادُ على ذلك لِأَنَّ الْأَخْذَ منهم على وَجْهِ الصِّلَةِ
وَالتَّبَرُّعِ تَخْفِيفًا على الْقَاتِلِ فَلَا يَجُوزُ التَّغْلِيظُ عليهم بِالزِّيَادَةِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عن هذا الْقَدْرِ إذَا كان في الْعَاقِلَةِ كَثْرَةٌ
فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حتى أَصَابَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ من ذلك يُضَمُّ
إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ من النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانُوا من
أَهْلِ الدِّيوَانِ أو لَا وَلَا يَعْسُرُ عليهم وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ مع
الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ
تَتَحَمَّلُ جِنَايَةً وُجِدَتْ منه وَضَمَانًا وَجَبَ عليه فَكَانَ هو أَوْلَى
بِالتَّحَمُّلِ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ
دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً على الْعَاقِلَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ
لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك فإنه رُوِيَ أَنَّ
سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَتُؤْخَذُ من ثَلَاثِ عَطَايَا إنْ كان الْقَاتِلُ من أَهْلِ الدِّيوَانِ لِأَنَّ
لهم في كل سَنَةٍ عَطِيَّةً فَإِنْ تَعَجَّلَ الْعَطَايَا الثَّلَاثَ في سَنَةٍ
وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ الْكُلُّ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ يَتَأَخَّرُ
حَقُّ الْأَخْذِ وَإِنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ الدِّيوَانِ تُؤْخَذُ منه وَمِنْ
قَبِيلَتِهِ من النَّسَبِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الدِّيَةَ
بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ في مَالِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ
لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ إخْبَارٌ عن وُجُودِ الْقَتْلِ وَإِنَّهُ
يُوجِبُ حَقًّا مُؤَجَّلًا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ
على الْعَاقِلَةِ فَيَجِبُ مُؤَجَّلًا في مَالِهِ وَاخْتُلِفَ في شِبْهِ الْعَمْدِ
وَالْعَمْدِ الذي دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ وهو الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً في ثَلَاثِ
سِنِينَ إلَّا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَدِيَةُ
الْعَمْدِ في مَالِ الْأَبِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ دِيَةُ الدَّمِ كَدِيَةِ الْعَمْدِ تَجِبُ
حَالًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ حَالًا فَتَجِبُ الدِّيَةَ حَالًا
إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ على وَفْقِ السَّبَبِ هو الْأَصْلُ إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ
في الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ أو يَثْبُتُ مَعْلُولًا بِالتَّخْفِيفِ على الْقَاتِلِ حتى
تَحْمِلَ عنه الْعَاقِلَة وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ وَلِهَذَا وَجَبَ
في مَالِهِ لَا على الْعَاقِلَةِ
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لم يُعْرَفْ إلَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وهو قَوْلُهُ
____________________
(7/256)
تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ
الْخَطَأِ لَكِنَّ غَيْرَهُ مُلْحَقٌ بِهِ
إلَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ في بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ
فَبَيَّنَ قَدْرَ الدِّيَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ
الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ وهو الْأَجَلُ ثَبَتَ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه بِمَحْضَرٍ منهم فَصَارَ الْأَجَلُ وَصْفًا لِكُلِّ دِيَةٍ وَجَبَتْ
بِالنَّصِّ
وَقَوْلُهُ دِيَةُ الْخَطَأِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعَامِدُ
يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ
قُلْنَا وقد غَلَّظْنَا عليه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِإِيجَابِ دِيَةٍ
مُغَلَّظَةٍ
وَالثَّانِي بِالْإِيجَابِ في مَالِهِ وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ
من جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ من الدِّيَةِ تَتَحَمَّلُهُ
الْعَاقِلَةُ أو تَجِبُ في مَالِ الْقَاتِلِ فَذَلِكَ الْجُزْءُ تَجِبُ في ثَلَاثِ
سِنِينَ كَالْعَشَرَةِ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ حتى
وَجَبَتْ عليهم دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَعَاقِلَةُ كل وَاحِدٍ منهم تَتَحَمَّلُ عُشْرَهَا
في ثَلَاثِ سِنِينَ
وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا وَأَحَدُهُمْ أَبُوهُ حتى وَجَبَتْ
عليهم دِيَةٌ وَاحِدَةٌ في مَالِهِمْ يَجِبُ على كل وَاحِدٍ منهم عُشْرُهَا في
ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ منهم جُزْءٌ من دِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ
في ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَانَ تَأْجِيلُ الدِّيَةِ تَأْجِيلًا لِكُلِّ جُزْءٍ من
أَجْزَائِهَا إذْ الْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ في وَصْفِهِ وَلَا خِلَافَ في
أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ يَجِبُ في مَالِهِ حَالًا لِأَنَّهُ لم
يَجِبْ بِالْقَتْلِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَأَجَّلُ إلَّا
بِالشَّرْطِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذلك وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ
إنْسَانًا خَطَأً وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَجِبُ الْفِدَاءُ حَالًا
لِأَنَّ الْفِدَاءَ لم يَجِبْ بِالْقَتْلِ بَدَلًا من الْقَتِيلِ وَإِنَّمَا
وَجَبَ بَدَلًا عن دَفْعِ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ لو دَفَعَ يَدْفَعُ حَالًا
فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كان
الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْعَبْدُ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ كان عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ وَإِمَّا أَنْ كان عبد ( ( ( عبدا ) ) ) القاتل
( ( ( لقاتل ) ) ) فَإِنْ كان عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ فَيَتَعَلَّقُ بهذا الْقَتْلِ
حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْقِيمَةِ وَالْكَلَامُ في الْقِيمَةِ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وفي
بَيَانِ من يَتَحَمَّلُهُ وفي بَيَان كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْعَبْدُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ
وَإِمَّا أن كان كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَإِنْ كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كان
قِيمَتُهُ أَقَلُّ من عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما
بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ
اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ
عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ
بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمَسْأَلَةُ
مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ
عن سَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ مَذْهَبِهِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ وَمَالٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ
وَالْمَالِيَّةِ فيه وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ
وَالْقِيمَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَبِالْقَتْلِ فَوْتُ الْمَعْنَيَيْنِ جميعا
وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا على
الِانْفِرَادِ فَلَا بُدَّ من إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا وَإِهْدَارِ
الْآخَرِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في التَّرْجِيحِ فَادَّعَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ التَّرْجِيحَ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَالٌ
وَمُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْلَى من مُقَابَلَةِ الْمَالِ بِالْآدَمِيِّ
لِأَنَّ الْأَصْلَ في ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ على حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ
يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْمَالِ وَالْآدَمِيِّ
فَكَانَ إيجَابُهُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ
تَجِبُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ
وفي إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ جَبْرُ حَقِّ الْمُفَوَّتِ
عليه من كل وَجْهٍ
وَلَنَا النَّصُّ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ }
وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالدِّيَةُ ضَمَانُ الدَّمِ
وَضَمَانُ الدَّمِ لَا يُزَادُ على عَشَرَةِ آلَافٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعنَا على أَنَّهُ لو أَقَرَّ
على نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ يَصِحُّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَوْلَا أَنَّ
التَّرْجِيحَ لِمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ لَمَا صَحَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارُهُ
إهْدَارًا لِمَالِ الْمَوْلَى قَصْدًا من غَيْرِ رِضَاهُ وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ
ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآدَمِيَّةَ فيه
أَصْلٌ وَالْمَالِيَّةَ عَارِضٌ وَتَبَعٌ وَالْعَارِضُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ
وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْمَتْبُوعَ
وَدَلِيلُ أَصَالَةِ الْآدَمِيَّةِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ كان خُلِقَ
آدَمِيًّا ثُمَّ ثَبَتَ فيه وَصْفُ الْمَالِيَّةِ بِعَارِضِ الرِّقِّ
وَالثَّانِي أَنَّ قِيَامَ الْمَالِيَّةِ فيه بِالْآدَمِيَّةِ وُجُودًا وَبَقَاءً
لَا على الْقَلْبِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَالَ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَالنَّفْسُ ما خُلِقَتْ
وِقَايَةً لِلْمَالِ فَكَانَتْ الْآدَمِيَّةُ فيه أَصْلًا وُجُودًا
____________________
(7/257)
وَبَقَاءً
وَعَرَضًا
وَالثَّانِي أَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ لِأَنَّ
حُرْمَةَ الْمَالِ لِغَيْرِهِ وَحُرْمَةَ الْآدَمِيِّ لِعَيْنِهِ فَكَانَ
اعْتِبَارُ النَّفْسِيَّةِ وَإِهْدَارُ الْمَالِيَّةِ أَوْلَى من الْقَلْبِ إلَّا
أَنَّهُ نَقَصَتْ دِيَتُهُ عن دِيَةِ الْحُرِّ لِكَوْنِ الْكُفْرِ مُنْقِصًا في الْجُمْلَةِ
وَإِظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ
وَتَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْعَشَرَةِ ثَبَتَ توقيفا ( ( ( توفيقا ) ) )
قال ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه يُنْقَصُ من دِيَةِ الْحُرِّ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قال ذلك سَمَاعًا منه عليه السلام لِأَنَّهُ من
بَابِ الْمَقَادِيرِ أو لِأَنَّ هذا أَدْنَى مَالٍ له في خَطَرِ الشَّرْعِ كما في
نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ في النِّكَاحِ
قَوْلُهُ الْمَالُ ليس بِمِثْلٍ لِلْآدَمِيِّ قُلْنَا نعم لَكِنْ لِشَرَفِ
الْآدَمِيِّ وَجْهُ الْمَالِ لم يُجْعَلْ مِثْلًا له عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ ما
هو مِثْلٌ له من كل وَجْهٍ وهو النَّفْسُ
فَأَمَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ من كل وَجْهٍ فَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ من
وَجْهٍ أَوْلَى من الْإِهْدَارِ
وَقَوْلُهُ الْجَبْرُ في الْمَالِ أَبْلَغُ قُلْنَا بَلَى لَكِنَّ فيه إهْدَارَ
الْآدَمِيِّ وَمُقَابَلَةُ الْجَابِرِ بِالْآدَمِيِّ الْفَائِتِ أَوْلَى من
الْمُقَابَلَةِ بِالْمَالِ الْهَالِكِ
وَإِنْ كان الْجَبْرُ ثَمَّةَ أَكْثَرَ لَكِنْ فيه اعْتِبَارَ جَانِبِ الْمَوْلَى
فَيَكُونُ لِغَيْرِهِ وَفِيمَا قُلْنَا الْجَبْرُ أَقَلُّ لَكِنَّ فيه اعْتِبَارُ
جَانِبِ نَفْسِ الْآدَمِيِّ وهو الْعَبْدُ وَحُرْمَةُ الْآدَمِيِّ لَعَيْنِهِ
فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى
وَلَوْ كان الْمَقْتُولُ أَمَةً فَإِنْ كانت قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كانت
قِيمَتُهَا أَقَلَّ من خَمْسَةِ آلَافٍ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا
بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَإِنْ كانت كَثِيرَةُ الْقِيمَةِ بِأَنْ كانت قِيمَتُهَا
خَمْسَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ يَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ له فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْلُغُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ
وَالْكَلَامُ في الْأَمَةِ كَالْكَلَامِ في الْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَنْقُصُ منها
عَشَرَةٌ كما نَقَصَتْ من دِيَةِ الْعَبْدِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِ الْبَدَلِ لِأَنَّ هذه دِيَةُ الْبَدَلِ لِأَنَّ هذه
دِيَةٌ كَامِلَةٌ في الْأَمَةِ فَيَنْقُصُ في الْعَبْدِ بِخِلَافِ ما إذَا قَطَعَ
يَدَ عَبْدٍ تَزِيدُ نِصْفُ قِيمَتُهُ على خَمْسَةِ آلَافٍ أَنَّهُ تَجِبُ
خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ ليس بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ
بَلْ هو بَعْضُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْيَدَ منه نِصْفٌ فَيَجِبُ نِصْفُ ما يَجِبُ
في الْكُلِّ وَالْوَاجِبُ في الْأُنْثَى ليس بَعْضَ دِيَةِ الذَّكَرِ بَلْ هو
دِيَةٌ كَامِلَةٌ في نَفْسِهَا لَكِنَّهَا دِيَةُ الْأُنْثَى
وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه وَمَنْ يَتَحَمَّلُهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ على
الْقَاتِلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ منه وهو الْقَتْلُ وَتَتَحَمَّلُهَا
الْعَاقِلَةُ في قَوْلِهِمَا
وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ
في مَالِ الْقَاتِلِ
وَهَذَا بِنَاءٌ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَهُمَا ضَمَانَ
الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ وَضَمَانَ النَّفْسِ تَتَحَمَّلُهُ
الْعَاقِلَةُ وَكَدِيَةِ الْحُرِّ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ وَضَمَانَ الْمَالِ لَا تتحمل
( ( ( تتحمله ) ) ) الْعَاقِلَةُ بَلْ يَكُونُ في مَالِ الْمُتْلِفِ كَضَمَانِ
سَائِرِ الْأَمْوَالِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في كَثِيرِ الْقِيمَةِ أَنْ يُقَدَّرَ عَشَرَةَ آلَافٍ
تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ
النَّفْسِيَّةِ وما زَادَ عليها لَا تَعْقِلُهُ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ
الْمَالِيَّةِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ على الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا وَقَدْرُ ما
يَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم فما ذَكَرْنَا في دِيَةِ الْحُرِّ من غَيْرِ
تَفَاوُتٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } من غَيْرِ
فَصْلٍ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ كان الْمَقْتُولُ مُدَبَّرَ إنْسَانٍ أو أُمَّ وَلَدِهِ أو مُكَاتَبَهُ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا وَإِنْ كان عَبْدَ الْقَاتِلِ
فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عليه هَدْرٌ
وَكَذَا لو كان مُدَبَّرُهُ أو أُمُّ وَلَدِهِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لو وَجَبَتْ
لَوَجَبَتْ له عليه وَهَذَا مُمْتَنِعٌ
وَإِنْ كان مُكَاتَبَهُ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عليه لَازِمَةٌ وَعَلَى الْمَوْلَى
قِيمَتُهُ في ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ
وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ حُرٌّ فَكَانَ كَسْبُهُ وَأَرْشُهُ له فَالْجِنَايَةُ عليه
من الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وَلَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ بَلْ
تَكُونُ على مَالِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَعْقِلُ
الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَالْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا عَبْدٌ ما بَقِيَ
عليه دِرْهَمٌ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ على مِلْكِ مَوْلَاهُ وَإِنَّمَا ضَمِنَ
جِنَايَتَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَالْعَقْدُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ
في حَقِّ الْعَاقِلَةِ وَلِهَذَا لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الِاعْتِرَافَ لِأَنَّ
إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَوْلَى على رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَالِهِ
لَازِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى
وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فيه وَكَذَا إذَا كان مَأْذُونًا مَدْيُونًا
فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِرَقَبَتِهِ
وَبِالْقَتْلِ أَبْطَلَ مَحَلَّ حَقِّهِمْ فَتَجِبُ عليه قِيمَتُهُ وَتَكُونُ في
مَالِهِ بِالنَّصِّ وَتَكُونُ حَالَّةً لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافِ الْمَالِ
هذا إذَا كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا فَأَمَّا إذَا كان
الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا فَالْحُرُّ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو من
أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أو يَكُونَ وَلِيَ الْعَبْدِ فَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا
فَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو
أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا فَإِنْ كان قنا ( ( ( قلنا ) ) ) يَدْفَعُ إذَا
ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ إلَّا أَنْ
____________________
(7/258)
يَخْتَارَ
الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما تَظْهَرُ بِهِ هذه الْجِنَايَةُ
وَبَيَانِ حُكْمِ هذه الْجِنَايَةِ وَبَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ ما
يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَشَرْطِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ
وَبَيَانِ صِفَةِ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهَذِهِ الْجِنَايَةُ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارِ
الْمَوْلَى وَعِلْمِ الْقَاضِي وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مَحْجُورًا
كان أو مَأْذُونًا لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ما كان
من مَالِ التِّجَارَةِ وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ ليس من التِّجَارَةِ وإذا لم
يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ لَا في الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ
لِأَنَّ مُوجَبَ إقْرَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَوْلَاهُ فَكَانَ
هذا إقْرَارًا على الْمَوْلَى حتى لو صَدَّقَهُ الْمَوْلَى صَحَّ إقْرَارَهُ
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ بَعْدَ الْعَتَاقِ أَنَّهُ كان جَنَى في حَالِ الرِّقِّ لَا
شَيْءَ عليه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا إقْرَارٌ له على الْمَوْلَى
أَلَّا يُرَى لو صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وهو يَعْلَمُ
بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ هذه الْجِنَايَةِ فوجوب ( ( ( فوجب ) ) ) دَفْعُ الْعَبْدِ إلَى
وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُهَا تَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ
الْعَبْدِ يُبَاعُ فيه ويستوفي الْأَرْشُ من ثَمَنِهِ
فَإِنْ فَضَلَ منه شَيْءٌ فَالْفَضْلُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لم يَفِ ثَمَنُهُ
بِالْأَرْشِ يُتْبَعُ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ
يَسْتَخْلِصَهُ وَيُؤَدِّيَ الْأَرْشَ من مَالٍ آخَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ في ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ على
الْجَانِي وَالْوَاجِبُ على الْإِنْسَانِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في مَالِهِ أو
تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عنه وَالْعَبْدُ لَا مَالَ له وَلَا عَاقِلَةَ
فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عليه فَتَجِبُ في رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فيه كَدَيْنِ
الِاسْتِهْلَاكِ في الْأَمْوَالِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا
عَلِيٍّ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ مَذْهَبِنَا
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ
عَلَيْهِمَا من أَحَدٍ منهم فَيَكُونَ إجْمَاعًا منهم وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ
بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ وَدَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ في بَابِ الْأَمْوَالِ
يَجِبُ على الْعَبْدِ على ما عُرِفَ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَصَيْرُورَةُ الْعَبْدِ وَاجِبُ الدَّفْعِ على
سَبِيلِ التَّعْيِينِ كَثُرَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أو قَلَّتْ وَعِنْدَ اخْتِيَارِ
الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ من الدَّفْعِ إلَى الْفِدَاءِ سَوَاءٌ
كان الْمَجْنِيُّ عليه وَاحِدًا أو أَكْثَرَ غير أَنَّهُ إنْ كان وَاحِدًا دَفَعَ
إلَيْهِ وَيَصِيرُ كُلُّهُ مَمْلُوكًا له وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ
إلَيْهِمْ وكان مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على قَدْرِ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ وَسَوَاءٌ
كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أو لم يَكُنْ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي قبل
اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عليه أَصْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ
دَفْعُ الْعَبْدِ على طَرِيقِ التَّعْيِينِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ
هَلَاكِ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ قَوْلَ من يقول حُكْمُ هذه الْجِنَايَةِ تَخَيُّرُ
الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ
لَتَعَيَّنَ الْفِدَاءُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ ولم يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ
عليه أَصْلًا على ما هو الْأَصْلُ في الْمُخَيَّرِ بين شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عليه الْآخَرُ
وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ
لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ انْتَقَلَ الْحَقُّ من رَقَبَتِهِ
إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ بَعْدَ
ذلك
وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلُّ من الدِّيَةِ فَلَيْسَ على الْمَوْلَى
إلَّا الدَّفْعُ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ حُكْمُهُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يَفْصِلُوا بين قَلِيلِ
الْقِيمَةِ وَكَثِيرِهَا فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ على جَمَاعَةٍ فَإِنْ شَاءَ
الْمَوْلَى دَفَعَهُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عليه
لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى
لَمَّا لم يَمْنَعْ التَّعَلُّقَ فَالْحَقُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ وإذا
دَفَعَهُ إلَيْهِمْ كان مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ قَدْرَ أُرُوشِ
جِنَايَتِهِمْ فإن حِصَّةَ كل وَاحِدٍ منهم من الْعَبْدِ عِوَضٌ عن الْفَائِتِ
فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ وَغُرِّمَ
الْجِنَايَاتِ بِكَمَالِ أُرُوشِهَا
وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ من الْعَبْدِ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ
ما يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ وَيَفْدِي بَعْضَ الْجِنَايَاتِ له ذلك
بِخِلَافِ ما إذَا كان الْقَتِيلُ وَاحِدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَأَرَادَ
الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْفِدَاءَ إلَى الْآخَرِ أَنَّهُ
ليس له ذلك لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ وَاحِدَةٌ وَلَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ وهو
وُجُوبُ الدَّفْعِ على التَّعْيِينِ وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وُجُوبُ
الْفِدَاءِ على التَّعْيِين وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ في جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ
بين حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا جَنَى على جَمَاعَةٍ لِأَنَّ
الْجِنَايَةَ هُنَاكَ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَهُ خِيَارُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ في كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالدَّفْعُ في الْبَعْضِ وَالْفِدَاءُ في الْبَعْضِ لَا
يَكُونُ جَمَعَا بين حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ
الْفَرْقُ
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ
دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَثَلَاثًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِالْعَبْدِ أَثْلَاثًا
وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن كل جِنَايَةٍ بِأَرْشِهَا
وَكَذَلِكَ إذَا شَجَّ إنْسَانًا شِجَاجًا مُخْتَلِفَةً أَنَّهُ دَفَعَ الْعَبْدَ
إلَيْهِمْ كان مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ وَإِنْ اخْتَارَ
الْفِدَاءَ فَدَى عن الْكُلِّ
____________________
(7/259)
بأروشها
( ( ( بأرشها ) ) )
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى
بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَلَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ لأنه
مُوجِبَ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَتَعَلُّقُ الدَّيْنَ بِرَقَبَةِ
الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ من الدَّفْعِ إلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُهُ مَشْغُولًا
بِالدَّيْنِ فَإِنْ فَدَى بِالدِّيَةِ يُبَاعُ الْعَبْدُ في الدَّيْنِ لِأَنَّهُ
لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهُرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عن الْجِنَايَةِ فَيُبَاعُ إلَّا
أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ دَيْنَ الْغُرَمَاءِ
وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ
يُبَاعُ لِأَجْلِ الْغُرَمَاءِ في دَيْنِهِمْ وَإِنَّمَا بدىء بِالدَّفْعِ لَا
بِالدَّيْنِ لِأَنَّ فيه رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ
بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَحَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِالْبَيْعِ لهم
وَلَوْ بدىء بِالدَّيْنِ فَبَيْعَ بِهِ لَبَطُلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ
في الدَّفْعِ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ يَصِيرُ مِلْكًا لَلْمُشْتَرِي لِذَلِكَ بدىء
بِالدَّفْعِ
وَفَائِدَةُ الدَّفْعِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ هِيَ أَنْ
يَثْبُتَ لهم حَقُّ اسْتِخْلَاصِ الْعَبْدِ بِالْفِدَاءِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ
أَغْرَاضًا في الْأَعْيَانِ
ثُمَّ إذَا بِيعَ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ من ثَمَنِ الْعَبْدِ كان الْفَضْلُ
لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ على مِلْكِهِمْ
لِصَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لهم بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لم يَفِ ثَمَنُهُ
بِالدِّينِ يَتَأَخَّرُ ما بَقِيَ إلَى ما بَعْدِ الْعَتَاقِ كما لو بِيعَ على
مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ
بِدَفْعِ الْعَبْدِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شيئا اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ تَمْلِيكٌ منهم بَعْدَ تَعَلُّقِ
الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ منهم وَلَوْ بَاعَهُ منهم
لَضَمِنَ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَاجِبٌ عليه لِمَا فيه من رِعَايَةِ الْحَقَّيْنِ لِمَا
بَيَّنَّا
وَمَنْ فَعَلَ ما وَجَبَ عليه لَا يَضْمَنُ وَلَوْ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ أَوَّلًا
فَبَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ فَإِنْ فَعَلَ ذلك بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي
يُنْظَرُ إنْ كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ
وَلَزِمَهُ الْأَرْشُ وَإِنْ كان غير عَالَمٍ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ
الْأَقَلُّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ وهو الدِّيَةُ
وَإِنْ كان رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنْ كان الْقَاضِي عَالَمًا بِالْجِنَايَةِ
فإنه لَا يَبِيعُ الْعَبْدَ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ أَوْلِيَاءِ
الْجِنَايَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ
فَبَاعَهُ بِالدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ أو بِعِلْمِهِ ثُمَّ حَضَرَ
أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ وَلَا فَضْلَ في الثَّمَنِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ
وَسَقَطَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن مِلْكِ الْمَوْلَى
بِغَيْرِ رِضَاهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ فِيمَا
يَصْنَعُهُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ العهد ( ( ( العهدة ) ) ) وَلَا سَبِيلَ إلَى
فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لو فَسَخَ الْبَيْعَ وَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ لَوَقَعَتْ
الْحَاجَةُ إلَى الْبَيْعِ ثَانِيًا فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْفَسْخِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَوْ مَاتَ لَبَطَلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ أَصْلًا
كَذَا هذا وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْجَانِيَ قبل الدَّفْعِ فَإِنْ كان الْقَاتِلُ حُرًّا
يَأْخُذُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إنْ كان
وَاحِدًا
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ على قَدْرِ حُقُوقِهِمْ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ بَدَلُ الْعَبْدِ فَتَقُومُ مَقَامَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا خِيَارَ
لِلْمَوْلَى بين الْقِيمَةِ وَالْفِدَاءِ حتى لو تَصَرَّفَ في تِلْكَ الْقِيمَةِ
لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَوْ تَصَرَّفَ في الْعَبْدِ يَصِيرُ
مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ على ما نَذْكُرُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَإِنْ كانت مِثْلَ الْأَرْشِ فَلَا فَائِدَةَ
في التَّخْيِيرِ وَكَذَلِكَ إنْ كانت أَقَلَّ من الْأَرْشِ أو أَكْثَرَ منه
لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فإنه وَإِنْ
كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ فَلِلنَّاسِ رَغَائِبُ في الْأَعْيَانِ وَكَذَلِكَ إن
قَتَلَهُ عبد أَجْنَبِيٍّ فَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بين الدَّفْعِ والفدا ( ( ( والفداء
) ) ) وَفَدَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ أَنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ
الْقِيمَةَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ دَفَعَ الْقَاتِلَ إلَى مولى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ يُخَيَّرُ مولى
الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ حتى لو تَصَرَّفَ في الْعَبْدِ
الْمَدْفُوعِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ الْقَاتِلَ قام مَقَامَ الْمَقْتُولِ لَحْمًا وَدَمًا فَكَانَ
الْأَوَّلُ قائم ( ( ( قائما ) ) )
وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ آخَرُ لِمَوْلَاهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى في شَيْئَيْنِ في
الْعَبْدِ الْقَاتِلِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ وَلِيِّ
الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ جَعَلَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ كأنه ( ( (
كأن ) ) ) عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ وَهُنَاكَ يُخَيَّرُ
بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ
كَذَا هَهُنَا
وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ عَبْدٌ رَجُلًا خَطَأً وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ هذا
الْعَبْدَ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بين دَفْعِهَا وَفِدَائِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الْعَبْدُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ
رَجُلًا آخَرَ خَطَأً ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْأَمَةَ خُيِّرَ الْمَوْلَى
بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى بِالدِّيَةِ
وَقِيمَةِ الْأَمَةِ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ فيه أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ
الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأَمَةِ بِقِيمَةِ الْأَمَةِ
لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عليها كَالْجِنَايَةِ على أَمَةِ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَتْ
رَجُلًا خَطَأً وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْأَمَةِ أَلْفًا كان الْعَبْدُ مَقْسُومًا
بَيْنَهُمْ على أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا سَهْمٌ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأَمَةِ
وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْعَبْدِ فَإِنْ قَطَعَ عَبْدٌ
لِأَجْنَبِيٍّ يَدَ الْعَبْدِ الْجَانِي أو فَقَأَ عَيْنَهُ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً
فَخُيِّرَ مولى الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أو الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) أو الْجَارِحِ
بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ أو فَدَاهُ بِالْأَرْشِ
فَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ يُخَيَّرُ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ
____________________
(7/260)
شَاءَ
دَفَعَ عَبْدَهُ الْمَقْطُوعَ مع الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أو مع أَرْشِ يَدِ عَبْدِهِ
الْمَقْطُوعِ
وَإِنْ شَاءَ فَدَى عن الْجِنَايَةِ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَقْطُوعَ
كان وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَرْشُ يَدِهِ بَدَلُ جُزْئِهِ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ قَائِمٌ مَقَامَ يَدِهِ فَكَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ
إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ فَيُنْقَلُ الْحَقُّ من الْعَبْدِ إلَى الْأَرْشِ
وَلَوْ كَسَبَ الْعَبْدُ الْجَانِي كَسْبًا أو كان الْجَانِي أَمَةً فَوَلَدَتْ
بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ لم يَدْفَعْ الْكَسْبَ وَلَا
الْوَلَدَ بِخِلَافِ الْأَرْشِ أَنَّهُ يُدْفَعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَرْشَ
بَدَلُ جُزْءٍ كان وَاجِبَ الدَّفْعِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ
بِخِلَافِ الْكَسْبِ وَالْوَلَدِ
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ اخْتَلَفَ
الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّ الْقَطْعَ كان قبل
جِنَايَتِهِ وَأَنَّ الْأَرْشَ سَالِمٌ له وَادَّعَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ
كان بَعْدَهَا وَأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الدَّفْعِ مع الْعَبْدِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْأَرْشَ مِلْكُ الْمَوْلَى كَالْعَبْدِ
لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي عليه وُجُوبَ
تَمْلِيكِ مَالٍ هو مِلْكُهُ منه وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مع
يَمِينِهِ
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ عَبْدٍ أو فُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ
ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَإِنْ شَاءَ
دَفَعَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ نَاقِصًا وسلم له ما كان أَخَذَ من الْأَرْشِ لِأَنَّ
وُجُوبَ الدَّفْعِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وهو كان عِنْدَ الْجِنَايَةِ نَاقِصًا
بِخِلَافِ ما إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ مع
أَرْشِ الْيَدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عليه كان وَاجِبَ الدَّفْعِ
بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ مع
الْعَبْدِ
وَلَوْ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا آخَرَ
وخطأ ( ( ( خطأ ) ) ) فَأَرْشُ يَدِهِ يُسَلَّمُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى
لِأَنَّ حَقَّهُ كان مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ
وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَيَسْلَمُ له
فَأَمَّا حَقُّ الثَّانِي فلم يَتَعَلَّقْ بِالْجُزْءِ لِانْعِدَامِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ
ثُمَّ يُدْفَعُ الْعَبْدُ فَيَكُونُ بين وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ على تِسْعَةٍ
وَثَمَانِينَ جزأ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كانت قِيمَةُ
الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقُولُ حَقُّ وَلِيِّ كل جِنَايَةٍ في عَشَرَةِ
آلَافٍ وقد اسْتَوْفَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى من حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ
فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ
سَهْمًا حَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في عِشْرِينَ وقد أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ
الْأُولَى من حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ أو بَقِيَ حَقُّهُ في تِسْعَةِ عَشَرَ سَهْمًا
ولم يَأْخُذْ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ شيئا فَبَقِيَ حَقُّهُ في
عِشْرِينَ جزأ من الْعَبْدِ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن كل وَاحِدٍ من
الْجِنَايَتَيْنِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّ ذلك أَرْشُهَا
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ
وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن كل وَاحِدَةٍ من
الْجِنَايَتَيْنِ بِأَرْشِهَا وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ مَقْسُومًا ما
بَيْنَهُمَا على أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْمُوضِحَةِ
وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَبْدِ
بَيْنَهُمَا على قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ وَصَاحِبُ
الْمُوضِحَةِ حَقُّهُ في خَمْسِمِائَةٍ وَحَقُّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ في عَشَرَةِ
آلَافٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ على أَحَدٍ
وَعِشْرِينَ وما حَدَثَ من زِيَادَةِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ وَالزِّيَادَةُ على
الشَّرِكَةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا صِفَةُ الْأَصْلِ وإذا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ في
الْأَصْلِ ثَبَتَتْ في الصِّفَةِ
وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَانِ
ثُمَّ عَمِّي بَعْدَ الْقَتْلِ قبل الشَّجَّةِ ثُمَّ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً
كانت الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا على أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وما حَدَثَ فيه من
النُّقْصَانِ فَهُوَ على الشَّرِكَةِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تعالى
أَعْلَمُ
وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً فَفَدَاهُ الْمَوْلَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى
خُيِّرَ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ
طَهَّرَ الْعَبْدَ عن الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَجْنِ فإذا جَنَى بَعْدَ
ذلك فَهَذِهِ جِنَايَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا وهو الدَّفْعُ أو
الْفِدَاءُ بِخِلَافِ ما إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى قبل اخْتِيَارِ
الْفِدَاءِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا جميعا أو يَفْدِي لِأَنَّهُ لَمَّا لم
يَفْدِ لِلْأُولَى حتى جَنَى ثَانِيًا فَحَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ
بِالْعَبْدِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا أو يَفْدِي
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى
أحدههما ( ( ( أحدهما ) ) ) فَقَتَلَ عَبْدُهُ رَجُلًا آخَرَ ثُمَّ حَضَرُوا
يُقَالُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
الثَّانِي أو نِصْفَ الدِّيَةِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ
على الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَوَلِيِّ
الْجِنَايَةِ الْأُولَى الذي لم يُدْفَعْ إلَيْهِ
أَمَّا وُجُوبُ دَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ على الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إلَى وَلِيِّ
الْقَتِيلِ الثَّانِيَ أو الْفِدَاءِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الْعَبْدِ
بِالدَّفْعِ فَيُخَيَّرُ في جِنَايَتِهِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ
وَأَمَّا وُجُوبُ رَدِّ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ أَخَذَهُ
بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على
الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى في النِّصْفِ بين
الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ لِأَنَّ وَقْتَ
الْجِنَايَةِ الْأُولَى كان كُلُّ الْعَبْدِ على مِلْكِهِ وَوَقْتَ وُجُودِ
الثَّانِيَةِ كان نِصْفُهُ على مِلْكِهِ فَيُوجَبُ الدَّفْعُ أو الْفِدَاءُ
____________________
(7/261)
فَإِنْ
اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَإِنْ
دَفَعَ دَفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الدَّفْعَ على
قَدْرِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ وَحَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِنِصْفٍ
فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وقد كان وَصَلَ النِّصْفُ إلَى
وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ من جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَوَصَلَ
إلَيْهِ بِالدَّفْعِ من الْمَوْلَى الرُّبْعُ فَسَلِمَ له ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ
الْعَبْدِ وَسَلِمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الذي لم يُدْفَعْ إلَيْهِ
الْعَبْدُ الرُّبْعُ فَصَارَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ
الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ الرُّبْعُ ثُمَّ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ كان الْمَوْلَى دَفَعَ كُلَّ الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو
بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا يَضْمَنُ
الْمَوْلَى لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كان بِقَضَاءٍ كان هو مُضْطَرًّا في الدَّفْعِ
فَلَا يَضْمَنُ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا
يَصْنَعُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ وَيُضَمَّنُ الْقَابِضُ لِأَنَّهُ
قَبَضَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْقَبْضُ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ وَلَا يَخْرُجُ عن الضَّمَانِ بِالرَّدِّ
إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لم يَرُدَّهُ على الْوَجْهِ الذي قَبَضَ الْعَبْدَ
فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا
وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الذي لم
يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ رُبْعَ
قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ لِيَسْلَمَ له نِصْفُ
الْعَبْدِ
رُبْعُهُ لَحْمٌ وَدَمٌ وَرُبْعُهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ لِأَنَّهُ وُجِدَ
سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الدَّفْعُ من الْمَوْلَى
وَالْقَبْضُ من الْقَابِضِ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى
يَرْجِعُ على الْقَابِضِ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقَابِضِ لَا يَرْجِعُ على
الْمَوْلَى لِأَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ عليه
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلَيْنِ خَطَأً فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِ
وَلِيَّيْ الْقَتِيلَيْنِ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ وَاجْتَمَعُوا فإن
الْقَابِضَ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أو يَفْدِي نِصْفَ
الْجِنَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْ النِّصْفَ الْبَاقِي إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ
الثَّالِثَةِ أو أفد بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ لِأَنَّهُ قد وَصَلَ
إلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَبَقِيَ حَقُّهُ في النِّصْفِ وَيَفْدِي لِوَلِيِّ
الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِكَمَالِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ لِأَنَّهُ لم
يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ من حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ
إلَيْهِمَا فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِمَا كان مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على قَدْرِ
حَقَّيْهِمَا فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فيه بِعَشَرَةِ آلَافٍ
وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَيَصِيرُ نِصْفُ
الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ
وَثُلُثَهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ وَبَقِيَ من حَقِّ الثَّانِي
السُّدْسُ لِأَنَّ حَقَّهُ في نِصْفِ الْعَبْدِ وقد حَصَلَ له ثُلُثَا النِّصْفِ
وهو ثُلُثُ كل الْعَبْدِ فَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ السُّدُسُ فَإِنْ كان
الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ضَمَّنَ الْقَابِضُ الْمَوْلَى وَإِنْ كان بِغَيْرِ
قَضَاءٍ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْقَابِضُ كما في
الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ إنْسَانًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَدَفَعَ الْمَوْلَى
الْعَبْدَ إلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فَقَتَلَ في يَدِهِ قَتِيلًا يُقَالُ
لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أدفع ثُلُثَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
الثَّانِي أو افْدِهِ بِالثُّلُثِ وَرُدَّ الثُّلُثَيْنِ على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ
أَخَذَ الثُّلُثَ بِحَقِّ مِلْكِهِ وَأَخَذَ الثُّلُثَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ
فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى ثُمَّ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ
وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِلْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ
عَشَرَةِ آلَافٍ وَلِلثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ
وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ إلَيْهِمَا
مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على قَدْرِ حَقِّهِمَا فَيَتَضَارَبَانِ يَضْرِبُ
الْأَوَّلُ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ وَالثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ
سِتَّةِ آلَافٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَاجْعَلْ كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا
وَسِتَّمِائَةٍ فَيَصِيرُ ثُلُثَا الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا على سِتَّةِ عَشَرَ
سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ على خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا
وقد أَخَذَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي منه ثُلُثَهُ وهو ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ
وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ
عَشَرَةٌ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ ثُمَّ وَلِيُّ
الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ على الْقَابِضِ وهو الْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ
بِسِتَّةِ أَجْزَاءٍ من سِتَّةَ عَشَرَ جزأ وَثُلُثَيْ جُزْءٍ من ثُلُثَيْ
قِيمَتِهِ لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ لكان حَقَّهُ وقد فَاتَ عليه بِسَبَبٍ كان في
يَدِ الْقَابِضِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ فَيَضْمَنُهُ لِوَلِيِّ
الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ
فَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا
شَاءَ كما في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى في الْحِسَابِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ
إلَيْهِمَا وَضَرَبَ أَحَدَهُمَا بِالدِّيَةِ وَالْآخَرَ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ
يُجْعَلُ كُلُّ ثُلُثٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ كُلُّ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ
وَثُلُثَا الدِّيَةِ سَهْمَيْنِ فَيَصِيرُ ثُلُثَا الْعَبْدِ على خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ وَيَصِيرُ الثُّلُثُ
الْآخَرُ سَهْمَيْنِ وَنِصْفَ فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْعَبْدِ على سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ
فَوَقَعَ فيه كَسْرٌ فَيُضَعَّفُ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالثُّلُثُ منه
خَمْسَةٌ وقد دُفِعَ إلَى الْآخَرِ وَثُلُثَا الْعَبْدِ عَشَرَةٌ فَيُقَسَّمُ
بَيْنَهُمَا فَيُضْرَبُ الْأَوَّلُ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وهو سِتَّةُ أَسْهُمٍ
وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ
____________________
(7/262)
يَرْجِعُ
الْأَوَّلُ على الْقَابِضِ بِخُمُسِ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قَتَلَتْ أَمَةٌ رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا فَقَتَلَتْ الْبِنْتُ
رَجُلًا ثُمَّ إنَّ الْبِنْتَ قَتَلَتْ أُمَّهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بين
دَفْعِ الْبِنْتِ إلَى ولي ( ( ( وليي ) ) ) الْجِنَايَتَيْنِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ
فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ
وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا
تَقَدَّمَ أن تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عليه وهو حَقُّ الدَّفْعِ أُلْحِقَ
الْمَوْلَى بِالْأَجْنَبِيِّ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا جَنَتْ على جَارِيَةٍ أُخْرَى
لِأَجْنَبِيٍّ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ
بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُقْسَمُ
الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ على ذلك حتى لو كانت قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كانت
الْقِسْمَةُ على إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا كُلُّ أَلْفِ دِرْهَمٍ سَهْمٌ سَهْمٌ من
ذلك لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ
الْبِنْتِ
وَلَوْ كانت الْبِنْتُ فَقَأَتْ عَيْنَ الْأُمِّ ولم تَقْتُلْهَا فَالْمَوْلَى
يُخَيَّرُ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَخْتَارَ
دَفْعَهُمَا جميعا وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَهُمَا جميعا وَإِمَّا أَنْ
يَخْتَارَ فِدَاءَ الْبِنْتِ وَدَفْعَ الْأُمِّ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ
الْأُمِّ وَدَفْعَ الْبِنْتِ فَإِنْ اخْتَارَ دَفَعَهُمَا جميعا يَدْفَعُ الْأُمَّ
إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَيَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى
أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ وَإِلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ وَكَانَتْ مَقْسُومَةً
بَيْنَهُمْ على قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فيها يَضْرِبُ أَوْلِيَاءُ
قَتِيلِ الْبِنْتِ فيها بِالدِّيَةِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ
الْبِنْتِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا
فَقَأَتْ إحْدَى عَيْنَيْهَا وَالْعَيْنُ من الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَإِنْ اخْتَارَ
فداهما ( ( ( فداءهما ) ) ) جميعا فَدَى لكل ( ( ( الكل ) ) ) فَرِيقٌ من
أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِأَنَّ ذلك أَرْشُ كل وَاحِدٍ
من الْجِنَايَتَيْنِ وَسَقَطَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ على الْأُمِّ لِأَنَّهُمَا
جميعا مِلْكُ الْمَوْلَى وقد طَهُرَتَا عن الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ وَخَلَصَ
مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهِمَا فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهِمَا جِنَايَةُ
مِلْكِ الْمَوْلَى على مِلْكِهِ فَتَكُونُ هَدْرًا
وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْأُمِّ وَفِدَاءَ الْبِنْتِ دَفَعَ الْأُمَّ إلَى
أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ ثُمَّ يَفْدِيَ الْبِنْتَ يَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ
قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ
الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْبِنْتِ وَفِدَاءَ الْأُمِّ يَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى
أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ وَيَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ
بِكَمَالِ الدِّيَةِ وَبَطَلَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ على الْأُمِّ لِأَنَّ
الْأُمَّ طَهُرَتْ بِالْفِدَاءِ وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فيها فَصَارَ
جِنَايَةُ الْبِنْتِ على أُمِّهَا جِنَايَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى على مِلْكِهِ
فَتَكُونُ هَدْرًا
وَلَوْ أَنَّ الْأُمَّ بَعْدَ ذلك فَقَأَتْ عَيْنَ الْبِنْتِ قبل أَنْ تُدْفَعَ
وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فإن الْمَوْلَى يُخَيَّرُ فِيهِمَا جميعا فَيَبْدَأُ بِالْبِنْتِ
لِأَنَّهَا هِيَ التي بَدَأَتْ بِالْجِنَايَةِ فَيَدْفَعُ إلَى أَوْلِيَاءِ
الْجِنَايَتَيْنِ فَيَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ
الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ
لِمَا بَيَّنَّا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَيْهِمْ
فَيَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِالدِّيَةِ
إلَّا ما وَصَلَ إلَيْهِمْ من أَرْشِ الْبِنْتِ وَيَضْرِبُ فيها أَوْلِيَاءُ
قَتِيلِ الْبِنْتِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنْتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
جَنَتْ جِنَايَتَيْنِ فَتُدْفَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِجِنَايَتِهَا
طُعِنَ في هذا الْجَوَابِ وَقِيلَ يَنْبَغِي إذَا دَفَعَ الْبِنْتَ في
الِابْتِدَاءِ أَنْ يَضْرِبَ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ
الْأُمِّ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ إلَّا ما يَصِلُ إلَيْهِمْ
في الْمُسْتَأْنَفِ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ بَعْضُ الْأُمِّ فَيَنْبَغِي أَنْ
لَا يَضْرِبُوا بِتَمَامِ الدِّيَةِ وَالصَّحِيحُ ما ذُكِرَ في الْكِتَابِ لِأَنَّ
الْبِنْتَ حين دُفِعَتْ كان حَقُّ أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ في تَمَامِ
الدِّيَةِ ولم يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَضْرِبُوا بِجَمِيعِ
ذلك وَالزِّيَادَةُ التي تَظْهَرُ لهم في الْمُسْتَأْنَفِ لَا عِبْرَةَ بها
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قد صَحَّتْ وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذلك
كما قالوا في رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ وَلِآخَرَ أَلْفَانِ
وَتَرَك أَلْفًا فَاقْتَسَمَاهَا أَثْلَاثًا ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ
أَبْرَأَ الْمَيِّتَ عن أَلْفٍ أن الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَا تُنْتَقَضُ كَذَا هذا
وَلَوْ جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَطَعَ وَلَدُهَا
يَدَهَا يَدْفَعُ الْوَلَدَ مع الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ في
حُكْمِ الْجِنَايَةِ على الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ كأنه ( ( (
كأن ) ) ) عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَطَعَ يَدَهَا وَدُفِعَ بِالْجِنَايَةِ وَهُنَاكَ
يُدْفَعُ الْعَبْدُ مع الْجَارِيَةِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَام يَدِ الْجَارِيَةِ
كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَبَيَانُ صِحَّةِ
الِاخْتِيَارِ فَنَقُولُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ
نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ الصَّرِيحُ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ
نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اخْتَرْتُ الْفِدَاءَ أو آثَرْتُهُ أو رَضِيتُ بِهِ وَنَحْوَ
ذلك سَوَاءٌ كان الْمَوْلَى مُوسِرًا أو مُعْسِرًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه فَيَسَارُ الْمَوْلَى ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ عِنْدَهُ
حتى لو اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فَقِيرٌ مُعْسِرٌ صَحَّ
اخْتِيَارُهُ وَصَارَتْ الدِّيَةُ دَيْنًا عليه
وَعِنْدَهُمَا يَسَارُ الْمَوْلَى شَرْطُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ وَلَا
يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ إذَا كان مُعْسِرًا إلَّا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ وَيُقَالُ
له إمَّا أَنْ تَدْفَعَ أو تَفْدِيَ حَالًا كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ
____________________
(7/263)
في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في جَوَازِ
الِاخْتِيَارِ وقال إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الدِّيَةُ تَكُونُ في عَيْنِ
الْعَبْدِ لِوَلِيِّ الجارية ( ( ( الجناية ) ) ) يَبِيعُهُ فيها الْمَوْلَى
لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَهَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هو
لُزُومُ الدَّفْعِ وَعِنْدَ الِاخْتِيَارِ يَنْتَقِلُ إلَى الذِّمَّةِ
فَيَتَقَيَّدُ الِاخْتِيَارُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا سَلَامَةَ مع
الْإِعْسَارِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهَا فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَاجِبُ الدَّفْعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ ما قَالَا وهو وُجُوبُ
الدَّفْعِ لَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ له الْفِدَاءَ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ
وَالْإِعْسَارُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ في
الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وقد وُجِدَ الِاخْتِيَارُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ
السَّلَامَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمَوْلَى في الْعَبْدِ
تَصَرُّفًا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أو يَدُلُّ على إمْسَاكِ الْعَبْدِ مع الْعِلْمِ
بِالْجِنَايَةِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أو يَدُلُّ على إمْسَاكِ
الْعَبْدِ مع الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ اختيار ( ( ( اختيارا ) ) )
لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عليه مُتَعَلِّقٌ بِالْعَبْدِ وهو حَقُّ
الدَّفْعِ وفي تَفْوِيتِ الدَّفْعِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْمَوْلَى لَا يَرْضَى بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ مع الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا بِمَا
يَقُومُ مَقَامَهُ وهو الْفِدَاءُ فَكَانَ إقْدَامُهُ عليه اخْتِيَارًا
لِلْفِدَاءِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ بَيْعًا
بَاتًّا وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُزِيلٌ
لِلْمِلْكِ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ
وَكَذَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلَا يَشْكُلُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ دخل في مِلْكِ
الْمُشْتَرِي وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي
إنْ كان يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ في مِلْكِهِ فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَهُ عن
مِلْكِ الْبَائِعِ وَهَذَا يَكْفِي دَلَالَةَ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ يَفُوتُ
الدَّفْعُ
وَلَوْ بَاعَ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ قبل
مُضِيِّ الْمُدَّةِ كان مُخْتَارًا لِأَنَّ الْبَيْعَ انْبَرَمَ قبل الدَّفْعِ
وَلَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ لم يَكُنْ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْمِلْكَ لم يَزُلْ فلم
يَفُتْ الدَّفْعُ وَلَوْ عَرَضَ الْعَبْدَ على الْبَيْعِ لم يَكُنْ ذلك
اخْتِيَارًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَرْضَ على الْبَيْعِ دَلِيلُ اسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا عَرَضَ المشتري على
الْبَيْعِ بَطَلَ اخْتِيَارُهُ فَكَانَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ
وَذَلِكَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَنَا أَنَّ الْعَرْضَ على الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَا
يَفُوتُ الدَّفْعُ وَلَيْسَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ أَيْضًا بَلْ هو دَلِيلُ
الْإِخْرَاجِ من الْمِلْكِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءَ
وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لم يَكُنْ مُخْتَارًا حتى يُسَلِّمَهُ إلَى
الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ قبل التَّسْلِيمِ فَلَا يَفُوتُ
الدَّفْعُ
وَلَوْ وَهَبَهُ من إنْسَانٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ
الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ يُزِيلَانِ الْمِلْكَ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ وَلَوْ كانت
الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَهَبَهُ الْمَوْلَى من الْمَجْنِيِّ عليه
لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا وَلَا شَيْء على الْمَوْلَى وَلَوْ بَاعَهُ من
الْمَجْنِيِّ عليه كان مُخْتَارًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْهِبَةِ في مَعْنَى
الدَّفْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَوَقَعَتْ
الْهِبَةُ مَوْقِعَ الدَّفْعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ
وَالدَّفْعُ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ الْإِقْدَامُ
على الْبَيْعِ منه اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ وَكَذَلِكَ لو تَصَدَّقَ بِهِ على
إنْسَانٍ أو على الْمَجْنِيّ عليه فَهُوَ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا وهو عَالَمٌ
بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ تُفَوِّتُ الدَّفْعَ
إذْ الدَّفْعُ تَمْلِيكٌ وَإِنَّهَا تَمْنَعُ من التَّمْلِيكِ فَكَانَتْ
اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ
وَلَوْ كانت جِنَايَةُ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَرَ الْمَوْلَى
الْمَجْنِيَّ عليه بِإِعْتَاقِهِ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ الْمَوْلَى
مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِأَمْرِهِ مُضَافٌ إلَيْهِ فَكَانَ
دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ كما لو أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ إنْ قَتَلْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَتَلَهُ صَارَ
مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُعْتَقًا بِالْقَوْلِ السَّابِقِ وهو
قَوْلُهُ أنت حُرٌّ وَلَا جِنَايَةَ عِنْدَ ذلك وَبَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ لَا
إعْتَاقَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُخْتَارًا
وَلَنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ مُنَجَّزًا عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ بِتَنْجِيزٍ مُبْتَدَأٍ كَأَنَّهُ قال له بَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ
أنت حُرٌّ
وَنَظِيرُهُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ وهو صَحِيحٌ إذَا مَرِضْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا فَمَرِضَ حتى وَقَعَ الطَّلَاقُ عليها يَصِيرُ فَارًّا عن الْمِيرَاثِ
حتى تَرِثَهُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كان التَّعْلِيقُ في حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمَا
قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ أَخْبَرَ الْمَوْلَى إنْسَانٌ أَنَّ عَبْدَهُ قد جَنَى فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ
صَدَّقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ
كَذَّبَهُ فَأَعْتَقَهُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ ما لم يَكُنْ الْمُخْبِرَ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ
____________________
(7/264)
وَاحِدٌ
عَدْلٌ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ
في الْمُخْبِرِ وَلَا عَدَالَتُهُ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ
وَلَوْ كَاتَبَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا اخْتِيَارًا على
التَّوَقُّفِ لِفَوَاتِ الدَّفْعِ في الْحَالِ على التَّوَقُّفِ فَإِنْ أَدَّى
بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ تَقَرَّرَ الِاخْتِيَارُ وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ في
الرِّقِّ يُنْظَرُ في ذلك إنْ خُوصِمَ قبل أَنْ يَعْجِزَ فَقَضَى بِالدِّيَةِ
ثُمَّ عَجَزَ لَا يَرْتَفِعُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الدِّيَةَ كانت وَجَبَتْ
بِالْكِتَابَةِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ
الْقَضَاءِ بِهِ وَإِنْ لم يُخَاصَمْ حتى عَجَزَ كان لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ
لِأَنَّ الدَّفْعَ كان لم يَثْبُتْ على الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ لِاحْتِمَالِ أَنْ
يَعْجِزَ فَإِنْ عَجَزَ جُعِلَ كَأَنَّ الْكِتَابَةَ لم تَكُنْ فَكَانَ له أَنْ
يَدْفَعَهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ
لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بِنَفْسِهَا لِزَوَالِ يَدِهِ عنه ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ
بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وهو الْعَجْزُ وَلَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً كان ذلك
اخْتِيَارًا منه بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا
بِدُونِ التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ وَهِيَ تَعَلُّقُ
الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا
يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ بِأَنْ زَوَّجَ الْعَبْدَ
الْجَانِيَ امْرَأَةً أو زَوَّجَ الْأَمَةَ الْجَانِيَةَ إنْسَانًا فَهَلْ يَكُونُ
اخْتِيَارًا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا
لِأَنَّ الدَّفْعَ لم يَفُتْ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فَكَانَ الدَّفْعُ
مُمْكِنًا في الْجُمْلَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِأَنَّ
الدَّفْعَ لِلْحَالِ مُتَعَذِّرٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ
وَالتَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ فَأَشْبَهَ التَّعْيِيبَ حَقِيقَةً وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ
لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ لِأَنَّ الْمُقِرَّ
مُخَاطَبٌ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَكُونُ
مُخْتَارًا لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ لِغَيْرِهِ في مَعْنَى التَّمْلِيكِ منه
إذْ الْعَبْدُ مِلْكُهُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلِكِ وهو
الْيَدُ فإذا اقر بِهِ لِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ مَلَكَهُ منه
وَلَوْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ
بِالْقَتْلِ وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَإِنْ كان عَمْدًا بَطَلَتْ
الْجِنَايَةُ وللمولي أَنْ يَقْتُلَهُ قِصَاصًا لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّ الدَّفْعِ
لَا إلَى خَلَفٍ هو مَالٌ فَتَبْطُلَ الْجِنَايَةُ وَإِنْ كان خَطَأً يَأْخُذُ
الْمَوْلَى الْقِيمَةَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَا يُخَيَّرُ
الْمَوْلَى في الْقِيمَةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ لم يَقْتُلْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنْ عَيَّبَهُ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ أو
فَقَأَ عَيْنَهُ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً أو ضَرَبَهُ ضَرْبًا أَثَّرَ فيه
وَنَقَّصَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ
بِالنُّقْصَانِ حَبَسَ عن الْمَجْنِيِّ عليه جزأ من الْعَبْدِ وَحَبْسُ الْكُلِّ
دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ
فَكَذَا حَبْسُ الْجُزْءِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى عَيْنَهُ فَابْيَضَّتْ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ حتى
جُعِلَ مُخْتَارًا ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ فَإِنْ ذَهَبَ قبل أَنْ يُخَاصَمَ فيه
بَطُلَ الِاخْتِيَارُ وَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ إنَّمَا
جُعِلَ مُخْتَارًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ وقد زَالَ فَجُعِلَ كَأَنَّ ذلك لم
يَكُنْ وَإِنْ خُوصِمَ في حَالِ الْبَيَاضِ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي الْقِيمَةَ
ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ فَقَضَاءُ الْقَاضِيَ نَافِذٌ لَا يُرَدُّ وَلَا يَبْطُلُ
اخْتِيَارُهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ وَقَعَ صَحِيحًا وَوَجَبَ الدَّيْنُ وقد
اسْتَقَرَّ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِنْ اسْتَخْدَمَهُ وهو عَالَمٌ
بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ
الدَّفْعُ بِالِاسْتِخْدَامِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَكَذَا الِاسْتِخْدَامُ لَا
يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَلَا
يَكُونُ دَلِيلًا على إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ عَطِبَ في الْخِدْمَةِ
فَلَا ضَمَانَ عليه وَبَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الاسخدام ( ( ( الاستخدام
) ) ) ليس بِاخْتِيَارٍ لِمَا بَيَّنَّا ولم يُوجَدْ منه تَصَرُّفٌ آخَرُ يَدُلُّ
على الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطِبَ قبل الِاسْتِخْدَامِ
وَلَوْ كان الْجَانِي أَمَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى فَإِنْ كانت بِكْرًا فَقَدْ
صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ فَوَّتَ جزأ منها حَقِيقَةً بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ
وَهِيَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا فَإِنْ عَلِقَتْ منه صَارَ
مُخْتَارًا وَإِنْ لم تَعْلَقْ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ عَلِقَتْ منه أو لم
تَعْلَقْ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا بُدَّ له من الْمِلْكِ إمَّا
مِلْكُ النِّكَاحِ أو مِلْكُ الْيَمِينِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا مِلْكُ النِّكَاحِ
فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِثُبُوتِ الحال ( ( ( الحل ) ) ) فَكَانَ
إقْدَامُهُ على الْوَطْءِ دَلِيلًا على إمْسَاكِهَا لِنَفْسِهِ فَكَانَ دَلِيلَ
الِاخْتِيَارِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَطْءَ ليس إلَّا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ
الْبُضْعِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ حَقِيقَةً لِأَنَّ
مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَا جزأ من الْعَيْنِ حَقِيقَةً إلَّا أنها أُلْحِقَتْ
بِالْأَجْزَاءِ وَقُدِّرَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ في غَيْرِ الْمِلْكِ
إظْهَارًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِيفَاءُ هَهُنَا حَصَلَ في الْمِلْكِ فَلَا
حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ فَانْعَدَمَ النُّقْصَانُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا
وَلَوْ أَذِنَ له في التِّجَارَةِ فَرَكِبَهُ دَيْنٌ لم يَصِرْ الْمَوْلَى
مُخْتَارًا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
أَمَّا عَدَمُ صَيْرُورَتِهِ مُخْتَارًا فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُوجِبُ
تَعَذُّرَ الدَّفْعِ لَا قبل لُحُوقِ الدَّيْنِ وَلَا بَعْدَهُ
وَأَمَّا لُزُومُ
____________________
(7/265)
الْقِيمَةِ
فَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فيه
بِسَبَبٍ كان من جِهَةِ الْمَوْلَى وهو الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَتَلْزَمُهُ
قِيمَتُهُ حين لو رضي وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بِقَبُولِهِ مع النُّقْصَانِ لَا
شَيْءَ على الْمَوْلَى ثُمَّ جَمِيعُ ما يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ
مِمَّا ذَكَرْنَا إذَا فَعَلَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ
فَإِنْ كان لم يَعْلَمْ لم يَكُنْ مُخْتَارًا سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ على
النَّفْسِ أو على ما دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هَهُنَا اخْتِيَارُ
الْإِيثَارِ وَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا يَخْتَارُهُ وهو
الْفِدَاءُ عن الْجِنَايَةِ وَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عن الْجِنَايَةِ اخْتِيَارُ
الْإِيثَارَ وَاخْتِيَارُ الْإِيثَارِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ مُحَالٌ
ثُمَّ الْجِنَايَةُ إنْ كانت على النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَةِ
الْعَبْدِ وَمِنْ الدِّيَةِ وَإِنْ كانت على ما دُونَ النَّفْسِ فَعَلَيْهِ
الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ
الْمُسْتَحَقَّ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ
وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا وهو لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فلم يُخَاصَمْ
فيها حتى رُدَّ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ
أو شَرْطٍ يُقَالُ له ادْفَعْ أو افْدِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ
لم يَصِرْ مُخْتَارًا لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كان بَعْدَ الْعِلْمِ فَعَلَيْهِ
الْفِدَاءُ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ
مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ
فَلَا يَعُودُ بِالرَّدِّ وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَسَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى فيه إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ إنْسَانٍ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ فيه
فَاخْتَارَ الدَّفْعَ ثُمَّ مَاتَ من ذلك فَالدَّفْعُ على حَالِهِ لَا يَبْطُلُ
لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ لِأَنَّهُ
يَدْفَعُ في الْحَالَيْنِ جميعا وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ يَبْطُلُ
الِاخْتِيَارُ ثُمَّ يُخَيِّرُ ثَانِيًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ وَعَلَيْهِ
الدِّيَةُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَلَوْ كان اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ عَتَقَ الْعَبْدَ لِلْحَالِ
حتى صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عليه لَا يَبْطُلُ
الِاخْتِيَارُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ عن أَصْلِ
الْجِنَايَةِ فَقَدْ صَحَّ اخْتِيَارُهُ وَلَزِمَهُ مُوجَبُهَا وَبِالسِّرَايَةِ
لم يَتَغَيَّرْ أَصْلُ الْجِنَايَةِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ وَصْفُهَا وَالْوَصْفُ
تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عن الْمَتْبُوعِ اخْتِيَارًا عن
التَّابِعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءَ عن الْقَطْعِ لَمَا سَرَى
إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَقَدْ صَارَ قَتْلًا وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَاخْتِيَارُ
الْفِدَاءِ عن أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا عن الْآخَرِ فَيُخَيَّرُ
اخْتِيَارًا مُسْتَقْبَلًا بِخِلَافِ ما إذَا كان الِاخْتِيَارُ بِالْإِعْتَاقِ
لِأَنَّ إقْدَامَهُ على الْإِعْتَاقِ مع عِلْمِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا يَسْرِي إلَى النَّفْسِ
فَيَلْزَمُهُ كُلُّ الدِّيَةِ ولايمكنه الدَّفْعُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ دَلَالَةُ
اخْتِيَارِ الْكُلِّ وَالرِّضَا بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا
لِأَنَّهُ لم يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ على ما كان ثَابِتًا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ
وَالْعَبْدُ لِلْحَالِ مَحَلٌّ لِلدَّفْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ أنها تَجِبُ
في مَالِهِ حَالًا لَا مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ
الْجِنَايَةِ هو وُجُوبُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءُ كَالْخَلَفِ عنه فَيَكُونُ على
نَعْتِ الْأَصْلِ ثُمَّ الدَّفْعُ يَجِبُ حَالًا في مَالِهِ لَا مُؤَجَّلًا
فَكَذَلِكَ الْفِدَاءُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا كان الْعَبْدُ الْقَاتِلُ قِنًّا فَإِنْ كان مُدَبَّرًا فَجِنَايَتُهُ
على مَوْلَاهُ إذَا ظَهَرَتْ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ ما
تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ وفي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ وَمَنْ عليه وفي بَيَانِ
مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَجِنَايَتَهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ
وقد ذَكَرْنَاهُ وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ حتى لَا يَلْزَمَ الْمَوْلَى شَيْءٌ
وَلَا يَتْبَعُ الْمُدَبَّرَ بَعْدَ الْعَتَاقِ كَجِنَايَةِ الْقِنِّ لِأَنَّ هذا
إقْرَارٌ على الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ
وَأَمَّا بَيَانُ أَصْلِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَأَصْلُ الْوَاجِبِ
بها قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ على الْمَوْلَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَضَيَا بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ على مَوْلَاهُ
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ
منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُقَابَلَةِ
الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في جِنَايَةِ الْعَبْدِ هو وُجُوبُ الدَّفْعِ
على الْمَوْلَى وَبِالتَّدْبِيرِ مَنْعٌ من الدَّفْعِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ
الْفِدَاءِ وَالْمَنْعُ من الدَّفْعِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يُوجِبُ
الْقِيمَةَ على الْمَوْلَى كما لو دَبَّرَ الْقِنَّ وهو لَا يَعْلَمُ الْجِنَايَةَ
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ
الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنْ كانت هِيَ
الْأَقَلُّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ كانت
الْقِيمَةُ أَقَلَّ فلم يُمْنَعْ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ إلَّا الرَّقَبَةَ
فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلُّ من الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ قِيمَتِهِ لِمَا
قلنا وَلَا يُخَيَّرُ بين قِيمَتِهِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بين
الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عن قَضِيَّةِ الْحِكْمَةِ وَإِنْ كانت
قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدِّيَةِ أو مِثْلَ
____________________
(7/266)
الدِّيَةِ
فَعَلَيْهِ قَدْرُ الدِّيَةِ وَيُنْقَصُ منها عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ قِيمَةَ
الْعَبْدِ في الْجِنَايَةِ لَا تُزَادُ على دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ يُنْقَصُ منها
عَشَرَةٌ وَسَوَاءٌ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أو كَثُرَتْ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى من
جِنَايَاتِهِ أَكْثَرُ من قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو
الْمَنْعُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ
قِيمَةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ في جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِمَنْزِلَةِ
الْعَيْنِ في جِنَايَةِ الْقِنِّ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أو كَثُرَتْ وَلَا يَجِبُ
شَيْءٌ آخَرُ مع الدَّفْعِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَتُقَسَّمُ قِيمَتُهُ بين
أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ على قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ يَسْتَوِي فيها الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في دَفْعِ الْعَيْنِ هَكَذَا فَكَذَلِكَ قِيمَةُ
الْمُدَبَّرِ وَسَوَاءٌ قَبَضَ ما على الْمَوْلَى أو لم يَقْبِضْ يَشْتَرِكُونَ
فيه فَيَتَضَارَبُونَ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم يوم الْجِنَايَةِ عليه لَا يوم التَّدْبِيرِ
وَإِنْ كان سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هو الْمَنْعُ وهو التَّدْبِيرُ السَّابِقُ
لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ ذلك سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْجِنَايَةُ
فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ
الْجِنَايَةِ لم تَبْطُلْ على الْمَوْلَى الْقِيمَةَ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ
يَلْزَمُ مَوْلَاهُ فَيَسْتَوِي فيه بَقَاءُ الْمُدَبَّرِ وَهَلَاكُهُ بِخِلَافِ
الْقِنِّ إذَا جَنَى ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ أَصْلًا
لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَبِالْمَوْتِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ
الدَّفْعِ
وَلَوْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ بِأَنْ جَنَى وَقِيمَتُهُ
أَلْفٌ ثُمَّ عَمِيَ لم يُحَطُّ عن الْمَوْلَى شَيْءٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تَامَّةٌ
لِأَنَّ نُقْصَانَهُ هَلَاكُ جُزْءٍ منه ثُمَّ هَلَاكُ كُلِّهِ لَا يُسْقِطُ عنه
شيئا فَكَذَا هَلَاكُ الْبَعْضِ
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إلَّا
قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ
الْمَوْلَى لم يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ
الضَّمَانِ هو الْمَنْعُ وَأَنَّهُ مُتَّحِدٌ فَكَانَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ
وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ دَفَعَ
الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ
كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا سَبِيل لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي على
الْمَوْلَى لِأَنَّهُ كان مَجْبُورًا على الدَّفْعِ وَالْمَجْبُورُ مَعْذُورٌ
وَلَهُ أَنْ يَتْبَعَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ
لِأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كانت الْجِنَايَتَانِ
مُخْتَلِفَتَيْنِ بأن كانت إحْدَاهُمَا نَفْسًا وَالْأُخْرَى ما دُونَ النَّفْسِ
فَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأَوَّلَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ من الْقِيمَةِ
وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَدٍّ في دَفْعِ الْعَبْدِ وَالْقَابِضَ
مُتَعَدٍّ في قَبْضِهِ فَإِنْ ضَمِنَ الْمَوْلَى فإنه يَرْجِعُ على الْقَابِضِ
وَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ على الْمَوْلَى
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَدَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ وَالْأَمْرُ فيه على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
وَعِنْدَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْلَى وَلَهُ
أَنْ يُضَمِّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ أو
بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُمَا فَرَّقَا بين الْفَصْلَيْنِ وأبو حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى هَهُنَا ليس بِمُتَعَدٍّ في حَقِّ
وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كانت
مُنْعَدِمَةً وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ وفي الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ كانت الْجِنَايَتَانِ مَوْجُودَتَيْنِ وَقْتَ الدَّفْعِ فَكَانَ
الدَّفْعُ منه إلَى الْأَوَّلِ تَعَدِّيًا فَيُضَمَّنُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ
الضَّمَانِ على الْمَوْلَى هو الْمَنْعُ وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ في حَقِّ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جميعا فَصَارَ كَأَنَّ الْجِنَايَاتِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ
وَقْتَ الدَّفْعِ فَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُتَعَدِّيًا في الدَّفْعِ فَكَانَ له
تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ ما إذَا كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي
صَيَّرَهُ مَجْبُورًا في الدَّفْعِ هذا إذَا كانت قِيمَتُهُ وَقْتَ
الْجِنَايَتَيْنِ على السَّوَاءِ فَأَمَّا إذَا كانت مُخْتَلِفَةً بِأَنْ قَتَلَ
رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ
ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَلْفًا آخَرَ
وَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ في الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا لم
تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ على الْأَوَّلِ فَيُسَلِّمُ الزِّيَادَةَ
إلَى الثَّانِي وَيُقَسِّمُ تِلْكَ الْقِيمَةَ وَهِيَ الْأَلْفُ بين أَوْلِيَاءِ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي يَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ الْأَوَّلُ فيها
بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالثَّانِيَ بِتِسْعَةِ آلَافٍ أنه قد وَصَلَ إلَيْهِ أَلْفٌ
من عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ تِلْكَ الْأَلْفِ على تِسْعَةَ عَشَرَ
سَهْمًا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِلثَّانِي وَلَوْ
كانت قِيمَتُهُ وَقْتَ قَتْلِ الْأَوَّلِ أَلْفَيْنِ وَوَقْتَ قَتْلِ الثَّانِي
أَلْفًا لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى شيئا وَالْأَلْفُ تَكُونُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ
الْأَوَّلِ سَالِمًا وَالْأَلْفُ لِلْآخَرِ تُقَسَّمُ بَيْنهمَا على تِسْعَةَ عَشَرَ
سَهْمًا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ
لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا
____________________
(7/267)
وَقِيمَتُهُ
أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ وَصَارَتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ
آخَرَ فَزِيَادَةُ الْخَمْسمِائَةِ سَالِمَةٌ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي لَا
حَقَّ فيها لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ مَوْجُودَةً
وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَالْأَلْفُ تَكُونُ بين وَلِيِّ الْقَتِيلَيْنِ
يَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِتَمَامِ
الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ وَالثَّانِي بِتِسْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ من عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ
الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا على تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ
خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا تِسْعَةُ عَشَرَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي
وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَهِيَ أنها تَجِبُ في مَالِ
الْمَوْلَى حَالًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْمَنْعِ من الدَّفْعِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ
الْفِدَاءِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ في مَالِ الْمَوْلَى حَالًا
كما لو دَبَّرَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ وهو لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ وَهَذَا
لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَنْعِ كَالْخَلَفِ عن ضَمَانِ الدَّفْعِ وَالدَّفْعُ يَجِبُ
من مَالِهِ حَالًا كَذَلِكَ هَهُنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ أُمَّ وَلَدٍ فَأُمُّ الْوَلَدِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا
وَالْمُدَبَّرُ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في جِنَايَتِهِمَا ضَمَانُ الْمَنْعِ
أَيْضًا إلَّا أَنَّ جِهَةَ الْمَنْعِ تَخْتَلِفُ فَالْمَنْعُ في أُمِّ الْوَلَدِ
بِالِاسْتِيلَادِ وفي الْمُدَبَّرِ بِالتَّدْبِيرِ لِذَلِكَ اسْتَوَيَا في حُكْمِ
الْجِنَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَقَتَلَ أَجْنَبِيًّا خَطَأً فَجِنَايَتُهُ على
نَفْسِهِ إذَا ظَهَرَتْ لَا على مَوْلَاهُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيمَا تَظْهَرُ
بِهِ جِنَايَتُهُ وفي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ وَمَنْ عليه وفي بَيَانِ
كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَجِنَايَتُهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ
وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَتَظْهَرُ أَيْضًا بِإِقْرَارِهِ
بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِمْ لِأَنَّ ذلك إقْرَارٌ على الْمَوْلَى فلم
يَصِحَّ أَصْلًا وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ على نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ
بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ
وَكَذَا يَجُوزُ صُلْحُهُ من الْجِنَايَةِ على مَالٍ لِأَنَّهُ صَالَحَ عن حَقٍّ
ثَابِتٍ له ظَاهِرًا وَلَوْ أَقَرَّ وَصَالَحَ ثُمَّ عَجَزَ فَحُكْمُهُ نَذْكُرهُ
بَعْدَ هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا أَصْلُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ وَمَنْ عليه الْوَاجِبُ فَالْوَاجِبُ هو
قِيمَةُ نَفْسِهِ عليه لَا على مَوْلَاهُ
لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ فَكَانَ مُوجَبُ
جِنَايَتِهِ عليه لَا على مَوْلَاهُ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ بِخِلَافِ
الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ حَصَلَ
بِشَيْءٍ من قِبَلِهِ وهو قَبُولُ الْكِتَابَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ عليه
بِخِلَافِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ إنَّ قِيمَتَهُ تَصِيرُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ على
طَرِيقِ الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ
وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَنَى ثُمَّ عَجَزَ عَقِيبَ
الْجِنَايَةِ بِلَا فَصْلٍ أَنَّهُ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو
الْفِدَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ
الْقَتِيلِ
وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى بِلَا
فَصْلٍ لَا يَجِبُ عليه إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عليه
قِيمَةٌ أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى
وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا جَنَى جِنَايَةً وَقَضَى الْقَاضِي عليه
بِالْقِيمَةِ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ تَجِبُ عليه قِيمَةٌ أُخْرَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ
الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِيمَةِ في الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ
الْقِيمَةُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ حَتْمًا من غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَالْجِنَايَةُ
الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ رَقَبَةً فَارِغَةً فَتُقْضَى بِقِيمَةٍ أُخْرَى وَأَمَّا
قبل الْقَضَاءِ فَالرَّقَبَةُ مَشْغُولَةٌ بِالْأُولَى وَالْمَشْغُولُ لَا
يُشْغَلُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقِيمَةِ على
الْمُكَاتَبِ هو امْتِنَاعُ الدَّفْعِ لِحَقٍّ ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ
الْكِتَابَةِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ إذَا كان لِحَقِّهِ كانت الْقِيمَةُ
عليه إذْ لَا خَرَاجَ مع الضَّمَانِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ
على قَضَاءِ الْقَاضِي
وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ في جِنَايَةِ الْعَبْدِ هو وُجُوبُ
الدَّفْعِ وَامْتِنَاعُهُ هَهُنَا لِعَارِضٍ لم يَقَعْ الْيَأْسُ عن زَوَالِهِ وهو
الْكِتَابَةُ لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ فَيُرَدُّ في
الرِّقِّ فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ من الْقِنِّ فَلَا يُمْكِنُ
قَطْعُ الْقَوْلِ بِصَيْرُورَةِ قِيمَتِهِ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ إلَّا من حَيْثُ
الظَّاهِرُ وَالْأَمْرُ في الْحَقِيقَةِ على التَّوَقُّفِ وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ
التَّوَقُّفُ بِإِحْدَى مَعَانٍ إمَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ إلَى وَلِيِّ
الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كان وَاجِبًا عليه فإذا أَدَّى فَقَدْ وَصَلَ الْحَقُّ
إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ منه أو بِالْعِتْقِ
إمَّا بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِمَّا بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ
وَبِالْمَوْتِ عن وَفَاءٍ أو وَلَدٍ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ في آخِرِ جُزْءٍ من
أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وإذا عَتَقَ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ في كَسْبِهِ وَيَقَعُ
الْيَأْسُ عن الدَّفْعِ فَتَتَقَرَّرُ الْقِيمَةُ
وإذا تَرَكَ وَلَدًا ولم يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يَبْقَى
بِبَقَاءِ الْوَلَدِ فَيَسْعَى على نُجُومِ أبيه فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ وَيَعْتِقُ
أَبُوهُ وَيَسْتَنِدُ عِتْقُهُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ أو
بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهَا كانت وَاجِبَةً وَتَقَرَّرَ
الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ أو بِالصُّلْحِ على الْقِيمَةِ لِأَنَّ
الصُّلْحَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ
هذا إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَةٌ بِالْمُعَايَنَةِ أو بِالْبَيِّنَةِ فَأَمَّا إذَا
ظَهَرَتْ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ كان قد أَدَّى الْقِيمَةَ ثُمَّ عَجَزَ لم يَبْطُلْ
إقْرَارُهُ
____________________
(7/268)
وَلَا
يَسْتَرِدُّ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ وَصَّلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا
يُسْتَرَدُّ
وَكَذَا إذَا لم يُؤَدِّ وَلَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أو
بِإِعْتَاقِ مُبْتَدَأٍ أو بِمَوْتِ الْمُكَاتِبِ عن وَفَاءٍ أو وَلَدٍ لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ لم يَعْتِقْ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ فَإِنْ كان عَجْزُهُ قبل قَضَاءِ الْقَاضِي
عليه بِالْقِيمَةِ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ في حَقِّ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ حتى
لَا يُؤْخَذَ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّهُ
لَمَّا عَجَزَ قبل الْقَضَاءِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ وَعَادَ
قِنًّا كما كان فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ على مَوْلَاهُ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ
على الْمَوْلَى بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ يُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ
إقْرَارَهُ في حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحُ وَإِنْ كان بَعْدَ ما قَضَى الْقَاضِي عليه
بِالْقِيمَةِ بَطَلَ إقْرَارَهُ في حَقِّ الْمَوْلَى وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ
لِلْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَة عليه الرَّحْمَةُ وَيُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ إقْرَارَهُ في حَقِّ الْمَوْلَى وَيُؤْخَذُ بِهِ
لِلْحَالِ وَيُبَاعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْقِيمَةَ قد وَجَبَتْ عليه بِإِقْرَارِهِ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ ظَاهِرًا أو بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ
الْوُجُوبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِالْعَجْزِ كما لو أَقَرَّ بِدَيْنٍ
لِإِنْسَانٍ ثُمَّ عَجَزَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ لم تَكُنْ لِمَكَانِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ
الْكِتَابَةِ ما كان من التِّجَارَةِ وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ ليس من
التِّجَارَةِ وَإِنَّمَا كانت لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى فإذا
عَجَزَ فَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بأكسابه فَبَطَلَ إقْرَارُهُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْإِقْرَارِ صُلْحٌ بِأَنْ جَنَى الْمُكَاتَبِ جِنَايَةً
خَطَأً فَصَالَحَ منها على مَالٍ جَازَ صُلْحَهُ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ كان
قد أَدَّى بَدَلَ الصُّلْحِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أو كان لم يُؤَدِّ
لَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كان فَقَدْ تَقَرَّرَ الصُّلْحُ وَلَا يَبْطُلُ
وَإِنْ كان لم يُؤَدَّ بَدَلَ الصُّلْحِ وَلَا عَتَقَ حتى عَجَزَ بَطَلَ الْمَالُ
عنه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ
أو الْفِدَاءِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيَصِيرُ دَيْنًا عليه وَعَلَى هذا
الْخِلَافِ إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ إنْسَانًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ من دَمِ
الْعَمْدِ على مَالٍ ثُمَّ عَجَزَ قبل أَدَاءِ بَدَلِ الصُّلْحِ أنه يَبْطُلُ
الصُّلْحُ وَلَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا
يَبْطُلُ وَيُؤْخَذُ لِلْحَالِ
وَلَوْ كان وَلِيُّ الْقَتِيلِ اثْنَيْنِ فَصَالَحَ الْمُكَاتَبُ أَحَدَهُمَا
دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عنه وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى من
صَالَحَهُ ما صَالَحَ عليه وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَيَغْرَمُ
الْمُكَاتَبُ له الْأَقَلَّ من نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ
الْوَاجِبَ عليه في كل الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ
فَالْوَاجِبُ في نِصْفِهَا الْأَقَلُّ من نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ
اعْتِبَارًا لِلنِّصْفِ بِالْكُلِّ فَإِنْ عَجَزَ قبل الْأَدَاءِ فَنَصِيبُ
الْمُصَالِحِ لَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ أو
افْدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ
الصُّلْحَ قد بَطَلَ عِنْدَهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ أو
يَفْدِيَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُبَاعُ في حِصَّةِ
الْمَصَالِحِ أو يَقْضِيَ عنه الْمَوْلَى
وَأَمَّا الْقِنُّ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ
الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ
يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَصَالِحِ
فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أو الْفِدَاءِ بِنِصْفِ
الدِّيَةِ
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قبل أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ من ذلك ولم يَتْرُكْ شيئا
أَصْلًا أو لم يَتْرُكْ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ
إذَا مَاتَ عَاجِزًا فَقَدْ مَاتَ قِنًّا وَالْقِنُّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ
مَاتَ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ أَصْلًا وَرَأْسَا وما تَرَكَهُ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ
إذَا مَاتَ عَبْدًا كان الْمَتْرُوكُ مَالَ الْمَوْلَى فَيَكُونَ له
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَكِتَابَةٌ
يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى دَيْنٌ ضَعِيفٌ إذْ
لَا يَجِبْ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَقْوَى
أَوْلَى
وَحُكِيَ عن قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه قال قلت لِابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّ
شُرَيْحًا يقول الْأَجْنَبِيُّ وَالْمَوْلَى يَتَحَاصَّانِ
فقال سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ أَخْطَأَ شُرَيْحٌ وَإِنْ كان قَاضِيًا قَضَاءَ
زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَوْلَى
وكان زَيْدٌ يقول يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كان لَا
يَخْفَى قَضَاؤُهُ على الصَّحَابَةِ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَيَكُونَ
إجْمَاعًا
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ وَجِنَايَةً
فَالْجِنَايَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقْوَى وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَكِتَابَةٌ وَجِنَايَةٌ فَإِنْ كان قضي عليه بِالْجِنَايَةِ
فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا
قضى بها صَارَتْ دَيْنًا فَهُمَا دَيْنَانِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا
بِالْبِدَايَةِ بِهِ أَوْلَى من صَاحِبِهِ وَإِنْ كان لم يُقْضَ عليه
بِالْجِنَايَةِ يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ وَدَيْنُ
الْجِنَايَةِ لم يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ بَعْدُ فَكَانَ الْأَوَّلُ آكَدَ
وَأَقْوَى فَيُبْدَأُ بِهِ ويقضي الدَّيْنُ منه ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى ما بَقِيَ
فَإِنْ كان بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ أَوْلَى
فَيُبْدَأُ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فما بَقِيَ يَكُونُ
لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَمُوتُ قِنًّا على ما بَيَّنَّا وَهَذَا بِخِلَافِ ما قبل
الْمَوْتِ أن الْمُكَاتَبَ يَبْدَأُ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ إنْ شَاءَ بِدَيْنِ
الْأَجْنَبِيّ وَإِنْ
____________________
(7/269)
شَاءَ
بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ بِمَالِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي من
كَسْبِهِ وَالتَّدْبِيرُ في أكسابه إلَيْهِ فَكَانَ له أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّ
دُيُونِهِ شَاءَ
وَعَلَى هذا قالوا في الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ فَتَرَكَ وَلَدًا أن وَلَدَهُ
يَبْدَأُ من كَسْبِهِ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ لِأَنَّهُ قام مَقَامَ
الْمُكَاتَبِ فَتَدْبِيرُ كَسْبِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ ولم يَتْرُكْ
وَلَدًا لِأَنَّ الْأَمْرَ في مَوْتِهِ إلَى الْقَاضِي فَيُبْدَأُ بِالْأَوْلَى
فَالْأَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وولى الْجِنَايَةِ في قِيمَتِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْآخَرِ وهو قَوْلُ
مُحَمَّدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لِلْحَالِ
لِأَنَّ الْحَالَ يَصْلُحُ حُكْمًا في الْمَاضِي فَيَحْكُمُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي زِيَادَةَ
الضَّمَانِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى
الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا قَدْرُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ فَهُوَ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ
الدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَرْشَ إنْ كان أَقَلَّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ
في الزِّيَادَةِ وَإِنْ كانت الْقِيمَةُ أَقَلَّ فلم يُوجَدْ من الْكَاتِبِ مَنْعُ
الزِّيَادَةِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من
الدِّيَةِ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ وَلَا يُخَيَّرُ وَإِنْ كانت أَكْثَرَ من الدِّيَةِ
أو قَدْرَ الدِّيَةِ يَنْقُصُ من الدِّيَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَتَقَوَّمُ في الْجِنَايَةِ بِأَكْثَرَ من هذا الْقَدْرِ سَوَاءٌ كانت
الْجِنَايَةُ منه أو عليه وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْجِنَايَةِ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ كَالْبَدَلِ عن الدَّفْعِ وَالدَّفْعُ يَجِبُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ
وَكَذَا الْمَنْعُ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا
يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمُ وهو وُجُوبِ
الْقِيمَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهِيَ أَنْ يَجِبَ عليه حَالًّا لَا على الْعَاقِلَةِ
مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ في جِنَايَةِ الْعَبْدِ هو الدَّفْعُ
وَهَذَا كَالْخَلْفِ عنه
وَالدَّفْعُ يَجِبُ عليه حَالًّا لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَا الْخُلْفُ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمَقْتُولُ أَجْنَبِيًّا فَأَمَّا إذَا كان مولى الْقَاتِلِ
فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان قِنًّا وَإِمَّا أن كان مُدَبَّرًا
وَإِمَّا أن كان أُمَّ وَلَدٍ وَإِمَّا أن كان مُكَاتَبًا فَإِنْ كان قِنًّا
فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ له
على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَا مَرَّ
وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا حتى سَقَطَ
الْقِصَاصُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَلَا يَجِبُ لِلَّذِي لم يَعْفُ شَيْءٌ في
قَوْلِهِمَا وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي عَفَا إمَّا أَنْ
تَدْفَعَ نِصْفَ نُصِيبُكَ وهو رُبْعُ الْعَبْدِ إلَى الذي لم يَعْفُ أو
تَفْدِيَهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ كان مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا النِّصْفُ فإذا عَفَا أَحَدُهُمَا فقط ( ( ( فقد ) ) ) سَقَطَ نِصْفُ
الْقِصَاصَ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ وهو النِّصْفِ مَالًا شَائِعًا في
النِّصْفَيْنِ نِصْفُهُ وهو الرُّبْعُ في نَصِيبِهِ وَنِصْفُهُ في نَصِيبِ
الشَّرِيكِ فما كان في نَصِيبِهِ يَسْقُطُ وما كان في نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَثْبُتُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إمَّا أَنْ تَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى
وَالْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَهُ في اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ له وَإِمَّا أَنْ
تَجِبَ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ
الْوِرَاثَةِ وكيفما كان فَالْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على عَبْدِهِ دَيْنٌ
وَإِنْ كان مُدَبَّرًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ وَعَلَيْهِ
السِّعَايَةُ في قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لو وَجَبَتْ الدِّيَةُ لَوَجَبَتْ على
الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لو جَنَى على أَجْنَبِيٍّ لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عليه
فَهَهُنَا أَوْلَى وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ له وَعَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ
يَسْعَى في قِيمَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تُسَلَّمُ
لِلْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
فَوَجَبَ عليه قِيمَةُ نَفْسِهِ
وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَيَسْعَى في قِيمَتِهِ لِمَا
قُلْنَا وَوَرَثَتُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤوا عَجَّلُوا اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ
وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَإِنْ شاؤوا اسْتَوْفَوْا السِّعَايَةَ ثُمَّ قَتَلُوهُ
قِصَاصًا لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ ثَبَتَا لهم وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ لَا
يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقِصَاصِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عن
الْمَقْتُولِ بَلْ هِيَ بَدَلٌ عن الرِّقِّ
وَلَوْ كان لِلْمَوْلَى وَلِيَّانِ عَفَا أَحَدُهُمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ
مَالًا بِخِلَافِ الْقِنِّ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ
لِأَنَّهُ لو وَجَبَ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ وَلَيْسَ يَجِبُ
لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَهَهُنَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ
يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ فَيَسْعَى وهو حُرُّ فلم يَكُنْ في إيجَابِ الدِّيَةِ
عليه إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَإِنْ كان أُمَّ وَلَدٍ فَقَتَلَتْ مَوْلَاهَا خَطَأً أو عَمْدًا فَحُكْمُهَا
حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في السِّعَايَةِ فَأُمُّ الْوَلَدِ
لَا سِعَايَةَ عليها وَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى في قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ
هُنَاكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ ليس
بِوَصِيَّةٍ حتى لَا يُعْتَبَرَ من الثُّلُثِ
وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا وَلَهُ ابْنَانِ من غَيْرِهَا
فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَعَتْ في نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلَّذِي لم يَعْفُ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ قد سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا
وَإِنَّمَا وَجَبَ عليها السِّعَايَةُ في نِصْفِ قِيمَتِهَا لَا في نِصْفِ
الدِّيَةِ
وَإِنْ كانت هِيَ حُرَّةً وَقْتَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ لأنهاعتقت بِمَوْتِ
سَيِّدِهَا
____________________
(7/270)
وَتَسْعَى
وَهِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّهَا كانت مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ
اعْتِبَارُ الْحَالَيْنِ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ وَحَالَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ
وَلَوْ كانت مَمْلُوكَةً في الْحَالَيْنِ بِأَنْ قَتَلَتْ أَجْنَبِيًّا خَطَأً
لَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ وَكَانَتْ على الْمَوْلَى لَا عليها فَإِنْ كانت
مَمْلُوكَةً حَالَ الْجِنَايَةِ حُرَّةً حَالِ السِّعَايَةِ اعْتَبَرْنَا بِالْحَالَيْنِ
فَأَوْجَبْنَا نِصْفَ الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا إلَى وُجُودِ الْجِنَايَةِ
وَأَوْجَدْنَا ذلك عليها لَا على الْمَوْلَى اعْتِبَارًا بِحَالِ وُجُوبِ
السِّعَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ كان أَحَدُ
الِابْنَيْنِ منها لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عليها وَسَعَتْ في جَمِيعِ قِيمَتِهَا
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّهُ لو وَجَبَ لَوَجَبَ مُشْتَرَكًا
بَيْنَهُمَا وَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ في نَصِيبِ وَلَدِهَا إذْ لَا يَجِبُ
لِلْوَلَدِ على أُمِّهِ قِصَاصُ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ احْتِرَامًا لِلْأُمِّ
وَأَمَّا لُزُومُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلتَّعَذُّرِ وَلَا
تَعَذُّرَ في الْقِيمَةِ فَتَسْعَى في جَمِيعِ قِيمَتِهَا وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ كان مُكَاتَبًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من
قِيمَتِهِ أو الدِّيَةُ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ على مَوْلَاهُ لَازِمَةٌ
كَجِنَايَةِ مَوْلَاهُ عليه لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْسَابِهِ وَأَرْشُ
جِنَايَاتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بأكسابه من الْمَوْلَى وَتَجِبُ
الْقِيمَةَ حَالَّةً لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ من الدَّفْعِ فَتَكُونُ
حَالَّةً كما تَجِبُ على الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ مدبرة وَإِنْ كان عَمْدًا
فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ حُرَّيْنِ أو كان الْقَاتِلُ حُرًّا
وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا أوكان القتال عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا
فَأَمَّا إذَا كَانَا عَبْدَيْنِ بِأَنْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً
فَالْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ وَإِمَّا أن كان
عَبْدًا لِمَوْلَى الْقَاتِلِ فَإِنْ كان عَبْدًا لِأَجْنَبِيِّ بِأَنْ كان
الْقَاتِلُ قِنًّا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كان
الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا
وَهَذَا وما إذَا كان الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ
هُنَاكَ يُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو بِالْفِدَاءِ بِالدِّيَةِ وَهَهُنَا
يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ بِالْقِيمَةِ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ
الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ كان الْمَقْتُولُ قِنًّا أو
مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا كما إذَا كان الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ سَوَاءٌ كان
الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا كما إذَا كان
الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا
هذا إذَا كان الْمَقْتُولُ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان عَبْدًا لِوَلِيِّ
الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْقَاتِلِ عليه هَدَرٌ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ سَوَاءٌ كان
الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ عليه لَازِمَةٌ كَائِنًا من كان
الْمَقْتُولُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ
هذا إذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ
كَائِنًا من كان الْمَقْتُولُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ الْمُوفِقُ
وَأَمَّا الْقَتْلُ الذي هو في مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو
في مَعْنَاهُ من كل وَجْهٍ وهو أَنْ يَكُونَ على طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ
وَنَوْعٌ هو في مَعْنَاهُ من وَجْهٍ وهو أَنْ يَكُونَ من طَرِيقِ التَّسْبِيبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ على إنْسَانٍ فَيَقْتُلَهُ
فَهَذَا الْقَتْلُ في مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ من كل وَجْهٍ لِوُجُودِهِ لَا
عن قَصْدٍ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ فَتَرَتَّبَ عليه أَحْكَامُهُ من وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ إذَا
كان في مَعْنَاهُ من كل وَجْهٍ كان وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ
هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً وَكَذَلِكَ لو سَقَطَ إنْسَانٌ من سَطْحٍ على
قَاعِدٍ فَقَتَلَهُ
أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ وهو عَدَمُ الْقَصْدِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ
فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ سَوَاءٌ كان
الْقَاعِدُ في طَرِيقِ الْعَامَّةِ أو في مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَوْ مَاتَ السَّاقِطُ
دُونَ الْقَاعِدِ يُنْظَرُ إنْ كان في مِلْكِ نَفْسِهِ أو في مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ
قُعُودَهُ فيه جِنَايَةً لَا شَيْءَ على الْقَاعِدِ لِأَنَّهُ ليس بِمُتَعَدٍّ في
الْقُعُودِ فما تَوَلَّدَ منه لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَيُهْدَرُ دَمُ
السَّاقِطِ وَإِنْ كان في مَوْضِعٍ يَكُونُ قُعُودُهُ فيه جِنَايَةً فَدِيَةُ
السَّاقِطِ على الْقَاعِدِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في
الْقُعُودِ فَالْمُتَوَلِّدِ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه كما في حَفْرِ الْبِئْرِ
وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كما في
الْبِئْرِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان يَمْشِي في الطَّرِيقِ حَامِلًا سَيْفًا أو حَجَرًا أو
لَبِنَةً أو خَشَبَةً فَسَقَطَ من يَدِهِ فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ
فيه وَحُصُولِهِ على سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُصُولِ الْآلَةِ لِبَشَرَةِ
الْمَقْتُولِ
وَلَوْ كان لَابِسًا سَيْفًا فَسَقَطَ على غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ أو سَقَطَ عنه
ثَوْبُهُ أو رِدَاؤُهُ أو طَيْلَسَانُهُ أو عِمَامَتُهُ وهو لَابِسُهُ على
إنْسَانٍ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَتَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عليه أَصْلًا لِأَنَّ في
اللَّبْسِ ضَرُورَةً إذْ الناس يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ هذه وَالتَّحَرُّزُ عن
السُّقُوطِ ليس في وُسْعِهِمْ فَكَانَتْ الْبَلِيَّةُ فيه عَامَّةً فَتَعَذَّرَ
التَّضْمِينُ وَلَا ضَرُورَةَ في الْحَمْلِ وَالِاحْتِرَازُ عن سُقُوطِ
الْمَحْمُولِ مُمْكِنٌ أَيْضًا
وَإِنْ كان الذي لَبِسَهُ مِمَّا لَا يُلْبَسُ عَادَةً فَهُوَ ضَامِنٌ
وَكَذَلِكَ الرَّاكِبُ إذَا كان يَسِيرُ في الطَّرِيقِ
____________________
(7/271)
الْعَامَّةِ
فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ رَجُلًا بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا لِوُجُودِ
معن ( ( ( معنى ) ) ) الْخَطَأِ في هذا الْقَتْلِ وَحُصُولِهِ على سَبِيلِ
الْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ ثِقَلَ الرَّاكِبِ على الدَّابَّةِ وَالدَّابَّةُ آلَةٌ له
فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلِ بِثِقَلِهَا مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ فَكَانَ قَتْلًا
مُبَاشَرَةً
وَلَوْ كُدِمَتْ أو صُدِمَتْ أو خُبِطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنَّهُ لَا
كَفَّارَةَ عليه وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِحُصُولِ الْقَتْلِ
على سَبِيلِ التَّسَبُّبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا كَفَّارَةَ على السَّائِقِ
وَالْقَائِدِ وَلَا يُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ فِعْلَ
السَّوْقِ وَالْقَوَدِ يُقَرِّبُ الدَّابَّةَ من الْقَتْلِ فَكَانَ قَتْلًا
تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةَ وهو ( ( ( والقتل ) ) ) لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ
الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً على ما
بَيَّنَّا
وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ وَيُحْرَمَانِ
الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ ثِقَلَهُمَا على الدَّابَّةِ وَالدَّابَّةُ
آلَةٌ لَهُمَا فَكَانَا قَاتِلَيْنِ على طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ
وَلَوْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أو بِذَنَبِهَا وهو يَسِيرُ فَلَا
ضَمَانَ في ذلك على رَاكِبٍ وَلَا سَائِقٍ وَلَا قَائِدٍ
وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّيْرَ وَالسَّوْقَ وَالْقَوْدَ في طَرِيقِ الْعَامَّةِ
مَأْذُونٌ فيه بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فما لم تَسْلَمْ عابقته ( ( (
عاقبته ) ) ) لم يَكُنْ مَأْذُونًا فيه فَالْمُتَوَلَّدُ منه يَكُونُ مَضْمُونًا
إلَّا إذَا كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه بِسَدِّ بَابِ
الِاسْتِطْرَاقِ على الْعَامَّةِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
وَالْوَطْءُ وَالْكَدْمُ وَالصَّدْمُ وَالْخَبْطُ في السَّيْرِ وَالسَّوْقِ
وَالْقَوْدِ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه بِحِفْظِ الدَّابَّةِ وَذَوْدِ
الناس وَالنَّفْحُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عنه وَكَذَا الْبَوْلُ
وَالرَّوْثُ وَاللُّعَابِ فَسَقَطَ اعْتِبَارَهُ وَالْتُحِقَ بِالْعَدَمِ
وقد رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال الرِّجْلُ جُبَارٌ أَيْ
نَفْحُهَا وَلِهَذَا سقط ( ( ( أسقط ) ) ) اعْتِبَارُ ما ثَارَ من الْغُبَارِ من
مَشْي الْمَاشِي حتى لو أَفْسَدَ مَتَاعًا لم يَضْمَنْ وَكَذَا ما أَثَارَتْ
الدَّابَّةُ بِسَنَابِكِهَا من الْغُبَارِ أو الْحَصَى الصِّغَارِ لا ضَمَانَ فيه
لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَصَى الْكِبَارُ فَيَجِبُ الضَّمَانَ فيها لِأَنَّهُ يُمْكِنُ
التَّحَرُّزَ عن إثَارَتِهَا إذْ لَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِتَعْنِيفٍ في السَّوْقِ
وَلَوْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِاللِّجَامِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أو بِذَنَبِهَا
فَهُوَ هَدَرٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ وَلَوْ أَوْقَفَ الدَّابَّةَ في
الطَّرِيقِ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا فَإِنْ كان ذلك في غَيْرِ مِلْكِهِ كَطَرِيقِ
الْعَامَّةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ وَطِئَتْ بيدها ( ( ( بيديها
) ) ) أو بِرِجْلِهَا أو كَدَمَتْ أو صَدَمَتْ أو خَبَطَتْ بيدها ( ( ( بيديها ) )
) أو نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أو بِذَنَبِهَا أو عَطِبَ شَيْءٌ بِرَوْثِهَا أو
بَوْلِهَا أو لُعَابِهَا كُلُّ ذلك مَضْمُونٌ عليه وَسَوَاءٌ كان رَاكِبًا أو لَا
لِأَنَّ رَوْثَ الدَّابَّةِ في طَرِيقِ الْعَامَّةِ ليس بِمَأْذُونٍ فيه شَرْعًا
إنَّمَا الْمَأْذُونُ فيه هو الْمُرُورُ لَا غَيْرُ إذْ الناس يَتَضَرَّرُونَ
بِالْوُقُوفِ وَلَا ضَرُورَةَ فيه فَكَانَ الْوُقُوفُ فيه تَعَدِّيًا من غَيْرِ
ضَرُورَةٍ فما تَوَلَّدَ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه سَوَاءٌ كان مِمَّا يُمْكِنُ
التَّحَرُّزُ عنه أو لَا يُمْكِنُ غير أَنَّهُ إنْ كان رَاكِبًا فَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ في الْوَطْءِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا من طَرِيقِ
الْمُبَاشَرَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ رَاكِبًا لَا كَفَّارَةَ عليه لِوُجُودِ
الْقَتْلِ منه تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً
وَكَذَلِكَ لو أَوْقَفَ دَابَّةً على بَابِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مِثْلُ وَقْفِهِ في
الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ
جَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مَوْقِفًا يَقِفُونَ فيه
دَوَابَّهُمْ فَلَا ضَمَانَ عليه فِيمَا أَصَابَتْ في وُقُوفِهَا لِأَنَّ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذلك إذَا لم يَتَضَرَّرْ الناس بِهِ فلم يَكُنْ
مُتَعَدِّيًا في الْوُقُوفِ فَأَشْبَهَ الْوُقُوفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا إذَا
كان رَاكِبًا فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لِأَنَّ ذلك قَتْلٌ
بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَسْتَوِي في الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لو كان في مِلْكِهِ يَضْمَنُ
وَكَذَلِكَ لو أَوْقَفَ دَابَّتَهُ في مَوْضِعٍ أَذِنَ الْإِمَامُ بِالْوُقُوفِ
فيه كما في سُوقِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَفَ دَابَّتَهُ في الْفَلَاةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ في
الْفَلَاةِ مُبَاحٌ لِعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فيه
وَكَذَلِكَ في الطَّرِيقِ إنْ كان وَقَفَ في الْمُحَجَّةِ فَالْوُقُوفُ فيها
كَالْوُقُوفِ في سَائِرِ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ
وَلَوْ كان سَائِرًا في هذه الْمَوَاضِعِ التي أَذِنَ الْإِمَامُ فيها
بِالْوُقُوفِ لِلنَّاسِ أو سَائِقًا أو قَائِدًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ أَثَرَ
الْإِذْنِ في سُقُوطِ ضَمَانِ الْوَقْفِ لَا في غَيْرِهِ لِأَنَّ إبَاحَةَ
الْوَقْفِ فيها أستفيد بِالْإِذْنِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ
فَأَمَّا إبَاحَةُ السَّيْرِ وَالسَّوَقِ وَالْقَوْدِ فلم يَثْبُتْ بِالْإِذْنِ من
الْإِمَامِ لِأَنَّهُ كان ثَابِتًا قَبْلَهُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فيها على ما كان
قبل الْإِذْنِ
وَإِنْ كان الْوَقْفُ أو السَّيْرُ أو السَّوْقُ أو الْقَوْدُ في مِلْكِهِ فَلَا
ضَمَانَ عليه في شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إلَّا فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ بيدها ( (
( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا وهو رَاكِبٌ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ تَقَعُ
تَعَدِّيًا في الْمِلْكِ
وَالتَّسْبِيبُ إذَا لم يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ
فَأَمَّا الْوَطْءُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ في حَالِ السَّيْرِ أو الْوُقُوفِ
فَهُوَ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا حتى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ
الضَّمَانِ على كُلٍّ سَوَاءٌ كان في مِلْكِهِ أو في غَيْرِ مِلْكِهِ وَسَوَاءٌ
كان الذي لَحِقَتْهُ الْجِنَايَةُ مَأْذُونًا في الدُّخُولِ أو غير مَأْذُونٍ
لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً وَمَنْ دخل مِلْكَ غَيْرِهِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يُبَاحُ إتْلَافُهُ
وَلَوْ رَبَطَ الدَّابَّةَ في غَيْرِ مِلْكِهِ فما دَامَتْ تَجُولُ في رِبَاطِهَا
إذَا أَصَابَتْ شيئا بيدها ( ( ( بيديها ) ) )
____________________
(7/272)
أو
بِرِجْلِهَا أو رَاثَتْ أو بَالَتْ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَضْمُونٌ
عليه لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْوُقُوفِ في غَيْرِ مِلْكِهِ
وَلَوْ انْفَتَحَ الرِّبَاطُ وَذَهَبَتْ من ذلك الْمَوْضِعِ فما عَطِبَ بِهِ
شَيْءٌ فَهُوَ هَدْرٌ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعَدِّي قد زَالَ بِزَوَالِهَا من
مَوْضِعِ الْوُقُوفِ وَإِنْ أَوْقَفَهَا غير مَرْبُوطَةٍ فَزَالَتْ عن مَوْضِعِهَا
بعدما أَوْقَفَهَا ثُمَّ جَنَتْ على إنْسَانٍ أو عَطِبَ بها شَيْءٌ فَهُوَ هَدَرٌ
لِأَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ عن مَوْضِعِ الْوَقْفِ فَقَدْ زَالَ التَّعَدِّي
فَكَأَنَّهَا دَخَلَتْ في هذه الْمَوَاضِعِ بِنَفْسِهَا وَجَنَتْ
وَلَوْ نَفَرَتْ الدَّابَّةُ من الرَّجُلِ أو انْفَلَتَتْ منه فما أَصَابَتْ في
فَوْرِهَا ذلك فَلَا ضَمَانَ عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ أَيْ الْبَهِيمَةُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ
له في نِفَارِهَا وَانْفِلَاتِهَا وَلَا يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ عن فِعْلِهَا
فَالْمُتَوَلِّدُ منه لَا يَكُونُ مَضْمُونًا
وَلَوْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فما أَصَابَتْ من فَوَرِهَا ضَمِنَ لِأَنَّ سَيْرهَا
في فَوْرِهَا مُضَافٌ إلَى إرْسَالِهَا فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في الْإِرْسَالِ
فَصَارَ كَالدَّافِعِ لها أو كَالسَّائِقِ فَإِنْ عَطَفَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا
ثُمَّ أَصَابَتْ فَإِنْ لم يَكُنْ لها طَرِيقٌ إلَّا ذلك فَذَلِكَ مَضْمُونٌ على
الْمُرْسِلِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ على حُكْمِ الْإِرْسَالِ وَإِنْ كان لها طَرِيقٌ
آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ
الْإِرْسَالِ وَصَارَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ
وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا فَأَصَابَ شيئا في فَوْرِهِ ذلك لَا يَضْمَنُ ذلك
بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا في الْحَرَمِ
فَأَتْلَفَ طِيبَةَ الْحَرَمِ أنه لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ
وَفِعْلُهُ جُبَارٌ
ولوأغرى بِهِ كَلْبًا حتى عَقَرَ رَجُلًا فَلَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه كما لو أَرْسَلَ طَيْرًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَضْمَنُ كما لو أَرْسَلَ الْبَهِيمَةَ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان سَائِقًا له أو قَائِدًا يَضْمَنُ وَإِنْ
لم يَكُنْ سَائِقًا له وَلَا قَائِدًا لَا يَضْمَنُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْرَ فِعْلُ الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ
فَالْأَصْلُ هو الِاقْتِصَارُ عليه وَفِعْلُهُ جُبَارٌ إلَّا أَنَّهُ بِالسَّوْقِ
أو الْقَوْدِ يَصِيرُ مُغْرِيًا إيَّاهُ إلَى الْإِتْلَافِ فَيَصِيرُ سَبَبًا
لِلتَّلَفِ فَأَشْبَهَ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن إغرار ( ( ( إغراء ) ) ) الْكَلْبِ بِمَنْزِلَةِ
إرْسَالِ الْبَهِيمَةِ فَالْمُصَابُ على فَوْرِ الْإِرْسَالِ مَضْمُونٌ على
الْمُرْسِلِ فَكَذَا هذا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْكَلْبَ
يَعْقِرُ بِاخْتِيَارِهِ وَالْإِغْرَاءُ لِلتَّحْرِيضِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ
وَلَوْ دخل رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبَهُ لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ دخل
دَارِهِ بِإِذْنِهِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ جُبَارٌ ولم
يُوجَدْ من صَاحِبِهِ التَّسْبِيبُ إلَى الْعَقْرِ إذْ لم يُوجَدْ منه إلَّا
الْإِمْسَاكُ في الْبَيْتِ وإنه مُبَاحٌ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ { مُكَلِّبِينَ
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ }
وَلَوْ أَلْقَى حَيَّةً أو عَقْرَبًا في الطَّرِيقِ فَلَدَغَتْ إنْسَانًا
فَضَمَانُهُ على الْمُلْقِي لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْإِلْقَاءِ إلَّا إذَا
عَدَلَتْ عن ذلك الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ لِارْتِفَاعِ
التَّعَدِّي بِالْعُدُولِ
إذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَدِيَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على عَاقِلَةِ
الْآخَرِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ على عَاقِلَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ
دِيَةِ الْآخَرِ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلَيْنِ فِعْلِ
نَفْسِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ وهو صَدْمَةُ صَاحِبِهِ وَصَدْمَةُ نَفْسِهِ
فَيُهْدَرَ ما حَصَلَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَيُعْتَبَرُ ما حَصَلَ بِفِعْلِ
صَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ على عَاقِلَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ
دِيَةِ الْآخَرِ كما لو جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيُّ فَمَاتَ أَنَّ على
الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال مِثْلَ
مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَاتَ من صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ
فَيَضْمَنُ صَاحِبَهُ كَمَنْ بَنَى حَائِطًا في الطَّرِيقِ فَصَدَمَ رَجُلًا
فَمَاتَ أن الدِّيَةَ على صَاحِبِ الْحَائِطِ كَذَا هذا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ صَدْمَةَ نَفْسِهِ مع صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فيه غَيْرُ
مُعْتَبَرٍ إذْ لو اُعْتُبِرَ لَمَا لَزِمَ بَانِي الْحَائِطِ على الطَّرِيقِ
جَمِيعُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قد مَشَى إلَيْهِ وَصَدْمَهُ
وَكَذَلِكَ حَافِرُ الْبِئْرِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَإِنْ كان الْمَاشِي
قد مَشَى إلَيْهَا
رَجُلَانِ مَدَّا حَبْلًا حتى انْقَطَعَ فَسَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ
سَقَطَا على ظَهْرِهِمَا فَمَاتَا فَلَا ضَمَانَ فيه أَصْلًا لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَمُتْ من فِعْلِ صَاحِبِهِ إذْ لو مَاتَ من فِعْلِ
صَاحِبِهِ لَخَرَّ على وَجْهِهِ فلما سَقَطَ على قَفَاهُ عُلِمَ أَنَّهُ سَقَطَ بِفِعْلِ
نَفْسِهِ وهو مَدُّهُ فَقَدْ مَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من فِعْلِ نَفْسِهِ
فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ وَإِنْ سَقَطَا على وَجْهَيْهِمَا فَمَاتَا فَدِيَةُ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على عَاقِلَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَّ على وَجْهِهِ
عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ من جَذْبِهِ وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا على ظَهْرِهِ
وَالْآخَرُ على وَجْهِهِ فَمَاتَا جميعا فَدِيَةُ الذي سَقَطَ على وَجْهِهِ على
عَاقِلَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وهو جَذْبُهُ
وَدِيَةُ الذي سَقَطَ على ظَهْرِهِ هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَاتَ من فِعْلِ نَفْسِهِ
وَلَوْ قَطَعَ قَاطِعٌ الْحَبْلَ فَسَقَطَا جميعا فَمَاتَا فَالضَّمَانُ على
الْقَاطِعِ
____________________
(7/273)
لِأَنَّهُ
تَسَبَّبَ في إتْلَافِهِمَا وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا يُوجِبُ الضَّمَانَ
كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوُ ذلك
صَبِيٌّ في يَدِ أبيه جَذَبَهُ رَجُلٌ من يَدِهِ وَالْأَبُ يُمْسِكُهُ حتى مَاتَ
فَدِيَتُهُ على الذي جَذَبَهُ وَيَرِثَهُ أَبُوهُ لِأَنَّ الْأَبَ مُحِقٌّ في
الْإِمْسَاكِ وَالْجَاذِبُ مُتَعَدٍّ في الْجَذْبِ فَالضَّمَانُ عليه
وَلَوْ تَجَاذَبَ رجلان ( ( ( رجلا ) ) ) صَبِيًّا وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ
ابن ( ( ( ابنه ) ) ) وَالْآخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ من
جَذْبِهِمَا فَعَلَى الذي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ
في الْجَذْبِ لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ في الصَّبِيِّ إذَا زَعَمَ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ أَبُوهُ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ من الذي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَكَانَ
إمْسَاكُهُ بِحَقٍّ وَجَذْبُ الْآخَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنُ
رَجُلٌ في يَدِهِ ثَوْبٌ تَشَبَّثَ بِهِ رَجُلٌ فَجَذَبَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ من
يَدِهِ فَخَرَقَ الثَّوْبَ ضَمِنَ الْمُمْسِكُ نِصْفَ الْخَرْقِ لِأَنَّ حَقَّ
صَاحِبِ الثَّوْبِ في دَفْعِ الْمُمْسِكِ وَعَلَيْهِ دَفْعُهُ بِغَيْرِ جَذْبٍ
فإذا جَذَبَ فَقَدْ حَصَلَ التَّلَفُ من فِعْلِهِمَا فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ
بَيْنَهُمَا
رَجُلٌ عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ فَجَذَبَ الْمَعْضُوضُ ذِرَاعَهُ من فيه فَسَقَطَتْ
أَسْنَانُ الْعَاضِّ وَذَهَبَ لَحْمُ ذِرَاعِ هذا تُهْدَرُ دِيَةُ الْأَسْنَانِ
وَيَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ الذِّرَاعِ لِأَنَّ الْعَاضَّ مُتَعَدٍّ في الْعَضِّ
وَالْجَاذِبُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ في الْجَذْبِ لِأَنَّ الْعَضَّ ضَرَرٌ وَلَهُ أَنْ
يَدْفَعَ الضَّرَرَ عن نَفْسِهِ
رَجُلٌ جَلَسَ إلَى جَنْبِ رَجُلٍ فَجَلَسَ على ثَوْبِهِ وهو لَا يَعْلَمُ فَقَامَ
صَاحِبُ الثَّوْبِ فَانْشَقَّ ثَوْبُهُ من جُلُوسِ هذا عليه يَضْمَنُ الْجَالِسُ
نِصْفَ ذلك لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ من الْجُلُوسِ وَالْجَذْبِ وَالْجَالِسُ
مُتَعَدٍّ في الْجُلُوسِ إذْ لم يَكُنْ له أَنْ يَجْلِسَ عليه فَكَانَ التَّلَفُ
حَاصِلًا من فِعْلَيْهِمَا فَيَنْقَسِمُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
رَجُلٌ أَخَذَ بِيَدِ إنْسَانٍ فَصَافَحَهُ فَجَذَبَ يَدَهُ من يَدِهِ فَانْقَلَبَ
فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الْآخِذَ غَيْرُ متعد ( ( ( معتد ) ) ) في
الْأَخْذِ لِلْمُصَافَحَةِ بَلْ هو مُقِيمٌ سُنَّةً وَإِنَّمَا الْجَاذِبُ هو الذي
تَعَدَّى على نَفْسِهِ حَيْثُ جَذَبَ يَدَهُ لَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ لَحِقَهُ من
الْآخِذِ وَإِنْ كان أَخَذَ يَدَهُ لِيَعْصِرَهَا فَآذَاهُ فَجَرَّ يَدَهُ ضَمِنَ
الْآخِذُ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ هو الْمُتَعَدِّي وَإِنَّمَا صَاحِبُ الْيَدِ دَفَعَ
الضَّرَرَ عن نَفْسِهِ بِالْجَرِّ وَلَهُ ذلك فَكَانَ الضَّمَانُ على
الْمُتَعَدِّي فَإِنْ انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُمْسِكِ وهو الْآخِذُ بِالْجَذْبِ لم
يَضْمَنْ الْجَاذِبُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ من الْمُمْسِكِ فَكَانَ جَانِيًا على
نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على غَيْرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَحْوُ جِنَايَةِ الْحَافِرِ وَمَنْ في مَعْنَاهُ مِمَّنْ
يُحْدِثُ شيئا في الطَّرِيقِ أو الْمَسْجِدِ وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ
وَجِنَايَةُ النَّاخِسِ وَجِنَايَةُ الْحَائِطِ
أَمَّا جِنَايَةُ الْحَافِرِ فَالْحَفْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان في غَيْرِ
الْمِلْكِ أَصْلًا وإما أن كان في الْمِلْكِ فَإِنْ كان في غَيْرِ الْمِلْكِ
يُنْظَرُ إنْ كان في غَيْرِ الطَّرِيقِ بِأَنْ كان في الْمَفَازَةِ لَا ضَمَانَ
على الْحَافِرِ لِأَنَّ الْحَفْرَ ليس بِقَتْلٍ حَقِيقَةً بَلْ هو تَسْبِيبٌ إلَى
الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ التَّسْبِيبَ قد يُلْحَقُ بِالْقَتْلِ إذ كان الْمُسَبِّبُ
مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ وَالْمُتَسَبِّبُ هَهُنَا ليس بِمُتَعَدٍّ لِأَنَّ
الْحَفْرَ في الْمَفَازَةِ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ فَانْعَدَمَ
الْقَتْلُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانَ
وَإِنْ كان في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَمَاتَ فَلَا
يَخْلُو إما أن مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ وَإِمَّا أن مَاتَ غَمًّا أو جُوعًا
فَإِنْ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَالْحَافِرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان حُرًّا
وَإِمَّا أن كان عَبْدًا فَإِنْ كان حُرًّا يَضْمَنُ الدِّيَةَ لِأَنَّ حَفْرَ
الْبِئْرِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْمَارِّ فيها إذَا لم
يُعْلَمْ وهو مُتَعَدٍّ في هذا التَّسْبِيبِ فَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَتَحَمَّلُ
عنه الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ
لِلتَّخْفِيفِ على الْقَاتِلِ نَظَرًا له وَالْقَتْلُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ دُونَ
الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ أَبْلُغَ وَلَا
كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً
وَالْحَفْرُ ليس بِقَتْلٍ أَصْلًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْقَتْلِ في
حَقِّ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَبَقِيَ في حَقِّ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ على الْأَصْلِ
وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ في الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا
لِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ بِالسَّلَامَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ فَوْتِ السَّلَامَةِ
وَذَلِكَ بِالْقَتْلِ فإذا لم يُوجَدْ لم يَجِبْ الشُّكْرَ
وَكَذَا لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ إنْ كان وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عليه وَلَا
الْوَصِيَّةَ إنْ كان أَجْنَبِيًّا لِأَنَّ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ
حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ ولم يُوجَدْ الْقَتْلُ
حَقِيقَةً
وَإِنْ مَاتَ غَمًّا أو جُوعًا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا يَضْمَنُ وقال مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ
وقال أبو يُوسُفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ مَاتَ غَمًّا يَضْمَنُ وَإِنْ مَاتَ جُوعًا
لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الضَّمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ
بِسَبَبِ السُّقُوطِ إنَّمَا وَجَبَ لِكَوْنِ الْحَفْرُ تَسْبِيبًا إلَى
الْهَلَاكِ وَمَعْنَى التَّسْبِيبِ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ الْوُقُوعَ سَبَبُ
الْغَمِّ وَالْجُوعِ لِأَنَّ الْبِئْرَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ وإذا طَالَ مُكْثُهُ
يَلْحَقُهُ الْجُوعُ وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ
كما إذَا حَبَسَهُ في مَوْضِعٍ حتى مَاتَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْغَمَّ من آثَارِ
____________________
(7/274)
الْوُقُوعِ
فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْحَفْرِ فَأَمَّا الْجُوعُ فَلَيْسَ من آثَارِهِ فَلَا
يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْحَافِرِ في الْغَمِّ
وَلَا في الْجُوعِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمَا يَحْدُثَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى
لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا أَصْلًا لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ في انتفائها ( ( ( انتقائها ) ) ) وَأَمَّا
التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ ليس بِسَبَبٍ لِلْجُوعِ لَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ
لَا يَنْشَأُ منه بَلْ من سَبَبٍ آخَرَ وَالْغَمُّ ليس من لَوَازِمِ الْبِئْرِ
فَإِنَّهَا قد تَغُمُّ وقد لَا تَغُمُّ فَلَا يُضَافُ ذلك إلَى الْحَفْرِ وَإِنْ
أَصَابَتْهُ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَضَمَانُهَا على الْحَافِرِ
لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ ثُمَّ
إنْ بَلَغَ الْقَدْرَ الذي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ حَمَلَهُ عليهم وَإِلَّا
فَيَكُونُ في مَالِهِ
وَكَذَا إذَا كان الْوَاقِعُ غير بَنِي آدَمَ لِأَنَّ ضَمَانُ الْمَالِ لَا تتحمل
( ( ( تتحمله ) ) ) الْعَاقِلَةُ كما لَا تَتَحَمَّلُ سَائِرَ الدُّيُونِ ثُمَّ
إنَّ جِنَايَاتِ الْحَفْرِ وَإِنْ كَثُرَتْ من الْحُرِّ يَجِبُ عليه لِكُلِّ
جِنَايَةٍ أَرْشُهَا وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من ذلك بِشَيْءٍ منه وَلَا يُشْرَكُ
الْمَجْنِيُّ عليهم فِيمَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ
جَنَى على كُلّ وَاحِدٍ منهم بِحِيَالِهِ فَيُؤْخَذُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ من
الْجِنَايَاتِ بِحِيَالِهَا
هذا هو الْأَصْلُ وَإِنْ كان الْحَافِرُ عَبْدًا فَإِنْ كان قِنًّا فَجِنَايَتُهُ
بِالْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بيده وقد ذَكَرْنَا حُكْمَ ذلك فِيمَا
تَقَدَّمَ وهو أَنْ يُخَاطِبَ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ قَلَّتْ
جِنَايَتُهُ أو كَثُرَتْ غير أَنَّهُ إنْ كان الْمَجْنِيُّ عليه وَاحِدًا يَدْفَعُ
إلَيْهِ أو يَفْدِي وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ أو يَفْدِي
بِجَمِيعِ الْأُرُوشِ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْقِنِّ في رَقَبَتِهِ يُقَالُ
لِلْمَوْلَى ادْفَعْ أو افد وَالرَّقَبَةُ تَتَضَايَقُ عن الْحُقُوقِ
فَيَتَضَارَبُونَ في الرَّقَبَةِ وَالْوَاجِبُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ يَتَعَلَّقُ
بِذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ وَالذِّمَّةُ لَا تَتَضَايَقُ عن الْحُقُوقِ فَإِنْ وَقَعَ
فيها وَاحِدٌ فَمَاتَ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ جِنَايَتِهِ ثُمَّ
وَقَعَ آخَرُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ في الرَّقَبَةِ الْمَدْفُوعَةِ وَكَذَلِكَ
الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فكل ما يَحْدُثُ من جِنَايَةٍ بَعْدَ الدَّفْعِ
فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْأَوَّلَ في رَقَبَةِ الْعَبْدِ
وَكُلُّ وَاحِدٍ منهم يَضْرِبُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى
بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ خَرَجَ عن عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ فَعَلَ ما
وَجَبَ عليه فَخَرَجَ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ
ثُمَّ الْجِنَايَةُ في حَقِّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْحَفْرِ
أَيْضًا وَالْحُكْمُ فيها وُجُوبُ الدَّفْعِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَى الْأَوَّلِ
دَفْعًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في سَبَبِ الْوُجُوبِ
كَأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعَةً وَاحِدَةً
وَلَوْ حَفَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْحَفْرِ قبل الْوُقُوعِ
ثُمَّ لَحِقَتْ الْجِنَايَاتُ فَذَلِكَ على الْمَوْلَى في قِيمَتِهِ يوم عَتَقَ
يَشْتَرِكُ فيها أَصْحَابُ الْجِنَايَاتِ التي كانت قبل الْعِتْقِ وَبَعْدَهُ
يَضْرِبُ في ذلك كُلَّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ جِنَايَةَ
الْقِنِّ وَإِنْ كَثُرَتْ فَالْوَاجِبُ فيها الدَّفْعُ وَالْوَلِيُّ
بِالْإِعْتَاقِ فوات ( ( ( فوت ) ) ) الدَّفْعَ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ
فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فَوَاتَ الدَّفْعِ حَصَلَ
بِالْإِعْتَاقِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ
أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم التَّدْبِيرِ بَلْ يوم الْجِنَايَةِ
وَإِنْ كان فَوَاتُ الدَّفْعِ بِالتَّدْبِيرِ لَكِنَّ التَّدْبِيرَ إنَّمَا
يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْجِنَايَةُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ
حِينَئِذٍ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ كان الْحَافِرُ مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ
قَلَّتْ الْجِنَايَةُ أو كَثُرَتْ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْجِنَايَةِ وهو
يَوْمُ الْحَفْرِ وَلَا تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ وَنُقْصَانُهَا لِأَنَّهُ
صَارَ جَانِيًا بِسَبَبِ الْحَفْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ
وَقْتَ الْجِنَايَةِ كما إذَا جَنَى بيده وَإِنْ كان مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ على
نَفْسِهِ لَا على مَوْلَاهُ كما إذَا جَنَى بيده وَتُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ يوم
الْحَفْرِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَدَفَعَ إنْسَانًا
وَأَلْقَاهُ فيها فَالضَّمَانُ على الدَّافِعِ لَا على الْحَافِرِ لِأَنَّ
الدَّافِعَ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً
وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا في قَعْرِ الْبِئْرِ فَسَقَطَ إنْسَانٌ فيها لَا
ضَمَانَ على الْحَافِرِ مع الْوَاضِعِ هَهُنَا كَالدَّافِعِ مع الْحَافِرِ وَلَوْ
جاء رَجُلٌ فَحَفَرَ من أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالضَّمَان على
الْأَوَّلِ كَذَا ذَكَر الْكَرْخِيُّ رحمه الله
وَذَكَر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْكِتَابِ يَنْبَغِي في الْقِيَاسِ أَنْ
يَضْمَنَ الْأَوَّلُ ثُمَّ قال وَبِهِ نَأْخُذُ ولم يذكر الِاسْتِحْسَانَ
وَذَكَر الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في
الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْجِنَايَةِ وَهِيَ
الْحَفْرُ فَيَشْتَرِكَانِ في الضَّمَانِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ حَصَلَ من الْأَوَّلِ وهو الْحَفْرُ
بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ وَالْحَفْرُ من الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ نَصْبِ
السِّكِّينِ أو وَضْعِ الْحَجَرِ في قَعْرِ الْبِئْرِ فَكَانَ الْأَوَّلُ
كَالدَّافِعِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه وَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَجَاءَ
إنْسَانٌ وَوَسَّعَ رَأْسَهَا فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
نِصْفَانِ
هَكَذَا أَطْلَقَ في الْكِتَابِ ولم يُفَصَّلْ
وَقِيلَ جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ على ما إذَا وَسَّعَ قَلِيلًا بِحَيْثُ
يَقَعُ رَجُلٌ في حَفْرِهِمَا
فَأَمَّا إذَا وَسَّعَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ في حَفْرِ الثَّانِي
فَالضَّمَانُ على الثَّانِي لَا على الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ إذَا كان
قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ في حَفْرِهِمَا كان الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ
____________________
(7/275)
وُجِدَ
مِنْهُمَا وهو حَفْرُهُمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا وإذا كان كَثِيرًا كان
الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ وُجِدَ من الثَّانِي فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ كَبَسَهَا فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَخْرَجَ ما كُبِسَ
فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالْكَبْسُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان بِالتُّرَابِ
وَالْحِجَارَةِ وإما كان بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنْ كان بِالْأَوَّلِ
فَالضَّمَانُ على الثَّانِي وَإِنْ كان بِالثَّانِي فَالضَّمَانُ على الْأَوَّلِ
لِأَنَّ الْكَبْسَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ يُعَدُّ طَمًّا لِلْبِئْرِ وَإِلْحَاقًا
له بِالْعَدَمِ فَكَانَ إخْرَاجُ ذلك منها بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ بِئْرٍ أُخْرَى
فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يُعَدُّ ذلك طَمًّا بَلْ
يُعَدُّ شَغْلًا لها
أَلَا يَرَى أَنَّهُ بَقِيَ أَثَرُ الْحَفْرِ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالتُّرَابِ
وَالْحِجَارَةِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَسَدَّ الْحَافِرَ رَأْسَهَا ثُمَّ جاء
إنْسَانٌ فَنَقَضَهُ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالضَّمَان على الْحَافِرِ لِأَنَّ
أَثَرَ الْحَفْرِ لم يَنْعَدِمْ بِالسَّدِّ لَكِنَّ السَّدَّ صَارَ مَانِعًا من
الْوُقُوعِ وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ أَزَالَ الْمَانِعَ وَزَوَالُ الْمَانِعِ
شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ
وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا في الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ عليه رَجُلٌ فَوَقَعَ في
بِئْرٍ حَفَرَهَا آخَرُ فَالضَّمَانُ على وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ
بِسَبَبِ التَّعَثُّرِ وَالتَّعَثُّرُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحَجَرِ وَالْوَضْعُ
تَعَدٍّ منه فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى وَضْعِ الْحَجَرِ
فَكَانَ الضَّمَانُ على وَاضِعِهِ وَإِنْ كان لم يَضَعْهُ أَحَدٌ وَلَكِنَّهُ
حِمْلُ السَّيْلِ فَالضَّمَانُ على الْحَافِرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ
يُضَافَ إلَى الْحَجَرِ لِعَدَمِ التَّعَدِّيَ منه فَيُضَافُ إلَى الْحَافِرِ
لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا في الْحَفْرِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَافِرُ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فقال الْحَافِرُ هو أَلْقَى
نَفْسَهُ فيها مُتَعَمِّدًا
وقال الْوَرَثَةُ بَلْ وَقَعَ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ في قَوْلِ أبي
يُوسُفَ الْآخَرِ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ قَوْلُ
الْوَرَثَةِ
وَجْهُ القول الْأَوَّلُ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ
الْعَاقِلَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ في الْبِئْرِ عَمْدًا وَالْقَوْلُ قَوْلُ من
يَشْهَدُ له الظَّاهِرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى وُجُوبِ
الضَّمَانِ فَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ على الْحَافِرِ الضَّمَانَ وهو يُنْكِرُ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ ما ( ( ( وما ) ) ) ذَكَرَ من
الظَّاهِرِ مُعَارَضٌ بِظَاهِرٍ آخَرَ وهو أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَارَّ على
الطَّرِيقِ الذي يَمْشِي فيه يَرَى الْبِئْرَ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فَبَقِيَ
الضَّمَانُ على أَصْلِ الْعَدَمِ
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَوَقَعَ رَجُلٌ فيها فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ
وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا
يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إما أن عَلِمَ حَالَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ خَرَجُوا
أَحْيَاءً فَأَخْبَرُوا عن حَالِهِمْ
وَإِمَّا أن لم يَعْلَمْ فَإِنْ عَلِمَ ذلك فَأَمَّا مَوْتُ الْأَوَّلِ فَلَا
يَخْلُو من سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في
الْبِئْرِ خَاصَّةً
وأما إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عليه خَاصَّةً
وَإِمَّا أن عَلِمَ أنه مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً
وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه وَإِمَّا
أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عليه
وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ
عليه
وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي
وَالثَّالِثِ عليه
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً فَالضَّمَان على
الْحَافِرِ لِأَنَّ الْحَافِرَ هو الْقَاتِلُ تَسْبِيبًا وهو مُتَعَدٍّ فيه
فَكَانَ الضَّمَانُ عليه فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عليه
خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هو الذي قَتَلَ نَفْسَهُ حَيْثُ جَرَّهُ على
نَفْسِهِ وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ هَدَرٌ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً فَالضَّمَانُ على
الثَّانِي لِأَنَّ الثَّانِيَ هو الذي جَرَّ الثَّالِثَ على الْأَوَّلِ حتى
أَوْقَعَهُ عليه
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه فَنِصْفُهُ
هَدَرٌ وَنِصْفُهُ على الثَّانِي لِأَنَّ جَرَّهُ الثَّانِيَ على نَفْسِهِ هَدَرٌ
لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ على نَفْسِهِ وَجَرُّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه مُعْتَبَرُ
فَهُدِرَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِيَ عليه
فَالنِّصْفُ على الْحَافِرِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ منه بِالْحَفْرِ وَالنِّصْفُ
هَدَرٌ لِجَرِّهِ الثَّانِيَ على نَفْسِهِ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه
فَالنِّصْفُ على الْحَافِرِ وَالنِّصْفُ على الثَّانِي لِأَنَّهُ هو الذي جَرَّ
الثَّالِثَ على الْأَوَّلِ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ ووقع ( ( ( ووقوع ) ) )
الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه فَالثُّلُثُ هَدَرٌ وَالثُّلُثُ على الْحَافِرِ
وَالثُّلُثُ على الثَّانِي لِأَنَّهُ مَاتَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ أحدها ( ( (
أحدهما ) ) ) هَدَرٌ وَهِيَ جَرُّهُ الثَّانِيَ على نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ
الْحَافِرِ وَجِنَايَةُ الثَّانِي بجره الثَّالِثَ على الْأَوَّلِ فَتُعْتَبَرُ
وَأَمَّا مَوْتُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أن عَلِمَ
أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ
مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ
بوقوعه ( ( ( بوقوع ) ) ) في الْبِئْرِ ووقع ( ( ( ووقوع ) ) ) الثَّالِثِ عليه
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً فَدِيَتُهُ على
الْأَوَّلِ وَلَيْسَ على الْحَافِرِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هو الذي جَرَّهُ
إلَى الْبِئْرِ فَكَانَ كَالدَّافِعِ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ
لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِ
____________________
(7/276)
نَفْسِهِ
حَيْثُ جَرَّ الثَّالِثَ على نَفْسِهِ فَهُدِرَ دَمُهُ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ في الْبِئْرِ ووقع ( ( ( ووقوع ) ) )
الثَّالِثِ عليه فَالنِّصْفُ هَدَرٌ وَالنِّصْفُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَاتَ
بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا فِعْلُ نَفْسِهِ وهو جَرُّهُ الثَّالِثَ على نَفْسِهِ
وَجِنَايَتُهُ على نَفْسِهِ هَدَرٌ وَالثَّانِي فِعْلُ غَيْرِهِ وهو جَرُّ
الْأَوَّلِ وَإِيقَاعُهُ في الْبِئْرِ وَأَمَّا مَوْتُ الثَّالِثِ فَلَهُ وَجْهٌ
وَاحِدٌ لَا غَيْرُ وهو سُقُوطُهُ في الْبِئْرِ وَدِيَتُهُ على الثَّانِي
لِأَنَّهُ هو الذي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ وَأَوْقَعَهُ فيه
هذا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ حَالُ وُقُوعِهِمْ وَأَمَّا إذَا لم يُعْلَمْ فَلَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ وَإِمَّا أن وُجِدُوا
مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ على الْحَافِرِ
وَدِيَةُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ على الثَّانِي
وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ فَالْقِيَاسُ هَكَذَا أَيْضًا وهو أَنْ يَكُونَ
دِيَةُ الْأَوَّلِ على الْحَافِرِ وَدِيَةُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ وَدِيَةُ
الثَّالِثِ على الثَّانِي
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ دِيَةُ الْأَوَّلِ أَثْلَاثٌ ثُلُثٌ على الْحَافِرِ وَثُلُثٌ
على الثَّانِي وَثُلُثٌ هَدَرٌ
وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَانِ نِصْفٌ هَدَرٌ وَنِصْفٌ على الْأَوَّلِ وَدِيَةُ
الثَّالِثِ كُلُّهَا على الثَّانِي ولم يذكر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في
الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَوْلُ من وَجَّهَ الْقِيَاسَ أَنَّهُ وُجِدَ لِمَوْتِ كل
وَاحِدٍ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وهو الْحَفْرُ لِلْأَوَّلِ وَالْجَرُّ من الْأَوَّلِ
لِلثَّانِي وَالْجَرُّ من الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَإِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إلَى
الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ أَصْلٌ في الشَّرِيعَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ
كُلُّ وَاحِدٍ منها صَالِحٌ لِلْمَوْتِ وُقُوعُهُ في الْبِئْرِ وَوُقُوعُ
الثَّانِي وَوُقُوعُ الثَّالِثِ عليه إلَّا أَنَّ وُقُوعَ الثَّانِي عليه حَصَلَ
بِجَرِّهِ إيَّاهُ على نَفْسِهِ فَهَدَرَ الثُّلُثُ وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ ثُلُثٌ
على الْحَافِرِ بِحَفْرِهِ وَثُلُثٌ على الثَّانِي بِجَرِّهِ الثَّالِثَ على
نَفْسِهِ وَوُجِدَ في الثَّانِي شَيْئَانِ الْحَفْرُ وَوُقُوعُ الثاني ( ( (
الثالث ) ) ) عليه إلَّا أَنَّ وُقُوعَهُ عليه حَصَلَ بِجَرِّهِ فَهَدَرَ نِصْفَ
الدِّيَةِ وَبَقِيَ النِّصْفُ على الْحَافِرِ ولم يُوجَدْ في الثَّالِثِ إلَّا
سَبَبٌ وَاحِدً وهو جَرُّ الثَّانِي إيَّاهُ إلَى الْبِئْرِ وَالْأَصْلُ في
الْأَسْبَابِ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ وَاعْتِبَارُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
الْحُكْمُ ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ له بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَحَفَرَ
فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَإِنْ كانت الْبِئْرُ في فِنَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ
فَالضَّمَانُ عليه لَا على الْأَجِيرِ لِأَنَّ له وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ
بِفِنَائِهِ إذَا لم يَتَضَمَّنْ الضَّرَرَ بِالْمَارَّةِ على أَصْلِهِمَا
مُطْلَقًا وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا لم يَمْنَعْ منه
مَانِعٌ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَفْرِ إلَيْهِ فإذا حَفَرَ في
فِنَائِهِ انْتَقَلَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ
فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه كَذَا هذا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك في
فِنَائِهِ فَإِنْ أَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ أَنَّ ذلك ليس من فِنَائِهِ
فَالضَّمَانُ على الْأَجِيرِ لَا على الْآمِرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لم يَحْفِرْ
بِأَمْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلَهُ مَقْصُورًا عليه كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْحَفْرُ من
نَفْسِهِ من غَيْرِ أَمْرٍ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَإِنْ لم يُعْلِمْهُ
فَالضَّمَانُ على الْآمِرِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْأَمْرِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ في
الطَّرِيقِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَأْمُرُ بِمَا يَمْلِكَهُ مُطْلَقًا عَادَةً
فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ وهو ضَمَانُ الْكَفَالَةِ في الْحَقِيقَةِ
كَأَنَّهُ ضَمِنَ له ما يَلْزَمُهُ من الْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ
وَلَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ
فيها إنْسَانٌ فَإِنْ كان الْحَفْرُ في فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ على عَاقِلَةِ
الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ في هذا الْمَكَانِ
فَيَنْتَقِلُ فِعْلُهُ إلَى الْمَوْلَى كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان في
غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ في رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى
بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ لِأَنَّ الآمر بِالْحَفْرِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ
فِنَائِهِ فَصَارَ مُبْتَدِئًا في الْحَفْرِ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ أَعْلَمَ
الْعَبْدَ أَنَّهُ ليس من فِنَائِهِ أو لم يُعْلِمْهُ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ
لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ على الْآمِرِ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْغُرُورِ على ما
بَيَّنَّا وَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فِيمَا بين الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ
فَيَسْتَوِي فيه الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَإِنْ كان الْحَفْرُ في الْمِلْكِ فَإِنْ
كان في مِلْكِ غَيْرِهِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ
فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ يَضْمَنُ الْحَافِرُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ
وَلَوْ قال صَاحِبُ الدَّارِ أنا أَمَرْتُهُ بِالْحَفْرِ وَأَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ
الْمَيِّتِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْوَرَثَةِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يُصَدَّقُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَفْرَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ظَاهِرًا
لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في
الْحَفْرِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَصَاحِبُ الدَّارِ بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُ
إبْرَاءَ الْجَانِي عن الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ
إقْرَارٌ منه بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لِلْحَالِ وهو الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ
فَيُصَدَّقُ
وَإِنْ كان في مِلْكِ نَفْسِهِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْحَفْرَ مُبَاحٌ
مُطْلَقٌ له فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ وَإِنْ كان في فعله ( ( (
فنائه ) ) ) يَضْمَنُ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ
كَالسَّيْرِ في الطَّرِيقِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةً يَحْفِرُونَ له بِئْرًا فَوَقَعَتْ عليهم من
حَفْرِهِمْ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ فَعَلَى كل وَاحِدٍ من الثَّلَاثَةِ رُبْعُ
الدِّيَةِ وَهَدَرَ
____________________
(7/277)
الرُّبْعُ
لِأَنَّهُ مَاتَ من أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ إلَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ على
نَفْسِهِ هَدَرٌ فَبَطَلَ الرُّبْعُ وَبَقِيَ جِنَايَاتُ أَصْحَابِهِ عليه
فَتُعْتَبَرُ وَيَجِبُ عليهم ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) ) أَرْبَاعِ الدِّيَةِ على كل
وَاحِدٍ منهم الرُّبْعُ
وقد رَوَى الشَّعْبِيُّ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى على
الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا وَهُنَّ
ثَلَاثُ جواري ( ( ( جوار ) ) ) رَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى فَقَرَصَتْ
الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ فَقَضَى لِلَّتِي
وَقَصَتْ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ على صَاحِبَتِهَا وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ
لِأَنَّ الْوَاقِصَةَ أَعَانَتْ على نَفْسِهَا
وَرُوِيَ أَنَّ عَشَرَةً مَدُّوا نَخْلَةً فَسَقَطَتْ على أَحَدِهِمْ فَمَاتَ
فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه على كل وَاحِدٍ منهم بِعُشْرِ
وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ أَعَانَ على نَفْسِهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ حُرًّا وَعَبْدًا مَحْجُورًا وَمُكَاتَبًا
يَحْفِرُونَ له بِئْرًا فَوَقَعَتْ الْبِئْرُ عليهم من حَفْرِهِمْ فَمَاتُوا فَلَا
ضَمَانَ على الْمُسْتَأْجِرِ في الْحُرِّ وَلَا في الْمُكَاتَبِ وَيَضْمَنُ
قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لِمَوْلَاهُ أَمَّا الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ
فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ فِيهِمَا من الْمُسْتَأْجِرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ
لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُمَا في
الْحَفْرِ بِنَاءً على عَقْدٍ صَحِيحٍ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَوُقُوعُ الْبِئْرِ عَلَيْهِمَا حَصَلَ من غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ
الضَّمَانُ عليه وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ لم يَصِحَّ فَصَارَ
الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِعْمَالِهِ في الْحَفْرِ غَاصِبًا إيَّاهُ فَدَخَلَ في
ضَمَانِهِ فإذا هَلَكَ فَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
لِمَوْلَاهُ
ثُمَّ إذَا دَفَعَ قِيمَتَهُ إلَى الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى بدفع ( ( ( يدفع ) ) )
الْقِيمَةَ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَيَتَضَارَبُونَ فيها
فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ
بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْتَ كل وَاحِدٍ
منهم حَصَلَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ وَجِنَايَةِ صَاحِبَيْهِ
فَصَارَ قَدْرُ الثُّلُثِ من الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ تَالِفًا بِجِنَايَةِ
الْعَبْدِ وَجِنَايَةُ الْقِنِّ تُوجِبُ الدَّفْعَ وَلَوْ كان قِنًّا لَوَجَبَ
دَفْعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ يَتَضَارَبُونَ في رَقَبَتِهِ على
قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فإذا هَلَكَ وَجَبَ دَفْعُ الْقِيمَةِ إلَيْهِمْ
يَتَضَارَبُونَ فيها أَيْضًا فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فيها بِثُلُثِ دِيَةِ
الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْحُرَّ
مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ وَالْمُكَاتَبَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ
الْمَوْلَى على الْمُسْتَأْجِرِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَرَّةً أُخْرَى وَيُسَلِّمُ
له تِلْكَ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَغْصُوبِ منه
يرد ( ( ( برد ) ) ) قِيمَتِهِ إلَيْهِ لَكِنَّهُ رَدَّهُ مَشْغُولًا وقد كان
غَصْبُهُ فَارِغًا فلم يَصِحَّ رَدُّهُ في حَقِّ الشُّغْلِ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ
مَرَّةً أُخْرَى وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ على عَاقِلَةِ الْحُرِّ
بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ من وَقْتِ
الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ من الْحُرِّ على ثُلُثِ عبد
الْمُسْتَأْجِرِ فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ فَتُؤْخَذُ من عَاقِلَتِهِ
وَيَأْخُذُ وَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ أَيْضًا من عَاقِلَةِ الْحُرِّ ثُلُثَ قِيمَةَ
الْمُكَاتَبِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ من الْحُرِّ على ثُلُثِ قِيمَتِهِ فَيَضْمَنُ
ثُلُثَ قِيمَتِهِ فَتُؤْخَذُ من عَاقِلَتِهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ من تَرِكَةِ
الْمُكَاتَبِ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ بين وَرَثَةِ الْحُرِّ وَبَيْنَ
الْمُسْتَأْجِرِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ منه على الْحُرِّ وَعَلَى الْعَبْدِ
يَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَيَضْرِبُ الْمُسْتَأْجِرُ
بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ جَنَى على ثُلُثِ الْحُرِّ وَعَلَى ثُلُثِ
الْعَبْدِ فَأَتْلَفَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ وَالْحُرُّ مَضْمُونٌ
بِالدِّيَةِ وَالْعَبْدُ بِالْقِيمَةِ وقد مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَبْدَ
بِالضَّمَانِ فَكَانَ ضَمَانُ الْوَارِدَةِ على مِلْكِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَقَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا في سُوقِ الْعَامَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ
فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ إنْ كان الْحَفْرُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ
لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِهِ يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ إذا اتَّخَذَ
قَنْطَرَةً لِلْعَامَّةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ ما كان من مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كان الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا
دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً نص ( ( ( كالثابت ) ) )
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ما يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ عَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ كان حَقًّا لهم وَالتَّدْبِيرُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ إلَى
الْإِمَامِ فَكَانَ الْحَفْرُ فيه بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْحَفْرِ في دَارِ
إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْحَافِرِ في الطَّرِيقِ وَكَذَلِكَ من كان في مَعْنَى
الْحَافِرِ مِمَّنْ يُحْدِثُ شيئا في الطَّرِيقِ كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إلَى
طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو نَصَبَ فيه مِيزَابًا فَصَدَمَ إنْسَانًا فَمَاتَ أو
بَنَى دُكَّانًا أو وَضَعَ حَجَرًا أو خَشَبَةً أو مَتَاعًا أو قَعَدَ في
الطَّرِيقِ لِيَسْتَرِيحَ فَعَثَرَ بِشَيْءٍ من ذلك عَاثِرٌ فَوَقَعَ فَمَاتَ أو وَقَعَ
على غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ أو حَدَثَ بِهِ أو بِغَيْرِهِ من ذلك الْعَثْرَةِ
وَالسُّقُوطِ جِنَايَةٌ من قَتْلٍ أو غَيْرِهِ أو صَبَّ مَاءً في الطَّرِيقِ
فَزُلِقَ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ في ذلك كُلِّهِ ضَامِنٌ
وَكَذَلِكَ ما عَطِبَ بِذَلِكَ من الدَّوَابِّ لِأَنَّهُ سَبَّبَ التَّلَفَ
بِإِحْدَاثِ هذه الْأَشْيَاءَ وهو مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ فما تَوَلَّدَ منه
يَكُونُ مَضْمُونًا عليه كَالْمُتَوَلِّدِ من الرَّمْيِ
ثُمَّ ما كان من الْجِنَايَةِ في بَنِي آدَمَ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةَ إذَا
بَلَغَتْ
____________________
(7/278)
الْقَدْرَ
الذي تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ وهو نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ وما لم
يَبْلُغْ ذلك الْقَدْرَ
أو كان منها في غَيْرِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ في مَالِهِ لِأَنَّ تَحْمِيلَ
الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ منهم وقد قال
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ في بَنِي آدَمَ بهذا الْقَدْرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ
فِيمَا دُونَهُ وفي غَيْرِ بَنِي آدَمَ على الْأَصْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عليه وَلَا
يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لو كان وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عليه وَلَا الْوَصِيَّةَ لو
كان أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لم يُبَاشِرْ الْقَتْلَ
وقد قالوا فِيمَنْ وَضَعَ كُنَاسَةً في الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بها إنْسَانٌ أنه
يَضْمَنُ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِوَضْعِهِ وهو في الْوَضْعِ متعد ( ( ( معتد )
) )
وقال مُحَمَّدٌ إنْ وَضَعَ ذلك في طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وهو من أَهْلِهِ لم
يَضْمَنْ لِعَدَمِ التَّعَدِّي منه إذْ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بين أَهْلِ
السِّكَّةِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَهْلِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالدَّارِ
الْمُشْتَرَكَةِ
وَلَوْ سَقَطَ الْمِيزَابُ الذي نَصَبَهُ صَاحِبُ الدَّارِ إلَى طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ على إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ إنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ في
الْحَائِطِ لم يَضْمَنْ لِأَنَّهُ في ذلك الْقَدْرِ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ
نَفْسِهِ فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فيه وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ إلَى
الطَّرِيقِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في إخْرَاجِهِ إلَى الطَّرِيقِ وَإِنْ
أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جميعا يَضْمَنُ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في
النِّصْفِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان لَا يَدْرِيَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنُ
شيئا لِأَنَّهُ إنْ كان أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان
أَصَابَهُ الطَّرَف الْخَارِج يَضْمَنُ وَالضَّمَانُ لم يَكُنْ وَاجِبًا فَوَقَعَ
الشَّكُّ في وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ الشك ( ( ( بالشك ) ) )
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ النِّصْفَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْرِفْ الطَّرَفَ
الذي أَصَابَهُ أنه الدَّاخِلُ أو الْخَارِجُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَصَابَهُ
الطَّرَفَانِ جميعا كما في الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى أنه إذَا لم يُعْرَفْ
التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ في مَوْتِهِمْ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ مَاتُوا جُمْلَةً
وَاحِدَةً في أَوَانٍ وَاحِدٍ حتى لَا يَرِثَ الْبَعْضُ من الْبَعْضِ كَذَا هذا
وَلَوْ أَحْدَثَ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا في الْمَسْجِدِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا في
الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَاءَ أو بَنَى فيه بِنَاءً دُكَّانًا أو غَيْرَهُ
فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَإِنْ كان الْحَافِرُ وَالْبَانِي من أَهْلِ الْمَسْجِدِ
فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ كان من غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ أَهْلِ
الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ تَدْبِيرَ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فما فَعَلُوهُ
لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليهم كَالْأَبِ أو الْوَصِيِّ إذَا فَعَلَ شيئا من ذلك في
دَارِ الْيَتِيمِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ إذَا فَعَلَ في الْوَقْفِ
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في
الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فإذا فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ
كان مُتَعَدِّيًا فَكَانَ مَضْمُونًا عليه
وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا أو بَسَطَ حَصِيرًا أو أَلْقَى فيه الْحَصَى فَإِنْ كان
من أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ ذلك
الْمَسْجِدِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ
فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وفي
قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ كُلُّ
وَاحِدِ من آحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبِيلٍ من إقَامَةِ مَصَالِحِهِ وَلِأَنَّ
هذه الْمَصَالِحَ من عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وقد قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
{ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ من آمَنَ بِاَللَّهِ } من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
إلَّا أَنَّ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ضَرْبَ اخْتِصَاصٍ بِهِ فَيَظْهَرُ ذلك في
التَّصَرُّفِ في نَفْسِهِ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ لَا في الْقِنْدِيلِ
وَالْحَصِيرِ كَالْمَالِكِ مع الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ
بَسْطِ الْحَصِيرِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ في دَارِ الْإِعَارَةِ وَلَيْسَ له
وِلَايَةُ الْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ التَّدْبِيرَ في
مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَا إلَى غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ
أَنَّ لهم وِلَايَةَ مَنْعِ غَيْرِهِمْ عن التَّعْلِيقِ وَالْبَسْطِ وَعِمَارَةِ
الْمَسْجِدِ فَكَانَ الْغَيْرُ مُتَعَدِّيًا في فِعْلِهِ فَالْمُتَوَلِّدُ منه
يَكُونُ مَضْمُونًا عليه كما لو وَضَعَ شيئا في دَارِ غَيْرِهِ يغير ( ( ( بغير )
) ) إذْنِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ وَلِهَذَا ضَمِنَ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ
كَذَا هذا وَكَوْنُ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُ
اخْتِصَاصَ أَهْلِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ في مَصَالِحِهِ كَالْكَعْبَةِ
فَإِنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اُخْتُصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِمَفَاتِحِهَا
حتى رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَخَذَ مفتاح ( ( ( مفاتح
) ) ) الْكَعْبَةِ منهم وَدَفَعَهُ إلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رضي اللَّهُ عنه
عِنْدَ طَلَبِهِ ذلك أَمَرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِرَدِّهِ إلَى بَنِي
شَيْبَةَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا }
وَلَوْ جَلَسَ في الْمَسْجِدِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ إنْ كان في الصَّلَاةِ لَا
يَضْمَنُ الْجَالِسُ سَوَاءٌ كان الْجَالِسُ من أَهْلِ الْمَسْجِدِ أو لم يَكُنْ
من أَهْلِهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ فَلَوْ أُخِذَ الْمُصَلِّي
بِالضَّمَانِ لَصَارَ الناس مَمْنُوعِينَ عن الصَّلَاةِ في الْمَسَاجِدِ وَهَذَا
لَا يَجُوزُ
وَإِنْ جَلَسَ لِحَدِيثٍ أو نَوْمٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ يَضْمَنُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وفي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجُلُوسَ في الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ من
الحديث وَالنَّوْمِ مُبَاحٌ فلم
____________________
(7/279)
يَكُنْ
الْهَلَاكُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ هو مُتَعَدٍّ فيه فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كما لو
جَلَسَ في دَارِهِ فَعَبَرَ عليه إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ لَا
لِلْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ فإذا شَغَلَهُ بِذَلِكَ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ
كما لو جَلَسَ في الطَّرِيقِ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ
يَضْمَنُ لِأَنَّ الطَّرِيقَ جُعِلَ لِلِاجْتِيَازِ لَا لِلْجُلُوسِ وإذا جَلَسَ
فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُمَا الْحَدِيثُ وَالنَّوْمُ مُبَاحٌ في الْمَسْجِدِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ
بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ولم يُوجَدْ الشَّرْطُ فَكَانَ تَعَدِّيًا
وَلَوْ جَلَسَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أو لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أو لِعِبَادَةٍ من
الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ على أَصْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ
لِأَنَّهُ لو جَلَسَ لِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَا يَضْمَنُ فإذا جَلَسَ لِقُرْبَةٍ
فَهُوَ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ في الصَّلَاةِ على
لِسَانِ رسول اللَّهِ وقال بَعْضُهُمْ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ ليس في الصَّلَاةِ
حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُصَلِّي في حَقِّ الثَّوَابِ لَا غَيْرُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا الْجِنْسِ جِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِأَنْ سَاقَ دَابَّةً في
طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو قَادَهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا بيدها ( ( ( بيديها ) )
) أو بِرِجْلِهَا أو كَدَمَتْ أو صَدَمَتْ أو خَبَطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا
ذَكَرْنَا من الْأَصْلِ أَنَّ السَّوْقَ وَالْقَوْدَ في الطَّرِيقِ مُبَاحٌ
بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فإذا حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِهِ ولم يُوجَدْ
الشَّرْطُ فَوَقَعَ تَعَدِّيًا فَالْمُتَوَلِّدُ منه فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ
عنه يَكُونُ مَضْمُونًا وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه بِأَنْ يَذُودَ
الناس عن الطَّرِيقِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا وَسَوَاءٌ كان السَّائِقُ أو الْقَائِدُ
رَاجِلًا أو رَاكِبًا إلَّا أَنَّهُ إذَا كان رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
إذَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا
وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ وَإِنْ كان رَاجِلًا لَا كَفَّارَةَ عليه
وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ هذه الْأَحْكَامَ يَتَعَلَّقُ
ثُبُوتِهَا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا بِالتَّسْبِيبِ وَالْمُبَاشَرَةِ من
الرَّاكِبِ لَا من غَيْرِهِ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ قَائِدًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في التَّسْبِيبِ فَيَشْتَرِكَانِ في الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا أو كان أَحَدُهُمَا
قَائِدًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ
الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ على
الرَّاكِبِ وَحْدَهُ فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لِوُجُودِ
الْقَتْلِ منه وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ قَادَ قِطَارًا فما أَصَابَ الْأَوَّلُ
أو الْآخِرُ أو الْأَوْسَطُ إنْسَانًا بِيَدٍ أو رِجْلٍ أو صَدَمَ إنْسَانًا
فَقَتَلَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا هو سَبَبُ حُصُولِ
التَّلَفِ فَيَضْمَنُ وهو مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه كما إذَا وَضَعَ
حَجَرًا في الطَّرِيقِ أو حَفَرَ فيه بِئْرًا فَإِنْ كان معه سَائِقٌ في آخِرِ
الْقِطَارِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ
التَّلَفِ وَإِنْ كان السَّائِقُ في وَسَطِ الْقِطَارِ فما أَصَابَ مِمَّا خَلْفَ
هذا السَّائِقِ وما بين يَدَيْهِ شيئا فَهُوَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ ما بين يَدَيْهِ
هو له سَائِقٌ وَالْأَوَّلُ له قَائِدٌ وما خَلْفَهُ هُمَا له قَائِدَانِ أَمَّا
قَائِدُ الْقِطَارِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ بَعْضَهُ مَرْبُوطٌ بِبَعْضٍ
وَأَمَّا السَّائِقُ الذي في وَسَطِ الْقِطَارِ فَلِأَنَّهُ يسوقه ( ( ( بسوقه ) )
) ما بين يَدَيْهِ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ لِأَنَّ ما خَلْفَهُ يَنْقَادُ
بِسَوْقِهِ فَكَانَ قَائِدًا له وَالْقَوْدُ وَالسَّوْقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان أَحْيَانًا في وَسَطِ الْقِطَارِ وَأَحْيَانًا يَتَأَخَّرُ
وَأَحْيَانًا يَتَقَدَّمُ وهو يَسُوقُهَا في ذلك فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ
لِأَنَّهُ سَائِقٌ وَقَائِدٌ وَالسَّوْقُ وَالْقَوْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَحَدُهُمْ في مُقَدَّمَةِ الْقِطَارِ وَالْآخَرُ في
مؤخر ( ( ( مؤخرة ) ) ) الْقِطَارِ وَآخَرُ في وَسَطِهِ فَإِنْ كان الذي في
الْوَسَطِ وَالْمُؤَخَّرِ لَا يَسُوقَانِ وَلَكِنَّ الْمُقَدَّمَ يَقُودُ فما
أَصَابَ الذي قُدَّامُ الْوَسَطِ شيئا فَذَلِكَ كُلُّهُ على الْقَائِدِ لِأَنَّ
التَّلَفَ حَصَلَ بِسَبَبِ الْقَوْدِ وما أَصَابَ الذي خَلْفَهُ فَذَلِكَ على
الْقَائِدِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الذي في الْوَسَطِ لِأَنَّهُمَا قَائِدَانِ لِمَا
بَيَّنَّا وَعَلَى الْمُؤَخَّرِ أَيْضًا إنْ كان يَسُوقُ هو وَإِنْ كان لَا
يَسُوقُ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه صُنْعٌ وَإِنْ كَانُوا جميعا يَسُوقُونَ
فما تَلِفَ بِذَلِكَ فَضَمَانُهُ عليهم جميعا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ منهم جميعا
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْكَيْسَانِيَّاتِ لو أَنَّ رَجُلًا يَقُودُ قِطَارًا
وَآخَرُ من خَلْفِ الْقِطَارِ يَسُوقُهُ يَزْجُرُ الْإِبِلَ فَيَنْزَجِرْنَ
بِسَوْقِهِ وَعَلَى الْإِبِلِ قَوْمٌ في الْمَحَامِلِ نِيَامٌ فوطىء ( ( ( فوطئ )
) ) بَعِيرٌ منها إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ على عَاقِلَةِ الْقَائِدِ
وَالسَّائِقِ وَالرَّاكِبِ على الْبَعِيرِ الذي وطىء وَعَلَى الرَّاكِبِينَ على
الَّذِينَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ الذي وطىء على عَوَاقِلِهِمْ جميعا على عَدَدِ
الرؤوس وَالْكَفَّارَةُ على رَاكِبِ الْبَعِيرِ الذي وطىء خَاصَّةً أَمَّا
السَّائِقُ وَالْقَائِدُ فَلِأَنَّهُمَا مُقَرِّبَانِ الْقِطَارَ إلَى
الْجِنَايَةِ فَكَانَا مُسَبِّبَيْنِ لِلتَّلَفِ
وَأَمَّا الرَّاكِبُ لِلْبَعِيرِ الذي وطىء فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ التَّلَفَ
حَصَلَ بِفِعْلِهِ
____________________
(7/280)
وَأَمَّا
الرَّاكِبُونَ أَمَام الْبَعِيرِ الذي وطىء فَلِأَنَّهُمْ قَادَةٌ لِجَمِيعِ ما
خَلْفَهُمْ فَكَانُوا قَائِدِينَ لِلْبَعِيرِ الواطىء ضَرُورَةً فَكَانُوا
مُسَبِّبِينَ لِلتَّلَفِ أَيْضًا فَاشْتَرَكُوا في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عليهم وَإِنَّمَا كانت الْكَفَّارَةُ على رَاكِبِ
الْبَعِيرِ الذي وطىء خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِالْمُبَاشَرَةِ لِحُصُولِ
التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ إلَّا أَنَّ الدَّابَّةَ آلَةٌ له
فَكَانَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِهِ مُضَافًا إلَيْهِ فَكَانَ قَاتِلًا
بِالْمُبَاشَرَةِ
وَمَنْ كان من الرُّكْبَانِ خَلْفَ الْبَعِيرِ الذي وطىء لَا يَزْجُرُ الْإِبِلَ
وَلَا يَسُوقُهَا رَاكِبًا على بَعِيرٍ منها أو غَيْرِ رَاكِبٍ فَلَا ضَمَانَ على
أَحَدٍ منهم لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منهم سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ إذْ لم يسوقوا (
( ( يسرقوا ) ) ) الْبَعِيرَ الذي وطىء ولم يَقُودُوهُ فَصَارُوا كمتاع ( ( (
كالمتاع ) ) ) على الْإِبِلِ
وَلَوْ قَادَ قِطَارًا أو ( ( ( وعلى ) ) ) على بَعِيرٍ في وَسَطِ الْقِطَارِ
رَاكِبٌ لَا يَسُوقُ منه شيئا فَضَمَانُ ما كان بين يَدَيْهِ على الْقَائِدِ
خَاصَّةً وَضَمَانُ ما خَلْفَهُ عَلَيْهِمَا جميعا لِأَنَّ الرَّاكِبَ غَيْرُ
سَائِقٍ لِمَا بين يَدَيْهِ لِأَنَّ رُكُوبَهُ لِهَذَا الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا
لِمَا بين يَدَيْهِ كما أَنَّ مَشْيَهُ إلَى جَانِبِ الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ
سَوْقًا إيَّاهُ إذَا لم يَسُقْهُ وَلَكِنَّهُ سَائِقٌ لِمَا رَكِبَهُ لِأَنَّ
الْبَعِيرَ إنَّمَا يَسِيرُ بِرُكُوبِ الرَّاكِبِ وَحَثِّهِ وإذا كان سَائِقًا له
كان قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا
وإذا كان الرَّجُلُ يَقُودُ قِطَارًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَرَبَطَ إلَيْهِ بَعِيرًا
فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَالْقَائِدُ لَا يَخْلُو إمَّا أن
كان لَا يَعْلَمُ بِرَبْطِهِ وَإِمَّا أن عَلِمَ ذلك فَإِنْ لم يَعْلَمْ
فَالدِّيَةُ على الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ ثُمَّ عَاقِلَتُهُ
يَرْجِعُونَ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ
أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ على الْقَائِدِ فَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ تَسْبِيبًا
وَضَمَانُ الْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافٍ وأنه لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ
وَأَمَّا رُجُوعُ عَاقِلَةِ الْقَائِدِ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ فَلِأَنَّ
الرَّابِطَ مُتَعَدٍّ في الرَّبْطِ وهو السَّبَبُ في لُزُومِ الضَّمَانِ
لِلْقَائِدِ فَكَانَ الرُّجُوعُ عليه
وَكَذَلِكَ لو كانت الْإِبِلُ وُقُوفًا لَا تُقَادُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَرَبَطَ
إلَيْهَا بَعِيرًا وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَقَادَ الْبَعِيرَ مَعَهَا فوطىء (
( ( فوطئ ) ) ) الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ على الْقَائِدِ
يَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ
الْقَائِدِ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ لِأَنَّ الرَّابِطَ وَإِنَّ تَعَدَّى في
الرَّبْطِ وإنه سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنَّ الْقَائِدَ لَمَّا قَادَ
الْبَعِيرَ عن ذلك الْمَكَانِ فَقَدْ أَزَالَ تَعَدِّيَهُ فَيَزُولُ الضَّمَانُ
عنه وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَائِدِ كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا في الطَّرِيق فَجَاءَ
إنْسَانٌ فَدَحْرَجَهُ عن ذلك الْمَكَانِ ثُمَّ عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ
على الثَّانِي لَا على الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الرَّبْطُ وَالْإِبِلُ سَائِرَةٌ
فلم يَسْتَقِرَّ مَكَانُ التَّعَدِّي لِيَزُولَ بِالِانْتِقَالِ عنه فَبَقِيَ
التَّعَدِّيَ بِبَقَاءِ الرَّبْطِ
وَإِنْ كان الْقَائِدُ عَلِمَ بِالرَّبْطِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ جميعا فَقَادَهُ
على ذلك فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ على
الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ وَلَا تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ على عَاقِلَةِ
الرَّابِطِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَادَ مع عِلْمِهِ بِالرَّبْطِ فَقَدْ رضي بِمَا
يلحقه ( ( ( لحقه ) ) ) من الْعُهْدَةِ في ذلك فَصَارَ عِلْمُهُ بِالرَّبْطِ
بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالرَّبْطِ وَلَوْ رَبَطَ بِأَمْرِهِ كان الْأَمْرُ على ما
وَصَفْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ سَقَطَ سَرْجُ دَابَّةٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالدِّيَةُ على السَّائِقِ
أو الْقَائِدِ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَقْصِيرٍ منه في شَدِّ
الْحِزَامِ فَكَانَ مُسَبِّبًا لِلْقَتْلِ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا النَّوْعِ جِنَايَةُ النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّابَّةَ الْمَنْخُوسَةَ أو الْمَضْرُوبَةَ
إمَّا أَنْ يَكُونَ عليها رَاكِبٌ وَإِمَّا أن لَا يَكُونَ عليها رَاكِبٌ فَإِنْ
كان عليها رَاكِبٌ فَالرَّاكِبُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان سَائِرًا وَإِمَّا أن
كان وَاقِفًا وَالسَّيْرُ وَالْوُقُوفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعٍ أُذِنَ له
بِذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعٍ لم يُؤْذَنْ له بِهِ وَالنَّاخِسُ أو
الضَّارِبُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ نَخَسَ أو ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ
الرَّاكِبِ أو بِأَمْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذلك بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ
فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أو ذَنَبِهَا أو نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ
إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَإِنْ فَعَلَتْ شيئا من ذلك على فَوْرِ النَّخْسَةِ
وَالضَّرْبَةِ فَالضَّمَانُ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ يَتَحَمَّلُ عنهما
عَاقِلَتُهُمَا لَا على الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كان الرَّاكِبُ وَاقِفًا أو سَائِرًا
وَسَوَاءٌ كان في سَيْرِهِ أو وُقُوفِهِ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّيْرِ فيه
وَالْوُقُوفِ أو فِيمَا لم يُؤْذَنْ بِأَنْ كان يَسِيرُ في مِلْكِهِ أو في طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ أو في مِلْكِ الْغَيْرِ أو كان يَقِفُ في مِلْكِهِ أو في سُوقِ
الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ
الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبِ النَّخْسِ أو الضَّرْبِ وهو مُتَعَدٍّ في السَّبَبِ
فَيَضْمَنُ ما تَوَلَّدَ منه كما لو دَفَعَ الدَّابَّةَ على غَيْره وَالرَّاكِبُ
الْوَاقِفُ على طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا أَيْضًا لَكِنَّهُ
ليس بِمُتَعَدٍّ في التَّعَدِّي وَالنَّاخِسُ مُتَعَدٍّ في التَّعَدِّي وَكَذَا
الضَّارِبُ فَأَشْبَهَ الدَّافِعَ مع الْحَافِرِ وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ ضَمَّنَ النَّاخِسَ دُونَ الرَّاكِبِ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَعَلَ هَكَذَا وكان
ذلك مِنْهُمَا بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُعْرَفْ
____________________
(7/281)
الْإِنْكَارُ
من أَحَدٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْفَوْرُ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ عِنْدَ
سُكُونِ الْفَوْرِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الدَّابَّةِ لَا إلَى النَّاخِسِ
وَالضَّارِبِ
وَلَوْ نَخَسَهَا أو ضَرَبَهَا وهو سَائِرٌ عليها فَوَطِئَتْ إنْسَانًا
فَقَتَلَتْهُ
لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ
الْمَوْتَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَقَدْ اشْتَرَكَا في سَبَبِ وُجُوبِ
الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان وَاقِفًا عليها لِمَا قُلْنَا
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ على الرَّاكِبِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ منه مُبَاشَرَةً كما
قُلْنَا في الرَّاكِبِ مع السَّائِقِ أو الْقَائِدِ
وَلَوْ نَخَسَهَا أو ضَرَبَهَا فَوَثَبَتْ وَأَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَالنَّاخِسُ أو
الضَّارِبُ ضَامِنٌ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِسَبَبٍ هو مُتَعَدٍّ فيه وهو النَّخْسُ
وَالضَّرْبُ فَيَضْمَنُ ما تَوَلَّدَ منه فَإِنْ لم تُلْقِهِ وَلَكِنَّهَا
جَمَحَتْ بِهِ فما أَصَابَتْ في فَوْرِهَا ذلك فَعَلَى النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِعْلَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ
وهو مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ فَإِنْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ النَّاخِسَ أو
الضَّارِبَ فَقَتَلَتْهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هَلَكَ من جِنَايَةِ نَفْسِهِ
وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ هَدَرٌ
هذا إذَا نَخَسَ أو ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ فَأَمَّا إذَا فَعَلَ ذلك
بِأَمْرِ الرَّاكِبِ فَإِنْ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّيْرِ
فيه بِأَنْ كان يَسِيرُ في مِلْكِ نَفْسِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو
وَاقِفًا فِيمَا أُذِنَ له بِالْوُقُوفِ بِأَنْ وَقَفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ أو في
سُوقِ الْخَيْلِ وَغَيْرِهِ من الْمَوَاضِعِ التي أُذِنَ بِالْوُقُوفِ فيها
فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ على
النَّاخِسِ وَلَا على الضَّارِبِ وَلَا على الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا
يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَخَسَ أو ضَرَبَ
بِنَفْسِهِ فَنَفَحَتْ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفْحَةَ في حَالِ السَّيْرِ
وَالْوُقُوفَ في مَوْضِعٍ إذن بِالسَّيْرِ أو الْوُقُوفِ فيه غَيْرُ مَضْمُونٍ على
أَحَدٍ لَا على الرَّاكِبِ وَلَا على السَّائِقِ وَلَا على الْقَائِدِ وَإِنْ كان
الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا لم يُؤْذَنْ له بِالسَّيْرِ بِأَنْ كان يَسِيرُ في
مِلْكِ الْغَيْرِ أو كان وَاقِفًا فِيمَا لم يُؤْذَنْ له بِالْوُقُوفِ فيه كما
إذَا كان وَاقِفًا في مِلْكِ غَيْرِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَنَفَحَتْ
فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ نِصْفٌ على النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ وَنِصْفٌ
على الرَّاكِبِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا
كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى ابْنَ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الضَّمَانَ على
الرَّاكِبِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاخِسَ أو الضَّارِبَ نَخَسَ أو ضَرَبَ لها بِإِذْنِ
الرَّاكِبِ وهو رَاكِبٌ وهو يَمْلِكُ ذلك بِنَفْسِهِ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ
فَكَانَ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّاخِسَ أو الضَّارِبَ مع الرَّاكِبِ
اشْتَرَكَا في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
أَمَّا النَّاخِسُ أو الضَّارِبُ فَلَا يُشْكَلُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَتْلِ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على سَبِيلِ التَّعَدِّي
وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَمْرِ بِالنَّخْسِ أو الضَّرْبِ
نَاخِسًا أو ضَارِبًا وَالنَّفْحَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ من نَخْسِهِ وَضَرْبِهِ في
هذه الْمَوَاضِعِ مَضْمُونَةٌ عليه إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا
لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ
هذا إذَا نَفَحَتْ فَأَمَّا إذَا صَدَمَتْ فَإِنْ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا أو
وَاقِفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَلَا على
الرَّاكِبِ لِأَنَّ فِعْلَ النَّخْسِ وَالضَّرْبِ مُضَافٌ إلَى الرَّاكِبِ
لِحُصُولِهِ بِأَمْرِهِ وَالصَّدْمَةُ في الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ على
الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كان سَائِرًا أو وَاقِفًا وَإِنْ كان سَيْرُهُ أو وُقُوفُهُ في
طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو في مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على
الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في النَّفْحَةِ إذَا كان الرَّاكِبُ وَاقِفًا في
مَوْضِعٍ لم يُؤْذَنْ بِالْوُقُوفِ فيه لِأَنَّ الصَّدْمَةَ مَضْمُونَةٌ على
الرَّاكِبِ إذَا كان في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَاقِفًا كان أو سَائِرًا وَكَذَا
في مِلْكِ الْغَيْرِ فيتأتى ( ( ( فيأتي ) ) ) فيه الْخِلَافُ الذي ذَكَرْنَا في
النَّفْحَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا نَفَحَتْ أو صَدَمَتْ فَأَمَّا إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ
فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا أو وَاقِفًا في أَيِّ
مَوْضِعٍ كان فِيمَا أُذِنَ فيه أو لم يُؤْذَنْ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في سَبَبِ
الْقَتْلِ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَالدَّابَّةِ وَفِعْلِ
النَّاخِسِ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ على الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً
فَصَارَ الرَّاكِبُ مع النَّاخِسِ كَالرَّاكِبِ مع السَّائِقِ وَالْقَائِدِ أَنَّ
الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ وَالْكَفَّارَةُ على الرَّاكِبِ خَاصَّةً كَذَا
هَهُنَا
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان على الدَّابَّةِ الْمَنْخُوسَةِ أو الْمَضْرُوبَةِ
رَاكِبٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ عليها رَاكِبٌ
فَإِنْ لم يَكُنْ لَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ فَنَخَسَهَا إنْسَانٌ أو ضَرَبَهَا فما
أَصَابَتْ شيئا على فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ فَضَمَانُهُ على النَّاخِسِ
وَالضَّارِبِ في أَيِّ مَوْضِعٍ كانت الدَّابَّةُ لِأَنَّهُ سَبَّبَ الْإِتْلَافَ
بِالنَّخْسِ وَالضَّرْبِ وهو مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ فما تَوَلَّدَ منه يَكُونُ
مَضْمُونًا عليه
وَإِنْ كان عليها سَائِقٌ أو قَائِدٌ فَنَخَسَ أو ضَرَبَ
____________________
(7/282)
بِغَيْرِ
أَمْرِهِ فَنَفَحَتْ أو نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ أو وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ
فَالضَّمَانُ على النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ لَا على السَّائِقِ وَالْقَائِدِ في
أَيِّ مَوْضِعٍ كان النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ لِأَنَّ النَّاخِسَ مع السَّائِقِ
وَالْقَائِدِ كَالدَّافِعِ مع الْحَافِرِ لِأَنَّهُ بِالنَّخْسِ أو الضَّرْبِ
كَأَنَّهُ دَفَعَ الدَّابَّةَ على غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كان لها سَائِقٌ
وَقَائِدٌ يَقُودُ أَحَدُهُمَا وَيَسُوقُ الْآخَرُ فَنَخَسَ أو ضَرَبَ بِغَيْرِ
إذْنِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالضَّمَانُ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ لَا
عَلَيْهِمَا في أَيِّ مَوْضِعٍ كان النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
النَّاخِسَ مُتَعَمِّدٌ كَالدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ وَكَذَا الضَّارِبُ وَلَا
تَعَمُّدَ من السَّائِقِ وَالْقَائِدِ
وَإِنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَنَفَحَتْ فَإِنْ كان
سَوْقُهُ أو قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فيه فَلَا ضَمَانَ
على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَإِنْ فَعَلَ ذلك بِأَمْرِ السَّائِقِ أو الْقَائِدِ
فَإِنْ كان يَسُوقُ أو يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فيه
بِأَنْ كان في مِلْكِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا ضَمَانَ على أَحَدٍ
لِأَنَّ فِعْلَهُ يُضَافُ إلَيْهِ كَالسَّائِقِ أو الْقَائِدِ
وَإِنْ كان يَسُوقُ أو يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ له بِذَلِكَ بِأَنْ كان في مِلْكِ
الْغَيْرِ فَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرْنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الضَّمَانُ على
النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَعَلَى السَّائِقِ أو الْقَائِدِ وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِمَا وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ ابن رُسْتُمَ عن أبي يُوسُفَ الضَّمَانُ
على السَّائِقِ أو الْقَائِدِ خَاصَّةً وَإِنْ صَدَمَتْ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا
فَإِنْ كان السَّائِقُ يَسُوقُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ
لِأَنَّ فِعْلَ النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ بِأَمْرِ السَّائِقِ أو الْقَائِدِ مُضَافٌ
إلَيْهِ وَالصَّدْمَةُ في الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ على السَّائِقِ
وَالْقَائِدِ وَالرَّاكِبِ
وَإِنْ كان يَسُوقُ أو يَقُودُ في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو في مِلْكِ الْغَيْرِ
فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَإِنْ وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ أَيْضًا سَوَاءٌ
كان سَوْقُهُ أو قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّوْقِ أو الْقَوْدِ فيه أو لم
يَكُنْ لِأَنَّ الْوَطْأَةَ مَضْمُونَةٌ على كل حَالٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَإِنْ وَطِئَتْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ في قِيَاسِ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَعَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ
نِصْفَانِ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ على
السَّائِقِ وَالْقَائِدِ خَاصَّةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ جِنَايَةُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا سَقَطَ على رَجُلٍ
فَقَتَلَهُ أو على مَتَاعٍ فَأَفْسَدَهُ أو على دَارٍ فَهَدَمَهَا أو على
حَيَوَانٍ فَعَطِبَ بِهِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْحَائِطَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بُنِيَ
مُسْتَوِيًا مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ
وَإِمَّا أن بُنِيَ مَائِلًا من الْأَصْلِ فَإِنْ بنى مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ
فَمَيَلَانُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الطَّرِيقِ وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ فَإِنْ كان إلَى الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو من أَنْ
يَكُونَ نَافِذًا وهو طَرِيقُ الْعَامَّةِ أو غير نَافِذٍ وهو السِّكَّةُ التي
لَيْسَتْ بِنَافِذَةٍ فَإِنْ كان نَافِذًا فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا
ذَكَرْنَا يَجِبُ الضَّمَانُ على صَاحِبِ الْحَائِطِ إذَا وُجِدَ شَرَائِطُ
وُجُوبِهِ فَيَقَعُ الْكَلَامَ في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ ماهية الضَّمَانِ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هو التَّعَدِّي بِالتَّسْبِيبِ
إلَى الْإِتْلَافِ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ مع الْقُدْرَةِ على
النَّقْضِ لِأَنَّهُ إذَا مَالَ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَقَدْ حَصَلَ
الْهَوَاءُ في يَدِ صَاحِبِ الْحَائِطِ من غَيْرِ فِعْلِهِ وهو الطَّرِيقُ حَقُّ
الْعَامَّةِ كَنَفْسِ الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ حَقُّ الْغَيْرِ في يَدِهِ
بِغَيْرِ صُنْعِهِ فإذا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَقَدْ لَزَمَهُ إزَالَةُ يَدِهِ عنه
بِهَدْمِ الْحَائِطِ فإذا لم يَفْعَلْ مع الْإِمْكَانِ فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا
بِاسْتِبْقَاءِ يَدِهِ عليه كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُ في دَارِ
إنْسَانٍ فَطُولِبَ بِهِ فَامْتَنَعَ من الرَّدِّ مع إمْكَانِ الرَّدِّ حتى هَلَكَ
يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وقد رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلِ الشُّعَبِيِّ وَشُرَيْحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ رحمه ( ( ( رحمهم ) ) ) اللَّهُ أَنَّهُمْ قالوا إذَا
تَقَدَّمَ إلَيْهِ في الْحَائِطِ فلم يَهْدِمْهُ وَجَبَ عليه الضَّمَانُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ منها ( ( ( فمنها ) ) ) الْمُطَالَبَةُ
بِالنَّقْضِ حتى لو سَقَطَ قبل الْمُطَالَبَةِ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ لَا ضَمَانَ
على صَاحِبِ الْحَائِطِ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ
الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ إلَى
الْإِتْلَافِ وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ وَصُورَةُ
الْمُطَالَبَةِ هِيَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ من عَرَضِ الناس فيقول له
إنَّ حَائِطَكَ هذا مَائِلٌ أو مَخُوفٌ فَارْفَعْهُ فإذا قال ذلك لَزِمَهُ
رَفْعُهُ لِأَنَّ هذا حَقُّ الْعَامَّةِ فإذا قام بِهِ الْبَعْضُ صَارَ خَصْمًا عن
الْبَاقِينَ سَوَاءٌ كان الذي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا حُرًّا أو
عَبْدًا بَعْدَ أن كان أَذِنَ له مَوْلَاهُ بِالْخُصُومَةِ فيه بَالِغًا أو
صَبِيًّا بَعْدَ أن كان عَاقِلًا وقد أَذِنَ له وَلِيُّهُ بِالْخُصُومَةِ فيه
لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من
أَهْلِ الدَّارِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّرَرِ عنه إلَّا
أَنَّهُ لَا بُدَّ من عَقْلِ الطَّالِبِ وَكَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ
لِأَنَّ كَلَامَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عليه غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في الشَّرْعِ
فَكَانَ ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق