ج1.وج2. كتاب : أصول الفقه المسمى:
الفصول في الأصول الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
ج1. كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول الإمام
أحمد بن علي الرازي الجصاص
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللهِ ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَهَذِهِ " فُصُولٌ وَأَبْوَابٌ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
تَشْمَلُ عَلَى مَعْرِفَةِ طُرُقِ اسْتِنْبَاطِ مَعَانِي
الْقُرْآنِ ، وَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِهِ ، وَأَحْكَامِ أَلْفَاظِهِ ، وَمَا
تَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ أَنْحَاءُ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَالْأَسْمَاءُ
اللُّغَوِيَّةُ ، وَالْعِبَارَاتُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُ
التَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ ، وَيُزْلِفُنَا لَدَيْهِ ، إنَّهُ
وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.
بَابُ الْعَامِّ
وَفِيهِ فُصُولٌ :
فَصْلٌ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا
مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا : مَا
رُوِيَ فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ
الْأَرْضِ ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ
وَالسِّبَاعِ ، فَقَالَ : إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا
} ، فَسُئِلَ عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَاتِ ، فَأَجَابَ عَنْ الدَّوَابِّ
وَالسِّبَاعِ بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ ، فَدَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ ،
لَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفَصَّلَ حُكْمَهُ فِي
الْجَوَابِ .
فَهَذَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ ، هُوَ مِنْ
الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ بِهَا
.
وَمِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا :
أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي نَفْسِهِ إذَا أُفْرِدَ عَمَّا قَبْلَهُ .
فَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ
اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ
دَلَالَةُ النَّظِيرِ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ .
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ
الْمَحِيضِ } إلَى قَوْلِهِ
{ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } وَإِنْ كَانَ
مَعْطُوفًا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَى مَا
أَوْجَبَهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ مَا تَقَدَّمَهُ ؛
لِأَنَّهُ لَوْ وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَمَّا تَقَدَّمَهُ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ
مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى وُرُودِ بَيَانٍ فِيهِ .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى
الْمُطَلَّقَةِ مِنْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَا
تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْعِدَدِ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ دُونَ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ
مِنْ الْمَحِيضِ } وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ
إلَى غَيْرِهِ مَتَى حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَصَرْنَا حُكْمَهُ عَلَيْهِ
فَقَدْ خَصَّصْنَاهُ.
وَالتَّخْصِيصُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ،
فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مُقْتَضَاهُ مُنْفَرِدًا
عَمَّا قَبْلَهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وقَوْله تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
} غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ
مَفْهُومٍ مِنْ ظَاهِرِهِ إذْ لَيْسَ الْأَجَلُ مُخْتَصًّا بِالْعِدَدِ دُونَ
غَيْرِهَا .
قِيلَ لَهُ : هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا وَلَمْ
يَكُونُوا مُفْتَقِرِينَ عِنْدَ سَمَاعِهَا فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا إلَى بَيَانٍ
يَرِدُ مِنْ غَيْرِهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ { أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ
لَمَّا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ عَنْ الِانْتِقَالِ
عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا - وَكَانَ قَدْ قُتِلَ عَنْهَا - قَالَ
لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ } .
فَلَمْ تَحْتَجْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مَعَ سَمَاعِ هَذَا
اللَّفْظِ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهَا جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ ،
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا فِي إلْزَامِهَا السُّكُونَ فِي
بَيْتِ زَوْجِهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً لَمَا اقْتَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّهُ تِبْيَانٌ يَزُولُ
مَعَهُ الْإِشْكَالُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً لَهُ جَاهِلَةً الْحُكْمَ
.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَبْدَ
اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ قَوْله
تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
نَزَلَ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
} )
احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ بِعِدَّةِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا أَنَّهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ
.
فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ عُمُومَ هَذَا اللَّفْظِ كَافٍ
فِي اعْتِبَارِ الْحَمْلِ لِسَائِرِ الْمُعْتَدَّاتِ .
فَبَانَ بِذَلِكَ صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ
اعْتِبَارِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِنَفْسِهِ دُونَ تَضْمِينِهِ بِمَا هُوَ مَعْطُوفٌ
عَلَيْهِ مَتَى اكْتَفَى بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ .
وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا }
إلَى قَوْلِهِ { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } كَلَامٌ مُكْتَفٍ
بِنَفْسِهِ لَوْ اُبْتُدِئَ الْخِطَابُ بِهِ صَحَّ مَعْنَاهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَجْعَلَهُ مُضَمَّنًا لِبَيَانِ السَّرِقَةِ .
فَنَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ
بِالتَّوْبَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ :
{ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } ، لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ كِنَايَةً لَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ مَظْهَرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ،
وَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ إلَّا بِتَضْمِينِهِ بِمَا
قَبْلَهُ .
وَكُلُّ لَفْظٍ مَعْطُوفٍ عَلَى غَيْرِهِ لَا
يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إلَّا بِتَضْمِينِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَجَبَ رَدُّهُ
إلَيْهِ
وَتَضْمِينُهُ بِهِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : {
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، هَذَا خِطَابٌ لَوْ اُبْتُدِئَ
لَمْ يُفِدْ مَعْنًى ، فَصَحَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ ، وَأَنَّ
النِّكَاحَ الْمَبْدُوءَ بِذِكْرِهِ مُضْمَرٌ فِيهِ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ
{ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ }
وَانْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُضْمَرُ فِي
مِلْكِ الْيَمِينِ هُوَ النِّكَاحَ الْمَبْدُوءَ بِذِكْرِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ
لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ إضْمَارَهُ بِعَيْنِهِ .
وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَطْءِ فَإِنَّمَا أَضْمَرَ
فِيهِ مَعْنًى لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ وَتَرَكَ مَا هُوَ
مَذْكُورٌ فِيهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
فَصْلٌ :[مَتَى تَنَاوَلَ اللَّفْظُ مَعْنَيَيْنِ
فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَتَى تَنَاوَلَ اللَّفْظُ
مَعْنَيَيْنِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ فَالْوَاجِبُ
حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ
لِأَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ
فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يُعْقَلُ مِنْهُ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَّا
بِدَلَالَةٍ.
وَالْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي
مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ .
وَالْمَجَازُ هُوَ الْمَعْدُولُ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ
وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ جِهَتِهِ وَمَوْضِعِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ
.
وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ
: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ
لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ اللَّفْظِ حَقِيقَةً مَجَازًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ،
وَهَذَا مُحَالٌ أَوْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعِهِ
وَالْمَجَازُ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ مُسْتَعْمَلًا
فِي مَوْضِعِهِ وَمَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ
.
وَذَلِكَ نَحْوُ الْقُرْءِ إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي
الْحَيْضِ مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى
تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا
فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا
مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } وَاسْمُ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ
لِلْعَقْدِ .
فَالْوَاجِبُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا حَمْلُهُ عَلَى
الْوَطْءِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ
لِمَا وَصَفْنَا .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي اللَّفْظِ إذَا تَنَاوَلَ
مَعْنَيَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَحَدِهِمَا كِنَايَةٌ عَنْ الْآخَرِ إنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذَا
يُوجِبُ كَوْنَ اللَّفْظِ صَرِيحًا كِنَايَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَامُحَالٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَحَدَهُمَا
فَكَأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً
عَنْ الْآخَرِ .
وَمَتَى وَرَدَ مُطْلَقًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى
الصَّرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ الْكِنَايَةُ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ
النِّسَاءَ } .
فَاللَّمْسُ حَقِيقَةٌ بِالْيَدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ
كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ
الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ
.
وَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ
جَمِيعًا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي مُرَادِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ
مَنْ أَثْبَتَ الْمُرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ نَفَى الْمَعْنَى الْآخَرَ أَنْ
يَكُونَ مُرَادًا ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا الْمُرَادُ الْجِمَاعُ ، وَكَانَ عِنْدَهُمَا
أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ
غَيْرُ مُرَادٍ ، وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ
مَسْعُودٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا الْمُرَادُ اللَّمْسُ بِالْيَدِ دُونَ
الْجِمَاعِ ، فَكَانَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرَيَانِ لِلْجُنُبِ أَنْ
يَتَيَمَّمَ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ انْتِفَاءُ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ
جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا
يُجِيزُونَ إرَادَةَ الْمَعْنَيَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي
بَيَّنَّاهُ .
فَصْلٌ :[مِنْ الظَّوَاهِرِ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ
دَلَالَةُ الْحَالِ]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ الظَّوَاهِرِ مَا يَقْضِي
عَلَيْهِ دَلَالَةُ الْحَالِ فَيَنْقُلُ حُكْمَهُ إلَى ضِدِّ مُوجَبِ لَفْظِهِ فِي
حَقِيقَةِ اللُّغَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
}
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
}
{ وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
}
وَنَحْوُ ذَلِكَ .
فَلَوْ وَرَدَ هَذَا الْخِطَابُ مُبْتَدِئًا عَارِيًّا
عَنْ دَلَالَةِ الْحَالِ لَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ جَمِيعِ
الْأَفْعَالِ ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَعِيدٌ وَزَجْرٌ بِخِلَافِ مَا
يَقْتَضِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي عَنْ دَلَالَةِ الْحَالِ.
وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُ النَّجَاشِيِّ:
إذَا اللَّهُ عَادَى أَهْلَ لُؤْمٍ وَرِقَّةٍ
***فَعَادَى بَنِي الْعَجْلَانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِلِ
قَبِيلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ***وَلَا
يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَمَدَّحُونَ بِنَفْيِ
الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ذَمٌّ
وَهِجَاءٌ فَخَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْهِجَاءِ ، فَكَانَ مَعْنَاهُ :
أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوثَقَ لَهُمْ بِذِمَّةٍ يَغْدِرُونَ بِهَا ،
وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَظْلِمُوا أَحَدًا فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ نَاقِلَةً
لِحُكْمِ اللَّفْظِ إلَى ضِدِّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبِهِ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ مُطْلَقًا
.
وَمِمَّا اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى
مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ : مَنْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ فَقَالَ
لَهَا : إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهَا إنْ قَعَدَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ
بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ : تَغَدَّ عِنْدِي
الْيَوْمَ ، فَقَالَ : إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ ، أَنَّ هَذَا عَلَى ذَلِكَ
الْغَدَاءِ بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ تَغَدَّى عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ
.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : ( وَاَللَّهِ إنْ تَغَدَّيْت
الْيَوْمَ فَعَبْدِي حُرٌّ ) فَصَارَتْ
الْيَمِينُ عَلَى الْيَوْمِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِمَّا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ
مُغَالَطَاتِ الْخُصُومِ فِي هَذَا الْبَابِ : احْتِجَاجُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ
بِعُمُومِ أَلْفَاظٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَتَى
حَصَلَتْ عَلَيْهِمْ وَكُشِفَ عَنْ حَقِيقَتِهَا لَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهَا شَيْءٌ
نَحْوُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ فِي أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ
مُؤْمِنَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ }
وَالْكَافِرُ خَبِيثٌ وَلَا يَجُوزُ زَعْمٌ بِالظَّاهِرِ
، وَنَحْنُ مَتَى سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ فِي
لَفْظِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَالُوا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ
كُفْرُ الْكَافِرِ لَا عَيْنُ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يُذَمَّ مِنْ أَجْلِهَا .
وَاَلَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُعْتِقُ بِعِتْقِهِ لَيْسَ
هُوَ الْكُفْرَ وَإِنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ ، وَالْعِتْقُ لَيْسَ بِخَبِيثٍ
وَكَيْفَ يَكُونُ خَبِيثًا وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَحْصُلْ
لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَنَظِيرُهُ احْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ مِنْهُمْ
بِسُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِ صَدَقَةِ السَّائِمَةِ ، إذَا
أَعْطَاهَا رَبُّ الْمَالِ الْمَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } .
فَيَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى
{ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } عَلَى سُقُوطِ حَقِّ
الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا مَتَى أَخْرَجَهَا رَبُّ الْمَالِ .
وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي
قَبْلَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهَا
الْفُقَرَاءَ وَأَخْفَاهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ
الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُهَا مِنْهُ ثَانِيًا .
وَمَوْضِعُ دَلَالَةِ الْآيَةِ لَا يَتَنَافَى لِأَنَّا نَقُولُ
: إخْفَاؤُهَا خَيْرٌ لَهُ ، وَلِلْإِمَامِ مَعَ ذَلِكَ أَخْذُهَا ، فَإِذَنْ لَا
دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، بَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى
صِحَّةِ قَوْلِنَا أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ ، لِأَنَّا نَقُولُ
هُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَحْصُلُ لَهُ
الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
وَمِنْ نَظَائِرِ احْتِجَاجِهِمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا
فِي الْوُضُوءِ } قَالُوا : فَهَذَا أَوْلَى
مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " الْمَسْحَ مَرَّةً وَاحِدَةً
" لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَخَبَرُ الزَّائِدِ
أَوْلَى وَمَتَى حَمَلْت عَلَيْهِمْ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ وَقَابَلْته
بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ لِأَنَّا لَمْ نَخْتَلِفْ فِيهِ
أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي
تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ مَسْحَةٍ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى ذِكْرٌ فِي الْخَبَرِ
، وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُغَالَطَةِ .
وَنَحْوُهُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَمِ الْحَيْضِ { حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ
ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ } .
عَلَى أَنَّ غَسْلَ النَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَاءِ
وَهَذَا غَلَطٌ ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ الَّذِي
تَضْمَنَّهُ الْخَبَرُ الْأَمْرُ بِغَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ بِالْمَاءِ ، وَمَتَى
أُزِيلَ الدَّمُ بِخَلٍّ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ تَنَاوَلَهُ
لَفْظُ الْخَبَرِ ، فَإِذَنْ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْخَبَرِ بِمَسْأَلَةِ
الْخِلَافِ .
وَمِثْلُهُ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى
نَجَاسَةِ الْمَاءِ بِمَوْتِ ( الذُّبَابِ فِيهِ ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَالْآيَةُ إنَّمَا
أَوْجَبَتْ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ ، وَالْمَاءُ الَّذِي فِيهِ مَيْتَةٌ لَا
يُسَمَّى مَيْتَةً فَكَيْفَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ
الْمَاءَ بِحَالٍ .
وَنَظِيرُهُ اسْتِدْلَالُ مَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى
ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ وَالسَّرِقَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ
} .
وَالْخَبَرُ إنَّمَا أَوْجَبَ رَدَّ الْمَأْخُوذِ
بِعَيْنِهِ ، وَالْقِيمَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْمُخَالِفُ تَضْمِينَهَا إيَّاهُ لَا
ذِكْرَ لَهَا فِي الْخَبَرِ فَاعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ سَاقِطٌ
.
وَمِمَّا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ أَلْفَاظِ
الْعُمُومِ بَيْنَ الْمُنَاظِرِينَ حَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْخَلَ
فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ } وَيُرْوَى : { مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنَّا فَهُوَ رَدٌّ } وَهَذَا اللَّفْظُ
مِمَّا لَا يَصِحُّ ( لِأَحَدٍ ) الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةٍ فِي
فَسَادِ الْعُقُودِ وَ الْقُرَبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ مَا
رَامَ إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ ، إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَا
فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا حَصَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ مَرْدُودًا
.
نَظِيرُ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي
الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا احْتَجَّ مُبْطِلُوهَا بِهَذَا الْخَبَرِ
.
قِيلَ لَهُمْ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ
ذَلِكَ ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحَالِ
لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ ، إذْ لَيْسَ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ فِي
هَذِهِ الدَّارِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ ، وَيَكُونُ جَوَازُهَا وَسُقُوطُ الْفَرْضِ
بِهَا مِنْ أَمْرِهِ ، وَهَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ ، فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَجُّ
بِالْخَبَرِ إلَى أَنْ يُقِيمَ دَلَالَةً مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ
جَوَازَهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَهَذَا
الضَّرْبُ مِنْ احْتِجَاجِ الْمُخَالِفِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى ،
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا لِنُنَبِّهَ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ ،
وَلِئَلَّا يَحْسُنَ الظَّنَّ بِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ ظَاهِرًا حَتَّى يُوَافِقَ
عَلَى تَصْحِيحِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ احْتِجَاجَاتِهِمْ
تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى ، فَمَتَى طُولِبَ بِتَحْقِيقِهِ اضْمَحَلَّ
.
الْبَابُ الثَّانِيْ فِي صِفَةِ النَّصِّ
(فارغة)
بَابٌ فِي صِفَةِ النَّصِّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
النَّصُّ : ( كُلُّ ) مَا
يَتَنَاوَلُ عَيْنًا مَخْصُوصَةً بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْمَعْنَى بَيِّنِ الْمُرَادِ
فَهُوَ نَصٌّ وَمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ فَهُوَ نَصٌّ أَيْضًا وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ إذَا أُشِيرَ إلَيْهِ
بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ
.
إذْ كَانَ الْعُمُومُ اسْمًا لِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ
وَانْطَوَى تَحْتَهُ .
وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ
.
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَأَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وَكَذَلِكَ جَلْدُ
الزَّانِي ، وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ
وَكُلٌّ إنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِعُمُومِ لَفْظٍ
يَنْتَظِمُ مَا شَمَلَهُ الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ ،
وَلَيْسَ جَوَازُ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى لَفْظِ الْعُمُومِ وَجَوَازُ
تَخْصِيصِهِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ
التَّخْصِيصِ .
كَمَا أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ
الْعَشَرَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَشَرَةِ مَعَ جَوَازِ دُخُولِ
الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ
إدْخَالُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ وَتَعْلِيقُهُ بِحَالٍ أُخْرَى ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ
أَنْ يَكُونَ نَصًّا إذَا عَرِيَ مِنْ شَرْطٍ أَوْ ذِكْرِ حَالٍ
.
وَالنَّصُّ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي
إظْهَارِ الشَّيْءِ وَإِبَانَتِهِ .
فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : نَصَصْت الْحَدِيثَ إلَى فُلَانٍ
، بِمَعْنَى أَنِّي أَظَهَرْتُ أَصْلَهُ .
وَمَخْرَجَهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
أَنُصُّ الْحَدِيثَ إلَى أَهْلِهِ*** فَإِنَّ
الْأَمَانَةَ فِي نَصِّهِ
وَمِنْهُ نَصَصْت الدَّابَّةُ فِي السَّيْرِ إذَا
أَظْهَرْت أَقْصَى مَا عِنْدَهَا .
قَالَ الشَّاعِر :
تَقْطَعُ الْخَرْقَ بِسَيْرِ نَصٍّ
وَمِنْهُ الْمِنَصَّةُ ، وَهُوَ الْفَرْشُ الَّذِي
يُرْفَعُ لِيَقْعُدَ عَلَيْهِ الْعَرُوسُ ( لِيَكُونَ ظَاهِرًا ) لِلْحَاضِرَيْنِ
، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي مَعْنَى
النَّصِّ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا .
وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ
لِضُرُوبٍ ( مِنْ ) التَّأْوِيلِ أَنَّ مَا قَامَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى
بَعْضِ الْمَعَانِي أَنَّهُ ( هُوَ ) الْمُرَادُ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ ( إنَّ )
هَذَا نَصٌّ عِنْدِي ، وَكَذَلِكَ إذَا رَوَى ذَلِكَ التَّأْوِيلَ عَنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ
نَصُّ الْكِتَابِ لِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ
اللهِ تَعَالَى فِيهِ .
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا } يَحْتَمِلُ السُّلْطَانُ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ
.
فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
( بِهِ ) الْقَوَدُ جَازَ أَنْ يَقُولَ قَدْ نَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى
إيجَابِ الْقَوَدِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ
وَفِيْهِ ثَلَاثَةُ فُصُوْلٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَوْجُهُ وَ أَقْسَامُ
الْمُجْمَلِ
الْفَصْلُ الثَّانِيْ: الِاحْتِجَاجُ بِعُمُوْمِ
اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ:الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ
بَابٌ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ .
فَصْلٌ : قَالَ أَبُو
بَكْرٍ : الْمُجْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقَارِبُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْعُمُومِ ( لِأَنَّ الْعُمُومَ ) لَا بُدَّ
مِنْ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جُمْلَةٍ إذَا كَانَ يَقْتَضِي جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ
وَكُلُّ جَمْعٍ فَهُوَ جُمْلَةٌ .
فَمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ لَا يَخْتَلِفَانِ
فِي هَذَا الْوَجْهِ .
فَجَائِزٌ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْمُجْمَلِ عَنْ الْعَامِّ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَامَّ فِي
مَوَاضِعَ فَسَمَّاهُ مُجْمَلًا ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ لَا يَقَعُ
فِي مِثْلِهِ مُضَايَقَةٌ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَالُ فِي لَفْظٍ
وَاحِدٍ مَجْهُولٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ عُمُومًا وَلَا عِبَارَةَ عَنْهُ نَحْوُ
قَوْله تَعَالَى { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ، (
وَنَحْوُ قَوْلِ ) الْقَائِلِ أَعْطِ زَيْدًا ( حَقَّهُ ) وَهُوَ مَا أُبَيِّنُهُ لَك بَعْدَ هَذَا ، فَهَذَا مُجْمَلٌ لَيْسَ
فِيهِ مَعْنَى الْعُمُومِ.
فَالْمَعْقُولُ عِنْدَهُمْ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ
الْعُمُومِ : أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ قَدْ عُلِّقَ
بِهِ حُكْمٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ
وَمَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ
.
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }
وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ .
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ : فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي
يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى
بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : مَا يَكُونُ إجْمَالُهُ فِي نَفْسِ
اللَّفْظِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُبْهَمًا غَيْرَ مَعْلُومٍ
الْمُرَادُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ .
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ : أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ لَوْ خَلَّيْنَا وَمَا
يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ بِمَا
يَقْتَرِنُ إلَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ إجْمَالَهُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ
.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ قَوْله
تَعَالَى { قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ } وَ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } {
فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْتِي
عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُؤْتَمَنُ فِيهِ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهِ الْأَمِينُ
وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا
الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : سَفِيهُ الْقَوْمِ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ
} وَقَدْ كَانَ السَّامِعُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا
مَعْنَاهُ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ إيَّاهُ
.
وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْطِ زَيْدًا حَقَّهُ"
فَهَذَا هُوَ الْمُجْمَلُ الَّذِي إجْمَالُهُ فِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا سَبِيلَ
إلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ .
وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ
الْمَوْضُوعَةِ فِيهِ لِمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَهَا فِي اللُّغَةِ ،
نَحْوُ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ يُقَالُ :
أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَالرَّابِيَةُ هِيَ
الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا يَلِيهَا .
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لَمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرَ مَا
كَانَ اسْمًا لَهُ فِي اللُّغَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "
إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ "
يَعْنِي ( فِي ) الْحَيَوَانِ
.
وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا " إنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ
آخَرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ ( مِنْ ) قَبْلِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا فَدَعُوا الرِّبَا
وَالرِّيبَةَ " .
وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ ، وَلَمْ يَكُنْ
مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ فِيمَا ( كَانَ ) طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اسْتِدْرَاكِهِ اللُّغَةَ ، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ
لَفْظَ الرِّبَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ إذْ كَانَ لَفْظًا شَرْعِيًّا
قَدْ أُرِيدُ بِهِ مَا لَا يَنْتَظِمُهُ الِاسْمُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ
.
وَالزَّكَاةُ هِيَ النَّمَاءُ ، يُقَالُ : زَكَا
الزَّرْعُ إذَا نَمَا .
وَالصَّوْمُ : الْإِمْسَاكُ
وَالْكَفُّ عَنْ الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } يَعْنِي صَمْتًا
.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
فَدَعْهَا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْك بِجَسْرَةٍ*** ذَمُولٍ
إذَا صَامَ النَّهَارَ وَهَجَّرَا
وَقَالَ النَّابِغَةُ :
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ*** تَحْتَ
الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وَالصَّلَاةُ الدُّعَاءُ فِي اللُّغَةِ ، وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعَانِي لَمْ
يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا ( لَهَا ) فِي
اللُّغَةِ ، فَمَتَى وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَلَمْ
يَكُنْ الْمُرَادُ بِهَا إشَارَةً إلَى مَعْهُودٍ فَهُوَ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ إلَى
الْبَيَانِ .
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مَرَّةً فِي قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } إنَّهُ ( مِنْ الْمُجْمَلِ ) لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ لِتَعَلُّقِ
الْحُكْمِ
فِيهِ بِمَعَانٍ لَا يَنْتَظِمُهَا الِاسْمُ وَلَيْسَ
هُوَ عِبَارَةً عَنْهَا ، مِنْ نَحْوِ الْمِقْدَارِ وَالْحِرْزِ فَصَارَ كَاسْمِ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ فِيهَا
بِمَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدِي يُوجِبُ إجْمَالَهُ
وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ قَدْ صَارَ مُجْمَلًا عِنْدِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرَ
هَذَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ ( مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ
) .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ مِنْهُ : فَهُوَ أَنْ يَرِدَ
لَفْظُ عُمُومٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَا انْتَظَمَهُ
مَعْنَاهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ .
فَتَعَلُّقُهُ بِمَعْنًى يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَوُقُوعَهُ
عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمْ
الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } فَصَارَ اللَّفْظُ ( بِهِ )
مُجْمَلًا إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ { إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } ( مِمَّا )
قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ الْآنَ وَأُبَيِّنُهُ لَكُمْ فِي الثَّانِي
.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ( قَدْ يَجُوزُ أَنْ ) يُرِيدَ
بِقَوْلِهِ { إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إلَّا مَا يَتَبَيَّنُ لَكُمْ مِمَّا
قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ الْآنَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إلَّا مَا سَنُحَرِّمُ
عَلَيْكُمْ .
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ لَمْ
يَصِرْ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ بِهِ مُجْمَلًا ، ( وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْمَلًا )
إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ .
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } فَلَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرَهُ
وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ فَلَمَّا قَرَنَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَجْعَلَ كَوْنَهُ
عَلَى صِفَةِ الْأَفْعَالِ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ
فَاللَّفْظُ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ حُصُولِ
الْإِحْصَانِ بِالنِّكَاحِ وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَصَارَتْ الْإِبَاحَةُ
مُجْمَلَةً مُفْتَقِرَةً إلَى الْبَيَانِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
مُحْصِنِينَ } الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرَ
حِينَئِذٍ عَقْدُ النِّكَاحِ شَرْطًا لِحُصُولِ الْإِحْصَانِ وَلَا يَكُونُ لَفْظُ
الْإِبَاحَةِ مُجْمَلًا ، وَ ( مِنْ ) نَحْوِ ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ
اللَّهُ } .
فَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا حَتَّى
يَثْبُتَ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ .
وَمِمَّا يُضَاهِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تَحْتَ الِاسْمِ
مَعْلُومَ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ مُرَادَ الْمُخَاطِبِ فِيهِ الْبَعْضُ مِنْهُ
غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ يُعْلَمُ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ
لِاسْتِحَالَةِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ ، فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا
مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ .
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ }
لَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهُ : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ }
مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوبَ أَوْ النَّدْبَ
.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ( بِهِ ) الْوُجُوبَ اسْتَحَالَ
اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ
امْتِنَاعُ اسْتِيعَابِ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ
أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَيْرٍ وَاجِبًا ، وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا مِنْهُ فِعْلُ كُلِّ
مَا يُسَمَّى خَيْرًا لِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ فِعْلُهُ
.
فَصَارَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ افْعَلُوا بَعْضَ
الْخَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ
اللَّفْظِ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صُومُوا لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
الْإِمْسَاكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ امْسِكُوا عَنْ
بَعْضِ الْأَشْيَاءِ .
فَاللَّفْظُ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ
.
هَذَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْإِيجَابَ
.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ } النَّدْبَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ كُلَّهُ
عَلَى حَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ افْعَلُوا مِنْ الْخَيْرِ
مَا شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ مَنْدُوبُونَ إلَيْهِ وَمُثَابُونَ عَلَيْهِ
.
وَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالِاحْتِجَاجُ
بِقَوْلِهِ { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } فِي إيجَابِ
شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ سَاقِطٌ .
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } .
لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي نَفْيِ
الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي
مُسَاوَاةِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ فِي الْقِصَاصِ وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ
بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِيهِمَا لِأَنَّ
الْمُسَاوَاةَ قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ
مِنْ حَيْثُ هُمَا جِسْمَانِ وَمُحْدَثَانِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي تَكْلِيفِ
الْإِيمَانِ وَالْفَرَائِضِ
وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَسَاوَيَا
فِيهَا .
فَصَارَ تَقْدِيرُ اللَّفْظِ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي
بَعْضِ الْأَشْيَاءِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ ( الْبَعْضُ ) مِنْ أَنْ
يُحَصِّلَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ
وَيَكُونُ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ ، وَدَلَالَةُ الْحَالِ
الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْمَعْنَى مَعْلُومًا ظَاهِرَةٌ فِي الْآيَةِ ، وَهُوَ
قَوْلُ اللهِ تَعَالَى { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ
} .
فَإِنَّمَا نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي
الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ
الْمُسَاوَاةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسَاوَاةَ فِي مَعْنَى
الْبَصَرِ ( وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ بِهِ فَشَبَّهَ الْكَافِرَ بِالْأَعْمَى
وَالْمُؤْمِنَ بِالْبَصِيرِ ) فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي نَفْيِ
الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ لَا يَرْجِعُونَ
إلَى تَحْصِيلٍ فِيمَا يَقُولُونَ ( يَحْتَجُّونَ ) بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ ، إمَّا
جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاضِعِ الِاحْتِجَاجِ ، وَإِمَّا قِلَّةَ دِينٍ
.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } مِنْ خَبَرِ الْمُجْمَلِ
الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا لِأَنَّهُ قَرَنَ إلَيْهِ مَا أَوْجَبَ
إجْمَالَهُ بِقَوْلِهِ { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ فِي
شَيْءٍ عِنْدَنَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ
يَكُونَ لَفْظًا مُجْمَلًا أَوْ عُمُومًا .
فَإِنْ كَانَ عُمُومًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَصِيرَ
لَفْظُ الْبَيْعِ مُتَعَلِّقًا بِعُمُومِهِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبًا
كَمَا لَوْ قَالَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَك لَمْ
يُوجِبْ عَلَيْك إجْمَالَ لَفْظِ إبَاحَةِ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرِّبَا
مُجَمِّلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ الَّذِي يَقَعُ الْإِجْمَالُ
فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ مَا شَكَكْنَا فِيهِ أَنَّهُ رِبًا أَوْ لَيْسَ
بِرِبًا .
فَأَمَّا الْبَيْعُ الَّذِي قَدْ عُلِمَ ( أَنَّهُ )
لَيْسَ بِرِبًا فَاعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظِ الْبَيْعِ شَائِعٌ فِي إبَاحَتِهِ ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّتْ
لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } وَلَا مِثْلَ قَوْله تَعَالَى
: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ
مُحْصِنِينَ } لِأَنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْنَا لَيْسَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ
هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ نَوْعٍ ، وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ قَدْ عُلِّقَتْ
الْإِبَاحَةُ بِهِ فَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
فَصْلٌ :[الاحتجاج بعموم اللفظ المجمل]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَكُلُّ لَفْظٍ مُجْمَلٍ قَامَتْ
الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنًى قَدْ أُرِيدَ بِهِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ
الْمَعْنَى الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
} .
إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ ( قَدْ أُرِيدَ
) الْعُشْرُ أَوْ زَكَاةُ الْمَالِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي إيجَابِ
الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ
.
وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى : { فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } .
فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ
مُرَادٌ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ ( بِهِ ) فِي ( إيجَاب الْقَوَدِ ) عَلَى كُلِّ
قَاتِلٍ ظُلْمًا .
وَقَدْ يَنْتَظِمُ آيَةً وَاحِدَةً الْعُمُومُ
وَالْمُجْمَلُ مَعًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهَا مِنْ
الْإِجْمَالِ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ مَا هُوَ ( عَامٌّ فِيهَا ) مَتَى
اخْتَلَفْنَا فِي حُكْمٍ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ .
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } .
هُوَ مُجْمَلٌ فِي الصَّدَقَةِ عُمُومٌ فِي الْأَمْوَالِ
.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } .
هُوَ عُمُومٌ فِيمَا كَسَبَ وَفِيمَا أَخْرَجَتْهُ
الْأَرْضُ ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ .
فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْمُوجِبِ فِيهِ صَحَّ
الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومِ .
وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَاجِبِ احْتَجْنَا إلَى
دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا
فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } .
مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا
صَحَّ الِاحْتِجَاجُ ( بِالْآيَةِ )
فِي دُخُولِهِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا } عُمُومٌ فِي الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَدَخَلَ
فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ .
وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَاجِبِ بِالْقَتْلِ لَمْ
يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ { سُلْطَانًا } حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الْحُكْمَ
الَّذِي رَامَ الْخَصْمُ إثْبَاتَهُ مُرَادٌ ، فَيَصِحُّ ( حِينَئِذٍ
الِاحْتِجَاجُ )بِعُمُومِهِ فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
.
فَصْلٌ :[الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ]
وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ مَتَى وَرَدَتْ
مُطْلَقَةً فَهِيَ مُجْمَلَةٌ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهَا
.
مِثْلُ قَوْله تَعَالَى : { فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَالسُّلْطَانُ
اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي ( هَذَا ) الِاسْمِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تُسَمَّى سُلْطَانًا
.
وَالسُّلْطَانُ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَجَدْت يَكُونُ مِنْ
الْمَوْجِدَةِ وَهِيَ الْغَضَبُ ، وَمِنْ الْمَحَبَّةِ ، وَمِنْ وُجْدَانِ
الشَّيْءِ .
وَكَقَوْلِهِ رَأَيْت عَيْنًا وَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى
الدَّنَانِيرِ ، وَعَلَى عَيْنِ الْحَيَوَانِ ، وَعَيْنِ الْمَاءِ ، وَعَيْنِ
الرُّكْبَةِ .
وَمِثْلُ قَوْلِهِ ) { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ
} .
قِيلَ إنَّهُ الْفَارِغُ وَقِيلَ إنَّهُ الْمَلْآنِ
.
فَمَتَى وَرَدَ مِثْلُهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ أَنْ
يُقَالَ إنَّهُ عُمُومٌ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا شَمَلَهُ الِاسْمُ بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفُ
الْمَعْنَى عَلَى الْبَيَانِ .
وَ ( كَذَا ) كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ (
الْكَرْخِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّهُ مَتَى
أَرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ ( بِهِ ) وَسَمَّاهُ
بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْنَى الْآخَرَ ، وَلَيْسَ هَذَا
كَالْأُخُوَّةِ وَالْإِنْسَانِ فِي إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى وَالْأَخَ مِنْ الْأُمِّ وَالْأَخَ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى
الَّذِي بِهِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ إخْوَةٌ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْ أَجْلِهِ
سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخًا وَكُلُّ وَاحِدٍ إنْسَانًا .
فَذَلِكَ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ
.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَا
وَنَظَائِرُهَا فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ عَلَى وُجُوهٍ
مُخْتَلِفَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ مَا
يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ
مَالِهِ لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوْلًى أَعْلَى وَمَوْلًى أَسْفَلُ ، إنَّ
الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَجُّ
لِذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ
الْحَقِيقَةِ وَأَحَدُهُمَا مُنْعِمٌ وَالْآخَرُ
مُنْعَمٌ ( عَلَيْهِ ) ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِاللَّفْظِ
.
وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ( أَنَّ ) الِاسْمَ
الْوَاحِدَ إذَا تَنَاوَلَ ضِدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَا ( جَمِيعًا )
بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجُوزُ
أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ .
وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِيمَنْ قَالَ إنْ
شَرِبْت مِنْ الْفُرَاتِ فَعَبْدِي حُرٌّ إنَّ هَذَا عَلَى الْكَرْعِ وَلَا
يَحْنَثُ إنْ اسْتَقَى بِكُوزٍ أَوْ غَيْرِهِ فَشَرِبَ لِأَنَّ ( الْحَقِيقَةَ )
قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُرَادُهُ ، وَأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ
فَانْتَفَى الْمَجَازُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ
هَذِهِ الْحِنْطَةِ شَيْئًا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَيْنِ
الْحِنْطَةِ أَنْ يَقْضِمَهَا وَلَا يَحْنَثُ إنْ أَكَلَهَا خُبْزًا لِأَنَّ
الْحَقِيقَةَ قَدْ
تَنَاوَلَهَا الْيَمِينُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا
الْمَجَازُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كَرَعَ أَوْ
شَرِبَ بِكُوزٍ حَنِثَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَيَحْنَثُ إنْ أَكَلَ
الْخُبْزَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ صَارَ عِنْدَهُمَا اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ
يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ
.
(فارغة)
الْبَابُ الرَّابِعُ:فِيْ مَعَانِي حُرُوفِ الْعَطْفِ
وَغَيْرِهَا
(فارغة)
بَابٌ مَعَانِي حُرُوفِ الْعَطْفِ وَغَيْرِهَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
هَذَا الْبَابُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي
تَعْرِيفِ حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْطُوفِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَمَا
تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَدَوَاتُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فَائِدَةُ الْكَلَامِ بِدُخُولِهَا
عَلَيْهِ .
الْوَاوُ فِي اللُّغَةِ لِلْجَمْعِ
وَذَلِكَ حَقِيقَتُهَا وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَحْكِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : الْوَاوُ بَابُهَا الْجَمْعُ
حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الِاسْتِئْنَافِ .
وَعَلَى هَذَا بَنَى مَسَائِلَ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
فِي الْأَيْمَانِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } .
مَنْ جَعَلَهَا لِلْجَمْعِ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ
عِنْدَ قَوْلِهِ { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }
فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ ، ثُمَّ
اسْتَأْنَفَ لَهُمْ خَبَرًا آخَرَ فَقَالَ { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } (
وَمَعْنَاهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) .
وَمَنْ جَعَلَهَا لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَجَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ
عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِلرَّاسِخَيْنِ آخَرَ فَقَالَ :
{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } فَهَذِهِ الْوَاوُ
تَحْتَمِلُ الْجَمْعَ وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ وقَوْله تَعَالَى { إنَّا أَوْحَيْنَا
إلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
} .
هَذِهِ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ لِأَنَّهَا أَدْخَلَتْ
الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ
.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ ،
فَدَخَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي خَبَرِ الْأُولَى وَحُكْمِهَا لِأَجْلِ دُخُولِ
الْوَاوِ عَلَيْهَا .
وَلَوْ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا
( أَوْ قَالَ وَهَذِهِ طَالِقٌ ، وَهَذِهِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ )
كَانَتْ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَتَطْلُقُ الْأُولَى وَاحِدَةً ،
وَالثَّانِيَةُ ثَلَاثًا أَوْ بِالشَّرْطِ إذَا عَلَّقَهُ بِهِ
.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حُجَّةٌ ( فِيمَا يَحْكِيهِ
فِي اللُّغَةِ ، قَدْ احْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ، مِنْهُمْ
أَبُوعُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ "
وَغَيْرُهُ .
وَحَكَى لَنَا ثَعْلَبٌ أَنَّهُ قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ .
وَحَكَى ( لِي ) أَبُو
عَلِيٍّ النَّحْوِيُّ ) الْفَارِسِيُّ عَنْ ابْنِ السِّرَاجِ النَّحْوِيِّ أَنَّ
الْمُبَرَّدَ سُئِلَ عَنْ الْغَزَالَةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ : الشَّمْسُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ -وَكَانَ فَصِيحًا-
لِغُلَامِهِ : ( اُنْظُرْ ) هَلْ دَلَكَتْ غَزَالَةُ
فَخَرَجَ وَرَجَعَ فَقَالَ : لَمْ أَرَ غَزَالَةً
.
وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ هَلْ زَالَتْ الشَّمْسُ ،
ثُمَّ أَنْشَدَ الْمُبَرَّدُ :
يُوضِحْنَ فِي قَرْنِ الْغَزَالَةِ بَعْدَمَا***
تَرَشَّفْنَ ذُرَابَ الْغَمَامِ الرَّكَائِكِ
وَقَالَ الْمُبَرَّدُ : الْوَاوُ لِلْجَمْعِ وَلَا
دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ لِأَنَّك إذَا قُلْت : رَأَيْت زَيْدًا
وَعَمْرًا لَمْ يُعْقَلْ مِنْ اللَّفْظِ رُؤْيَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ إذْ
جَازَ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا مَعًا أَوْ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَقَالَ لِي أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ: الْوَاوُ
عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ ( عِنْدَهُمْ فِيهَا ) عَلَى
التَّرْتِيبِ .
وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى
التَّرْتِيبِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ
قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ } .
فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ
مَمْنُوعًا مِنْ أَنْ تَقُولَهَا بِالْوَاوِ كَمَا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ تَقُولَهَا
بِثُمَّ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
مُوسَى وَهَارُونُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَبَدَأَ فِي
بَعْضِهَا بِمُوسَى ( وَفِي ) بَعْضِهَا بِهَارُونَ
وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ .
فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَامْتَنَعَ وُجُودُ
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ( مَعًا ) فِيهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُك فِي الْجَمْعِ مِثْلُهُ لِأَنَّ
الْجَمْعَ يُوجِبُ كَوْنَهُمَا مَعًا .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نُرِدْ بِقَوْلِنَا هِيَ لِلْجَمْعِ
وُجُودَهُمَا مَعًا ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنَّهَا تَجْمَعُ الِاسْمَيْنِ فِي
حُكْمٍ وَاحِدٍ .
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا مَجْمُوعَيْنِ فِي
الْحُكْمِ وَيَكُونُ التَّالِي مُقَدَّمًا عَلَى الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ تَارَةً
، وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى التَّالِي تَارَةً أُخْرَى .
وَإِنَّمَا مَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ
عَلَى تَرْتِيبِ الْحُكْمِ .
فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي اللَّفْظِ فَمَوْجُودٌ فِيمَا
ذَكَرْنَا صَحِيحٌ لَا يَقْدَحُ فِيهِ مَا ذَكَرْت .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ
فِي اللُّغَةِ أَنَّ { رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
طَافَ بِالْبَيْتِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، صَعِدَ الصَّفَا وَقَالَ نَبْدَأُ
بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } .
فَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ
لَمَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ { نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } لِأَنَّ
الْقَوْمَ لَمْ يَكُنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ
اللُّغَةَ .
وَقَدْ تَجِيءُ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ "
فَتَكُونُ لِأَحَدِ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }
فَالْمَعْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ ، وقَوْله تَعَالَى { أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } .
وَأَمَّا " بَلْ "
فَلِلِاسْتِدْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَدْءًا بِالتَّالِي
تَقُولُ رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا ، وَهَذِهِ طَالِقٌ بَلَى هَذِهِ
.
فَهِيَ تُشَاكِلُ الْوَاوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ
.
وَأَمَّا " الْفَاءُ
" فَإِنَّهَا لِلْجَمْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ مَعَ
ذَلِكَ بِلَا مُهْلَةٍ وَلَا تَرَاخٍ ، لِأَنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت زَيْدًا
فَعَمْرًا عُقِلَ مِنْهُ رُؤْيَةُ عَمْرٍو بَعْدَ زَيْدٍ بِلَا تَرَاخٍ
.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهَا
.
وَأَمَّا " أَوْ "
فَإِنْ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هِيَ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَأَصْلُهَا
أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ أَحَدَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ لَا جَمِيعَهُ ، وَهَذَا
حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا .
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَقَوْلُهُ { مِنْ صِيَامٍ
أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَاتِ لَا جَمِيعَهَا
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا حُكْمُهَا إذَا دَخَلَتْ
عَلَى الْإِثْبَاتِ .
وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ
وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى حِيَالِهِ .
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا
أَوْ كَفُورًا } .
وقَوْله تَعَالَى : { أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } .
قَدْ نَفَى بِهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ
عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ .
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : فِيمَنْ
قَالَ : وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَنَّهُ أَيَّهُمَا كَلَّمَ
حَنِثَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا فِي الْمَعْنَى غَيْرُ
مُخَالِفٍ لِحُكْمِهِ فِي الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهَا حِينَ دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ
نَفَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ ، لَا عَلَى وَجْهِ
الْجَمْعِ .
كَمَا أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الِاثْنَيْنِ
أَثْبَتَتْ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا
فُعِلَ عَلَى الِانْفِرَادِ كَانَ فَاعِلًا بِمُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ لَا ( عَلَى
) مَعْنَى الْجَمْعِ
.
.
وَقَدْ تَجِيءُ " أَوْ " بِمَعْنَى "
الْوَاوِ " .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ
أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } مَعْنَاهُ
وَيَزِيدُونَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
} ، وَمَعْنَاهُ وَأَشَدُّ قَسْوَةً .
وَأَنْشَدَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ (
ثَعْلَبٍ عَنْ ) ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ :
إنَّ بِهَا أَكَتَلَ أَوْ رِزَامَا ***( خُوَيْرِبَانِ
يُنْفِقَانِ ) الْهَامَا
وَأَنْشَدَنَا أَيْضًا :
فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا ***بَكَيْت
عَلَى زِيَادٍ أَوْ عَنَاقٍ
عَلَى الْمَرْأَيْنِ إذْ مَضَيَا جَمِيعًا***
لِشَأْنِهِمَا بِحُزْنٍ وَاحْتِرَاقٍ
فَقَالَ زِيَادٌ أَوْ عَنَاقٍ ثُمَّ قَالَ : عَلَى
الْمَرْأَيْنِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمْعَ .
وَأَمَّا " ثُمَّ
" فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي ، تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي
بَعْدَ الْأَوَّلِ كَذَا حُكْمُهَا فِي اللُّغَةِ .
وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
: { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا
} .
مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا
.
وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } ، يَعْنِي وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَعْنَى ( فِيهِ ) أَنَّهَا
دَخَلَتْ عَلَى خِطَابِ الْمُتَكَلِّمِ صِلَةً لِكَلَامِهِ لَا عَلَى حُكْمِ (
الْكَلَامِ ) الْمُتَقَدِّمِ ، كَأَنَّ تَقْدِيرَهُ
ثُمَّ بَعْدَمَا وَصَفْنَا أَذْكُرُ لَكُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا ( هُوَ
لِمَنْ ) كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَبَعْدَمَا ذَكَرْت ( لَكُمْ )
أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } وَمَعْنَاهُ
وَاَللَّهُ شَهِيدٌ ( عَلَى مَا يَفْعَلُونَ
) .
وقَوْله تَعَالَى { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } .
الْمَعْنَى وَقَدْ اهْتَدَى .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ
} .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَلَقْنَاكُمْ
حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فَقَوْلُهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ { اُسْجُدُوا
لِآدَمَ } بِمَعْنَى وَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ آدَمَ كَقَوْلِهِ { وَاَللَّهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } فَإِنَّ قَوْلَهُ { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اُسْجُدُوا } مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ .
وَبَعْدُ لِلتَّرْتِيبِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ
.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ
.
وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى مَعَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } يَعْنِي مَعَ ذَلِكَ .
وَقَدْ قِيلَ ( إنَّهَا ) رَجَعَتْ إلَى جُمْلَةِ
الْخِطَابِ كَأَنَّهُ قَالَ: عُتُلٍّ
وَأَقُولُ لَكُمْ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ إنَّهُ زَنِيمٌ .
وَ " مَعَ " لِلْمُقَارَنَةِ ، وَقَدْ تَجِيءُ
بِمَعْنَى بَعْدُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا } .
وَإِلَى لِلْغَايَةِ " بِمَعْنَى حَتَّى ، وَقَدْ
تَدْخُلُ تَارَةً فِي الْحُكْمِ وَلَا تَدْخُلُ أُخْرَى .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إلَى اللَّيْلِ } فَاللَّيْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ ،
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَالْمَرَافِقُ
دَاخِلَةٌ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا
إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا }
فَالِاغْتِسَالُ شَرْطٌ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ
.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ : أَنَّ الْغَايَةَ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ
:
أَحَدُهُمَا : لِإِسْقَاطِ
بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَيْدِيَكُمْ
إلَى الْمَرَافِقِ } وَالْيَدُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْعُضْوَ إلَى الْمَنْكِبِ
فَدَخَلَتْ الْغَايَةُ لِإِسْقَاطِ مَا عَدَا الْمَرْفِقِ فَكَانَتْ الْمَرَافِقُ
دَاخِلَةً فِيهِ
وَالْآخَرُ : أَنْ لَا
يَنْتَظِمَ الِاسْمُ الْغَايَةَ وَمَا بَعْدَهَا فَتَصِيرُ الْغَايَةُ حِينَئِذٍ
مَشْكُوكًا فِيهَا فَلَا نَثْبُتُهَا بِالشَّكِّ .
وَقَدْ تَجِيءُ " إلَى " بِمَعْنَى "
مَعَ " .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ
إلَى أَمْوَالِكُمْ } .
و"َمِنْ " قَالُوا إنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ
وَلِبُدُوِّ الْغَايَةِ وَلِلتَّمْيِيزِ وَلِلْإِلْغَاءِ .
فَالتَّبْعِيضُ خُذْ مِنْ مَالِي وَأَعْتِقْ مِنْ
عَبِيدِي .
وَالِابْتِدَاءُ خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ ، وَأَخَذْتُ
مِنْ فُلَانٍ مَالِيَ ، وَالتَّمْيِيزُ ثَوْبٌ مِنْ قُطْنٍ وَبَابٌ مِنْ حَدِيدٍ
.
وَالْإِلْغَاءُ قَوْله تَعَالَى { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ } وَ { مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } ، وَالْمَعْنَى يَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَا لَكُمْ إلَهٌ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا الْبَاءُ : فَإِنَّ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ
هِيَ لِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِهِ كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَمَسَحْت بِرَأْسِي
.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ هِيَ مَعَ ذَلِكَ لِلتَّبْعِيضِ ،
لِأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ مَسَحْت بِرَأْسِ الْيَتِيمِ
وَمَسَحْت رَأْسَهُ ، وَيَقُولُ مَسَحْت يَدِي بِالْحَائِطِ ، وَمَسَحْت
الْحَائِطَ .
فَلَمَّا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ ظَاهِرًا
مَعْقُولًا فِي اللُّغَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِهَا فَائِدَةٌ وَهِيَ
التَّبْعِيضُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْإِلْغَاءِ ، لِأَنَّ هَذِهِ
الْأَدَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ لِلْفَائِدَةِ كَقَوْلِنَا مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ
تَدْخُلُ لِلْإِلْغَاءِ وَلَا نَجْعَلُهَا لِلْإِلْغَاءِ إلَّا بِدَلَالَةٍ
.
وَأَمَّا " فِي " فَلِلظَّرْفِ كَقَوْلِك:
ثَوْبٌ فِي مِنْدِيلٍ ، وَتَمْرٌ فِي صُرَّةٍ
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا ( فِيمَنْ
قَالَ ) : غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ إنَّهُ إقْرَارٌ
بِالْمِنْدِيلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ ظَرْفًا لَهُ فِي حَالِ
الْغَصْبِ وَصَارَ مَغْصُوبًا مَعَهُ .
وَقَدْ تَجِيءُ " فِي " بِمَعْنَى " مِنْ
" .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا }
يَعْنِي مِنْهَا .
وَتَجِيءُ أَيْضًا بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ
وَعَزَّ { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } مَعْنَاهُ مَعَ عِبَادِي
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فِي جُمْلَةِ عِبَادِي وَفِي
جَمَاعَتِهِمْ .
وَالنَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ إنَّ أَكْثَرَ حُرُوفِ
الصِّفَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ
.
وَأَمَّا " كُلُّ
" فَإِنَّهَا تَدْخُلُ لِجَمْعِ الْأَسْمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وَقَوْلِ (
الْقَائِلِ ) كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَدْخُلُ الدَّارَ فَهِيَ
طَالِقٌ وَيَكُونُ فِيهَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ إذَا عُلِّقَتْ بِالْجَوَابِ ،
وَلَا تَتَنَاوَلُ الْأَفْعَالَ لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَيْهَا
.
أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ كُلٌّ يَدْخُلُ الدَّارَ
، وَإِنَّمَا تَقُولُ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي تَدْخُلُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ
.
وَلِذَلِكَ قَالُوا إنَّهَا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ
وَطَلُقَتْ ثُمَّ دَخَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ ، لِأَنَّهَا لِمَا
لَمْ تَتَنَاوَلْ الْأَفْعَالَ ، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَتْ الْأَسْمَاءَ عَلَى
وَجْهِ الْجَمْعِ وَاسْتَحَالَ أَنْ تَجْمَعَ إلَى نَفْسِهَا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا مَرَّةً
وَاحِدَةً ، وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ امْرَأَةٌ أُخْرَى طَلُقَتْ أَيْضًا
لِأَنَّهَا غَيْرُ الْأُولَى .
.
وَأَمَّا " كُلَّمَا " فَإِنَّهَا لِجَمْعِ
الْأَفْعَالِ وَفِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ
.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ
وَلَا يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَى الِاسْمِ لِأَنَّك لَا تَقُولُ : كُلَّمَا
امْرَأَةٌ إنَّمَا تَقُولُ : كُلَّمَا
دَخَلَتْ امْرَأَةٌ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى
: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ
جُلُودًا غَيْرَهَا } وَ { كُلَّمَا
أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } اقْتَضَى كُلَّ مَرَّةٍ.
الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي إثْبَاتِ الْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ وَذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ
(فارغة)
بَابٌ فِي إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَذِكْرِ
الِاخْتِلَافِ فِيهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْعَامِّ
الظَّاهِرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ
.
فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْحُكْمُ
بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا فَلَا يُصْرَفُ
شَيْءٌ مِنْهَا إلَى الْخُصُوصِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِيهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ
.
وَأَبَتْ طَائِفَةٌ هَذَا الْقَوْلَ ، وَاخْتَلَفَتْ
فِيمَا بَيْنَهَا .
فَقَالَ : ( مِنْهُمْ )
قَائِلُونَ بِالْخُصُوصِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ جَمِيعًا وَحَكَمُوا
فِيهَا بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْكُلِّ
.
وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ كَذَلِكَ
بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعُمُومِ وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ
بِهِ الْعُمُومُ .
قَالُوا : وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْعُمُومِ
بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّ الْمُحْتَمِلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ ، وَلَا يُعْلَمُ
أَنَّهُ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ ، وَالْخُصُوصُ مُتَيَقَّنٌ
فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ
الْعُمُومِ .
وَقَالَ مِنْهُمْ آخَرُونَ : بِالْوَقْفِ فِيهِمَا
جَمِيعًا .
لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُمْ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَاحْتِمَالِهِ لِلْآخَرِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا
بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى
الْبَيَانِ .
وَفَرَّقَتْ طَائِفَةٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ
وَالْأَوَامِرِ ( فَوَقَفَتْ فِي الْأَخْبَارِ وَحَكَمَتْ بِالْعُمُومِ فِي
الْأَوَامِرِ ، وَطَائِفَةٌ وَقَفَتْ فِي عُمُومِ الْأَوَامِرِ ) وَقَالَتْ
بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ
وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي
الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا
وَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ (
الْكَرْخِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا ،
وَجَمِيعُ مِنْ شَاهَدْنَاهُمْ مِنْ شُيُوخِنَا وَاحْتِجَاجُهُمْ لِمَسَائِلِهِمْ
فِي كُتُبِهِمْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مُجَرَّدَةٌ مِنْ دَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ إلَيْهِ
فِي إيجَابِ الْعُمُومِ يَقْتَضِي ذَلِكَ .
وَذَلِكَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَذَاهِبَهُمْ
.
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : وَحَكَى لَنَا أَبُو الطَّيِّبِ
بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : إنِّي
أَقِفُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَأَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ .
فَقُلْت لِأَبِي الطَّيِّبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ
مَذْهَبَهُ كَانَ الْوَقْفَ فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ
.
فَقَالَ لِي : هَكَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ
.
وَحَكَى لِي أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ
الْبَرْدَعِيِّ يَقِفُ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
وَفِي الْأَخْبَارِ جَمِيعًا .
وَأَبُو الطَّيِّبِ هَذَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ عِنْدِي
فِيمَا يَحْكِيهِ ، وَقَدْ جَالَسَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ وَشُيُوخَنَا الْمُتَقَدِّمِينَ
.
وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانَ
يَقُولُ بِالْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ ،
وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهَا بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ ،
لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ
أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي
الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْوَقْفِ فِي
عُمُومِ الْأَخْبَارِ.
وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّلَالَةَ
قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْآيَ الْمُوجِبَةَ لِلْوَعِيدِ بِالتَّخْلِيدِ فِي
النَّارِ إنَّمَا عَنَى بِهَا الْكُفَّارَ لِآيَاتٍ أَوْجَبَتْ خُصُوصَهَا فِيهِمْ
.
نَحْوِ قَوْله تَعَالَى{إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
وقَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا } .
وقَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بَالَهُمْ
}(وَقَوْلِهِ { إنَّهُ لَايَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إلَّا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ } ) .
وقَوْله تَعَالَى { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَإِنَّمَا
جَعَلَ التَّخْلِيدَ فِي النَّارِ مَقْصُورًا عَلَى الْكُفَّارِ بِهَذِهِ
الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ( أَبُو مُوسَى) عِيسَى بْنُ أَبَانَ
هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَخْبَارِ.
وَقَالَ إنَّا إنَّمَا وَقَفْنَا فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ
أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ آيَ الْوَعِيدِ بِإِزَائِهَا.
هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْتهَا مِمَّا يَقْتَضِي
ظَاهِرُهَا دُخُولَ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِيهَا فَجَوَّزْنَا لَهُمْ
الْغُفْرَانَ بِهَا وَجَوَّزْنَا التَّعْذِيبَ بِالْآيِ الْأُخَرِ وَأَرْجَيْنَا
أَمْرَهُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى ، فَلَمْ نَقْطَعْ فِيهِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ
دُونَ الْآخَرِ .
وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ بِعُمُومِ
الْأَخْبَارِ أَيْضًا .
وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُ
ذَلِكَ .
فَدَلَّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : ( وَمَذْهَبُ ) كُلِّ مَنْ قَالَ
بِالْعُمُومِ مِمَّنْ لَا يَرَى جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَنَّ اللَّفْظَ
الْعَامَّ الْمُخْرَجَ حَقِيقَتُهُ الْعُمُومُ لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِلْخُصُوصِ إلَّا
بِدَلَالَةٍ تُقْرَنُ إلَيْهِ .
فَأَمَّا اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ فَلَا احْتِمَالَ
فِيهِ ، وَأَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصَ كَانَ اللَّفْظُ
مَجَازًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْهُمْ إطْلَاقَ لَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ
الْخُصُوصُ
وَالْقَوْلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا لَمْ تَصْحَبْهُ
دَلَالَةُ الْخُصُوصِ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ وَأَصْلِ
اللُّغَةِ ، هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي الصَّدْرِ
الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَابَعَهُمْ مُتَوَارَثٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ
بِالْفِعْلِ الْمُسْتَفِيضِ .
يُبَيِّنُ ذَلِكَ مُحَاجَّةُ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي تَنَازَعُوا فِيهَا بِأَلْفَاظِ عُمُومٍ مُجَرَّدَةٍ
مِنْ دَلَالَةٍ غَيْرِهَا .
مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خَالَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
وَطْءِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ
وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " .
يَعْنِي بِآيَةِ التَّحْلِيلِ قَوْله تَعَالَى {
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَبِآيَةِ
التَّحْرِيمِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ } .
وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْلِيلُ أَوْلَى
" .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْوَقْفُ فِيهِ إلَّا أَنَّ
الْمَشْهُورَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ فَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُمُومِ
لَفْظِ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ مَعَهُ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ
كَانَ الْعُمُومَانِ عِنْدَهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ مَتَى خَلَّيْنَا وَمُقْتَضَى
اللَّفْظِ فِيهِمَا بِقَوْلِهِمَا : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهَا آيَةٌ
لِاسْتِغْرَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ الِاسْمِ
.
ثُمَّ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَامَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مُرَتَّبٌ عَلَى
قَوْلِهِ { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } ( وَأَنَّ قَوْلَهُ { وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } قَاضٍ عَلَيْهِ .
وَكَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
قَوْلَهُ { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } ) .
مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ { إلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } مَخْصُوصٌ ، وَأَنَّ آيَةَ الْإِبَاحَةِ قَاضِيَةٌ عَلَى آيَةِ
الْحَظْرِ .
وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
" عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عُمُومَ
الْآيَتَيْنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا } وقَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ " أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا (
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ } وَقَالَ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته
أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ { أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا مُخَصِّصَةٌ
لَهَا فَاعْتَبَرَا جَمِيعًا عُمُومَ اللَّفْظِ وَلَمْ يَفْزَعَا إلَى تَأْيِيدِهِ
بِغَيْرِهِ .
وَأَرَادَ عُثْمَانُ رَجْمَ امْرَأَةٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ( أَمَا إنَّهَا إنْ خَاصَمَتْكُمْ
بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خَصَمْتُكُمْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَقَالَ : { وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ } فَحَصَلَ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ) .
فَاحْتَجَّ بِالْعُمُومِ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ (
فِيهِ ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْجِنْسِ فَهُوَ مُسْتَوْعِبٌ لِلْكُلِّ
وَقَبِلَهُ مِنْهُ عُثْمَانُ وَعَرَفَ صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ فَرَجَعَ إلَيْهِ
.
وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانُ بْنُ
الْحُصَيْنِ فِي أُمِّ الْمَرْأَةِ إنَّهَا تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ
يَقَعْ دُخُولٌ ، وَقَالُوا إنَّهَا مُبْهَمَةٌ
وَلَمْ يَرْجِعُوا فِيهَا إلَّا إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ
اللَّهُ تَعَالَى " .
وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ
" لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ فَقَالَ قَضَاءُ اللهِ
أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ }
وَاحْتَجَّ عُمَرُ عَلَى الزُّبَيْرِ وَبِلَالٍ وَمَنْ سَأَلَهُ قِسْمَةَ
السَّوَادِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى " { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ
{ وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ( وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى ) { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } .
قَالَ عُمَرُ " فَقَدْ جَعَلَ الْحَقَّ لِهَؤُلَاءِ
كُلِّهِمْ وَلَوْ قَسَمْته بَيْنَكُمْ لَبَقِيَ النَّاسُ لَا شَيْءَ لَهُمْ ،
وَلَصَارَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ " .
فَحَاجَّهُمْ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَبَيَّنُوا
الرُّشْدَ فِي قَوْلِهِ ، وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُ الْحَقِّ ( فِيهِ ) فَرَجَعُوا
إلَى مَقَالَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ أَجِدْ اللَّهَ ذَكَرَ
جَدًّا وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا أَبًا احْتِجَاجًا لِيَكُونَ الْجَدُّ أَبًا
.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ
مُسْتَفِيضَةٌ لَوْ اسْتَقْصَيْنَاهُ لَطَالَ بِهِ الْكِتَابُ وَبِمِثْلِ
هَذَا يُوقَفُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ وَمَقَالَاتِهِمْ
.
فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ
مَفْهُومِ لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ السَّلَفِ مِنْ غَيْرِ
خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ ، وَمَا خَالَفَ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ .
إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ ضَاقَ
عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ فِي الْقَوْلِ بِالْإِرْجَاءِ فَلَجَأَتْ إلَى دَفْعِ
الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ رَأْسًا لِئَلَّا يَلْزَمَهَا لِخُصُومِهَا الْقَوْلُ بِوَعِيدِ
الْفُسَّاقِ بِظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ ، فَقَدْ صَنَّفَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى نُفَاةِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ كُتُبًا وَاسْتَقْصَوْا
الْكَلَامَ ( عَلَيْهِمْ فِيهَا )
وَفِي اسْتِقْصَاءِ الْقَوْلِ فِيهِ ضَرْبٌ ( مِنْ
الْإِطَالَةِ ) وَشَأْنُنَا الِاخْتِصَارُ ، وَذِكْرُ الْجُمَلِ مَا
اسْتَغْنَيْنَا فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ بِهَا عَنْ الْإِطَالَةِ ، وَنَسْأَلُ
اللَّهَ التَّوْفِيقَ .
دَلِيلٌ آخَرُ :
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) : فَنَقُولُ إنَّ مِمَّا يَدُلُّ
عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ : أَنَّهُ لَا يَخْلُو حُكْمُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ
الْمُشْتَمِلِ
عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ
:
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِكُلِّ مَا اسْتَوْفَاهُ
الِاسْمُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا
أَوْ الْوَقْفُ فِيهِ حَتَّى يَرِدَ بَيَانُ مُرَادِ
الْكُلِّ ،
أَوْ الْبَعْضِ عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ الْقَائِلُونَ
بِالْوَقْفِ وَالْحُكْمُ ( فِيهِ )
بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْكُلِّ
.
فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الْحُكْمَ بِالْأَقَلِّ
لَمْ يَخْلُ وُجُوبُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ أَوْ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُ .
فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْأَوَّلِ إنَّمَا يُعَلَّقُ
وُجُوبُهُ بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ ، وَلَيْسَ هَذَا حُكْمٌ بِالْأَقَلِّ
مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ ، وَعَلَى أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ
مَبْنِيَّةً عَلَى اللَّفْظِ ، وَاللَّفْظُ لَا حُكْمَ لَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ،
فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ تِلْكَ الدَّلَالَةِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ
الْحُكْمِ بِالْأَقَلِّ .
مُتَعَلِّقًا ( بِدَلَالَةِ
غَيْرِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْأَقَلِّ مُتَعَلِّقًا )
بِاللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ انْتَظَمَهُ وَصَارَ عِبَارَةً عَنْهُ
.
فَالْحُكْمُ بِاسْتِيعَابِ الْكُلِّ وَاجِبٌ لِوُجُودِ اللَّفْظِ
الْمُشْتَمِلِ عَلَى جَمِيعِهِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَخْتَصَّ بِكَوْنِهِ
عِبَارَةً عَنْ الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ إذْ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ
عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }
لَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ ، فَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ
الْحُكْمُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْجَمِيعِ
لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : إنَّمَا حَكَمْت
بِالْأَقَلِّ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وَمَا زَادَ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ
.
قِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ
إلَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمُخَالِفُوك الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ يَقُولُونَ
فِي الْأَقَلِّ كَقَوْلِك أَنْتَ فِي الْأَكْثَرِ ، فَهَلْ لَهُمْ دَلَالَةٌ غَيْرُ
اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالْأَقَلِّ
فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا وَعِنْدَك وُجُوبُ الْحُكْمِ
بِأَقَلَّ ، وَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ
عَنْهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ ، وَاللَّفْظُ مَوْجُودٌ فِي الْأَكْثَرِ كَهُوَ
فِي الْأَقَلِّ ، فَهَلَّا حَكَمْت لَهُ بِمِثْلِ حُكْمِهِ فَبَطَلَ بِمَا وَصَفْنَا
قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ .
ثُمَّ نَقُولُ لِأَصْحَابِ الْوَقْفِ: أَتُثْبِتُونَ
لِلْخِطَابِ فَائِدَةً عِنْدَ وُرُودِهِ مُطْلَقًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِدَلَالَةِ
الْخُصُوصِ أَوْ الِاحْتِمَالِ أَوْ تَزْعُمُونَ أَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ
سَوَاءٌ
فَإِنْ قَالُوا لَهُ فَائِدَةٌ ، وَلِلْمُخَاطَبِ فِيهِ
غَرَضٌ مَحْمُودٌ إذَا كَانَ حُكْمًا وَهُوَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ حُكْمًا
قَدْ لَزِمَنَا يُرِيدُ بَيَانَهُ فِي التَّالِي .
قِيلَ لَهُ : فَالْبَيَانُ الْوَارِدُ فِي التَّالِي (
لَا ) يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهُ
فَإِنْ كَانَ لَفْظًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ
يَجِبُ الْوَقْفُ ( فِيهِ ) .
وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً مِنْ لَفْظٍ فَكَيْفَ يَدُلُّ
عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ .
فَإِنْ قَالَ : يَكُونُ بَيَانُهُ مَوْقُوفًا عَلَى
وُرُودِ الْإِجْمَاعِ بِهِ ، فَمَهْمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ عَلِمْنَا
أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ .
قِيلَ لَهُ : فَالْإِجْمَاعُ فِيمَا طَرِيقُ
مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ سَمْعٍ أَوْ عَنْ
دَلَالَةٍ مِنْهُ .
فَإِنْ كَانَ عَنْ سَمْعٍ فَذَلِكَ السَّمْعُ حُكْمُهُ
أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانٍ ثَانٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ عَنْ
مِثْلِهِ .
وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً عَنْ ( غَيْرِ ) سَمْعٍ فَهِيَ
أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهَا إجْمَاعٌ .
وَحُكْمُ السَّمْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ ، عَلَى أَنَّ
حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَنْ طَرِيقِ السَّمْعِ ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ السَّمْعُ دَالًّا بِنَفْسِهِ ، وَكَانَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ مَوْقُوفًا عَلَى
الْإِجْمَاعِ ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَثْبُتُ حُجَّةً إلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ
،
فَقَدْ صَارَتْ حُجَّةُ السَّمْعِ مَوْقُوفَةً عَلَى
الْإِجْمَاعِ ، وَحُجَّةُ الْإِجْمَاعِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى السَّمْعِ ، وَهَذَا
مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا
لِلْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ فَرْعًا لِصَاحِبِهِ ، وَهَذَا غَايَةُ الِاسْتِحَالَةِ
، فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِالْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ اللَّفْظِ
رَأْسًا وَإِخْلَاءِ جَمِيعِ خِطَابِ اللهِ تَعَالَى وَخِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَائِدَةٍ ، وَهَذَا قَوْلٌ يُؤَدِّي بِقَائِلِهِ
إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الدِّينِ .
فَلَمَّا بَطَلَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ
وَبِالْوَقْفِ لِمَا بَيَّنَّا لَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ أَصْحَابِ الْعُمُومِ
.
وَدَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا
بِلِسَانِ قَوْمِهِ } .
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ
لِلْجِنْسِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
}
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ }
وَ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي }
وَالنَّاسُ وَالْحَيَوَانُ تُفِيدُ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ
فِي نَفْسِهَا جَمِيعَ مَا تَحْتَ الْجِنْسِ ، وَفِيهَا أَلْفَاظٌ تَعُمُّ
الْعُقَلَاءَ وَأَلْفَاظٌ تَعُمُّ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ مِثْلُ مَنْ وَمَا فِي
النَّكِرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَفْهَمُ عَنْ جِنْسِ
الْعُقَلَاءِ بِـ " مَنْ " وَيَصِحُّ الْجَوَابُ عَنْهَا بِـ "
مَنْ "
شَاءَ مِنْهُمْ ، فَيَقُولُ مَنْ فِي الدَّارِ
فَيُجِيبُهُ بِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ جَوَابُهُ
صَحِيحًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ فِي الدَّارِ حِمَارٌ أَوْ ثَوْرٌ
.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِهِ مَنْ
يُعْطِنِي أُعْطِهِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَيَقُولُ
: مَا فِي الدَّارِ فَتَقُولُ حِمَارٌ أَوْ جَمَلٌ ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ
رَجُلٌ وَتَقُولُ فِي الْمُجَازَاةِ مَا تَأْكُلُ آكُلُ وَمَا تَحْمِلُ أَحْمِلُ
وَنَحْوُ ذَلِكَ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ
الْعُقَلَاءِ وَتَعُمُّ الْجَمِيعَ فِيهِ ، فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ
اللهِ تَعَالَى وَفِي خِطَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُطْلَقًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي ( أَصْلِ ) اللُّغَةِ
.
كَمَا أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْيَانِ وَالْأَجْنَاسِ
مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فِي خِطَابِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى
مَا هِيَ اسْمٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } فَمِنْ
حَيْثُ عُقِلَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مُسَمَّيَاتُهَا لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ
لَهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ الْمَيْتَةُ ( الْمَذْكُورَةُ ) فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَيْتَةَ الْمَعْقُولَةَ مِنْ
لُغَةِ الْعَرَبِ كَانَ الْمَعْقُولُ أَيْضًا
اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ
كَذَلِكَ .
وَيَدُلُّ ( عَلَيْهِ )
أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } فَمَا خَاطَبَنَا بِهِ مِمَّا هُوَ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِهِ
فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَقَدْ احْتَجُّوا لِلْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ أَيْضًا : بِأَنَّ لِلْعُمُومِ فِي اللُّغَةِ صِيغَةً يَتَمَيَّزُ
بِهَا مِنْ الْخُصُوصِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ
مَخْرَجُ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ لِلْوَاحِدِ صِيغَةً يَبِينُ بِهَا مِنْ
الْجَمِيعِ ، وَكَمَا أَنَّ لِلْخَبَرِ صِيغَةً يَنْفَصِلُ بِهَا مِنْ الْأَمْرِ
وَلِلِاسْتِخْبَارِ صُورَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا مِنْ الْإِخْبَارِ فَمِنْ حَيْثُ
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُولُ صِيغَةَ الْأَمْرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا
مَعْنَى هُوَ مَوْضُوعُهُ فِي اللُّغَةِ .
وَكَذَلِكَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلَفْظِ الْوَاحِدِ ،
وَعُقِلَ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ
صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ أَلَّا يُصْرَفَ الصِّيغَةُ
الْمَوْضُوعَةُ لِلْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ كَمَا لَا يُصْرَفُ لَفْظُ الْجَمْعِ
إلَى الْوَاحِدِ ، وَلَفْظُ الْأَمْرِ إلَى الِاسْتِخْبَارِ ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ
إلَى الْأَمْرِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ اللَّفْظِ ، قِيلَ لَهُ : لَوْ جَازَ
ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ أَنَّ
جَمِيعَ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ
.
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ :
إنَّ هَذَا عُمُومٌ مَجَازًا قِيلَ لَهُ : إنَّ كُلَّ مَجَازٍ فَإِنَّمَا هُوَ
مَجَازٌ عَنْ حَقِيقَةٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ حَقِيقَةٌ فِي
اللُّغَةِ حَتَّى يُسْتَعَارَ مِنْهُ الْمَجَازُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا عَامٌّ
حَقِيقَةً إذْ لَيْسَ يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى أَصْلٍ غَيْرِهِ هُوَ اسْتِعَارَةٌ
مِنْهُ .
وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ
لَفْظُ الْعُمُومِ وَلَفْظُ الْخُصُوصِ بِأَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى
يُعَبَّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَعْنَى الْآخَرِ لَمَا كَانَ
أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْعَامِّ مِنْهُ
بِأَنْ يَكُونَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْخَاصِّ فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي مَخْرَجُهُ
مَخْرَجُ الْعَامِّ مَوْضُوعٌ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ ، وَاَلَّذِي
مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَاصِّ مَوْضُوعٌ فِي
حَقِيقَتِهِ لِلْخُصُوصِ .
وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ كَمَا
قَالَ خَصْمُنَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا بِهِ الْعُمُومَ تَأْكِيدَ
الْخُصُوصِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ ، فَكَانَ إذَا قَالَ ضَرَبْت غِلْمَانِي
كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى لَمْ أُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا إنَّهُ يَكُونُ
مُؤَكِّدًا لِتَخْصِيصِهِ وَدَالًّا بِهِ عَلَى أَنَّهُ ضَرَبَ الْبَعْضَ
وَلَكَانَ يَجُوزُ مَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْخُصُوصُ تَأْكِيدَ الْعُمُومِ حَتَّى
قَالَ : ضَرَبْت غُلَامِي وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مُؤَكِّدًا بِهِ الْعُمُومَ
وَدَلَالَةً عَلَيْهِ ، فَإِذَا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ
عَنْ الْخُصُوصِ لَا يَكُونُ لِلْعُمُومِ ، وَمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْعُمُومِ
لَا يَكُونُ لِلْخُصُوصِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ
لِأَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ إلَى أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهَا أَلْفَاظٌ لِلْعُمُومِ
كَحَاجَتِهِمْ إلَى أَسْمَاءِ سَائِرِ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُمْ بِهَا
يَتَوَصَّلُونَ إلَى أَفْهَامِهِمْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ ،
وَالْإِنَابَةِ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ ، إذْ كَانَ مَعْلُومًا
أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مَتَى أَرَادَ الْعِبَارَةَ عَنْ الْجِنْسِ كُلِّهِ أَنْ يَذْكُرَ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهِ أَوْ يُشِيرَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ
يَفُوقُ الْإِحْصَارَ وَالْعَدَدَ وَيَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِشَارَةُ وَالتَّعْيِينُ
، فَاحْتَاجُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى أَلْفَاظٍ مَوْضُوعَةٍ لِلْجِنْسِ
وَلِلْجَمْعِ يُوجِبُ
اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ كُلِّهِ وَيَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ
جَمِيعِ مَا الِاسْمُ مَوْضُوعٌ لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا سَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي
بَيَانِ صِفَةِ الْعُمُومِ .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
لَفْظُ الْعُمُومِ مَتَى وَرَدَ مُطْلَقًا مَحْمُولًا عَلَى بَابِهِ وَمُخْتَصًّا
بِمَا وُضِعَ لَهُ مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَاسْتِيعَابِ كُلِّ مَا لَحِقَهُ
الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ كَمَا وَجَبَ إذَا خُوطِبَ بِذِكْرِ
سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَرَجُلٍ وَفَرَسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، صَرْفُهَا إلَى مَا
يَخْتَصُّ بِهَا فِي مَوْضِعِ اللُّغَةِ دُونَ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا نَأْبَى أَنْ يَكُونَ فِي
اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْجِنْسِ وَلِلْجَمْعِ تَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ
مَا تَحْتَهَا وَتَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَلْحَقُهُ الِاسْمُ مِنْهَا إلَّا أَنَّ
هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِأَعْيَانِهَا لَمَّا كَانَتْ تَصِحُّ لِلْكُلِّ
وَلِلْبَعْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ } وقَوْله
تَعَالَى { وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ } وَقَوْلِ الْقَائِلِ
جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ فَسَاغَ إطْلَاقُهَا مَعَ إرَادَتِهِ الْبَعْضَ دُونَ
الْجَمْعِ وَقَفَتْ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ
بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ فِيهِ
بِالْأَقَلِّ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا مُنْتَظِمٌ لَهُ أَوْ
الْوَقْفُ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمُرَادِ .
قِيلَ لَهُ : فَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي مَخْرَجُهُ
الْعَامُّ مُحْتَمِلٌ لِلْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ دَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا .وَلَيْسَ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَعْتَبِرَهُ عَنْ الْخُصُوصِ
صَارَ مُحْتَمِلًا لَهُ وَلِلْعُمُومِ ، ( وَذَلِكَ لِأَنَّ ) لَفْظَ الْجَمْعِ حَقِيقَةُ
الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَهَا فَمَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهُوَ
مُسْتَعْمِلٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ( فَلَمْ يُعْتَبَرْ ) الِاقْتِصَارُ بِ (
بِهِ ) عَلَيْهَا .
وَقِيلَ لَهُ: كَوْنُ
الثَّلَاثَةِ جَمْعًا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهَا
إذْ كَانَ عُمُومُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَهَا كَمَا يَتَنَاوَلُهَا
لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَةٍ مَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ
اسْتِعْمَالِهِ فِي حَقِيقَةٍ أُخْرَى .
فَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ حَقِيقَةً ( فِيمَا ) فَوْقَ
الثَّلَاثَةِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ كَمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي
الثَّلَاثَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَعْلُومٌ الْفَرْقُ بَيْنَ
قَوْلِهِ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ اُقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ ، وَبَيْنَ قَوْلِ قَائِلٍ اقْطَعُوا سُرَّاقًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ
اقْطَعُوا السُّرَّاقَ .فَإِنَّ قَوْلَهُ مُشْرِكِينَ وَسُرَّاقًا لَا يَقْتَضِي جَمِيعَ
مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مَعَ كَوْنِهِ لَفْظَ جَمْعٍ .
قِيلَ لَهُ : وَإِنْ كَانَ لَفْظَ جَمْعٍ فَإِنَّهُ مِنْ
حَيْثُ كَانَ نَكِرَةً لَمْ يُوجِبْ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ كُلِّهِ ، وَلَوْ
وَجَبَ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ صَارَ مَعْرِفَةً لِدُخُولِ مَا تَحْتَ الْجِنْسِ
فِيهِ وَكَانَ يَصِيرُ كَقَوْلِهِ اقْطَعُوا السُّرَّاقَ وَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي مِثْلِهِ يَدْخُلَانِ
لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْأَلِفِ
وَاللَّامِ عَلَيْهِ وَخُرُوجُهَا سَوَاءً مَعْلُومٌ فَسَادُهُ
.
وَلَيْسَ فِي هَذَا نَقْضٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ
لَفْظَ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ فَمَا فَوْقَهَا حَقِيقَةً وَأَنَّهُ
لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إنَّمَا
صَرَفْنَاهُ إلَى الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِدَلَالَةٍ وَهُوَ خُرُوجُ
اللَّفْظِ مَخْرَجَ النَّكِرَةِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَعْضًا مَجْهُولًا مِنْ جُمْلَةِ
مُحْكَمِ اللَّفْظِ مَاضٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُ
وَقَصَرْنَاهُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِدَلَالَةٍ .
وَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ إلَّا
أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ أَعْيَانٍ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
اللَّفْظِ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ أَوْ يَكُونُ الْمُخَاطَبُ مُخْبِرًا فِي
قَطْعِ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْت
نِسَاءً أَوْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَعَبْدِي ( حُرٌّ ) إنَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ
مِنْهُمْ .
وَإِنَّمَا يُوجِبُ لَفْظُ الْجَمْعِ اسْتِغْرَاقَ
الْجِنْسِ بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً } هَذَا عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظٍ
مُتَكَرِّرٍ .
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مِمَّا خَلَقَ
مِنْهُمَا وَمِنْ صُلْبِهِمَا دُونَ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا فَيَصِيرُونَ
مَذْكُورِينَ بِالْإِضَافَةِ إلَى جُمْلَةِ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ
- فَكَيْفَمَا جَرَتْ الْحَالُ فَقَدْ جَازَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ
وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يُسَلِّمُهُ لَك جَمِيعُ
أَصْحَابِ الْعُمُومِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَا
يَكُونُ لِلْخُصُوصِ أَبَدًا ، وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ عَلِمْنَا أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ قَطُّ ( لَفْظَ ) عُمُومٍ لِأَنَّ مَا صَحِبَهُ مِنْ دَلَالَةِ
الْخُصُوصِ يَجْرِي عِنْدَهُمْ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ ، فَهَذَا السُّؤَالُ
سَاقِطٌ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ .
وَأَمَّا مَنْ سَلَّمَ ( وُرُودَ ) لَفْظِ عُمُومٍ
يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ
الْحَالِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً ، وَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعُمُومِ
وَلَيْسَ ( فِي ) أَنَّ اللَّفْظَ عُدِلَ بِهِ عَنْ
حَقِيقَتِهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فِي حَالِ مَا يَمْنَعُ
اسْتِعْمَالَهُ عُدَّ وُرُودُهُ مُطْلَقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ قَدْ يَرِدُ
وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ }
وَيَرِدُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } .
وَلَمْ يُمْنَعْ جَوَازُ وُرُودِهِ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ لَهُ مِنْ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ (
مَتَى وَرَدَ ) مُطْلَقًا عَلَى حَقِيقَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ لَفْظُ الْعُمُومِ يَقْتَضِي
اسْتِيعَابَ جَمِيعِ مَا تَحْتَ الِاسْمِ لَصَارَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهُ
كَالْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ جَوَازَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ
عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورِ
لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : رَأَيْت زَيْدًا
إلَّا زَيْدًا .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدْفَعُ
أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ اسْمًا لِهَذَا الْعَدَدِ يَقْتَضِي إطْلَاقُهُ اسْتِيعَابَ
جَمِيعِهِ ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا ،
وَلَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ شُمُولَ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِجَمِيعِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا فِي الْعُمُومِ وَجَوَازُ وُرُودِ
الْخُصُوصِ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَانِعٍ كَوْنَ اللَّفْظِ عِبَارَةً
عَنْ جَمِيعِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ
صِفَةَ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلشُّمُولِ وَالِاسْتِيعَابِ هِيَ مَا يَصْحَبُهُ
حَرْفُ التَّأْكِيدِ ، وَهُوَ الْكُلُّ وَالْجَمِيعُ ، وَيَقْبُحُ مَعَهُ
اسْتِفْهَامُ الْمُرَادِ وَمَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْعُمُومِ
وَالْخُصُوصِ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ بِأَوْلَى بِحُكْمِ اللَّفْظِ
مِنْ الْآخَرِ ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ وَالِاسْتِفْهَامِ
مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ .
قِيلَ لَهُ : لَفْظُ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ إذَا دَخَلَا
عَلَى الْعُمُومِ ، فَإِنَّمَا يُؤَكِّدَانِ بِهِ مَا قَدْ حَصَلَ وَاسْتَقَرَّ
مِنْ الْمَعْنَى وَلَا يُوجِبَانِ زِيَادَةَ حُكْمٍ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ
الْعُمُومُ ( الْعَارِي ) مِنْ
التَّأْكِيدِ ، وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ بِلَفْظِ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ كَمَا
يُؤَكَّدُ بِالتَّكْرَارِ ، وَلَيْسَ يُفِيدُ التَّكْرَارُ زِيَادَةَ حُكْمٍ عَلَى
مَا حَصَلَ بِالْعُمُومِ .
كَقَوْلِ اللهِ { أَوْلَى لَك فَأَوْلَى }( ثُمَّ {
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وَالثَّانِي )
تَأْكِيدٌ فِي تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ بَدْءًا .
وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا
بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ } ، وَكَقَوْلِهِ
فِي الصَّدَقَةِ " فَإِنْ ( لَمْ ) تَكُنْ تَجِدُ
ابْنَةَ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ " .
وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
هَلَّا سَأَلْت جُمُوعَ كِنْدَةَ ***يَوْمَ وَلَّوْا
أَيْنَ أَيْنًا
وَكَالْقَسْمِ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ
تَقْدِيرِ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ
.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ
عَلَى الْأَعْدَادِ الَّتِي لَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ
بِهِ قَبْلَ التَّأْكِيدِ .
نَحْوُ قَوْلِك : أَخَذْتُ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا
وَقَبَضْتُهَا بِأَسْرِهَا وَلَمْ يُفِدْ زِيَادَةَ عَدَدٍ ( عَلَى ) مَا
عَقَلْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ قَبْلَ دُخُولِهِ ، وَيَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ
الْمُفْرَدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِك رَأَيْت زَيْدًا نَفْسَهُ
وَعَيْنَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ
مَعْنًى فِي وُجُوبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّأْكِيدُ يُفِيدُ
زِيَادَةَ مَعْنًى عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ لَمَا كَانَ تَأْكِيدًا ، وَلَكَانَ
حِينَئِذٍ كَلَامًا مُسْتَقْبَلًا مُفِيدًا بِنَفْسِهِ كَقَوْلِك : عَشَرَةٌ
وَعَشَرَةٌ أُخْرَى فَلَمَّا صَحَّ أَنَّ لَفْظَ الْكُلِّ ( وَ ) الْجَمِيعِ إذَا
اتَّصَلَا بِلَفْظِ الْعُمُومِ إنَّمَا يَصْحَبَانِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ
ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي
أَفَادَنَاهُ لَفْظُ الْعُمُومِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ لَفْظُ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ
إذَا دَخَلَا عَلَى الْعُمُومِ لَا يُفِيدَانِ زِيَادَةَ حُكْمٍ فَلَا فَائِدَةَ
فِي دُخُولِهِمَا .
قِيلَ لَهُ : بَلْ فِيهِمَا أَكْبَرُ الْفَائِدَةِ ،
هُوَ تَأْكِيدُهُ وَتَقْرِيرُهُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ كَمَا أَنَّ أَنْفُسَنَا
وَجَمِيعَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى دَلَائِلُ عَلَيْهِ وَمَوْصُولٌ إلَى
الْعِلْمِ بِهِ .
وَالْمُعْجِزَةُ الْوَاحِدَةُ وَالسُّورَةُ الْوَاحِدَةُ
دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ ( نُبُوَّةِ )
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا كَانَتْ
مُوَصِّلَةً إلَى الْعِلْمِ بِهِ ، وَقَدْ جَعَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلَّ سُورَةٍ
دَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ ، وَجَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَلَائِلُ
عَلَى تَوْحِيدِهِ وَحِكْمَتِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ فَائِدَةَ دُخُولِ حَرْفِ الْكُلِّ
وَالْجَمِيعِ أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْصِيصَ وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ
دَلِيلٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ كُلَّ مَا حَسُنَ مَعَهُ
الِاسْتِفْهَامُ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِيهِ لَا مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّ
اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا
صَدَرَ ( عَنْ ) الْحَكِيمِ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا لَمْ
يَحْسُنْ اسْتِفْهَامُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ فِيمَنْ يُظَنُّ بِهِ
الْغَلَطُ وَوَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
فَيُقَالُ لَهُ : أَحَقًّا مَا تَقُولُ ؟ أَنْتَ صَدُوقٌ
فِي ذَلِكَ ؟ وَنَحْوُ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ .
فَأَمَّا الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي
مَوَاضِعِهَا فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِهِ وَيَقْبُحُ
اسْتِفْهَامُهُ ، وَقَدْ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ
أَنْ يُجَوِّزَ السَّامِعُ عَلَى نَفْسِهِ الْغَلَطَ فِيمَا سَبَقَ إلَى سَمْعِهِ فَيَسْتَفْهِمُ
الْمُخَاطَبَ لَهُ لِيَعْلَمَ ( أَنَّ ) مَا سَبَقَ إلَى سَمْعِهِ كَانَ صَحِيحًا
عَلَى مَا سَمِعَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ يَحْسُنُ مِنْ
مِثْلِ هَذَا فِي الْأَعْدَادِ الْمَعْلُومَةِ الَّتِي لَا تُشْكِلُ مَقَادِيرُهَا
عَلَى سَامِعِهَا ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ ،
فَيَقُولَ أَتُعْطِينِي الْأَلْفَ كُلَّهَا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ حَكِيمًا وَالسَّامِعُ
وَاعِيًا لِمَا خُوطِبَ بِهِ وَاللَّفْظُ ظَاهِرَ الْمَعْنَى فَالِاسْتِفْهَامُ
غَيْرُ سَائِغٍ فِي مِثْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْلَا جَوَازُ الِاسْتِفْهَامِ فِي
لَفْظِ الْعُمُومِ لَمَا سَاغَ لِقَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَمَرَهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ فَقَالُوا { اُدْعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنْ لَنَا
مَا هِيَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْوُقُوفِ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ
وَحُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَهُ .
قِيلَ لَهُ:(أَوْ ) قَدْ صَارَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً فِي ذَلِكَ وَمَنْ بَرَاهُمْ مِنْ
الْخَطَأِ فِي اسْتِفْهَامِهِمْ مَعَ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ اللَّائِمَةِ فِي مُرَاجَعَتِهِمْ
؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ " لَوْ ذَبَحُوا أَيَّ
بَقَرَةٍ كَانَتْ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
فَشَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ " .
وَعَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَفْهَمُوا ذَلِكَ
هُمْ الَّذِينَ قَالُوا : { أَتَتَّخِذُنَا
هُزُوًا } ، فَمَنْ خَاطَبَ نَبِيَّ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ
ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَاجَعَةِ ،
وَعَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ قَدْ صَارَ سَبَبًا لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً
لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَالَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا اللَّوْمَ
عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ .وَالِاسْتِفْهَامُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الَّذِي قَدْ (
كَانَ ) يُمْكِنُهُمْ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ
لِأَجْلِ مُرَاجَعَتِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ
الْعُمُومِ إذَا أُكِّدَ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ يَقَعُ مَعَهُ لِلسَّائِلِ
عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ الْمُخَاطَبِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ وُقُوعُ عِلْمِ الضَّرُورَةِ
بِمُرَادِ الْقَائِلِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّأْكِيدِ إذْ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ لَهُ
مَعَ وُجُودِ التَّأْكِيدِ تَارَةً وَمَعَ عَدَمِهِ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ
مُقْتَضَى اللَّفْظِ .
وَقَدْ لَا يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ مَعَ وُجُودِ
التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِاللَّفْظِ عَنْ
مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ مُلْغِزًا فِي كَلَامِهِ .
وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِمُرَادِ الْمُخَاطَبِ
مَقْصُورًا عَلَى مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ لَمَا جَازَ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنْ
الْمُطْلِقِينَ مُرَادَ اللهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ
لَا يَعْلَمُ ( كَلَامَ ) اللهِ تَعَالَى اضْطِرَارًا وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ
بِاسْتِدْلَالٍ وَاكْتِسَابٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ وُقُوعُ ( الْعِلْمِ ) بِمُرَادِهِ
فِي خِطَابِهِ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ .
فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا كَثِيرًا مِنْ
مُرَادِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الضَّرُورَةِ
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَخْلُو وُقُوعُ الْعِلْمِ
بِالْعُمُومِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْمَعْنَى أَوْ بِمُعَيَّنٍ
يُقَارِنُ اللَّفْظَ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ مَعْنَى غَيْرِ اللَّفْظِ
أَوْ بِهِمَا فَقَدْ خَرَجَ اللَّفْظُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَالًّا بِنَفْسِهِ ،
وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ أَصْلِكُمْ إنْ كَانَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ
، وَاللَّفْظُ مَسْمُوعٌ مَحْسُوسٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّامِعُونَ
لَهُ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَحْسُوسَاتِ لَا
يَقَعُ فِيهَا خِلَافٌ كَالْمَلْمُوسِ وَالْمَذُوقِ وَالْمَشْمُومِ وَالْمَرْئِيِّ
فَلَمَّا وَجَدْنَا كَثِيرًا مِنْ سَامِعِي اللَّفْظِ نَافِينَ لِلْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ اللَّفْظِ
.
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الصَّوْتُ فَهُوَ مَسْمُوعٌ مَحْسُوسٌ
وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ
الْخُصُوصُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ
بِالرُّجُوعِ إلَى مُوَاضَعَاتِ " أَهْلِ اللُّغَةِ وَاصْطِلَاحِهِمْ عَلَى
حُكْمِ اللَّفْظِ .
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةٌ عَلَى
بَعْضِ النَّاسِ أَوْ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَلَا
يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِمَوْضُوعِهِ وَمُوجَبِ حُكْمِهِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ
الْقَائِلِ رَجُلٌ وَفَرَسٌ مَحْسُوسٌ مَسْمُوعٌ يَشْتَرِكُ السَّامِعُونَ (
كُلُّهُمْ ) فِي الْعِلْمِ ( بِوُجُودِهِ ) وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ عَرَفَ
مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْأَجْسَامَ مَحْسُوسَةٌ ، وَهِيَ
دَلَائِلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَحَسَّهَا وَشَاهَدَهَا
عَرَفَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا إذَا لَمْ يُسْتَدَلَّ ( بِهَا ) .
كَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ ،
وَقَدْ يَجُوزُ خَفَاءُ حُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَخْبِرْنِي عَمَّنْ سَمِعَ
آيَةً أَوْ سُنَّةً ظَاهِرُهُمَا عُمُومٌ هَلْ يَلْزَمُهُ إمْضَاؤُهُمَا عَلَى
ظَاهِرِهِمَا وَعُمُومِهِمَا أَوْ يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا حَتَّى يَعْلَمَ ( أَهُوَ
عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ ) وَمَنْسُوخٌ أَوْ نَاسِخٌ .
فَإِنْ قُلْت إنَّهُ يُمْضِيهِمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ
عِلْمِهِ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ خَاصًّا وَعَامًّا وَنَاسِخًا
وَمَنْسُوخًا فَقَدْ حَكَمْت بِعُمُومِهِمَا مَعَ الشَّكِّ فِيهِ
.
وَإِنْ قُلْت إنَّهُ يَقِفُ فِيهِمَا حَتَّى
يَسْتَقْرِئَ سَائِرَ الْأُصُولِ وَالدَّلَائِلِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْهَا
يُخَصِّصُهَا قَضَى فِيهِمَا بِالْعُمُومِ فَقَدْ تَرَكْت الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ
وَصِرْت إلَى ( مَذْهَبِ ) أَصْحَابِ الْوَقْفِ .
قِيلَ ( لَهُ ) : الَّذِي
نَقُولُ فِي ذَلِكَ : إنَّ هَذَا السَّامِعَ إنْ كَانَ سَأَلَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَنْ حَادِثَةٍ حَدَثَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قُرْآنًا
أَوْ أَجَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِجَوَابٍ
فَعَلَيْهِ إمْضَاءُ الْحُكْمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا سَمِعَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ
طَلَبُ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِهِ فِي خُصُوصِهِ أَوْ عُمُومِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
خَاصًّا ( لَمَا ) تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَهُ
فِي الْحَالِ الَّتِي أَلْزَمَ فِيهَا تَنْفِيذَ الْحُكْمِ مَعَ جَهْلِ السَّائِلِ
.
وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ حُكْمًا مُبْتَدَأً مُعَلَّقًا بِعُمُومِ لَفْظٍ مِنْ
غَيْرِ حَادِثَةٍ سُئِلَ عَنْ حُكْمِهَا أَوْ سَمِعَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ
مُبْتَدَأَةً وَالسَّامِعُ لِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ
فَكَانَ مُخَاطَبًا بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا .
فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : إنَّهُ لَيْسَ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ
بِظَاهِرِهَا حَتَّى يَسْتَقْرِئَ الْأُصُولَ وَ دَلَائِلَهَا ، هَلْ فِيهَا مَا
يَخُصُّهَا ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ أَمْضَاهَا عَلَى
عُمُومِهَا ، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِ حَادِثَةٍ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ
قَبُولُ قَوْلِهِ
فَأُجِيبَ فِيهَا بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ أَمْضَاهُ عَلَى
مَا سَمِعَهُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا تَرْكُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَلَا مُوَافَقَةٌ
لِأَصْحَابِ الْوَقْفِ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّا إنَّمَا نَظَرْنَا مَعَ سَمَاعِ
اللَّفْظِ فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فَمَتَى عَدِمْنَاهَا كَانَ الْمُوجِبُ
لِلْحُكْمِ هُوَ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَلَمْ نَحْتَجْ مَعَ اللَّفْظِ ( إلَى )
دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَشُمُولِهِ فِيمَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ
.
وَالْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَائِلِينَ
بِالْوَقْفِ أَنَّهُمْ يَقِفُونَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ حَتَّى يَجِدُوا دَلِيلًا
مِنْ غَيْرِهِ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقِفُ لِنَنْظُرَ هَلْ فِي الْأُصُولِ مَا
يَخُصُّهُ أَمْ لَا .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا
بِحُكْمِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ يُخَلِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ سَمَاعِ
اللَّفْظِ مِنْ إيرَادِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ
كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمَنُوطِ بِالْجُمْلَةِ .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْحُكْمِ
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ( لَمْ ) يَسْمَعْهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يَعْتَقِدَ فِيهِ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا .
وَقَدْ تَعَسَّفَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يُفَصِّلْ
الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ هَذَا التَّفْصِيلَ ، وَقَالَ أُمْضِي اللَّفْظَ
عَلَى الْعُمُومِ ، وَهَذَا خَبْطٌ وَجَهْلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَنْ عَلِمَ
أَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَامًّا وَخَاصًّا وَنَاسِخًا وَمَنْسُوحًا فَاعْتَقَدَ
الْعُمُومَ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ ( عَامًّا أَوْ خَاصًّا ) فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى اعْتِقَادِ مَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ
.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( مَعَ
ذَلِكَ ) إقَامَةَ دَلَالَةِ تَخْصِيصٍ ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ
أَلْزَمَهُ اعْتِقَادَ خِلَافِ مُرَادِهِ ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمْ أَجِدْ آيَةً وَخَبَرًا
إلَّا خَاصًّا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ الْخُصُوصُ
وَإِنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْعُمُومِ بِدَلَالَةٍ .
قِيلَ ( لَهُ ) : وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مَا قُلْت لَوْ
كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت وَمَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ
الْعُمُومَ وَإِنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْخُصُوصِ بِدَلَالَةٍ ، وَكُلُّ آيَةٍ أَوْ
خَبَرٍ وَجَدْته خَاصًّا فَلَمْ يَخْلُ مِنْ مُقَارَنَتِهِ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ
خُصُوصَهُ وَإِزَالَتَهُ عَنْ الْعُمُومِ ، وَعَلَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللهِ
تَعَالَى مِنْ الْآيِ ( الْعَامَّةِ )
الْمُسْتَوْجِبَةِ لِمَا تَحْتَ الِاسْمِ مِنْ أَنْ يَحْصُرَهُ هَذَا الْبَابُ ،
نَحْوُ قَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقَوْله تَعَالَى {
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ
مَا تَكْسِبُونَ }وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا }
وَ { مَا لِهَذَا
الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا
مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا }
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْض إلَّا عَلَى اللَّه
رِزْقُهَا }
و { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
} وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا .
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
الْعُمُومِ لَازِمًا لِمَنْ شَاهَدَ الْمُخَاطَبَةَ ( بِهِ ) لِاقْتِضَاءِ حَالِ
الْخِطَابِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ مَعَهَا الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مِنْ
إشَارَاتٍ وَتَقْدِيرٍ ، وَالْحَالُ الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ نَقْلُهَا
فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِمَعَانِي الْخِطَابِ لِمَنْ نُقِلَ إلَيْهِ اللَّفْظُ
حَسَبَ وُقُوعِهِ لِمَنْ شَاهَدَهُ .
فَلَمْ يَلْزَمْ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا مَنْ نُقِلَ
إلَيْهِ لَفْظُ عُمُومِ الْحُكْمِ بِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ قِيلَ لَهُ : إنَّ
الْمُخَاطَبَةَ تَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا يُرِيدُ بِهِ
إفْهَامَ السَّامِعِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي
مِثْلِهِ مِنْ إشَارَاتِ الِانْحِصَارِ وَمَخْرَجُ الْكَلَامِ عَلَى الْمِقْدَارِ
الَّذِي يَقَعُ لِلْمُخَاطَبِ الْعِلْمُ بِمُرَادِهِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ
الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنْ يُرِيدَ بِخِطَابِهِ
الْمَشَاهِدَ لَهُ وَغَيْرَهُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ
مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَعْقُولًا مِنْ لَفْظِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ مَعَهُ
إلَى دَلَالَةِ الْحَالِ حَتَّى يَسْتَوِيَ النَّاقِلُ وَالْمَنْقُولُ إلَيْهِ فِي
وُقُوعِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْعُمُومُ الْمُنْتَظِمُ لِمَا
تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ .
وَعَلَى أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ
الصَّحَابَةُ الَّذِينَ شَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَعَبِّدِينَ بِأَحْكَامِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي
تَعَبَّدْنَا بِهِ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ
بِالْمُشَاهَدَةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْقِلْهُ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضُوعِك ، وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ
الْقَوْلِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِمَّنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ
وَالْخَبَرِ : فَقَالَ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّا
مُتَعَبَّدُونَ بِتَنْفِيذِهِ وَلَوْ سَاغَ الْوَقْفُ فِيهِ لَجَازَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ ( أَنْ يَقُولَ ) لَعَلِّي لَمْ أُعْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَتَخَلَّفَ
بِذَلِكَ عَنْ أَدَائِهِ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ الْغَرَضِ عَنْ
الْجُمْلَةِ فَتَبْطُلَ فَائِدَةُ الْكَلَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَبَرُ لِأَنَّ
كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ أَوْ الْعُمُومِ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ إسْقَاطُ فَائِدَتِهِ ، وَلِأَنَّا غَيْرُ مُتَقَيِّدِينَ فِيهِ
بِتَنْفِيذِ شَيْءٍ .
قِيلَ ( لَهُ ) : ( لَسْت تَخْلُو ) مِنْ أَنْ تَكُونَ
حَكَمْت فِي الْأَمْرِ بِالْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ ( مُقْتَضَى اللَّفْظِ
وَمُوجِبِهِ وَلِأَنَّ الصِّيغَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ أَوْ حَكَمْت فِيهَا
بِالْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ ) دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ وَالصِّيغَةِ
.
فَإِنْ كُنْت حَكَمْت فِيهَا بِالْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ
فَقَدْ أَعْطَيْت أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْعُمُومِ فَوَاجِبٌ حِينَئِذٍ أَنْ
لَا تَخْتَلِفَ أَحْكَامُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَمَوَاضِعِهِ كَمَا أَنَّ
الْأَسْمَاءَ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْأَعْيَانِ وَالْأَشْخَاصِ
لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا فِي دَلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
الدَّلَالَةُ ( بِاخْتِلَافِ
الْمَوَاضِعِ ) وَالْأَحْوَالِ فَلَا يَجُوزُ ( حِينَئِذٍ أَنْ يَخْتَلِفَ )
حُكْمُ الْخَبَرِ ، وَالْأَمْرُ فِي اعْتِبَارِ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا
تَقْتَضِيهِ صُورَةُ الْعُمُومِ
وَإِنْ كُنْت تَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ
تَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الْحُكْمِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَالْكَلَامُ
بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِي الْأَصْلِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ
إلَى حُكْمِ اللَّفْظِ فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَإِنْ أَوْجَبَ الْعُمُومَ قُضِيَ
بِهِ وَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ عَلَى
الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا مَعَ وُجُودِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ
الْعَارِي مِمَّا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ
بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ .
وَعَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لِلْإِعْلَامِ فَإِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا
لَزِمَنَا اعْتِمَادُ مُخْبِرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُهُ
.
فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ .
وَعَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ
الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَأْتِي بِلَفْظِ الْعُمُومِ
وَالْمُرَادُ وُقُوعُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْجُمْلَةِ نَحْوُ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى
وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى
مَوْضُوعِكُمْ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ ( مِنْ الصَّلَاةِ ) وَمَا
جَرَى مَجْرَاهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( مِنْ وُجُودِهِ ) مِنْ
بَعْضِ جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ إسْقَاطُ فَرْضِ
الْأَمْرِ فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا نَجْعَلَ فَرْضَ
الصَّلَاةِ ( وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ) عَامًّا عَلَى كَافَّةِ النَّاسِ
.
(فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:لَمْ أَحْكُمْ بِلُزُومِ هَذِهِ
الْفُرُوضِ كَافَّةَ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ ) بَلْ قِيلَ لَهُ :
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَزِمَ بِالْأَمْرِ مِنْ الْفَرْضِ بَعْضَ
النَّاسِ وَمَا زَادَ لَمْ يَلْزَمْ بِالْأَمْرِ وَإِنَّمَا لَزِمَ بِالْإِجْمَاعِ
، ( وَيَلْزَمُهُ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ
لَا يَكُونَ لُزُومُهُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ
وَإِنَّمَا لَزِمَ بِالْإِجْمَاعِ ) لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا لَفْظَ الْأَمْرِ
يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا
} فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ ( عَلَى ) هَذَا الْوَجْهِ مُبْطِلًا لِفَائِدَتِهِ
.
فَإِنْ ارْتَكَبَ هَذَا فَقَدْ نَقَضَ مَا أَعْطَى
بَدْءًا مِنْ إيجَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ عَلَى الْحَدِّ
الَّذِي ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِاللَّفْظِ دُونَ دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ
.
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَنَا بِخَبَرٍ مُخْبِرُهُ
مَجْهُولٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ }
وَقَوْلِهِ : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } ثُمَّ لَا يُبَيِّنُهُ
أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَرِدْ بَيَانُهُ
فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ
بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ مَوْقُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ ثُمَّ لَا يَرِدُ بَيَانُهُ
.
مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اُقْتُلُوا الْمُنَافِقِينَ إذَا
عَرَّفْتُكُمْ إيَّاهُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ إذَا
بَيَّنْتهَا لَكُمْ ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَبَدًا فَلَا يَكُونُ مُوجِبُ
هَذَا الْأَمْرِ اعْتِقَادَ صِحَّةِ تَنْزِيلِهِ وَكَوْنِهِ حِكْمَةً وَصَوَابًا
كَمَا يُخْبِرُنَا بِخَبَرٍ لَا نَتَبَيَّنُ حَالَ مُخْبِرِهِ وَكَيْفِيَّاتِهِ
وَأَوْصَافَهُ فَلَا يَلْزَمُنَا فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ
وَكَوْنِهِ حَقًّا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ
وَالْخَبَرِ أَنَّ الْأَمْرَ يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَلَا يَجُوزُ فِي الْخَبَرِ
.
قِيلَ لَهُ : جَوَازُ النَّسْخِ فِي أَحَدِهِمَا
وَامْتِنَاعُهُ فِي الْآخَرِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ مَا
يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ فِيهِمَا .
وَلَوْ جُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى فَاصِلًا بَيْنَهُمَا
فِي إيجَابِ عُمُومِ الْخَبَرِ ( دُونَ الْأَمْرِ كَانَ أَقْرَبَ لِأَنَّ
لِخَصْمِك أَنْ يَقُولَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ فِي الْخَبَرِ ) وَلَمْ
يَجُزْ فِي مُخْبِرِهِ التَّبْدِيلُ ( وَالتَّغْيِيرُ ) وَجَبَ اعْتِبَارُ
عُمُومِهِ ، وَلَمَّا جَازَ نَسْخُ الْأَوَامِرِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ
إذْ جَازَ وُقُوعُهُ تَارَةً مَحْظُورًا وَتَارَةً مُبَاحًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
سُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخْرَجِ
إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْعَامُّ
وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَقَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ لَا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } وَقَوْلُهُ : {
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا } وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ
.
وَقَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْخَاصُّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ
، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ } وَقَوْلِهِ
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك
مِنْ رَبِّك } وقَوْله تَعَالَى { فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } وَنَظَائِرِهِ .
وَقَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْخَاصُّ وَالْمُرَادُ
( الْعُمُومُ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ
الْعُمُومَ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ عَدَمِ اللَّفْظِ فِيهِ
.
الْبَابُ السَّادِسُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ
الْمُخْرَجِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِذِكْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ
الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ .
وَقَالَ تَعَالَى { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
} وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } وَالْمُرَادُ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ وُرُودِ
اللَّفْظِ الْعَامِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ هَذَا لَا
يَمْتَنِعُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى نَحْوُ قَوْله
تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
} وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي اللَّفْظَيْنِ وَالْمُرَادُ
بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ } لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ ، وَمِثْلُهُ
كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَكَانَ ( شَيْخُنَا )
أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ : إنَّ
إطْلَاقَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ وُرُودُ
لَفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ ( بِهِ ) الْخُصُوصُ .
لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْخُصُوصِ
بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفِ ( سَنَةٍ ) كَامِلَةٍ
.
كَذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ
الْخُصُوصِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ خَاصًّا ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لَفْظَ عُمُومٍ قَطُّ
وَلَيْسَ وُجُودُ اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ
لِلْعُمُومِ بِمُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا بَلْ هُوَ ( لَفْظٌ ) خَاصٌّ
صُورَتُهُ غَيْرُ صُورَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ لَفْظِ (
الْأَلْفِ مِنْ ) قَوْلِهِ { أَلْفَ سَنَةٍ
إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } لَا يُوجِبُ
أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّيغَةُ هِيَ صِيغَةَ الْأَلْفِ
الْمُطْلَقَةِ الْعَارِيَّةِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الصِّيغَتَانِ
مُخْتَلِفَتَانِ كَذَلِكَ اقْتِرَانُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي
يَصْلُحُ لِلْعُمُومِ يُغَيِّرُ صِيغَةِ اللَّفْظِ وَيَمْنَعُ كَوْنَهُ عَامًّا أُرِيدَ
بِهِ الْخُصُوصُ .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ
مِنْ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي
مَوْضِعِهِ .
وَلَيْسَ أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ
مَعَ اللَّفْظِ بِمَانِعِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ
بِاللَّفْظِ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ الَّذِي قَدْ أُرِيدَ
بِهِ فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِ قَدْ اُقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ
غَيْرِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ
كَانَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَجَوَازُهُ
فِيهِ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُرَادًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي
قِصَّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ
وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } فَلَمْ يَسْتَثْنِ
امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ
لَمْ يَذْكُرْهَا ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { فَأَسْرِ بِأَهْلِك بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
إلَّا امْرَأَتَك } فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، ثُمَّ لَمْ
يَخْتَلِفْ حُكْمُ اللَّفْظَيْنِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنًى
مِنْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي أَحَدِهِمَا
غَيْرَ مَذْكُورَةٍ فِي الْآخَرِ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ
وَعُزَيْرًا صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا ( أَجْمَعِينَ ) فَأَنْزَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً
اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمَا (
فِي الْآخِرَةِ ) ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ
بِاللَّفْظِ ، فَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا الْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ قَدْ
عُبِدَا مِنْ دُونِ اللهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ
حُكْمُ اللَّفْظِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا
.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ
بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ
اللَّفْظِ فِيهِمَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي مَوْضِعِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ
بِلَفْظِ عُمُومٍ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الْقَوْلُ يُؤَدِّي إلَى
إبْطَالِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ
قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ وَيَكُونُ
قَوْله تَعَالَى { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ
خَمْرًا } ( بِمَنْزِلَةِ
إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ مَا يَصِيرُ خَمْرًا ) وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بِمَنْزِلِهِ : إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ { وَجَاءَ رَبُّك
} كَقَوْلِهِ جَاءَ أَمْرُ رَبِّك " .
فَتَصِيرُ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِ اللَّفْظِ
مَجَازًا هِيَ الْمُوجِبَةَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً .
قِيلَ لَهُ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَلْزَمْ ( مِثْلُهُ فِي )
الدَّلَائِلِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِمَا ذَكَرْت إلَى
إبْطَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ لَجَازَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِهِ إلَى
أَنْ تَجْعَلَ اللَّفْظَ الْمُسْتَثْنَى مَجَازًا كَمَا قُلْت فِي دَلَالَةِ
التَّخْصِيصِ سَوَاءً .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ : إنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ لَا يَجْعَلُهُ مَجَازًا
.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ
الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ أَهْلِهَا
عَلَى الْحَقِيقَةِ بِحَالٍ ، وَالْخَمْرَ لَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْعَصِيرِ
، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَلْفَاظِ الْمَجَازِ ( يَجُوزُ أَنْ ) لَا يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْمُرَادِ بِهَا ( حَقِيقَةً
) .
وَقَوْلُهُ { فَاقْتُلُواالْمُشْرِكِينَ } إذَا أُرِيدَ
بِهِ الْخُصُوصُ ، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، كَانَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُمْ
حَقِيقَةً لَا مَجَازًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَمُرَادُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ لِدَلَائِلَ
قَامَتْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ عَبَدَةُ
الْأَوْثَانِ فِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ اللَّفْظُ مَجَازًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ (
فِيهِمْ ) فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مَا ذَكَرْت .
الْبَابُ السَّابِعُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَقَعُ
بِهَا التَّخْصِيصُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ وُرُودَ التَّخْصِيصِ
يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الِاسْمُ
.
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ
بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } هُوَ عُمُومٌ يَقْتَضِي
ظَاهِرُهُ إبَاحَةَ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَلَمَّا قَالَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ } وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى ( أَنَّ ) الْمُرَادَ
بِقَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ } مَنْ
عَدَا الْمَذْكُورَاتِ بِالتَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْعُمُومَ كَانَتْ الْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِي
ذَلِكَ سَوَاءً ، فَلَمَّا قَالَ فِي الْإِمَاءِ { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } خَصَّهُنَّ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْأُولَى الْحَرَائِرُ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ
بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ .
لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ
بِاللَّفْظِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَيُقَالُ لَهُمْ : إنَّ هَذَا فِيمَا
يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.
فَأَمَّا مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فَلَمْ يَدْخُلْ فِي
ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى : ( أَنَّ ) مَا كَانَ مِنْهُ ظَاهِرَ
الْمَعْنَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَذَلِكَ مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَخْصِيصَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى
بَيَانٍ فَلَيْسَ بَيَانُهُ مَوْكُولًا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
.
وَأَيْضًا : يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ } لِتُبَلِّغَهُ إيَّاهُمْ وَتُظْهِرَهُ وَلَا تَكْتُمَهُ
.
وَأَيْضًا : فَقَدْ وَكَّلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا
وَرَدَ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ إلَى النَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ ، كَمَا { قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فِي الْكَلَالَةِ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ } وَفِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ
الرِّبَا وَغَيْرِهِ ، وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بَيَانًا فَمَا
الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِبَيَانِهِ
تَارَةً وَتَارَةً يَأْمُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ
.
وَمِنْ حَيْثُ جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ
مِثْلِهِ جَازَ تَخْصِيصُهُ ( بِهِ ) لِأَنَّ
النَّسْخَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانٌ ( لِمُدَّةِ ) الْفَرْضِ الْأَوَّلِ وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ مَا شَمِلَهُ
الِاسْمُ
وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ
} وَقَالَ تَعَالَى { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ بَيَانِ الْكِتَابِ
بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ .
وَيَكُونُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
الثَّابِتَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ }
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ }
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا } وَقَالَ تَعَالَى {
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } وَقَالَ { مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ }
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ
.
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ثُمَّ خَصَّ
الْإِمَاءَ بِجَلْدِ الْخَمْسِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَبْدَ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ (
عَلَى ) أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ خَمْسِينَ ،
فَخَصَّصْنَا الْآيَةَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ
.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ } وَفِي عُقُولِنَا أَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ
بِذَلِكَ سَفَهٌ
فَصَارَتْ الْآيَةُ مَخْصُوصَةً بِالْعَقْلِ لِأَنَّهُ
حُجَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى تُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِالْآيَةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ تَخْصِيصِهِ بِقُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ .
فَإِنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَقْلِ
لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إذَا كَانَ مَعْنَاهُ بَيَانَ الْمُرَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ
حُصُولُ الْبَيَانِ قَبْلَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ وُجُودُ
الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا
.
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ
الْقَائِلِينَ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ
تَقُولَ بِنَفْيِهَا .
فَإِنْ كُنْت مِمَّنْ يَنْفِي دَلَائِلَ الْعُقُولِ
فَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِي إثْبَاتِ دَلَائِلِ الْعُقُولِ وَأَنَّهَا
تُفْضِي بِنَا إلَى حَقِيقَةِ الْعُلُومِ الَّتِي طَرِيقُهَا الْعَقْلُ
.
وَإِنْ كُنْت مِمَّنْ يُقِرُّ بِحُجَجِ الْعُقُولِ إلَّا
أَنَّك مَنَعَتْ اسْتِعْمَالَهُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ خَاصَّةً ، فَإِنَّ
هَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ
وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ مَدْلُولِهَا ، وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ السَّمْعِ بِنَقْضِهَا
.
فَإِذَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } وَقَدْ أَقَامَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي عُقُولِنَا
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ خِطَابُ الْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ ، فَقَدْ
صَارَتْ دَلَائِلُ الْعَقْلِ قَاضِيَةً لِحُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ
دُونَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ كَمَا تَنْقُلُ دَلَالَةُ الْعَقْلِ حُكْمَ
اللَّفْظِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ } فَجَعَلَهُ زَجْرًا وَنَهْيًا وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ
.
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا عَلِمْت خُصُوصَ هَذِهِ الْآيَةِ
بِالْإِجْمَاعِ .
قِيلَ لَهُ : فَقَدْ كُنْت تُجَوِّزُ قَبْلَ وُرُودِ
الْآيَةِ وَحُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَعْنَاهَا مُخَاطَبَةَ اللهِ تَعَالَى
الْمَجَانِينَ وَالْأَطْفَالَ وَأَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالتَّقْوَى وَوَعِيدَهُمْ
عَلَى تَرْكِهَا .
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ فَقَدْ أَحَالَ فِي قَوْلِهِ ، وَيَلْزَمُهُ
إجَازَةُ خِطَابِ ( اللهِ تَعَالَى ) الْجَمَادَاتِ وَتَكْلِيفِهَا الْعِبَادَاتِ
، وَكَفَى بِهَذَا خِزْيًا لِمَنْ بَلَغَهُ .
فَإِذَا ( صَحَّ جَوَازُ )
تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ
كَالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ قَبْلَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ،
مِنْ قِبَلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ انْفَرَدَ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُسْتَثْنَى
مِنْهُ لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَدَلَالَةُ الْعَقْلِ بِانْفِرَادِهَا
مُوجِبَةٌ لِأَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ
أَنْ يَنْعَدِمَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ
بِسَمْعٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا قَبْلَ وُرُودِ اللَّفْظِ
الْمَخْصُوصِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبِيدِهِ إذَا أَمَرْتُكُمْ
بِسَقْيِ الْمَاءِ فَاسْقُونِي إلَّا فُلَانًا ، فَيَكُونُ فُلَانٌ خَارِجًا مِنْ
هَذَا الْأَمْرِ مَخْصُوصًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْأَمْرِ ،
وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُ الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُسْتَثْنَى
مِنْهُ إذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ
ابْتِدَاءً إلَّا فُلَانًا ، وَلَوْ قَالَهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُعْتَدِلًا
وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ
بِالْعَقْلِ لَجَازَ نَسْخُهُ بِهِ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ
، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِحُكْمِ اللَّفْظِ
.
قِيلَ لَهُ : لَوْ فَهِمْت مَا
أَلْزَمْتنَا لَكَفَيْتنَا مُؤْنَتَك وَقَضَيْت لَنَا عَلَى نَفْسِك وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ
الْعَقْلِ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَنْحَاءٍ :
مِنْهَا مَا فِيهِ إيجَابُهُ نَحْوُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ
، وَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
( وَمِنْهَا مَا فِيهِ حَظْرُهُ نَحْوُ الْكُفْرِ
وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) .
وَهَذَانِ الْبَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ
عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّغْيِيرُ ( وَالِانْقِلَابُ فِي
بَابِ الْإِيجَابِ أَوْ الِامْتِنَاعَ .
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ فِي الْعَقْلِ ، وَأَحْوَالُهُ
ثَلَاثَةٌ :
يَجُوزُ حَظْرُهُ تَارَةً
وَإِبَاحَتُهُ تَارَةً أُخْرَى
وَإِيجَابُهُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ
حُسْنٍ أَوْ
قُبْحٍ ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ حُكْمُهُ بِالسَّمْعِ مِنْ
جِهَةِ الْعَالِمِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَبِمَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ
الْأَفْعَالِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو السَّمْعُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ وَارِدًا بِالْبَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ فِيهِمَا الِانْقِلَابُ وَالتَّغَيُّرُ ) فَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ مَا
كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ بِوَجْهٍ ، وَلَا وُرُودُ السَّمْعِ بِخِلَافِهِ
.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو
مِنْ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ حَاكِمًا بِحَظْرِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ أَوْ إيجَابِهِ
، وَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ وُرُودُهُ فَهُوَ مِمَّا جَوَّزَهُ الْعَقْلُ
وَحَسَّنَهُ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِزَوَالِهِ
وَارْتِفَاعِهِ .
وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ
فَإِنَّمَا حَظُّ الْعَقْلِ فِيهِ تَجْوِيزُ وُرُودِ السَّمْعِ بِأَحَدِ هَذِهِ
الْوُجُوهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ فِيهِ
بِخِلَافِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّسْخَ إنَّمَا هُوَ تَوْقِيتُ
مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا وَتَوَهُّمِنَا
بَقَاؤُهُ وَلَا حَظَّ لِلْعَقْلِ فِي تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْفَرْضِ ، لِأَنَّ
ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِعِلَلِ الْمَصَالِحِ ، ( وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ ) لَا
تُعْلَمُ أَعْيَانُهَا مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ
وَأَيْضًا : فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِيهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ
الْعَقْلُ بَدْءًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ النَّاسِخِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فِيهِ
.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ
فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَوَازُ نَسْخِ السَّمْعِ بِالْعَقْلِ
.
وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ،
لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَقْلِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْصِيصِ هِيَ مَا كَانَ وَاقِعًا
مِنْهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ
الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ
بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الِاسْمُ .
وَلِذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْأَلْفَاظِ وَلَا يَجُوزُ
مِثْلُهُ فِي دَلَالَةِ الْعَقْلِ ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْعَقْلِ لَا يَجُوزُ
فِيهَا التَّخْصِيصُ وَكَذَلِكَ صَارَ الْعَقْلُ قَاضِيًا عَلَى السَّمْعِ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ عَلَى الْعَقْلِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ
النَّسْخِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ مَا يَمْنَعُ الْعَقْلَ
فَيَدُلُّ ( الْعَقْلُ ) عَلَى أَنَّهُ
لَا يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِثْلُ مَا كَانَ يَلْزَمُ قَبْلَ ذَلِكَ ،
كَالسَّمْعِ إذَا وَرَدَ بِمِثْلِهِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ هَذَا
لَيْسَ بِنَسْخٍ وَلَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَوْ وُجِدَ فِي السَّمْعِ
لَمْ يَكُنْ نَسْخًا ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا نَسْخًا لَكَانَتْ الشَّرَائِعُ
كُلُّهَا مَنْسُوخَةً لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَتَعَذُّرِ
النَّقْلِ وَكُلُّ حُكْمٍ كَانَ مُتَعَلِّقًا عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَى وَقْتٍ أَوْ
شَرْطٍ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ حَالِهِ بِسَمْعٍ أَوْ عَقْلٍ فَإِنْ مَضَى
الْوَقْتُ وَعُدِمَ الشَّرْطُ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا
.
أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُرُوضِ مَعْقُودَةٌ
بِأَوْقَاتٍ وَشُرُوطٍ مَتَى فَاتَتْ ( أَوْقَاتُهَا ) أَوْ عُدِمَتْ شَرَائِطُهَا
سَقَطَ فِعْلُهَا نَحْوَ الْجُمُعَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ
إنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِفَوَاتِ الْوَقْتِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
النَّسْخَ إنَّمَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الْأُمُورِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَةِ
الشَّرْعِ مِمَّا كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا وَتَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ فَأَمَّا مَا
كَانَ مُوَقَّتًا أَوْ مَشْرُوطًا ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِهِ مَعْلُومًا مَعَ
وُرُودِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : اجْلِدْ الْيَوْمَ (
هَذَا ) الزَّانِيَ مِائَةً وَلَا تَجْلِدْهُ غَدًا ، أَوْ قَالَ : صَلِّ
الْيَوْمَ وَلَا تُصَلِّ غَدًا أَنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا
يُوجِبُ نَسْخًا ، وَلَوْ قَالَ : اضْرِبْهُ مِائَةً أَوْ صَلِّ ثُمَّ قَالَ
: غَدًا لَا تَضْرِبْهُ أَوْ لَا تُصَلِّ ، كَانَ ذَلِكَ
نَسْخًا لِأَنَّا ( قَدْ ) كُنَّا نَتَوَهَّمُ
وَنُقَدِّرُ
بَقَاءَ الْفَرْضِ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ ، فَلِذَلِكَ
كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ : دَلَالَةُ الْعَقْلِ
عَلَى زَوَالِ الْفَرْضِ فِي حَالِ الْعَجْزِ ، وَتَعَذُّرِ النَّقْلِ فِي مَعْنَى
النَّسْخِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ نَسْخًا لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ إذَا كَانَ
إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ ، وَقَدْ أَخَذَ
الْعَقْلُ بِقِسْطِهِ فِي إيجَابِ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي
مَعْنَى النَّسْخِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ بِهِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا
يُبَيَّنُ بِهِ مُدَّةُ الْحُكْمِ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا فِي ( مَعْنَى النَّسْخِ
) ، لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ : صُمْ سَائِرَ الْأَيَّامِ إلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ لَمْ
يَكُنْ نَسْخًا وَلَا فِي ( مَعْنَى النَّسْخِ ) ،
لِأَنَّ النَّسْخَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَهُ شَرِيطَةٌ مَتَى عُدِمَتْ زَالَ
الْمَعْنَى .
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي التَّقْدِيرِ بَقَاءُ الْحُكْمِ
فَيَرِدُ بَعْدَهُ مَا يُبَيِّنُ آخِرَ مُدَّتِهِ فَأَمَّا مَا كَانَ مَعْلُومًا
مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي وَقْتٍ إمَّا بِسَمْعٍ أَوْ
بِعَقْلٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ فِي شَيْءٍ .
وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ إنَّ الْعِبَادَاتِ وَنَسْخَهَا
مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَصَالِحِ كَالْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْغِنَى
وَسَائِرِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ لِلنَّسْخِ مَعْنًى قَدْ
اخْتَصَّ بِهِ وَشَرَائِطَ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا مَتَى عَدِمَ مِنْهَا شَيْءٌ
لَمْ يَكُنْ نَسْخًا .
وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي مَعْنَى
النَّسْخِ لَكَانَ التَّخْصِيصُ أَيْضًا فِي مَعْنَى النَّسْخِ لِأَنَّهُ قَدْ
قَصَدَ بِهِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ مِمَّنْ شَمِلَهُ الِاسْمُ كَمَا أُرِيدَ
بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ حَالٌ دُونَ حَالٍ ، وَهِيَ حَالُ الْإِمْكَانِ دُونَ
حَالِ الْعَجْزِ ، وَلَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرُوضُ الْمُبْتَدَأَةُ كُلُّهَا فِي
مَعْنَى النَّسْخِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَصَالِحِ .
الْبَابُ الثَّامِنُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ
(فارغة)
بَابٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ فَإِنَّ
مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ
إلَى الْبَيَانِ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ
تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ
وَمَا كَانَ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ
قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
أَوْ كَانَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِلْمَعَانِي أَوْ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَاهُ ، وَسَوَّغُوا الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَتُرِكَ
الظَّاهِرُ بِالِاجْتِهَادِ ، أَوْ كَانَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا
إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي تَخْصِيصِهِ
وَالْمُرَادِ بِهِ .
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ
بِالْقِيَاسِ وَهَذَا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا .
وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَمَسَائِلُهُمْ
.
وَقَدْ قَالَ ( أَبُو مُوسَى ) عِيسَى بْنُ أَبَانَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ( كِتَابِهِ )
الْحُجَجِ الصَّغِيرِ لَا يُقْبَلُ خَبَرٌ خَاصٌّ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْ
الْقُرْآنِ ظَاهِرَ الْمَعْنَى أَنْ يَصِيرَ خَاصًّا أَوْ مَنْسُوخًا حَتَّى
يَجِيءَ ذَلِكَ مَجِيئًا ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَ بِهِ مِثْلُ
مَا جَاءَ عَنْ ( النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَنْ { لَا
وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } { وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
} .
فَإِذَا جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ فَهُوَ مَقْبُولٌ
لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ وَهْمًا .
وَأَمَّا إذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ خَاصٌّ وَكَانَ ظَاهِرُ مَعْنَاهُ بَيَانَ ( السُّنَنِ
) وَالْأَحْكَامِ أَوْ كَانَ يَنْقُضُ سُنَّةً مُجْمَعًا
عَلَيْهَا أَوْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَكَانَ لِلْحَدِيثِ
وَجْهٌ وَمَعْنًى يُحْمَلُ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ حُمِلَ مَعْنَاهُ عَلَى أَحْسَنِ
وُجُوهِهِ وَأَشْبَهِهِ بِالسُّنَنِ وَأَوْفَقِهِ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَعْنًى يَحْمِلُ ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ .
قَالَ عِيسَى : وَكُلُّ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَانَتْ
خَاصَّةً فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَالْأَخْبَارُ مَقْبُولَةٌ
فِيمَنْ عَنَى بِهَا وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ بِأَحْسَنِ مَا يَأْتِيهِمْ
فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَأَشْبَهِهَا بِالسُّنَنِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } هِيَ خَاصَّةٌ فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ أَهْلِ
الْعِلْمِ لِبَعْضِ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ فَالْأَخْبَارُ مَقْبُولَةٌ فِيمَنْ
عَنَى بِهَا مِنْهُمْ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى:
{ وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي قَوْلِ
أَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا لِأَنَّ الصَّغِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَعْقِلَا لَمْ
يَدْخُلَا فِي قَوْلِ أَحَدِ الْعُلَمَاءِ فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا
مَخْصُوصَةٌ قُبِلَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ فِيمَنْ عَنَى بِهَا ، وَكَذَلِكَ مَا
أَشْبَهَ هَذَا .
وَقَالَ ( عِيسَى ) فِي الْحُجَجِ الْكَبِيرِ : كُلُّ
أَمْرٍ مَنْصُوصٍ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَ خَبَرٌ يَرُدُّهُ أَوْ يَجْعَلُهُ
خَاصًّا وَهُوَ عَامٌّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى لَا يَحْتَمِلُ (
تَفْسِيرَ الْمَعَانِي ) فَإِنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ إنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَدْ
عَرَفَهُ النَّاسُ وَعَلِمُوا بِهِ حَتَّى لَا يَشِذَّ مِنْهُمْ إلَّا الشَّاذُّ
فَهُوَ مَتْرُوكٌ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
أَنَّهُ مِمَّا ثَبَتَ خُصُوصُهُ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَنَصَّ
عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ
خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يُخَصُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الصَّدْرِ
الْأَوَّلِ عِنْدَنَا .
قَدْ رُوِيَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنْهُمْ ، لِأَنَّ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَنْكَرُوا عَلَى
{ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رِوَايَتَهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً } وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ " لَا نَدَعُ كِتَابَ اللهِ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ " .
وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدِيثَ
" ابْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ
عَلَيْهِ } فَقَالَتْ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى }.وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ اعْتِقَادَ
ظَاهِرِهِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ لِأَجْلِ فِعْلِ غَيْرِهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهِ أَنَّ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ
إنَّمَا جَوَّزَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبُحُ مِثْلُهُ ، وَلَا تَكُونُ
عَائِشَةُ مُخَالِفَةً لَهُمَا فِي مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْبُكَاءَ عِنْدَ
الْعَرَبِ هُوَ التَّعْدِيدُ ، وَكَانُوا يُعَدِّدُونَ عَلَى مَوْتَاهُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا كَانُوا يَتَبَارَوْنَ بِهِ مِنْ الْغَارَاتِ وَالسِّبَاءِ
وَالْقَتْلِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ مَنْ
سَمِعَهُ يُعَدِّدُ بِمِثْلِهِ إنَّهُ يُعَذَّبُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ ، وَكَانَ
قَبُولُ عُمَرَ وَابْنِهِ لَهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ، وَرَدُّ عَائِشَةُ لَهُ
عَلَى وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي
الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ فِعْلِ غَيْرِهِ
.
قِيلَ لَهُ : ( إنَّهُ ) وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يَرُدُّهُ
مَتَى حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ
لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَحَدُ مَا يُرَدُّ بِهِ وَيَمْنَعُ قَبُولَهُ ( وَقَدْ )
رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
جَمَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "
إنَّكُمْ تُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحَادِيثَ تَخْتَلِفُونَ فِيهَا فَمَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا فَمَنْ
جَاءَكُمْ يَسْأَلُكُمْ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقُولُوا عِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ
" فَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَمَنَعَ
الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي
لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا وَجْهَانِ
:
أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى ( عَلَيْهِ )
دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ
الْعَادِلُ عَنْهُ مُصِيبًا بَلْ مُخْطِئًا تَارِكًا
لِحُكْمِ اللهِ وَالثَّانِي : مَا كَانَ
طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبُ الظَّنِّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ
يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ ( بِالْمَطْلُوبِ ) وَهَذَا الَّذِي يَقُولُ فِيهِ
أَصْحَابُنَا إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ ( وَاحِدًا
عِنْدَهُمْ ) فَنَقُولُ : عَلَى هَذَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ
يُوجِبُ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ
.
( وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ مَا
تَحْتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ) بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ
بِمَخْبَرِهِ ، وَإِنَّمَا
قَبِلُوهُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ وَحُسْنِ الظَّنِّ
بِالرَّاوِي ، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ نَسْخُ
الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ رَفْعُ مَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ طَرِيقُ
إثْبَاتِهِ ( النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ ) فَهُوَ مِثْلُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ
جِهَةِ الثُّبُوتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُهُ بِهِمَا
.
قِيلَ لَهُ : أَمَّا قَوْلُك
إنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعُمُومِ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ فَإِنْ كُنْت
أَرَدْت بِهِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ،
لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ السَّلَفِ ( مِنْ )
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ ( مِنْ ) بَعْدِهِمْ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي
صَدْرِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ جِهَةِ
النَّظَرِ تُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ ( بِهِ ) مَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ طَرِيقُ
إثْبَاتِ الْعُمُومِ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبَ الظَّنِّ وَإِنَّمَا طَرِيقُ
إثْبَاتِهِ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ
.
وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ
بِمَخْبَرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَقْبُولٌ اجْتِهَادًا عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الظَّنِّ
بِالرَّاوِي ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ مُوجَبِ الْعُمُومِ مِنْ الْحُكْمِ ،
وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ جَازَ تَرْكُ مَا كَانَ
مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ كَانَ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ
وَهُوَ دَلَائِلُ الْعَقْلِ الَّتِي هِيَ آكَدُ فِي بَابِ
ثُبُوتِهَا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّ اللَّفْظَ
قَدْ يُطْلَقُ وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَلَا يَجُوزُ وُجُودُ دَلِيلِ الْعَقْلِ
عَارِيًّا مِنْ مَدْلُولِهِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ جِهَةِ
الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِحَالٍ .
وَالْآخَرُ : يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ تَارَةً وَحَظْرُهُ
أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السَّمْعُ .
فَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِحَالٍ ، فَنَحْوُ
الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ .
وَأَمَّا مَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ اسْتِبَاحَتَهُ
تَارَةً وَحَظْرَهُ أُخْرَى ( عَلَى حَسَبِ )
وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِمَصَالِحِ الْكُلِّ
فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ جَوَابَ أَصْحَابِنَا فِي حُكْمِ هَذَا الْقِسْمِ قَبْلَ
وُرُودِ السَّمْعِ فِي إبَاحَتِهِ أَوْ حَظْرِهِ ، وَالنَّاسُ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْظُرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُبِيحُهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُطْلِقَ فِيهِ حَظْرًا أَوْ إبَاحَةً
.
وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِمَا لَيْسَ فِي
الْعَقْلِ إيجَابُهُ وَلَا حَظْرُهُ وَقَدْ قَامَتْ لَهُ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ
عَلَى إبَاحَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّا مَتَى أَشَرْنَا إلَى شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا يَقَعُ الْقَضَاءُ بِإِبَاحَتِهِ
مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ
بِمُوَاقَعَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ الَّذِي يَرْجُوهُ بِهِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّا إنَّمَا نُبِيحُ لَهُ تَنَاوُلَ الْأَطْعِمَةِ
وَالْأَشْرِبَةِ مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إلَى ضَرَرٍ ،
وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ غَلَبَ
عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ لَمَا جَازَ
تَنَاوُلُهُ .
وَنُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ وَالسَّفَرَ لِلتِّجَارَاتِ
وَنَحْوِهَا مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَرَرٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ
فِي غَالِبِ ظَنِّهِ ( لِأَنَّهُ ) لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ فِي
الطَّرِيقِ سَبُعًا أَوْ لُصُوصًا تُهْلِكُهُ لَمَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ
عَلَيْهِ ، وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ السَّلَامَةُ جَازَ لَهُ
.
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِبَاحَةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ
هَذَا بِعَيْنِهِ إنَّمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ دُونَ
حَقِيقَةِ الْعِلْمِ فَجَائِزٌ تَرْكُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَسَقَطَ قَوْلُ
الْقَائِلِ إنَّا قَدْ تَرَكْنَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ الِاجْتِهَادُ
بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ
تَقْضِي بِإِبَاحَتِهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
وقَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ
الْأَرْضَ ذَلُولًا }
وقَوْله تَعَالَى { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا }
وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْآيَاتِ .
لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ خَاصَّةٌ فَيَجُوزُ
تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَقَدْ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ
السَّمْعِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي ( إبَاحَتِهِ أَوْ حَظْرِهِ
) .
ثُمَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِي إبَاحَتِهِ سَمْعٌ لَا
يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذْ كَانَ تَجْوِيزُ الِاجْتِهَادِ
قَائِمًا فِي إبَاحَتِهِ أَوْ حَظْرِهِ فَجَازَ قَبُولُ ( خَبَرِ ) الْوَاحِدِ
فِيهِ .
وَعَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِلَالَ بِعَيْنِهِ يُوجِبُ
عَلَى قَائِلِهِ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ
حَيْثُ جَوَّزَ بِهِ حَظْرَ الْمُبَاحِ مِنْ جِهَةِ
الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ تَرْكَ حُكْمِ
الْقُرْآنِ رَأْسًا وَالِانْتِقَالَ عَنْهُ إلَى ضِدِّهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
كَمَا جَازَ تَرْكُ مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ إلَى ضِدِّهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ
فِي الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَاسْتِفَاضَةِ الْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ ، وَقَدْ قَامَتْ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِهِمَا أَدِلَّةٌ
صَحِيحَةٌ ( لَيْسَ طَرِيقُهَا ) الِاجْتِهَادَ
وَغَالِبَ الظَّنِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُمُومِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ ، فَهَلَّا جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ بِهِمَا؟.
قِيلَ لَهُ : إنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا
ذَكَرْت الِاعْتِرَاضَ بِهِمَا عَلَى عُمُومِ الْقُرْآنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كُلَّ عُمُومٍ
فِي الْقُرْآنِ شَأْنُهُ مَا وَصَفْنَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجَبِهِ ،
وَلَيْسَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَا
غَالِبِ الظَّنِّ .
وَالْحُكْمُ ( بِمُوجَبِ )
خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ جِهَةِ غَالِبِ
الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهُمَا فِي
الْجُمْلَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ .
كَمَا نَقُولُ: إنَّ ( قَبُولَ ) شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ
عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى
{ فَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ثُمَّ
إذَا عَيَّنَا الشَّهَادَةَ فِي رَجُلَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا كَانَ طَرِيقُ
قَبُولِهِمَا الِاجْتِهَادَ وَغَالِبَ الظَّنِّ لَا حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِمَا
شَهِدَا بِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ ( فِيهِ ) عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكَانَ فِي إثْبَاتِ تَخْصِيصِهِ رَفْعُ الْعِلْمِ بِمُوجَبِ
الْعُمُومِ رَأْسًا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْصُلُ مَجَازًا ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ
فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ لَا
مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ .
وَلَا جَائِزًا رَفْعُ مُوجَبِ حُكْمِ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ
لِلْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ فِي مَعْنَى النَّسْخِ
وَهَذَا سَدِيدٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ شَيْخُنَا أَبُو
الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ مِنْ
أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سَقَطَتْ مَعَهُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ وَاحْتِيجَ فِي
إثْبَاتِ الْحُكْمِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجِبْ إسْقَاطُ ( حُكْمِ
اللَّفْظِ ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ إنَّ الْعُمُومَ الَّذِي
قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ يَجُوزُ ( قَبُولُ ) خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
تَخْصِيصِهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ( إنَّمَا ) قَالَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إذَا أُرِيدَ
بِهِ الْخُصُوصُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا
الْمَخْصُوصِ بِهِ عَلَى مَا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَلَا
إشْكَالَ مَعَ هَذَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي إخْرَاجِ بَعْضِ مَا
شَمِلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ مِنْ حُكْمِهِ لِسُقُوطِ حُكْمِ عُمُومِ اللَّفْظِ
لَوْ عَرِيَ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْقَوْلَ بِعُمُومِ
اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصِ، إلَّا أَنَّهُ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْبَاقِي
مَعَ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ
فَالِاجْتِهَادُ شَائِعٌ فِي تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يَذْهَبُ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ فَصَارَ مُوجَبُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِي
هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ
الظَّنِّ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ حَصَلَ مَجَازًا ، وَالْمَجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ
إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ .
وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ جَازَ تَرْكُهُ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ .
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي
الْفَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ
كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ بِمَا
لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
( وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ تَسْتَمِرُّ مَسَائِلُهُمْ عَلَيْهِ )
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا
عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ( نَسْخِ الْقُرْآنِ ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، إذَا كَانَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ يُفْضِي (
بِنَا ) إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ ، وَخَبَرُ
الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَكَذَلِكَ
التَّخْصِيصُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ أَهْلَ قُبَاءَ ( قَدْ ) كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَكَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ( مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ ) الْعِلْمَ فَلَمَّا أَتَاهُمْ آتٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ
الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ اسْتَدَارُوا إلَى
الْكَعْبَةِ فَتَرَكُوا مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِيَقِينٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
.
وَكَذَلِكَ عِلْمُ الْأَنْصَارِ بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ (
كَانَ يَقِينًا ) فَلَمَّا أَتَاهُمْ آتٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا فَأَخْبَرَهُمْ
أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ أَرَاقُوهَا وَكَسَرُوا الْأَوَانِيَ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ سُئِلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ
نَفْسُهُ هَذَا السُّؤَالَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ
بَقَاءِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُرُودِ النَّسْخِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
سَبِيلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَمَا ( ثَبَتَ ) مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ
يَجُزْ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا أَنْكَرْت أَنَّهُمَا لَمَّا
اتَّفَقَا ( فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ ) وَجَبَ أَنْ
يَجُوزَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ .
قِيلَ لَهُ : أَفَلَيْسَ قَدْ اتَّفَقَا عِنْدَك فِي
وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَلَمْ يُوجِبْ اتِّفَاقُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
اتِّفَاقَهُمَا فِي جَوَازِ نَسْخِ مَا يُوجِبُ الْعَمَلَ ( بِمَا لَا يُوجِبُهُ فَهَلَّا قُلْت فِي التَّخْصِيصِ مِثْلَهُ ، وَعَلَى
أَنَّ قَوْلَك قَدْ اتَّفَقَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ ) بِهِمَا خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ
أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُسَاوٍ لِوُجُوبِهِ
بِالْقُرْآنِ ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ سُنَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالتَّوَاتُرِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى
مَرَاتِبَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، وَبَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَوَجَبَ
الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وُجُوبًا حَقِيقِيًّا لَا
يَسَعُ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ ( وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَسَعُ
الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ ) .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ لَيْسَ مَأْثَمُهُ كَمَأْثَمِ تَارِكِ
عُمُومِ الْقُرْآنِ مَعَ اعْتِقَادِ الْقَوْلِ بِهِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ
وَالتَّخْصِيصِ أَنَّ فِي النَّسْخِ رَفْعَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ،
وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ الْمُرَادِ .
قِيلَ لَهُ :هَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يَدْرِي مَا
النَّسْخُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ فِي أَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ إلَّا أَنَّ النَّسْخَ فِيهِ بَيَانُ مُدَّةِ
الْحُكْمِ وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ
لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ
ثُمَّ يَرْفَعَهُ ( لِأَنَّ ) هَذَا بَدَاءٌ ،
وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ
كَانَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا
.
فَإِنْ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ : لَا يَلْزَمُنِي عَلَى
التَّخْصِيصِ جَوَازُ النَّسْخِ لِأَنِّي لَا أَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ
.
قِيلَ لَهُ : فَلِمَ تَخُصُّهُ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ
جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ بِالسُّنَّةِ فَأَجِزْ نَسْخَهُ بِهَا .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إلْزَامُنَا إيَّاكَ النَّسْخَ
قَائِمٌ عَلَيْك ( عَلَى عِلَّتِك ) لِأَنَّك قُلْت : إنَّمَا خَصَصْت الْقُرْآنَ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِلُزُومِ الْعَمَلِ بِهِمَا فَجَوِّزْ النَّسْخَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ
بِعَيْنِهَا .
فَإِنْ قَالَ : إذَا خَصَصْت فَقَدْ أَبْقَيْت مِنْ
الْحُكْمِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ .
قِيلَ لَهُ : وَإِذَا نَسَخْت فَقَدْ أَثْبَتَّ مِنْ
الْحُكْمِ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ
الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهَا إلَى وَقْتِ النَّسْخِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ .
عَلَى أَنَّ سُؤَالَنَا قَائِمٌ عَلَيْك فِي نَسْخِ
السُّنَّةِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا جَوَّزْت
تَخْصِيصَهُ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِك جَوَازُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ
.
فَإِنْ قَالَ : إذَا خَصَصْت
الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ اسْتَعْمَلْنَاهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ
أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْآخَرِ ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّسْخُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْنَا
الْآنَ .
قِيلَ لَهُ : لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ إلَّا
بِرَفْعِ بَعْضِ مُوجَبِ لَفْظِ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ
الْبَعْضِ الَّذِي رَفَعْت حُكْمَهُ ( فِيمَا بَقِيَ )
لِأَنَّ مَا بَقِيَ لَمْ أَسْتَعْمِلْهُ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ
.
فَلَمَّا جَازَ لَك ( تَرْكُ ) ذَلِكَ الْبَعْضِ
( بِخَبَرِ ) الْوَاحِدِ فَهَلَّا جَوَّزْت نَسْخَهُ
كَمَا جَوَّزْت تَرْكَهُ إذَا دَخَلَ فِي عُمُومِ لَفْظٍ ، فَكَيْفَ صَارَ
اسْتِعْمَالُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ مَا قَابَلَهُ مِنْ
لَفْظِ الْقُرْآنِ .
وَهَلَّا بَقَّيْت حُكْمَ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ
الْعِلْمُ دُونَ الْخَبَرِ .
فَإِنْ قُلْت : لَا يَلْزَمُنَا مِنْ حَيْثُ جَوَّزْنَا
تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ نُجَوِّزَ نَسْخَهُ كَمَا لَمْ
يَلْزَمْك نَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ ( تَخْصِيصُهُ
بِالْقِيَاسِ ) ،
قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَجِبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ
يَمْتَنِعْ مِنْ تَجْوِيزِ نَسْخِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِهِمَا
فِي مُوجَبِ حُكْمِهَا .
وَإِنَّمَا نُجَوِّزُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ
إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ لَا فِيمَا وَرَدَ
بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا فِيمَا لَمْ يَرِدْ ( بِخِلَافِهِ ) ،
فَإِنَّمَا مَنَعْنَا النَّسْخَ بِالْقِيَاسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِأَنَّ فِيهِ
تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْفَرْضِ ، وَهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ لَوْ لَمْ
يَكُنْ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ بِهِ وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَجَائِزٌ إثْبَاتُ
الْمَقَادِيرِ بِهِ فَمِنْ ( حَيْثُ ) جُوِّزَ التَّخْصِيصُ بِهِ لَزِمَ تَجْوِيزُ
النَّسْخِ بِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِحَضْرَةِ
الْوَاحِدِ ( فَإِنْ )
جَازَ ذَلِكَ فَهَلَّا قَبِلْت قَوْلَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ
فِي تَخْصِيصِهِ .
قِيلَ لَهُ : إنْ خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِحَضْرَةِ الْوَاحِدِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ
الْوَاحِدِ اعْتِقَادُ تَخْصِيصِهِ ( عَلَى حَسَبِ ) مَا عَلِمَهُ لِأَنَّهُ كَمَا
ثَبَتَ عِنْدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ
تَخْصِيصُهُ بِمِثْلِهَا .
وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْوَاحِدُ
بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ يُوْجِبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ
بِالْخُصُوصِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
ثُمَّ يُقَالُ ( لَهُ ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا ثَابِتًا عِنْدَ
الْجَمَاعَةِ بِحَضْرَةِ الْوَاحِدِ؟
فَإِنْ قَالَ لَا :
قِيلَ لَهُ : فِي التَّخْصِيصِ مِثْلُهُ
.
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ :
قِيلَ لَهُ : فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ نُقِلَ
إلَيْهِ ذَلِكَ النَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ نَسْخِ مَا عَلِمَ بِثُبُوتِهِ
يَقِينًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ؟.
( فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ،
قِيلَ لَهُ : فَجَوِّزْ ) ( نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ وَتَرْكَ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ )
وَإِنْ قَالَ : لَا .
قِيلَ لَهُ : فِي التَّخْصِيصِ مِثْلُهُ
.
فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَجَزْتُمْ تَخْصِيصَ الظَّاهِرِ
بِالْأَخْبَارِ الَّتِي تَلَقَّاهَا النَّاسُ بِالْقَبُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ
رِوَايَةِ الْأَفْرَادِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ
الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا } ، وَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } فَهَلَّا
جَرَيْتُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ
.
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ مَا
تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَهُوَ
عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى التَّوَاتُرِ ، وَهُوَ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَجَازَ
تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِهِ
فَإِنْ قَالَ : وَلِمَ زَعَمْت أَنَّ مَا كَانَ هَذَا
وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ الْعِلْمَ
( قِيلَ لَهُ ) : فَقَدْ تَرَكْت مَسْأَلَتَك
وَانْتَقَلْت عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا ، عَلَى أَنَّا نُجِيبُك عَنْ هَذَا وَإِنْ
لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ بِحَقِّ النَّظَرِ فَنَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ
الْعِلْمَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ فِي السَّلَفِ اسْتِعْمَالُهُ
وَالْقَوْلُ بِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي شَرَائِطِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ
وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا فَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ
عَلِمُوا صِحَّتَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ لَمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى
قَبُولِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ ، وَهَذَا وَجْهٌ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ
النَّقْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مِثْلَهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى
شَيْءٍ ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ كَانَ
شَاذًّا لَا يَقْدَحُ خِلَافُهُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ
بَعْدَ ذَلِكَ إلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ تَخْصِيصُ
الظَّاهِرِ بِمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَنْ
الْخَبَرِ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ لَكَانَ
الْإِجْمَاعُ تَابِعًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ
الْوَاحِدِ ( أَقْوَى مِنْهُ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ )
وَهُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى خَبَرَ
الْوَاحِدِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِجْمَاعِ بَلْ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ
الْوَاحِدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُرَدُّ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ
وَمَنْ حَمَلَهُ
فَلْيَتَوَضَّأْ } وَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
{ لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ } .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِهِ فَقَضَى
إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَبَرِ وَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ.
وَكَمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ }
وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ
.
وَكَمَا رَوَى سَلَمَةَ بْنُ الْمُحَبِّقِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ
امْرَأَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَتْ
طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَهُ وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ
حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا } .
وَنَظَائِرُهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَضَى
الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ
الْخَطَأِ فِيهِ ، وَيَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ
.
فَعَلِمْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا وَافَقَ خَبَرَ الْوَاحِدِ
كَانَ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْعَمَلِ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ لَا الْخَبَرُ
بِانْفِرَادِهِ ، وَيَصِيرُ الْإِجْمَاعُ قَاضِيًا بِاسْتِقَامَتِهِ وَصِحَّةِ
مَخْرَجِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَسَعُ
الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَتِهِ ، وَلَا يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ
الْإِجْمَاعِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فَرْعًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّأْيَ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَسَعُ خِلَافُهُ بِرَأْيٍ
مِثْلِهِ ثُمَّ إذَا ( حَصَلَ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ ) لَمْ يَسَعْ
خِلَافُهُ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ رَأْيٌ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ
عَلَيْهِ ، فَالْإِجْمَاعُ يُصَحِّحُ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، وَيَمْنَعُ
الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ ، كَمَا يُصَحِّحُ الرَّأْيَ وَيَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ ،
فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا جَازَ تَخْصِيصُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ قَدْ
تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ ، وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ
الْآحَادِ وَلَا يَلْزَمُنَا عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ إذَا عَرِيَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَا .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ خَالَفَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِي تَحْرِيمِ
نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَوُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ لِأَنَّ
رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخَصِّصَةٌ ، قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
قِيلَ لَهُ : قَدْ رَوَى
هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ
غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ
وَغَيْرُهُمَا ، وَ ( قَدْ ) تَلَقَّاهُ السَّلَفُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ فِي
مَعْنَى الْخَبَرِ
الْمُتَوَاتِرِ وَبِمِثْلِهِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ
عِنْدَنَا لِاسْتِفَاضَتِهِ فِي الْأُمَّةِ وَاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لِحُكْمِهِ ،
وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَيْسَ بِخِلَافٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ
.
وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخَوَارِجُ ، ( أَيْضًا )
وَلَكِنَّهُمْ شُذُوذٌ لَا يُعْتَدُّ
بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ .
وَعَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } لَيْسَ بِعُمُومٍ بَلْ هُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ
عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِيهِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ
فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ قَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَتَخْصِيصِهِ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
}
كَانَ الْجَوَابُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا ، وَلِأَنَّ
هَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ
فَإِنْ قِيلَ : خَصَصْتُمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى { قُلْ
لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الْآيَةَ
بِخَبَرِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ
فِي { النَّهْيِ عَنْ
كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ
الطَّيْرِ } .
وَبِخَبَرِ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ فِي {
تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ } ( وَقَدْ خَالَفَكُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ
فِي ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا يُبِيحَانِ
الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ ) وَذَا النَّابِ مِنْ
السِّبَاعِ وَيَحْتَجَّانِ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتَا إلَى
رِوَايَةِ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.
قِيلَ لَهُ : أَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ تَخْصِيصُ
الْآيَةِ.لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ
تَحْرِيمُ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا ، وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ لَمْ
تَقْتَضِ الْآيَةُ حَظْرَهُ وَلَا إبَاحَتَهُ ، فَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِهِ
تَخْصِيصُ الْآيَةِ .
وَجِهَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ
قَدْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ السَّابِيَةِ وَالْوَصِيلَةِ
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ
فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } يَعْنِي مِمَّا يُحَرِّمُونَ { إلَّا
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } إلَى آخِرِ الْآيَةِ
.
( فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا إذْ ) كَانَ نُزُولُهَا عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ عَلَى إبَاحَةِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِيهَا
.
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ مَا
فِي هَذِهِ الْآيَةِ عُمُومًا فِي إبَاحَةِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِيهَا لَجَازَ
تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ
جَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ
غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الْخَمْرُ وَلَحْمُ الْقُرُودِ وَنَحْوُهَا
فَصَارَتْ الْآيَةُ خَاصَّةً بِالِاتِّفَاقِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ
فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَلُحُومِ
الْخَيْلِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الِاجْتِهَادَ فِيهِ
.
وَمَتَى اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي تَخْصِيصِ آيَةِ
سَوَّغَتْ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِ حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ
بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهَا ، جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
تَخْصِيصِهَا .
فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إحْلَالَهَا لِلزَّوْجِ
الْأَوَّلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا طَلَّقَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرِطْ فِيهِ دُخُولًا ثُمَّ جَعَلْتُمْ الدُّخُولَ شَرْطًا
فِيهِ بِخَبَرِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَجَاءَتْ تَشْكُو ( إلَيْهِ ) أَنَّهُ لَا
يَصِلُ إلَيْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا ،
حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } .
فَخَصَصْتُمْ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْخَبَرِ ،
وَهُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ وَالْخِلَافُ قَائِمٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ ، لِأَنَّ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : تَحِلُّ
لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ
اللَّفْظِ ارْتِفَاعُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ بِنِكَاحِ الثَّانِي ، بَلْ ظَاهِرُهَا
يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بِالْوَطْءِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مُنْتَظِمٌ لِلْعَقْدِ
وَالْوَطْءِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ قَوْلَهُ { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ عِنْدَنَا وَذِكْرُ
الزَّوْجِيَّةِ يُفِيدُ الْعَقْدَ فَقَدْ اشْتَمَلَ ظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ
وَجَعَلَهُمَا شَرْطًا فِي وُقُوعِ تَحْرِيمٍ فَاتَّبَعْنَاهُ ، وَلَمْ
نُخَالِفْهُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا خَصَصْنَاهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
.
وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بَيْنَنَا فِي
أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ صَارَ
بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِهِ ، وَهَذَا
صِفَةُ هَذَا الْخَبَرِ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلَتْهُ
.
وَلَيْسَ مَعْنَى تَلَقِّي النَّاسِ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ
أَنْ لَا يُوجَدَ ( لَهُ ) مُخَالِفٌ ، وَإِنَّمَا صِفَتُهُ أَنْ يَعْرِفَهُ
عُظْمُ السَّلَفِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَى
قَائِلِهِ ، ثُمَّ إنْ خَالَفَ بَعْدَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ كَانَ شَاذًّا لَا
يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ الزَّوَاجَ
الثَّانِيَ لَا يَرْفَعُ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِنْ
صَحَّ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ
سَمِعَ بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَأَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ لَصَارَ إلَيْهِ
.
وَأَيْضًا : فَقَدْ صَارَ
الِاتِّفَاقُ بَعْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى حُكْمِ هَذَا الْخَبَرِ
فَسَقَطَ الْخِلَافُ فِيهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ .
فَجَازَ تَخْصِيصُ الظَّاهِرِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ
عِنْدَنَا بَيْنَ إجْمَاعٍ يَقَعُ بَعْدَ خِلَافٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ
مُتَقَدِّمٍ وَبَيْنَ إجْمَاعٍ يَحْصُلُ عَنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي ثُبُوتِ
حُجَّتِهِمَا وَلُزُومِ الْمَصِيرِ إلَيْهِمَا .
فَإِنْ قَالَ : خَصَصْتُمْ قَوْله تَعَالَى {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } بِخَبَرِ الْمِجَنِّ وَفِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ فَهِمْت عَنَّا مَا قَدَّمْنَا فِي
عَقْدِ الْمَذْهَبِ لَكَفَيْت نَفْسَك مُؤْنَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الْفَارِغَةِ
لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } خَاصٌّ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ
مِنْ الصَّحَابَةِ ( لَا )
خِلَافَ ( فِيهِ بَيْنَهُمْ ) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
عَشَرَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَمْسَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : أَرْبَعَةٌ ،
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : ثَلَاثَةٌ ، فَحَصَلَ حُكْمُ اللَّفْظِ خَاصًّا
بِاتِّفَاقِهِمْ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَوَّغَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ (
لِغَيْرِهِ الِاجْتِهَادَ ) فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي قَدَّرَهُ فَجَازَ
تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اتِّفَاقُ
الْجَمِيعِ عَلَى خُصُوصِهِ .
وَالْآخَرُ : تَسْوِيغُهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِ
ظَاهِرِهِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ لَا يُعَدُّ خِلَافًا فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ هُوَ شُذُوذٌ وَلَا
يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
ثُمَّ يَصِيرُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
هَذَا السَّائِلِ فِي صِفَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا
فِي شَيْءٍ
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ عَنَّا فِي هَذَا
الْبَابِ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِمَّا نَقُولُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ
فِي حَدِّ مَنْ يَتَشَاغَلُ بِهِ أَيْضًا ، ( وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَكُونُ
فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُبْتَدِئِ عَلَى مَوْضِعِ عَوَارِهِ وَفَسَادِ مَا احْتَجَّ
بِهِ ) .
ذَكَرَ أَخْبَارًا زَعَمَ أَنَّا قَبِلْنَاهَا
فَتَرَكْنَا لَهَا الْأَصْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَلَيْسَ ( يَتَعَلَّقُ قَبُولُهَا فِيمَا) نَحْنُ فِيهِ ( بِشَيْءٍ ) وَيُشْبِهُ أَنْ
يَكُونَ وَجَدَهَا لِبَعْضِ سَلَفِهِ فَنَقَلَهَا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ
غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِحَقِيقَةِ مَوْضِعِهَا ، قَدْ ذَكَرْنَاهَا وَبَيَّنَّا
ذَهَابَهُ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ فِيهَا
لِئَلَّا يَمُرَّ عَلَى بَعْضِ الْمُبْتَدَئِينَ
فَيَظُنَّهَا شُبَهًا ( لِأَنَّ مَنْ بِهِ ) أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ فَهْمٍ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ فَسَادُهَا .
مِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي فَزَارَةَ فِي
الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ ، وَقَالَ : كَانَ أَبُو فَزَارَةَ نَبَّاذًا فَتَرَكُوا حُكْمَ
الْقُرْآنِ - زَعَمَ - فِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فَقَالَ مَعْنَاهُ مَاءً أَوْ نَبِيذَ
التَّمْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَبَا فَزَارَةَ كَانَ نَبَّاذًا
فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَتَرَخُّصٌ عَلَى أَبِي فَزَارَةَ ، لِأَنَّ أَبَا فَزَارَةَ
كَانَ مِنْ الزُّهَّادِ.
وَحَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ
فِي كِتَابِهِ ( الْمَشْهُورِ ) الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الطَّبَقَاتِ، وَلَهُ
أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ قَدْ نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ ( وَإِسْرَائِيلَ وَشَرِيكٍ ) فِي نُظَرَائِهِمْ ، وَلَوْ
كَانَ نَبَّاذًا مَا نَقَلُوا عَنْهُ آثَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ هَذَا الْقَائِلِ وَقِلَّةِ
دِينِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خِلَافُ مَا
تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ
التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ مَاءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ { مَاءً }
لَفْظٌ مَنْكُورٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى الِانْفِرَادِ سَوَاءٌ
كَانَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ أَوْ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ ،
وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ فِي نَبِيذِ
التَّمْرِ مَاءٌ فَجَاءَ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الظَّاهِرِ غَيْرَ
مُخَالِفٍ لَهُ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ
التَّمْرِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومٍ وَلَا ظَاهِرٍ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {
فَاغْسِلُوا } وَلَمْ يَقُلْ بِمَاذَا وَالْحَالُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا
اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ( وَنَبِيذُ التَّمْرِ ) غَيْرُ مَذْكُورٍ بِلَفْظِ عُمُومٍ
، فَإِنَّمَا وَرَدَ الْخَبَرُ فِي تَبْقِيَةِ حُكْمِ الْمَاءِ الَّذِي
تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ ( فَقَالَ : وَقَدْ
قَالَ ) اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فَأَبْطَلَ طَهَارَتَهُ بِحَدِيثِ أَبِي الْعَالِيَةِ
الرِّيَاحِيِّ ، وَحَدِيثُهُ - زَعَمَ - كَالرِّيَاحِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَبَاوَتِهِ وَجَهْلِهِ بِهَذَا
الْبَابِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَلَالَةِ مَحَلِّ
أَبِي الْعَالِيَةِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ
رُوِيَ مَوْصُولًا مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ رَوَاهُ
عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ ، وَرَوَاهُ مُرْسَلًا.
الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمُ
وَالزُّهْرِيُّ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبُولُ هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا
نَحْنُ فِيهِ ( فِي شَيْءٍ ) لِأَنَّا لَمْ
نَخُصَّ بِهِ ظَاهِرًا وَلَا عُمُومًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ } ظَاهِرُهُ نَهْيُ الْإِنْسَانِ عَنْ أَنْ يُبْطِلَ عَمَلَهُ ،
وَنَحْنُ ( لَمْ ) نُبْطِلْ عَمَلَهُ بِالْقَهْقَهَةِ وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ
اللَّهُ الَّذِي حَكَمَ بِبُطْلَانِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ
لِأَحَدٍ إلَى إبْطَالِ عَمَلِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ عَمَلَهُ الَّذِي
قَدْ عَمِلَهُ مُنْتَقِضٌ مَعْدُومٌ لَا يَصِحُّ
النَّهْيُ عَنْ إبْطَالِهِ ، فَإِذَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ إبْطَالِ
الْعَمَلِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ
مِنْ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ عَمَلِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَلَا مَذْكُورٍ
فِي لَفْظِ الْآيَةِ .
فَكَيْفَ يَكُونُ قَبُولُ حَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ
تَخْصِيصًا لِظَاهِرٍ.
وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ
الظَّاهِرُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَنَا عَلَى مَا زَعَمْت وَخَصَّصْنَاهُ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ كَانَ مُسْتَقِيمًا عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْعَامَّ الَّذِي قَدْ
ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ بَعْضُ مَا
انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
ثُمَّ خَلَّطَ تَخْلِيطًا آخَرَ فَقَالَ : وَقَبِلُوا
شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا .
وَأَيُّ ظَاهِرٍ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ
الْقَابِلَةِ فِي الْوِلَادَةِ حَتَّى يُذْكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَاتِ فِي
الْمُدَايَنَاتِ وَالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَالرَّجْعَةِ وَالزِّنَا .
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَلَا ذِكْرَ
لَهَا فِي الْقُرْآنِ فَنَكُونَ بِقَبُولِنَا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ مُخَصِّصِينَ
لَهَا .
وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَا لَا نَقْبَلُ خَبَرَ
الشَّاهِدِ وَالْيَمِينَ وَقَدْ رَوَاهُ - زَعَمَ بِضْعَةُ عَشَرَ مِنْ
الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إنَّمَا ذَكَرَ كَيْفَ نَتَوَثَّقُ ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ قَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ قَدْ رَوَاهُ بِضْعَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ
قَدْ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ
اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَجِدَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ حَدِيثًا وَاحِدًا
صَحِيحًا فَلَمْ يَجِدْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ عِلَلَ
الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ مِنْ أَفْقَهِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي عَصْرِهِ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِدْعَةٌ
، وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَضَى
بِهِ مُعَاوِيَةُ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ لَمَا
لَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ الْقُرْآنَ وَذَلِكَ
لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } فَهَذِهِ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مِنْهُ (
عَلَيْهِ السَّلَامُ ) لَا يُعْلَمُ
كَيْفِيَّتُهَا وَلَا مَعْنَاهَا ، وَقَدْ نَقْضِي نَحْنُ بِالشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ فِي وُجُوهٍ .
فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ سَاقِطٌ إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ
لَفْظٍ ( مِنْهُ ) فَيُعْتَبَرَ مَا انْتَظَمَهُ اسْمُهُ
وَلَيْسَ الْخَصْمُ بِأَوْلَى بِدَعْوَاهُ فِي صَرْفِهِ
إلَى مَذْهَبِهِ دُونَ أَنْ أَحْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ مَذْهَبِي فَكَيْفَ
بِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ فِي حُكْمِ الْكِتَابِ إذَا حَمَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ
فَقَدْ صَدَقَ لِأَنَّ الْخَبَرَ حُمِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ( يَجِبُ )
حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ ظَاهِرِهِ مَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ إلَّا أَنَّ
مَذْهَبَ الْمُخَالِفِ فِيهِ خِلَافُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِهِ حَالَ الْمُدَايَنَةِ أَوْحَالَ الْحُكْمِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ ،
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا .
وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ التَّوَثُّقَ
بِهِمَا فِي حَالِ الْمُدَايَنَةِ فَإِنَّمَا الْمَقْصِدُ فِيهِ حَالُ الْحُكْمِ
عِنْدَ
التَّجَاحُدِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ
وُجُوبَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ
التَّجَاحُدِ ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ
عَلَى أَقَلِّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَمَنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ
خَالَفَ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ ( شَاهِدٍ ) وَاحِدٍ
بِغَيْرِ يَمِينٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ وَيَمِينُ الطَّالِبِ لَا ذِكْرَ
لَهَا فِي الْآيَةِ فَوُجُودُهَا وَعَدَمُهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَنْفَكَّ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ مِنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ الْقُرْآنِ .
وَكَمَا أَنَّ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَدُّ
الزَّانِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ تَارِكًا لِحُكْمِهِ
فَكَذَلِكَ مَنْ اقْتَصَرَ فِي الْمُدَايَنَةِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الشُّهُودِ الْمَذْكُورِينَ
فِي الْآيَةِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّخْصِيصِ فِي
شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومُ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ
فَيَخُصُّهُ بِالْخَبَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : خَصَّ بِهِ حَالًا دُونَ حَالٍ
.
قِيلَ لَهُ : الْحَالُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ
فَيَخُصَّهَا بِالْخَبَرِ فَلَيْسَ فِيهِ إذَنْ أَكْثَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ
فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْآيَةِ
لَمْ يَسْتَحِلْ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ
وَيَمِينٌ كَانَ صَحِيحًا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كُلُّ
مَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ إلَى مَا قَبْلَهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ إلْحَاقُهُ
بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ كَانَ ( لَا ) يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ صَلُّوا إنْ شِئْتُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَإِنْ شِئْتُمْ إلَى الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ
تَكُونَ الصَّلَاةُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْسُوخَةً بِالصَّلَاةِ إلَى
الْكَعْبَةِ .
وَكَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ إنْ شِئْتُمْ
فَاجْلِدُوا الزَّانِيَ مِائَةً وَإِنْ شِئْتُمْ تِسْعِينَ ،فَكَانَ يَكُونُ
مِقْدَارُ الضَّرْبِ مَوْكُولًا إلَى مَشِيئَةِ
الْإِمَامِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ مَنْ قَالَ إنَّ حَدَّ الزَّانِي تِسْعُونَ
مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ .
وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَوْ رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلٌ إنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِنْ غَيْرِ
يَمِينٍ وَلَا يُخْرِجُ جَوَازُ ذَلِكَ قَائِلَهُ الْآنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ
مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ وَهَذَا لَا يُخْفِي وَجْهَ فَسَادِ الْقَوْلِ بِهِ عَلَى
أَيِّ فَهْمٍ.
فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَةُ
الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ خِلَافُ الْكِتَابِ وَهَذَا أَبْعَدُ فِي الْجَوَازِ مِنْ تَخْصِيصِ
الظَّاهِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِوَجْهٍ
وَإِنَّمَا فِيهِ النَّسْخُ لَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( لِمَا
بَيَّنَّاهُ ) .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى
الْآيَةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .
وَهِيَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ
الْجَمِيعِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
مَعَ الْخَصْمِ تَارِيخُ الْحُكْمِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوْ
قَبْلَهَا وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَالْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
وَهُوَ الْآيَةُ ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ فَهُوَ
مَتْرُوكٌ بِالْآيَةِ ( إذْ لَمْ ) يَثْبُتْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لَهَا فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ : يَجُوزُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَارِدٌ مَعَ
الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا ( لَهَا ) قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِحُكْمِ الْآيَةِ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَّا
بِمَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ النَّسْخُ لِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَخَبَرُ
الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُهُ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهَا لِمَا بَيَّنَّا
.
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ
بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَارِدًا مَعَ الْآيَةِ لَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَهُ وَذَكَرَهُ عَقِيبَ الْآيَةِ ، وَلَكَانَ
يَكُونُ فِيهِ عُمُومُ لَفْظٍ يُوجِبُ إلْحَاقَهُ بِالْآيَةِ .
فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ قَضِيَّةً مِنْهُ فَلَوْ
كَانَ مُرَادًا مَعَ الْآيَةِ لَمَا أَخَّرَ بَيَانَهُ إلَى أَنْ يُخْتَصَمَ إلَيْهِ
فَيَقْضِيَ .
فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُقَرٌّ عَلَى مَا
وَرَدَ وَأَنَّ خَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إنْ كَانَ ( مَعْنَاهُ ) مَا
ادَّعَاهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْآيَةِ أَوْ بَعْدَهَا
.
فَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَا
.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِهِ
.
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَا
ذُكِرَ فِي خَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ حِكَايَةُ فِعْلٍ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةٍ مَجْهُولَةٍ لَا نَدْرِي كَيْفَ
كَانَتْ وَمِثْلُهَا لَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ
.
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَقَعُ بِمِثْلِهِ
لِأَنَّ الْبَيَانَ إنَّمَا يَقَعُ بِلَفْظٍ مَعْلُومِ الْمَعْنَى ظَاهِرِ
الْمُرَادِ وَلَا يَجُوزُ ( أَنْ يَكُونَ ) مُوَكَّلًا إلَى قَضِيَّةٍ إذَا
نُقِلَتْ عَنْهُ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُمْ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : ( أَنَّهُ يَكُونُ ) زِيَادَةً
فِي حُكْمِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمُرَادِ اللهِ
تَعَالَى فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَكِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( النَّاسَ ) إلَى
مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ( لَمْ
) يَقْتَصِرْ بِحُكْمِ الْبَيَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي
الْآيَةِ دُونَ مَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ وَإِثْبَاتِ
حُكْمِهِ مَعَهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْآيَةِ أَوْ
بَعْدَهَا .
فَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَا ، وَإِنْ
كَانَ بَعْدَهَا فَهُوَ نَاسِخٌ لَهَا وَنَسْخُ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
غَيْرُ جَائِزٍ .
وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ بِزِيَادَةٍ
فَهُوَ نَسْخٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُنَا عِنْدَ وُرُودِ الْآيَةِ اعْتِقَادُ
وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِيهَا أَوْ امْتِنَاعُ جَوَازِهِ بِأَقَلَّ
مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ عَلَى أَيِّ عَقْلٍ سَمِعَ الْآيَةَ ( إلَّا وَ )
إنَّهَا تَمْنَعُ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ ( وَاحِدٍ ) وَبِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَتَى وَرَدَ خَبَرٌ أَجَازَ
الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَدْ دَفَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي
لَزِمَ ( مَعَ وُرُودِ ) الْآيَةِ ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ
يَكُونَ التَّخْصِيصُ نَسْخًا لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ
لُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ وَوُرُودُهُ مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ يَرْفَعُ ذَلِكَ
الِاعْتِقَادَ .
وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَك تَخْصِيصُ الْعُمُومِ
بِالْقِيَاسِ فَلَزِمَك عَلَى هَذَا تَجْوِيزُ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ
.
قِيلَ لَهُ : مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ مِنْ
لَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلَفْظِ
الْعُمُومِ ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَلَمْ يَلْزَمْنَا مَعَ
وُجُودِ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ ( اعْتِقَادُ الْعُمُومِ قَطُّ وَتَكُونُ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ
) بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَا يُخَلِّي أَحَدًا مَحْجُوجًا بِحُكْمِ آيَةٍ ظَاهِرُهَا ظَاهِرُ الْعُمُومِ
وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ مِنْ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ عَقِيبَ كَوْنِهِ
مَحْجُوجًا بِالْعُمُومِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ
بَيَانُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْزَمَهُ اعْتِقَادَ
الْعُمُومِ فِيمَا أَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ فَكَأَنَّهُ أَمَرَ بِاعْتِقَادِ
خِلَافِ مَا أَرَادَ وَمَا هُوَ حُكْمُهُ جَلَّ ( وَعَزَّ ) ( عَنْ ) ذَلِكَ
وَتَعَالَى .
فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ
مُقْتَرِنَةً بِلَفْظِ الْعُمُومِ كَاقْتِرَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ وَرَدَتْ فِي صِيَامِ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ شَرْطُ التَّتَابُعِ ( وَ ) وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ
الْآحَادِ لِمَا رُوِيَ ( أَنَّهُ ) فِي
حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ }
مُتَتَابِعَاتٍ فَمَنَعْت بِهِ إطْلَاقَ مَا فِي الْآيَةِ وَهَذَا ( يَجْرِي
عِنْدَك ) مَجْرَى النَّسْخِ وَمَا عَدَّ مُخَالِفُك فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ
وَالنَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ مَا أَجَزْتَهُ فِي ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَكُنْ حَرْفُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ عِنْدَهُمْ وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِحَرْفِ عَبْدِ اللهِ كَمَا يَقْرَءُونَ
بِحَرْفِ زَيْدٍ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : كَانُوا
يُعَلِّمُونَا وَنَحْنُ فِي الْكُتَّابِ حَرْفَ عَبْدِ اللهِ كَمَا يُعَلِّمُونَا
حَرْفَ ( زَيْدٍ ) .
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي بِهِمْ فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَقْرَأُ لَيْلَةً بِحَرْفِ عَبْدِ اللهِ وَلَيْلَةً بِحَرْفِ
زَيْدٍ فَإِنَّمَا أَثْبَتُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِحَرْفِ عَبْدِ اللهِ
لِاسْتِفَاضَتِهِ وَشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ، وَإِنْ كَانَ
إنَّمَا نُقِلَ إلَيْنَا الْآنَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لِأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا
الْقِرَاءَةَ ( بِهِ ) وَاقْتَصَرُوا عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا
عَلَى أُصُولِ الْقَوْمِ وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي شَرْحِ
الْمُخْتَصَرِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا مِقْدَارَ مَا
يُوقَفُ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا
فِيمَا سَلَفَ وَجْهَ قَبُولِنَا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ
الَّذِي ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ
.
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ الْآنَ سَائِرَ الْوُجُوهِ الَّتِي
جَوَّزْنَا تَخْصِيصَهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا
الْقَوْلُ فِيهِ.
فَنَقُولُ : إنَّ اللَّفْظَ
إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي فَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي إثْبَاتِ
الْمُرَادِ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِلْمِ
بِالْمُرَادِ وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ فَاحْتَجْنَا إنْ
نَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا
فَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله
تَعَالَى : { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فِيهِ احْتِمَالٌ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ
جَمِيعًا ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طَلَاقُ
الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَكَانَ مَقْبُولًا لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُرَادَ الْآيَةِ ( الْمُفْتَقِرَةِ
إلَى ) الْبَيَانِ وَبِمِثْلِ هَذَا قَبِلْنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي بَيَانِ
الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْبَيَانِ .
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَاهُ وَسَوَّغُوا
الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَتَرْكَ الظَّاهِرِ بِالِاجْتِهَادِ فَإِنَّا قَبِلْنَا
فِيهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَسَوَّغْنَا الْقِيَاسَ أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ
بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّلَفَ لَمَّا كَانُوا الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ
وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ
التَّأْوِيلَ وَلَا يَسُوغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ مِمَّا هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ
وَيَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ بِمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِاااا
لَفْظٍ ظَاهِرُهُ يَتَنَاوَلُ فِي اللُّغَةِ مَعْنًى
مَعْقُولًا فَعَدَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ظَاهِرِهِ ( ثُمَّ عَلِمَ ) بِهِ الْآخَرُونَ
فَلَمْ ( يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ ) دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لَهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ
الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِهِ إمَّا بِقَوْلٍ مِنْهُ وَإِمَّا بِحَالٍ شَاهِدُوهَا
اسْتَجَازُوا بِهَا الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَتَرْكَ الظَّاهِرِ
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا } وَحَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ ( هِيَ ) عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ
وَغَيْرِهِ مِنْ الْبَدَنِ ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ
.
ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ
: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا )
فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ هُوَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَالَ ( عُمَرُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ عَلَى
اللَّمْسِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُنْكِرَا عَلَى مَنْ قَالَ هُوَ ( عَلَى )
الْجِمَاعِ عُدُولَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ
وَصَرِيحِهِ إلَى الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَسَوَّغُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ
فِيهِ فَصَارَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَانِعًا مِنْ
وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْمُرَادِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ ثُمَّ رَوَى حَبِيبُ بْنُ
أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ }
جَازَ الْحُكْمُ
عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ
وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَبُولِهِ دَفْعٌ لِمَا
يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ } حَقِيقَتُهُ عَلَى ( أَنَّ ) اللَّمْسَ بِالْيَدِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ
فِي الْمُرَادِ بِهِ .
فَقَالَ ( عَلِيٌّ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا )
فِي عَامَّةِ الصَّحَابَةِ إنَّ الْمُرَادَ الْخَلْوَةُ وَقَالَ عَبْدُ اللهِ (
ابْنُ مَسْعُودٍ ) وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( إنَّ )
الْمُرَادَ الْجِمَاعُ فَسَوَّغَ الْجَمِيعُ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الْمَعْنَى
فَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَشَفَ خِمَارَامْرَأَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ
عَلَيْهِ الْمَهْرُ } فَجَازَ إثْبَاتُ الْمُرَادِ بِمِثْلِهِ
.
وَيَجُوزُ أَيْضًا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمُرَادِ فِي
مِثْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ صَارَ مُسْتَدْرَكًا
كُلُّهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَسَاغَ ( قَبُولُ ) خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي إدْرَاكِ مَعْنَاهُ
.
وَمِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا ظَاهِرُ الْكِتَابِ
خَبَرُ الْقَسَامَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حَلَفَ
عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ، وَقَالَ اللَّهُ { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ : { إلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْإِجْمَاعِ
بَلْ الْإِجْمَاعُ وَاقِعٌ ( فِي ) أَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَى الْغَيْرِ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ وَثُبُوتَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ
يَشْهَدُ بِمَا هُوَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ وَلَمْ يَشْهَدْهُ ثُمَّ
يَحْلِفُ عَلَيْهِ .
وَنَحْوُ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ إذَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى
مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ
كَانَ ( خِلَافَ )
ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَاةً بِصَاعِ تَمْرٍ
فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّ حِصَّةَ اللَّبَنِ أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } وَمِنْهُ حَدِيثُ الْقُرْعَةِ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ
فِيهِ خِلَافُ الْكِتَابِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ } الْآيَةَ
وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ
مُخَالِفُونَا مِنْ الْمَيْسِرِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: قَارَعْتُك
عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ فَهُوَ عَبْدٌ أَوْ فَلَهُ كَذَا
أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ كَانَ ( مَالِكًا لِجَمِيعِ ) مَالِهِ فِي
الْمَرَضِ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ الْمَوْتُ فَثَبَتَ حَقُّ الْوَرَثَةِ
فِي الثُّلُثَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي الثُّلُثِ لَا فِي ( حَالِ )
الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا أَعْتَقَهُمْ فِي الْمَرَضِ ، فَلَمَّا
أَعْتَقَهُمْ وَلَا مَالَ لَهُ ( غَيْرُهُمْ ) نَفَذَ عِتْقُهُ فِي ثُلُثِ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ ( لَا مَحَالَةَ إذْ ) لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَإِذَا أَخْرَجْنَا
بَعْضَهُمْ مِنْ الْعِتْقِ رَأْسًا وَجَعَلْنَاهَا لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا
كُلَّهَا بَدْءًا بِالْقُرْعَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ تَقَارَعَا وَهُمَا
حُرَّانِ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا فَهُوَ عَبْدٌ
، وَهَذَا أَفْحَشُ
مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ اللَّذَيْنِ حَرَّمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَعْمِلُونَهَا
فَلِذَلِكَ صَارَ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَالِفًا
لِلْقُرْآنِ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ } وَهَذَا
إنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى : { وَلَا
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
وقَوْله تَعَالَى : { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ }
فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ عَلَى مَعْنًى يُخَالِفُ الْقُرْآنَ
عِنْدَ الْجَمِيعِ .
وَنَظِيرُهُ : مَا رَوَى
فُضَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنًا
وَلَا وَلَدُهُ } وَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَفْرَادِ
مِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَتَى أَمْكَنَّا اسْتِعْمَالُهَا
عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ اسْتَعْمَلْنَاهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ
وَلَمْ نُلْغِهَا ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فِي قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } .
إنْ مَعْنَاهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَرَّ بِيَهُودِيٍّ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ إنَّهُمْ يَبْكُونَ
عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ } وَخَبَرُ الْمُصَرَّاةِ وَخَبَرُ الْقُرْعَةِ
جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَانِ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَهُوَ
أَوْلَى مِمَّنْ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُخَالِفُ بِهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي وَلَدِ الزِّنَا
أَنَّهُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ( وَلَاوَلَدُهُ )
فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَشَارَ ( بِهِ ) إلَى أَشْخَاصٍ
بِأَعْيَانِهِمْ فَحَكَمَ فِيهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِعِلْمِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِأَحْوَالِهِمْ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا ذَلِكَ وَقَدْ رَوَى
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : إذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي ( هُوَ أَهْنَا
وَاَلَّذِي هُوَ أَنْقَى ) .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ " إذَا حَدَّثْتُكُمْ
بِحَدِيثِ أَتَيْتُكُمْ بِمِصْدَاقِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى
" .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْخَبَرِ الْمُخَالِفِ
فِي ظَاهِرِهِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى
وَجْهٍ صَحِيحٍ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ عَلَى
وَجْهٍ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ .
فارغة
الْبَابُ التَّاسِعُ: الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ
الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : ( كُلُّ مَا ) لَا يَجُوزُ
تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ
.
وَذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى
الْقِيَاسِ .
فَمَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ فَبِالْقِيَاسِ أَحْرَى
أَنْ لَا يُخَصَّ وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا .
قَالَ مُحَمَّدُ ( بْنُ الْحَسَنِ ) فِي السِّيَرِ
الْكَبِيرِ وَذَكَرَ قَوْلَ عَطَاءٍ فِي الْمُحْصَرِ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا
أَنَّهُ يَصُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَيَحِلُّ قِيَاسًا عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ
فِي قِيَامِ ( صَوْمِ ) عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ
لَا يُجْزِيهِ غَيْرُ الْهَدْيِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ وَلَمْ
يَذْكُرْ فِيهِ صَوْمًا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنَحْنُ نُبْهِمُ مَا أَبْهَمَ
اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمَ فِي هَدْيِ
الْمُتْعَةِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلَا يَسْتَقِيمُ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ فِي
التَّنْزِيلِ ، إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ فَأَمَّا التَّنْزِيلُ
بِعَيْنِهِ فَلَا يُقَاسُ .
قَاسَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْأُمَّ عَلَى
الْبِنْتِ فِي الدُّخُولِ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ
وَقَالُوا : ( قَدْ ) قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } مُبْهَمَةٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ
اللَّهُ تَعَالَى " .
فَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا (الْفَصْلِ) مِنْ قَوْلِ
مُحَمَّدٍ شَيْئَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الْقَوْلَ
بِالْعُمُومِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ
بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ .
وَقَدْ دَلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا
يَرَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ
(فارغة المتن وفيها الهوامش)
بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّ بِقِيَاسٍ فَلَا
بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يَكُونَ قِيَاسُهُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ
إجْمَاعٍ ، وَقَدْ مَنَعَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ .
فَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ
مِنْ وَجْهٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ إلَّا بِمَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَا عَلَى
وَجْهِ النَّسْخِ وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ فَعُمُومُ الْقُرْآنِ الَّذِي
لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ
فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْقِيَاسِ إذْ لَا يَقْضِي بِنَا الْقِيَاسُ إلَى
الْعِلْمِ ( بِحَقِيقَةِ مَا يُؤَدِّينَا )
إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ خُصُوصُ اللَّفْظِ بِالِاتِّفَاقِ جَازَ
تَخْصِيصُهُ بَعْضَ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمَّا
ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ حَصَلَ اللَّفْظُ مَجَازًا عَلَى قَوْلِ
الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِ دَلَالَةِ
اللَّفْظِ فَصَارَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِي هَذَا ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ فَجَازَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي تَخْصِيصِهِ بِخُرُوجِ لَفْظِ الْعُمُومِ
مِنْ إيجَابِ الْعِلْمِ بِمَا انْطَوَى تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ ، لِأَنَّ
قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ
مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ وَحَقِيقَةِ
الْعِلْمِ ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِمَا كَانَ طَرِيقُهُ
غَالِبَ الظَّنِّ مِنْ خَبَرِ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسٍ .
وَأَمَّا مَا كَانَ وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ رِوَايَاتِ
الْأَفْرَادِ فَإِنْ تَخْصِيصَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا بِالْقِيَاسِ مِنْ قِبَلِ
أَنَّ طَرِيقَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ اجْتِهَادٌ لَا
يُفْضِي بِنَا إلَى حَقِيقَةِ عِلْمٍ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَخْصِيصِهِ كَمَا
سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ رَأْسًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي
الْأَصْلِ اجْتِهَادًا عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي وَأَنَّهُ
يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ فِي
تَخْصِيصِهِ أَوْلَى
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَلَّا خَصَصْت عُمُومَ
الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ بِالْقِيَاسِ إذْ كَانَ
حُكْمُ الْعُمُومِ لَازِمًا وَالْقَوْلُ بِالِاعْتِبَارِ وَاجِبًا أَيْضًا
فَهَلَّا اسْتَعْمَلْتَهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ تُسْقِطْ أَحَدَهُمَا بِالْآخِرِ كَالْآيَتَيْنِ
إحْدَاهُمَا خَاصَّةٌ وَالْأُخْرَى عَامَّةٌ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا
جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى
.
قِيلَ لَهُ : إنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ
وَاجِبًا فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَإِنَّهُ عَمَلٌ بِغَالِبِ الظَّنِّ
لَا يُفْضِي بِنَا إلَى حَقِيقَةٍ لِأَنَّا نُجَوِّزُ الْخَطَأَ عَلَى أَنْفُسِنَا
فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، وَعُمُومُ
الْقُرْآنِ يُفِيدُنَا الْعِلْمَ بِمُوجِبِهِ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ بِمَا لَا
يُوجِبُ الْعِلْمَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ .
وَأَمَّا الْآيَتَانِ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَاصَّةً
فَإِنَّ لَنَا شَرَائِطَ فِي اسْتِعْمَالِ حُكْمِهَا لَيْسَ هَذَا مَوْضُوعَ
ذِكْرِهَا .
وَمَتَى جَمَعْنَا بَيْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ
وَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا فَإِنَّمَا خَصَّصْنَا إحْدَاهُمَا بِمِثْلِهَا لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُقْتَضَاهَا .
وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْعُمُومِ مِنْ الِاعْتِبَارِ
فَلِمَ جَعَلْت اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ
.
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَبِرُوا
} عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
قِيلَ لَهُ:وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ فَلِمَ جَعَلْت الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ مَعَ شُمُولِ اللَّفْظِ؟.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الَّذِي
أَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِالْعُمُومِ
فَلِمَ جَعَلْت الِاعْتِبَارَ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ الْعُمُومِ ؟
.
فَإِنْ قَالَ : اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ مَعَ الْعُمُومِ
أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْقِيَاسِ
.
قِيلَ لَهُ :هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُك
اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ الْمُوجِبِ لِتَخْصِيصِهِ
وَلَسْت تَنْفَكُّ مَعَهُ مِنْ تَرْكِ الْعُمُومِ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنِّي أَسْتَعْمِلُ بَعْضَ مَا
شَمَلَهُ اللَّفْظُ مَعَ الْقِيَاسِ .
قِيلَ لَهُ : فَقَدْ تَرَكْت بَعْضَهُ ، وَإِنَّمَا
الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِيمَا تَرَكْت مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ لَا فِيمَا
اسْتَعْمَلْت لِأَنَّ اسْتِعْمَالَك لِمَا اسْتَعْمَلْته مِنْهُ غَيْرُ مُخْرِجِك
( مِنْ تَرْكِ مَا ) تَرَكْتَهُ مِنْهُ وَعَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى
{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } لَا يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ
اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِعِلْمِنَا مَعَ وُرُودِ
اللَّفْظِ بِامْتِنَاعِ ( جَوَازِ ) اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَصَارَ
مَجْرَاهُ مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَصِحُّ
اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إثْبَاتِ
حُكْمِهِمَا نَحْوُ قَوْلِهِ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } وقَوْله تَعَالَى {
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ
الْأَلْفَاظِ
عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَةِ الْمُجْمَلِ فَلَا
يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي مَوْضِعٍ
يُخَالِفُك فِيهِ خَصْمُك .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ
اعْتِبَارَ الْعُمُومِ آكَدُ مِنْ الْقِيَاسِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا
بُدَّ مِنْ ( أَنْ ) يَنُصَّ لُزُومُ اسْتِعْمَالِهِ إمَّا فِي الْجَمِيعِ
وَإِمَّا فِي الْبَعْضِ ، وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ جَائِزًا فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ لِأَنَّ مِنْ الْأُصُولِ مَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَصْلًا ، وَلَيْسَ
شَيْءٌ مِنْ الْعُمُومِ لَا يُسْتَعْمَلُ حُكْمُهُ بِحَالٍ فَصَارَ حُكْمُ
الْعُمُومِ آكَدَ مِنْ حُكْمِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ بِهِ
.
وَعَلَى أَنَّ مُخَالِفَنَا فِي ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى
النَّاسِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَرْكِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الَّذِي
يَدُلُّ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ جَرْيُهَا فِي مَعْلُولِهَا وَأَنْ لَا
يَرُدَّهَا أَصْلٌ ، وَالْعُمُومُ أَصْلٌ يَرُدُّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي
تَخْصِيصَهُ وَتَرْكَ الْعُمُومِ بِهَا ، فَهَلَّا كَانَ الْقِيَاسُ مُمْتَنِعًا
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاعْتِرَاضِ هَذَا الْأَصْلِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ
اعْتِبَارُ الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ
الْعُمُومَ يَحْصُلُ مُخَصِّصًا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (
لِلَّهِ تَعَالَى ) عَلَى وُجُوبِ تَخْصِيصِهِ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ الْعِلَّةُ بِقَوْلِهِ هَذِهِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ دُونَ أَنْ يُقِيمَ
عَلَيْهَا دَلِيلًا مِنْ غَيْرِهَا ، وَجَرْيُهَا فِي مَعْلُولِهَا لَيْسَ
بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ أَيْضًا فَجَعَلَ
دَلِيلَهُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ دَعْوَى أُخْرَى أَضَافَهَا إلَيْهِ وَمِنْ
شَرْطِهَا ( أَيْضًا عِنْدَهُ ) أَنْ لَا يَرُدَّهَا أَصْلٌ فَلَمْ يَعْتَبِرْ
فَسَادَهَا بِرَدِّ الْعُمُومِ إيَّاهَا وَهُوَ أَصْلٌ فَحَصَلَ الْعُمُومُ إذَا
خُصَّ بِالْقِيَاسِ مَخْصُوصًا بِقَوْلِهِ لَا بِدَلِيلٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
عَلَى خُصُوصِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ
الْقِيَاسَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
{ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ
{ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فَجَعَلَ مِيرَاثَ
الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْوَلَدِ
وَسَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ
:
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى ذَكَرَ مِيرَاثَ الْوَلَدِ بَدْءًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُوصِيكُمْ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِهِ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } لِأَنَّهُ قَالَ : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ } يَعْنِي الْبِنْتَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } فَسِيَاقُهُ
الْخِطَابُ بَعْدُ فِي حُكْمِ الْوَلَدِ وَالْأَبَوَيْنِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ
الْأَبَوَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَقَالَ { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ
فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ } فَلَمْ يَنْقَضِ ذِكْرُ الْوَلَدِ حَتَّى شَرَطَ تَقْدِيمَ
الدَّيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ ثُمَّ ذَكَرَ مِيرَاثَ الزَّوْجَيْنِ وَعَقَّبَهُ
بِذِكْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَحَكَمَ فِيهِ بِمِثْلِ
ذَلِكَ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الْقِيَاسِ فِي تَقْدِيمِ الدَّيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ ،
وَهُوَ مَذْكُورٌ مَعَ سَائِرِ الْمَوَارِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ
؟ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ
الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا وَمَا حَصَلَ فِيهِ
الْإِجْمَاعُ فَاعْتِبَارُ الْقِيَاسِ فِيهِ خَطَأٌ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ قِيَاسًا
عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا اجْتَمَعَتْ
عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَعَلَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ إنَّمَا
أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيفٍ أَوْ قَدْ يَكُونُ
الْإِجْمَاعُ تَارَةً عَنْ تَوْقِيفٍ وَتَارَةً عَنْ رَأْيٍ .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي
ذَلِكَ لَجَازَ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ .
قِيلَ لَهُ : ( كُلُّ مَا أَجْمَعَ ) عَلَيْهِ الصَّدْرُ
الْأَوَّلُ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّ إجْمَاعَهُمْ حَصَلَ عَنْ تَوْقِيفٍ
مَا لَمْ يُخْبِرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ
.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ آيَةَ
الْمَوَارِيثِ خَاصَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ مَا
هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ
الْإِجْمَاعَ الْوَاقِعَ عَنْ رَأْيٍ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الرَّأْيِ لَوْ
انْفَرَدَ ، لِأَنَّ الرَّأْيَ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الْإِجْمَاعِ سَاغَ تَرْكُهُ
بِرَأْيٍ مِثْلِهِ ، وَمَتَى انْضَافَ إلَيْهِ الْإِجْمَاعُ سَقَطَ جَوَازُ
اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي خِلَافِهِ
وَأَيْضًا : فَإِنَّا نُجِيزُ
تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ يُسَاعِدُهُ الْإِجْمَاعُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى
جَوَازِ تَخْصِيصِهِ ( بِقِيَاسٍ ) مُفْرَدٍ عَنْ
الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ .
وَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ : الْعُمُومُ ظَاهِرٌ
وَالْقِيَاسُ بَاطِنٌ وَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْبَاطِنُ قَاضِيًا عَلَى
الظَّاهِرِ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا بِعَدَالَةِ رَجُلٍ وَآخَرَانِ بِجَرْحِهِ
فَيَكُونُ شَهَادَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَخْبَرَا عَنْ بَاطِنٍ
.
وَهَذَا كَلَامٌ فَارِغٌ لَيْسَ تَحْتَهُ مَعْنًى
وَتَشْبِيهٌ بَعِيدٌ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لَا
يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ إلَّا غِرٌّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ إنَّمَا
سَمَّى مُوجِبَ الْقِيَاسِ بَاطِنًا لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ
، وَسَمَّى الْعُمُومَ ظَاهِرًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَذْكُورٌ ( بِاسْمِهِ ) فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ فِي هَذَا تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ
بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ فِي زَعْمِهِ ، وَالْمَذْكُورُ بِاسْمِهِ
الظَّاهِرُ وَيَجِبُ عَلَى قَضِيَّةِ
هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ لَمَّا
كَانَ ظَاهِرًا وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَاطِنًا لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهِ
بِنَظَرٍ ( لَا يَجُوزُ ) قِيَامُ دَلِيلٍ
عَلَى نَفْيِ الْمَحْسُوسِ لِأَنَّ هَذَا بَاطِنٌ ، وَالْمَحْسُوسُ ظَاهِرٌ
.
فَإِنْ قَالَ : مَا يَقْضِي عَلَى الْحِسِّ لَا يَكُونُ
دَلِيلًا لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصِحَّتِهِ
وَبَيَانِهِ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا يَقْضِي عَلَى الْعُمُومِ مِنْ
الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَنَّ دَلَائِلَ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى السَّمْعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ قَاضِيًا عَلَى الْأَصْلِ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنِّي أَقِيسُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ
.
قِيلَ لَهُ : كَيْفَ صَارَ قِيَاسُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ
وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ أَصْلٍ آخَرَ غَيْرِهِ ، وَهَلْ
يُخْرِجُك هَذَا مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ جَعَلْت الْفَرْعَ آكَدَ مِنْ الْأَصْلِ
وَجَعَلْت الْمُسْتَنْبَطَ أَوْلَى مِنْ الْمَذْكُورِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ
( أَمْرِ ) الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فَإِنَّ شَاهِدَيْ
الْجَرْحِ قَدْ ذَكَرَا الْجَرْحَ وَنَصَّا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ شَاهِدَا
التَّعْدِيلِ وَنَصَّا عَلَيْهِ وَأَيُّ بَاطِنٍ هَاهُنَا .
وَإِنَّمَا قَضَيْت بِأَحَدِ الْمَسْمُوعِينَ عَلَى
الْآخَرِ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِالْجَرْحِ
يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ عَلِمَهُ وَالْمُخْبِرُ بِالتَّعْدِيلِ إنَّمَا أَخْبَرَ
عَنْ ظَاهِرٍ يَجُوزُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ بِخِلَافِهِ
.
قِيلَ لَهُ : وَكَذَا فَقُلْ فِي الْعُمُومِ إنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلَفْظِ عُمُومٍ
يَكُونُ بَاطِنُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ كَمَا قُلْت فِي الْمُخْبِرِ ( عَنْ
الْعَدَالَةِ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ
ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ أَمَرَ
بِهِ ) إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ قِيَاسٌ وَلَا لَفْظٌ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ خِلَافَ
ظَاهِرِهِ كَمَا جَازَ أَنْ يُخْبِرَ شَاهِدَا التَّعْدِيلِ عَنْ عَدَالَةٍ
ظَاهِرَةٍ بَاطِنُهَا خِلَافُ ظَاهِرِهَا .
فَإِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ انْسَلَخَ عَنْ الْمِلَّةِ
وَوَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَصِفُهُ بِهِ مُسْلِمٌ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إنَّ الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَمْرِ
الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ شَاهِدٌ لَنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا لَوْ جَعَلْنَاهُ
أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا كَانَ أَوْلَى ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْعَدَالَةِ
لَمَّا كَانَ مَرْجِعُهُ إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ وَلَا حَقِيقَةِ
عِلْمٍ بِحَالِهِ وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِالْجَرْحِ إنَّمَا ( هُوَ ) إخْبَارٌ
عَنْ حَقِيقَةٍ مُشَاهَدَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْفِسْقِ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى مِنْ
التَّعْدِيلِ .
كَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ
اعْتِبَارُ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ لَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ .
فَإِنْ قَالَ : لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ
تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ
حُكْمُهُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا صَحِيحٌ ، عَلَى مَا أَصَّلْنَا
لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ لَمَّا كَانَ مُفْضِيًا بِنَا إلَى الْعِلْمِ (
بِصِحَّةِ مَا أَدَّانَا إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ
وَكَانَ الْحُكْمُ ) بِمُوجَبِ الْعُمُومِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ إذَا
أَطْلَقَ كَانَ الْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ قَاضِيًا عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ
يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِمُوجِبَاتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ ، وَالْعُمُومُ
لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبَاتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ إذْ جَائِزٌ
إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ
الشَّرْعِيُّ فَإِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ وَغَالِبُ ظَنٍّ لَا يُفْضِي إلَى
الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ ، وَقَدْ يُوجِبُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيهِ
التَّخْصِيصَ وَكَانَ الْحُكْمُ بِالْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ أَوْلَى مِنْ
تَرْكِهِ بِقِيَاسٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا
مِنْ أُصُولِ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْبَابِ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهَا
.
فَإِنْ قَالَ : لَيْسَ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ فِي
الشَّرِيعَةِ مَقْصُورًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ
الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ فِيمَا يُؤَدِّي بِنَا إلَيْهِ يَكُونُ مُطَّرَحًا
.
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ إنَّ الْقِيَاسَ مُطَّرَحٌ فِي
الْأَصْلِ وَلَا أَنَّ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ غَيْرُ مَحْكُومٍ ( بِهِ )
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعُمُومِ
بِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْهُ وَلَمْ أَذْكُرْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لِشُبْهَةٍ
مِنْهَا عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ وَلَكِنِّي خَشِيت أَنْ تَمُرَّ بِبَعْضِ
الْمُبْتَدَئِينَ مِنْ كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ يَظُنُّهَا شُبْهَةً فَكَشَفْنَا
عَنْ حَقِيقَتِهَا وَأَنْبَأْنَا عَنْ فَسَادِهَا لِيُعْتَبَرَ بِهِ سَائِرُ
حِجَاجِهِمْ وَيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَذْكُرُونَهُ كَلَامٌ مَارِقٌ يَجْرِي
مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَحْصِيلٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى إفْسَادِهِ إلَى
أَكْبَرِ مِنْ الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ
فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ رَقَبَةِ الظِّهَارِ بِشَرْطِ
الْإِيمَانِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمُ الْكَلَامِ وَحُكْمُ اللَّفْظِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُوجِبُ
ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَهُ قِيَاسًا .
وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا عِنْدَنَا فَاسِدَانِ لَا
يَخِيلُ وَجْهُ الْفَسَادِ فِيهِمَا عَلَى مُتَأَمِّلٍ نَصَحَ نَفْسَهُ
.
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَفَسَادُهُ
وَسُقُوطُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ عَاقِلٌ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى
لُغَةٍ وَلَا شَرِيعَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا
ذَكَرَ شَيْئًا عُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ
وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى
الْآخَرِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرُوضُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ
تَعَالَى كُلُّهَا شُرُوطًا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى
بَعْضٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرَ الْكَفَّارَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَ
ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ
الْفُرُوضِ فَتَصِيرُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ مُتَعَلِّقٌ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي فَرْضٍ
وَاحِدٍ إذَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ مُقَيَّدٍ ثُمَّ ذُكِرَ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا
أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْت فِي الْفَرْضِ
الْوَاحِدِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ
فَلِمَ قُلْت إنَّ الْفَرْضَيْنِ إذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا مُقَيَّدًا بِحُكْمٍ
وَالْآخَرُ مُطْلَقًا أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ
.
وَإِنَّمَا كَلَامُنَا مَعَك فِي فَرْضَيْنِ
وَكَفَّارَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَا
تَعَلَّقَتْ الْأُخْرَى بِهِ .
وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ
وَبَيْنَ الْكَفَّارَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ وَهَلْ ( يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ
) كَفَّارَةَ الْقَتْلِ فَرْضٌ غَيْرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَأَنَّ (
كُلَّ ) وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ
غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ الْأُخْرَى بِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ الْمُخْتَلِفَةِ
.
فَإِنْ قَالَ : إنَّهُمَا قَدْ جَمَعَهُمَا اسْمُ
الْكَفَّارَةِ فَكَانَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ أَحَدِهِمَا شَرْطًا فِي
الْأُخْرَى .
قِيلَ لَهُ : فَإِذَا جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ
وَجَبَ عِنْدَك حَمْلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى قِيَاسًا أَوْ مِنْ جِهَةِ
أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِيهِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ
.
قِيلَ لَهُ : وَعَنْ مَنْ حَكَيْت هَذَا مِنْ أَهْلِ
اللُّغَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ إذَا
جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مَحْمُولَةً عَلَى
الْأُخْرَى فِي الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِإِحْدَاهُمَا .
وَلَوْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
كُلُّ مَا شُرِطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَشْرُوطًا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ
، وَكُلُّ مَا شُرِطَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَشْرُوطًا فِي كَفَّارَةِ
الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا شُرِطَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ
الْكَفَّارَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعًا إلَى هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ
لِأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَك مِنْ حَيْثُ جَمَعَهُمَا ( اسْمُ الْكَفَّارَةِ )
كَالْمَعْطُوفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ ، وَالصِّفَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي بَعْضِهِ مَشْرُوطَةٌ
فِي جَمِيعِهِ فَيَكُونُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا مَشْرُوطًا فِي الْقَتْلِ
وَمَشْرُوطًا
فِي الْيَمِينِ وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَ ( فِي )
كُلِّ كَفَّارَةٍ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قَالَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِحُصُولِ
الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي الْبَعْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
.
قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ
وَاحِدَةٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَصِيرُ تَقْدِيرُهَا {
فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } أَوْ سِتِّينَ مِسْكِينًا
وَيَصِيرُ قَوْلُهُ فِي الظِّهَارِ :فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ فِي الْقَتْلِ: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا"
لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الظِّهَارِ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الظِّهَارِ
فَمَشْرُوطٌ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمَا ذُكِرَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ
فَمَشْرُوطٌ فِي الظِّهَارِ .
فَإِنْ اجْمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي كَفَّارَةٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا عَلَى
وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَك قَدْ وَرَدَ بِهِ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بَعْضُهَا
مَنْسُوخٌ بِبَعْضٍ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَهَذَيَانٌ لَيْسَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى
عَاقِلٍ .
وَيُقَالُ لَهُ : هَلَّا دَلَّك حُصُولُ الْإِجْمَاعِ
عَلَى أَنَّ شَرَائِطَ كُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ غَيْرُ
مَشْرُوطَةٍ فِي الْأُخْرَى أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ
الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ شَرْطًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، فَإِذَا لَمْ
تَلْجَأْ فِيمَا ادَّعَيْتَ مِنْ ذَلِكَ إلَى لُغَةٍ وَلَا دَلَالَةٍ مِنْ شَرْعٍ
وَلَا إجْمَاعٍ بَلْ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتَ
بِذَلِكَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَانْحِلَالِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى
بِأَصْلِ الْمُخَالِفِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ
الْقَتْلِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهَا
الْإِيمَانُ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ مَا
عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَإِذَا خَصَّ رَقَبَةَ
الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ تَخْصِيصُهُ ( لَهَا )
بِذَلِكَ عَلَى ( أَنَّ ) مَا عَدَاهُمَا فَحُكْمُهُ
بِخِلَافِهِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:بِأَنَّ هَذَا
بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ }وَبِمَنْزِلَةِ قَوْله
تَعَالَى{عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } ( وَالْمَعْنَى
وَالْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ وَالذَّاكِرَاتِ
اللَّهَ ، وَعَنْ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنْ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ ) .
فَيُقَالُ لَهُ : وَلِمَ أَوْجَبْت أَنْ يَكُونَ مِنْ
حَيْثُ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ
كَذَلِكَ حُكْمُ الْكَفَّارَاتِ .
أَقُلْتَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ
الشَّرْعِ .
وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ مَتَى طُولِبَ
بِالدَّلَالَةِ ( عَلَيْهِ ) مِنْ لُغَةٍ أَوْ شَرْعٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إضْمَارٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا
يُسْتَعْمَلُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرٍ فِي إثْبَاتِ فَائِدَتِهِ
لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الضَّمِيرِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا إذْ لَا يَصِحُّ
ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ " وَالْحَافِظَاتُ وَالذَّاكِرَاتُ "
وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمَّا افْتَقَرَ إلَى ضَمِيرٍ وَخَبَرٍ كَانَ ضَمِيرُهُ هُوَ
الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا ( فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ ) ، وَهَذَا
مَعْقُولٌ مِنْ اللُّغَةِ وَخِطَابِ النَّاسِ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى أَحَدٍ ،
وَلَوْ كَانَ اسْتَأْنَفَ ( لِلثَّانِي )
خَبَرًا لَمَا كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا
فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ وَالْحَافِظَاتُ
أَمْوَالَهُنَّ لَمَا كَانَ الْفُرُوجُ الْمَذْكُورَةُ بَدْءًا فِي ذِكْرِ
الْأَزْوَاجِ مُضْمَرَةً فِيهِنَّ وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَالذَّاكِرَاتُ
آبَاءَهُنَّ أَوْ أَبْنَاءَهُنَّ لَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللهِ تَعَالَى
مُضْمَرًا لَهُنَّ ، هَذَا مَعَ كَوْنِ بَعْضِهِ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضٍ فَكَيْفَ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ مُضْمَرًا فِيهِ وَهِيَ قَضِيَّةٌ
أُخْرَى وَحُكْمٌ آخَرُ وَارِدٌ فِي سَبَبٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ
.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ } لَوْ انْفَرَدَ ( قَوْلُهُ ) عَنْ الْيَمِينِ عَنْ ضَمِيرٍ
لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ ( فِيهِ ) فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
مَا تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنِّي أَجْعَلُ
الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ قِيَاسًا عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ
وَأَخُصُّ ( بِهِ ) رَقَبَةَ الظِّهَارِ .
فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا وَفِي أَمْثَالِهِ
مِنْ نَحْوِ شَرْطِ ( النِّيَّةِ ) بِالْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ
إثْبَاتِ زِيَادَةٍ لَا يُنَبِّئُ عَنْهَا اللَّفْظُ وَلَا يَنْتَظِمُهَا فَإِنَّ
ذَلِكَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ ،
وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ
إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ وَكَذَا كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو
الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ ، وَ ( فِي ) نَظَائِرِهِ
.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ
الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَا قَدْ حَكَيْنَاهُ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ شَرْطِ الْإِيمَانِ
فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ
يُفِيدُ جَوَازَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ
فَمَتَى شَرَطْنَاهُ فِيهَا فَقَدْ حَظَرْنَا مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ مِنْ
جَوَازِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ ( وَغَيْرُ
جَائِزٍ إثْبَاتُ مِثْلِهِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
) .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
حُدُوثُ كُلِّ فَرْضٍ يُوجِبُ نَسْخَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ
قَدْ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ قَبْلَ حُدُوثِهِ أَنَّهُ لَا فَرْضَ
عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَدَثَ فَرْضٌ آخَرُ فَقَدْ زَالَ الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ
.
قِيلَ لَهُ : لَوْ فَهِمْت عَنَّا مَا ذَكَرْنَاهُ
لَكَفَيْتَ نَفْسَك هَذَا السُّؤَالَ .
وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا إنَّ وُرُودَ الْفَرْضِ
الْأَوَّلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ( ذِكْرِ ) الزِّيَادَةِ
يُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الْوَاجِبِ وَوُرُودُ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ
الْأَوَّلِ وَكَوْنَهُ فَرْضًا ( وَهَذَا نَسْخٌ ) وَلَيْسَ وُرُودُ فَرْضٍ ثَانٍ
غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْأَوَّلِ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ
مُبْقًى فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُهُ بِفِعْلِ
الثَّانِي .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي
جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَتَرْكُ الزَّكَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ
فِعْلِ الصِّيَامِ فَلَمْ يَكُنْ وُرُودُ بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوضِ بَعْدَ الْأَوَّلِ
مُغَيِّرًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ وَكَوْنُ الْإِيمَانِ
شَرْطًا فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ مَانِعًا مِنْ
جَوَازِهَا مُطْلَقَةً عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ ، فَلِذَلِكَ كَانَ
شَرْطُ الْإِيمَانِ فِيهَا مُوجِبًا لِنَسْخِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَهُ لَوْ
وَرَدَ نَصًّا كَانَ نَسْخًا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اعْتِقُوا رَقَبَةً فِي الظِّهَارِ
إنْ شِئْتُمْ كَافِرَةً ( وَإِنْ شِئْتُمْ ) مُؤْمِنَةً ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ
لَا تَعْتِقُوا فِيهِ رَقَبَةً كَافِرَةً كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا
.
وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ عَلَى
الْأُخْرَى فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا كَانَ نَسْخًا .
وَأَمَّا قَوْلُك إنَّ وُرُودَ فَرْضٍ ثَانٍ يُغَيِّرُ
حُكْمَ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ
الِاعْتِقَادَ الْأَوَّلَ حُكْمُهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ
فِيهِ وُرُودُ فَرْضٍ ثَانٍ لَزِمَهُ اعْتِقَادٌ ثَانٍ مِنْ ( غَيْرِ تَأْثِيرٍ مِنْهُ
) فِي اعْتِقَادِ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ كُنَّا
نَعْتَقِدُ قَبْلَ وُرُودِ الْفَرْضِ الثَّانِي أَنْ لَا فَرْضَ إلَّا الْأَوَّلُ
وَلَزِمَ بَعْدَ وُرُودِ الْفَرْضِ الثَّانِي أَنْ يُنَزَّلَ الِاعْتِقَادُ بِأَنْ
لَا فَرْضَ غَيْرُهُ .
قِيلَ لَهُ : اعْتِقَادُنَا
بِأَنْ لَا فَرْضَ إلَّا الْأَوَّلُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ رَأْسًا لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يَعْتَقِدَ أَنْ لَا فَرْضَ فَلَيْسَ اعْتِقَادُنَا أَنْ لَا فَرْضَ مُتَعَلِّقًا
بِفَرْضٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُرُودَ فَرْضٍ ثَانٍ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الْأَوَّلِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ
تَجْعَلَ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مَنْسُوخَةً بِامْتِنَاعِك عَنْ
تَجْوِيزِهَا عَمْيَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ
لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَهَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْت
.
قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُنَا
مَا ذَكَرْت لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اسْمٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَعْضَائِهَا فَاقْتَضَى
الظَّاهِرُ رَقَبَةً تَامَّةً
وَإِنَّمَا شَرَطْنَا ذَلِكَ فِيهَا بِمَا يَقْتَضِيهِ (
مُوجِبُ اللَّفْظِ وَلَيْسَتْ الرَّقَبَةُ اسْمًا لِلْإِيمَانِ وَلَا يَقْتَضِيهَا
) بِحَالٍ فَزِيَادَةُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا مُوجِبَةٌ لِلنَّسْخِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت ( أَنْ يَكُونَ
) شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ
تَخْصِيصًا لِبَعْضِ الرِّقَابِ دُونَ بَعْضٍ لَا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي
النَّصِّ كَمَا أَنَّ شَرْطَ الْحِرْزِ وَالْمِقْدَارِ فِي السَّرِقَةِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ
السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ لَا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ
.
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ
لَا يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَلَا الْكُفْرَ ( وَلَا ) يُنْبِئُ عَنْهُمَا فَلَا
يَكُونُ شَرْطُ الْإِيمَانِ ( فِيهَا ) إلَّا عَلَى جِهَةِ الزِّيَادَةِ فِي
النَّصِّ بِمَا لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الِاسْمُ وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْحِرْزِ
وَالْمِقْدَارِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ
عِنْدَنَا الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ
بِدَلَائِلَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَازَ
اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي بَيَانِ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي
الْحُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّقَبَةُ الْعَمْيَاءُ وَالْمَقْطُوعَةُ
الْيَدَيْنِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُهَا بِأَعْضَائِهَا فَلَمْ
يَكُنْ امْتِنَاعُ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ مِنْ جِهَةِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ
إذْ كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهَا صَحِيحَةً .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ زِيَادَةً فِيهَا
وَنَسْخًا لَهَا لَوْ وَرَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُطْلَقَةً فَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ
فِي الْأَصْلِ كَأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ إلَّا مُقَيَّدَةً بِشَرْطِ الْإِيمَانِ
فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَجُوزُ
الْحُكْمُ بِوُجُوبِهَا فِي الْأَصْلِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ الْمُلْحَقَةِ
بِهَا إذَا كَانَ ثُبُوتُ الشَّرْطِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَجُوزُ بِمِثْلِهَا
النَّسْخُ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَلَا مَا هُوَ فِي
مَعْنَى النَّسْخِ ( بِالْقِيَاسِ
وَلَا ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّا إنَّمَا نَحْتَاجُ أَنْ نَعْتَبِرَ ذَلِكَ (
فِيمَا وَرَدَ ) مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ فَيُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ
الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى ( غَيْرِ ذَلِكَ
فَلَا ) .
وَلِامْتِنَاعِ جَوَازِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ
الظِّهَارِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ ( مَخْرَجَ ) الْجَوَابِ لِسَائِلٍ سَأَلَ عَنْهُ مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ فِيهِ
أَوْ قَوْلٍ مِنْ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( مَعَ لُزُومِ
) تَنْفِيذِ ، هَذَا الْحُكْمِ وَعِلْمِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَهْلِ السَّائِلِ بِهِ فَإِنَّ مَا نَزَلَ
بِهِ إطْلَاقُ الْآيَةِ أَوْ قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَهُوَ ( عَلَى ) إطْلَاقِهِ ، وَمَهْمَا
أَلْحَقْنَا بِهِ مِنْ شَرْطٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ عَلَى
أَيِّ وَجْهٍ كَانَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ آخَرُ
أَوْ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ إطْلَاقِ الْجَوَابِ لَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَهُ لِلسَّائِلِ مَعَ إلْزَامِهِ إيَّاهُ
تَنْفِيذَ الْحُكْمِ وَعِلْمِهِ بِجَهْلِ السَّائِلِ ، فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ
فِيمَا
كَانَ ) هَذَا وَصْفَهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ ،
وَرَقَبَةُ الظِّهَارِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ { أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ
امْرَأَتِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ تَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الظِّهَارِ فَقَالَ
لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً
قَالَتْ: لَا يَجِدُ ..."
إلَى أَنْ ذَكَرَ الصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ فَأَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِيمَانِ ، وَأَمَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا كَذَلِكَ
} .
وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِيمَانُ
( لَبَيَّنَهُ ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مَوْكُولًا
إلَى اسْتِدْلَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَنَظَرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ
:
أَحَدُهُمَا :أَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ تَنْفِيذَ
الْحُكْمِ فِي الْحَالِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ السَّائِلَ
كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ
فَيَكُونُ حُكْمُ الرَّقَبَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اعْتِبَارِهِ بِالْأُصُولِ
.
وَرُوِيَ أَيْضًا { أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ ظَاهَرَ
مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعِتْقِ رَقَبَةٍ } وَكَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ ، فَلَوْ قَيَّدْنَاهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
إلَّا نَسْخًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ
الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مِنْ الرَّقَبَةِ هُوَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ
مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَأَنَّا مَتَى قَيَّدْنَاهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ
كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ نَسْخِ مُوجَبِ الْآيَةِ
بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا عَلَى رَقَبَةٍ
مُطْلَقَةٍ ، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ،
وَإِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ أَبْعَدُ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ
مُطْلَقَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَرَقَبَةَ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ
الْإِيمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا أَيْضًا وَالْمَنْصُوصَاتُ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا
عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ قَدْ اسْتَغْنَى بِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّصِّ
عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذْ كَانَ الْقِيَاسُ إنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ
عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَهُوَ مِثْلُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ( عَلَيْهِ )
فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ مِنْ الْحَدَثِ عَلَى غَسْلِ أَرْبَعَةِ أَعْضَاءَ ،
وَنَصَّ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مَسْحِ عُضْوَيْنِ ، وَنَصَّ عَلَى قَطْعِ يَدِ
السَّارِقِ وَعَلَى قَطْعِ يَدِ الْمُحَارِبِ وَرِجْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ
قِيَاسُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ ( فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي أَعْضَاءِ فِي
الْوُضُوء ) وَلَا قِيَاسُ السَّارِقِ عَلَى
الْمُحَارِبِ فِي قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَنْصُوصٌ عَلَى حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ فِيهِ
.
وَنَظِيرُهُ : مَا نَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ مَعَ الدِّيَةِ ،
وَنَصَّ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ كَفَّارَةٍ فَلَمْ
يَجُزْ عِنْدَ إلْحَاقِ الْعَمْدِ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتْلَيْنِ مَذْكُورٌ بِاسْمِهِ مَنْصُوصٌ عَلَى حُكْمِهِ
وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ ( الْمَنْصُوصِ
بَعْضِهِ ) عَلَى بَعْضٍ ، وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ قَدْ اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا
وَمَنَعُوا الْقِيَاسَ فِي مِثْلِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الَّذِي
قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى
التَّنْزِيلِ فَأَمَّا التَّنْزِيلُ ( بِعَيْنِهِ
فَلَا يُقَاسُ ) .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَوْضِعُ الْكَفَّارَةِ فِي
قَتْلِ الْعَمْدِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ فِي
رَقَبَةِ الظِّهَارِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَمَتَى
قِسْنَا رَقَبَةَ الظِّهَارِ عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ فِي تَقْيِيدِهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ
فَإِنَّمَا قِسْنَا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ ( عَلَى الْمَنْصُوصِ
) .
وَكَذَلِكَ قِيَاسُ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى
الْخَطَأِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فَكُلُّ مَا تَنَاوَلَهُ هَذَا الِاسْمُ فَهُوَ مَنْصُوصٌ
عَلَيْهِ دَاخِلٌ تَحْتَهُ فَمَتَى أَلْحَقْنَاهَا بِرَقَبَةِ الْقَتْلِ فَقَدْ
قِسْنَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ حُكْمُ قَتْلِ الْعَمْدِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ
غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَمَتَى قِسْنَاهُ عَلَى الْخَطَأِ
بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ فَقَدْ قِسْنَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ
جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ لَجَازَ قِيَاسُ
الْأُمِّ عَلَى الِابْنَةِ ( فِي شَرْطِ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ )
لَيْسَ فِيهَا شَرْطُ دُخُولٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَجَازَ قِيَاسُ التَّيَمُّمِ
عَلَى الْوُضُوءِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي أَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ لِأَنَّ
الْعُضْوَيْنِ الْآخَرَيْنِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِمَا فِي التَّيَمُّمِ
وَلَجَازَ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ وَرِجْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحَارِبِ لِأَنَّ
الرِّجْلَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فِي السَّرِقَةِ .
فَلَمَّا امْتَنَعَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ عَلِمْت أَنَّ
هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْقِيَاسِ خَطَأٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ ، وَ ( لَا ) فِي
نَظَائِرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قِسْت جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي
الْخَطَأِ عَلَى الْعَمْدِ وَالنَّصُّ وَارِدٌ فِي الْعَمْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } .
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ
عَلَيْهِ فِي الصَّيْدِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمْدُ فَجَازَ
اعْتِبَارُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ ( عَلَيْهِ )
بِالْمَنْصُوصِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ جَمِيعًا مَنْصُوصٌ
عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ قَتْلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْصُوصٌ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَكَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ
لَا تُقَاسُ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي بَابِ إيجَابِ الْإِطْعَامِ فِيهَا
عِنْدَ عَدَمِ الصَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِطْعَامُ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ
فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا لَمْ نَقِسْ كَفَّارَةَ
الْقَتْلِ عَلَى الظِّهَارِ فِي جَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ
وَالصَّوْمِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَمَّا عَظُمَ أَمْرُهَا بِشَرْطِ
الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَخْفِيفُ حُكْمِهَا بِجَوَازِ
الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ قِيَاسًا عَلَى الظِّهَارِ
لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ إيجَابُهَا فِي
الْأَصْلِ .
قِيلَ لَهُ : فَامْتَنَعَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ قِيَاسُ
رَقَبَةِ الظِّهَارِ عَلَى الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ
لَمَّا وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّخْفِيفِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلَى
الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ الصِّيَامِ لَمْ يَجُزْ
شَرْطُ الْإِيمَانِ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَغْلِيظَهَا عَلَى مَا
أَجَازَتْهُ الْآيَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّغْلِيظِ بِتَقْيِيدِ
الْإِيمَانِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا ذَكَرْت مِنْ امْتِنَاعِ
جَوَازِ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُسَلَّمٌ لَك فَمَا أَنْكَرْت
أَنْ يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصِّفَةِ لَا فِي إثْبَاتِ زِيَادَةِ
مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا فَتُقَاسُ رَقَبَةُ الظِّهَارِ عَلَى رَقَبَةِ
الْقَتْلِ فِي بَابِ إثْبَاتِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا وَهِيَ صِفَةٌ كَمَا
قِسْنَا جَمِيعًا التَّيَمُّمَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الصِّفَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ إلَى
الْمَرْفِقَيْنِ لَا فِي إثْبَاتِ عُضْوٍ آخَرَ .
قِيلَ لَهُ : ( هَذَا ) خَطَأٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي
النَّصِّ إذَا كَانَتْ نَسْخًا عَلَى مَا بَيَّنَّا لَمْ يَخْتَلِفْ
==================
ج2. كتاب : أصول
الفقه المسمى: الفصول في الأصول
المؤلف : الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةَ أَوْ إثْبَاتَ
مَعْنًى غَيْرَهَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْك عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ لَا
تُثْبِتَ النَّفْيَ مَعَ الْجَلْدِ حَدًّا ، وَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى
السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ ، وَلَا يَلْزَمُ قَاتِلَ الْعَمْدِ كَفَّارَةٌ
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ صِفَةٍ ، وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَإِنَّا لَمْ نُثْبِتْهُ
إلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ مِنْ
قِبَلَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ }
يَقْتَضِي الْيَدَ إلَى الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ فَأَسْقَطْنَا
مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِلَّا فَظَاهِرُ اللَّفْظِ
يَقْتَضِيهِ وَأَبْقَيْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ
.
وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّ شَرْطَ
الْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ ( لَمَّا ) لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اسْمُ الرَّقَبَةِ
وَلَمْ تُنْبِئْ عَنْهُ كَانَ زِيَادَةً فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ ،
قَدْ اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ أَيْضًا
.
قَالَ مُحَمَّدُ ( بْنُ الْحَسَنِ ) فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : لَوْ قَالَ رَجُلٌ إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي
حُرٌّ ، أَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْتُ أَوْ شَرِبْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ عَنَيْتُ
غُسْلًا مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ قَالَ عَنِيتُ طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابًا
دُونَ شَرَابٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللهِ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَبْدِي
حُرٌّ وَعَنَى إنْ دَخَلَهَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ لَمْ تَعْمَلْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ
لَفْظَ الْيَمِينِ لَا يُنْبِئُ ( عَلَى مَا عَنَاهُ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا ) نَوَى
تَخْصِيصَ غَيْرِ اللَّفْظِ ( الْمَلْفُوظِ
بِهِ ) فَفِي اللَّفْظِ عُمُومٌ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ النِّيَّةُ وَصَارَتْ
النِّيَّةُ لَغْوًا .
وَلَوْ كَانَ قَالَ : إنْ اغْتَسَلْت غُسْلًا أَوْ
أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالطَّعَامَ
وَالشَّرَابَ الَّذِي نَوَى تَخْصِيصَهَا مَذْكُورَةٌ فِي لَفْظِهِ فَصَلَحَتْ
نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَمَّا ( لَمْ
) يَتَنَاوَلْ اسْمُ الرَّقَبَةِ الْإِيمَانَ لَمْ (
يَصِحَّ ) تَخْصِيصُهَا ( بِهِ وَكَانَ
مَتَى شُرِطَ فِيهَا الْإِيمَانُ كَانَ زِيَادَةً فِيهَا لَا تَخْصِيصًا ) وَهَذَا
مَعْنًى يُبَيِّنُ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ.
وَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي امْتِنَاعِ
شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ الْقَوْلُ فِي شَرْطِ النَّفْيِ مَعَ
الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَ الْجِلْدِ لِلزَّانِي لِأَنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ
جَلْدَ الْمِائَةِ حَدًّا كَامِلًا فَمَتَى أَلْحَقْنَا بِهِ النَّفْيَ
وَالرَّجْمَ مَعَهُ صَارَ جَلْدُ الْمِائَةِ غَيْرَ حَدٍّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ
بَعْضَ الْحَدِّ وَلَمْ يَقَعْ الْجَلْدُ بِانْفِرَادِهِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ فَكَانَ
إيجَابُ النَّفْيِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَهُ نَسْخًا فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا
بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ .
وَكَذَلِكَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَكَوْنِ
الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَرْضًا فِي الْوُضُوءِ وَنَظَائِرُهُ يَجْرِي
عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا كَانَ يَكُونُ مَا
ذَكَرْتَ نَسْخًا لَوْ وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْآيَةِ وَأَمَّا إذَا
لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ وُرُودَهُ كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ
الْآيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ بَلْ الْوَاجِبُ
الْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا فَنَسْتَعْمِلهُمَا وَلَا نَجْعَلُ أَحَدَهُمَا نَاسِخًا
لِلْآخَرِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو الْخَبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
وَارِدًا مَعَ الْآيَةِ أَوْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا .
فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَهُوَ نَاسِخٌ لَهَا لِمَا
بَيَّنَّا .
إنْ كَانَ قَبْلَهَا فَالْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهُ
لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مُوجِبَةً لِكَوْنِ الْجَلْدِ حَدًّا كَامِلًا
.
وَإِنْ كَانَ مَعَهَا ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ فَالْوَاجِبُ وُرُودُهُ ،
وَنَقْلُهُ فِي وَزْنِ نَقْلِ الْآيَةِ وَوُرُودِهَا ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرِدَ
عَنْ الصَّحَابَةِ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْجَلْدِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِلْجَلْدِ
.
فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مِثْلَ ( عُمَرَ وَعَلِيٍّ
) وَغَيْرِهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَدْ عَرَفُوا النَّفْيَ
وَلَمْ يَرَوْهُ حَدًّا وَإِنَّمَا رَأَوْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ
وَمَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ وُرُودُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِّ مَعَ الْجَلْدِ
.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَارِدٌ قَبْلَ
الْآيَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ فِيهِ
عَنْ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
}
فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } - وَكَانَ هَذَا حَدَّ الزَّانِيَةِ مَعَ
الْأَذَى - وَبَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَاسِطَةٌ حُكِمَ فِي الزِّيَادَةِ فَثَبَتَ
أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } نَزَلَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَصَارَ نَاسِخًا لَهُ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إنَّ الرَّجْمَ
لَيْسَ بِحَدٍّ مَعَ الْجَلْدِ ، وَإِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِكَوْنِهِمَا
جَمِيعًا حَدًّا مُسْتَحَقًّا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُطْلَقَةً
بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَكَذَلِكَ سَبِيلُ خَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ
الْآيَةِ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ عَلَيْنَا اعْتِبَارَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ
فِيهَا وَالْخَبَرُ يُجِيزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَهُ
وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ
فِيهِ تَرْكُ بَعْضِ مُوجَبِ الْآيَةِ وَخَبَرُ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ أَوْ
الرَّجْمِ مَعَ الْجَلْدِ زِيَادَةٌ فِيهِ ، وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ جِهَةِ
أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا تَرْكَ بَعْضِ مَا فِي الْآيَةِ ، وَفِي الْآخَرِ زِيَادَةٌ
فِيهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي إيجَابِ نَسْخِهِمَا
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا وَلَا يَكُونُ نَسْخًا وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ
الِاقْتِصَارِ فِي كَوْنِ الْجَلْدِ حَدًّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ
أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نَفْيٌ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي حَالٍ
وَبِالشَّاهِدَيْنِ وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي حَالٍ
.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّ شَرْطَ
النِّيَّةِ فِيهَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَعْضِ الْغُسْلِ طَهَارَةً وَبَعْضُهُ
لَيْسَ بِطَهَارَةٍ ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْآيَةِ لَا نَسْخَ فِيهِ
.
قِيلَ لَهُ : لَوْ عَرَفْت مَعْنَى التَّخْصِيصِ لَمْ
تَسْأَلْ عَنْ هَذَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ( التَّخْصِيصَ لِلَّفْظِ ) إنَّمَا
يَكُونُ فِي اللَّفْظِ الْمُنْتَظِمِ لِمُسَمَّيَاتٍ فَيَخْرُجُ بَعْضُ مَا
انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ مِنْ الْحُكْمِ فَقَوْلُك فِي الْجَلْدِ أَنَّهُ صَارَ
حَدًّا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهِيَ ( حَالُ ) وُجُودِ النَّفْيِ مَعَهُ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ
فِي اللَّفْظِ فَيُخَصُّ بَعْضُهَا بِمَا ذَكَرْت وَمَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ
فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ .
وَالثَّانِي : أَنَّك لَمْ تَجْعَلْ الْجَلْدَ حَدًّا
بِحَالٍ كَانَ مَعَهُ نَفْيٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَعَهُ نَفْيٌ
فَهُوَ وَالنَّفْيُ ( جَمِيعًا ) حَدٌّ وَاحِدٌ .
وَإِذَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ حَدًّا فَلَيْسَ هُوَ فِي
نَفْسِهِ حَدًّا بَلْ هُوَ بَعْضُ الْحَدِّ كَمَا أَنَّ جَلْدَ تِسْعِينَ لَيْسَ
بِحَدٍّ عِنْدَ أَحَدٍ وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ النَّفْيِ فَهُوَ أَيْضًا ( لَيْسَ
بِحَدٍّ عِنْدَك ) فَلَيْسَ هَاهُنَا تَخْصِيصٌ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَسْخٌ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَأَمَّا خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَك
مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَمَا الَّذِي
خَصَّصْت مِنْ الْآيَةِ بِخَبَرِ ( الْيَمِينِ
وَالشَّاهِدِ ) فَقَدْ بَانَ لَك أَنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَخَبَرَ الشَّاهِدِ
وَالْيَمِينِ لَا يَقْتَضِيَانِ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ
وَأَنَّهُمَا لَوْ بُنِيَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ ( الْمُخَالِفُ لَاعْتَرَضَا
) عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَيَكُونُ مَا تَعَلَّقَ بِخَبَرِ
الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ
:
أَحَدُهُمَا : جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَاهِدٍ
وَاحِدٍ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ .
وَالْآخَرُ : إثْبَاتُ
التَّخْيِيرِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، فَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ( خَيَّرَ
فِي الْآيَةِ ) بَيْنَ شَيْئَيْنِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِأَنَّ
الْخَبَرَ كَأَنَّهُ وَرَدَ هُوَ وَالْآيَةُ مَعًا عَقِيبَهَا بِلَا فَصْلٍ
.
قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ
.
وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْآيَةِ
فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ إلَّا مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ
التَّوَاتُرِوَاسْتَعْمَلَهُ النَّاسُ مَعَهَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ
الْحُكْمَيْنِ ثَابِتًا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وَمَا أَلْحَقَ بِهِ زِيَادَةً عَلَيْهِ مِنْ
جِهَةٍ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا لِمَا وَصَفْنَا
.
وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ
النِّيَّةِ فِيهِ فَقَدْ زَادَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لَا
عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ إذْ لَيْسَ ( هَاهُنَا ) تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ لَفْظٍ يَشْتَمِلُ
عَلَى مُسَمَّيَاتٍ تَحْتَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الْعُمُومَ
شَرْطُهُ أَنْ يَنْتَظِمَ جَمْعًا ، وَالْجَمْعُ الَّذِي فِي اللَّفْظِ إنَّمَا
هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَأْمُورِينَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الطَّهَارَةِ
بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَيَكُونُ شَرْطُ النِّيَّةِ مُخَصِّصًا لِبَعْضِ مَا
انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ وَلِأَنَّ أَحْوَالَ الطَّهَارَةِ وَأَوْقَاتَهَا
مَذْكُورَةٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَتَكُونُ النِّيَّةُ مُخَصَّصَةً لِجَوَازِهَا
فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ
النِّيَّةِ لَا يُوجِبُ بَعْضَ الْغَاسِلِينَ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ
بَعْضِ الْغَاسِلِينَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ
الْغُسْلُ .
وَإِنَّمَا خَصَّ عَلَى قَوْلِهِمْ بَعْضَ الطِّهَارَاتِ
دُونَ بَعْضٍ وَبَعْضَ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَتْ الطَّهَارَةُ
مَذْكُورَةً فِي عُمُومِ لَفْظٍ ( حَتَّى يَقَعَ ) ( فِيهِ ) التَّخْصِيصُ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِشَرْطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَجْهٌ
إلَّا نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا
.
وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ إيجَابُ ضَمَانِ السَّارِقِ
مَعَ الْقَطْعِ ( مَعَ قَوْله تَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللهِ } فَجَعَلَ الْقَطْعَ ) جَزَاءً وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا
يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الضَّمَانَ بِالْفِعْلِ
مَعَ الْقَطْعِ صَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ فَهَذَا نَظِيرُ إيجَابِ
النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ عَلَى الزَّانِي عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا ،
فَاعْتَبِرْ نَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَصْلِ
فَإِنَّهَا تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْبَابُ الْعَاشِرُ: فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا
خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ مَا حُكْمُ الْبَاقِي ؟
(فارغة )
بَابٌ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا خُصَّ
مِنْهُ شَيْءٌ مَا حُكْمُ الْبَاقِي ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ شَيْخُنَا
أَبُو الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي الْعَامِّ إذَا ثَبَتَ
خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا ( عَلَى
) دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ
بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ
.
وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ
بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ إذَا أَوْجَبَ
التَّخْصِيصَ فَيَقُولُ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ
مَانِعٍ بَقَاءَ ( حُكْمِ ) اللَّفْظِ
فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ
مَجَازًا وَلَا يُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ .
( وَدَلَالَةُ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ
اللَّفْظِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَتُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ ) ، لِأَنَّ
الْحَقِيقَةَ هِيَ الْعُمُومُ .
وَكَانَ يَقُولُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ هَذَا
مَذْهَبِي ( وَلَا يُمْكِنُنِي ) أَنْ أَعْزِيَهُ إلَى أَصْحَابِنَا
.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ يَذْهَبُ هَذَا
الْمَذْهَبَ أَيْضًا وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ .
قَالَ ( الشَّيْخُ
الْإِمَامُ ) أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي عِنْدِي مِنْ ( مَذْهَبِ
أَصْحَابِنَا ) فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ لَا يَمْنَعُ
الِاسْتِدْلَالَ ( بِهِ ) فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ
أُصُولُهُمْ وَاحْتِجَاجُهُمْ لِلْمَسَائِلِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ قَدْ احْتَجُّوا فِي إيجَابِ
الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ } وَهَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ ، لِأَنَّ الْجَارَ
الَّذِي لَيْسَ بِمُلَاصِقٍ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ أَيْضًا وَلَا شُفْعَةَ ( لَهُ
) بِالِاتِّفَاقِ .
وَاحْتَجُّوا فِي مَنْعِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَجِّ
إلَّا بِمَحْرَمٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يَحِلُّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ أَنْ تُسَافِرَ
سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ
}
وَهَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الَّتِي
أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِمَّا احْتَجُّوا فِيهِ
بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَقَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهَا بِالِاتِّفَاقِ نَحْوُ
{ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك وَعَنْ بَيْعٍ
وَشَرْطٍ } قَدْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ
اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ (
عِنْدَنَا وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ الَّتِي احْتَجُّوا فِيهَا بِالْعَامِّ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ
خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَ يَقُولُ : إنَّمَا هَذَا شَيْءٌ أَعْتَقِدُهُ
أَنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَعْزِيهِ إلَى أَصْحَابِنَا
) .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ قِيَامَ دَلَالَةِ
التَّخْصِيصِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا
، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي
الْبَاقِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فِي
بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مَعَهُ فِيمَا عَدَاهُ .
(فارغةالمتن)
وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّفْظَ فِيمَا عَدَا
الْمَخْصُوصَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْمٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ
بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً فِي
إيجَابِ الْحُكْمِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى مَا
ذَكَرْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ
الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عِبَارَةً عَنْهُ بِحَالٍ لِأَنَّ
الْعَشَرَةَ لَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ تِسْعَةٍ ، وَالْمُشْرِكُونَ عِبَارَةٌ
عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا حَقِيقَةٌ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ
جِهَةِ أَنَّ وُجُودَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ لَا يَجْعَلُ
اللَّفْظَ مَجَازًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ لِلْبَاقِي لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ
مِنْ اللَّفْظِ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ فَصَارَتْ التِّسْعَةُ لَهَا اسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا : تِسْعَةٌ
وَالْآخَرُ : عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا
وَالِاسْمَانِ جَمِيعًا حَقِيقَةٌ لَهَا لِأَنَّ
الصِّيغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا
وَاحِدٌ وَوَاحِدٌ ، وَقَوْلَنَا اثْنَانِ سَوَاءٌ وَاللَّفْظَانِ جَمِيعًا
عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَعْقُولٌ
مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ .
وَأَمَّا قِيَامُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لَا
يَصِحُّ أَنْ يَقْتَرِنَ إلَى اللَّفْظِ حَتَّى تَصِيرَ الصِّيغَةُ الْمَسْمُوعَةُ
مَعَ الدَّلَالَةِ عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُغَيِّرُ
صِيغَةَ اللَّفْظِ فَصَارَتْ الصِّيغَةُ إذَا أُطْلِقَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا
الْخُصُوصُ مَجَازًا لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مَا تَحْتَهَا
فَمَتَى أُطْلِقَتْ وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهَا فَصَارَ اللَّفْظُ مَجَازًا ، وَالْمَجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا
فِي مَوْضِعٍ ( تَقُومُ الدَّلَالَةُ ) عَلَيْهِ .
كَذَلِكَ الْعُمُومُ مَتَى أُطْلِقَ وَالْمُرَادُ
الْخُصُوصُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي اعْتِبَارِ عُمُومِهِ فِي الْبَاقِي ،
وَكَانَ أُلْزِمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إبْطَالَ فَائِدَةِ اللَّفْظِ رَأْسًا
لِافْتِقَارِهِ إلَى دَلَالَةٍ ( مِنْ ) غَيْرِهِ فِي
إثْبَاتِ حُكْمِهِ فَكَانَ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ
فَائِدَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّ وُرُودَهُ ( قَدْ ) أَفَادَنَا حُدُوثَ حُكْمٍ يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ
الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ ، فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ كَانَ
الْحُكْمُ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } مَتَى بُيِّنَ الْحَقُّ كَانَ مُوجَبًا
بِاللَّفْظِ .
كَذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا مَتَى قَامَتْ دَلَالَةُ
الْمُرَادِ كَانَ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا السُّؤَالُ لَازِمًا (
لَهُ ) عَلَى حَسَبِ مَا أَرَادَ السَّائِلُ إلْزَامَهُ وَحَاوَلَ بِهِ إفْسَادَ
مَذْهَبِهِ .
فَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ
دَلَالَةِ الْخُصُوصِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا
وَلَا يَصِيرُ مَجَازًا بِالِاسْتِثْنَاءِ ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
إنَّ وُرُودَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ
مَجَازًا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يَكُونُ أَبَدًا عِبَارَةً عَنْ أَقَلَّ مِنْهَا فَإِذَا
قَالَ { أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا[العنكبوت:14} ( فَإِنَّمَا ) أَطْلَقَ اسْمَ الْأَلْفِ وَمُرَادُهُ أَقَلَّ مِنْهَا وَلَا
يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَجَازًا وَاخْتِلَافُهُمَا مَرْجِعُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
لَفْظٌ مُتَّصِلٌ بِالْجُمْلَةِ وَدَلَالَةُ الْخُصُوصِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ
مُتَّصِلٍ بِهَا وَلَا يُوجَبُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي
ذُكِرَ ، لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ إذَا جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَلِفِ
أَقَلَّ مِنْهَا لِمَا صَحِبَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ ( ذَلِكَ
مِنْ ) بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ ،
فَكَذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ مَعَ إرَادَةِ الْخُصُوصِ لَا يَمْنَعُ
بَقَاءَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ
وَأَمَّا مَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا
يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مَجَازًا فَإِنَّهُمْ فَرِيقَانِ
:
أَحَدُهُمَا : مَنْ يَقُولُ فِي
دَلَالَةِ الْخُصُوصِ كَمَا يَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ
بِالْجُمْلَةِ ، وَيَجْعَلُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي ، وَيَأْبَى أَنْ
يَكُونَ قِيَامُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا ، وَيَقُولُ
إنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ عُمُومًا
أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَحَكَيْنَاهُ
عَنْ قَائِلِهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْخُصُوصِ يَتَنَاوَلُهُ
الِاسْمُ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا كَانَ اسْمًا
لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَمَا فَوْقَهَا ثُمَّ قَالَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ[التوبة:5 } وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ
بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُقْتَلُونَ فَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
الَّذِينَ يُقْتَلُونَ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِمْ لَا مَجَازًا فَوَجَبَ
اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ .
فَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فِي ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ
الْجَوَابُ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ
الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ ، وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي
الْأَصْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ .
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ
عَلَى أَنَّ قِيَامَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا
فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حُصُولَ اللَّفْظِ مَجَازًا لَا
يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ دَلَالَتِهِ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُسْتَعْمَلٌ فِي
مَوْضِعِهِ كَاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ
بَاقِيَةً فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ .
الْبَابُ الْحَادِيْ عَشَرَ: فِي حُكْمِ التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ إذَا عُلِّقَا بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَنَاوَلَاهُ فِي
الْحَقِيقَةِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ
إذَا عُلِّقَا بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَنَاوَلَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ
إنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِأَفْعَالِ الْمَأْمُورِينَ وَالْمَنْهِيِّينَ وَمَا لَمْ
يَكُنْ فِعْلًا لَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَا بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا
يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ
، وَإِذَا كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ ثُمَّ وَرَدَ لَفْظُ ( التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ) مُعَلَّقًا فِي ظَاهِرِ الْخِطَابِ بِمَا لَيْسَ
مِنْ فِعْلِنَا عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِعْلُنَا فِي ذَلِكَ
الشَّيْءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَ { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وقَوْله تَعَالَى { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَّ } وَمَعْلُومٌ
أَنَّ غَيْرَ الْأُمِّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا وَغَيْرُ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ
عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا التَّحْرِيمُ إذَا كَانَتْ هَذِهِ
الْأَشْيَاءُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَالٌ أَنْ يَنْهَانَا عَنْ فِعْلِهِ
لِأَنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ وَسَفَهٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ
.
وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْيَانٌ مَوْجُودَةٌ فَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهَا ، وَ
( لَا ) الْأَمْرُ بِهَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ
عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْجُودُ وَالْأَمْرُ بِهَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى
الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْجُودُ وَهَذَا مُحَالٌ فَلَمَّا اسْتَحَالَ
ذَلِكَ فِيهَا عَلِمْنَا أَنَّ ( التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ ) يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِنَا
فِيهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَفْظَ
التَّحْرِيمِ لَمَّا تَنَاوَلَ فِعْلَنَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ فِعْلُكُمْ فِي الْأُمَّهَاتِ وَفِي الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فَيَسُوغُ
اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ
وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُ فِيمَا وَصَفْنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُضَمَّنَةِ بِأَغْيَارِهَا فَيُفِيدُ إطْلَاقَهَا
مَا ضُمِّنَتْ بِهِ كَقَوْلِنَا ضَرَبَ يَقْتَضِي ضَارِبًا وَمَضْرُوبًا وَجَذَبَ
يَقْتَضِي مَجْذُوبًا وَأَبٌ يَقْتَضِي ابْنًا وَابْنٌ يَقْتَضِي أَبًا وَشَرِيكٌ يَقْتَضِي
شَرِيكًا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ التَّحْرِيمُ مُضَمَّنًا
بِأَفْعَالِنَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَارِيًّا مِنْهَا وَصَارَ إطْلَاقُهُ
مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ فَيَكُونُ
تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ فِعْلُكُمْ فِي الْمَيْتَةِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ
.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ هُنَاكَ
عَادَةٌ لِقَوْمٍ فِي اسْتِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ
عَلَى نَحْوِ مَا عَلَيْهِ الْمَجُوسُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ
الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ .
وَقَوْمٌ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَيْتَةِ عَلَى
حَسَبِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْمُذَكَّى كَانَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ تَحْرِيمَ مَا
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَبِيحُونَهُ فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى ( مُتَعَلِّقًا
مَعْقُولًا بِوُرُودِ ) اللَّفْظِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ ( حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الِاسْتِمْتَاعَ
بِالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ ) .
وَحَرَّمْت عَلَيْكُمْ الِانْتِفَاعَ بِالْمَيْتَةِ
لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ الْمُعْتَادَ مَتَى خَرَجَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ صَارَ
كَالْمَنْطُوقِ بِهِ فِيهِ فَيَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ
.
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ وُرُودُ
اللَّفْظِ هَذَا الْمَوْرِدَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا لِأَنَّهُ عَلَّقَ
التَّحْرِيمَ بِأَعْيَانٍ فَأَرَادَ ( بِهِ ) غَيْرَهَا
وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا
لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا حَصَّلَ
مَجَازًا احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ ( أُخْرَى ) مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ
حُكْمِهِ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ
الدَّلِيلُ عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ
التَّحْرِيمِ وَإِنْ عُلِّقَ بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فِي
الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ اللهِ تَعَالَى
فَإِنَّهُ قَدْ عَقَلَ بِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ مَا يَعْقِلُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ
أَفْعَالِنَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمَ بَلْ هُوَ آكَدُ فِي إيجَابِ
التَّحْرِيمِ فِيهِ لَوْ ذَكَرَ فِعْلَنَا فِيهَا لِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ ضَرْبٌ
مِنْ الْفِعْلِ وَعُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِهِ كَانَ ( حُكْمُهُ ) مَقْصُورًا
عَلَيْهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ .
وَإِذَا عُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِالْعَيْنِ تَنَاوَلَ
سَائِرَ وُجُوهِ الْفِعْلِ فِي الْعَيْنِ .
وَهَذَا ( عَلَى مَعْنًى )
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
{ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } فَأَخْبَرَ
أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ تَحْرِيمُهُ بِالْعَيْنِ تَنَاوَلَ سَائِرَ وُجُوهِهِ
وَمَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْعَيْنِ قَصَرَ حُكْمَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوْعِ دُونَ
غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ وَإِنْ
عُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِالْعَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ
إذَا قِيلَ لَهُ أُمُّك مُحَرَّمَةٌ عَلَيْك أَوْ قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْك
الْخَمْرُ وَالْمَيْتَةُ عَقَلَ مِنْ خِطَابِهِ بِنَفْسِ وُرُودِهِ مَا يَعْقِلُهُ
مِنْهُ لَوْ ( قِيلَ لَهُ ) الِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ مُحَرَّمٌ عَلَيْك
وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْأُمِّ مَحْظُورٌ عَلَيْك وَلَا يَحْتَاجُ إلَى
اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ
الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لَيْسَ يَتَنَاوَلُهُ الْفِعْلُ
إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ
الْمُحَرَّمِ قَبِيحًا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِقَابِ ، وَلَفْظُ
التَّحْلِيلِ أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ
أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ فِي مُوَاقَعَتِهِ
إيَّاهُ .
فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ
وَالتَّحْلِيلِ بِالْفِعْلِ مَقْصُورًا عَلَى مَا بَيَّنَّا صَحَّ اعْتِبَارُ
عُمُومِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي أَفْعَالِنَا الْمُضْمَرَةِ فِي الْخِطَابِ
.
وَأَمَّا النِّيَّةُ فَإِنْ تَعَلُّقَهَا بِالْفِعْلِ عَلَى
وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إثْبَاتُ فَضِيلَةِ الْعَمَلِ
وَالْآخَرُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ حَتَّى إذَا فُقِدَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ
أَصْلًا وَمَتَى تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى وَجْهِ إثْبَاتِ فَضِيلَتِهِ لَمْ
يُؤَثِّرْ عَدَمُهَا فِي الْحُكْمِ نَحْوُ غَسْلِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ
النَّجَاسَةِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ ( وَالْوُضُوءِ )
مَتَى نَوَى بِذَلِكَ طَهَارَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ نِيَّتُهُ مُثْبِتَةً لَهُ
فَضِيلَةً ، وَكَانَ مُسْتَحِقًّا بِهَا عَلَيْهِ الثَّوَابَ وَفَقْدُهُمَا لَا
يَضُرُّهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَاقِعَةٌ فِي حَالِ
وُجُودِ النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَمَتَى تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى جِهَةِ إثْبَاتِ
الْحُكْمِ كَانَ عَدَمُهَا ( مَانِعًا مِنْ )
وُقُوعِ حُكْمِ الْفِعْلِ رَأْسًا .
نَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ
الْمَقْصُودَةِ لِأَعْيَانِهَا مَتَى عَرِيَتْ مِنْ النِّيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ
حُكْمُهَا وَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ ، فَلَمَّا كَانَ
تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ ( يَكُنْ
) بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْهَا بِالْآخَرِ
وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا مَعَ ذَلِكَ
لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ
وَاحِدَةٍ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ الْمُرَادِ بِهِ وَلَمْ
يَكُنْ مَنْ ادَّعَى فِي قَوْلِهِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ إثْبَاتَ حُكْمِ
الْأَعْمَالِ بِأَوْلَى مِمَّنْ
ادَّعَى فَضِيلَةَ الْعَمَلِ .
أَلَا ( تَرَى ) أَنَّهُ
لَوْ وَرَدَ بِمِثْلِهِ لَفْظُ عُمُومٍ لَمَا سَاغَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي
مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَمَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ مِمَّا يَقْتَضِيهِ أَوْلَى
أَنْ لَا يَصْلُحَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ
الِاحْتِجَاجُ فِيهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ
.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ
أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } هُوَ
(
فِي ) مَعْنَى مَا
ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي } تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ عَنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : رَفْعُ الْحُكْمِ رَأْسًا .
وَالْآخَرُ : رَفْعُ
الْمَأْثَمِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى
اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ
فِيهِ إذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الضَّمِيرِ مُخْتَلِفًا
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ قَدْ
تَعَلَّقَ بِالْأُمِّ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَبِالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ
عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي أَنْ
يَبَرَّهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيُكْرِمَهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَيْتَةِ
فِي أَنْ يَحْمِلَهَا فَيَرْمِيَ بِهَا وَفِي الْخَمْرِ بِأَنْ يُرِيقَهَا ثُمَّ
لَمْ يَمْنَعْ جَوَازُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
مِنْ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِيهِ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ
.
قِيلَ لَهُ : هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا
تَقَدَّمَ ، وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا إنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ
بِالشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ التَّحْلِيلُ ثُمَّ
خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَا يُوجِبُ
اخْتِلَافَ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فَمَا تَعَلَّقَ بِهِ ، وَلِذَلِكَ جَازَ اعْتِبَارُ
الْعُمُومِ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَقَوْلُهُ " { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
} فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ مُخْتَلِفٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا
بَيَّنَّا فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ ( فِيهِ
) .
فارغة
البَابُ الثَّانِيْ عَشَرَ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ
وَلَفْظِ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَا بِالْخِطَابِ مَا حُكْمُهُمَا ؟
.
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَلَفْظِ
التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَا بِالْخِطَابِ مَا حُكْمُهُمَا ؟ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا صَحِبَ خِطَابًا مَعْطُوفًا
بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا
يَرْجِعَ إلَى مَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ
وَكَذَلِكَ كَانَ ( شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ
( الْكَرْخِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( يَقُولُ فِي ذَلِكَ ) فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى فِي الْقَاذِفِ
{ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فَكَانَ الِاسْتِثْنَاء إنَّمَا عَمِلَ فِي
إزَالَةِ سِمَةِ الْفِسْقِ عَنْ الْقَاذِفِ بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي
جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَلَا فِي زَوَالِ الْحَدِّ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَ
بِالْجُمْلَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }
فَقَوْلُهُ { مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ
الرَّبَائِبِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِنَّ غَيْرُ رَاجِعٍ إلَى
أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخَرِينَ مِنْ
الصَّحَابَةِ قَالَ عُمَرُ " وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ مُبْهَمَةٌ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ
" أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى "
فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ التَّخْصِيصِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ
مَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ
قَالُوا إنَّ هَذَا حَقُّ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَاهُ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ
عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ قَوْله
تَعَالَى { إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ }
فَكَانَتْ ( الْمَرْأَةُ ) مُسْتَثْنَاةً مِنْ
الْمُنَجِّينَ لَاحِقَةً بِالْمُهْلَكِينَ لِاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ
بِالْمُنَجِّينَ وَنَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلَيَّ ( لِفُلَانٍ ) عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ تِسْعَةَ (
دَرَاهِمَ ) لِأَنَّ الدِّرْهَمَيْنِ
مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْعَشَرَةِ
( فَبَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَكَانَ
ذَلِكَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَشَرَةِ ) وَهَذَا مَا لَا يُعْلَمُ
فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ خِلَافٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ
فَحُكْمُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَكَذَلِكَ
حُكْمُ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ هُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِأَنَّ
التَّخْصِيصَ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ
الْعُمُومِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَا
جَائِزٌ تَخْصِيصُ شَيْءٍ فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِذَا اتَّصَلَ
الِاسْتِثْنَاءُ بِخِطَابٍ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ فَحُكْمُهُ أَنْ
يَعْمَلَ فِيمَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعَ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ
لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ وَقَدْ وَفَّيْنَا حَظَّهُ
بِإِعْمَالِهِ فِيمَا يَلِيهِ فَاحْتَاجَ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَى
دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالشَّكِّ
وَالِاحْتِمَالِ .
وَكَذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَ
بِكَلَامٍ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ هُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا صَلُحَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ
إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى بَعْضِ
الْمَذْكُورِ دُونَ بَعْضٍ ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَمَّا صَلُحَ
لِجَمِيعِ مَا هُوَ ( اسْمٌ ) لَهُ لَمْ
يَكُنْ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ اسْمٌ لِجَمِيعِ
مَا انْطَوَى تَحْتَهُ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لَا مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُ صَلُحَ لَهُ فَحَسْبُ وَلَوْ كَانَ تَنَاوُلُهُ لِلْكُلِّ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَجَازَ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ وَلَوْ عَلَّقَ ( الْحُكْمَ ) بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ
يُسَمَّى زَيْدًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ ( اسْمُهُ زَيْدٌ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لَهُ وَلَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ
فِيهِ شَرْطًا غَيْرَ مَذْكُورٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَذْكُرَهُ وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ
الْقَوْلِ .
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَلَيْسَ فِي مَضْمُونِهِ
وَلَا فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ إذْ قَدْ صَحَّ حُكْمُهُ فِيهِ ،
وَمَنْ ادَّعَى رُجُوعَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُدَّعِيًا لِتَخْصِيصِ
عُمُومٍ بِلَا دَلَالَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَدْخَلَ شَرْطًا وَصَلَهُ
بِاللَّفْظِ كَانَ جَمِيعُ الْخِطَابِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي
آخِرِهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ
.
قِيلَ لَهُ : يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عِنْدَنَا ، مِنْهُ
مَا يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ وَفِي
تَفْصِيلِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْإِطَالَةِ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ
الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ فِيهِ جَمِيعُ
الْمَذْكُورِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي
الْجُمْلَةِ حَتَّى يُجْعَلَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُخْرِجُ مِنْهَا
بَعْضَ مَا انْتَظَمَتْهُ بَعْدَ ( صِحَّةِ ) الْكَلَامِ وَحُصُولِ الْفَرَاغِ
مِنْهُ .
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْجُمْلَةِ
كُلِّهَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ حُكْمُهَا بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ مِنْ
وُجُودِ الشَّرْطِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ الَّذِي
عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ لِلَّفْظِ حُكْمٌ فَلِذَلِكَ جَازَ تَعَلُّقُ
جَمِيعِ الْمَذْكُورِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ ذَلِكَ
مِنْهَا وَلَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
إلَى قَوْله تَعَالَى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
ثُمَّ عَقَّبَهُ بَعْدَ ذِكْرِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فَكَانَ رَاجِعًا
إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُور ( وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ
دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعُهُ
إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ ) .
قِيلَ لَهُ : لَوْلَا مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ دَلَالَةِ
رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ لَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ غَيْرِهِ
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ
زَوَالَ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ لَا يَتَعَلَّقُ ثُبُوتُهُ قَبْلَ قُدْرَتِنَا
عَلَيْهِمْ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إذَا صَحَّتْ زَالَتْ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ فِي
أَيِّ حَالٍ وُجِدَتْ فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ الْمَشْرُوطَةَ قَبْلَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هِيَ لِزَوَالِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ
يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ
.
وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى جَمِيعِ
الْمَذْكُورِ لِدَلَالَةٍ تَقُومُ لِأَنَّ حَقَّ الْكَلَامِ أَنْ لَا يُزَالَ
تَرْتِيبُهُ وَنِظَامُهُ وَلَا يُجْعَلُ الْمُقَدَّمُ مِنْهُ مُؤَخَّرًا وَلَا
الْمُؤَخَّرُ ( مِنْهُ ) مُقَدَّمًا إلَّا بِدَلَالَةٍ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مَعَ
ذَلِكَ إرَادَةُ تَقْدِيمِ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرِ الْمُقَدَّمِ فِي اللَّفْظِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَوْلَا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَالْمَعْنَى
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْأَجَلُ مَضْمُومًا ( بِعَطْفِهِ ) عَلَى
الْكَلِمَةِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا } وَالْمَعْنَى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ مَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ
الْخِطَابِ لَمَا أَزَلْنَاهُ عَنْ نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ ثُمَّ جَازَ وُرُودُهُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ زَوَالِ تَرْتِيبِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ ، وَكَذَلِكَ
الِاسْتِثْنَاءُ حُكْمُهُ لَنْ يَعْمَلَ فِيمَا يَلِيهِ وَلَا يَعْمَلُ فِيمَا
تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّرِقَةِ { فَمَنْ
تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَكَانَ حُكْمُ
التَّخْصِيصِ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ
التَّوْبَةَ بِهِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ ، وَإِنَّمَا
يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ
لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَكَالًا وَإِنَّمَا
يَكُونُ حِينَئِذٍ مَقْطُوعًا عَلَى وَجْهِ الْمِحْنَةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ
يَبْتَلِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ عَلَى وَجْهِ
الْفِتْنَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلثَّوَابِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا لِأَنَّ التَّائِبَ
لَا عِقَابَ عَلَيْهِ ( وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَابَ
مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } كَلَامًا مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ يَصِحُّ
ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِهِ ) .
وَمِنْ أَلْفَاظِ التَّخْصِيصِ مَا يَعْرِضُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِيهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى
تَتَوَسَّطُهَا فِي نَسَقِ الْخِطَابِ فَلَا يَمْنَعُ مَا عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ
إعْمَالِ لَفْظِ التَّخْصِيصِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ نَحْوُ
قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } إلَى قَوْله
تَعَالَى { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَرَضِيتُ
لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ } يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ وَلَمْ
يَمْنَعْ مَا تَوَسَّطَهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } وَمَا بَعْدَهُ رُجُوعَ
حُكْمِ التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ إلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ
خِطَابٌ وَاحِدٌ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ
اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ فِيهِ وَيُعْطَفَ عَلَيْهِ
إلَّا مَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ وَقَدْ جَاءَ بِلَفْظِ
الِاسْتِثْنَاءِ مَا لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنْ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ } فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا حُجَّةً وَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ ، ( وَيَحْتَمِلُ
وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَمِثْلُهُ قَوْله
تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً }
وَالْمَعْنَى لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَحُكْمُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ لِأَنَّ
قَتْلَ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ النَّهْيُ فَيَخْرُجَ مِنْ
الْجُمْلَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ مَعْنَاهُ وَلَا خَطَأً
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْخَطَأِ
مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَطْفِهِ عَلَى النَّهْيِ وَقَتْلُ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ
النَّهْيُ عَنْهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ فَدَلَّ أَنَّ الْمَعْنَى مَا وَصَفْنَا وَمِنْ
هَذَا النَّحْوِ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَمَعْنَاهُ لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ
لِأَنَّ مَا أَكَلَ السَّبُعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ يَقُولُ
الْعَرَبُ هَذَا أَكِيلَةُ السَّبُعِ إذَا قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ وَنَحْوُهُ
قَوْله تَعَالَى { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا
إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا } مَعْنَاهُ لَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وقَوْله تَعَالَى { طَه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
إلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } مَعْنَاهُ لَكِنَّ تَذْكِرَةً ( لِمَنْ يَخْشَى
)
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ } وَالْمَعْنَى لَكِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَسْجُدْ ،
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ ( بِهِ ) حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ
لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ وَكَانَ إبْلِيسُ مِمَّنْ يَصِحُّ
أَمْرُهُ بِالسُّجُودِ اسْتَثْنَاهُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا وَجْهٌ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ
لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارٌ .
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ
( عَلَيَّ ) يَتَنَاوَلُ مَا ( يَثْبُتُ فِي )
الذِّمَّةِ ( وَالدِّينَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الدِّرْهَمِ فَإِنَّهُ
مِمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ ) فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ يَظُنُّ أَنَّ
قَوْله تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ } مِنْ النَّوْعِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَأَنَّهُ
بِمَعْنَى لَكِنْ تَكُونُ { تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدِي
لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ } لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ التِّجَارَةُ عَنْ
تَرَاضٍ وَعَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ التِّجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَنْ تَرَاضٍ
دَاخِلٌ فِي لَفْظِ النَّفْيِ وَهِيَ أَنْ يَقَعَ عَلَى فَسَادٍ وَعَلَى وُجُوهٍ
مَحْظُورَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُقَدَّرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ
وَمُخْرِجًا لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا
وَمِنْ الْجُمَلِ مَا يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا
بِكِنَايَةٍ فَحُكْمُ الْكِنَايَةِ فِي مِثْل ذَلِكَ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا
دُونَ مَا بَعُدَ مِنْهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فَهَذِهِ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ
إلَى الرَّبَائِبِ اللَّاتِي يَلِينَ الْكِنَايَةَ ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَفْظِ التَّخْصِيصِ وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ
وَاحِدٌ .
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ بَعْضِ
الْمَذْكُورِ مِمَّا يَلِي الْكِنَايَةَ وَيَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِي حُكْمِهَا
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا
إلَيْهَا } وَاَلَّذِي يَلِي الْكِنَايَةَ هُوَ اللَّهْوُ
وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا
كِنَايَةٌ عَنْ مُؤَنَّثٍ وَهِيَ التِّجَارَةُ وَلَيْسَ اللَّهْوُ مُؤَنَّثًا
فَتَكُونَ الْكِنَايَةُ عَنْهُ وَقَدْ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي الْخَبَرِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك مَتَى أَفْرَدْت اللَّهْوَ
عَنْ الْخَبَرِ الْعَائِدِ إلَى التِّجَارَةِ سَقَطَتْ فَائِدَتُهُ لِأَنَّهُ
يَصِيرُ فِي مَعْنَى وَإِذَا رَأَوْا اللَّهْوَ وَهَذَا كَلَامٌ مُفْتَقِرٌ إلَى
خَبَرٍ وَلَا شَيْءَ هَاهُنَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ إلَّا مَا
جَعَلَهُ خَبَرًا ( عَنْ التِّجَارَةِ ) وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا خَصَّ
التِّجَارَةَ بِعَطْفِ الْكِنَايَةِ
عَلَيْهَا دُونَ اللَّهْوِ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَنْ
الذِّكْرِ وَالْخُطْبَةِ إلَى التِّجَارَةِ أَكْثَرُ فِي الْعَادَةِ فِي مَقَاصِدِ
النَّاسِ مِنْهُ إلَى اللَّهْوِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إلَيْهَا
كِنَايَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لَهُمَا وَمِمَّا
عَادَتْ الْكِنَايَةُ فِيهِ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللهِ } فَظَاهِرُ الْكِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ
عَلَى الْفِضَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَعَادَهَا عَلَيْهَا
لِأَنَّهَا تَلِيهَا وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } لَا بُدَّ
لَهُ مِنْ خَبَرٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ
يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ " خَبَرًا
لَهُمَا جَمِيعًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ } خَبَرًا
لَهُمَا جَمِيعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلَا يُنْفِقُونَهَا
" حُكْمًا مَقْصُورًا عَلَى الْفِضَّةِ الَّتِي عَادَتْ الْكِنَايَةُ إلَيْهَا
وَيَكُونُ قَوْلُهُ { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خَبَرًا عَنْ الَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ .
قِيلَ لَهُ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْوَعِيدَ لَمْ يَخْرُجْ
مَخْرَجَ الزَّجْرِ عَنْ كَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَّا عَلَى شَرِيطَةِ
تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَعِيدًا لِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ
تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ
مُوجِبَةً ) لِحَظْرِ كَنْزِ الذَّهَبِ ( عَلَى الْإِطْلَاقِ
) وَحَظْرُ كَنْزِ الْفِضَّةِ عَلَى شَرْطِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَهَذَا
خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ .
وَأَيْضًا فَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا دَلَّ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يُحْمَى
عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحْمَى عَلَيْهَا
لِمَنْ كَنَزَهَا وَالذَّهَبُ ( قَدْ ) شَارَكَ الْفِضَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى
فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّ تَرْكَ الْإِنْفَاقِ رَاجِعٌ إلَيْهَا وَمِنْ نَحْوِ
ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ
كَانُوا مُؤْمِنِينَ } فَعَطَفَ بِالْكِنَايَةِ عَلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى دُونَ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّضَى ( الْمَشْرُوطُ )
مَشْرُوطٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى "
وَرَسُولُهُ " مَتَى أَخْلَيْته مِنْ حُكْمِ هَذَا الْخَبَرِ افْتَقَرَ إلَى
خَبَرٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ( خَبَرٌ ) غَيْرُ الرِّضَى فَعَلِمْنَا أَنَّ رِضَى
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوطٌ ( فِي ذَلِكَ
) .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ بِالْكِنَايَةِ
عَنْ اللهِ دُونَ الرَّسُولِ لِأَنَّ رِضَاءَ اللهِ تَعَالَى رِضَاءُ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَ ( قَدْ ) قِيلَ
فِيهِ أَيْضًا : إنَّمَا أَفْرَدَ الْكِنَايَةَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اسْمَ
اللهِ تَعَالَى وَاسْمَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي كِنَايَةٍ
فَيُقَالُ يُرْضُوهُمَا ، وَأَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ ( ذِكْرُ ) اسْمِ اللهِ
تَعَالَى وَاسْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْوَاجِبُ
التَّبْدِئَةُ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ غَيْرِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ( مَا رُوِيَ )
{ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : مِنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ
يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ } يَعْنِي
بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْصِهِمَا لِأَنَّهُ جَمَعَ ( بِقَوْلِهِ اسْمَ ) اللهِ
تَعَالَى وَاسْمَ ( الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي كِنَايَةٍ
وَاحِدَةٍ .
وَمِنْ الْكِنَايَاتِ مَا يَتَقَدَّمُهُ مَذْكُورَانِ
فَيَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا تَارَةً ثُمَّ تَعْلُقُ بِهِ صِفَةٌ أُخْرَى أَوْ
حُكْمٌ آخَرُ فَيَرْجِعُ إلَى الْآخَرِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {لِتُؤْمِنُوا
بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا } فَقَوْلُهُ تُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَقَوْلُهُ )
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى .
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ مَا يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ
بِحُكْمٍ مَذْكُورٍ لَهَا ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهَا بَعْضَ مَنْ شَمَلَهُ الِاسْمُ
بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ
الْأَوَّلَ مَخْصُوصٌ فِيمَنْ عَطَفَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ اسْتَوْفَاهُ الِاسْمُ
وَاقْتَضَاهُ الْعُمُومُ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَهَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ
ثَلَاثًا فَمَا دُونَهَا وَفِي الْعَاقِلَةِ وَالْمَجْنُونَةِ
ثُمَّ قَوْلُهُ ) فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { وَلَا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } حُكْمٌ
مَخْصُوصٌ بِهِ الْعَاقِلَةُ دُونَ الْمَجْنُونَةِ وقَوْله تَعَالَى {
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَلَا يَمْنَعُ
ذَلِكَ اعْتِبَارَ عُمُومِ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي سَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ بِالْحُكْمِ
الْمَذْكُورِ لَهُنَّ وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ (
فِي ) قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَنَّهُ فِي الثَّلَاثِ
وَفِيمَا دُونَهَا وقَوْله تَعَالَى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ } وقَوْله تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فِيمَا دُونَ
الثَّلَاثِ
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ } هُوَ عَامٌّ فِي الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ
وَقَوْلُهُ { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } فِي
الرَّجْعِيِّ
وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ } عَائِدٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيَقْتَضِي ذَلِكَ صِحَّةَ
وُقُوعِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْبَيْنُونَةِ
وَالرَّجْعِيُّ
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } عَامٌّ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى وقَوْله تَعَالَى { الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ
الْعُمُومُ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي قَتْلِ الْحُرِّ
بِالْعَبْدِ
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } وَهَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ
وَالْكَافِرِينَ ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ
بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ
الْمُشْرِكَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْ كَوْنُ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي الْفَرِيقَيْنِ ،
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ .
فارغة المتن
فارغة
الْبَابُ الثَّالِثُ عَشَرَ:فِي الْإِجْمَاعِ (
وَالسُّنَّةِ ) إذَا حَصَلَا عَلَى مَعْنًى يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي
الْكِتَابِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِجْمَاعِ ( وَالسُّنَّةِ ) إذَا
حَصَلَا عَلَى مَعْنًى يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ أَبُو
الْحَسَنِ يَقُولُ كُلُّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُكْمٍ مَنُوطٍ بِلَفْظٍ
يَشْتَمِلُ عَلَى بَعْضِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ (
السُّنَّةُ بِهِ )
( فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ مَا حَصَلَ
عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ) مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرْآنِ
وَأَنَّهُ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى بِالِاسْمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله
تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْجِمَاعَ
وَاللَّمْسَ بِالْيَدِ ثُمَّ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ } فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ
بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ
مُرَادُ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ
} .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَطَعَ السَّارِقَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ
يَقُولَ إنَّ هَذَا حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ بَلْ قَالَ الْجَمِيعُ إنَّهُ حَكَمَ بِهِ عَلَى
الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ لَمَّا صَلَّى
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَتْ
هَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ
الْأُمَّةِ مَعْقُولَةً عَنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ ( مَا ) يَنْتَظِمُ ذَلِكَ وَيُوجِبُهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ
يُوحَى } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ
اللهِ } فَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَجُوزُ أَنْ
يَنْتَظِمَهُ فَيَكُونُ عِبَارَةً عَنْهُ فَذَلِكَ حُكْمُ الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ
بِهِ وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا } فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ حُكْمٌ لِبَعْضِ
الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَالْوَاجِبُ بِأَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ
بِالْآيَةِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (
لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } ) كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ
لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } يَجُوزُ أَنْ
يَتَنَاوَلَهُ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا
تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } لَمَّا احْتَمَلَ الْعَقْدَ
وَالْوَطْءَ ( ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ
الْعَقْدَ يَحْرُمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ ، وَإِذَا أُرِيدَ
بِهِ
الْعَقْدُ انْتَفَى الْوَطْءُ ) لِاسْتِحَالَةِ أَنْ
يَكُونَا جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ .
قِيلَ : لَمَّا كَانَ
اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ حَقِيقَةً حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ وَدَلَّنَا
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ
الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ فَإِنَّمَا مَنَعَنَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ
مُرَادًا .
وَإِنْ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ
بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ .
فَإِنْ قَالَ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ
لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } حَقِيقَةٌ فِي اللَّمْسِ بِالْيَدِ فَاحْمِلُوهُ
عَلَيْهِ وَاجْعَلُوا الْجِمَاعَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ كَمَا جَعَلْتُمْ قَوْله
تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } عَلَى
الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْوَطْءُ وَلَمْ تَجْعَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعَقْدِ
دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ
لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ بِوَجْهٍ وَكَانَ
الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بِحَالٍ وَثَبَتَ أَنَّ
الْجِمَاعَ مُرَادٌ بِهَا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ فَأَثْبَتْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ
وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ اللَّمْسِ
بِالْيَدِ لِعَدَمِ السُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ فِيهِ بَلْ قَدْ وَرَدَتْ
السُّنَّةُ بِخِلَافِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ
يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ } فَعَلِمْنَا أَنَّ
ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ } فَإِنَّ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَطْءِ وَالِاتِّفَاقُ
مَوْجُودٌ فِيهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ
فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَطْءُ وَأَثْبَتْنَا تَحْرِيمَ الْعَقْدِ
بِالِاتِّفَاقِ .
فارغة
الْبَابُ الرَّابِعُ عَشَرَ:فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ
وَحُكْمِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ وَحُكْمِ
الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ عَنْ اللهِ
تَعَالَى وَعَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَيْرُ خَالٍ
مِنْ فَائِدَةٍ ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ
مَعْنَاهُ مَعْقُولًا ( مِنْ لَفْظِهِ ) وَمِنْهُ مَا
يُفِيدُ حُكْمًا وَمَعْنًى يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي .
وَمِمَّا يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْقُولًا مِنْ لَفْظِهِ
مَا يُفِيدُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ مَعْنًى لَيْسَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } قَدْ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ
بِعَيْنِهِ .
وَأَفَادَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ النَّهْيَ عَمَّا
فَوْقَهُ مِنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } { وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } فِيهِ نَصٌّ عَلَى
نَفْيِ الظُّلْمِ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ ، وَدَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا هُوَ
أَكْثَرُ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا } ( وَقَوْلُهُ { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ } { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } نَصَّ عَلَى ذِكْرِ غَدٍ وَأَفَادَ
الْأَمْرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ
.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ذَكَرَ السَّبْعِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كَثْرَةَ
عَدَدِ الِاسْتِغْفَارِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا الْعَدَدَ
بِعَيْنِهِ .
وَنَحْوُ قَوْلِهِ { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } نَصٌّ
مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَالْمُرَادُ التَّضْعِيفُ لَا هَذِهِ الْأَعْدَادُ
بِأَعْيَانِهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا وَهَذَا الضَّرْبُ (
كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ) وَالسُّنَّةِ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ
وَمُخَاطَبَاتِهِمْ وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ الْخِطَابِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُ
دَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ
ذَا وَصْفَيْنِ فَخُصَّ أَحَدُهُمَا بِالذِّكْرِ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ
الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ
.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : كُلُّ مَا خُصَّ بَعْضُ أَوْصَافِهِ بِالذِّكْرِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا أَوْصَافٍ
كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ
فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ لَا يَرْجِعُ قَائِلُهُ فِي
إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ لُغَةٍ وَلَا شَرْعٍ بَلْ اللُّغَةُ عَلَى خِلَافِهِ.
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) :
وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ
بِالذِّكْرِ حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ
حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا وَصْفَيْنِ فَخُصَّ أَحَدُهُمَا
بِالذَّكَرِ أَوْ كَانَ ذَا أَوْصَافٍ
كَثِيرَةٍ فَخُصَّ بَعْضُهَا بِالذِّكْرِ ثُمَّ عُلِّقَ
بِهِ حُكْمٌ .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ
وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا وَكَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَلَامًا
مَعْنَاهُ أَنْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّهُ قَالَ إنَّ قَوْله
تَعَالَى : { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك }
لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ مَعَهُ مُحَرَّمَاتٌ
عَلَيْهِ ( وَكَانَ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
.
أَيْضًا ) فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ
} إنَّمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَى دَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا إذَا شَهِدَتْ وَلَيْسَ
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا إذَا لَمْ تَشْهَدْ لَا يُدْرَأُ عَنْهَا
الْعَذَابُ .
مَطْلَبٌ :[مَفْهُوْمُ الشَّرْطِ]
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ
الْكَبِيرِ .
قَالَ : إذَا حَاصَرَ
الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ
الْحِصْنِ أَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ
عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ السَّبْيِ فِي قَرْيَةِ ( كَذَا ) فَأَمَّنَهُ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَنَزَلَ ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ
يُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ فَلَا
أَمَانَ لِي فَلَمْ يَجْعَلْ مُحَمَّدٌ وُقُوعَ الْأَمَانِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ
دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ فَلَا أَمَانَ لَهُ
.
وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ مَذْهَبِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً
عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ أَوْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ عِنْدِي بَيْنَ
أَصْحَابِنَا خِلَافٌ فِي جُمْلَةِ الْمَذْهَبِ وَقَدْ كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا
مِنْ شُيُوخِنَا يَقُولُ فِي الْمَخْصُوصِ بِعَدَدٍ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ .
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } أَنَّهُ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ
مَا عَدَاهُنَّ وَكَقَوْلِهِ { أُحِلَّتْ لِي
مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَيْتَةِ
وَالدَّمِ غَيْرُ مُبَاحٍ .
وَأَحْسَبُ مُحَمَّدَ بْنَ شُجَاعٍ الثَّلْجِيَّ قَدْ
احْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا .
وَلَسْت أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ
أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ .
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِذِكْرِ
الْعَدَدِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِعَدَدٍ نَحْوِ قَوْلِهِ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ
مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
وَذِكْرُهُ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا
يَجْعَلُونَ مِثْلَهُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا
لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُرْهَا بِعَدَدٍ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الرِّبَا فِي سِتَّةِ
أَشْيَاءَ كَمَا قَالَ { خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ } .
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِكَ
أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ
ذِكْرِ عَدَدٍ فِي أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ ( فِيهِ ) عَلَى حُكْمِ مَا عَدَاهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّهُ غَيْرُ
جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ دَلِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى
أَحْكَامِهِ ثُمَّ يُوجَدُ عَارِيًّا مِنْ مَدْلُولِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِ
دَلَالَتِهِ بِوَجْهٍ .
وَهَذَا هُوَ وَصْفُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّا
وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّ أَشْيَاءَ فَذَكَرَ بَعْضَ أَوْصَافِهَا
ثُمَّ عَلَّقَ بِهَا أَحْكَامًا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا
لِلْحُكْمِ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ بِخِلَافِهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } .
فَخَصَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِحَالِ
خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ .
وَلَمْ يَخْتَلِفْ ( حُكْمُ ) النَّهْيِ فِي
الْحَالَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى { مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ } .
فَخَصَّ النَّهْيَ عَنْ الظُّلْمِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ
وَمَعْلُومٌ صِحَّةُ النَّهْيِ عَنْهُ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ وَنَحْوُ قَوْله
تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } وَغَيْرُ
جَائِزٍ لَهُ أَكْلُهَا بِحَالٍ وَإِنْ خَصَّ
حَالَ الْإِسْرَافِ وَالْمُبَادَرَةِ لِبُلُوغِهِمْ وَكَقَوْلِهِ
تَعَالَى { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرٌ لِلْبَشَرِ وقَوْله تَعَالَى { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ
بِحَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً .
وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } وَقَدْ وَافَقَنَا مُخَالِفُنَا عَلَى أَنَّ الْمُخْطِئَ مِثْلُهُ فِي
وُجُوبِ الْجَزَاءِ .
وَقَالَ ( تَعَالَى ) { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ
اللَّهُ مِنْهُ } وَلَمْ يَنْتِفْ ( بِهِ ) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى
الْعَائِدِ مَعَ ذِكْرِهِ الِانْتِقَامَ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَالَ تَعَالَى { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } وَوَافَقَنَا
الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُنَّ وَإِنْ لَمْ يُحْصَنَ وَهَذَا
أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى .
فَلَمَّا وَجَدْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي
شَرْطُهَا عِنْدَ مُخَالِفِنَا إيجَابُ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهَا بِخِلَافِ
حُكْمِهَا ثُمَّ وَجَدْنَاهَا وَمَا عَدَاهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُكْمِ وَلَمْ
يَكُنْ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ التَّخْصِيصِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ
عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ
كَانَتْ دَلِيلًا لَمَا وُجِدَتْ فِي حَالٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَدْلُولِهَا
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا كَقَوْلِكُمْ فِي
الْعُمُومِ وَفِي الْعِلَلِ إنَّهَا مُوجِبَةٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ
الْأَحْكَامِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ
وَقِيَامُ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ دَلَالَتِهِ فِيمَا
يَقْتَضِيهِ وَيُوجِبُهُ ( فِيمَا لَا تَقُومُ ) فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ
.
قِيلَ لَهُ : قَدْ رَضِينَا بِمَا اسْتَشْهَدْت بِهِ
حُكْمًا فَإِنَّهُ مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَةً عَلَى فَسَادِ أَصْلِك
.
خَبِّرْنَا عَنْ لَفْظِ الْعُمُومِ هَلْ يَجُوزُ
وُجُودُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمٍ أَصْلًا وَهَلْ يَصِحُّ وُجُودُ عِلَّةٍ لَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ رَأْسًا .
فَإِنْ قَالَ : لَا ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ قِيَامِ
دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ مِنْ أَنْ يَبْقَى مِنْ أَحْكَامِ الْعُمُومِ وَالْعِلَّةِ
مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ .
قِيلَ ( لَهُ ) : أَفَلَيْسَ قَدْ وَجَدْت هَذِهِ الْآيَاتِ
الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا إيجَابُ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا
الْمَذْكُورَ فِيهَا بِخِلَافِهِ فَهَلَّا اسْتَدْلَلْت بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ
مِثْلَهَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُوجَدَ عُمُومٌ أَوْ عِلَّةٌ
لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ رَأْسًا لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَا دَلَالَةً عَلَى
الْحُكْمِ بِأَنْفُسِهِمَا .
فَإِنْ قَالَ : دَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ فِي
إيجَابِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ فِيمَا عَدَاهُ
الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَخْتَلِفْ فِي أَنَّ اللَّفْظَ
دَالٌّ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْحُكْمِ مِمَّا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ
وَإِنَّمَا اخْتَلَفْنَا فِي كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ
وَقَدْ جَازَ وُجُودُهُ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَهَذَا الَّذِي
تَبْطُلُ بِهِ قَاعِدَتُك .
أَلَا تَرَى : أَنَّ اللَّفْظَ نَفْسَهُ لَمَّا كَانَ دَلَالَةً
عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ مُطْلَقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ
إلَّا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى حُكْمِهِ .
وَلَوْ قَدْ جَازَ وُجُودُهُ حَقِيقَةً فِي مَوْضِعِهِ
غَيْرَ مُفِيدٍ لِمَا وُضِعَ لَهُ لَمَا كَانَ ( ذَلِكَ ) دَلِيلًا عَلَى
الْمَعْنَى وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ
الْمُخَالِفِ
لَنَا وَفِي ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ
حَقِّ اللَّفْظِ إفَادَةُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْحُكْمِ وَدَلَالَةٌ عَلَى
نَظَائِرِهِ وَإِلْحَاقُهَا بِحُكْمِهِ فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى خِلَافِ
حُكْمِهِ فَهَذَا عَكْسُ الْمَعْنَى وَقَلْبُ الْوَاجِبِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ
لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يَجُوزُ
عَوْدُهُ عَلَى الْمُخْطِئِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ
اللَّهُ مِنْهُ } وَهَذَا إغْفَالٌ مِنْهُ لِحُكْمِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ
لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّ الْجَمِيعَ بِالْحُكْمِ فَقَالَ " وَمَنْ قَتَلَهُ
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ ( مِنْ النَّعَمِ ) " لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ
لِلْوَعِيدِ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مَانِعًا مِنْ عَوْدِهِ إلَى الْعَامِدِ دُونَ
الْمُخْطِئِ ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ حُكْمُ عُمُومِ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي
إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ
وَالْكَافِرَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاك لِتُشْرِكَ بِي
} .
وَهَذَا فِي بَعْضِ مَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ فَعَلِمْت
أَنَّ ذِكْرَ الْوَعِيدِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ ( غَيْرُ ) مَانِعٍ إطْلَاقَ عُمُومِ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ فَدَلَّ مُوَافَقَةُ مُخَالِفِنَا
عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ مَعَ
تَخْصِيصِهِ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ ، عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ أَوْصَافِ
الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ يُحْكَمُ بِخِلَافِهِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ وُجِدَ لَفْظُ الْأَمْرِ
مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ ثُمَّ قَدْ يَرِدُ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ النَّدْبُ
وَيَرِدُ أُخْرَى وَيُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ ثُمَّ قَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الزَّجْرِ
وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى {
وَاتَّقُوا اللَّهَ } ، { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ لِلْإِيجَابِ
وقَوْله تَعَالَى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } لِلنَّدْبِ وقَوْله تَعَالَى { فَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا
} لِلْإِبَاحَةِ وقَوْله تَعَالَى { اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ } زَجْرٌ وَتَهْدِيدٌ .
ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ وُرُودُهُ عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ
الْإِيجَابِ مِنْ ( اقْتِضَائِهِ لِلْوُجُوبِ مَتَى خَلَا مِنْ دَلِيلٍ يَنْقُلُهُ
مِنْ ) حُكْمِهِ .
كَذَلِكَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ عَلَى
حُكْمِ مَا عَدَاهُ عَلَى الْوَجْهِ قَوْلَةٌ صَحِيحَةٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا
لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ تُزِيلُهَا عَنْ مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا
.
قِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلْ
يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ تَارَةً عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ وَأُخْرَى عَلَى جِهَةِ
النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ بَابُهَا
وَحَقِيقَتُهَا الْوُجُوبَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ لَمْ يَخْلُ عِنْدَ قِيَامِ
الدَّلَالَةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ جِهَةِ الْإِيجَابِ مِنْ أَنْ ( يَكُونَ لَهُ
ضَرْبٌ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا اللَّفْظُ ( كَمَا يَبْقَى ) حُكْمُ
الْعُمُومِ بَعْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ وَيَبْقَى
حُكْمُ الْعِلَّةِ إذَا قَامَتْ دَلَالَةُ تَخْصِيصِهَا فِيمَا لَمْ يُخَصَّ
مِنْهَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ
افْعَلْ لِلْإِيجَابِ .
وَالْإِيجَابُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ
عَلَى الْفِعْلِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مُعَلَّقٌ
بِهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَمِّ تَارِكِهِ
وَالْإِبَاحَةُ مُعَلَّقٌ بِهَا وُقُوعُ الْفِعْلِ لَا عَلَى جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ
الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ وَلَا الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ فَعَلَى أَيِّ حَالٍ تَصَرَّفَتْ
صِيغَةُ ( حَقِيقَةِ ) الْأَمْرِ فَإِنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا
ضَرْبٌ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ قَوْلَهُ
افْعَلْ مَتَى لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ كَانَ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي
مَوْضِعِهِ فَجَازَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ حَقِيقَةً وَلَمْ يَمْنَعْ
ذَلِكَ اعْتِبَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ
الْمَجَازِ وَأَمَّا سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَتْ ( فِيهَا )
الْأَلْفَاظُ الْعَارِيَّةُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى حُكْمِ اعْتِبَارِهَا
بِخِلَافِ مُوجَبِ حُكْمِهَا فَإِنَّهَا حَقَائِقُ فِيهَا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } حَقِيقَةٌ فِي مَوْضِعِهِ لَيْسَ بِمَجَازٍ ، ثُمَّ قَدْ وُجِدَ
عَارِيًّا مِنْ حُكْمِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ مَدْلُولِهِ عَلَى قَضِيَّتِك
فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْله
تَعَالَى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } وَ { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ( وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ
) عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ضَرْبٌ مِنْ
( التَّعَلُّقِ عَلَى وَجْهٍ وَهُوَ ) ( الزَّجْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعِيدُ
) .
( وَأَيْضًا ) فَإِنَّهُ مَجَازٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
، وَإِنَّمَا الَّذِي أَنْكَرْنَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً غَيْرَ دَالٍّ
بِوَجْهِهِ عَلَى مَا جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ دَالًّا
عَلَى مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصُّ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ
السِّتَّةِ ( دَلِيلًا ) عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا وَأَنْ
يَكُونَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ دَلِيلًا عَلَى
أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِمَا وَأَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّصِّ فِي
تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا فَمُبَاحٌ ،
وَكُلُّ مَا تَنُصُّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ فِيمَا
عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَهَذَا يُوجِبُ مَنْعَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ
فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ إذَا كَانَ مُوجِبًا ( لِإِبَاحَةِ التَّفَاضُلِ ) فِيمَا عَدَاهَا وَكَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ
الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِأَقَاوِيلِهِمْ أَنَّ هَذَا النَّصَّ قَدْ أَوْجَبَ
الْحُكْمَ فِي نَظَائِرِهَا بِمِثْلِ مُوجَبِ حُكْمِهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ
قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا
وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَظَائِرَهَا مِمَّا عَدَاهَا
فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالِاسْتِحَالَةِ
.
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ
بِالذِّكْرِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ ( بِهِ ) دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ
فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتَى نَصَّ لَنَا عَلَى ذَلِكَ
الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ نَاسِخًا
لِحُكْمِ آخَرَ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { لَا تَأْكُلُوا
الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } فَوَجَبَ هَذَا عَلَى أَصْلِ الْقَائِلِينَ
بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إبَاحَةُ الرِّبَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
ثُمَّ قَوْلُهُ { وَحَرَّمَ الرِّبَا } مُطْلَقًا
نَاسِخًا لِدَلَالَةِ الْآيَةِ الْأُخْرَى .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } ( وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى ) { وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وقَوْله
تَعَالَى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } لِأَنَّ
دَلَالَةَ الْآيَةِ الْأُولَى تَقْتَضِي إبَاحَةَ الظُّلْمِ فِيمَا عَدَا
الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى تَحْظُرُ الظُّلْمَ فِي سَائِرِ
الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ
فِي هَذَا تَرْفَعُ دَلَالَةَ الْأُخْرَى رَأْسًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا (
عَلَى ) وَجْهِ النَّسْخِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ نَسْخٌ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْأَصْلِ
.
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ
مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِمْ وِجْهَتُهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَتَنَاظَرُوا فِيهَا وَحَاجَّ
فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَارَةً بِالْعُمُومِ وَتَارَةً بِأَخْبَارِ الْآحَادِ
وَتَارَةً بِالنَّظَرِ وَالْمُقَايَسَةِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ
حَاجَّ صَاحِبَهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْحِجَاجِ أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ
بِمِثْلِهِ فَكَيْفَ أَغْفَلُوا ذَلِكَ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُ ، وَهُوَ
مَعْنًى مَعْقُولٌ مِنْ لُغَتِهِمْ وَمَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ خِطَابِهِمْ فِي
زَعْمِ الْمُخَالِفِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ فَقَالَ
عُظْمُ الصَّحَابَةُ لَهَا النَّفَقَةُ وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ ( مِنْهُمْ )
فَكَيْفَ لَمْ يَحْتَجَّ نَافُوهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ
عِنْدَ الْمُخَالِفِ مَعْقُولٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ لَمْ يَسْتَدِلَّ الْمُوجِبُونَ لَهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ
عَلَى نَفْيِهَا وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ
بِنْتِ قَيْسٍ فِي إبْطَالِ ( النَّفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ ) وَقَالَ لَا نَدَعُ
كِتَابَ ( اللهِ ) رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا ( عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِ
امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا أُنْسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا ) فَكَيْفَ تَكُونُ (
عِنْدَهُ ) رِوَايَتُهَا لِذَلِكَ خِلَافَ
الْكِتَابِ ، وَدَلِيلُ الْكِتَابِ الْمَعْقُولُ مِنْ ظَاهِرِهِ يَنْفِيهَا
.
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ ، تُوجِبُونَهَا
لِغَيْرِ الْحَامِلِ ؟ قِيلَ لَهُ : قَدْ قَالَتْ
ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَدِلَّ مِنْ اللَّفْظِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَمْ نَقُلْ إنَّ
تَخْصِيصَهُ الْحَامِلَ بِالذِّكْرِ يَنْفِي وُجُوبَهَا لِغَيْرِ الْحَامِلِ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا لَكَانَ ( لَا أَقَلَّ مِنْ
أَنْ ) يُوجَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ ( فِي شَيْءٍ مِنْ
أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ
عَنْ بَعْضِهِمْ ) الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ لَمَا ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وَلَا
لَزِمَ الْقَوْلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَفَوْهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ كَانُوا
أَيْضًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ اللِّسَانِ
لَمَا خَفِيَ مَوْضِعُهُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ كَمَا لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ
سَائِرُ وُجُوهِ دَلَالَاتِ الْكَلَامِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ خِطَابِهِمْ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : ( قَدْ { قَالَ يَعْلَى بْنُ
أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا ، فَقَالَ
عُمَرُ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا
صَدَقَتَهُ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَصَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ
بِحَالِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَعَقَلَ عُمَرُ
وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ دَلِيلِ الْآيَةِ نَفْيَ الْقَصْرِ فِي حَالِ
الْأَمْنِ .
( قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا
ظَنَنْت لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ الْآيَةَ مَنَعَتْ الْقَصْرَ فِي حَالِ
الْأَمْنِ ) وَإِنَّمَا قَالَا : كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَدْ
أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ
الْأَمْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
} وقَوْله تَعَالَى { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَمَا
جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ ثُمَّ
لَمَّا خَصَّ حَالَ الْخَوْفِ بِذِكْرِ الْقَصْرِ كَانَ ( النَّصُّ مَوْقُوفًا
عَلَيْهَا ) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ
الْقَصْرَ ، فَكَيْفَ نَقْصُرُ وَهَلَّا كَانَ الْإِتْمَامُ وَاجِبًا بِسَائِرِ
الْآيِ الْمُوجِبَةِ لَهُ .
هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا سَأَلَا عَنْهُ ( عِنْدَنَا ) ،
فَلَمَّا سَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ
أَعْلَمَهُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى لَكُمْ فِي الْحَالَيْنِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالُ الْأَمْنِ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ بَلْ مِنْ جِهَةِ
وَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ .
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ (
قَدْ ) قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَالَهُ - زَعَمَ - أَبُو
عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ وَأَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى{إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ }
( قَالَ ) فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ { لَأَنْ يَمْتَلِئَ
جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يُرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ
شِعْرًا } لَا يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي هَجَى بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ أَبَاحَ الْقَلِيلَ قَالَ
وَقَوْلُهُ { لَيُّ الْوَاجِدُ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ ( لَيَّ ) غَيْرِ الْوَاجِدِ بِخِلَافِ الْوَاجِدِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
فَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ إنَّ الشَّافِعِيَّ
مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ ( قَدْ ) قَالَ ذَلِكَ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَإِنْ مَنْ يَلْجَأُ إلَى مِثْلِهِ
فِي الْحِجَاجِ عَلَى مُخَالِفِيهِ فَمَا بَقِيَ غَايَةٌ فِي إفْلَاسِهِ
.
فَيُقَالُ لَهُ : وَمَنْ قَالَ لَك إنَّهُ مِنْ أَهْلِ
اللُّغَةِ وَمَنْ حَكَى عَنْهُ مِنْهَا حَرْفًا يُحْتَجُّ بِهِ
.
فَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ
ادَّعَيْتُمْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ ادَّعَاهُ هُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
يَعُوزُ أَحَدًا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ
وَيَحْتَجَّ بِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الرَّجُلُ بِضَرْبٍ
مِنْ الْعُلُومِ وَيُوصَفُ بِهِ بِحِكَايَةِ أَهْلِهِ عَنْهُ وَقَبُولِهِمْ قَوْلَهُ
فِيهِ ، كَمَا حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِيمَا
سَلَفَ .
وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ
دَلَالَةِ اللَّفْظِ مَأْخُوذًا مِنْ ( أَهْلِ ) اللُّغَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْ أَهْلِهَا غَيْرَ مُدَافَعٍ وَهُوَ غَيْرُ
قَائِلٍ ( بِمَا ذَكَرْتُمْ ) وَلَمْ يَعْقِلْ مِنْهَا مَا وَصَفْتُمْ وَإِنَّمَا
حِكَايَةُ ( هَذَا ) الْحَاكِي عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ فَإِنَّهَا حِكَايَةٌ
بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا وَالْحَاكِي لَهَا ذَلِكَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ
.
وَ ( أَمَّا ) مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فَلَا
مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ ( ذَلِكَ )أَبُو عُبَيْدٍ
دُونَ غَيْرِهِ بَلْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ سَوَاءٌ
وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ
لِمُسَمَّيَاتِهَا بِأَنْ ( يَقُولُوا ) إنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ كَذَا بِكَذَا
.
فَأَمَّا الْمَعَانِي وَدَلَالَاتُ الْكَلَامِ فَلَيْسَ
يَخْتَصُّ ( أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَتِهَا ) دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ
ذَلِكَ الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ أَهْلُ سَائِرِ
اللُّغَاتِ فِي لُغَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَبِيئَتِهَا وَلَا يَخْتَصُّ
بِلُغَةِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا كَسَائِرِ ضُرُوبِ الْكَلَامِ إذَا نُظِمَتْ
ضَرْبًا مِنْ النَّظْمِ وَرُتِّبَتْ ضَرْبًا مِنْ التَّرْتِيبِ ثُمَّ نُقِلَتْ
إلَى لُغَةٍ أُخْرَى عَلَى نِظَامِهَا وَتَرْتِيبِهَا ؛ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ أَهْلِ
اللُّغَةِ الْمَنْقُولَةِ إلَيْهَا وَالْمَنْقُولَةِ عَنْهَا فِي مَعْرِفَةِ
دَلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ اللُّغَةِ الْأُولَى فَإِذًا لَا
اخْتِصَاصَ لِأَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَقَوْلُهُمْ قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَاقِطٌ
لَا اعْتِبَارَ بِهِ .
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِلُغَةِ
الْعَرَبِ هُمْ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَعْقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ
حُكْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا
.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ { فِي قَوْله
تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ } وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ } رِوَايَةٌ
بَاطِلَةٌ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَفِي تَجْوِيزِهِ انْسِلَاخٌ مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ
أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ( أَنْ )
تَوَفَّاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا النَّاسَ إلَى
اعْتِقَادِ تَخْلِيدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ قَطُّ
غُفْرَانَ الْكُفْرِ فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَوَازَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ
.
وَقَدْ أَخْبَرَ ( اللَّهُ تَعَالَى ) عَنْ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ مَا قَالَ أَنَّهُمْ مَاتُوا ( كُفَّارًا )
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ } فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ " هَذَا مَا لَا
يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ وَلَا
يُجَوِّزَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ النَّاسِ
بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَجُوزُ .
وَإِنَّمَا الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَغْفِرُ
لَهُمْ إذَا زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ لَزِدْتُ } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ السَّبْعِينَ وَمَا فَوْقَهَا سَوَاءٌ
وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَبَدًا بَعْدَ
مَوْتِهِمْ كُفَّارًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى
عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { وَاغْفِرْ لِأَبِي إنَّهُ
كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ } فَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُجِيزُ ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى وَعِيدَ الْكُفَّارِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَ اسْتِغْفَارِ
إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } وَرُوِيَ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ كَانَ أَظْهَرَ لَهُ الْإِيمَانَ
( فَاسْتَغْفَرَ لَهُ ) فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَيْسَتْ لَهُ عَقِيدَةُ الْإِيمَانِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ
حِينَئِذٍ
وَأَمَّا وَعِيدُ الْكَافِرِ بِالنَّارِ خَالِدًا
مُخَلَّدًا ( فِيهِ ) فَقَدْ كَانَ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ مَا بُعِثَ فَيَسْتَحِيلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُجِيزَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُفْرَانَ لَهُمْ بِزِيَادَةِ الِاسْتِغْفَارِ
عَلَى السَّبْعِينَ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ
يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَا فَوْقَ
السَّبْعِينَ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلَالَةِ فِي
الْغُفْرَانِ أَوْ غَيْرِهِ .
وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي السَّبْعِينَ لَا مَحَالَةَ
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ بِأَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ
الْمَذْكُورِ فِي بَابِ أَنَّ حُكْمَ الْمَذْكُورِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ثَابِتٌ
وَمَا عَدَاهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الدَّلَالَةِ .
وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ ( عَلَى )
الْمَذْكُورِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَذِكْرُ
السَّبْعِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى جِهَةِ تَكْثِيرِ الْعَدَدِ وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ } وَمَا دُونَهَا ، وَ ( مَا ) فَوْقَهَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ
وَفِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَاقْتَضَى عِنْدَ الْجَمِيعِ كَوْنَ
الْإِيمَانِ شَرْطًا فِيهَا وَعُقِلَ بِهَا أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنَةِ لَا
تُجْزِئُ ( وَقَالَ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَدَلَّ
عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُ لَا يُقْبَلُ ) وَقَالَ { فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَأَوْجَبَ
عِنْدَ الْجَمِيعِ فَسَادَ نِكَاحِ مَا عَدَا الْأَرْبَعَ ، وَقَالَ تَعَالَى {
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَمَا
دُونَهَا لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَقَالَ تَعَالَى { فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً } وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِحَدٍّ وَقَالَ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ
} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْمَحْصُورَةِ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ
لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } تَخْصِيصٌ فِي
الْحُكْمِ لَا الْمَحْكُومِ فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُنَا فِي تَخْصِيصِ
الْمَحْكُومِ فِيهِ بِالذِّكْرِ إذَا نُصِبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ هَلْ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَحْكُومِ فِيهَا حُكْمُهُ
بِخِلَافِ حُكْمِهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فَخَصَّ الْمَحْكُومَ
فِيهِنَّ ثُمَّ نَصَبَ عَلَيْهِنَّ الْحُكْمَ ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } ، فَذَكَرَ الْحُكْمَ
فِيهِ ثُمَّ نَصَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } فَخَصَّ حَالَ
الْعَمْدِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ } فَإِنَّمَا فِيهِ تَخْصِيصُ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ بِشَرْطِ
الْإِيمَانِ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَصَارَتْ صِفَةُ الْإِيمَانِ
لِلرَّقَبَةِ مُوجَبَةَ الْأَمْرِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ وقَوْله تَعَالَى {
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( أَيْضًا
لِأَنَّهُ ) تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِصِفَةٍ قَدْ
تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْإِيجَابِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِ
أَقَلِّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إسْقَاطُ الْوُجُوبِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فِي
قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى
{ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }
فَإِنَّهُ أَعْلَمَنَا بَدْءًا جَمِيعَ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ النِّسَاءِ ثُمَّ فَسَّرَهُ
بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ تَفْسِيرًا لِجَمِيعِهِ فَلَمْ يَبْقَ مِمَّا
أَحَلَّ ( اللَّهُ تَعَالَى ) شَيْئًا لَمْ يَذْكُرْهُ
فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ
.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ( حُكْمَهُ
بَعْدَ الْمُدَّةِ ) فِي سِيَاقِ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } فَلَا يَجُوزُ بَقَاءُ
حُكْمِ الْمُدَّةِ مَعَ حُصُولِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ
الْفَيْءَ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي الْمُدَّةِ يُسْقِطُ التَّرَبُّصَ إذْ لَا
يَمِينَ هُنَاكَ بَعْدَ الْحِنْثِ وَتَرْكُهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ هُوَ عَزِيمَةُ
الطَّلَاقِ وَالتَّرَبُّصُ مَعَهُ سَاقِطٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ لِأَنَّهَا قَدْ
بَانَتْ عَزِيمَةً ، فَصَارَ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِهِ فِي
الْمُدَّةِ لِلدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا بِتَحْدِيدِ الْمُدَّةِ فَحَسْبُ
.
وقَوْله تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَا
يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ عِدَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
} .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَقَادِيرِ
لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ اتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ ( فَلَمَّا ) لَمْ يَرِدْ
التَّوْقِيفُ إلَّا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا
مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ ( عَلَيْهَا ) ،
فَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْمَقَادِيرِ
.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فِي الْحُدُودِ أَنَّ ظَهْرَ
الْإِنْسَانِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا
بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَرِدُ بِهِ التَّوْقِيفُ أَوْ يَقُومُ عَلَيْهِ
الدَّلِيلُ وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْت مِنْ ذَلِكَ
وَارِدٌ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ وَصِفَتِهِ فَهُوَ ( وَاجِبٌ ) لَازِمٌ وَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ حَدٌّ
يَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ
مِثْلِهِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا
فِيهِ لِمَا عَدَا الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ
أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ اللَّفْظِ
الْمَذْكُورِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ يُوجِبُ الْحُكْمَ
فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ قَبْلَ وُرُودِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ بِهَذَا الْحُكْمِ
، فَلَمَّا وَرَدَ التَّوْقِيفُ فِي الْمَذْكُورِ بِالْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ
عَلَيْهِ ( فِيهِ ) أَخْرَجْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ ،
وَتَرَكْنَا الْبَاقِيَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ وُرُودِ
الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ .
وَإِمَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ
فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ ( بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ ) .
فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ
فِيمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَمَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى
الدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلُوهُ
مَوْقُوفًا وَعِنْدَكُمْ ( أَنَّ ) الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ
فَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَقُولُوا حُكْمُهُ بِخِلَافِ حُكْمِ
الْمَذْكُورِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا وَقَدْ
كَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ وُرُودِ الزِّيَادَةِ أَوْ
نَفْيِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَوْ عَقَلْت مَا قَدَّمْنَا لَمْ تَسْأَلْ
عَنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِنَا فِي الْأَصْلِ
إنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيصِ الْمَحْكُومِ فِيهِ بِبَعْضِ أَوْصَافِهِ إذَا نُصِبَ
عَلَيْهِ حُكْمٌ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي
مِثْلِ حُكْمِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ .
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ فَإِنَّمَا هِيَ
كَلَامٌ فِي الْحُكْمِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ
فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَلَا
النُّقْصَانُ مِنْهُ وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمَذْكُورِ الْوَاجِبِ غَيْرُ
الْمَذْكُورِ مِمَّا لَيْسَ فِي صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ نَحْوُ
قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (
هُوَ تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ وَمُقَيَّدٌ ) بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَهَذَا عَلَى
الْوُجُوبِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى غَيْرِ مُؤْمِنَةٍ ، وَ (
كَذَلِكَ ) قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَقَوْلُهُ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ } كُلُّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلْحُكْمِ بِصِفَةٍ وَقَدْ تَضَمَّنَهَا
لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ وَلَا جَائِزٌ إسْقَاطُ الْعَدَدِ
وَلَا إسْقَاطُ الصِّفَةِ بِحَالٍ لِمَا وَصَفْنَا .
( وَنَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَبِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ( تَخْصِيصٌ
لِلْحُكْمِ بِالْمِقْدَارِ ) الْمَذْكُورِ ( لَهُ ) وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَدُّ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ
الْإِجْزَاءِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ
الْحَدِّ غَيْرَ وَاقِعٍ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ وَهَذَا نَسْخٌ وَقَوْلُهُ { إذَا
قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى
الْمَرَافِقِ } الْآيَةَ ، مَتَى زِدْنَا فِيهِ النِّيَّةَ كَانَ زِيَادَةً فِي
الْحُكْمِ الْوَاجِبِ الَّذِي اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِهِ
وَهُوَنَسْخٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ (
النُّقْصَانُ أَوْ الزِّيَادَةُ ) لَاحِقًا بِالْحُكْمِ الَّذِي يُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُهُ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ جَوَازَهُ فَهُوَ نَسْخٌ
.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْحُكْمِ ، وَ
التَّخْصِيصُ وَاقِعٌ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا
نَسْخٌ ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا الْمَخْصُوصَ قَدْ كَانَ
حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ
أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْمَحْكُومِ
فِيهِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى حُكْمِ غَيْرِ الْحَامِلِ
لَا بِالْإِيجَابِ وَلَا بِالنَّفْيِ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } فِيهِ تَخْصِيصُ
الْمَحْكُومِ فِيهِنَّ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى
تَخْصِيصِ الْحُكْمِ ، وَلَا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُنَّ لَيْسَ فِي حُكْمِهِنَّ وَكَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } إنَّمَا فِيهِ تَخْصِيصُ الْقَاتِلِينَ بِالذِّكْرِ لَا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ
فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
} فَاسْتَدْلَلْتُمْ ( بِهِ ) عَلَى إسْقَاطِ الدِّيَةِ
لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ وَخَصَصْتُمْ ( بِهِ )
عُمُومَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ فِي الْمَقْتُولِ
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَفِي الْمَقْتُولِ مِنْ أَهْلِ ( دَارِ ) الْحَرْبِ
إذَا كَانَ مُسْلِمًا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ ( فِيهِ ) عَلَى مَا
ظَنَنْت لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } لَمْ يَدْخُلْ
فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَيْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } وَلَوْ
كَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ الْأَوَّلُ لَمَا اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرَ
الْأَسْمَاءِ وَهُوَ لَمْ يَخُصَّهُ بِحُكْمٍ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلِ
الْمُؤْمِنِ خَطَأً لِأَنَّ ذِكْرَ الرَّقَبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا ، فَغَيْرُ
جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا لَهُ وَهُوَ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ بَدْءًا
وَيَسْتَأْنِفُ لَهُ ذِكْرًا يَنْقُضُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ فَعَلِمْنَا
أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
} لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً }
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ } شَرْطٌ وَمُحَالٌ أَنْ يَذْكُرَ الْأَوَّلَ مُكَرَّرًا وَيَجْعَلَهُ
نَفْسَهُ شَرْطًا مَعَ دُخُولِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ .
وَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَمْ
يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ خِطَابِ الْآيَةِ ثُمَّ ( وَجَبَ فِيهِ
رَقَبَةٌ ) عَلَى قَاتِلِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إيجَابُ شَيْءٍ غَيْرِهَا لِأَنَّ
فِيهِ زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ( عَلَى ) مَا تَقَدَّمَ (
مِنَّا بَيَانُهُ ) فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
فَإِنْ قِيلَ : مَعْلُومٌ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ
أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا إنَّمَا
يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدِّرْهَمِ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهُ ( إنْ ) لَمْ
يَدْخُلْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى .
قِيلَ لَهُ : هَذَا عَلَيْك لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ
سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ عَقَلَ ( مِنْهُ ) أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ
إعْطَاءِ الدِّرْهَمِ إذَا لَمْ يَدْخُلْهَا وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطًا
لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الدِّرْهَمِ ( وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَهُ
دِرْهَمًا مُتَبَرَّعًا بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا إنَّ الدُّخُولَ شَرْطٌ
لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الدِّرْهَمِ ) ، بِعَيْنِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا
بِالدُّخُولِ لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ مَنَعَ الِاسْتِحْقَاقَ إلَّا عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ ( لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ) لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْأَصْلِ
ثُمَّ عَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ
فَحُكْمُهُ بَاقٍ
عَلَى الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْإِعْطَاءِ أَوْ تَرْكِهِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ
شَاةٌ } وَهَلْ هَذَا عِنْدَكُمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا صَدَقَةَ
فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ فَأَوْجِبُوا الصَّدَقَةَ فِي
الْعَوَامِلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرٍ آخَرَ {
فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } إذْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِشَرْطِ السَّوْمِ
.
قِيلَ لَهُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ
مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالذِّكْرِ إذَا عُلِّقَ بِهَا
حُكْمٌ وَأَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا صَدَقَةَ
فِيهَا وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا صَدَقَةَ ( غَيْرِ ) السَّائِمَةِ بِدَلَائِلَ
أُخَرَ وَإِلَّا فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا
ذِكْرُ السَّوْمِ وَفِي الْآخَرِ إسْقَاطُهُ لَأَوْجَبْنَا الصَّدَقَةَ فِي غَيْرِ
السَّائِمَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الِاعْتِبَارُ يُؤَدِّي
إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِلتَّخْصِيصِ
فَائِدَةٌ مُحَدَّدَةٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ
فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ .
قِيلَ لَهُ : فَقَدْ تَرَكْت دَعْوَاك الْأُولَى فِي
دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَانْتَقَلْت إلَى أَنَّ افْتِقَارَ ذِكْرِ التَّخْصِيصِ إلَى
الْفَائِدَةِ هُوَ الْمُوجِبُ لِمَا ذَكَرْت فَنَقُولُ لَك الْآنَ خَبَرْنَا عَنْك
أَتَقُولُ إنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ التَّخْصِيصِ إلَّا دَلَالَتُهُ عَلَى
أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ .
فَإِنْ قَالَ : كَذَلِكَ أَقُولُ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت هَذَا ، وَ ( مَا ) أَنْكَرْت
أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَوَائِدُ أُخَرُ غَيْرُ مَا ادَّعَيْت .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ قَوْله
تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَزْدَرِيَهُ
وَيَضْرِبَهُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذَا اللَّفْظِ بِالذِّكْرِ
.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } عَلَى أَنَّ لَنَا قَتْلَهُمْ إذَا
لَمْ نَخْشَ الْإِمْلَاقَ .
وَيَدُلُّ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ } عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي غَيْرِهِنَّ إذْ
لَا فَائِدَةَ لِلتَّخْصِيصِ ( بِالذِّكْرِ ) إلَّا هَذَا ، وَمَتَى أَخْلَيْنَا اللَّفْظَ
مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ حَصَلَ ذِكْرُ التَّخْصِيصِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ
.
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ( فِي ) كَلَامِ اللهِ تَعَالَى
مَا لَا يُفِيدُ ، فَإِذًا قَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا
ذَكَرَهُ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا جَعَلْنَا مَا عَدَا
الْمَذْكُورَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا بِدَلَالَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ بِخِلَافِ
حُكْمِ الْمَذْكُورِ .
قِيلَ لَهُ : فَيَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَرِدَ عَنْ اللهِ
تَعَالَى كَلَامٌ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ ثُمَّ تَقُومُ
الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ
.
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ
ارْتَكَبَ مَا لَا يَرْتَكِبُهُ مُسْلِمٌ وَيُقَالُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَمَا
أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّخْصِيصِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ
فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ إذَا
قَدْ جَوَّزْت أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا بِالذِّكْرِ ، وَلَا
يَكُونُ فِي تَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِهِ فَائِدَةٌ .
فَإِنْ قَالَ : لِتَخْصِيصِ اللهِ تَعَالَى ، هَذِهِ الْأَشْيَاءَ
بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا
بِخِلَافِهَا .
قِيلَ لَهُ : فَمَا أَنْكَرْت إلَّا أَنْ يَدُلَّ
التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَتَكُونُ
فَائِدَتُهُ قَائِمَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَيْتَةِ
وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ( بِالتَّحْرِيمِ ) وَهَاهُنَا أَشْيَاءُ أُخَرُ
مُحَرَّمَةٌ غَيْرُهَا .
وَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ وَهَذَا مَا
هُوَ فِي حُكْمِهَا ( مِمَّا ) لَمْ يَذْكُرْهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ
فَوَائِدَ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا ، وَ
( عِنْدَنَا ) أَنَّ جَمِيعَ مَا خُصَّ بِالذِّكْرِ وَنُصِبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ
فَفِي تَخْصِيصِهِ أَجَلُّ الْفَوَائِدِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا الْمَخْصُوصِ
مَعْقُولًا مِنْ النَّصِّ وَمَا عَدَاهُ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِنَا
وَأَلْزَمَنَا ( بَعْدَ ) ذَلِكَ طَلَبَ الدَّلَالَةِ
عَلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ هَلْ هُوَ فِي مِثْلِ حُكْمِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ لِيَظْهَرَ
بِذَلِكَ فَضِيلَةُ الْمُسْتَنْبِطِينَ ( وَمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ
الْجَزِيلِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْجَمِيعِ لَقَصَرَ بِنَا عَنْ رُتْبَةِ الْمُسْتَنْبِطِينَ
) وَحُرِمْنَا بِهِ بُلُوغَ مَنْزِلَةِ النَّاظِرِينَ .
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّهُمْ يَخُصُّونَ
الْعُمُومَ بِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى مُخَالَفَةِ حُكْمِ مَا عَدَاهُ لَهُ
لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْخِطَابِ فِي زَعْمِهِ كَمَا أَنَّ الْمُفَسَّرَ يَخُصُّ
الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ يَخُصُّ الظَّاهِرَ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ
إلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ ( بَيَانَ )
فَسَادِ هَذَا الْفَرْعِ إذَا سُلِّمَ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْأَصْلِ
.
فَنَقُولُ لَهُمْ : لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّ هَذَا
الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ يَخُصُّ الظَّاهِرَ .
فَإِنْ قَالَ : كَمَا أَخُصُّهُ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ
وَكَمَا أَخُصُّهُ بِالْقِيَاسِ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مِثْلُ الْقِيَاسِ
وَمِثْلُ لَفْظٍ آخَرَ ( هُوَ ) أَخَصُّ
مِنْهُ فَلَا مَلْجَأَ فِي ذَلِكَ ( إلَّا ) إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ
.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : أَلَيْسَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ
الدَّلِيلِ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ عِنْدَك كَمَا يَجُوزُ فِي الْعُمُومِ
فَلِمَ جَعَلْت الدَّلِيلَ حَاكِمًا عَلَى الْعُمُومِ دُونَ أَنْ تَجْعَلَ
الْعُمُومَ حَاكِمًا عَلَيْهِ وَهَلَّا جَعَلْت أَقَلَّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ
يَتَسَاوَيَا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ
أَنْ يَقْضِيَ بِالْآخِرِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ
الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ عِنْدَك مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلِأَنَّهُ
غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ قِيَاسٍ لَا يُوجِبُ حُكْمًا رَأْسًا وَيَجُوزُ وُجُودُ
هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الدَّلِيلِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِهِ عَلَى ( نَحْوِ مَا
مَرَّ ) .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلَّا جَعَلْت الْعُمُومَ أَوْلَى
مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ عُمُومٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ
فِي شَيْءٍ ( مِمَّا وَرَدَ بِهِ ) وَقَدْ جَازَ وُجُودُ
الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهُ رَأْسًا
فَهَلَّا جَعَلْت الْعُمُومَ قَاضِيًا عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ
كَدَلِيلِك هَذَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ وَهَذَا فَرْعٌ
عَلَيْهِ فَلِمَ تَرَكْت الْأَصْلَ بِهِ وَجَعَلْته أَوْلَى مِنْهُ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ كَمَا يَخُصُّ الْمُفَسَّرُ
الْمُجْمَلَ فَإِنَّ الْمُفَسَّرَ مَذْكُورٌ وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ فَلَا
يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْضَى بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى أَنَّهُمْ قَدْ
نَقَضُوا ذَلِكَ فَقَالُوا إنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ حَتَّى تَكُونَ
خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ كَانَ
لَا يُحَرِّمُ إلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ
فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى
} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
لَا يُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ } وَدَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ
يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى الرَّضْعَتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِهِ
الْخَمْسُ رَضَعَاتٍ وَيُجْعَلَ الْخَمْسُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي كَانَ يُوجِبُ
التَّحْرِيمَ ثُمَّ نُسِخَ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ دَلِيلِك هَذَا
إذَا عَارَضَهُ الْقِيَاسُ أَيُّهُمَا يَكُونُ أَوْلَى ؟ .
فَإِنْ قَالَ : هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ
.
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت هَذَا وَهَلَّا جَعَلْت
الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ إذْ كَانَ ( دَلِيلُك هَذَا ) يَجُوزُ فِيهِ
التَّخْصِيصُ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ عِنْدَك فِي
الْقِيَاسِ وَهَلَّا جَعَلْتهمَا مُتَسَاوِيَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فَيَسْقُطُ
حُكْمُهُمَا جَمِيعًا .
وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ هَذَا ( الضَّرْبَ ) مِنْ
الدَّلِيلِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى
الْمُخْطِئِ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَيُوجِبُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ كَفَّارَةً
قِيَاسًا وَدَلِيلُهُ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالْكَفَّارَةِ
عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ
فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَخَصَّ الْمُخْطِئَ بِالذَّكَرِ
فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَك يَنْفِي مُوجَبَ
الْقِيَاسِ ثُمَّ جَعَلْت الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْهُ .
فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } هَلْ ( دَلَّ ) هَذَا الْقَوْلُ
( مِنْهُ ) عَلَى أَنَّ مَا لَمْ
يَكُنْ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَبِخِلَافِ حُكْمِهِ
.
قُلْنَا لَهُ نَعَمْ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ
فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( الْوَلَاءُ ) اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ
الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يُشِرْ بِهِ إلَى مَعْهُودٍ
فَيَتَنَاوَلُهُ دُونَ غَيْرِهِ .
فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ انْتَظَمَ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ
الِاسْمُ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ لِلْمُعْتِقِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ بَيِّنَةٍ صَارَتْ عَلَى الْمُدَّعِي
فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعِي
.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
} يَتَنَاوَلُ جِنْسَ الْيَمِينِ الْوَاجِبَةِ ( بِالدَّعَاوَى
) فَصَارَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ
هُنَاكَ يَمِينٌ تَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى
} فَتَنَاوَلَ كُلَّ صَدَقَةٍ فَمَا مِنْ صَدَقَةٍ إلَّا
وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اللَّفْظِ مُوجَبَةٌ بِشَرْطِ الْغِنَى وَدَلَّ عَلَى أَنَّ
سَائِرَ الصَّدَقَاتِ لَا تَجِبُ ( إلَّا ) عَلَى الْأَغْنِيَاءِ
وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ
يَبْقَ هُنَاكَ صَدَقَةٌ لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا اللَّفْظُ فَتَكُونُ مَوْقُوفَةً
فِي كَوْنِهَا عَلَى غَنِيٍّ أَوْ ( عَلَى ) فَقِيرٍ ( فَمِنْ هَذِهِ ) الْجِهَةِ
تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ نَفْيَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهَا عَمَّا
عَدَاهَا لَا مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِهِ لَهَا بِالذِّكْرِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ .
فارغة
الْبَابُ الْخَامِسُ عَشَرَ: الْقَوْلُ فِي حُكْمِ
الْمُجْمَلِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْمُجْمَلِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ صِفَةَ الْمُجْمَلِ
وَنُبَيِّنُ الْآنَ بِعَوْنِ اللهِ حُكْمَهُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ
.
فَنَقُولُ إنَّ الْمُجْمَلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ وَلَا يُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهُ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى
{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } { وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ
حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا
تُنْبِئُ عَنْ الْمَعَانِي الْمُرَادِ بِهَا فَيَكُونُ
حُكْمُ مَا ( كَانَ ) هَذَا وَصْفَهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ
.
وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْهُ : مَا يُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فِي أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ
.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ
فَيَنْتَظِمَ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : لُزُومُ
اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ فِي أَقَلِّهِ .
وَالْآخَرُ : أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَقَلِّ مَوْقُوفَةٌ
عَلَى الْبَيَانِ ، فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمِقْدَارٍ أَكْثَرَ مِمَّا
تَضَمَّنَ اللَّفْظُ وُجُوبَهُ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ
الْأَوَّلِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ
الْمَأْمُورِ بِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلُّوا وَصُومُوا وَحُجُّوا وَنَظَائِرِهِ
.
وَقَدْ عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ
وَالْحَجُّ فَأَقَلُّ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ إيجَابَهُ صَلَاةً
وَاحِدَةً وَصَوْمًا وَاحِدًا وَحَجًّا وَاحِدًا .
وَلَا يَلْزَمُنَا فِي أَكْثَرَ مِنْهُ لِأَنَّ
الْأَكْثَرَ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا مِقْدَارَ مَعْلُومٌ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى
فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى الْبَيَانِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَعْطِ هَذِهِ
الدَّرَاهِمَ رِجَالًا بَعْدَ
سَنَةٍ أَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مِنْهُمْ
ثَلَاثَةٌ وَمَا زَادَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ فَإِذَا قَالَ
بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ تَنْفِيذِ الْأَمْرِ ( هُمْ
عَشَرَةٌ ) لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى
الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَلْ بَيَانًا أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَانُوا مُرَادِينَ
بِهِ كَذَلِكَ إذَا وَرَدَ الْبَيَانُ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلُّوا بِمَقَادِيرِ
أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ
مُرَادًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ .
وَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَأْبَى
ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي
مِثْلِهِ وُرُودُ الْبَيَانِ بِإِرَادَةِ الْأَكْثَرِ إنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ
مُقْتَضِيًا لِاسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَإِنَّمَا
يَرِدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةً فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ فِيهِ فِي
قَوْلِهِ صَلُّوا وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ أَعْطِ رِجَالًا أَنَّهُ
يَكُونُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْكَلَامِ
الْأَوَّلِ .
قَالَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ تَنَاوَلَ صَلَاةً
وَاحِدَةً .
وَقَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا تَنَاوَلَ رِجَالًا
ثَلَاثَةً بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الْبَيَانِ فِيهِ
بِإِرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ .
وَلَا أَنَّهُ أَرَادَ رِجَالًا بِأَعْيَانِهِمْ إلَّا
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُ الْأَمْرِ
إلَّا مَعَ اسْتِقْرَارِ الْعَدَدِ وَصِفَتِهِ .
( فَأَمَّا إذَا ) أَطْلَقَهُ وَلَمْ يَعْقُبْهُ بَيَانُ
عَدَدِ الرِّجَالِ وَصِفَتُهُمْ وَأَعْدَادُ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرُهَا
فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ كَانَ
أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلُّوا أَكْثَرَ
مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَتَى وَرَدَ بَعْدَهُ ذِكْرُ عَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ عَلِمْنَا
أَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَحُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ لَمْ
يَتَضَمَّنْهُ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَمْ يُوجِبْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ عَلَى حَسَبِ مَا
نَقُولُهُ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ
.
قَالَ : لِأَنَّ
تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ
صَلُّوا إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَصْلُحُ لِمَا
فَوْقَهَا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدَةُ لَا
مَحَالَةَ فَلِمَ أَوْجَبْت بِهِ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَإِنْ
كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْبَيَانِ فَمَا أَنْكَرْت أَلَّا يَجِبَ
بِهِ مَجِيءُ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمَوْقُوفِ ( عَلَى الْبَيَانِ ) لَا يَجِبُ
بِهِ شَيْءٌ وَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ التَّفْسِيرُ وَمَا أَنْكَرْت
أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَفْهُومًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِيهِ
مَوْقُوفًا عَلَى مَا
يَأْتِي بَعْدَهُ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ لِأَهْلِ
الْخُصُوصِ وَالْوَقْفِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعُمُومَ كُلَّهُ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ
إلَى تَفْسِيرٍ وَإِنَّ صُورَتَهُ صُورَةٌ تُوجِبُ التَّعْلِيقَ بِمَا ، يَرِدُ
مِنْ الْبَيَانِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَاَلَّذِي حَصَلَ مِنْ هَذَا
الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهٍ فَلَا
إجْمَالَ فِيهِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ فِيهِ إنْ
كَانَ مُرَادُهُ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَى اللَّفْظُ وُجُوبَهُ وَاسْتِعْمَالَ
حُكْمِهِ ، وَأَنَّ الْمُجْمَلَ عِنْدَهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي لَا
يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلَى وَجْهٍ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى
الْبَيَانِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ
وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ
عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي
فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا
.
وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَالَ الزَّوْجُ كَذَلِكَ
أَرَدْت وَقَعَتْ وَاحِدَةً فَجَعَلُوا لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِأَقَلِّ مَا
يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ وَجَعَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا
لِلثَّلَاثِ لَوْلَا ذَلِكَ مَا عَمِلَتْ النِّيَّةُ فِي إرَادَتِهَا لِأَنَّ
النِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إيقَاعِ طَلَاقٍ لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ
.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِيمَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ
فِي التَّزْوِيجِ : أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي ( تَزْوِيجَ ) امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا
أَكْثَرَ مِنْهَا فَإِنْ زَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ ( وَاحِدٍ ) لَمْ
يَصِحَّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ وَاحِدَةً
مِنْهُمَا وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْأُخْرَى فَتَحْصُلُ الْمَنْكُوحَةُ الْمَأْذُونُ
فِي نِكَاحِهَا مَجْهُولَةً وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ. وَقَالُوا : فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى
عَنَيْت امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ
الْأَمْرِ
يَصْلُحُ لِمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ كَانَ
ظَاهِرُهُ إنَّمَا اقْتَضَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا قَدْ يَتَنَاوَلُ صَلَاةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا .
فَلَمَّا كَانَ لِلِاحْتِمَالِ مَسَاغٌ فِي ذَلِكَ جَازَ
أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ الَّذِي يَجُوزُ
تَأْخِيرُ بَيَانِهِ .
وَمَتَى وَرَدَ فِيهِ الْبَيَانُ عَلِمْنَا أَنَّهُ
كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ وَلَيْسَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي أَقَلِّ
مَا يَتَنَاوَلُهُ وَيَقَعُ عَلَيْهِ بِمَانِعٍ ( مِنْ ) أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا
فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ مَعْنَى حُكْمٍ
مَعْلُومٍ مَفْهُومِ الْمِقْدَارِ وَمَعْنَى الْإِجْمَالِ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ
.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ رِجَالًا
بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْ
الثَّلَاثَةِ وَعَمَّا فَوْقَهَا فَقَدْ عَقَلْنَا مِنْ اللَّفْظِ ثَلَاثَةً وَمَا
زَادَ عَلَيْهَا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا زَادَ ( مَوْقُوفًا ) عَلَى بَيَانٍ
يَرِدُ فِيهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : قَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا
بَعْدَ سَنَةٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهَلَّا اسْتَعْمَلْته
فِيهِمْ وَمَنَعْت الْإِجْمَالَ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ الْإِجْمَالَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ
يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ قَدْ أَرَدْت بِالْإِعْطَاءِ ثَلَاثَةً
وَمَا
زَادَ عَلَيْهَا فَمَوْقُوفٌ الْحُكْمُ عَلَى الْبَيَانِ
، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَقِيت رِجَالًا فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ فِي
الْحَالِ اعْتِقَادُ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ وَيَجُوزُ وُرُودُ بَيَانٍ فِي الثَّانِي
بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ
الْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ عُمُومٍ فِي
الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بِاسْمٍ يَنْتَظِمُ جَمَاعَةً مِنْهُ
وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ الْفِعْلُ فَحَسْبُ وَالْمَفْعُولُ غَيْرُ مَذْكُورٍ
.
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَقَلَّ مَا أُرِيدَ بِهِ
صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ .
وَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِإِرَادَةِ أَكْثَرَ
مِنْهَا وَلَا نِهَايَةَ لِلْأَكْثَرِ فَكَانَ مُجْمَلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
.
وَأَمَّا لَفْظُ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِجَمِيعِ
مَا انْطَوَى تَحْتَهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ بِأَوْلَى ( بِهِ ) مِنْ بَعْضٍ
فَلِذَلِكَ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَالٌ إذْ لَا
إجْمَالَ ( فِيهِ ) .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
بَعْدَ سَنَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ الْمُرَادِ ثَلَاثَةٌ وَمَا عَدَاهُمْ فَهُوَ
مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ رِجَالَ الدُّنْيَا
كُلَّهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ ( بِهِ ) بَعْضَهُمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ
إجْمَالٌ لِمَا فَوْقَ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ
الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ ، وَلَوْ قَالَ أَعْطِ هَذَا رِجَالًا وَلَمْ
يُوَقِّتْ لَهُ وَقْتًا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ
هَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ
تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ
.
فَمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَفِي تَرْكِهِ
الْبَيَانَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ
فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ إعْطَاءُ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الْحَالِ وَلَا
يُمْكِنُهُ إنْفَاذُهَا فِي الْحَالِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
.
فَالثَّلَاثَةُ لَا مَحَالَةَ مُرَادَةٌ وَمَا زَادَ
فَهُوَ ( فِيهِ ) بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ مِنْهَا وَإِنْ شَاءَ
اقْتَصَرَ عَلَى
الثَّلَاثَةِ كَمَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَنْ
يُعَيِّنَهَا فِيمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُعْطَيْنَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ
التَّعْيِينَ .
وَمِمَّا يُشَاكِلُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ اللهِ
تَعَالَى { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ
} قَدْ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ كَوْنِهِمْ ثَلَاثَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا
أَكْثَرَ مِنْهَا وَيَحْتَمِلُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ
يُعْطِيَهَا ثَلَاثَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُتَيَقَّنَةٌ
وَالزِّيَادَةُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مُرَادَةٌ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ
لَا أُكَلِّمُك أَيَّامًا أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَعَلَى مَعْنَى
قَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا رِجَالًا قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } لَمَّا أَلْزَمَهُ تَنْفِيذَ
الْحُكْمِ فِي الْعَشَرَةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانِ
عَشَرَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِأَوْصَافٍ يَخُصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ
بَلْ هُوَ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ .
وَمَتَى وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَفْظٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ
الْإِطْعَامِ فِي عَشَرَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ عَشَرَةٍ مَخْصُوصِينَ
بِأَوْصَافٍ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ
مَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا تَرَاخَى عَنْ حَالِ لُزُومِ الْفَرْضِ
وَإِمْكَانِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّ هَذَا
اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ بَلْ ( هُوَ ) مُوجِبٌ لِإِعْطَاءِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
أَيَّ مَسَاكِينَ كَانُوا فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ
عَلَى مَا وَصَفْنَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا عَلَى حَسَبِ دَلَالَةِ
الْحَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لَا يَخْلُو (
مِنْ ) أَنْ يُرِيدَ بِهِ صَلَاةً مَعْهُودَةً قَدْ عَرَفُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَانْصَرَفَ
الْأَمْرُ إلَيْهَا فَتَنَاوَلَ جَمِيعَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ ( عَلَى شَرَائِطِهَا وَأَوْصَافِهَا الْمَعْهُودَةِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
هَذَا الْقَوْلُ إشَارَةً إلَى مَعْهُودٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ ) فَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ
إذْ كَانَ قَدْ أُرِيدَ بِهَا ( فِي ) الشَّرِيعَةِ مَعَانٍ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ
مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى
الْبَيَانِ .
وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ أَلْفَاظِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ
الْمَعْهُودَةِ لَهَا فَإِنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ
إلَى مَا اسْتَقَرَّتْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ مِنَّا إذَا قَالَ لِآخَرَ
صَلِّ الظُّهْرَ وَصُمْ رَمَضَانَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ مُرَادُ الْقَائِلِ
.
الْبَابُ السَّادِسُ عَشَرَ:فِي الْكَلَامِ الْخَارِجِ
عَنْ سَبَبٍ
فارغة
بَابٌ : حُكْمُ الْكَلَامِ الْخَارِجِ عَنْ سَبَبٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
كُلُّ كَلَامِ خَرَجَ عَنْ سَبَبٍ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا
لِلسَّبَبِ فَإِذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْ السَّبَبِ وَجَبَ اعْتِبَارُ حُكْمِهِ
بِنَفْسِهِ دُونَ سَبَبِهِ .
[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ السَّبَبَ وَ يَجْعَلُ
حُكْمَ السَّبَبِ مَقْصُوْرًا عَلَيْهِ وَ إِنْ كَانَ عُمُوْمًا فِيْ نَفْسِهِ، وَ
هَذَا عِنْدَنَا خَطَأٌ إِذَا لَمْ تَقُمِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوْبِ
الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى السَّبَبِ، وَ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ فَحُكْمُهُ
قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى إِزَالَتِهِ عَنْ مُوْجِبِهِ
وَ مُقْتَضَاهُ وَ لَيْسَ فِيْ كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى سَبَبٍ مَا يُوْجِبُ
تَخْصِيْصَهُ وَالِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهِ عَلَى سَبِبِهِ وَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ]
__________
لا يوجد في المطبوع لدى: جامع الفقه الإسلامي ينبغي
التأكد منه
لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى
بِإِنْزَالِهِ الْحُكْمَ بَيَانَ حُكْمِ السَّبَبِ وَحُكْمَ غَيْرِهِ عِنْدَ
وُجُودِ هَذَا السَّبَبِ كَمَا يَنْزِلُ حُكْمًا عَامًّا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ
تَقَدَّمَ .
فَإِذًا لَيْسَ فِي نُزُولِهِ عَلَى سَبَبٍ مَا يُوجِبُ
الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهِ .
فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّمَا خَصَّ
اللَّفْظَ وَأَزَالَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ .
وَقَدْ اعْتَبَرَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْنَا
إلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِأَقَاوِيلِهِمْ فِي كَثِيرٍ
مِنْ الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ عَلَى أَسْبَابٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى
: { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ
.
وَالْحُكْمُ عَامٌّ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي
الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْمِلَّةِ .
وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَوْمًا مُرْتَدِّينَ
مُحَارِبِينَ وَمِنْهُ آيَةُ الظِّهَارِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَوْسَ
بْنَ
الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ
أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَكَانَ عُمُومًا فِي
سَائِرِ النَّاسِ وَكَانَ سَبَبُ آيَةِ
الْقَذْفِ الْقَوْمُ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ
الصِّدِّيقَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ إنْ لَمْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً
عَلَى ( صِدْقِ ) مَقَالَتِهِمْ وَقَذْفِهِمْ وَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ
الْقَاذِفِينَ .
وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ السَّبَبُ
الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ
السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ .
كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَحْظُورًا
عَلَيْهِمْ أَنْ يُفْطِرُوا بَعْدَ النَّوْمِ لَيْلًا فَنَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ
قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَسَاقَ فِيهَا الْقِصَّةَ
وَالسَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَزَلَتْ ثُمَّ قَالَ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى قَوْله
تَعَالَى
{ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ
} وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ فِيمَنْ اخْتَانَ
نَفْسَهُ ، وَ ( فِي ) غَيْرِهِ
وَقَالَ تَعَالَى { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
} إلَى قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
} فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ وَسَبَبَ نُزُولِ ( هَذِهِ ) الْآيَةِ ثُمَّ كَانَ وُجُوبُ
الصَّدَقَةِ عَامًّا عَلَى مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ
.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ
مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ
اللهِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
} .
فَذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي أَبَاحَ تَرْكَ قِيَامِ
اللَّيْلِ مِنْ الْمَرَضِ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ، وَالْحُكْمُ عَامٌّ فِيمَنْ
هَذِهِ صِفَتُهُ وَفِي غَيْرِهِمْ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلِاسْمِ لَا لِلسَّبَبِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى سَبَبٍ
كَخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْجَوَابِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ
مَقْصُورًا عَلَى مَا صَارَ جَوَابًا عَنْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عِنْدَنَا عَلَى
هَذَا الْإِطْلَاقِ بَلْ ( هُوَ )
عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْهُ مَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ لَفْظَ عُمُومٍ
يَنْتَظِمُ مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ وَغَيْرَهُ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ
مَقْصُورًا عَلَى مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ جَارٍ
عَلَى اللَّفْظِ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ
عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ
.
وَالثَّانِي : هُوَ مَا ( لَا ) يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ
وَاقْتَصَرَ إلَى تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَى
الْجَوَابِ
نَظِيرُ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى { فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ
.
وقَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }
وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكْتَفِيَةِ بِنَفْسِهَا عَنْ تَضْمِينِهَا
بِغَيْرِهَا مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا هِيَ جَوَابٌ عَنْهُ
.
وَعَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا مَقْصُورًا
عَلَى الْجَوَابِ .
وَنَظِيرُ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا لَا
يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } ( فَقَوْلُهُمْ
نَعَمْ ) ، لَا يُفِيدُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ فَصَارَ مَعْنَاهُ مُطَابِقًا
لِمَا
هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ لَا زَائِدًا وَلَا نَاقِصًا
وَصَارَ الْجَوَابُ مُضْمَرًا فِيهِ وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ
قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } إنَّهُ عُمُومٌ
فِي كُلِّ مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ عَامِدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمَيْتَةِ حِينَ جَادَلَ الْمُشْرِكُونَ
الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا لَهُمْ تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ فَلَمْ نَعْتَبِرْ السَّبَبَ وَأَجْرَيْنَا
الْحُكْمَ عَلَى اللَّفْظِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ
رَسُولُ اللهِ إنِّي أَرَى الشَّيْءَ فِي السُّوقِ ثُمَّ يَطْلُبُهُ مِنِّي
طَالِبٌ فَأَبِيعَهُ ثُمَّ أَشْتَرِيهِ فَأُسْلِمَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبِعْ مَا
لَيْسَ عِنْدَك } فَهَذَا عُمُومٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ لِمَا لَيْسَ عِنْدَ
الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ
فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا
.
وَقَدْ يَجِيءُ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ
مَقْصُورًا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا
يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ كَمَا يَخُصُّ سَائِرَ الْعُمُومِ
بِالدَّلَائِلِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ
إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } عُمُومُهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ (
هُنَاكَ ) شَيْءٌ مُحَرَّمٌ غَيْرُ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إلَّا أَنَّهُ
لَمَّا رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِيمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَهُ
مِنْ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ صَارَ تَقْدِيرُهُ { قُلْ لَا أَجِدُ
فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ إلَّا كَيْتَ وَكَيْتَ
.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ
قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَاهُنَا أَشْيَاءَ أُخَرَ مُحَرَّمَةٌ غَيْرُ مَا
ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَا يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ
الْمَحَايِضِ وَلُحُومِ الْكِلَابِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا كَانَ حَالُهُ
حَالَ هَذَا الْبِئْرِ فَهَذَا حُكْمُهُ .
لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ عُمُومَ
الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ لُحُومُ الْكِلَابِ وَالْمَحَايِضُ
.
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْبِئْرَ كَانَ يُطْرَحُ
فِيهَا ذَلِكَ ثُمَّ نُظِّفَتْ فَأُخْرِجَ مَا فِيهَا { فَسُئِلَ عَنْ الْمَاءِ الْحَادِثِ بَعْدَ النَّزْحِ وَالتَّطْهِيرِ فَقَالَ
أَنَّهُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } .
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا رِبَا إلَّا
فِي النَّسِيئَةِ } وَهُوَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجِنْسَيْنِ مُتَفَاضِلًا
فَقَالَ إنَّمَا الرِّبَا فِي مِثْلِهِ فِي النَّسِيئَةِ } .
وَمَتَى كَانَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنْ السُّؤَالِ
فَالْحُكْمُ لَهُ لَا لِلسُّؤَالِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } فَقَوْلُهُ مَاذَاأُحِلَّ
لَهُمْ سُؤَالٌ أَعَمُّ مِنْ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ
يَنْتَظِمُ الْجَوَابَ وَغَيْرَهُ وقَوْله تَعَالَى : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ
الطَّيِّبَاتُ } يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -
الْحَلَالَ الَّذِي قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } ، وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ
السُّؤَالِ .
وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ { عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ
فَقَالَ لَك مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ } فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا
سَبِيلَهُ اعْتِبَارُ عُمُومٍ مِنْ السُّؤَالِ فِي الْإِبَاحَةِ بَلْ يَجِبُ
اعْتِبَارُ لَفْظِ الْجَوَابِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ
مُتَعَلِّقًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ
غَيْرَهُ بِمَثَابَتِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ .
فارغة
الْبَابُ السَّابِعُ عَشَرَ:فِيْ حَرْفِ النَّفْيِ مَا
حُكْمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَى الْكَلَامِ ؟ .
فارغة
بَابٌ حَرْفُ النَّفْيِ مَا حُكْمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَى
الْكَلَامِ ؟ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
حَرْفُ النَّفْيِ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ
وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْأَصْلِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا
لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } وقَوْله تَعَالَى { فَالْيَوْمُ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ
فِدْيَةٌ } ، وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } وَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } ، وَ { لَا صَلَاةَ
إلَّا بِقِرَاءَةٍ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ مَعَ بَقَاءِ
الْأَصْلِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { إنَّهُمْ لَا
أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { أَلَا
تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } فَنَفَاهَا بَدْءًا ثُمَّ أَثْبَتَهَا ثَانِيًا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِهِ
نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ يَعْنِي
لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً يَفُونَ بِهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } ،
وَ { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } ، وَ { لَا
وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ } وَ { لَا دِينَ لِمَنْ لَا
أَمَانَةَ لَهُ } .
وَنَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
لَوْ كُنْتَ مِنْ أَحَدٍ يُهْجَى هَجَوْتُكُمْ*** يَا
بْنَ الرِّقَاعِ وَلَكِنْ لَسْتَ مِنْ أَحَدِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَوَدَّ نَفْيَهُ عَنْ أَنْ
يَكُونَ مُتَّسِمًا بِذَلِكَ وَمَعْدُودًا مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ
أَحَدُهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ لَسْتَ مِنْ أَحَدٍ يُؤْبَهُ لَهُ وَيُعْتَدُّ بِهِ
.
فَقَدْ ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ
قَدْ يُنْفَى بِهِ الْأَصْلُ تَارَةً وَالْكَمَالُ أُخْرَى مَعَ ثَبَاتِ الْأَصْلِ
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ
إذَا أَرَادَ نَفْيَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ وَمَتَى أَرَادَ
إيجَابَ النَّقْصِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ فَقَدْ دَلَّ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّ
شَيْئًا مِنْهُ قَدْ ثَبَتَ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ كَامِلٍ وَهَذَا لَا
يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ .
لِأَنَّا مَتَى قُلْنَا إنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ نَاقِصَةٌ فَقَدْ
أَثْبَتْنَا مِنْهَا شَيْئًا نَاقِصًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ مَا
لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنُّقْصَانِ إذْ كَانَ النُّقْصَانُ هُوَ فَوَاتَ
الْبَعْضِ مَعَ ثَبَاتِ الْأَصْلِ .
فَثَبَتَ
بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ
الْأَمْرَانِ جَمِيعًا مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ فِي حَالٍ
وَاحِدَةٍ .
ثُمَّ مَا بَعْدَ هَذَا مِنْ حُكْمِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ
لِلْأَمْرَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْآخَرِ
.
وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا فَغَيْرُ
جَائِزٍ الْحُكْمُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا
بِدَلَالَةٍ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ
الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَظِمَهَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ
نَحْوُ الْقُرْءِ الْمُحْتَمِلِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَنَظَائِرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ
.
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِنَفْيِ الْأَصْلِ
أَوْلَى مِنْهُ بِنَفْيِ الْكَمَالِ وَإِنَّمَا الْحَمْلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ
بِدَلَالَةٍ .
قَالُوا لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ نَفْيُ مَا يَدْخُلُ
عَلَيْهِ فَيَنْفِي جَمِيعُهُ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْضِ
بِدَلَالَةٍ .
وَ ( قَدْ ) قَالَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ } إنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ
الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ
صِحَّتَهُ لَمْ يَخْلُ الْحَدِيثُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ وَهْمًا أَوْ
لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَرْطِ الْوُضُوءِ
لَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ كَنَقْلِهَا الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا
وَلَأَمَرُوا مَنْ لَمْ يُسَمِّ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَدَلَّ قَوْلُهُ أَنَّ لَهُ
مَعْنًى غَيْرَ الظَّاهِرِ ( إذْ ) الَّذِي ( يَقْتَضِيهِ ) ظَاهِرُ اللَّفْظِ
هُوَ
نَفْيُ الْأَصْلِ ، وَ ( أَنَّهُ ) إنَّمَا صَارَ إلَى نَفْيِ
الْكَمَالِ بِدَلَالَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا ،
لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ الْفِعْلِ
يَقْتَضِي نَفْيَهُ رَأْسًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } وقَوْله تَعَالَى { وَلَا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } وَهَذَا ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مِنْ
اللَّفْظِ فِي دُخُولِهِ عَلَى الِاسْمِ أَيْضًا كَقَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ ( وَلَا حَوْلَ ) وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وقَوْله تَعَالَى {
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } ، وَ { لَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } ، وَ { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى
حَرَجٌ } قَدْ اقْتَضَى نَفْيَ جَمِيعِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ إلَّا مَا
اُسْتُثْنِيَ .
مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ السَّامِعُ فِي الْوُصُولِ إلَى
الْعِلْمِ بِوُقُوعِ نَفْيِ الْأَصْلِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ
اللَّفْظِ .
وَكَذَلِكَ عُقِلَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ فِي
الدَّارِ أَحَدٌ وَلَيْسَ عِنْدَ فُلَانٍ مَالٌ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ إذَا
أُطْلِقَ اقْتَضَى نَفْيَ الْجَمِيعِ وَلَا يَحْتَاجُ السَّامِعُ ( لَهُ ) إلَى
اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ فِي إرَادَةِ نَفْيِ الْكَمَالِ أَوْ الْأَصْلِ بَلْ الْمَفْهُومُ
مِنْهُ نَفْيُ الْأَصْلِ .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ
وَمَوْضُوعُهُ النَّفْيَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْجَمِيعِ أَوْلَى بِهِ
حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ نَفْيِ الْبَعْضِ كَلَفْظِ الْعُمُومِ
وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمَعَانِي تَقْتَضِي إفَادَةَ جَمِيعِ
مَا وُضِعَ لَهُ وَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْهُ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى
إرَادَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ.
فارغة
الْبَابُ الثَّامِنُ عَشَرَ: فِي الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْحَقِيقَةُ
وَالْمَجَازُ .
فَالْحَقِيقَةُ مَا سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ فِي أَصْلِ
اللُّغَةِ وَمَوْضُوعِهَا
وَالْمَجَازُ ( هُوَ ) مَا يَجُوزُ بِهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ لَهُ فِي الْأَصْلِ
وَسُمِّيَ بِهِ مَا لَيْسَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ
نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحُدُّ
ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا لَا يَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ بِحَالٍ
.
وَالْمَجَازُ مَا يَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ بِحَالٍ
.
نَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَا الْجَدَّ أَبًا
وَالْأَبَ الْأَدْنَى أَبًا فَإِنَّ اسْمَ الْأَبِ قَدْ يَنْتَفِي عَنْ الْجَدِّ
بِحَالٍ بِأَنْ نَقُولَ لَيْسَ هَذَا بِأَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَنْتَفِي
ذَلِكَ عَنْ الْأَبِ الْأَدْنَى .
وَالْمَجَازُ عَلَى وُجُوهٍ:
مِنْهَا : إطْلَاقُ
اللَّفْظِ مَعَ حَذْفِ كَلِمَةٍ يُرِيدُهَا وَلَمْ يَلْفِظْ بِهَا كَقَوْلِهِ
تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَمَعْنَاهُ: أَوْلِيَاءَ اللهِ فَحَذَفَ الْأَوْلِيَاءَ وَهُوَ يُرِيدُهُمْ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى
وَلَا
الْمَنَافِعُ ، وَ ( لَا ) الْمَضَارُّ وَنَحْوُ قَوْله
تَعَالَى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } وَمَعْنَاهُ ( وَ )
اسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَكَانَتْ الْقَرْيَةُ
هِيَ الْمَسْئُولَةَ ، وَمُحَالٌ مَسْأَلَةُ الْجُدْرَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ يُسَمَّوْنَ
قَرْيَةً إذَا كَانُوا فِيهَا .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ مَتَى أَشَرْنَا
إلَى رِجَالٍ فِي الْقَرْيَةِ أَنْ نَقُولَ هَؤُلَاءِ قَرْيَةٌ نُرِيدُ بِهِ
الرِّجَالَ دُونَ الْبُنْيَانِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ إطْلَاقًا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ
( وَلَكَانَ جَائِزًا ) أَنْ يُسَمَّى هَؤُلَاءِ
الرِّجَالُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْقَرْيَةِ فَنَقُولُ إنَّهُمْ قَرْيَةٌ
لِأَنَّ الِاسْمَ لَهُمْ حَقِيقَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْفِي الْمَجَازَ وَأَنْ لَا
يَمْنَعَ خُرُوجُهُمْ مِنْهَا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ قَرْيَةٌ كَمَا لَا
يَمْنَعُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ رِجَالٌ حَيْثُ كَانُوا فَدَلَّ
امْتِنَاعُ إطْلَاقِ اسْمِ الْقَرْيَةِ عَلَى جَمَاعَةِ رِجَالٍ أَنَّ الْقَرْيَةَ
لَا تَكُونُ اسْمًا لِلرِّجَالِ بِحَالٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ
} اقْتَضَى إضْمَارَ أَهْلِهَا.
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ ( حَرْفِ لَيْسَ )
مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وَمُرَادُهُ لَيْسَ مِثْلُهُ
شَيْءٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ
عَنْ مِثْلِهِ إذْ هُوَ ( تَعَالَى ) لَا مِثْلَ لَهُ فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ
نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهُ رَأْسًا وَأَنَّ مَعْنَاهُ ( أَنْ ) لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
.
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثِّفِيْنَ
وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
كَنِصْفِ الْجَفْنَةِ وَالْكَافُ زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
.
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِوَضْعِ ( لَفْظٍ ) مَكَانَ
غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَقُولَ
نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللهِ يُعَبَّرُ عَنْ الْأَمْرِ بِالْجَنْبِ ، وَقَالَ
تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ ( خَلِيلِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ) {
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } وَأَرَادَ بِهِ الثَّنَاءَ
الْحَسَنَ فَعَبَّرَ عَنْ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يَكُونُ
مِنْ الْعِبَادِ وَقَالَ تَعَالَى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } يَعْنِي لُغَةً
لِأَنَّ اللُّغَةَ بِاللِّسَانِ تَظْهَرُ .
{ وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَطَبَنِي أَبُو الْجَهْمِ فِي جُمْلَةِ مَنْ
خَطَبَهَا فَقَالَ أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ لَا يَضَعُ عَصَاهُ
عَنْ عَاتِقِهِ } يَعْنِي أَنَّهُ يَضْرِبُ النِّسَاءَ فَجَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ
عِبَارَةً عَنْ الضَّرْبِ وَقَدْ عُقِلَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ
بِضَرْبِ النِّسَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
سَاقٍ } يَعْنِي عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ مَنْ عَنِيَ أَمْرًا عَظِيمًا
شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ .
وَمِنْهُ مَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فَيُحْذَفُ
حَرْفُ التَّشْبِيهِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ
بِالْمُرَادِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } وَالْمَعْنَى
أَنَّهُمْ كَالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا
سَمِعُوا وَأَبْصَرُوا .
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ :
فَإِنَّك شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ*** إذَا
طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
يَعْنِي أَنَّك كَالشَّمْسِ .
وَقَالَ آخَرُ :
وَكُنَّا حَسَبْنَا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً***
لَيَالِيَ لَاقَيْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا
فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ***
بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تَكَسَّرَا
سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهِ***
وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا .
فَقَالَ: كُنَّا حَسَبْنَا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً
فَهُمْ مَا حَسِبُوا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً قَطُّ .
وَالْمَعْنَى مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ
وَكُنَّا كَمَنْ حَسِبَ كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً فِي إقْدَامِنَا عَلَى قِتَالِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ ( وَ ) طَمِعْنَا
فِيهِمْ وَاسْتِهَانَتُنَا بِأَمْرِهِمْ.
ثُمَّ: قَالَ قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ
بِبَعْضٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَعُوا النَّبْعَ
بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ ذَلِكَ قَطُّ وَإِنَّمَا أَرَادَ
أَنَّا لَمَّا قَارَعْنَاهُمْ وَجَالَدْنَاهُمْ ثَبَتُوا لَنَا تَشْبِيهًا
بَعِيدَانِ النَّبْعِ إذَا قُرِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا تَنْكَسِرُ
لِصَلَابَتِهَا
ثُمَّ قَالَ: سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا
بِمِثْلِهِ
وَمَا كَانَ هُنَاكَ كَأْسٌ وَلَا سَقْيٌ وَإِنَّمَا
أَرَادَ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَقَتَلُوا مِنَّا
وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
يَعْنِي أَجْرَأَ مِنَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يَعْنِي فَمَا أَجْرَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا
صَبْرَ لِأَحَدٍ عَلَى عَذَابِ اللهِ تَعَالَى فَذَكَرَ الشَّاعِرُ هَذِهِ
الْأَلْفَاظَ وَهِيَ مَجَازٌ وَهِيَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَجَيِّدِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ
مِنْ الْحَقِيقَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَمِنْهُ أَنْ يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ
عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي
الْحَقِيقَةِ اسْمَهُ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ إذَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ هَذَا
الْوَجْهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } .
وَلَيْسَ ( ذَلِكَ مِنْ اللهِ اسْتِهْزَاءً ) فِي
الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ حِينَ أَخْبَرَ عَنْ جَزَاءِ الِاسْتِهْزَاءِ سَمَّاهُ
بِاسْمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }
وَالْجَزَاءُ لَيْسَ تَشْبِيهًا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ
فِي مُقَابَلَتِهَا وَمُسْتَحَقَّةً مِنْ أَجَلِهَا .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ
وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِجَزَاءٍ فَسَمَّاهُ بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ
.
وَمِمَّا يُسَمَّى بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ
أَوْ لِأَنَّهُ ( مِنْهُ ) بِسَبَبِ
قَوْلِهِمْ لِلْمَزَادَةِ ( وَ ) السِّقَاءِ رَاوِيَةٌ وَالرَّاوِيَةُ اسْمٌ
لِلْجَمَلِ الَّذِي يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ :
تَمْشِي مِنْ الرِّدَّةِ مَشْيَ الْجَفْلِ*** مَشْيَ
الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الْأَثْقَلِ
سُمِّيَتْ بِاسْمِ الْجَمَلِ لِلْمُجَاوَرَةِ
.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلشَّاهِ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ
حَلْقِ رَأْسِ الصَّبِيِّ عَقِيقَةٌ .
وَالْعَقِيقَةُ اسْمٌ لِلشَّعْرِ نَفْسِهِ فَسُمِّيَتْ
الشَّاةُ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ( هُوَ ) سَبَبَهَا .
وَمِنْهُ الْغَائِطُ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ
الْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْضِ وَكَانُوا يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي مِثْلِهِ
فَسُمِّيَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِهِ لِقُرْبِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى
جِهَةِ الْكِنَايَةِ .
وَمِنْهُ الْجِمَاعُ كُنِّيَ عَنْهُ بِاللَّمْسِ ( وَ )
بِالدُّخُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي اللُّغَةِ وَرُبَّمَا
كَانَ الْمَجَازُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ وَأَحْسَنَ مِنْ اسْتِعْمَالِ
الْحَقِيقَةِ فِيهِ وَهَذَا مَا لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ
بِشَيْءٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَضَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ كُتُبًا فِي
الْمَجَازِ وَقَالُوا هَذَا ( اللَّفْظُ ) مَجَازٌ وَهَذَا حَقِيقَةٌ مَشْهُورٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ (مُتَعَارَفٌ
) مُتَعَالَمٌ بَيْنَهُمْ .
وَرُبَّمَا سُمِّيَ الشَّيْءُ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ اسْمًا لَهُ بِحَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَعْتَبِرُ الْمُخَاطَبُ بِهِ لِأَنَّ
فِي زَعْمِهِ كَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَانْظُرْ إلَى إلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } يَعْنِي الَّذِي
فِي زَعْمِك أَنَّهُ إلَهُك وقَوْله تَعَالَى { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ
آلِهَتُهُمْ } يَعْنِي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ بِأَنَّهُمْ آلِهَتَهُمْ ،
وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { ذُقْ إنَّك أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } يَعْنِي إنَّك كُنْت فِي زَعْمِك كَذَلِكَ
.
وَقَدْ أَبَى بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ( ذَلِكَ )
بِغَيْرِ دِرَايَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي اللُّغَةِ اسْتِعَارَةٌ
وَأَجَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ
فَمَنَعَ لَفْظَ الِاسْتِعَارَةِ وَأَعْطَى الْمَعْنَى وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ
هُوَ الْآخِذُ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي كَلَامِ
اللهِ تَعَالَى .
فَيُقَالُ لَهُ : فَقَدْ أَعْطَيْتنَا أَنَّ فِي
الْقُرْآنِ مَا أُطْلِقَ ( عَلَى ) جِهَةِ التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ
التَّحْقِيقُ فَكَأَنَّك إنَّمَا خَالَفْتنَا فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى
وَالْمُضَايَقَةُ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ الْمُدَافَعَةِ عَلَى الْمَعْنَى لَا
وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِهَا .
وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي ذَلِكَ إنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ
الِاسْتِعَارَةِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا
لَفْظَةً حَقِيقَةً فِي مَوْضِعٍ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ
الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ سَمَّوْهُ مَجَازًا تَارَةً وَاتِّسَاعًا
أُخْرَى ( وَاسْتِعَارَةً أُخْرَى ) لِيُفِيدُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ إطْلَاقُهُ
عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ
إفْهَامًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَسَمَّوْهُ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ
لِغَيْرِهِ فِي الْأَصْلِ وَسُمِّيَ هَذَا بِاسْمِهِ وَلَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى اسْتَعَارَ شَيْئًا لِأَنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، وَهُوَ
الَّذِي عَلَّمَ النَّاسَ اللُّغَاتِ ( وَهَدَاهُمْ إلَيْهَا ) .
وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } .
وَقَالَ { إنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وَكَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا ذَكَرْنَا
مِنْ وُجُوهِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَاتِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ خَاطَبَنَا
بِمَا فِي لُغَتِهَا مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ سَمَّوْا
ذَلِكَ اسْتِعَارَةً بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ اسْتَعَارَ
شَيْئًا وَلَكِنَّهُ خَاطَبَنَا بِمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ فِي اللُّغَةِ وَمَجَازٌ
وَاتِّسَاعٌ فِيهَا لَا عَلَى حَقِيقَةِ مَوْضُوعِهَا فِي الْأَصْلِ ، وَالْأَصْلُ
فِي أَلْفَاظِ الْمَجَازِ أَنَّ طَرِيقَهَا السَّمْعُ وَمَا وَرَدَ مِنْهَا فِي
اللُّغَةِ ، وَلَيْسَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى بِهَا مَوَاضِعَهَا الَّتِي تَكَلَّمَتْ
الْعَرَبُ بِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ
إنَّ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ اللَّهَ وَيَقْتُلُونَ اللَّهَ وَيُرِيدُ ( بِهِ )
يَضْرِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ وَيَقْتُلُونَ أَوْلِيَاءَهُ لِأَنَّ فِي كِتَابِ
اللهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ } وَمُرَادُهُ يُؤْذُونَ
أَوْلِيَاءَ ( اللهِ ) فَلَا يُسْتَعْمَلُ الْمَجَازُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ
الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحُكْمُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى
الْحَقِيقَةِ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ .
وَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ
الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ أَوْ
الِاتِّفَاقِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ
تَكَلَّمَتْ بِمَا سَمَّيْته مَجَازًا وَبِالْحَقِيقَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ
كَلَامِهَا فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ مَا
سَمَّيْته حَقِيقَةً إنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكَلَّمَتْ بِهِ
.
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَكُنْ الْحَقِيقَةُ حَقِيقَةً
لِأَنَّ الْعَرَبَ إنْ تَكَلَّمَتْ بِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَتْ بِهِ
عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ثُمَّ تَجَاوَزَتْ ذَلِكَ فَسَمَّتْ بِهِ
مَا لَيْسَ الِاسْمُ لَهُ فِي الْأَصْلِ تَشْبِيهًا بِهِ وَاتِّسَاعًا فِي
لُغَتِهَا ( وَ ) اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ
فَلَمْ تُسَمِّ ذَلِكَ حَقِيقَةً .
فَأَفَدْنَا بِقَوْلِنَا حَقِيقَةً أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ
فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَسُمِّيَ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي سَائِرِ
الْأَحْوَالِ وَيُفِيدُ بِقَوْلِنَا مَجَازًا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ غَيْرِهِ
فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ لَا ( نَتَعَدَّى بِهَا ) مَوَاضِعَهَا وَلَا يَجْرِي
عَلَى غَيْرِهَا وَإِنْ شَارَكَتْ الْأَوَّلَ فِي مَعَانِيهِ فَإِنْ كُنْت إنَّمَا
أَنْكَرْت اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى فَإِنَّا لَا نُضَايِقُك فِي اللَّفْظِ
سَمِّهِ أَنْتَ بِمَا شِئْت بَعْدَ أَنْ تُوَافِقَ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كُنْت
إنَّمَا خَالَفْت ( بِهِ ) فِي الْمَعْنَى رَدَدْنَاك إلَى اللُّغَةِ وَأَرَيْنَاك
صِحَّةَ مَا ادَّعَيْنَاهُ فِيهَا بِمَا لَا يُمْكِنُك دَفْعُهُ مَتَى أَنْصَفْت
نَفْسَك وَحَكَّمْت عَقْلَك وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا وَذِكْرُ جَمِيعِهِ
يَعْجِزُ عَنْهُ الْكِتَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَقَدْ يَكُونُ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَتَنَاوَلُ ضِدَّيْنِ
عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ
يَتَنَاوَلَهُمَا وَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ
.
وَقَدْ ذَكَرَ قُطْرُبٌ النَّحْوِيُّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
مِنْ هَذَا نَحْوُ الْجَوْنِ أَنَّهُ اسْمٌ ( لِلْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ )
وَالْمَسْجُورُ اسْمٌ لِلْفَارِغِ وَالْمَلْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
.
( وَ ) مِمَّا يَكُونُ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا
حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ نَحْوُ الْقُرْءِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِلْحَيْضِ مَجَازٌ لِلطُّهْرِ
وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ وَقَدْ أَبَى بَعْضُ أَهْلِ
اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ
مُتَضَادَّيْنِ وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْهَذَيَانِ
لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ
مِنْ أَنْ يُمْكِنَ أَحَدًا دَفْعُهُ وَإِنَّمَا
تَنَاوَلَ هَذَا الرَّادُّ عَلَى قُطْرُبٍ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى
مَعَانٍ بَعِيدَةٍ مُتَعَسِّفَةٍ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ ) يَقُولُ فِي اللَّفْظِ
الْمَوْضُوعِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا
جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي أَضْعَافِ مَا سَلَفَ مِنْ
هَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَّا قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَمَتَى وَرَدَ لَفْظٌ
يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .
فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا احْتَجْنَا إلَى
دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا
وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ بِأَوْلَى ( بِهِ ) مِنْ الْآخَرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا
بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ
كَانَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ.
الْبَابُ التَّاسِعُ عَشَرَ: فِي الْمُحْكَمِ
وَالْمُتَشَابِه
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
كَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ
الْمُحْكَمُ ( مَا ) لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا
يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا .
وَسَبِيلُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى
الْمُحْكَمِ وَيُرَدَّ إلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْفِقْهِ كَثِيرٌ نَحْوُ قَوْله
تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } قُرِئَ
بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ .
، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ احْتَمَلَ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَقْدَ الْيَمِينِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
اعْتِقَادَ الْقَلْبِ بِأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا إلَى الْيَمِينِ فَيَكُونَ
تَقْدِيرُهُ لِمَا قَصَدْتُمُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ .
وَتَقْدِيرُ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ ، هِيَ الَّتِي تُعْقَدُ عَلَى حَالٍ مُسْتَقْبَلَةٍ
فَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقِرَاءَةُ
التَّخْفِيفِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ .
فَوَجَبَ حَمْلُ مَا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا لَا
يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ
فِي قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ وَأُمُّ
الشَّيْءِ هِيَ مِنْهَا ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهَا مَرْجِعُهُ .
قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ
:
الْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا*** فِيهَا
مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُوأَدُ
فَسَمَّاهَا أُمًّا لَنَا مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْهَا
ابْتِدَاءُ خَلْقِنَا وَإِلَيْهَا مَرْجِعُنَا .
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { حَتَّى
يَطْهُرْنَ } قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَمَنْ قَرَأَهَا
بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ انْقِطَاعَ الدَّمِ لَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ غَيْرَهُ
وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِانْقِطَاعِ الدَّمِ ؛
لِأَنَّهُ يُقَالُ طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ وَتَطَهَّرَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ
فَاحْتَمَلَ أَيْضًا الِاغْتِسَالَ فَلَمَّا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ
حَمْلُهُ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ انْقِطَاعُ الدَّمِ
.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ
أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } إنَّ
قِرَاءَةَ النَّصْبِ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا عَطْفَهَا عَلَى الْغَسْلِ وَقِرَاءَةَ
الْخَفْضِ تَحْتَمِلُ عَطْفَهَا عَلَى الْغَسْلِ وَتَكُونُ مَخْفُوضَةً بِالْمُجَاوَرَةِ
وَيُحْتَمَلُ ( عَطْفُهَا ) عَلَى الْمَسْحِ .
فَلَمَّا احْتَمَلَتْ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ وَجْهَيْنِ
وَلَمْ تَحْتَمِلْ قِرَاءَةُ النَّصْبِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ
تَكُونَ قِرَاءَةُ مَعْنَى الْخَفْضِ مَحْمُولَةً عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ
فَتَكُونُ الرِّجْلُ مَغْسُولَةً .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : ذَكَرْت أَنَّ الْمُتَشَابِهَ
مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ وَالْمُحْكَمَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ }
فَسَمَّى الْجَمِيعَ مُتَشَابِهًا وَلَيْسَ الْجَمِيعُ
مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوهِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ بَعْضَهُ
مُتَشَابِهٌ فِي قَوْله تَعَالَى { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فَجَعَلَ الْبَعْضَ مُتَشَابِهًا
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { كِتَابًا مُتَشَابِهًا } أَنَّ
بَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَالَ مَثَانِيَ وَإِنَّمَا بَعْضُهُ مَثَانِي لَا
جَمِيعُهُ وَهِيَ سُوَرٌ مَعْدُودَةٌ .
وَقِيلَ إنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا
تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُك }
وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ
كَسِنِي يُوسُفَ } وَإِنَّمَا أَرَادَ كُفَّارَ مُضَرَ دُونَ مُؤْمِنِيهِمْ
.
وَأَيْضًا : يُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِقَوْلِهِ مُتَشَابِهًا أَيْ مُتَمَاثِلًا غَيْرَ مُخْتَلِفِ الْمَعْنَى
اخْتِلَافَ تَضَادٍّ وَإِنْ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا } يَعْنِي اخْتِلَافَ التَّضَادِّ وَلَيْسَ
ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ بَلْ كُلُّهُ مُتَّفِقُ الْمَعْنَى فِي
الْإِتْقَانِ .
وَالْحِكْمَةُ وُجْهَةُ الدَّلَالَةِ وَيَكُونُ قَوْله
تَعَالَى { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ( مَعْنَاهُ )
مُتَشَابِهَاتٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُحْكَمَ مِنْ وَجْهٍ
وَيُشْبِهُ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ ( فَيَجِبُ ) حِينَئِذٍ حَمْلُهُ عَلَى مَا
يُوَافِقُ الْمَعْنَى وَيُشْبِهُهُ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا
الِاعْتِبَارُ فِي كُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي ذِكْرِ
صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ
مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا
مَعْنًى وَاحِدًا وَكَذَلِكَ مَا احْتَمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ
وَأَحَدُهُمَا يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ ، وَالثَّانِي لَا يُجَوِّزُهُ فَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ ( دُونَ مَا لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ الْعَقْلَ
أَصْلٌ ، وَهُوَ حُجَّةُ اللهِ تَعَالَى يَجِبُ بِهِ اعْتِبَارُ مَا يَجُوزُ
مِمَّا لَا يَجُوزُ .
فارغة
الْبَابُ الْعِشْرُوْنَ: فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ
وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي ( الْعَامِّ وَالْخَاصِّ )
وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
إذَا وَرَدَتْ آيَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ حُكْمًا
وَوَرَدَتْ آيَةٌ خَاصَّةٌ تُوجِبُ حُكْمًا بِضِدِّ مُوجَبِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ
فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ
:
فارغة المتن
أَمَّا أَنْ يُعْلَمَ وُرُودُ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ
بَعْدَ اسْتِقْرَارِ ( حُكْمِ الْعَامَّةِ ) وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ
يُعْلَمَ نُزُولُ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا ثُمَّ نُزُولِ
الْآيَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهَا .
أَوْ يَعْلَمُ وُرُودُهُمَا مَعًا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا
بِبَعْضٍ كَاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ .
أَوْ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا
.
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلِ : أَنْ يَكُونَ
الْعُمُومُ مُتَقَدِّمًا وَيَرِدَ الْخُصُوصُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ
وَالتَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ لِبَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ
بِقَدْرِ مَا قَابَلَهُ مِنْهُ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِأَنَّ
التَّخْصِيصَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَصَّ مِنْهُ لَمْ
يَكُنْ مُرَادًا بِلَفْظِ الْعُمُومِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُ
مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا
هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرِدُ لَفْظُ
التَّخْصِيصِ " ( الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ
) بِضِدِّهِ ( إلَّا ) عَلَى وَجْهِ نَسْخِ ذَلِكَ
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا عَلَى
قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ بِدَلَالَةِ أَنَّ { هِلَالَ بْنَ
أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ
وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالَ بْنَ
أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ } فِي الْمُسْلِمِينَ .
{ وَقَالَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ: أَرَأَيْتُمْ
لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ
جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ اللِّعَانِ } فَنُسِخَ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِ
الزَّوْجَاتِ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ نَسْخٌ لَيْسَ
بِتَخْصِيصٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى قَدْ
أُرِيدَ بِهَا عُمُومُ الْحُكْمِ وَقْتَ وُرُودِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ
الْمُسَمَّيَاتِ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ ( فِيهِ ) إلَّا
مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْعُمُومِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقْتَضَى
لَفْظِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ ( بِهِ ) لِجَهْلِهِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَجُوزُ
.
وَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْخُصُوصِ وَاسْتَقَرَّ
حُكْمُهُ ثُمَّ وَرَدَ الْعُمُومُ بِضِدِّ مُوجَبِ حُكْمِ الْخُصُوصِ فَإِنَّ
ذَلِكَ عِنْدَنَا يُوجِبُ نَسْخَ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْخُصُوصِ مِنْ
الْحُكْمِ مَتَى لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ
مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ ( وَكَذَا ) كَانَ يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا
وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى "
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً " مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ .
وَقَالَ مُخَالِفُنَا بِتَرْتِيبِ الْعُمُومِ
وَبِنَائِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا : إنَّ
الْعُمُومَ حُكْمُهُ فِيمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ وَهُوَ فِيمَا وَصَفْنَا مُوجِبٌ
لِنَفْيِ حُكْمِ الْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَهُ
وَلِغَيْرِهِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُهُ فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا
تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْخُصُوصِ ( وَذِكْرُ
غَيْرِهِ مَعَهُ لَا يَنْفِي أَنْ ) يَكُونَ ( مَا قَابَلَ ) الْخُصُوصَ مِنْهُ مَذْكُورًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْخُصُوصِ.
نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ } .
وقَوْله تَعَالَى { لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ } فَاقْتَضَى
ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ وَهُوَ خَاصٌّ فِيمَا وَرَدَ
فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً مِنْ
غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ مِنْ وَقْتٍ فَأَوْجَبَتْ نَسْخَ الْقِتَالِ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِاشْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَى قَتْلِهِمْ عَامَّةً مِنْ
غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ فِيهِ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَكَانَ
مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَظْرِهِ فِيهِ مَنْسُوخًا بِهِ .
فَإِذَا وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِعُمُومِ لَفْظٍ
تَنَاوَلَ إبَاحَتُهُ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا
أَنْ نَجْعَلَهُ مُرَتَّبًا عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا
عَلَيْهِ نَاسِخًا ( لَهُ ) كَمَا يَنْسَخُهُ لَوْ أَبَاحَهُ مُنْفَرِدًا
بِذِكْرِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَيْضًا : فَمِنْ حَيْثُ كَانَ وُرُودُ الْخُصُوصِ
بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْعُمُومِ نَاسِخًا لِمَا قَابَلَهُ مِنْهُ وَجَبَ
أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ الْوَارِدُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخُصُوصِ نَاسِخًا لَهُ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:إنَّمَا يَسُوغُ اعْتِبَارُ
الْعُمُومِ فِيمَا ذَكَرْت إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ لَفْظُ خُصُوصٍ بِخِلَافِ
حُكْمِهِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمًا
فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ ؟ لِأَنَّ مَا وَرَدَ
بِلَفْظِ الْخُصُوصِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهٌ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ
نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا ( وَبَيْنَك
) فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لَوْ أُفْرِدَ بِهِ ، فَقُلْنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ
إفْرَادِهِ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ
الْحُكْمِ يُوجِبُ نَسْخَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ نَسْخِهِ بِلَفْظِ عُمُومٍ
يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ .
وَإِذْ جَازَ نَسْخُهُ فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ
اعْتِبَارَ الْعُمُومِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ بِإِيجَابِ نَسْخِهِ وَمَا الْفَرْقُ
بَيْنَ أَنْ يَرِدَ بَعْدَ الْخُصُوصِ لَفْظٌ يُقَابِلُ الْخُصُوصَ لَا يَزِيدُ
عَلَيْهِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ يَنْتَظِمُ
الْخُصُوصَ وَغَيْرَهُ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا أَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ فِي
الْحُكْمِ الثَّانِي عَلَى مِقْدَارِ مَا يُقَابِلُ الْخُصُوصَ الْمُتَقَدِّمَ
كَانَ نَاسِخًا لَهُ فَهَلَّا لَزِمْت هَذَا الِاعْتِبَارَ فِي إيجَابِ نَسْخِهِ
إذَا ذُكِرَ مَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ ( وَيَزِيدُ )
عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ مُتَيَقَّنٌ
بِثُبُوتِهِ ، وَنَسْخُهُ بِالْعَامِّ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ ، إذْ جَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ الْعَامُّ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بِالشَّكِّ
.
قِيلَ (لَهُ : مَا )
مَعْنَى قَوْلِك إنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ مُتَيَقَّنٌ ثُبُوتُهُ أَعَنَيْت بِهِ
أَنْ كَانَ مُتَيَقَّنًا قَبْلَ وُرُودِ الْعَامِّ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ
بِخِلَافِهِ أَوْ أَرَدْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعَامِّ ؟
.
فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّهُ كَانَ مُتَيَقَّنًا
قَبْلَ وُرُودِ اللَّفْظِ الْعَامِّ .
قِيلَ لَهُ : فَهَذَا مَا ( لَا ) يُخَالِفُ فِيهِ
وَلَيْسَ هُوَ مَوْضُوعَ الْمُنَازَعَةِ فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى
انْتِفَاءِ نَسْخِهِ بِالْعُمُومِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ
.
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَرَدْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ
بَعْدَ وُرُودِ الْعُمُومِ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ وَهُوَ مَوْضِعُ
الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فَكَأَنَّك إنَّمَا ذَكَرْت صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ
الَّتِي مِنْهَا الْخِلَافُ وَجَعَلْتهَا دَلَالَةً عَلَى نَفْسِهَا
.
فَإِنْ قَالَ : لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ
مُتَيَقَّنًا وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ
زَوَالُهُ .
قِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ
وَجَبَ مَا قُلْت وَالْأَوَّلُ إنَّمَا كَانَ ( مُتَيَقَّنًا مُتَّفَقًا ) عَلَى
ثُبُوتِهِ قَبْلَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فَمَا
الدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ بَعْدَ وُرُودِ لَفْظِ
الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ ( عَلَيْهِ ) إذَا حَقَّقْت عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ إلَّا إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ
مِنْ الْبُرْهَانِ .
ثُمَّ يُقَالُ ( لَهُ ) : مَا أَنْكَرْت أَنَّ الْحُكْمَ
بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ مُتَيَقَّنًا أَلَا
يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ بِمَا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْخُصُوصِ بِالشَّكِّ
.
فَإِنْ قَالَ : لَا يَكُونُ مُوجَبُ حُكْمِ الْعُمُومِ
مُتَقَدِّمًا مَعَ تَقَدُّمِ لَفْظِ الْخُصُوصِ .
قِيلَ لَهُ : وَلَا يَكُونُ بَقَاءُ حُكْمِ الْخُصُوصِ
مُتَيَقَّنًا مَعَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِخِلَافِهِ
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ الْخُصُوصَ مَعَ الْعُمُومِ
بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا
بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ ثَابِتَ الْحُكْمِ مَعَهُ فَمَا
الدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الْخُصُوصِ بَعْدَ وُرُودِ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ
حَتَّى يَجْعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى
الْخَاصِّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا ، وَفِي إثْبَاتِ النَّسْخِ
إسْقَاطَ أَحَدِهِمَا ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ
أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ .
قِيلَ لَهُ : وَفِي بِنَاءِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ إسْقَاطُ
حُكْمِ الْعُمُومِ ( فِيمَا قَابَلَ الْخُصُوصَ مِنْهُ فَلِمَ جَعَلْت إسْقَاطَ
ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ
) .
، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُكْمِ الْعُمُومِ
فِيمَا لَمْ يُقَابِلْ الْخُصُوصَ عَنْهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِاسْتِعْمَالِ
الْخُصُوصِ
وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ ( الِاسْتِعْمَالُ فِيمَا ) تَعَارَضَ فِيهِ لَفْظُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ
فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِك إنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ
عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّك لَمْ تَسْتَعْمِلْ مِمَّا قَابَلَ الْخُصُوصَ مِنْ
لَفْظِ الْعُمُومِ شَيْئًا ( قَطُّ ) فَصَارَ مَا قَابَلَ الْعُمُومَ مِنْ لَفْظِ
الْخُصُوصِ كَخَبَرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْآخَرِ
فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْآخِرِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا بِهِ
وَكُلُّ مَا اعْتَلَّ بِهِ خَصْمُنَا ( فِيهِ لِإِثْبَاتِ ) الْخُصُوصِ عُورِضَ
بِهِ بِمِثْلِهِ فِي إثْبَاتِ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْعُمُومِ ثُمَّ يَكُونُ
لِقَوْلِنَا مَزِيَّةٌ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْعُمُومِ لَيْسَتْ لَهُ فِي إثْبَاتِ
الْخُصُوصِ وَهِيَ وُرُودُهُ بَعْدَهُ وَأَلَّا يَقْضِي عَلَى الْأَوَّلِ وَيَنْسَخُهُ
، وَالْأَوَّلُ ( لَا ) يَقْضِي عَلَى الْآخَرِ فَصَارَ الْعُمُومُ أَوْلَى
.
، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ بِنَاءَ
الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ يَنْقُلُ لَفْظَ الْعُمُومِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ
وَيَجْعَلُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِمُوجَبِهِ فِيمَا عَدَا الْخُصُوصَ مِنْ طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوجِبًا ( لِلْعِلْمِ بِمُقْتَضَاهُ ) وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَفِي وُجُوبِ
حَمْلِ لَفْظِ الْعُمُومِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَامْتِنَاعِ صَرْفِهِ
إلَى الْمَجَازِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا
لِلْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا احْتَمَلَ الْعَامُّ أَنْ
يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ
مَبْنِيًّا عَلَى الْعَامِّ وَجَبَ حَمْلُ مَا فِيهِ احْتِمَالٌ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ
فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : ( إنَّ ) قَوْلَك إنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ حُكْمُهُ
فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الِاحْتِمَالُ فِي
اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ وَيَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا بِهِ جَمِيعًا مِثْلُ الْقُرْءِ
الْمُحْتَمِلِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ .
، وَأَمَّا الْعُمُومُ فَمُنْتَظِمٌ
لِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ
لِغَيْرِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْعُمُومُ غَيْرُ
مُحْتَمِلٍ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قُلْت إنَّ الْخُصُوصَ
غَيْرُ مُحْتَمَلٍ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا
الْوَجْهِ مِنْ بَابِ الِاحْتِمَالِ وَانْفَصَلْنَا نَحْنُ مِنْكُمْ بِوُرُودِ
الْعُمُومِ بَعْدَ الْخُصُوصِ وَكَوْنُهُ نَاسِخًا لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا
.
، وَذَكَرَ بَعْضُ مِنْ احْتَجَّ عَلَى
عِيسَى بْنِ أَبَانَ فِي هَذَا الْبَابِ أَلْفَاظًا مِنْ الْعُمُومِ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى الْخُصُوصِ رَامَ بِهَا دَفْعَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَمِنْهَا مَا فَسَادُهُ
أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَشْفِهِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ
بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ .
، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ وَأَطَالَ
الْقَوْلَ فِيهِ يَسْقُطُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ نَحْنُ نَذْكُرُهُ ثُمَّ نَشْرَعُ فِي
بَيَانِ خَطَئِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَتَى بِهِ عَلَى حِيَالِهِ وَتَوْضِيحِ أَنَّ
أَكْثَرَهُ مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَنَقُولُ :
إنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الرَّجُلُ لَوْ سُلِّمَ
( لَهُ ) عَلَى حَسْبِ مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَكُنْ ( فِيهِ ) دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا ( لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ
) بِنَاءَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَنَسْتَعْمِلُهَا
فِي حَالٍ إذَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَنَقْضِي
بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فِي حَالٍ أُخْرَى فَنُوجِبُ نَسْخَهُ ( بِهِ ) فَلَا
دَلَالَةَ لَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ .
وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرَ لَوْ قُلْنَا :
إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ( بِحَالٍ ) فَهَذَا
يَسْقُطُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ الْإِبَانَةَ
عَنْ خَطَئِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ .
فَمِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الرَّجُلُ قَوْله تَعَالَى {
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } قَالَ فَهَذَا عَامٌّ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَهَذَا خَاصٌّ قَضَى عَلَى الْعَامِّ
، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَا لَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّا
إنَّمَا قُلْنَا نَقْضِي بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا
فَإِنَّا قَدْ نَبْنِي الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ إذَا قَامَتْ ( دَلَالَتُهُ
) .
، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ
مَا يُوجِبُ خُصُوصَهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُسْرِفُوا } وَأَكْلُ الْمَالِ
بِالْبَاطِلِ مِنْ الْإِسْرَافِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصِهَا بِغَيْرِهَا
.
وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { إلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ( قَالَ ) فَلَمْ
يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ عَفْوِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَنَسِيَ أَنَّ الْمَحْجُورَ
عَلَيْهِ لَيْسَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا تَخْصِيصٌ كَانَ
بِدَلَالَةٍ .
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ نَامَ
عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَأَنَّهُ لَمْ
يَنْسَخْهُ قَوْلُهُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ } وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا
نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْقُوفُ الْمَعْنَى
عَلَى الدَّلَالَةِ فَقَوْلُهُ فَلْيُصَلِّهَا ( إذَا ذَكَرَهَا ) مَعْنَاهُ مَا تَكُونُ
صَلَاةٌ فِي الشَّرْعِ وَمَنْ فَعَلَهَا بِغَيْرِ طَهُورٍ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ
} بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَا هِيَ إلَّا
تَخْصِيصٌ ( فِيهِ ) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلْيُصَلِّهَا إذَا
ذَكَرَهَا أَمْرٌ بِقَضَاءِ ( الْفَائِتَةِ )
، وَالْفَائِتَةُ إنَّمَا كَانَتْ صَلَاةً بِطَهَارَةٍ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً
قَبْلَ فَوَاتِهَا إلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً إلَّا
بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَسَائِرُ شَرَائِطِهَا فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَضَاءِ
الْفَائِتَةِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْفَوَاتُ فَأَيُّ
تَخْصِيصٍ فِي ذَلِكَ إذَا جَمَعْنَا إلَى ذَلِكَ شَرْطَ الطَّهَارَةِ فِي
الصَّلَاةِ .
قَالَ هَذَا الرَّجُلُ : وَبِالذَّهَابِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ خَاصَمَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
} حَتَّى وَرَدَ { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ
مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ
الْأَوَّلِ فِي جِهَةِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ
.
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ } لَمْ يَتَنَاوَلْ قَطُّ غَيْرَ الْأَصْنَامِ الَّتِي عُبِدَتْ
مِنْ دُونِ اللهِ لِأَنَّ " مَا "
فِي اللُّغَةِ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ " وَمَنْ " لِلْعُقَلَاءِ فَمَنْ
اعْتَرَضَ ( عَلَيْهِ ) بِعِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللهِ
عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَعَسَّفَ وَذَهَبَ عَنْ ( مَعْنَى ) الْآيَةِ .
، وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ ( هَذَا )
اللَّفْظَ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْأَصْنَامِ وَلَكِنَّهَا اعْتَرَضَتْ بِمَا
ذَكَرَتْ مِنْ عِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ مُتَعَنِّتِينَ لَهُ
فَقَالَتْ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ
دُونِ ( اللهِ ) فَقَدْ يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ
لِأَنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللهِ .
وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهَا فِي
الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إنَّ الْأَصْنَامَ فِي النَّارِ
لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللهِ ( وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ
بِهَا فِي الْآخِرَةِ ) تَعْيِيرًا
لِلْكُفَّارِ وَإِظْهَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ
إلَى اللهِ زُلْفَى .
وَلَيْسَ يَجِبُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ
الْأَصْنَامَ مَعَ عَبَدَتِهَا فِي النَّارِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ (
الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ ) ( لِأَنَّهُمْ )
مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ .
ثُمَّ لَمْ يَدَعْهُمْ وَمَا اعْتَرَضُوا بِهِ حَتَّى
أَنْزَلَ { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ } وَعَلَى أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْبِيَاءَهُ
وَأَوْلِيَاءَهُ الْجَنَّةَ خَبَرٌ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ فِي
مَخْبَرِهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى } خَبَرٌ وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ
لَهُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ عُمُومٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا
عَلَيْهِ كَمَا يَكُونُ الْعُمُومُ مُرَتَّبًا عَلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الَّتِي
لَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ .
، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ
تَرْتِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ عَقَدْنَا فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ
جَوَازَ ذَلِكَ بِدَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ } لَمْ يَرِدْ إلَّا مُرَتَّبًا عَلَى مَا فِي الْعَقْلِ مِنْ
امْتِنَاعِ جَوَازِ تَعْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي الْآخِرَةِ
.
وَذَكَرَ أَيْضًا { قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } حِينَ
دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ } .
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) :
وَهَذَا عَلَيْهِ دَلَالَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } قَاضٍ عَلَى
النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ
الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ خَاصٌّ فَأَعْلَمَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ
الْعَامَّ قَاضٍ عَلَى الْخَاصِّ ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ
الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا هَذَا الرَّجُلُ إنَّمَا يَطُولُ بِهَا
الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ وَلَا فَائِدَةٍ لِأَنَّ النُّكْتَةَ الَّتِي
عَلَيْهَا مَدَارُ الْبَابِ أَنَّ الْعَامَّ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَاصِّ بِدَلَالَةٍ
وَقَدْ يُقْضَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ ( التَّرْتِيبِ
).
وَكُلُّ مَوْضِعٍ بُنِيَ فِيهِ الْعَامُّ عَلَى
الْخَاصِّ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ دَلَالَةٍ أَوْجَبَتْهُ .
وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي نَحْوِ هَذَا قَوْله تَعَالَى {
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وَ وقَوْله تَعَالَى { مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبُ عَامٍّ عَلَى
خَاصٍّ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
} لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكِتَابِيَّاتِ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا
سَلَفَ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ
عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُمُومًا لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى
مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا إنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا عِلْمُ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ
.
وَالثَّانِي : أَنَّا إنَّمَا رَتَّبْنَا الْعَامَّ عَلَيْهِ
لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ نُزُولِهِمَا
.
، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
} وقَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ } إلَى آخِرِهِ وقَوْله تَعَالَى { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وقَوْله تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } .
، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا وَجَبَ فِيهِ
التَّرْتِيبُ لِدَلَائِلَ أَوْجَبَتْهُ ، وَاعْتِرَاضُ مُخَالِفِنَا عَلَيْنَا
بِمِثْلِ ذَلِكَ كَاعْتِرَاضِ نُفَاةِ الْعُمُومِ بِالْآيِ الَّتِي ظَوَاهِرُهَا
الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ
بِالْعُمُومِ فَقُلْنَا لَهُمْ إنَّ الْأَصْلَ الْعُمُومُ وَصِرْنَا إلَى
الْخُصُوصِ بِدَلَالَةٍ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلِمَةِ الْحَقِيقَةُ (
وَلَا تُصْرَفُ ) إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
كَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا ( قَدْ ) ذَكَرْنَا أَنَّا قَدْ
دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بِمَا وَصَفْنَا .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَرَيْتُمُونَا فِيهِ التَّرْتِيبَ
فَإِنَّمَا رَتَّبْنَاهُ بِدَلَالَةٍ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ
الْمَقَالَةِ كَمَا لَا يَقْدَحُ وُجُودُ لَفْظٍ مُرَادُهُ الْخُصُوصُ فِي أَصْلِ
الْقَوْلِ فِي الْعُمُومِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عُمُومًا
قَضَى عَلَى الْخُصُوصِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } إلَى آخِرِهَا وقَوْله
تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }
عُمُومٌ نُسِخَ بِهِ حَظْرُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ
السَّلَفِ قَدْ خَالَفَنَا فِيهِ جَمِيعًا وَزَعَمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ
الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَهُوَ مَذْهَبُ
عَطَاءِ بْنِ رَبَاحٍ .
، وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي
نَحْوِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } عَامٌّ نُسِخَ بِهِ الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَقَوْلُهُ { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ
} وَجَمِيعُ ذَلِكَ خَاصٌّ نَسَخَهُ الْعَامُّ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَوْلُهُ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } يُوجِبُ نَسْخَ
ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
} اقْتَضَى وَصِيَّةً مَنْكُورَةً لِمَنْ كَانَتْ مِنْ
النَّاسِ ، وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ وقَوْله
تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ } وَقَوْلُهُ { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ } اقْتَضَى وُجُوبَ
الْوَصِيَّةِ لَهُمْ وَهُوَ خَاصٌّ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَ
وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ
النَّاسِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ فَلَا
يَبْقَى لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَلَا لِلزَّوْجَةِ وَصِيَّةٌ فَقَدْ دَلَّ
( هَذَا ) عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ نَسْخَ إيجَابِ
الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .
قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ الْمُسْتَعِيرَةَ } وَرُوِيَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَّهُ ) قَالَ { لَا قَطْعَ عَلَى حَائِزٍ
} فَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْخَاصِّ ، وَقَامَرَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ { أَلَمْ
غُلِبَتْ الرُّومُ } ثُمَّ نَسَخَهَا
عُمُومُ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ .
قَالَ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا مُجْمَلٌ نَسَخَ كُلَّ رِبًا
كَانَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ
يَقْضِي عَلَى الْخَاصِّ إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ { قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى فِي بَيْتِهَا
رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ وَقَدْ كُنْتَ
نَهَيْتَ عَنْهُمَا ؟ فَقَالَ رَكْعَتَانِ كُنْت أُصَلِّيهَا فَشَغَلَنِي
عَنْهُمَا الْوَفْدُ } .
وَلَمْ يَقُلْ لَهَا إنَّ اعْتِبَارَك هَذَا ( لَا
يَجُوزُ ) بَلْ بَيَّنَ لَهَا جِهَةَ الْخُصُوصِ وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ
( أَوَنَقْضِيهِمَا ) إذَا فَاتَتَا ؟ قَالَ : "
لَا " فَيُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ إذَا كُنْت قَدْ وَجَدْت عَامًّا قَضَى
عَلَى خَاصٍّ ( وَنَسَخَهُ وَعَامًّا مُرَتَّبًا
عَلَى خَاصٍّ ) فَلِمَ جَعَلْت مَا وَجَدْت مِنْ نَسْخٍ فِيهِمَا قَاضِيًا
بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ حَالٍ دُونَ أَنْ تَجْعَلَ مَا وَجَدْت مِنْ
نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ مُوجِبًا لِكَوْنِ الْخَاصِّ مَنْسُوخًا بِالْعَامِّ
أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ التَّرْتِيبِ ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ
مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ أَكْثَرُ حِجَاجِهِ فِي الْبَابِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا
وُجِدَ مِنْ التَّرَتُّبِ وَالِاسْتِدْلَالَ ( بِهِ )
عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَعَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ خَالَفَ
هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي رَامَ هَذَا الرَّجُلُ نُصْرَتَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ
مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ ( بِالْعَامِّ ) .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ
فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }(أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ { اثْنَانِ ذَوَا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْله
تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ) خَاصٌّ وَرَدَ فِي شَأْنِ
الرَّجْعَةِ .
وقَوْله تَعَالَى { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }
خَاصٌّ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَكَيْفَ تَعْتَرِضُ إحْدَى
الْآيَتَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَارِدَةٌ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَتْ
فِيهِ الْأُخْرَى ؟ وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ
وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } إلَى قَوْلِهِ {
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَقَدْ يَكُونُ حِينَ الْوَصِيَّةِ عُقُودُ
الْمُدَايَنَاتِ وَإِمْلَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَى الْمَدِينِ ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ مُنْتَظِمَةٌ لِحَالِ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَصَارَتْ نَاسِخَةً
لِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ
تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ .
( وَإِذَا ثَبَتَ ) بِهَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانُ
شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى إمْلَاءِ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ
بُطْلَانُهَا فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْوَصَايَا لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَهُمَا فَهَذَا عَامٌّ قَدْ نَسَخَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ حُكْمًا
خَاصًّا فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ .
وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَرَى حُكْمَ الْآيَةِ
ثَابِتًا فِي جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمُسْلِمِ فِي
السَّفَرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي آخَرِينَ مِنْ
التَّابِعِينَ ( كَمُجَاهِدٍ
وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
وَسَعِيدَ بْنِ الْمُسَيِّبِ ) وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ { قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَيْسٍ وَاغْدُ عَلَى
امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } قَاضِيًا عَلَى قِصَّةِ
مَاعِزٍ فِي اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَقِصَّةُ مَاعِزٍ
خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ وَقِصَّةُ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ ، هَذَا مَعَ احْتِمَالِ
لَفْظِهِ لِمُوَافَقَةِ قِصَّةِ مَاعِزٍ لِأَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ مَرَّاتٍ (
مِنْ الْإِقْرَارِ ) يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اعْتِرَافًا فِي الْحُكْمِ وَمَعَ
احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ
فِي تَرْكِهِ عَدَدَ الْإِقْرَارِ عَلَى عِلْمِ أُنَيْسٍ بِأَنَّ الِاعْتِرَافَ الْمُوجِبَ
لِلرَّجْمِ هُوَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : { الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ
النَّارُ } مَنْسُوخٌ { بِأَكْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا وَلَحْمًا وَلَمْ
يَتَوَضَّأْ } فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ
النَّارُ عُمُومٌ فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا ، وَتَرْكُهُ
الْوُضُوءَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ خُصُوصٌ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ
مِمَّنْ يَنْسَخُ الْعَامَّ بِالْخَاصِّ مَعَ امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ فِي
مِثْلِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إيجَابِ
نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ
.
، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَوْجَبْتُمْ
أَنْتُمْ نَسْخَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ بِتَرْكِهِ الْوُضُوءَ مِنْ
الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ
الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت ، وَذَلِكَ أَنَّ لَنَا أَصْلًا فِي قَبُولِ
الْأَخْبَارِ وَشَرَائِطَ نَعْتَبِرُهَا فِيهِ مَتَى خَرَجَ الْخَبَرُ عَنْهَا
لَمْ نَقْبَلْهُ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ
عَامَّةٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ .
فَلَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْوُضُوءِ
مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامَّةً وَلَمْ يُرِدْ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْهُ (
إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لَمْ يَثْبُتْ إيجَابُ
الْوُضُوءِ مِنْهُ ) .
وَحَمَلْنَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى غَسْلِ
الْيَدَيْنِ دُونَ وُضُوءِ الصَّلَاةِ .
وَ ( قَدْ ) قَالَ
الشَّافِعِيُّ :قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ شَرِبَ
الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ }
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ
إيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ } وَهَذَا
عَامٌّ نَسَخَ بِهِ خَاصًّا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ
فِي الرَّابِعَةِ ( لِأَنَّ الْحَسَنَ رَوَى ) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
قَالَ " ائْتُونِي بِمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَإِنِّي
أَقْتُلُهُ " وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَامِّ
عَلَى الْخَاصِّ مَوْجُودٌ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُسْتَفِيضٌ
مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ رُوِيَ عَنْهُ
الْمَذْهَبُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخَالِفُونَا فِي هَذَا الْبَابِ وَمِمَّا
رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَة وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ
أَوْلَى فَقَضَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى " { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ } عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُتَرَتِّبًا عَلَى
قَوْله تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ :
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّحْلِيلَ أَوْلَى فَقَضَى
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } عَلَى تَحْرِيمِ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهِ إلَى قَوْله
تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ
النِّسَاءِ } وَهُوَ عُمُومٌ وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ خَاصٌّ وَقَدْ كَانَ ابْنُ
عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ ( الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ) قَالَ :
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا
أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ ( شَيْئًا ) أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ عِيسَى
أَوْ عَبْدٌ مِنْ الْعِبَادِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاحْتَجَّ ( بِعُمُومِ
قَوْله تَعَالَى ) { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ }
فَجَعَلَهُ قَاضِيًا عَلَى قَوْلِهِ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ
" لَا يُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " فَقَالَ قَضَاءُ
اللهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَ اللَّهُ {
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَعَارَضَتْ عَائِشَةُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى
قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ثُمَّ قَالَ
إنَّهُمْ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ فَقَالَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
" فَإِنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وَهَلْ ابْنُ عُمَرَ إنَّمَا قَالَ إنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي
كُنْت أَقُولُ لَهُمْ الْحَقُّ } وَرَدَّتْ حَدِيثَ { الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى } وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَرُدَّانِ ( حَدِيثَ ) { النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ
وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ
فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } وَجَعَلَ عُمَرُ
وَعَبْدُ اللهِ ( بْنُ مَسْعُودٍ ) وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ
قَوْلَ اللهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
} قَاضِيًا عَلَى قَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
} وَهَذَا خَاصٌّ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
وَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ
أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَ ذِكْرَهَا هَذَا الْكِتَابُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا
مَا يُوَضِّحُ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِيهِ .
وَأَمَّا إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ
فِي ( خِطَابٍ ) وَاحِدٍ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ لَفْظَ
التَّخْصِيصِ إذَا وَرَدَ مَعَ الْعَامِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ
مَعَ الْجُمْلَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } ثُمَّ قَالَ
فِي سِيَاقِ ( خِطَابِ الْآيَةِ ) { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
} فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ مِنْ الْجُمْلَةِ قَبْلَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ
عَلَيْهِ ، وَ ( ذَلِكَ ) نَحْوُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فَخَصَّ الرِّبَا بِالتَّحْرِيمِ
مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَلَّهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَلَوْ لَمْ
يَخُصَّهُ لَكَانَتْ الْإِبَاحَةُ عَامَّةً فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ رِبًا كَانَ
أَوْ غَيْرَهُ .
وَنَحْوُهُ فِي الْإِخْبَارِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى {
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } ( فَلَوْلَا التَّخْصِيصُ ) لَعَمَّ
سَائِرَهُمْ فَلَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ ( الْخِطَابِ ) { وَمِنْ الْأَعْرَابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ
قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } صَارَ أَوَّلُ الْخِطَابِ مَبْنِيًّا
عَلَيْهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَلَمْ
يُعْلَمُ تَارِيخُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ ذَكَرَ حُكْمَ
الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَسَّمَهُمَا أَقْسَامًا
أَرْبَعَةً فَقَالَ :
إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا
فَيُسْتَعْمَلَانِ وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ { كَنَهْيِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ
وَرُخْصَتُهُ فِي السَّلَمِ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ } أَوْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ
أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ (
وَالْآخَرُ ) مَنْسُوخٌ .
أَوْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بَعْضُ
النَّاسِ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَالْعَامَّةُ تُخَالِفُهُ وَتَعِيبُ عَلَيْهِ
مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ فَالْعَمَلُ عَلَى مَا
عَلَيْهِ الْعَامَّةُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَنَعْنِي بِالْعَامَّةِ عَامَّةَ فُقَهَاءِ السَّلَفِ
نَحْوُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ } .
وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَّهُ قَالَ ) { إنَّمَا الرِّبَا فِي
النَّسِيئَةِ } وَالْأَمْرُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ لَا
يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ فَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ فِي
الْجِنْسَيْنِ .
وَقَالَ عِيسَى ( أَيْضًا ) فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ
مِنْهُمَا ، وَاَلَّذِي يَعْمَلُ بِالْآخِرِ شَاذٌّ خَامِلٌ .
وَيُسَوِّغُ الْأَوَّلُونَ الِاجْتِهَادَ لِهَؤُلَاءِ
وَكَانَ سَبِيلُهُ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُمْ قَدْ سَوَّغُوهُ وَإِنْ عَابُوهُ
عَلَيْهِمْ فَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُعْمَلُ بِالْآخِرِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَهَذَا يَدُلُّ ( عَلَى ) أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ
فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَعَمَلُ ( بَعْضِ ) النَّاسِ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ
وَالْعَامَّةُ تُخَالِفُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ وَاحِدٌ شَاذٌّ لَا ( يُعْتَرَضُ
) بِمِثْلِهِ عَلَى خِلَافِ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ
.
قَالَ عِيسَى : وَإِنْ
وَجَدْنَا النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ يُدْخِلُ بَعْضُهُمْ
الْخَاصَّ فِي الْعَامِّ وَيُخْرِجُهُ بَعْضُهُمْ ( مِنْهُ ) وَسَوَّغَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ( فِيهِ
) كَانَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ ( عِنْدَنَا ) نَاسِخًا
لِصَاحِبِهِ فَلَمْ نَعْرِفْ النَّاسِخَ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ ، وَاخْتَلَفُوا
فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ وَسَوَّغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ
.
، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَنْقُضُ
الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ لِلنَّاسِ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا ( وَيَعْمَلُوا بِهِمَا
) جَمِيعًا كَمَا عَمِلُوا بِالسَّلَمِ ( وَبِكَرَاهَةِ
بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ) قَالَ ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ
بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا
الْبَيْتِ يُصَلِّي فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } وَأَنَّهُ
رَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا
مَعَهُ الْغَدَاةَ فَقَالَ إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا
وَجِئْتُمَا فَصَلِّيَا فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ فَقَالَ نَاسٌ : النَّهْيُ
نَاسِخٌ لِلْإِبَاحَةِ وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَخْصُوصٌ كَالسَّلَمِ وَبَيْعِ
مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا وَوَجَدْنَا رُوَاةَ
النَّهْيِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ
بَعْدَ الطَّوَافِ فَلَوْ كَانَ مَخْصُوصًا كَانُوا أَعْلَمَ بِهِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
:
( الَّذِي ) حَصَلَ مِنْ قَوْلِ عِيسَى فِي هَذَا
الْبَابِ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا وَعَرِيَا مِنْ دَلَالَةِ
النَّسْخِ أَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَنَّهُ إنْ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ
لِأَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ النَّسْخِ لَكَانَ بَابُهُمَا التَّرْتِيبَ عِنْدَ
الْجَمِيعِ وَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اتِّفَاقَ
السَّلَفِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ
اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ .
فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمْ مِنْ
اسْتِعْمَالِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ الْقَضَاءِ بِالْعَامِّ
عَلَى الْخَاصِّ فَهُوَ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ
عَنْهُ وَإِنْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا إلَّا وَاحِدًا
شَذَّ عَنْهُمْ وَعَابُوا عَلَى الْوَاحِدِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ عَلَى
مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ قَوْلِهِ
يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ الشَّاذُّ
خِلَافًا عَلَى الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ ، وَإِنَّ
شَرْطَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَهُ اتِّفَاقُ مِثْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَأَنَّ مَنْ
انْفَرَدَ عَنْهُمْ كَانَ شَاذًّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْوَاحِدَ ،
وَ ( لَا ) الِاثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ خِلَافًا عَلَى عُظْمِ
الْفُقَهَاءِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِ
هَذَا الْوَاحِدِ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي حُكْمِ
الْحَادِثَةِ الَّتِي لَا أَثَرَ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
جَعَلَ اجْتِمَاعَ الْجُمْهُورِ عَلَى حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ
وَإِظْهَارِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مُقَوِّيًا لِخَبَرِهِمْ
وَدَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا نَسْخَ الْخَبَرِ الْآخَرِ بِخَبَرِهِمْ الَّذِي
اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ لَهُمْ النَّكِيرُ
عَلَى مُخَالِفِهِمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ
فَدَلَّ إظْهَارُهُمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ
وَفِي اعْتِصَامِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ
عَلِمُوا نَسْخَهُ بِمَا عَلِمُوا مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ ، ( وَ )
لِأَنَّ مَا عَمِلُوا بِهِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَنْسُوخَ لَكَانُوا هُمْ أَوْلَى
بِعِلْمِهِ مِنْ الْمُنْفَرِدِ الشَّاذِّ .
فَجَعَلَ مَا وَصَفْنَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا
اتَّفَقَتْ ( عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ ) وَهُوَ النَّاسِخُ وَأَنَّ
الْآخَرَ مَنْسُوخٌ بِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ
عِنْدِي وَأَوْلَاهُمَا بِمُرَادِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إنَّمَا
جَعَلَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ ( أَوْلَى ) لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ
عَنْهُمْ لِمَا اخْتَلَفَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ ذَلِكَ الْمُنْفَرِدِ فِي
حَالِ ظُهُورِ النَّكِيرِ مِنْ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ أَوْ
تَرَكَهُ النَّكِيرُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ لَا
يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ظُهُورِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ مِمَّنْ خَالَفَ ( عَلَيْهِ )
أَوْ تَرَكَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ
عَلَى الْجَمَاعَةِ .
، وَقَدْ سَوَّغَ عِيسَى ( بْنُ أَبَانَ )
اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى
قَوْلِ الْوَاحِدِ الشَّاذِّ دُونَ الْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ تَعِبْ الْجَمَاعَةُ
عَلَى الْوَاحِدِ مَا ذَهَبَ ( إلَيْهِ ) مِنْ ذَلِكَ .
فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ
يَسْقُطْ حُكْمُ الْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ إذَا ظَهَرَ نَكِيرُ الْجَمَاعَةِ (
عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعُدَّهُ خِلَافًا
وَأَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ مَا صَارَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ ) مِنْ حُكْمِ
الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ عِنْدَهُمْ
وَمِنْ أَجْلِهِ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ .
، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ
إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ لَا يَجُوزُ ظُهُورُ
النَّكِيرِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ فَإِذَا وَجَدْنَا النَّكِيرَ ظَاهِرًا
مِنْ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَمْ يَلْجَئُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ
إلَّا إلَى الْخَبَرِ الَّذِي اعْتَصَمُوا بِهِ .
وَقَدْ سَمِعُوا مَعَ ذَلِكَ خَبَرَ
الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ
لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ
حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ هُوَ النَّاسِخَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ دُونَ
الْآخَرِ ، فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ مَعَ خَبَرِ
الْوَاحِدِ أَنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى التَّوَاتُرِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَقُولُ
لِلْجَمَاعَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي
رَوَاهُ .
قِيلَ لَهُ لَمْ يَذْكُرْ عِيسَى أَنَّ الْوَاحِدَ
أَنْكَرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَصِيرَهَا إلَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَتْهُ كَمَا
ذَكَرَ إنْكَارَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَا يَدْرِي مَا جَوَابُهُ فِي
ذَلِكَ عَلَى أَنَّا نَلْتَزِمُهُ مَعَ ذَلِكَ وَنَقُولُ : إنَّهُ لَوْ ظَهَرَ
( مَعَ ذَلِكَ ) فِي النَّكِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ
الَّذِي رَوَاهُ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَذَلِكَ
لِأَنَّ النَّاسِخَ سَبِيلُهُ أَنْ يَظْهَرَ كَظُهُورِ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ
فَلَوْ كَانَ مَا صَارَ إلَيْهِ الْوَاحِدُ هُوَ النَّاسِخَ لَظَهَرَ ذَلِكَ فِي
الْجَمَاعَةِ كَظُهُورِ الْأَصْلِ وَلَعَرَفَتْهُ وَمَا خَفِيَ عَلَيْهَا
.
فَلَمَّا لَمْ تَعْرِفْ الْجَمَاعَةُ ذَلِكَ نَاسِخًا
وَعَرَفَتْ ( مَا صَارَتْ إلَيْهِ ) مِنْهُمَا نَاسِخًا كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ
الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَلَيْسَ يُمْنَعُ أَنْ يَخْفَى حُكْمُ
النَّسْخِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَيَتَمَسَّكُ مِنْ أَجْلِ خَفَائِهِ
عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَهُ بَدْءًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَسَخَ حُكْمًا قَدْ حَكَمَ بِهِ أَنْ يَقْصِدَ
بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي عَيْنِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إظْهَارُهُ
فِي الْجَمَاعَةِ .
وَإِنْ خَفِيَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ عَلَى الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصِيرَا فِيهِ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ
وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ كَانَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ
أَوْلَى لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا بِمَنْزِلَةِ الْجَمَاعَةِ
إذَا رَوَتْ النَّسْخَ وَخَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ ( فَتَصِيرُ
رِوَايَةُ ) الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْمُنْفَرِدِ فَبَانَ بِمَا
وَصَفْنَا أَنَّ
مَا صَارَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ حُكْمِ
الْخَبَرَيْنِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ .
، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَقَضَى ( بَعْضُهُمْ )
بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَقَضَى بَعْضُهُمْ فِيهِمَا بِالتَّرْتِيبِ وَلَمْ
يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ النَّكِيرُ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا صَارُوا إلَيْهِ
.
فَإِنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالِاسْتِدْلَالَ
بِالْأُصُولِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ حُكْمِهِمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ
بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ كَانَ قَاضِيًا عَلَيْهِ ( وَ ) نَاسِخًا لَهُ
وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا وَاحْتَمَلَ فِيمَا وَصَفْنَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ
التَّارِيخُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ وَارِدًا بَعْدَ الْعَامِّ فَيَجِبُ
التَّرْتِيبُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا وَرَدَا مَعًا فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ
أَيْضًا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ
الْخَاصِّ فَيَكُونُ نَاسِخًا ( لَهُ ) لَمْ يَجُزْ لَنَا الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ
هَذِهِ الْوُجُوهُ دُونَ الْآخَرِ لِاحْتِمَالِهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَصَارَ
بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إذَا وَرَدَ
مُطْلَقًا وَلَيْسَ بَعْضُ الْمَعَانِي لِلَّذِي يَحْتَمِلُ بِأَوْلَى ( بِهِ )
مِنْ بَعْضٍ فَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ غَيْرِهِ وَهَذَا
صَحِيحٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ وُرُودَ الْعَامِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ
حُكْمِ الْخَاصِّ يُوجِبُ نَسْخَهُ ، فَمَنْ سَلَّمَ هَذَا الْأَصْلَ ثُمَّ قَالَ
مَعَ ذَلِكَ إنِّي أُرَتِّبُ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مَعَ عَدَمِ التَّارِيخِ
وَوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَتَسْوِيغِهِمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ
بِتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مُخَالِفِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ يَرْجِعُ
إلَيْهَا فِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ كَانَ مُتَعَسِّفًا قَائِلًا لِمَا لَا دَلِيلَ
لَهُ عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْخِلَافَ إذَا حَصَلَ بَيْنَ
السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي التَّرْتِيبِ وَالنَّسْخِ
عَلَى مَا وَصَفْنَا صَارَ حُكْمُ اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ
الَّتِي يُحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا إلَى
رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِهَا
عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْ الْإِقْدَامَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا
بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْأُصُولِ فَمَا شَهِدَ لَهُ ( الْأُصُولُ ) مِنْهُمَا كَانَ
أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْآخَرُ مَنْسُوخٌ
( بِهِ ) .
، وَأَيْضًا ( لَمَّا لَمْ ) نَعْلَمْ
تَارِيخَهُمَا صَارَا كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ
تَارِيخُهُمَا وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا فَيَكُونُ سَبِيلُهُ
الِاسْتِدْلَالَ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا بِالنَّظَائِرِ وَالْأُصُولِ
.
فَإِنْ قِيلَ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُ الْخَاصِّ فِي وَقْتٍ
وَثُبُوتُ الْعَامِّ أَيْضًا ، وَاسْتِعْمَالهمَا مُمْكِنٌ فَلَا نَرْفَعُ مَا
تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُ بِالشَّكِّ .
قِيلَ لَهُ : إنَّا وَإِنْ كُنَّا ( قَدْ ) تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُمَا
فَلَمْ نَتَيَقَّنْ بَقَاءَهُمَا لِأَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَنَا
.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا يَقِينٌ بِبَقَاءِ حُكْمِ الْخَاصِّ
لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِالشَّكِّ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الدَّلَائِلِ فِي
بَقَاءِ حُكْمِهِ أَوْ نَفْيِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا
احْتَمَلَ الْعَامُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ وَلَمْ يَحْتَمِلْ
الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَامِّ صَارَ الْعَامُّ بِمَنْزِلَةِ
اللَّفْظِ ( الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعَانِي فَحُمِلَ ) عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ
إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا يُحْمَلُ الْمُتَشَابِهُ عَلَى الْمُحْكَمِ
.
قِيلَ لَهُ : مَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُ مِنْ
الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِأَنَّ
الْخَاصَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ( مَنْسُوخًا وَجَائِزٌ
أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لَهُ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ) نَاسِخًا
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا .
فَلَمَّا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي كُلِّ
( وَاحِدٍ ) مِنْهُمَا سَقَطَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ
الْعَامَّ فِيهِ احْتِمَالٌ وَلَا احْتِمَالَ فِي الْخَاصِّ .
، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ (
الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) يَقُولُ إنَّ مَذْهَبَ
أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ مَتَى اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ كَانَ مَا اُتُّفِقَ عَلَى اسْتِعْمَالِ
حُكْمِهِ مِنْهُمَا قَاضِيًا عَلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَقَدْ رَأَيْت هَذَا
الْمَعْنَى لِعِيسَى ( بْنِ أَبَانَ أَيْضًا ) وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { فِيمَا سَقَتْ
السَّمَاءُ الْعُشْرُ } فَهَذَا خَبَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَمْسَةِ
الْأَوْسُقِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } مُخْتَلَفٌ فِي
اسْتِعْمَالِهِ فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعُشْرِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عَلَيْهِ
نَاسِخًا لَهُ
وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { النَّهْيِ عَنْ
صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ
الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ } هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْلِ
الْمُبْتَدَأِ وَمَا رُوِيَ ( عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) {
أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ
} { وَأَنَّهُ رَأَى قَيْسًا يُصَلِّي
صَلَاةً بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهِ } .
{ وَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا
مَعَهُ الْفَجْرَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا
ثُمَّ أَتَيْتُمَا الْمَسْجِدَ فَصَلِّيَا مَعَ الْإِمَامِ } كُلُّ هَذِهِ
أَخْبَارٌ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ قَاضِيًا
عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ { نَهْيُهُ عَنْ
الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
، وَحَدِيثُ أَبِي ( ذَرٍّ ) { إلَّا
بِمَكَّةَ } مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى ، وَمِثْلُهُ
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي " قِصَّةِ
ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا " وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِ الْكَلَامِ
فِيهَا فَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى خَبَرِ جَوَازِ الْبِنَاءِ مَعَ الْكَلَامِ لِأَنَّ
خَبَرَ حَظْرِ الْكَلَامِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَالْبِنَاءُ بَعْدَ
الْكَلَامِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَانَ
خَبَرُ الْحَظْرِ نَاسِخًا لِسَائِرِ مَا رُوِيَ فِي
جَوَازِ الْبِنَاءِ مَعَ الْكَلَامِ ، وَمِثْلُهُ { نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } ، وَ { نَهْيُهُ عَنْ الْمُزَابَنَةِ }
.
فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى
اسْتِعْمَالِهِمَا ، وَخَبَرَا الْعَرَايَا وَالْخَرْصِ مُخْتَلَفٌ فِي
اسْتِعْمَالِهِمَا فَكَانَ النَّهْيُ قَاضِيًا عَلَى الْإِبَاحَةِ
.
وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ
الْمَسَائِلُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ
الْخَبَرَ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ يَجْرِي
مَجْرَى التَّوَاتُرِ عِنْدَنَا وَيُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ ، وَإِنْ كَانَ
وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ الِاعْتِرَاضُ
عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ ، عَلَى مَا
بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاعْتِرَاضِ بِأَخْبَارِ
الْآحَادِ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْخَاصُّ ثَابِتًا كَثُبُوتِ الْعَامِّ
الْمُتَّفَقِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَهُ الْجَمِيعُ كَمَا
عَرَفُوا الْعَامَّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّاسِخَ كَمَا بَيَّنَ الْمَنْسُوخَ قَبْلَ وُرُودِ
نَسْخِهِ ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَعْرِفَهُ عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ
الْمَنْسُوخَ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ قَدْ عَرَفُوا الْعَامَّ ( وَاسْتَعْمَلُوهُ
وَلَمْ يَعْرِفْ الْجَمِيعُ بَقَاءَ حُكْمِ الْخَاصِّ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ )
عَلِمْنَا أَنَّ الْعَامَّ نَاسِخٌ لَهُ ( وَ ) قَاضٍ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ
هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي التَّخْصِيصِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهُهُ النَّسْخَ
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ التَّخْصِيصِ إذَا كَانَ الْعَامُّ مِمَّا
يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ مَنْ عَرَفَ الْعَامَّ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْرِفَ الْجَمِيعُ
الْخَاصَّ وَنَسْخَهُ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ( نَسْخُ )
الْخَاصِّ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَثُبُوتِ الْعَامِّ عَلِمْنَاأَنَّ الْخَاصَّ غَيْرُ
مَنْسُوخٍ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا الْمَنْسُوخَ
وَمَا قَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ وَلَا عَلَيْهِمْ نَقْلُهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنَسْخِهِ
فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ مَنْسُوخًا وَلَا تَنْقُلُهُ الْكَافَّةُ
وَيَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ
نَسْخُهُ فَيَتَعَلَّقَ بِهِ ، وَنَقْلُهُمْ لِلْعَامِّ
وَاسْتِعْمَالُهُمْ إيَّاهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ الْحُكْمُ ،
وَأَنَّ الْخَاصَّ مَنْسُوخٌ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لَنَا إنَّهُ مَنْسُوخٌ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَ ) ذَكَرَ
عِيسَى ( بْنُ أَبَانَ ) مَا قَدَّمْنَا
حِكَايَتَهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا
عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ
الْآيَتَيْنِ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَاصَّةً وَالْأُخْرَى عَامَّةً إذَا لَمْ
يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا .
فارغة المتن
الْبَابُ الْحَادِيْ والْعِشْرُوْنَ:فِي الْخَبَرَيْنِ
إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ
فارغة
بَابُ الْقَوْلِ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا كَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ ( وَجْهٍ آخَرَ
) .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
الْأَصْلُ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ
الْأَخْبَارِ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فَنُخْبِرُ عَنْ سَبَبِهِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ مَا
أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ غَيْرَ مُخَصَّصٍ لِصَاحِبِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ ،
إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ فِيهِمَا ( عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ) فَيُصَارُ
إلَيْهَا ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ
غُرُوبِهَا } فَهَذَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَوْقَاتِ وَرُوِيَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا
فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } .
وَهَذَا وَارِدٌ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى
تَارِكِهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى خَبَرِ
بَيَانِ حُكْمِ الْأَوْقَاتِ .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ
قَوْلِهِ { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا طَائِفًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ
وَيُصَلِّي فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ }
إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ الطَّوَافِ
وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى بَيَانِ
الْوَقْتِ الَّذِي يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ
آيَاتِ اللهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا
رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } فَهَذَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي
( يَجُوزُ فِيهِ أَوْ لَا يَجُوزُ ، وَخَبَرُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي
الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي ) لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى { فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ } وقَوْله تَعَالَى { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ
} وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } هَذِهِ
الْآيَاتُ وَارِدَةٌ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ تَفْصِيلِ
الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ
} فَلَمْ يَعْتَرِضْ الْأَمْرُ بِفِعْلِ الصِّيَامِ فِي
الْأَيَّامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُطْلَقًا عَلَى
حُكْمِ الْوَقْتِ بَلْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الصِّيَامِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ
جَارِيًا عَلَى بَابِهِ وَمَحْمُولًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ ، وَالْأَمْرُ
بِوُجُوبِ صِيَامِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الْحَجِّ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ مَحْمُولًا
عَلَى بَابِهِ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } فِيهِ بَيَانُ حَظْرِ الْجَمْعِ
وَهُوَ عُمُومٌ فِي بَابِهِ وقَوْله تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } لَا
نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي إبَاحَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالسَّبْيِ
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ ( لِجِهَةِ الْجَمْعِ ) فَلَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَيْهِ
وَلَوْلَا اجْتِمَاعُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ
فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْآخَرِ إجْرَاؤُهُ
عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ ظَاهِرُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا
وَرَدَ بِإِزَائِهِ خَبَرٌ هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي بَابِهِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَارِدًا عَلَى وَجْهٍ وَسَبَبٍ غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْآخَرُ
أَجْرَيْنَا كُلًّا مِنْهُمَا وَحَمَلْنَاهُ عَلَى سَبَبِهِ .
الْبَابُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ فِي صِفَةِ
الْبَيَانِ
بَابُ صِفَةِ الْبَيَانِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
الْبَيَانُ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ
لِلْمُخَاطَبِ مُنْفَصِلًا مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ وَيَشْتَبِهُ مِنْ أَجْلِهِ
وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْقَطْعِ وَالْفَصْلِ
يُقَالُ بَانَ مِنْهُ إذَا انْقَطَعَ قَالَ ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ } ،
وَبَانَ إذَا فَارَقَ .
قَالَ جَرِيرٌ : وَبَانَ الْخَلِيطُ وَلَوْ طَوَّعْت مَا
بَانَا وَبَانَ الْأَمْرُ إذَا ظَهَرَ ، وَبَانَتْ الْمَرْأَةُ بَيْنُونَةً إذَا
فَارَقَتْ زَوْجَهَا ، ثُمَّ قَالُوا بَانَ الْأَمْرُ وَوَضَحَ بَيَانًا وَبَانَ
مِنْ الْفِرَاقِ بَيْنًا وَمِنْ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بَيْنُونَةٌ ، وَالْأَصْلُ
فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ فَسُمِّيَ الْفِرَاقُ بَيْنًا
لِانْقِطَاعِ الْمُفَارِقِ عَنْ صَاحِبِهِ .
وَسُمِّيَ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ بَيَانًا
لِانْفِصَالِهِ عَمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي فَيُشْكَلُ مِنْ
أَجْلِهِ ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا بَيْنَ أَبْنِيَةِ
هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِإِفَادَةِ أَحْوَالِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا كَمَا قَالُوا :
عَدْلٌ وَعَدِيلٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ مَا يُعْدَلُ بِهِ الْمَتَاعُ
عَدْلًا وَمَا يُعْدَلُ بِهِ الرَّجُلُ عَدِيلًا لِيُفِيدُوا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُمْ إلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ
، وَقَالُوا امْرَأَةٌ حَصَانٌ ، وَبِنَاءٌ حَصِينٌ ، وَامْرَأَةٌ رَزَانٌ ،
وَحَجَرٌ رَزِينٌ .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ*** وَتُصْبِحُ
غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
وَالْأَصْلُ فِي اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا
فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا لِيُفِيدُوا بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَنْ وُصِفَ بِهِ
.
وَالْبَيَانُ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً مَا وَصَفْنَا
فَإِنَّهُ سُمِّيَ مَا يُوصَلُ إلَى ( عِلْمِهِ
بِالِاجْتِهَادِ ) وَغَالِبُ الظَّنِّ بَيَانًا فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِهِ ، وَنَصَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ
يُطْلَقَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَفْهَمَنَا قَصْدَهُ
وَمُرَادَهُ بِأَنَّهُ ذُو بَيَانٍ .
قِيلَ لَهُ : كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبَانَ
عَنْ مُرَادِهِ وَأَتَى بِبَيَانِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لِذَلِكَ عَلَى
الْإِطْلَاقِ ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ غَلَبَ عَلَى
كَلَامِهِ الْإِيضَاحُ وَانْتَفَى عَنْهُ الْعِيُّ وَالتَّعْقِيدُ كَمَا أَنَّ الْفَصَاحَةَ
وَالْبَلَاغَةَ أَصْلُهَا إفْصَاحُ اللِّسَانِ بِمُرَادِهِ وَبُلُوغُهُ حَاجَتَهُ
فِيمَا يُرِيدُ الْإِبَانَةَ عَنْهُ .
وَلَا يُسَمَّى كُلُّ مَنْ أَفْصَحَ عَنْ نَفْسِهِ
فَصِيحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا عَالِمٌ وَفَقِيهٌ مُشْتَقٌّ
مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَلَا يُسَمَّى كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَالِمًا
وَلَا مَنْ فَقِهَ مَسْأَلَةً فَقِيهًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا
فُلَانٌ ذُو بَيَانٍ وَبَيِّنُ اللِّسَانِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
إلَى مَنْ كَانَ الْغَالِبُ ( عَلَى كَلَامِهِ ) الْإِبَانَةَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ
انْتِفَاءِ الْعِيِّ وَالتَّعْقِيدِ عَنْهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَلَّا قُلْت إنَّ الْبَيَانَ
هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ كَمَا أَنَّ التَّحْرِيكَ هُوَ مَا
يَتَحَرَّك بِهِ ( الشَّيْءُ ) وَالتَّسْوِيدُ
( وَهُوَ ) مَا يُسَوَّدُ بِهِ الشَّيْءُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ
ذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ الْمُبِينِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ
بِهِ الْمُخَاطَبُ وَقَدْ حَصَلَ الْبَيَانُ مِنْ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ رَسُولِهِ
لِلْمُكَلَّفِينَ فِيمَا تَهُمُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَلَمْ
يَتَبَيَّنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْكُفْرِ ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ فَقْدَ التَّبْيِينِ مِنْ
الْمُخَاطَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْبَيَانِ
مِنْ الْمُبِينِ ، وَأَمَّا التَّحْرِيكُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ أَبَدًا إلَّا
وَيَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيكُ ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا
وَيُسَوَّدُ بِهِ الشَّيْءُ ، فَهَذَا غَيْرُ مُشْبِهٍ لِلْبَيَانِ
.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْبَيَانَ وَوَصَفَهُ فَقَالَ
: الْبَيَانُ : اسْمٌ جَامِعٌ لَمَعَانٍ مُجْتَمِعَةِ
الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ الْفُرُوعِ ، فَأَقَلُّ مَا فِي تِلْكَ الْمَعَانِي الْمُتَشَعِّبَةِ
أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ فِيمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَشَدَّ تَأْكِيدَ بَيَانٍ مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ جَعَلَهُ
عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيهَا
خَلَلٌ ( مِنْ ) وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا : أَنَّ مَا حُدَّ
بِهِ الْبَيَانُ وَقُصِدَ بِهِ إلَى صِفَتِهِ لَمْ يُبَيَّنْ بِهِ مَاهِيَّةُ
الْبَيَانِ وَلَا صِفَتُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَةً مَجْهُولَةً فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ الْبَيَانُ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ ثُمَّ لَا
يُبَيِّنُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مَا هِيَ .
فَاَلَّذِي وُصِفَ بِهِ الْبَيَانُ هُوَ بِالْإِلْبَاسِ
أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَعَانِيَ الْمُجْتَمِعَةَ
الْأُصُولِ الْمُتَشَعِّبَةَ الْفُرُوعِ مَا هِيَ وَمَا حَدُّهَا وَصِفَتُهَا ،
وَاَلَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ أَنْ يَقُولَ " ( وَ )
الْمَعَانِي الْمُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ " كَذَا
" وَالْمُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ " كَذَا
حَتَّى يَكُونَ ( قَدْ ) أَفَادَنَا شَيْئًا .
وَاسْمُ الْبَيَانِ إذَا أُطْلِقَ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ
دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِمَّا وَصَفَهُ ( بِهِ
) وَقُصِدَ بِهِ إلَى بَيَانِ تَحْدِيدِهِ
.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ تَحْدِيدًا ( لِلْبَيَانِ ) وَلَا وَصْفًا لَهُ بِوَجْهٍ ، لِأَنَّهُ
يُشْرِكُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِبَيَانٍ وَلَا مِنْ جِنْسِهِ ، إذْ كَانَ أَكْثَرُ
الْأَشْيَاءِ شَارَكَهُ فِي أَنَّهَا مُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةُ
الْفُرُوعِ ،إذْ لَيْسَ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ مُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ
مُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ إلَّا أَنَّهُ يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ ثُمَّ
تَنْقَسِمُ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ حِينَ قَسَّمَهُ
عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ ، وَالْأَقْسَامُ هِيَ الْفُرُوعُ الْمُتَشَعِّبَةُ
وَالْمُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ ( إلَّا ) أَنَّهَا يَجْمَعُهَا كُلَّهَا مَعْنًى
وَاحِدٌ وَهُوَ الْقَصْدُ إلَى إعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَقُلْ هُوَ ذَلِكَ وَإِنْ سَلَّمْنَا
لَك كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ
( مَا انْقَسَمَ ) أَقْسَامًا يَجْمَعُهَا أَصْلٌ
وَاحِدٌ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا حَتَّى نَقُولَ إنَّ الْجِسْمَ بَيَانُهُ لِأَنَّهُ
يَنْقَسِمُ إلَى حَيَوَانٍ وَنَامٍ وَجَمَادٍ ( وَ ) يَقُولُ إنَّ الْحَيَوَانَ بَيَانٌ
لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى إنْسَانٍ وَبَهِيمَةٍ وَطَائِرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ،
وَنَقُولُ إنَّ الشَّيْءَ بَيَانٌ لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ لِأَنَّ أَحَدًا لَا
يَجْعَلُ الْبَيَانَ اسْمًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقْضِي هَذَا التَّحْدِيدُ بِالتَّفْسِيرِ
حِينَ سَمَّى كُلَّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا
بَيَانًا .
فَقَالَ : الْبَيَانُ الْأَوَّلُ كَذَا وَالثَّانِي
كَذَا فَاقْتَضَتْ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَدَّمَهَا فِي وَصْفِ الْبَيَانِ أَنْ
يَكُونَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ ( الْأَقْسَامِ ) بَيَانًا وَتَكُونُ اسْمًا لَمَعَانٍ مُجْتَمِعَةِ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ
الْفُرُوعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي
ذَكَرَهَا لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْفِ .
وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ بَيَانًا مَا لَا يَشْتَمِلُ
عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ ، لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } إذْ كَانَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }
لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَعَانٍ
مُجْتَمِعَةُ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةُ الْفُرُوعِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ بَيَانٌ
صَحِيحٌ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يَلْزَمُهُ مَا ذَكَرْت
لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ أَقْسَامِ الْبَيَانِ لَا جَمِيعُهُ .
قِيلَ لَهُ : أَوْ لَيْسَ هُوَ بَيَانًا فِي نَفْسِهِ
مَعَ ذَلِكَ وَمَا حَدُّهُ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذُكِرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
الْمَذْكُورُ شَرْطًا لِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ بَيَانًا فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ
هَذَا هَكَذَا أَنْ يُحَدَّ الْبَيَانُ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ ،
لِأَنَّ التَّحْدِيدَ يَقْتَضِي أَلَا يَخْرُجَ عَنْ الْحَدِّ مَا هُوَ مِنْهُ كَمَا
( لَا يَدْخُلُ ) فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، فَإِذَا وَجَدْنَا بَيَانًا صَحِيحًا
لَا يَحْصُرُهُ ( الْحَدُّ )الَّذِي ذَكَرَهُ لِلْبَيَانِ فَقَدْ وَضَحَ بُطْلَانُ
تَحْدِيدِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الرَّجُلَ أَخْبَرَ عَنْ الْبَيَانِ
مَا هُوَ ، وَالْبَيَانُ : اسْمُ جِنْسٍ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي
اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ فَوَاجِبٌ عَلَى قَضِيَّتِهِ أَنْ لَا بَيَانَ إلَّا مَا
كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ ، ( وَقَدْ نَقَضَ هُوَ ذَلِكَ بِكُلِّ قِسْمٍ مِنْ
الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِلْبَيَانِ لِأَنَّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهَا لَيْسَ بِهَذَا
الْوَصْفِ ) .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ سَمَّى قَوْله تَعَالَى
{ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }
بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } وَهَذَا لَا يُسَمِّيهِ أَحَدٌ بَيَانًا فِي شَرْعٍ
وَلَا لُغَةٍ لِأَنَّ الْبَيَانَ هُوَ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ مُنْفَصِلًا
مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ .
وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ تَقْدِيمِ
ذِكْرِ الثَّلَاثِينَ وَالْعَشْرِ إظْهَارُ شَيْءٍ ، وَ ( لَا ) إيضَاحٌ لِمَا
أُشْكِلَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى كَذَلِكَ تَأْكِيدًا
وَتَقْرِيرًا كَمَا يُؤَكَّدُ بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } وقَوْله تَعَالَى
{ أَوْلَى لَك فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَك فَأَوْلَى }
وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنْ لَمْ تَجِدْ
بِنْتَ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ } وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ
.
وَجَعَلَ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ قَوْله تَعَالَى {
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ } زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ وَمَا سَمَّى ( أَحَدٌ هَذَا ) بَيَانًا
غَيْرُهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ إنَّهَا عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ فِي قِيَامِهَا مَقَامَ الْهَدْيِ وَمَا يُسْتَحَقُّ بِهَا مِنْ
الثَّوَابِ .
ثُمَّ قَسَّمَ الْبَيَانَ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ وَمَا
سَبَقَهُ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ أَحَدٌ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ
أَخَذَهُ عَنْ لُغَةٍ أَوْ ( عَنْ ) شَرْعٍ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إثْبَاتِ
ذَلِكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، وَلَا نَدْرِي ( عَمَّنْ ) أَخَذَهُ
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْتَدَأَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يُعَضِّدْهُ
بِدَلَالَةٍ فَحَصَلَ عَلَى الدَّعْوَى .
ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ : قَوْله تَعَالَى {
فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } وَنَحْوَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا
أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيَانٍ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ
الْعَشَرَةِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَنَا بِذَلِكَ الْحِسَابَ ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَكْفِي فِي الْإِبَانَةِ
عَنْ جَهْلِ قَائِلِهِ وَغَبَاوَةِ حِكَايَةِ
قَوْلِهِ .
وَجَعَلَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ : قَوْله تَعَالَى {
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وقَوْله تَعَالَى {
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَتَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ
وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ أَصْحَابُهُ إنَّمَا
جَعَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا بَيَانًا ثَانِيًا لِأَنَّهُ كَافٍ بِنَفْسِهِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَيَانِ
الْأَوَّلِ هُوَ مُسْتَغْنٍ ( مُسْتَقِلٌّ )
بِنَفْسِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ
} مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ مِقْدَارِ الْعَدَدِ
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } .
فَإِنْ كَانَ قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَمَا ذُكِرَ
مَعَهُ إنَّمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَيَانِ الثَّانِي لِأَنَّهُ كَافٍ
بِنَفْسِهِ ، ( فَيَجِبُ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ مَا قُدِّمَ ذِكْرُهُ فِي
الْبَيَانِ الْأَوَّلِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَيُوجِبُ هَذَا أَنْ يَكُونَا
جَمِيعًا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي
أَوْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا قِسْمَيْنِ
مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ (
بِهِ ) أَحَدُهُمَا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي .
وَجَعَلَ الْبَيَانَ الثَّالِثَ : بَيَانَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفُرُوضِ الْمُجْمَلَةِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
.
وَجَعَلَ الْبَيَانَ الرَّابِعَ : مَا ابْتَدَأَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السُّنَنِ فِي حَيِّزِ مَا
ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ الْفُرُوضِ وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا قِسْمًا وَاحِدًا
.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي جِهَةِ
الْبَيَانِ وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ الْبَيَانُ بِالْقَائِلِينَ ، وَإِنَّمَا
يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ .
فَإِذَا بَانَ مَا سَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَابْتَدَأَهُ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا ابْتَدَأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
الْفُرُوضِ فِي وُقُوعِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى فَهُمَا مِنْ قِسْمٍ
وَاحِدٍ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ قِسْمًا ( آخَرَ )
مِنْ الْبَيَانِ لَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ قِسْمًا آخَرَ
مِنْ الْبَيَانِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَقْسَامِ الْبَيَانِ
مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى
.
وَجَعَلَ الْبَيَانَ الْخَامِسَ : الِاجْتِهَادَ ، وَالِاجْتِهَادُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا ( قَدْ ) قَامَتْ الدَّلَالَةُ
عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ فَإِنَّ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ إنَّمَا ( هُوَ )
غَلَبَةُ ظَنٍّ لَيْسَ بِيَقِينٍ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَقَعُ بِهِ
بَيَانُ الْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَذَكَرَ
الْمَنْصُوصَ وَوَصَفَهُ بِالْبَيَانِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ
فِي حَيِّزِ مَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ سَمَّى
الِاجْتِهَادَ بَيَانًا مِنْ حَيْثُ أُمِرْنَا بِهِ لَمْ يَسُقْ الْعِبَارَةَ
عَنْهُ بِذَلِكَ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِجْمَاعَ فِي أَقْسَامِ الْبَيَانِ
، وَكَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْقِيَاسِ
وَالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةُ اللهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وُقُوعُ
الْخَطَأِ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( عَقِيبَ ذِكْرِهِ الْبَيَانَ :
فَأَقَلُّ ) مَا فِي تِلْكَ الْمَعَانِي الْمُجْتَمِعَةِ الْمُتَشَعِّبَةِ أَنْ
يَكُونَ بَيَانًا لِمَنْ خُوطِبَ ( بِهِ ) مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ
فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الْبَيَانِ لِمَنْ يَكُونُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى
الْبَيَانِ بِوَجْهٍ .
وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبَيَانَ
لَا يَخْتَصُّ بِلُغَةٍ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ أَبْيَنَ
وَأَفْصَحَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ ، لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ لُغَةٍ لَهُمْ ضَرْبٌ
مِنْ الْبَيَانِ فِي لُغَتِهِمْ .
وَمَوْضُوعُ اللُّغَاتِ فِي الْأَصْلِ لِلْبَيَانِ لَا
غَيْرُ ، وَالرَّجُلُ إنَّمَا ابْتَدَأَ الْقَوْلَ بِذِكْرِ الْبَيَانِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَقُلْ الْبَيَانُ الْوَارِدُ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَنْ ذُكِرَ
مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ ( وَعَلَى أَنَّ اقْتِصَارَهُ بِالْبَيَانِ
أَنَّهُ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ ) غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، لِأَنَّ
الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ بَيَانٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ النَّاسِ مَنْ
عَرَفَ لُغَةَ الْعَرَبِ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا
يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُ بِلُغَتِهِ
وَيُنْقَلَ إلَى لِسَانِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { هَذَا بَيَانٌ
لِلنَّاسِ } وقَوْله تَعَالَى { وَأُوحِيَ
إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَالَ تَعَالَى { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } وَقَالَ فِي صِفَةِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَذِيرًا لِلْبَشَرِ } فَكُلُّ
مَنْ تُرْجِمَ لَهُ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ
اللُّغَاتِ فَهُمْ مُنْذَرُونَ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَنْ
نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ خَطَأٌ .
ثُمَّ لَمْ يَرْضَ أَصْحَابُهُ بِتَحْدِيدِ الْبَيَانِ
عَلَى مَا ذَكَرَ فَقَالُوا : الْبَيَانُ اسْمٌ لِإِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ
حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي فَخَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق