اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الخميس، 13 أكتوبر 2022

ج11.وج12.كتاب العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي

 ج11.وج12.

 

ج11. كتاب العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
--
قال عبدُ العزيز: بُويع وهو ابنُ تسع وثلاثين سنة، ومات ولم يبلغ الأربعين، وعلى شُرطته بُكَير بن الشماخ اللَّخْمي. وكاتب الرسائل ابنُ سليمان ابن سعد. وعلى الخراج والجُنْد والخاتَم الصغير والحَرس النَصرُ بن عَمرو، من أهل اليمن. وعلى خاتَم الخلافة عبدُ الرحمن بن حًميد الكلْبيّ، ويقاد قَطن، مولاه. وكتب يزيدُ بنُ الوليد إلى مَروان بن محمد بالجزيرة، وبَلغه عنه تلكّأ في بَيعته: أما بعد. فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ، والسلام. ثم قَطع إليه البُعوث، وأمر لهم بالغطاء. فلم يَنْقُص! عطاؤهم حتى مات يزيد. ولما بلغ مروانَ أنّ يزيد قَطع البعوث إليه كتب ببيعته، وبَعث وفداً عليهم سليمانُ بن عُلاثة العُقيلي. فخرج، فلما قَطعوا الفُرات لقيهم بريد بموت يزيد، فانصرفوا إلى مَروان بن محمد، والله أعلم.
ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوعالعلاء بن يزيد بن سِنان قال: حدثني أبي قال: حضرت يزيدَ بن الوليد حين حضرتْهُ الوفاةُ فأتاه قَطن، فقال: أنا رسوِلُ مَن وراءَ بابك، يسألونك بحق الله لو ولًيتَ أمرهم أخاك إبراهيمَ بن الوليد. فغضِب وضرب بيده على جَبهته وقال: أنا أوَلّي إبراهيم! ثم قال لي: يا أبا العلاء، إلى مَن ترى أن أعهد؟ قلت: أمر نهيتُك عن الدخول قي أوله، فلا أشير عليك بالدُّخول في آخره. قال: فأصابتْه إغماءةٌ حتى ظننتُ أنه قد مات، ففعَل ذلك غير مرة، ثم خرجتُ من عنده. فقعَد قَطن وافتعل عهداً على لسان يزيدَ بن الوليد لإبراهيم بن الوليد، ودعا ناساً فأشهدهم عليه. قال: والله ما عَهد إليه يزيدُ شيئاً ولا إلى أحد من الناس. وقال يزيدُ في مرَضه: لو كان سعيدُ بن عبد الملك قريباً مني لرأيتُ فيه رأيي. وفي رواية أبي الحسن المَدائنيّ، قال: لما مَرض يزيدُ قيل له: لو بايعتَ لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعدَه؟ فقال له قيسُ بن هانيء العبسي: اتق اللّه يا أمير المؤمنين، وانظُر لنفسك، وأرْض الله في عباده، فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فقال يزيد: لا يَسألني الله عن فلك، ولو كان سعيدُ بن عبد الملك منّي قريباً لرأيتُ فيه رأي. وكان يزيدُ يرى رأي القَدَرية ويقول بقَوْل غيلان. فألحت القدريةُ عليه قالوا: لا يَحل لك إهمالُ أمر الأمة، فبايعْ لأخيك إبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده. فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده.
ومات يزيدُ لعشرٍ بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة. وكان ولايتهُ خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً.
فلما قَدم مروان. نبش يزيدَ من قَبره وصَلبه. وكان يُقرأ في الكتب: يا مُبذّر الكُنوز، يا سجّاداً بالأسحار، كانت ولايتُك لهم رحمة، وعليهم حجة. نَبشوك فَصَلبوك.
وبويع إبراهيم بن الوليد، وأمه بَرْبَرية، فلم يَتم له الأمر، وكان يدخل عليه قومٌ فيسلِّمون بالخلافة، وقوم يسلّمون بالإمرة، وقوم لا يُسلمون بخلافة ولا بإمرة، وجماعة تُبايع، وجماعة يَأبون أن يبايعوا. فمكث أربعة أشهر، حتى قدم مروانُ بن محمد فخَلع إبراهيم وقَتل عبد العزيز بن الحجَّاج، ووَلِي الأمر بنفسه.

وفي رواية خَليفة بن خَياط قال: لما أتى مروانَ بن محمد وفاةُ يزيدَ بن الوليد دعا قيساً وربيعة، ففرَض لستَّة وعشرين ألفاً من قيس، وسَبعة آلاف من ربيعة وأعطاهم أعطياتهم وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة، ثم خرج يريد الشام، واستخلف على الجزيرة أخاه عبدَ العزيز بن محمد بن مَروان، فتلقّاه وُجوه قيس: الوثيق بن الهُذَيل بن زُفَر، ويزيدُ بن عمر بن هُبيرة الفَزاري، وأبو الوَرْد بن الهُذَيل بن زفر، وعاصم بن عبد اللّه بن يزيد الهلاليّ، في خمسة آلاف من قَيس. فساروا معه حتى قَدِم حلب، وبها بِشر ومَسرور، ابنا الوليد بن عبد الملك، أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسيرُ مروان بن محمد، فالتقوا، فانهزم بِشْر ومَسرور من ابن محمد من غير قتال، فأخذهما مَروان فحبسهما عنده. ثم سار مَروان حتى أتى حِمْص، فدعاهم للمسَير معه والبيعة لوليي العهد: الحكم وعثمان، ابني الوليد بن يزيد، وهما مَحبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق، فبايعوه، وخرجوا معه حتى أتى عسكر سًليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد. وبلغ عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سُليمان وهو مُعسكر في ناحية عَيْن الجَرّ، فأقبل إلى دمشق، وخرج إبراهيمُ بن الوليد من دمشق، ونزل بباب الجابية وتهيأ للقتال، ومعه الأموال على العجل، ودعا الناس فخَذلوه. وأقبل عبدُ العزيز بن الحجاج وسُليمان بن الوليد فدَخلا مدينة دمشق يُريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد وهما في السجن. وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القَسري فدخل السجن فقَتل يوسف بن عمر، والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما الحَمَلان، وأتاهم رسولُ إبراهيمُ، فتوجّه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليُخرج عياله، فثار به أهل دمشق فقَتلوه واحتزّوا رأسه، فأتوا به أبا محمد بن عبد اللّه بن يزيد ابن معاوية، وكان محبوساً مع يوسف بن عمر وأصحابه، فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قُيوده، ورأسُ عبد العزيز بين يديه، وحلّوا قُيوده. فخطبهم وبايع لمروان وشَتمٍ يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وأمر بجُثة عبد العزيز فصُلبت على باب الجابية منكوسا، وبعث برأسه إلى مروان بن محمد. واستأمن أبو محمد لأهل دمشق، فأمنهم مروان ورضي عنهم. وبلغ إبراهيمَ فخرج هارباً حتى أتى مروان فبايعه وخلع نفسه، فقَبِل منه وأمنه، فسار إبراهيمُ فنزل الرّقة على شاطىء الفرات، ثم أتاه كتابُ سليمان بن هشام يَستأمنه، فأمّنه، فأتاه فبايعه. واستقامت لمروان بن محمد. وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهراً. قال أبو الحسن: شَهرين ونصفاً.
ولاية مروان بن محمد بن مروانثم بويع مَروان بن محمد بن مروان بن الحكم. أمه بنت إبراهيم بن الأشتر. قال بعضهم: بل كانت أمه لخباز لمصعب بن الزبير أو لابن الأشتر. واسم الخَبّاز رُزبا، وقال بعضهم: كان رُزبا عبداً لمسلم بن عمرو الباهلي. وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحِمار الجزيرة وابن أمة النخع ابنَ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنَ عبد المطلب. وكان مروان بن محمد أحزَم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم. ودُفع إلى مروان أبيات قالها الحكم بن الوليد وهو محبوس، وهي:
ألا فِتْيَانَ من مُضرٍ فَيحْمُوا ... أسارى في الحديد مُكَبلينا
أتذهبُ عامر بدمي ومُلْكي ... فلا غَثا أصبتُ ولا سَمينا
فإن أهلك أنا ووليّ عَهدي ... فمروانٌ أميرُ المؤمنينا
فأرِّثْ لا عدمتُك حربَ قيس ... فتُخرجَ منهمُ الداءَ الدًفينا
ألا من مُبلغ مروانَ عني ... وعمي الغَمْرَ طال بدا حَنينا
بأني قد ظُلمت وطال حَبْسي ... لدى البَخْراء في لِحِفِ مَهينا

وقُتل مروانُ ببُوصير من أرض مصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الوليد بن هشام عن أبيه، وعبد الله بن المُغيرة عن أبيه، وأبو اليَقْظان قالوا: وُلد مَروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين، وقُتل بقَرية من قُرى مِصر يقال لها بوصير، يومَ الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولايتهُ خمسَ سنين وستة أشهر وعشرة أيام، وأم مَروان أمة لمُصعب ابن الزبير. وقُتل وهو ابنُ ستين سنة.
ولد مروان عبدُ الملك، ومحمد، وعبد العزيز، وعُبيد اللّه، وعبد الله، وأبان، ويزيد، ومحمد الأصغر، وأبو عثمان. وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد، مولى بني عامر بن لُؤي، وكان معلَماً وكان على القضاء سُليمان بن عبد الله بن عًلاثة، وعلى شُرطته الكوثر بن عُتبة وأبو الأسود الغَنوي. وكان للحرس نُوب، في كل ثلاثة أيام نوبة، يلي ذلك صاحبُ النَوبة. وعلى حِجابته صقلا ومقْلاص. وعلى الخام الصغير عبدُ الأعلى ابن ميمون بن مِهران، وعلى ديوان الجُند عمْران بن صالح، مولى بني هذيل.
مقتل مروان بن محمد بن مروان

قالوا: والتقى مروانُ وعامرُ بن إسماعيل ببوِصِيرَ من أرض مِصر، فقاتلوهم ليلاً، وعبدُ الله وعبيدُ اللّه، ابنا مروان، واقفان ناحيةَ في جَمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خُراسان فأزالوهم عن مَراكزهم، ثم كروا عليهم فهزموهم حتى ردُوهم إلى عَسْكرهم ورَجعوا إلى موِقفهم. ثم إنّ أهلَ الشام بدَأوهم فحملوا على أهل خراسان، فكُشفوا كَشْفاً قَبيحاَ، ثم رجعوا إلى أماكنهم، وقد مَضى عبيدُ اللّه وعبدُ الله، فلم يروا أحداً من أصحابهم، فمَضوا على وجوههم وذلك في السحر. وقُتل مروان وانهزم الناسُ، وأخذوا عسكر مَروان وما كان فيه، وأصبحوا فاتّبعوا الفَلّ وتفرق الناس، فجلعوا يَقتلون من قَدروا عليه، ورجع أهلُ خراسان عنهم. فلما كان الغدً لَحِق الناسُ بعبد الله وعُبيد اللّه ابني مروان وجعلوا يأتونهما مُتقطّعين العشرةَ والعشرين وأكثرَ وأقلَّ، فيقولان: كيف أميرُ المؤمنين؟ فيقول بعضُهم: تركناه يُقاتلهم، ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قومٌ، ولا ينْعونه، حتى أتوا الحَرونَ، فقال: كنت معه أنا ومولىً له فصُرع فجرَرتُ برجله، فقالت: أوجعتَني. فقاتلت أنا ومولاه عنه، وعلموا أنه مروان، فألحّوا عليه، فتركتُه ولحقتُ بكم. فبكى عبدُ اللّه. فقال له أخوه عبيدُ اللّه: يا ألأمَ الناس! فررتَ عنه وتبكي عليه! ومَضوا. فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف! وقال بعضُهم؟ كانوا ألفين. فأتوا بلادَ النوبَة، فأجرى عليهم ملكُ النوبة ما يُصلحهم، ومعهم أمُّ خالد بنت يزيد وأمُّ الحكم بنت عًبيد الله - صبية جاء بها رجل من عسكر مَرْوان حين انهزموا فدَفعها إلى أبيها - ثم أجمع ابنا مَروان على أن يَأتيا اليمن وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسوِّدة، فنتحصن في حُصونها ونَدْعو الناس. فقال لهم صاحب النُّوبة: لا تفعلوا، إنكم في بلاد السًودان وهم في عدد كَثير، ولا آمن عليكم، فأقيموا، فأبَوْا. قال: فاكتُبوا إلي كتاباً، فكتبوِا له: إنا قَدِمنا بلادَك فأحسنتَ مَثْوانا وأشرت علينا أن لا نَخرج من بلادك فأبينا وخرجنا من عندك وافرَيْن راضيَيْن شاكرَيْن لك بطيبِ أنْفُسنا. وخرجوا، فأخذوا في بلاد العدوّ. فكانوا ربما عَرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاحَ، وأكثرَ من، ذلك لا يعرضون له. حتى أتوا بعضَ بلادهم، فتلقّاهم عظيمُهم فاحتبسهم، فطلبوا الماء، فمَنعهم ولم يُقاتلهم ولم يُخلّهم وعطًشهم، وكان يبيعهم القِرْبة بخمسين درهماً، حتى أخذ منهم مالا عظيماً. ثم خَرجوا فساروا حتى عَرض لهم جبلٌ عظيم بين طريقين، فسلك عبدُ الله أحدَهما في طائفة، وسلك عبيدُ اللّه الآخر في طائفة أخرى، وظنُوا أن للجبل غايةً يَقطعونها ثم يَجْتمعون عند آخرها، فلم يلتقوا. وعَرض قومٌ من العدوّ لعُبيد الله وأصحابه فقاتلوهم، فقُتل عبيد الله، وأخذت أم الحكم بنته، وهي صبية، وقُتل رجلٌ من أصحابه، وكَفُوا عن الباقين وأخذوا سلاحَهم. وتقطع الجيشُ، فجعلوا يتنكّبون العُمران فيأتون الماء فيُقيمون عليه الأيامَ، فتَمْضي طائفة وتُقيم الأخرى، حتى بلغ العطشُ منهم، فكانوا يَنْحرون الدابّة فيَقْطعون أكراشها فيشربونه، حتى وَصلوا إلى البحر بحيال المندب، ووافاهم عبدُ اللّه وعليه مِقْرمة قد جاء بها. فكانوا جميعاً خمسين أو أربعين رجلاً، فيهم الحجاجُ بن قُتيبة بن مسلم الحَرون، وعفْان، مولِى بني هاشم، فعبّر التجار السُّفن، فعبروا بهم إلى المندب، فأقاموا بها شهراً فلم تحملهم، فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعْلِم بهم العاملُ فخرجوا مع الحُجاج عليهم ثيابٌ غِلاظ وجِباب الأكرياء، حتى وافَوْا جَدّة وقد تقطعت أرجلهم من المشي. فمروا بقوم، فرقُّوا لهم فحملوهم. وفارق الحُجاج عبد َالله بجدة. ثم حجّوا وخرجوا من مكة إلى تَبَالة. وكان على عبد اللهّ فصّ أحمر كان قد غيّبه حين عَبَر إلى المَندب، فلما أمِن استخرجه، وكانت قيمتُه ألفَ دينار، وكان يقول وهو يمشي: ليتَ به دابّة. حتى صار في مِقْرَمة تكون عليه بالنهار وَبلْبسها بالليل. فقالوا: ما رأينا مثلَ عبد اللهّ، قاتلوا فكان أشدَّ الناس، ومَشَوا فكان أقواهم، وجاعُوا فكان أصبرهم، وعَرُوا فكان أحسنهم عُرياً. وَبعَث، وهو بالمندب، إلى العدو الذين أخذوا أمَّ الحكم بنتَ أخيه عُبيد اللّه ففداها وردّها إليه، فكانت معه. ثم أخذ عبدُ اللّه فقُدم به على المهديّ، فجاءت امرأتُه

بنت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم، فكلّمت العباسَ بن يعقوب، كاتِب عيسى بن عليّ، وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى: فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ، وأراد المهديُّ أن يقتله، فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بَيعة، وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم، فحَبسه المهديُ. وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان، وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة، فأقامت بها، وقدم عبدُ اللّه بن مروان سًّراً فتزوّجها. وقال مولى مروان: كنتُ مع مَروان وهو هارب، فقال لي يوماً: أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا! ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ. وقال: بعض آل مروان، ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون، كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه، وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد: لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ، فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء، إذ ذَكر مروانَ وانهزامه، فقال: شهدتَ القتالَ؟ قلت: نعم، أصلح اللهّ الأمير، وقال لي مروان: احزُر القوم، فقلت: إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب، فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشرَ ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتُهب بيت المال الصغير، فانصرفَ يُريد بيتَ المال. فقيل له: قد انتُهب بيتُ المال الأكبر، انتهبه أهلُ الشام.ت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم، فكلّمت العباسَ بن يعقوب، كاتِب عيسى بن عليّ، وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى: فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ، وأراد المهديُّ أن يقتله، فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بَيعة، وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم، فحَبسه المهديُ. وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان، وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة، فأقامت بها، وقدم عبدُ اللّه بن مروان سًّراً فتزوّجها. وقال مولى مروان: كنتُ مع مَروان وهو هارب، فقال لي يوماً: أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا! ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ. وقال: بعض آل مروان، ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون، كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه، وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد: لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ، فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء، إذ ذَكر مروانَ وانهزامه، فقال: شهدتَ القتالَ؟ قلت: نعم، أصلح اللهّ الأمير، وقال لي مروان: احزُر القوم، فقلت: إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب، فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشرَ ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتُهب بيت المال الصغير، فانصرفَ يُريد بيتَ المال. فقيل له: قد انتُهب بيتُ المال الأكبر، انتهبه أهلُ الشام.
وقال أبو الجارود السُّلميّ: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقِينا مروانَ على الزاب، فحمَل علينا أهلُ الشام كأنّهم جبالُ حديد، فجَثونا على الرّكَب وأشْرعنا الرماح، فزالوا عنّا كأنهم سَحابةٌ، ومَنَحنا اللّه أكتافَهم، وانقطع الجسْر مما يليهم حين عَبروا، فبقي عليه رجلٌ من أهل الشام، فخرج إليه رجلٌ منّا، فَقتَله الشاميُّ. ثمِ خرج إليه آخر فقَتله، حتى والَى بين ثلاثة. فقال رجل منَّا: اطلُبوا إليَّ سيفاً قاطعاً وتُرساً صلبا، فأعطيناه، ومشى إِليه فضَر به بالشافي، فأتقاه بالتُّرس، وضَرب رجلَه فقَطعها وقَتله ورجع، فحملناه وكَبَّرنا، فإِذا هو عُبيد اللّه الكابُلي.

سَمَر المنصورُ ذاتَ ليلة فذَكر خُلفاء بني أمية وسيرَهم. وأنهم لم يَزالوا على استقامة حتى أفضى أمرُهم إلى أبنائهم المُترفين، وكانت هِمتهم، مع عِظم شأن المُلك وجَلالة قَدْره، قَصْدَ الشهوات وإِيثارَ اللذات والدخولَ في معاصي اللّه ومساخطه، جهلاً باستدراج اللهّ وأمْنا لمَكْره، فسَلبهم الله العزَ، ونَقل عنهم النِّعمة. فقال له صالح بن عليّ: يا أمير المؤمنين، إن عبد اللّه بن مَروان لما دخل النّوبة هارباً فيمن تَبعه، سأل ملكُ النوبة عنهم، فأخبر، فركب إلى عبد اللّه، فكلّمه بكلام عَجيب في هذا النَّحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإِن رأى أمير المؤمنين أن يَدْعو به من الحَبس بحَضرتنا في هذه الليلة وشماله عن ذلك؟ فأمر المنصورً بإحضاره وسأله عن القصة. فقال: يا أمير المؤمنين، قَدمنا أرض النوبة وقد خُبِّر المَلِك بأمرنا، فدخل عليّ رجلٌ أقنى الأنف طُوالٌ حسنُ الوجه، فقَعد على الأرض ولم يَقْرُب الثياب. فقلت: ما يَمنعك أن تَقعد على ثيابنا؟ قال: لأنّي ملك ويحقّ على الملك أن يتواضع لعَظمة اللّه إذ رَفعه الله. ثم قال: لأي شيء تَشْربون الخمر وهي مُحرمة عليكم؟ قلتُ: اجترأ على ذلك عبيدُنا وغِلْماننا وأتباعنا لأنّ المُلك قد زال عنا. قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفسادُ مُحرّم عليكم في كتابكم؟ قلت: يَفعل ذلك عبيدُنا وأتباعُنا بجَهلهم. قال: فلِم تَلبَسُون الدِّيباج والحَرير وتَسْتعملون الذهبَ والفِضة، وذلك مُحَرم عليكم؟ قلت: ذهب الملكُ عنّا وقَل أنصارُنا، فانتصرنا بقوم منِ العَجم دخلوا في دِيننا، فلبَسوا ذلك على الكُرْه منَا. قال: فأطرَق مليا وجَعلً يقلَب يدَه ويَنْكُث الأرض ويقول: عبيدُنا وأتباعنا وقومٌ دخلوا في دِيننا وزال المُلك عنا! يردّد مراراً. ثم قال: ليس ذلك كذلك، رب أشتم قومٌ قد استحلَلْتم ما حَرم الله، ورَكِبتم ما نهاكم عنه، وظَلمتم من مَلَكْتم، فَسَلَبكم اللّه العز، وألبسكم الذّل بذُنوبكم، وللّه فيكم نِقْمة لم تَبْلغ غايتَها، وأخاف أن يَحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيُصيبني معكم، وإنما الضيافةُ ثلاثة أيام، فتزوّدوا ما احَتجتم وارْتحلوا عن بلدي.
أخبار الدولة العباسيةالهيثم بن عديّ قال: حدّثني ابن عيّاش قال: حدثني بُكير أبو هاشم، مولى مَسْلمة قال: لم يزل لبني هاشم بيعةُ سرّ ودَعْوَة باطنة منذ قتل الْحُسين بن عليِّ بن أبي طالب، ولم نزل نَسمع بخروج الرايات السُّود من خُراسان وزوال مُلك بني أمية حتى صار ذلك.
وقيل لبعض بني أمية: ما كان سببُ زوال مُلْككم؟ قال: اختلافنا فيما بيننا، واجتماع المختلفين علينا. الهيثم بن عدىّ قال: حدثني غيرُ واحد ممن أدركت من المَشايخ أنّ علي بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحَسن، فأصاره إلى مُعاوية، وكَره ذلك الحسينُ ومحمد بن الحنفية. فلما قُتل الحسينُ بن عليّ صار أمرُ الشَيعة إلى محمد بن الحنفيّة - وقال بعضُهم: إلى عليّ بن الحسين - ثم إلى محمد بن عليّ، ثم إلى جعفر بن محمد. والذي عليه الأكثر أنّ محمدَ بن الحنفية أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبدِ اللهّ بن محمد بن الحنفيّة.
فلم يزل قائماً بأمر الشِّيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويُؤدُّون إليه الخِراج، حتى استُخلف سليمانُ بن عبد الملك، فأتاه وافداً ومعه عِدّة من الشيعة، فلما كلمه سليمان، قال: ما كلمتُ قط قرشيّاً يُشبه هذا، وما نَظن الذي كنا نُحدَّث عنه إلا حقاً، فأجازه، وقَضى حوائجه وحوائجَ مَن معه. ثم شخص وهو يريد فِلسطين، فلما كان ببلاد لخم وجُذام ضربوا له أبنية في الطريق ومعهم اللَبن المَسموم، فكلَما مرّ بقوم قالوا: هَلْ لكمِ في الشراب؟ قال: جُزيتم خيراً، ثم بآخرين، فعَرضوا عليه، فقال: هاتوا، فلما شرب واستقر بجوفه، قال لأصحابه: إني ميّت فانظُروا مَن القوم؟ فنظروا فإِذا هم قَوًضوا أبنيَتهم وذَهبوا.
فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي، وما أحسبني أدركه. فأسرعوا السير، حتى أتوا الحُمَيْمَة من أرض الشَراة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل به، فقال: يا بنَ عمَي، إني ميّت، وقد صرتُ إِليك وأنت صاحبُ هذا الأمر، وولدُك القائم بِه، ثم أخوه مِن بعده، واللّه ليتمّن الله هذا الأمرَ حتى تَخرج الراياتُ السود من قَعْر خُراسان، ثم ليَغْلِبُنّ على ما

بين حَضرموت وأقصى إِفريقية، وما بين الهِنْد وأقصى فَرْغانة. فعليك بهؤلاء الشيعة واستَوْص بهم خيراً، فهم دعاتُك وأنصارُك. ولتكن دَعوتُك خُراسان ولا تَعْدها، لا سيما مَرْو؛ واستَبْطن هذا الحيً من اليمن، فإِن كل مُلْك لا يقوم به فمصيره إِلى انتقاض، وانظُر هذا الحيَّ من رَبيعة فألحقهم بهم، فإِنهم معهم في كل أمر؛ وانظُرْ هذا الحي من قَيس وتميم فأقْصهم، إلا مَن عصم الله منهم، وذلك قليل؛ ثم مرُهم أن يَرْجعوا فَلْيجعلوا اثني عشرَ نقيباً، وبعدهم سبعين نقيباً، فإن اللّه لم يُصلح أمرَ بني إِسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا مضت سنة الحِمَار فوجِّه رُسلك في خُراسان، منهم من يُقتل ومنهم مَن ينجو، حتى يُظهر اللّه دعوتكم. قال محمد بن علي: يا أبا هاشم، وما سَنة الحِمَار؟ قال: إِنه لم تمض مائةُ سنة من نُبَوّةِ قط إِلا انتَقَض أمرها، لقول اللّه عز وجل: " أوْ كالذي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوية عَلَى عُروشها. قال أنىَّ يُحْي هذه اللّه بَعد مَوْتها. فأماته اللهّ مائة عام ثم بَعثه " إلى قوله: " وانظُر إلى حِمَارك ولنَجْعَلَكَ آيةً للنَّاس " . واعلم أنّ صاحب هذا الأمر مِن ولدك عبدُ اللّه بن الحارثية، ثم عبدُ الله أخوه. ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولدٌ يسمى عبد الله، فوُلد من الحارثيّة ولدان سَمّىِ كل واحد منهما عبدَ الله، وكنى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر، فوَليا جميعاَ الخلافة. ثم مات أبو هشام وقام محمدُ بن علي بالأمر بَعده، فاختلفت الشيعةُ إِليه. فلما وُلد أبو العباس أخرجه إليهم في خِرقة، وقال لهم: هذا صاحبُكم، فجعلوا يَلْحسون أطرافَه، ووُلد أبو العبّاس في أيام عمرَ بن عبد العزيز. ثم قدم الشيعةُ على محمد بن عليً فأخبروه أنهم حًبسوا بخُراسان في السجن، وكان يَخْدُمهم فيه غلام من السًراجين ما رأوا قطُّ مثلَ عقله وظَرْفه ومحبّته في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: أبو مسلم. قال: أحر أم عبد؟ قال: أمّا عيسى فيزعم أنه عَبد، وأما هو فيزعم أنه حُر. قال: فاشتَرُوه واعتقوه واجعلوه بينكم إِذ رَضيتموه. وأعْطَوْا محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم.
فلما انقضت المائةُ السنة بعثَ محمدً بن علي رُسلَه إِلى خراسان فغرسوا بها غَرْساً، وأبو المُقدًم عليهم، وثارت الفِتنة في خراسان بين المُضرية واليمانية، فتمكًن أبو مُسلم وفَرّق رُسله في كُوَرِ خُراسان يدعو الناس إلى آل الرسول، فأجابوه. ونَصْر بنُ سيار عاملُ خًراسان لهشام بن عبد الملك، فكان يَكتب لهشام بخَبرهم، وتمضي كتبه إِلى ابن هُبيرة صاحب العراق ليُنفذها إلى أمير المؤمنين، فكان يَحْبسها ولا يُنْفذها لئلا يقوم لنَصر بن سيّار قائمة عند الخليفة. وكان في ابن هُبيرة حسد شديد. فلما طال بنَصر بن سيّار ذلك ولم يأته جوابٌ من عند هشام كتب كتاباً وأمضاه إلى هشام على غير طريق ابن هُبيرة، وفي جَوف الكتاب هذه الأبياتُ مُدْرَجة، يقول فيها:
أرَى خَلَل الرماد وميضَ جَمْرٍ ... فيُوشِكُ أنْ يكون لها ضِرَام
فإنّ النارَ بالعُودين تُذْكَى ... وإن الحربَ أولًها الكلام
فإِنْ لم تُطْفئوها تَجْن حَربا ... مُشَمِّرة يَشيب لها الغُلام
فقلتُ من التعجّب ليتَ شِعرِي ... أأيقاظُ أمَيّة أم نِيام
فإن كانوا لحينهمُ نياماً ... فقُل قوموا فقد حان القِيام
فِفِري عن رِحالك ثم قُولي ... على الإسلام والعَرب السلام
فكتب إِليه هشام: أنِ احسم ذلك الثؤلول الذي نجم عندكم. قال نصر: وكيف لنا بحَسمه! وقال نَصْر بن سيّار يُخاطب المضرية واليمانية، ويُحذِّرهم هذا العدو الداخل عليهم بقوله:
أبْلغ ربيعةَ في مَرْوٍ وإخْوَتهم ... فلَيْغضبوا قبل أن لا يَنْفع الغَضَبُ
وَلْينصبوا الحربَ إن القومَ قد نَصَبوا ... حرباً يُحرَّق في حافاتها الحَطب
ما بالُكم تَلقَحون الحربَ بَينكم ... كأنّ أهل الحِجا عن فِعْلكم غَيَب
وتَتْركون عدوًّا أظلِّكم ... مما تَأشب لا دِينٌ ولا حَسَب

قِدْماً يدينون ديناً ما سمعتُ به ... عن الرَّسول ولم تَنزل به الكُتب
فمن يَكن سائلاً عن أصْل دِينهم ... فإنّ دينَهم أنْ تُقْتل العرب
ومات محمد بن عليّ في أيام الوليد بن يزيد، وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد، فقام بأمر الشِّيعة. وقَدَّم عليهم أبا مسلمِ السرَّاج وسُليمان بن كَثير، وقال لأبي مُسلم: إن استطعت أن لا تَدع بخُراسان لساناً عربياً فافعل، ومَن شَكَكت في أمره فاقتُلْه. فلما استَعْلى أمرُ أبي مُسلم بخُراسان وأجابته الكُور كلها، كتب نصرُ بن سيّار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكَثرة مَن تَبعه، وانّه قد خاف أن يَسْتولي على خُراسان وأن يَدْعو إِلى إِبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس. فأتى الكتابُ مَروان، وقد أتاه رسول لأبي مُسلم بجوابِ إِبراهيم إلى أبي مُسلم. فكتب مروانُ إلى الوليد بن مُعاوية بن عبد الملك بن مروان، وهو عامله على دمشق: أن أكتُب إلى عاملك بالبَلقاء ليسير إلى الْحُميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشدّه وَثاقاً ثم يَبْعث به إِليك، ثم وجهْه إليّ. فحمُل إِلى مَروان، وتبعه من أهله عبدُ الله بن علي وعيسى بن موسى، فأدخل على مروان، فأمر به إلى الحبس.
وقال الهيثم: حدثني أبو عُبيدة، قال: كنتُ آتيه في السجن ومعه فيه سعيدُ بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فواللهّ إني ذاتَ ليلة في سَقيفة السجن بين النائم واليقظان، إذ بمَوْلى لمَروان قد استفتح البابَ ومعه عشرون رجلاً من موالي مروان الأعاجم، ومعهم صاحب السجن، فأصبحنا وسعيدٌ وعبدُ الله وإِبراهيم قد ماتوا.
قال الهيثم: حدثني أبو عُبيدة قال: حدثني وصيفُ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمُه في الحَبس: إِنه غَمّ عبدَ اللّه مولاه بِمرْفقه. وإِبراهيمَ بن محمد بجراب نُورة، وسعيدُ بن عبد الملك أخرجه صاحبُ السجن، فلقيه بعضُ حَرس مروان في ظُلمة الليل، فوَطئته الخيلُ وهم لا يعرفون من هو، فمات.
ثم استولى أبو مُسلم على خُراسان كُلها، فأرسل إلى نصر بن سيّار، فهَرَب هو وولده وكاتبه داود حتى انتهوا إلى الرَّيْ، فمات نصرُ بن سيّار بساوَة، وتفرّق أصحابه، ولَحِق داود بالكُوفة وولدُه جميعاً. واستعمل أبو مُسلم عُمّاله على خُراسان ومَرْو وسَمَرقند وأحوازها، ثم أخرج الراياتِ السود، وقَطع البعوث، وجَهَّز الخيل والرجال عليهم قحطبةُ بن شَبيب، وعامر بن إسماعيل، ومُحرز بن إِبراهيم في عِدّة من القُوّاد، فَلَقُوا مَن بطُوس، فانهزموا، ومَن مات في الزِّحام أكثرُ ممن قُتل، فبلغ القتلَى بضعةَ عشرَ ألفاً. ثم مَضى قَحْطبة إلى العِراق، فبدأ بجُرجان، وعليها نُباتة بن حَنْظلة الكِلابيّ. وكان قَحْطبة يقول لأصحابه: والله ليُقْتلن عامرُ بن ضُبارة ويَنْهزمنّ ابنُ هُبيرة، ولكني أخافُ أن أموتَ قبل أن أبلغ ثأري، وأخاف أن أكون الذي يَغْرق في الفرات، فإِن الإمام محمدَ بن عليّ قال لي ذلك.
قال الهيْثمُ: فقَدِم قحطبةُ جُرجانَ فقَتل ابنَ نُباتة، ودخل جُرجان فانتهبها، وقسّم ما أصاب بين أصحابه، ثم سار إلى عامر بن ضُبارة بأصْبهان، فلقيه، فقُتل ابنُ ضُبارة وقتل أصحابه، ولم يَنجُ منهم إِلا الشّرَيد، ولَحق فَلُهم بابن هُبيرة.
وقال قَحْطبة لما قُتل ابن ضُبَارة: ما شيءٌ رأيتُه ولا عدوٌ قتلتُه إلّا وقد حَدّثني به الإمام صلواتُ الله عليه، إلا أنه حدّثني أني لا أعْبُر الفُرات.
وسار قَحطبةُ حتى نزل بحلوان، ووجّه أبا عون في نحو ثلاثين ألفاً إلى مَروان بن محمد، فأخذ على شهر زور حتى أن الزَّاب، وذلك برَأي أبي مُسلم. فحدّث أبو عون عبدُ الملك بن يزيد قال قال لي أبو هشام بُكَير بن ماهان: أنت والله الذي تسير إلى مرْوان، ولتَبْعثنّ إليه غُلاماً مِن مَذْحِج يقال له عامر فلَيقتلنّه. فأمْضيت واللّه عامرَ بن إسماعيل على مُقدَمتي، فلقي مروان فقتله.
ثم سار قَحطبة من حُلوان إلى ابن هُبيرة بالعراق، فالتقوا بالفرات فاقتتلوا حتى اختلط الظلامُ، وقُتل قَحطبة في المَعركة وهو لا يُعرف. فقال بعضُهم: غَرِق في الفُرات.

ثم انهزم ابنً هُبيرة حتى لحق بواسط، وأصبح المُسوِّدة وقد فَقدوا أميرَهم، فقدَموا الحسنَ بن قَحطبة. ولما بلِغ مروانَ قتلُ قَحطبة وهَزيمةُ ابن هُبيرة قال: هذا واللّه الإدبار، وإلا فمتى رأيتُم ميِّتاً هَزم حَيًّاً! وأقام ابن هُبيرة بواسط، وغلبت المُسوَدة على العراق، وبايعوا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبَّاس لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ووجهَ عَمَّة عَبدَ اللهّ بن علي لقتال مَروان وأهل الشام، وقدّمه على أبي عَون وأصحابه. ووجه أخاه أبا جَعفر إلى واسط لقتال ابن هُبيرة. وأقام أبو العباس بالكُوفة حتى جاءته هَزيمةُ مَرْوان بالزاب، وأمضى عبد اللّه بن علي أبا عون في طَلبه، وأقام على دِمَشق ومدائن الشام يأخذ بَيعتها لأبي العباس.
وكان أبو سَلمة الخلّال، واسمه حَفْص بن سليمان، يدعى وزيرَ آل محمد، وكان أبو مُسلم يدعى أمينَ آل محمد. فقَتل أبو العباس أبا سَلمة الخلاّل واتهمه بحُب بني فاطمة، وأنه كان يَحْطِب في حِبالهم. وقتل أبو جعفر أبا مسلم، وكان أبو مُسلم يقول لقواده إذا أخرجهم: لا تُكلموا الناسَ إِلا رَمْزا، ولا تَلحظوهم إلا شزرا، لتمتلىء صدورُهم من هَيبتكم.
مقتل زيد بن علي
أيام هشام بن عبد الملك كَتب يوسف بن عُمر إلى هشام بن عبد الملك: إنّ خالدَ بن عبد اللّه أوْدع زيدَ بن عليّ بن حُسين بن عليّ بن أبي طالب مالاً كثيراً. فبعث هشامٌ إلى زَيد، فقَدِم عليه، فسأله عن ذلك، فأنكر، فاستحلفه، فحلف له، فخلّى سبيله، وأقام عند هشام بعد ذلك سنة. ثم دخل عليه في بعض الأيام، فقال له هشام: بَلغني أنك تحدِّث نفسَك بالْخِلافة، ولا تَصْلح لها لأنك ابنُ أمة. قال: أمّا قولكُ إني ابن أمة، فهذا إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابنُ أمة، أخرج الله من صُلبه خيرَ البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وإِسحاقُ ابن حُرة، أخرج اللّه من صُلبه القِردَة والخنازير وعَبدة الطاغوت. وخرج زيد مُغضباً. فقال زيد: ما أَحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذل قال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وخرج زيدٌ حتى قَدم الكوفة فقال:
شرَده الخوْفُ وأزْرَى به ... كذاك مَن يَكره حَرّ الجلادْ
مُحتفي الرَّجلين يَشْكو الوجَى ... تَنْكُبه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد
قد كان في المَوْت ... له راحة والموتُ حَتْم في رِقاب العِبادْ
ثم خَرج بخُراسان، فوجّه يوسف بنُ عمر إِليه الخيلَ، وخرج في إثرها حتى لقيه، فقاتَله، فرُمي زيدٌ في آخر النهار بنشّابة في نَحْره فمات، فدَفنه أصحابهُ في حمأة كانت قريبةً منهم. وتتبع يوسف أصحابَ زيد، فانهزم من انهزم، وقُتل من قُتل. ثم أتي يوسفَ فقيل له: إن زيداً دُفن في حَمأة. فاستخرجه وبَعث برأسه إلى هشام، ثم صَلبه في سُوق الكُنَاسة. فقال في ذلك أعورُ كلب، وكان مع يوسف في جَيش أهل الشام:
نَصبنا لكم زيداً على جِذْع نخلةٍ ... وما كان مَهْدي على الجذْع يُنصبُ
الشَيباني قال: لما نزل عبدُ الله بن علي نهر أبي فُطرس، حضر الناسُ بابَه للإذن، وحَضر اثنان وثمانون رجلاً من بني أمية، فخَرج الآذن، فقال: يا أهل خراسان، قُوموا. فقاموا سِماطين في مجلسه، ثم أذن لبني أمية، فأخذت سيوفُهم ودخلوا عليه. قال أبو محمد العَبْدي الشاعر: وخَرج الحاجبُ فأدخلني، فسلمتُ عليه، فردّ عليّ السلام، ثم قال أنشدني قولك: وَقَف المُتَيّم في رُسوم دِيار فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاةُ إلى الجنان فهاشمٌ ... وبنو أمية من دُعاة النارِ
مَن كان يَفْخر بالمكارم والعُلا ... فلَها يَتمُّ المجد غيرَ فَخَارِ
والغَمْرُ بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المُصَلى، وبنو أمية على الكَراسي، فألقى إليّ صُرة حرير خَضراء فيها خَمسُمائة دينار، فقال: لك عندنا عَشرة آلاف درهم وجارية وبرْذون وغلامٌ وتخت ثياب. قال: فوفّى واللهّ بذلك كُلّهُ. ثم انشأ عبدُ اللهّ بن علي يقول:
حسِبتْ أمية أنْ سَيرضى هاشم ... عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها

كلا وربِّ محمدٍ وإِلهِه ... حتى تُباح سهولُها وحُزونها
ثم أخذ قَلنسوته من رأسه فضَرب بها الأرض، فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخَبطوهم بالسّيوف والعَمد. وقال الكلْبي الذي كان بينهم، وكان من أتباعهم: أيها الأمير، إني والله ما أنا منهم. فقال عبدُ الله بن علي:
ومُدْخلٍ رأسَه لم يَدْعُه أحد ... بين العرينَيْن حتى لَزَه القَرَنُ
اضربوا عُنقه، ثم أقبل على الغَمْر فقال: ما أحسبُ لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا. فقال: أجل. قال: يا غلام، اضرب عُنقه فأقيم مِن المُصلى فضرُب عنقه. ثم أمر ببساط فطُرح عليهم، ودعا بالطعام فجعل يأكل وانين بعضهم تحت البِساط.
وفي رواية أخرى قال: لما قَدم الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلاً من بني أمية، فوُضعت لهم الكراسي ووُضعت لهم نمارق وأجْلسوا عليها، وأجلس الغمرَ مع نَفْسه في المُصلى، ثم أذن لشِيعته فدخلوا، ودخل فيهم سُديف بن مَيمون، وكان مُتوشِّحاً سيفاً متنكّباً قوساً، وكان طويَلاً آدم، فقام خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيزعُم الضُلال بما حَبِطت أعمالُهم أنّ غَير آل محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالخلافة، فلِم وبم؟ أيها الناس، ألكم الفَضل بالصَحابة دون ذوي القرابة، والشُرِكاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصَّة في الحياة، الوُفاة عند الوفاة، مع ضربهم على الأمر جاهلكم، وإطعامهم في الَّلأواء جائعكم؛ فلكم قَصم الله بهم من جبّار باغ، وفاسِقٍ ظالم. لم يسمع بمثل العباس، لم تَخضع له الأمة بواجب حق الحُرمة، أبو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجِلْده ما بينَ عيْنيه، أمنيةُ ليلة العقبة، ورسولُه إلى أهل مكة، وحاميه يوم حُنين، لا يَردّ له رأياً، ولا يُخالف له قَسَمِا. إنكم واللّه معاشرَ قُريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار اللّه لكم، تيميّ مرةَ وعدويّ مرة، وكُنتم بين ظَهْراني قوم قد اثروا العاجلَ على الآجل، والفاني على الباقي، وجَعلوا الصدقاتِ في الشهوات، والفَيءَ في اللّذات، والمغانم في المحارم، إذا ذُكِّروا باللّه لم يذكروا، وإذا قُدِّمُوا بالحق أدبروا، فذلك كان زمانُهم، وبذلك كان يَعمل سلطانهم.
فلما كان الغد أذن لهم فدَخلوا ودخل فيهم شبِل، فلما جلسوا قام شِبْل فاستأذن في الإنشاد، فأذِن له فأنشد:
أصبح الملكُ ثابتَ الأساس ... بالبهاليل من بَني العبًاس
طَلبوا وِتْر هاشمٍ فَلَقُوها ... بعد مَيْل من الزَمان وباس
لا تُقِيلن عبدَ شمس عِثاراً ... اقطعُوا كل نخلة وغِراس
ولقد غاظَني وغاظَ سَوائِي ... قُرْبُهم من مَنابر وكَراسي
واذكُروا مَصْرع الحُسين وزيداً ... وقَتيلاً بجانب المهرَاس
وقتيلاً بجَوْف حَرَّان أضحَى ... تَحْجُل الطيرُ حوله في الكِناس
نِعم شبْل الهراش مولاك شِبْل ... لو نجا من حَبائل الإفلاس
ثم قام وقاموا. ثم أذن لهم بعد، فدخلوا ودخل الشَيعة. فلما جلسوا قام سُديف بن ميمون، فأنشد:
قد أتتك الوُفود من عبد شَمْس ... مستعدين يُوجعون المِطيا
عَنوِة أيها الخليفة لا عَن ... طاعةٍ بل تَخوَفوا المَشرفيّا
لا يَغرَنْك ما. ترى من رجالٍ ... إن تحتَ الضلوع داءً دَوِيّا
فضَع السيفَ وارفع السَّوط حتى ... لا ترى فوقَ ظَهْرها أمويا
ثم قام خَلَف بن خَليفة الأقطع فأنشد:
إن تُجاوز فقد قَدرتَ عليهم ... أو تُعاقب فلم تُعاقِب بريّا
أو تُعاتبهم على رقة الدِّين فقد كان دينهم سامرياً
فالتفت أبو العباس إلى الغَمر، فقال: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: والله إن هذا لشاعر، ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
شَمس العَداوة حتى يستقادَ لهم ... وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قَدَروا

فشرَق وجهُ أبي العباس بالدم وقال: كذبتَ يا بن اللَخناء، إني لا أرى الخُيلاء في رأسك بعد، ثم قاموا. وأمر بهم فدُفعوا إلى الشَيعة، فاقتَسموهم فضربوا أعناقَهم، ثم جَزوا بأرجلهم حتى ألقوها في الصحراء بالأنبار، وعليهم سراويلاتُ الوَشيْ، فوقف عليهم سُديف مع الشِّيعة وقال:
طَمِعتْ أمية أنْ سيرضى هاشمٌ ... عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها
كلا ورب محمد وإلهه ... حتى يباد كَفُورها وخَؤُونها
وكان أشدَ الناس على بني أمية عبدُ اللّه بن علي، وأحنهم عليهم سليمان بن علي. وهو الذي كان يسميه أبو مُسلم كَنف الأمان، وكان يُجير كل من استجار به، وكتب أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنَا لم نُحارب بني أمية على أرْحامهمِ وإنما حار بناهم على عُقوقهم، وقد دافت إلي منهم دافّة لم يَشْهروا سلاحاً، ولم يُكَثروا جَمْعا، فأحبّ أن تكتب لهم منشورَ أمان. فكتب لهم منشورَ أمان وأنفذه إليهم. فمات سليمانُ بن علي وعنده بِضْع وثمانون حُرمة لبني أمية.
خلفاء بني أمية بالأندلس
عبد الرحمن بن معاوية بن هشامأول خلفاء الأندلس من بني أمية عبدُ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. وَلي الملكُ يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة. وتوفي في عَشرة من جُمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة. فكان مُلْكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وكان يقال له صَقْر قُريش، وذلك أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخْبروني عن صَقْر قُريش. من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راضَ المُلك، وسَكَّن الزَّلازل، وحَسم الأدواء، وأباد الأعداء. قال: ما صنعتم شيئاً. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبدُ الملك بن مروان. قال: ولا هذا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: عبدُ الرحمن بن معاوية، الذي عَبر البحر، وقَطع القَفز، ودَخل بلداً أعجمياً مُفْرداً، فمصر الأمصار، وجَنَّد الأجناد، ودَوّن الدَواوين، وأقام مُلكاً بعد انقطاعه، بحُسن تدبيره، وشِدة شَكيمته. إنَّ معاوية نَهض بمَرْكب حَمله عليه عمر وعثمان وذلّلا له صعبه، وعبدَ الملك ببَيعةٍ تقدَم له عَقْدُها، وأمير المؤمنين بطلب عشيرته، واجتماع شيعته، وعبدَ الرحمن منفرد بنفسه، مؤيَّد برأيه، مُسْتصحب لعَزْمه.
وقالوا: لما توطَّد مُلْك عبد الرحمن بن مُعاوية عَمِل هذه الأبيات وأخْرجها إلى وزرائه، فاستَغربتُ من قوله إذ صدَقها فعلُه، وهي:
ما حَق مَن قام ذا امتعاض ... بِمُنْتَضى الشَّفرتَين نَصلاَ
فبزّ مُلكاً وشاد عِزَا ... ومِنْبراً للخِطاب فَمصلا
فجاز قفراً وشَقَّ بَحْراً ... مُسامِياً لُجَّة ومَحْلَا
وجَنَّد الجُنْدَ حين أوْدَى ... ومَصَّر المِصْر حين أجْلى
ثم دَعا أهلَه جميعاً ... حيثُ انتأوا أن هَلمَ أهْلا
فجاء هذا طَريد َجُوع ... شريد َسَيْف أبيد قَتْلا
فَحلّ أمناً ونال شِبْعاً ... وحاز مالاً وضَمّ شَملا
ألم يَكُن حق ذا على ذا ... أوجبَ من مُنْعم. ومَوْلى
وكتب أميّة بن يزيد عنه كتاباً إلى بعض عُمَّاله يَسْتقصره فيما فَرّط فيه من عمله، فأكثر وأطال الكتاب، فلما لَحظه عبدُ الرحمن أمر بقَطْعه، وكتب: أما بعد، فإنْ يكن التَقصير منك مُقدَّما. فحَرِيّ أن يكون الاكتفاءُ عنك مُؤَخَراً، وقد علمتَ بما تقَدَمت، فاعتمد على أيّهما أحْببت.
وكان ثار عليه ثائرٌ بغربي بَلْدة، فغزاه فظَفِر به وأسره، فبينما هو مُنْصَرِف وقد حُمل الثائرُ على بغل مَكْبولاً، نظر إليه عبدُ الرحمن بني مُعاوية وتحته فرس له، فقنع رأسَه بالقناة، وقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشَقاق والنًفاق؟ قال الثائر: يا فَرس، ماذا تحمل من العَفو والرحمة؟ فقال له عبدُ الرحمن: والله لا تذوق موتاً على يدي أبداً.
هشام بن عبد الرحمن

ثم وَلي هشامُ بن عبد الرَّحمن لسبع خَلَون من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة، ومات في صَفَر سنة ثمانين ومائة. فكانت ولايتُه سبعَ سنين وعشرةَ أشهرِ. ومات وهو ابنُ إحدى وثلاثين سنة. وهو أحسنُ الناس وجهاً، وأشرفهم نفساً، الكامل المُروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حِلِّها، ووَضعها في حَقها، لم يُعرف منه هفوة في حداثته، ولا زَلة في أيام صِباه.
ورآه يوماً أبوه وهو مُقبل مُمتلىء شباباً فأعجبه، فقال: يا ليتَ نساء بني هاشم أبصرنه حتى يَعُدن فواركَ. وكان هشامَ يصرِّر الصُّرر بالأموال في ليالي المَطر والظلْمة، ويَبعث بها إلى المساجد. فيُعطي مَن وُجد فيها. يريد بذلك عمارة المساجد، وأوصى رجلٌ في زمن هشام بمال في فكّ سَبَّيه من أرْض العدو، فطُلبت فلم توجد؛ احتراساً منه للثغر واستنقاذاً لأهل السَّبْي.
الحكم بن هشامثم وَلي الخلافة الحكمُ بنِ هشام في صَفر سنة ثمانين ومائة، وكانت ولايتُه ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهراَ. ومات يومَ الخميس لثلاث بَقِين من ذي الحجّة سنة ست ومائتين. وهو ابنُ اثنتين وخمسين سنة. وكانت فيه بَطالهّ، إلا أنه كان شُجاعَ النفس، باسطَ الكَف، عظيم العَفْو، متخيراً لأهلٍ عمله ولأحكام رعيته أورعَ من يقدر عليهم وأفضلَهم، فيسلطهم. على نَفسه فضلاً عن ولده وسائر خاصّته. وكان له قاض قد كَفاه أمورَ رعيّته بفَضْله وعَدله ووَرعه وزُهده، فمرض مرضاً شديداً، واغتمَ له الحَكَم غمًّا شديداً. فذكر يزيدُ فتاه أنه أرِق ليلة وبَعُد عنه نومُه وجَعل يَتململ على فراشه، فقلت: اصلح اللّه الأمير، إني أراك متململاً وقد زال النومُ عنك فلم أدْرِ ما عَرض لك؟ قال: ويحك! إني سمعتُ نائحة هذه الليلة وقاضينا مريض، فما أراه إِلا قد قَضي نحبه، وأين لنا بمثله؟ ومَن يقوم للرعية مَقامه؟ ثم إن القاضي مات، واستقضى الحكمُ بعده سعيدَ ابن بَشير. فكان أقصدَ الناس إلى حق، أخذهم بعَدل، وأبعَدهم من هوى، وأنفذَهم لحُكم. رَفع إليه رجلٌ من أهل كُورة جَيَّان أنّ عاملاً للحَكم اغتصبه جاريةً وعَمِل في تَصْييرها إلى الحَكم، فوقعت من قَلبه كلَّ موقع، وأن الرجل أثبتَ أمرَه عند القاضي، وأتاه ببيّنة وشُهود يَشْهدون على مَعْرفة ما تظلم منه وعلى عَين الجارية ومَعْرفتهم بها. وأوجبت البيّنةُ أن تحضر الجارية، واستأذن القاضي على الحَكم، فأذِن له، فلما دخل عليه، قال: إنه لا يتم عَدْل في العامّة دون إِفاضته في الخاصَّة، وحَكى له أمرَ الجارية وخَيّره في إبرازها إليه. أو عَزْله عن القضاء. فقال له: ألا أدْعوك إلى خير من ذلك؟ تَبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها. فقال: إنَّ الشَهودَ قد شَخصوا من كُورة جَيان يَطلبون الحق في مظانّه، فلما صاروا ببابِك تَصرْفهم دون إنفاذ الحقّ لأهله، ولعلّ قائلاً أن يقول: باعَ ما يملك بيعَ مُقتسَر على أمْره. فلما رأى عَزْمه أمَر بإخراج الجارية من قَصرِه، وشهِد الشَّهودُ على عَيْنها، وقَضى بها لصاحبها.
وكان سعيدُ بن بَشير القاضي إذا خَرج إلى المسجد، أو جَلس في مَجلس الحُكم، جلس في رِداء مُعَصفر وشعر مُفَرق إلى شَحْمة أذنيه، فإذا طُلب ما عنده وُجد أوْرعَ الناس وأفضلهم.
وكانت للحكم ألف فَرس مَرْبوطة بباب قَصره على جانب النَهر، عليها عَشرة عُرفاء، تحت يدِ كل عَريف منها مائةُ فرس لا تُندب ولا تَبْرح، فإذا بلغه عن ثائر في طَرفٍ من أطرافه عاجَله قبل استحكام أمره، فلا يَشعر حتى يحاط به. وأتاه الخبر: أن جابرَ بنَ لَبيد يُحاصر جيّان وهو يَلْعب بالصولجانِ في الجِسرِ. فدكا بعَريف من أولئك العُرفاء فأشار إليه أن يخرج مَن تحت يده إلى جابر بن لبيد، ثم فَعل مثلَ ذلك بأصحابه من العرفاء. فلم يَشْعر ابنُ لَبيد حتى تساقطوا عليه مُتساوين، فلما رأى ذلك عدوُّه سُقط في أيديهم وظَنّوا أن الدنيا قد حُشرت لديهم، فولّوا مُدبرين.
وقال الحَكم يوم الهيجاء بعد وقعةِ الرَّبض:
رأبت صُدوعَ الأرْض بالسَّيف راقعاً ... وقِدْماً رأبتُ الشَّعب مُذ كُنتُ يافعَا
فسائلْ ثُغوري هل بها اليوم ثُغْرةٌ ... أبادِرُها مُسْتنْضيَ الصيف دارِعا

وشافِه علىِ أرْض الفَضاء جَماجماً ... كأقحاف شِرْيان الهَبيد لَوَامِعا
تنبئْك أني لم أكن عن قراعهم ... بوانٍ وأني كنت بالسيف قارعا
ولما تَساقَينا سِجال حُروبنا ... سَقَيتُهم يسُمًا من المَوت ناقِعا
وهل زِدْت أنْ وَفَّيتُهم صاعَ قَرْضهم ... فوافَوْا مَنايا قُذَرت ومَصارعا
قال عثمانُ بن المُثنى المؤدَب: قَدم علينا عباس بن ناصح من الجَزيرة أيامَ الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شِعْرَ الحَكم، فأنشدْتُه، فلما انتهيتُ إلى قوله:
هل زِدْت أن وَفيتهم صاعَ قَرْضهم
قال: لو جوثي الحكم في حُكومة لأهل الربض لقام بعُذره هذا البيت.
عبد الرحمن بن الحكمثم ولي بعده عبدُ الرحمن بن الحَكم، أندى الناس كَفَاً، وأكرمُهم عَطفاً، وأوسعُهم فَضْلاً، في ذي الحجَّة سنة لسِتٍّ ومائتين، فمَلك إحدى وثلاثين سنة وخمسةَ أشهر. ومات ليلةَ الخميس لثلاث خَلَون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستِّين سنة، وكتب إليه بعضُ عُماله يسأله عملاً رفيعاً لم يكن مِن شاكلته، فَوقع في أسفل كتابه: مَن لم يُصِبْ وَجْهَ مَطلَبه، كان الحِرمان أولى به.
محمد بن عبد الرحمنثم ولي المُلكَ محمدُ بن عبد الرحمن، يومَ الخميس لثلاث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملك أربعاً وثلاثين سنة، وتُوفي يومَ الجمعة مُستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وهو ابنُ سبع وستين سنة. وكتب عبد الرحمن بن الشَّمر إلى الأمير محمد بن عبدِ الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن، وكان يتجنّب الوُقوف ببابه مخافةَ نصر الفَتى، فلما مات نصرٌ كتب ابنُ الشَمِر هذه الأبياتَ إلى محمد يقوله فيها:
لئن غابَ وَجْهي عنكَ إنَّ مَودَّتي ... لشاهدة في كلِّ يومٍ تُسَلّمُ
وما عاقني إلّا عدوٌّ مُسلَّطٌ ... يُذلُ ويُقصي مَن يشاء وًيرغم
ولم يَسْتطل إلّا بكم وبعزّكم ... ولا يَنبغي أن يُمْنح العِز َّمُجرم
فمكّنتموه فاستطال عليكُم ... وكادت بنا نيرانُه تتضرَّم
كذلك كَلْب السَّوء إنْ يشبع انبَرى ... لمُشْبعه مستشلياً يَترمرم
فجَمِّع إخواناً لُصوصاً أرذالاً ... ومَنَاهُم أنْ يَقْتُلونا ويَغْنموا
رأى بأمين اللّه سًقماً فَغَرَّه ... ولم يَك يَدْري أنه يتقدَّم
فَنَحْمد ربًّا سَرَّنا بهلاكه ... فما زال بالإحْسان والطَّول يُنْعم
أراد يكَيد اللّه نصْرٌ فكاده ... ولله كَيْد يَغلب الكَيْدَ مُبرَم
بَكى الكًفرُ والشيطانُ نصراً فأعوَلا ... كما ضحِكَت شوقاً إليه جَهنم
وكانت له في كُل شهرٍ جِبايةٌ ... جِباية آلافٍ تُعَد وتُختَم
فهل حائطُ الإسلام يَوماً يسومهم ... بما اجترموا يوماً عليه وأقدموا
وُينْهبنا أموالَهم وهو فاعل ... فإنّي أرى الدُنيا له تَتبسَّم
ألا أَيها الناسُ اسمعوا قولَ ناصحٍ ... حريص عليكم مُشفِق وتَفهَّموا
محمد ُنُورٌ يُستضاء بوَجهه ... وسَيْفٌ بكف الله ماضٍ مُصمّم
فكونُوا له مثلَ البَنين يَكنْ لكم ... أباً حدِباً في الرُحْم بل هو أرحم
فيا بن أمين اللّه لا زلتَ سالماً ... مُعافًى فإنا ما سلمتَ سنَسْلم
ألستَ المُرَجى من أميّة والذي ... له المَجْدُ منها الأتلدُ المُتَقدّم
وأنتَ لأهل الخَير رَوحٌ ورَحمة ... نَعَمْ ولأهلِ الشَرِّ صاب وعَلقَم

وحدَّث بَقّي بن محمد الفَقيه قال: ما كلمتُ أحداَ من المُلوك أكملَ عقلاً، ولا أبلغ لَفظاً، من الأمير محمد، دخلتُ عليه يوماً في مجلس خلافته فافتتح الكلامَ، فحَمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذَكر الخُلفاء خليفةً خليفَةَ، فحكى كلَّ واحد منهم بحِلْيته ونَعْته ووصفه، وذكر مآثرَه ومَناقبه، بأفْصح لسان، وأبْين بَيان، حتى انتهى إلى نَفسه فسَكت.
وخَرج الأميرُ محمد يوماً متنزهاً إلى الرُّصافة ومعه هاشمُ بن عبد العزيز، فكان بها صدَر نَهاره على لذَّته، فلما أمسى واختلط الظلامُ رجع مُنصرفاً إلى القَصر وبه اختلاط، فأخبَرني مَن سَمعه وهاشم يقول له: يا سيدي، يا بن الخلائف، ما أطيبَ الدُّنيا لولا. قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت. قال له: يا بن اللَّخناء، لَحنت في كلامك، وهل مَلكنا هذا المُلك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا المَوت ما مَلَكناه أبداً.
وكان الأميرُ محمد غَزَّاءً لأهل الشِّرك والخلاف، وربما أوْغل في بلاد العدو السِّتة الأشهر أو أكثر، يَحرق ويَنْسف، وله في العدو وَقيعة وادي سَليط، وهي من أمهات الوقائع، لم يُعرف مثلُها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عبّاس بنُ فرناس، وشعرُه يَكفينا من صِفتها:
ومُختلِف الأصْوات مُؤتلف الزحْف ... لَهُوم الفَلا عَبْل القنابل مُلتَفّ
إذا أومضت فيه الصَّوارمُ خِلتَها ... بُروقَاً تَراءَى في الجَهام وتَسْتَخْفي
كأنّ ذُرى الأعلام في سَيلانه ... قَراقير يَمٍّ قد عَجَزن عن القَذْف
وإن طَحنت أركانُه كان قُطبُها ... حِجَى مَلك نَجدٍ شمائلُه عَفِّ
سَمِى خِتام الأنبياءِ مُحمَّد ... إذا وُصف الأملاكُ جَل عن الوصْف
فمن أجْله يومَ الثُّلاثاء غُدوةً ... وقد نَقض الإصْباح عَقْد عُرى السَّجف
بَكى جبلاً وادي سَليط فأعولا ... على النَّفر العُبْدان والغصْبة الغُلف
دعاهم صريخ الحَيْن فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجُعلان للبَعْر في قُفّ
فما كان إلا أنْ رماهم ببَعضها ... فولوا على أعْقابِ مهْزومة كًشف
كأنّ مساعيرَ المَوالي عليهُم ... شواهينُ جادت للغَرانيقٍ بالنَسْف
بنَفسي تنانير الوغَى حينَ صُفِّفت ... إلى الجَبَلِ المَشْحون صفّا على صَفِّ
يقول ابنُ يليوسِ لموسى وقد وَنى ... أرى المَوت قُدّامي وتَحْتي ومِن خَلْفي
قتَلناهُم ألفاً وألْفاً ومثلَها ... وألفاً وألفاً بعد ألفٍ إلى ألف
سِوى مَن طواه النهرُ في مُستلجّه ... فأغْرق فيه أو تدأدأ من جُرْف
المنذر بن محمد

ثم ولي المنذرُ بن محمد، يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يومَ السبت في غَزاة له على بُبَشتر، لثلاثَ عشرةَ بقيت من صَفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو ابنُ ستٍّ وأربعين سنة. وكان أشدَّ الناس شَكيمة، وأمضاهم عزيمة. ولما ولي المُلك بَعث إِليه أهلُ طُليطلة بجبايتهمِ كاملةً فردّها عليهم، وقال: استعينوا بها في حَرْبكم فأنا سائر إِليكم إن شاء الله. ثم غزا إلى المارق المرتدّ عمر بن حَفْصون وهو بِحصْن قامره، فأحْدق به وبخَيله ورَجْله، فلم يجد الفاسقُ مَنفذاً ولا متنفساً، فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة، وأظهر الإتابة والإجابة، وأن يكون من مُستوطني قُرطبة بأهله وولده، وسأل إلحاق أولاده في الموالي. فأجابه الأمير إلى كل ما سأل، وكتب لهم الأمانات، وقُطعت لأولاده الثياب، وخُرزت لهم الخِفاف، ثم سأل مائةَ بغل يَحمل عليها ما لَه ومتاعه إلى قُرطبة، فأمر الأمير بها. وطُلبت البغال ومَضت إلى بُبَشْتَر، وعليها عشرة من العرفاء، وانحلّ العسكرُ عن الحِصن بعضَ الانحلال، وعكف القاضيِ وجماعة من الفقهاء على تمام الصُّلح فيما حَسبوا. فلما رأى الفاسق الفُرصةَ انتهزها ففسق ليلاً وخَرج، فلقي العُرفاء بالبغال فقَتلهم، وأخذَ البغال وعاد إلى سيرتِه الأولى. فعقد المُنذر على نفسه عقداً أن لا أعطاه صُلحاً ولا عهداً إلا أن يُلقي بيده ويَنزل على عهدِه وحُكمه، ثم غَزاه الغزاة التي تُوفي فيها، فأمر بالبُنيان والسّكنى عليه، وأن يُردَّ سوق قرطبة إِليه، فعاجله أجلُه عن ذلك.
عبد اللّه بن محمد
ثم تولّى عبدُ الله بن محمد، التقيّ النقيّ، العابد الزاهد، التالي لكتاب اللّه، والقائم بحدود الله، يومَ السبت لثلاثَ عشرةَ بقيَت مِن صفر سنة خمس وسبعين ومائتين. فبنى الساباط وخرج إلى الجامع، والتزم الصلاة إلى جانب المنبر، حتى أتاه أجلُه، رحمه اللّه، يومَ الثلاثاء لليلة بقيت من صَفر سنة ثلثمائة. وكانت له غزوات، منها غَزاة بَليّ التي أنست كُلّ غزاة تقدّمتها، في لك أن المُرتد ابن حَفْصون ألّب عليه كُور الأندلسَ حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها، ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حِصْنَ بَليّ، وخرج إليه الأمير عبدُ اللّه بن محمد في أربعةَ عشرَ ألفاً من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حَشمه ومواليه، فبَرز إليه الفاسق، وقد كرْدس كراديسه في سَفْح الجبل، وناهضه الأميرُ عبد الله بجُمهور عسكره، فلم يكن له فيهم إلا صَدْمة صادقة، أزالهم بها عن معسكرهم، فلم يقدروا أن يتراجعوا إِليه. ونظر الفاسقُ إلِى مُعسكر عبد الله الأمير، فإذا بمَدَد مُقبل مثل اللَّيل، في انحدارِ السيل، لا ينقطع، فجَبُنت نفسه، وعَطف إلى الحصن يظهر إخراج مَن بقي فيه، فثَلم ثلمة وخَرج منها في خمسة معه، وقد طار بهم جَناحُ الفرار. فلما انتهى ذلك إلى أهل عَسكره وَلّوّا مُدبرين، لا يلوي أحد على أحد، فعملت الرماحُ في أكتافهم، والسيوفُ في طلا أعناقهم، حتى أفْنوهم أو كادوا. وكان منهم جماعةٌ قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله، فقعد الأمير في المَظلة، وأمر بالتقاطهم، وأن لا يَمُر أحدٌ على أحد منهم إلا قَتله. فقُتل منهم ألف رجل صبراً بين يدي الأمير.
عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنينثم ولي الملكَ القمرُ الأزهر، الأسدُ الغضنفر، الميمونُ النقيبة، المحمودُ الضريبة، سيدُ الخلفاء، وأنجبُ النجباء، عبدُ الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحةَ هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة، فقلت فيه:
بدا الهلالُ جديداً ... والمُلك غَضُ جديدُ
يا نِعْمة اللّه زِيدي ... ما كان فيه مَزيد

وهي عدة أبيات، فتولّى المُلكَ، والأرض جَمْرة تحتدم، ونارٌ تَضْطرم، وشِقاق ونفاق، فأخمد نيرانَها، وسًكن زلازلها، وافتتحها عَوْداً كما افتتحها بدءًا سميًّه عبدُ الرحمن بن معاوية، رحمه الله. وقد قلتُ وقيل في غَزواته كُلّها أشعار، قد جالت في الأمصار، وشُرِّدت في البلدان، حتى أتهمت أنجدت وأعرقت، ولولا أنٌ الناس مُكْتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذِكرها أو ذِكر بعضها. ولكننا سنذكر ما سبق إلينا من مَناقبه التي لم يتقدَّمه إليها متقدم، ولا أخْت لها ولا نظير، فمن ذلك أوّل غَزاة غَزاها، وهي الغزاة المعروفة بغَزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حِصْناً، كُلّ حصن منها قد نَكلت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف. وفيها أقول:
قد أوضحَ اللّه للإِسلام مِنهاجَا ... والناسُ قد دَخلوا في الدِّين أفواجَا
وقد تَزينت الدُّنيا لساكنها ... وكأنما ألْبست وَشْياً ودِيباجا
يا بنَ الخلائف إنّ المُزن لو عَلمت ... نَداك ما كان منها الماءُ ثجَاجا
والحربُ لو علمت بأساً تَصول به ... ما هًيجت من حُميّاك الذي اهتاجا
ماتَ النِّفَاق وأعطى الكُفْرُ ذِمّتَه ... وذلّت الخَيل إلجاماً وإسراجا
وأصبح النصرُ معقوداً بألْوية ... تَطْوي المراحلَ تَهْجِيراً وإِدْلاجا
أدخلتَ في قُبة الإسلام مارقةً ... أخرجتَهم من ديار الشِّرك إخراجا
بجَحْفل تَشْرَقُ الأرض الفضاءُ به ... كالبَحر يَقْذِف بالأمواج أمواجا
يقوده البدرُ يَسْرِي في كواكبه ... عَرمرماً كسواد اللّيل رجْراجا
تَرُوق فيه بُرِوق الموت لامعةً ... وتَسْمعون به للرَّعد أهْزَاجا
غادرتَ في عَقْوتي جَيَّان مَلْحمةً ... أبكيتَ منها بأرض الشرِّك أعلاجا
في نِصْف شهر تركتَ الأرضَ ساكنةً ... من بعدما كان فيها الجَوْرُ قدماجا
وُجِدتَ في الخبر المأثور مُنْصلتاً ... مِن الخلائف خَراجاً وولاجا
تُملأ بك الأرض عدلاً مثل ما مُلئت ... جَوْراً وتُوضِحُ للمَعروفِ مِنْهاجا
يا بَدْر َظُلمتها يا شَمْسَ صُبحتها ... يا ليْثَ حَوْمتها إنْ هائجٌ هاجا
إنّ الخلافةَ لن تَرْضىَ ولا رَضِيت ... حتى عَقدت لها في رَأسك التَّاجا
ولم يكن مثل هذه الغَزاة لملك من الملُوك في الجاهلية والإسلام. وله غَزاة مارشن، التي كانت أخت بَدر وحُنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتُها في مَغازيه كُلِّها من سنة إحدى وثلثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وأوقعناها في أسفل كتابنا لتكون جامعةً لمغازي أمير المؤمنين، وجعلتُها رجزاً لخفّة الرجز وسُهولة حفظه وروايته. ومن مَناقبه: أن الملوك لم تزل تَبني على أقدارها، وُيقضى عليها بآثارها، وأنّه بَنى في المُدة القليلة ما لم تَبن الخلفاءُ في المدة الطويلة. نعم، لم يبق في القَصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليّته بِنْية إلا له فيها أثر مُحدث، إما تزْييد أو تَجْديد ومن مناقبه: أنّه أوّد من سُمِّي أميرَ المؤمنين من خلفاء بنى أمية بالأندلس. ومن مَناقبه التي لا أخت لها ولا نَظير، ما اعْجز فيه مَن بعده، وقات فيه مَن قبله، الجودُ الذي لم يُعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له. وقد ذكرتُ ذلك في شعري الذي أقول فيه:
يا بن الخلائف والعُلا للمُعْتلِى ... والجودُ يُعْرف فضلُه للمفضل
نوَهت بالخُلفاء ِبل أخْملتهم ... حتى كأن نَبيلهم لم يَنبُل
أذْكرتَ بل أنْسيت ما ذكر الألى ... من فِعلهم فكأنه لم يُفعَل
وأتيتَ آخرَهم وشَأوُك فائتٌ ... للآخِرين ومُدْرِكٌ للأوّل
الآن سمَيَتِ الخلافةُ باسمها ... كالبَدْر يُقرَن بالسماك الأعْزل
تأبَى فَعالُك أن تُقر لآخِر ... منهمْ وجُودُك أن يكون لِأول
وهذه الأرجوزة التي ذكرَت جميع مغازيه، وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة

وهي:
سُبحان مَن لم تَحوه أقطارُ ... ولم تكنْ تُدركه الأبصارُ
ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ ... فما له نِذو لا شَبيهُ
سبحانَه مِن خالقِ قديرِ ... وعالمٍ بِخلْقه بَصير
وأوّلٌ ليس له ابتداءُ ... وآخِرٌ ليس له انتهاءُ
أوسَعنا إحسانُه وفضلُه ... وعَزَّ أن يكون شيء مثلُه
وجَلّ أن تُدْركَه العُيونُ ... أو يَحْوياه الوَهم والظُنونُ
لكنّه يُدرَك بالقَريحه ... والعَقل والأبنية الصَّحِيحه
وهذه مِن أثبتْ المَعارفْ ... في الأوْجه الغامضة اللَطائفْ
معرفة العَقْل من الِإنسانِ ... أثبتُ من مَعرفة العِيانِ
فالحمْدُ للّه على نَعْمائِه ... حمداًل جزيلاً وعلى آلائِه
وبعد حَمْد الله والتَّمجيدِ ... وبعد شُكر المُبدىء المُعيدِ
أقولُ في أيام خير الناسِ ... ومَن تحلَّى بالنَّدى وِالباس
ومَن أباد الكَفُرَ وَالنفاقَا ... وشرًّد الفِتْنة والشقاقَا
ونحنُ في حَنادسٍ كالليل ... وفتنة مثل غُثاء السيل
حتى تولّى عابدُ الرحمنِ ... ذاك الأغر من بني مروانِ
مُؤيدٌ حَكم في عُداته ... سيفاً يَسيل الموتُ من ظُباتِه
وصبح المُلك مع الهلال ... فأصبحَا يِديْن في الْجَمَال
واحتمل التَقوى على جَبِينِه ... والدين والدُّنيا على يمينِه
قد أشرقت بنُوره البلادُ ... وانقطع التشغيب والفسادُ
هذا على حينَ طغَى النفاقُ ... واستفحل النُكَّاثُ والمُرّاقُ
وضاقت الأرضُ على لسُكانها ... وأذْكت الحربُ لظَى نيرانِها
ونحنُ في عَشواء مُدلهمّهْ ... وظُلمة ما مثلُها من ظُلمهْ
تأخذُنا الصَّيحة كُل يوم ... فما تَلذُ مُقْلةٌ بنَوْم
وقد نُصلي العيدَ بالنواظِر ... مخافةً من العدوّ الثائِر
حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ ... طَبًق بين الأرْض والسماء
خليفة الله الذي اصطفاه ... على جَميع الخَلق واجْتباه
مِن مَعدن الوحي وبَيْت الحِكمه ... وخيْر مَنسوب إلى الأئمة
تَكِلُّ عن مَعروفه الجَنائبُ ... وتَسْتحى من جُوده السحائبُ
في وَجهه من نُوره برهانُ ... وكفُّه تَقبيلها قُرْبانُ
أحْيا الذي مات من المَكارِم ... من عَهد كَعْب وزَمان حاتِم
مكارم يَقصُرُ عنها الوَصْف ... وغرِّة يَحْسرًُ عنها الطَّرفُ
وشِيمة كالضابِ أو كالماء ... وَهِمَّة تَرِقَى إلى السماء
وانظر إلى الرفيع من بُنيانِه ... يُريك بِدْعاَ من عَظيم شَانِه
لو خايل البحرُ نَدَى يَديْهِ ... إذَا لَجَت عُفاتُه إلَيهِ
لغاض أو لكاد أن يَغِيضَا ... ولا استَحى من بعدُ أن يفِيضَا
مَن أسبغ النًّعمى وكانت مَحْقَا ... وفتْق الدنيا وكانت رَتقَا
هو الذي جَمّع شمْلَ الأمهْ ... وجاب عنها دامساتِ الظُلمَه
وجدَد المُلك الذي قد أخْلَقا ... حتى رَسَت أوتادُه واسْتَوسقَا
وجَمّع العُدّة والعَدِيدا ... وكَثَّفَ الأجْناد والحشودا
أول غزاة غزاها عبد الرحمن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد
ثم انتحَى جَيّان في غَزاته ... بعَسكر يَسْعر من حُماتِه
فاستنزل الوحشَ من الهضاب ... كأنما حطت من السّحاب
فأذعنت مُرّاقُها سراعَاَ ... وأقبلت حُصونها تَداعَىَ

لمَا رماها بسيوف العَزْم ... مَشْحوذة على دُروع الحَزْم
كادت لها أنفُسهم تجودُ ... وكادت الأرضُ بهم تَميدُ
لولا الإله زُلزلت زِلزالَها ... وأخْرجت من رَهْبة أثقالَها
فأنزل الناسَ إلى البسط ... وقَطَع البَيْن من الخَليط
وافتَتح الحُصونَ حِصناً حِصناً ... وأوْسع الناسَ جميعاً أمْنَا
ولم يَزل حتى انتحى جيانَا ... فلم يَدَع بأرْضها شَيطانَا
فأصبح الناسُ جميعاً أمّه ... قد عَقد الإلّ لهم والذَمّه
ثم انتحى من فَوره إلْبيرَهْ ... وهي بِكل آفةٍ مَشهورهْ
فداسَها بِخَيله ورَجْله ... حتى توَطّا خَدَّها بنَعْله
ولم يَدَع من جِنّها مَرِيدَا ... بها ولا من إنسها عَنيدَا
إلا كَسَاه الذُّلَّ والصّغارَا ... وعمَه وأهلَه دَمارَا
فما رأيتُ مثلَ ذاك العام ... ومثلَ صُنع اللّه للإسلام
فانصرفَ الأميرُ من غَزاته ... وقد شَفاه اللّهُ من عُداته
وقبلها ما خضعت وأذعنتْ ... إسْتِجة وطالما قد صَنعتْ
وبعدها مدينة الشِّئيل ... ما أذعنت للصارم الصَقيل
لما غَزاها قائدُ الأمير ... باليُمن في لِوائهِ المنْصورِ
فأسلمتْ ولم تكن بالمُسلمة ... وزال عنها أحمدُ بن مَسْلمهْ
وبعدها في آخرِ الشُّهورِ ... من ذلك العام الزَّكيّ النُّورِ
أرْجفت القِلاعُ والْحُصونُ ... كأنما ساوَرَها المَنونُ
وأقبلتْ رجالها وُفودَا ... تبْغِي لدَى إمامها السعودَا
وليس مِن ذِي عزَة وشدَه ... إلا توافَوْا عند باب السدَّه
قُلوبهمْ باخعةٌ بالطّاعَهْ ... قد أجْمعوا الدُّخولَ في الجَماعهْ
سنة إحدى وثلثمائةثم غَزا في عُقب عام قابِل ... فجال في شَذُونة والسّاحل
ولم يَدَعْ رَيَّةَ والجزيرة ... حتى كَوى أكلبَها الهريرَه
حتى أناخ في ذُرى قَرْمونَه ... بكَلْكل كمَدْرة الطاحُونه
على الذي خالَف فيها وانتزَى ... يعْزى إلى سوادة إذا اعتزَى
فسال أنْ يُمهله شُهورَا ... ثم يكون عبدَه المأمُورَا
فأسعف الأميرُ منه ما سألْ ... وعاد بالفَضْل عليه وقَفلْ
سنة اثنتين وثلثمائةكان بها القُفول عند الجَيّه ... من غَزْو إحدى وثَلثماية
فلم يَكن يُدرَك في باقيها ... غَزْو ولا بَعْث يكون فيها
سنة ثلاث وثلثمائةثُمت أغزى في الثلاث عَمَّهْ ... وقد كَساه عَزْمَه وحَزْمهْ
فسار في جَيْش شديدِ الباس ... وقائدُ الجيْش أبو العبَّاس
حتى تَرقّى بذُرى بُبَشْتَرْ ... وجالَ في ساحاتها بالعَسْكرْ
فلِم يَدَع زَرْعاً ولا ثِمارا ... لهم ولا عِلقَاَ ولا عُقَارَا
وقطع الكُروم منها والشَجَرْ ... ولم يُبايع عِلْجها ولا ظَهَرْ
ثم انثنى من بعد ذاك قافلا ... وقد أباد الزَرع والمآكِلاَ
فأيقن الخِنزيرُ عِند ذاكا ... أنْ لا بقَاء يُرتَجى هُناكا
فكاتَب الإمامَ بالإجابَه ... والسمْع والطّاعة والإنابه
فأخْمد اللّهُ شِهابَ الفِتْنه ... وأصْبح الناسُ معاً في هُدْنه
وارتعت الشاةُ معاً والدِّيبُ ... إذا وَضعت أوزارَها الحُرُوبُ
سنة أربع وثلثمائةوبعدها كانت غَزاة أرْبع ... فأي صُنْع ربنا لم يَصْنَع
فيها ببَسْط المَلِك الأواهِ ... كِلْتا يَديهِ يا سَبيل اللّهِ

وذاك أنْ قَوَّد قائدَيْنِ ... بالنَّصر والتّأييد ظاهرَيْنِ
هذا إلى الثغر وما يَليهِ ... على عدوّ الشِّرك أو ذَويهِ
وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه ... وما مَضى جرى إلى بَلَنْسيَه
فكان مَن وَجّهه للساحلْ ... القرشيًّ القائد القنابلْ
وابن أبي عَبْدة نحو الشِّرْكِ ... في خَيْر ما تَعْبيةٍ وشِكِّ
فأقبلا بكُل فَتْح شامل ... وكُلّ ثُكل للعدوّ ثاكلِ
وبعد هذي الغَزْوة الغَرّاءَ ... كان افتتاحُ لَبْلة الحَمْراءِ
أغزَى بجُند نحوَها مَولاهُ ... في عُقْب هذا العام لا سِواهُ
بَدرًا فضمّ جانبيها ضَمَّة ... وغَمها حتى أجابت حُكمه
وأسْلمت صاحبَهما مَقهورَا ... حتى أتى بدرٌ به مَأسُورَا
سنة خمس وثلثمائةوبعدها كانت غَزاةُ خَمْس ... إلى السَّوَادِيّ عقيدِ النَّحْس
لما طَغى وجاوز الحُدودَا ... ونَقض الميثاقَ والعُهودَا
ونابذَ السُّلطانَ مِن شَقائِهِ ... ومِن تَعدِّيه وسُوء رائهِ
أغزى إليه القُرشيَّ القائدَا ... إذ صار عن قَصْد السبيل حائِدَا
ثُمَّت شدَّ أزرَه ببَدْرِ ... فكان كالشَّفع لهذا الوترِ
أحدَقها بالخيل والرجال ... مُشمِّراً وجدَّ في القتال
فنازل الحِصنَ العظيمَ الشانِ ... بالرّجْل والرُّماة والفُرسانِ
فلم يَزل بدرٌ بها محاصرَا ... كذا على قِتاله مُثابرَا
والكلبُ في تهوّرٍ قد انغمسْ ... وضُيِّق الحَلْق عليه والنَّفَسْ
فافترق الأصحابُ عن لوائِه ... وفَتحوا الأبوابَ دُون رائهِ
واقتحم العَسكرُ في المدينهْ ... وهُو بها كهَيْئة الظعينهُ
مستسلماً للذًّل والصّغار ... وملقياً يَديه للإسارِ
فنزَع الحاجبُ تاجَ مُلْكهِ ... وقادَه مُكَتَفا لهُلْكه
وكان في آخر هذا العام ... نَكْب أبي العبَّاس بالإسلام
غَزا وكان أنجدَ الأنجادِ ... وقائدا من أفحل القوادِ
فسار في غيْر رجال الحَرْبِ ... الضاربين عند وَقْت الضَّربِ
مُحارباً في غير ما مُحارب ... والحَشَمُ الجُمهور عند الحاجب
واجتمعت إليه أخلاطُ الكُوًرْ ... وغاب ذو التَّحصيل عنه والنَّظر
حتى إذا أوغل في العَدُو ... فكان بين البُعد والدُّنوَ
أسلمه أهلُ القُلوب القاسيهْ ... وأفْردوه للكِلاب العاوَيهْ
فاستشهد القائدُ في أبْرارِ ... قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي
في غَير تَأخير ولا فِرارِ ... إلاّ شديد الضرب للكُفارِ
سنة ست وثلثمائةثم أقاد الله من أعْدائه ... وأحْكم النصرَ لأِوْليائِه
في مَبدأ العام الذي مِن قابل ... أزْهق فيه الحقُّ نَفْس الباطل
فكان مِن رأيِ الإمام الماجدِ ... خَيْرِ مَولودٍ وخَيْر والدِ
أنِ احتمَى بالواحِد القهَارِ ... وفاضَ من غَيظ على اَلكُفارِ
فجمَّع الأجنادَ والحُشودَا ... ونَفرّ السيد والمَسودَا
وحَشر الأطرافَ والثُّغورَا ... ورَفض اللّذاتِ والحُبورَا
حتى إذا ما وَفت الجُنودُ ... واجتَمع الحُشّادُ والحُشودُ
قوَد بدراً أمَر تلك الطائفهْ ... وكانت النفسُ عليه خائفَهْ
فسار في كَتائب كالسَّيل ... وعَسكَرٍ مِثل سَوادِ الليل
حتى إذا حَلّ على مُطْنيّه ... وكان فيها أخبثُ البريهْ

ناصبَهم حرباً لها شرار ... كأنما أضرمَ فيها النارُ
وجدّ من بينهمُ القتالُ ... وأحْدقت حولَهم الرجالُ
فحاربُوا يومَهمُ وباتُوا ... وقد نَفت نومَهم الرماة
فهم طَوالَ الليل كالطلائح ... جراحُهم تَنْغل في الجوارح
ثم مَضوْا في حَرْبهم أيامَا ... حتى بدا الموتُ لهم زُؤاما
لما رأوْا سحائبَ المَنيّه ... تُمطرهم صَواعِق البَليه
تَغَلْغَل العُجم بأرض العُجم ... وانحشَدوا مِن تحت كلِّ نَجم
فأقبَل العِلْجُ لهم مُغِيثَا ... يومَ الخَمُيس مُسْرعاً حَثِيثَا
بين يديِه الرَّجلُ والفَوارسُ ... وحوله الصُّلبان والنَّواقس
وكان يَرجو أن يُزيل العَسْكرَا ... عن جانب الحِصْنِ الذي قد دُمَرا
فاعتاقَه بدرٌ بمن لَدَيهِ ... مُستبصراً في زحفِه إليْهِ
حتى التقت ميمنة بمَيْسرة ... واعتنّت الأرْواحُ عند الْحَنْجره
ففاز حِزْبُ اللّهِ بالعِلْجان ... وانهزمت بطانةُ الشيطانِ
فقُتِّلوا قتلاً ذَرِيعاً فاشيَا ... وأدبَر العِلْجُ ذَمِيماً خازيا
وانصَرفَ الناسُ إلى القُليعه ... فصبّحوا العَدوّ يومَ الجُمعة
ثم التَقى العِلْجان في الطّريق ... البنلوني مع الجلقي
فاعقدا على انتهاب الْعَسكرِ ... وأن يَموتا قبل ذَاك اْلمحْضر
وأقْسما بالْجبْت والطّاغوتِ ... لا يُهْزما دون لِقاء المَوْتِ
فأقبلوا بأَعظم الطّغيانِ ... قد جَلّلوا الْجبالَ بالفُرسانِ
حيَ تدَاعى الناسُ يوم السبتِ ... فكان وقتاً يا له من وَقْتِ
فأشرعت بَينهم الرماح ... وقد علا التَكبير والصياحُ
وفارقت أغمادَها السيوف ... وفَغرت أفواهَها الحُتوفُ
والتقت الرجالُ بالرجال ... وانغمسوا في غَمْرة القتال
في مَوْقفٍ زاغتْ به الأبصارُ ... وقَصرُت في طُوله الأعمارُ
وهبّ أهلُ الصَبر والبَصائِر ... فأوعقوا على العدوّ الكافِر
حتى بدت هزيمةُ البُشكنس ... كأنَه متضب بالوَرْسِ
فانقضت العِقبان والسَّلالقَهْ ... زَعْقاً على مُقدَّم الجلالقَهْ
عُقبان مَوْتِ تَخطِف الأرواحَا ... وتُشبع السيوفَ والرِّماحَا
فانهزم الخنزيرُ عند ذاكَا ... وانكشفتْ عورته هُناكَ
فقُتَلوا في بَطن كلِّ وادِي ... وجاءت الرؤوس في الأعْوادِ
وقَدّم القائدُ ألفَ راس ... مِن الجَلاليق ذَوي العماس
فتمّ صُنع اللّه للإسلام ... وعمّنا سرورُ ذاك العام
وخيرُ ما فيه من السُّرورِ ... موت ابن حَفْصون به الخنزيرِ
فاصل الفتحُ بفتح ثاني ... والنصرُ بالنَصر من الرحمنِ
وهذه الغَزاة تُدعى القاضِيَة ... وقد أتتهم بعد ذاك الدَاهِيهْ
سنة سبع وثلثمائةوبعدها كانت غَزاةُ بَلْده ... وهي التي أوْدَت بأهل الردَه
وبَدْؤُها أنَ الإمام المصطَفى ... أصدقَ أهل الأرض عدلاً ووَفَا
لما أتته مِيتةُ الْخِنْزِيرِ ... وأنه صار إلى السعيرِ
كاتَبه أولادُه بالطاعَهْ ... وبالدُخول مَدْخل الجَماعَهْ
وأن يُقِرَّهم على الولايَهْ ... على درور الخَرْج والجِبايَهْ
فاختارَ ذلك الإمامُ المُفْضِلُ ... ولم يزَل مِن رأيهِ التفضلُ
ثم لَوى الشيطانُ رأسَ جَعفرِ ... وصارَ منه نافخاً في المُنْخُر
فنقَضَ العُهودَ والميثاقَا ... واستعمل التشغيب والنَفاقَا

وضَم أهلَ النُكْث والخلافِ ... من غير ما كافٍ وغير وافي
فاعتاقَه الخليفة المَؤيّد ... وهو الذي يشقى به ويسعد
مَن عليه مِن عُيونِ اللّهِ ... حوافظٌ مِن كلَ أمرٍ داهِي
فجَنّد الجُنودَ والكَتائبَا ... وقَوَّد القُوّاد والمَقانِبَا
ثم غَزا في أكثر العديدِ ... مُسْتَصحَبَاً بالنَّصر والتأييدِ
حتى إذا مَر بحِصْن بَلْدهْ ... خَلَّف فيه قائداً في عِدَهْ
يَمنعهم مِن انتِشار خَيله ... وحارساً في يَومه ولَيلهمْ
ثم مَضى يستنزلُ الحُصونَا ... ويبعث الطلاّع والعُيونَا
حتى أتاه باشرٌ من بَلْدَهْ ... يعدو برأس رأسِها في صَعْدَهْ
فقدَم الخيْل إليها مُسرعَا ... واحتلّها مِن يومه تَسرُّعَا
فحفّها بالخيْل والرُّماةِ ... وجُملةِ الحُماة والكُماةِ
فاطّلع الرجْلُ على أنْقابها ... واقتحم الجُندُ على أبوابها
فأذعنتْ ولم تَكُن بمُذعِنهْ ... واستسلمت كافرةُ لمؤمِنَهْ
فقُدَمت كُفّارها للسّيفِ ... وقتَلوا بالحَق لا بالحَيفِ
وذاك مِن يُمن الإمام المُرْتَضىَ ... وخير مَن بَقِي وخير من مَضىَ
ثم انتحى من فوره بُبَشترَا ... فلم يدَعْ بها قضيبَاً أخضرَا
وحَطَّم النباتَ والزُروعَا ... وهَتك الرِّباع والربوعا
فإذا رأى الكلبُ الذي رآه ... مِن عَزْمه في قَطْع مُنْتَواهُ
ألَقى إليه باليَدين ضارِعَا ... وسال أنْ يُبْقَى عليه وادعا
وأنْ يكون عاملاً في طاعتِهْ ... على دُرورِ الخَرْج مِن جِبايتهْ
فوثق الإمامُ من رِهانهِ ... كَيلا يكونَ في عَمى من شانِه
وقبِل الإمامُ ذاك منهُ ... فضلاً وإحساناً وسار عنهُ
سنة ثمان وثلثمائةثمِ غزا الإمامُ دارَ الْحَرب ... فكان خطباً يا له من خَطب
فحُشدت إليه أعلامُ الكُورْ ... ومَن له في النَاس ذِكرٌ وخطر
إلى ذَوي الدَيوان والرياتِ ... وكُلِّ مَنسوب إلى الشَاماتِ
وكل مَن أخلص للرحمن ... بطاعةٍ فيً السر والإعلانِ
وكلَ مَن طاوع في الجهاد ... أو ضمه سَرْج على الجياد
فكان حشداً ياله من حشدِ ... من كُل حُرٍ عندنا وعَبدِ
فتحسبُ الناسَ جراداً مُنتشرْ ... كما يقول ربُّنا فيمن حُشر
ثم مَضى المُظَفَّر المنصورُ ... على جَبِينه الهُدى والنُورُ
أمامه جُند من الملائكهْ ... آخذة لربها وتاركهْ
حتى إذا فوَز في العَدوَ ... جَنبه الرحمنُ كُلَّ سَوَ
وأنزل الجزيةَ والدَواهِي ... على الذينِ أشركوا باللّهِ
فزُلزلت أقدامُهم بالرُّعب ... واستُنْفِروا من خوف نار الحَرْب
واقتحموا الشِّعابَ والمَكامنَاَ ... وأسْلموا الحُصونَ والمَدائنَاَ
فما بقِي من جَنَبات دُورِ ... مِن بَيعة لراهب أو دَيْرِ
إلا وقد صَيَرها هباءَ ... كالنَار إذ وافقت الأباءَ
وزَعزعت كتائبُ السلطانِ ... لكُل ما فيها من البنْيانِ
فكان مِن أول حِصْن زَعْزعُوا ... ومَن له منِ العدوَ أوْقعُوا
مَدينة معْرُوفة بوَخْشَمَهْ ... فغادروها فحمةً مُسخمهْ
ثم ارتقوا منها إلى حَواضر ... فغادروها مثلَ أمس الدابرِ
ثم مَضوْا والعلج يَحْتذيهمُ ... بجَيْشه يَخشى ويَقْتفيهمُ
حتى أتوا تواً لوادِي ديّ ... ففيه عفِّى الرُّشدُ سبُلَ الغيّ

لما الْتقوْا بمَجمع الجَوْزينِ ... واجتمعت كتائبُ العِلْجين
مِن أهل ألْيون وبَنبلونَهْ ... وأهل أرنيط وبَرْشلونَهْ
تضافر الكفُرُ مع الإلحادِ ... واجتمعوا مِن سائر البلادِ
فاضطربوا في سَفح طَوْد عالِي ... وصَففوا تعبيةَ القِتال
فبادرتْ إِليهمُ المُقدِّمهْ ... ساميةً في خَيلها المُسوَّمه
ورِدُها متصل برِدِّ ... يُمده بحر عظيمُ المَدِّ
فانهزم العِلجان في عِلاج ... ولَبسوا ثوباً من العَجاج
كلاهما يَنظُر حيناً خَلفَهُ ... فهو يَرى في كُلِّ وَجْهٍ حتْفهُ
والبِيض في إِثرِهم والسمْرُ ... والقَتْل ماضٍ فيهمُ والأسْرُ
فلم يكن للناس منْ بَراح ... وجاءت الرُّؤوس في الرِّماح
فأمر الأميرُ بالتَقْويض ... وأسرْع العَسكَرُ في النًّهوض
فصادفُوا الجُمهور لما هُزمُوا ... وعاينوا قُوّادَهم تُخرِّمُوا
فدخلوا حديقَةً للموتِ ... إذ طَمِعوا في حصْنها بالفَوْتِ
فيالَها حديقةً ويالَها ... وافتْ بها نفوسهم آجالَها
تحضنوا إذ عاينوا الأهْوالا ... لمَعقلٍ كان لهم عِقالا
وصَخرة كانت عليهم صَيْلمَا ... وانقلبوا منها إلى جَهنما
تساقطوا يستطعمون الماءَ ... فأخرجت أرواحُهم ظِماءَ
فكم لسيف الله من جَزُورِ ... في مَأدب الغِرْبان والنسورِ
وكم به قَتلى من القساوس ... تندب للصُّلبَان والنَّواقس
ثم ثَنى عنانَه الأميرُ ... وحولَه التهليلُ والتّكبيرُ
مُصمماً بحرْب دار الحرب ... قُدّامَه كتائبٌ من عُرْب
فداسَها وسامَها بالخَسْفِ ... والهتكِ والسفك لها والنَّسْفِ
فحرّقوا ومزقوا الحُصونا ... وأسْخنوا من أهلها العُيونَا
فانظُر عن اليمين واليسارِ ... فما تَرى إلا لهيبَ النارِ
وأصبحتْ ديارُهم بلاقعَا ... فما تَرى إلا دخاناً ساطعَا
ونُصر الإمامُ فيها المصطفى ... وقد شَفى من العدو واشتَفى
سنة تسع وثلثمائةوبعدها كانت غَزاة طرشْ ... لسَما إليها جيشه لم يُنْهَشْ
وأحدقتْ بحِصْنها الأفَاعي ... وكُل صِل أسْود شُجاع
ثم بَنى حِصْناً عليهِا راتِبَا ... يَعتور القوّادُ فيهِ دائبَا
حتى أنابتْ عَنوةَ جِنانُها ... وغابَ عن يافوخها شَيطانُها
فأذعنتْ لسيد السادات ... وأكرم الأحياء والأمواتِ
خليفةِ الله على عِبادِه ... وخير مَنْ يَحكم في بلادِه
وكان موت بدرٍ بنِ أحمدِ ... بعد قُفول المَلكِ المُؤَيدِ
واستحجب الإمامُ خيْرَ حاجب ... وخيْرَ مَصحوب وخَير صاحبِ
مُوسى الأغَرّ من بني جُدَيرِ ... عَقيد كُل رأفةٍ وخَير
سنة عشر وثلثمائةوبعدها غَزِاةُ عشرْ غَزْوَهْ ... بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ
غزا الإمامُ في ذوي السلطان ... يَؤُمّ أهلَ النُّكْث والطغيانِ
فاحتلّ حِصْن منتلوِن قاطعَا ... أسباب مَن أصبح فيه خالعَا
سارَ إليه وبَنى عليه ... حتى أتاهُ مُلْقِياً يَدَيْه
ثم انثنى عنه إلى شَذُونَهْ ... فعاصَها سهلاً من الْحُزونَهْ
وساقَها بالأهل والوِلدانِ ... إلى لُروم قُبّة الإيمانِ
ولم يَدَعْ صَعْبًا وَلا منيعاً ... إلا وقد أذلهَم جميعَا
ثم انثنَى بأطيبِ القفُول ... كما مَضىَ بأحسنِ الفضول
سنة إحدى عشرة وثلثمائة

وبعدها غزاة إحدَى عشَرَهْ ... كم نَبّهت من نائمٍ في سَكْرَهْ
غزا الإمامُ يَنتحي بُبَشْتَرا ... في عَسْكر أعظمْ بذاك عَسْكرا
فاحتلّ مِن بُبَشْتَر ذَراها ... وجال في شاطٍ وفي سواها
فخرّب العُمران من بُبَشْتَرِ ... وأذعنت شاطُ لربِّ العَسكرِ
فأدخل العدة والعديدَا ... فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدَا
ثم انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْم ... فداسها بالقَضْم بعد الخَضْم
ما كان في سواحل البُحورِ ... منها وفي الغاباتِ والوُعور
وأدخل الطاعةَ في مكانِ ... لم يدْر قط طاعةَ السلطانِ
ثم رَمى الثغرَ بخير قائدِ ... وذادهم عنه بخير ذائد
به قما اللّهُ ذوي الإشراكِ ... وأنقذ الثغرَ من الهلاكِ
وانتاش من مَهْواتها تُطِيلَهْ ... وقد جرت دماؤُها مَطلُولَهْ
وطَهر الثغرَ وما يَليهِ ... من شِيعةِ الكُفر ومن ذَويهِ
ثم انثنى بالفَتح والنجاح ... قد غيّر الفسادَ بالصلاح
سنة اثنتي عشرة وثلثمائةوبعدها غَزاةُ ثِنْتَيْ عَشَرَهْ ... وكم بها من حَسْرَةٍ وعِبْرَهْ
غزا الإمامُ حولَه كتائبه ... كالبَدْر محفوفاً به كواكبُه
غزا وسيفُ النّصر في يَمينه ... وطالعُ السٌعدِ على جَبينه
وصاحبُ العَسكر والتدبير ... موسى الأغرُّ حاجب الأمير
فدمَّر الحُصونَ من تُدْمِير ... واستنزل الوحشَ من الصخورِ
فاجتمعتْ عليه كُلّ الأمهَ ... وبايعته أمراء الفتنة
حتى إذا أوعب من حصونها ... وجمَّل الحق على مُتونها
مَضى وسار في ظلال العَسكرِ ... تحت لواءِ الأسد الغَضَنْفَرِ
رجال تُدمير ومَن يليهمُ ... من كلّ صِنفٍ يعتزى إليهم
حتى إذا حَلَّ على تُطيله ... بكت على دمائها المَطلولَهْ
وعِظْم ما لاقت من العدو ... والحرب في الَّرواح والغدوِّ
فهمّ أن يديخ دار الحرب ... وأن تكَونَ رِدأهُ في الدَرْب
ثم استشار ذا النُّهى والحِجْرِ ... من صَحْبِه ومِن رجال الثغْر
فكُلهم أشار أن لا يُدْرِبا ... ولا يَجوز الجبل المُؤشبا
لأنه في عسكرٍ قد انخرمْ ... بندْبِ كلِّ العُرفاء والحشَمْ
وشَنعوا أنَ وراء الفَج ... خمسينَ ألفاَ من رجال العِلْج
فقال لا بُد من الدُخول ... وما إلى حاشاه مِن سبيل
وأن أديخ أرض بَنْبلونَهْ ... وساحة المدينة الملْعُونَهْ
وكان رأيا لم يكُن من صاحب ... ساعدَه عليه غيرُ الحاجبِ
فاستنصر الله وعبى ودَخلَ ... فكان فتحاً لم يكُن له مَثَلْ
لما مَضى وجاوز الدروبَا ... وادّرعٍ الهَيْجاء والحُروبَا
عبَّى له عِلْجٌ من الأعلاج ... كتائبا غَطت على الفِجاج
فاستنصرَ الإمامُ رب الناس ... ثم استعان بالندى والباس
وعاذ بالرَّغْبَةِ والدُّعاء ... واستنزل النصرَ مِن السماءِ
فقدَم القوَّادَ بالحُشود ... وأتْبع المُدود بالمدودِ
فانهزم العلجُ وكانت مَلْحَمَهْ ... جاوز فيها الساقةُ المُقدَمهْ
فقُتَلوا مَقتلة الفَناءِ ... فارتوت البِيضُ من الدَماءِ
ثم أمال نحوَ بَنْبلونهْ ... واقتحم العسكرُ في المَدينهْ
حتى إذا جاسوا خلالَ دُورها ... وأسرع الخرابُ في مَعْمورها
بكتْ على ما فاتَها النواظرُ ... إذ جَعلت تَدُقها الحَوافرُ
لفَقد من قَتّل من رجالها ... وذُلّ من أيْتم من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلفِ ... تَهمى عليه الدمعِ عينُ الأسْقفِ

وكم بها حَقّر من كنائِس ... بدَّلت الآذان بالنواقِس
يَبكي لها الناقوس والصَّليبُ ... كلاهما فَرض له النحيبُ
وانصرَفَ الإمامُ بالنجاح ... والنصرِ والتأييدِ والفلاح
ثم ثَنى الراياتِ في طريقِه ... إلى بَني ذي النون من تَوفيقِه
فأصبحُوا من بَسْطهم في قَبْض ... قد ألصقت خدودُهم بالأرض
حتى بدَوْا إليه بالبرهانِ ... من أكبر الأباء والوِلْدانِ
فالحمدُ للّه على تأييدِه ... حمداً كثيراً وعلى تسديدِه
سنة ثلاث عشرة وثلثمائةثم غزا بيُمنه أشُونا ... وقد أشادُوا حولها حُصونَا
وحَفَها بالخيل والرجال ... وقاتلوهم أبلغَ القِتال
حتى إذا ما عاينُوا الهلاكَا ... تبادروا بالطَوْع حينذاكَا
وأسلمُوا حِصْنَهمُ المنِيعَا ... وسَمحوا بخَرْجهم خُضوعَا
وقبلَهم في هذه الغَزاةِ ... قد هُدَمت معاقل العُصاةِ
وأحكم الإمامُ في تدبيرهِ ... على بني هابلَ في مَسيره
ومَن سواهم من ذوي العشيرَهْ ... وأمراء الفتنةِ المُغيرَة
إذ حُبسوا مراقباً عليهمُ ... حتى أتوا بكل ما لديهمُ
من البنينَ والعيال والحشمْ ... وكلّ من لاذ بهم من الخَدَمْ
فهَبطُوا من أجمَع البُلدانِ ... وأسكنُوا مدينةَ السلطانِ
فكانَ في آخِر هذا العام ... بعد خُضوع الكُفرِ للإسلام
مشاهدٌ من أعظم المَشاهِد ... على يَدَي عبد الحميد القائدِ
لما غَزا إلى بنى ذي النون ... فكان فتحاً لم يَكُن بالدُّونِ
إذ جاوزوا في الظلْم والطُّغيانِ ... بقَتْلهم لعامِل السُلطانِ
وحاولُوا الدُخولَ في الأذيّة ... حتى غزاهمْ أنجد البرِيّة
فعاقَهم عنْ كلَ ما رَجَوْهُ ... بنَقضه كُلّ الذي بنوه
وضَبْطه الحِصْن العظيمَ الشانِ ... أشنين بالرَّجْل وبالفُرسانِ
ثم مَضى الليثُ إليهم زحفاً ... يَختطِفُ الأرواحَ منهم خَطْفَا
فانهزموا هزِيمةً لن تُرْفَدَا ... وأسْلموا صِنوهمُ مُحَمَدَا
وغيرُه من أوْجُه الفُرسانِ ... مغرب في مأتم الغِربانِ
مُقطع الأوصال بالسنابكِ ... من بعد ما مُزق بالنَيازكِ
ثم لجوا إلى طِلاب الأمنِ ... وبَذْلهم ودائعاً من رَهْنِ
فقبضت رِهانُهم وأمَنوا ... وأنْغَضوا رؤوسَهم وأذْعنوا
ثم مَضى القائدُ بالتأييدِ ... والنصر من ذي العَرْش والتسدِيد
حتى أتى حِصْن بني عِمَارَهْ ... والحرْبُ بالتّدْبير والإدارَهْ
فافتتح الحِصْنَ وخلى صاحبَهْ ... وأمَن الناسَ جميعاً جانبَهْ
سنة أربع عشرة وثلثمائةلم يَغْزُ فيها وغَزَتْ قُوادُه ... واعتورت ببُشْترا أجنادُهُ
فكلهم أبلَى وأغنَى واكتفَى ... وكُلُهم شَفَى الصُدورَ واشتفَى
ثم تلاهم بعدُ لَيثُ الغِيل ... عبدُ الحميدِ من بني بسيل
هو الذي قامَ مقامَ الضَّيغَم ... وجا في غَزاتِه بالصَيلم
برأس جالوتِ النّفاق والحسَدْ ... من جُمَع الخِنزيرُ فيه والأسدْ
فهاكه مع صحبه في عِدَّة ... مُصلَبين عند باب السُّدَّة
قد امتطى مطيّة لا تبرحُ ... صائمةً قائمةً لا ترْمحُ
مطية إن يَعْرُها انكسارُ ... يطِبّها النجّارُ لا البَيطار
كأنه من فَوقها أسْوارُ ... عيناه في كلتيهما مِسْمارُ

مباشراً للشمس والرياح ... على جوادٍ غير ذي جِماح
يقول للخاطر ِبالطَريقِ ... قولَ مُحبٍّ ناصح شفِيقِ
هذا مقام خادِمٍ الشيطانِ ... ومَن عَصى خليفةًَ الرحمن
فما رأينا واعظًا لا يَنْطقُ ... أصدَق منه في الذي لا يَصدق
فقُل لمن غُرّ بسُوء رائِه ... يَمُت إذا شاء بمثل دائِه
كم مارقٍ مَضىَ وكم مُنافقِ ... قد ارتقى في مِثل ذاك الحالِقِ
وعاد وهْوَ في العصا مُصلْب ... ورأسهُ في جِذْعه مُركَب
فكيف لا يعتبر المخالفُ ... بحال مَن تطلبه الخلائفُ
أما تراه في هَوان يرتعُ ... معتَبراً لمن يَرَى ويسمَعُ
سنة خمس عشرة وثلثمائةفيها غَزا معتزما ببُشْترا ... فجال في ساحتها ودمرَا
ثم غزا طَلْجيرةً إليها ... وهي الشجَى من بين أخدعَيْهَا
وامتدّها بابن السليم راتبَا ... مشمَراً عن ساقه مُحاربَا
حتى رأى حَفْصٌ سبيلَ رُشدِه ... بعد بُلوغ غايةٍ من جُهدِه
فدان للإمام قصداً خاضعَا ... وأسلمَ الحِصنَ إليه طائعَا
سنة ست عشرة وثلثمائةلم يَغْزُو فيها وانتحَى بُبَشْترا ... فرمَّها بما رَأى ودَبرا
واحتلّها بالعزّ والتَمكينِ ... ومَحْو آثارِ بني حَفْصونِ
وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ ... وطَهّر القبورَ من أجسادهمْ
حتى خَلا مَلْحودُ كل قَبْر ... من كل مُرتَدٍّ عظيم الكُفْرِ
عِصابةٌ من شيعةِ الشَيطانَ ... عدوّة لله والسلطانِ
فخُرّمت أجسادها تخرّما ... وأصليت أرواحهم جَهَنَمَا
ووجِّه الإمامُ في ذا العام ... عبدَ الحميد وهو كالضرغام
إلى ابن داودَ الذي تقلَّعا ... في جبلَيْ شَذُونة تمنعا
فحطّه منها إلى البسيط ... كطائر آذنَ بالسقوطِ
شم أتى به إلى الإمام ... إلى وفيِّ العهد والذَمام
سنة سبع عشرة وثلثمائةوبعد سَبعَ عَشرةَ وفيها ... غزا بَطَلْيَوْس وما يليها
فلم يَزل يَسوِمها بالخَسْف ... ويَنْتحيها بسُيوِف الحَتْفِ
حتى إذا ما ضم جانبَيْهَا ... محاصراً ثم بنى عَلَيْها
خلى ابنَ إسحاق عليها راتبَا ... مُثابراً في حَرْبِه مُواظبَا
ومَر يَسْتقصي حصونَ الغَرْب ... وَيبتليها بوَبيل الحَرْبِ
حتى قضىَ منهنَ كلَّ حاجَهْ ... وافتُتحتْ أكْشونيَة وباجَهْ
وبعد فَتْح الغَرْب واستقصائِه ... وحَسْمِهِ الأدْواء من أعدائِهِ
لجّت بَطَلْيوسُ عَلى نِفاقِهَا ... وغرّها اللَّجاجُ من مُرٌاقِهَا
حتى إذا شافهت الحتوفَا ... وشامت الرماحَ والسُيوفا
دعا ابنُ مَروان إلى السلطان ... وجاءَه بالعَهْد والأمان
فصار في توْسعةِ الإمام ... وساكناً في قُبة الإسلام
سنة ثماني عشرة وثلثمائةفيها غَزَا بعَزْمه طُلَيْطِله ... وامتنعوا بمَعْقل لا مِثلَ له
حتى بَنى جرنشكه بجَنبها ... حِصْناً منيعاً كافلاً بحَرْبها
وشدَها بابن سَليم قائدَا ... مجالداً لأهلها مُجاهدَا
فجاسَها في طُول ذاك العام ... بالخَسْف والنَّسف وضَرْب الهام
سنة تسع عشرة وثلثمائةثم أتى رِدْفاً له دُري ... في عسكرٍ قضاؤُه مقضي
فحاصروها عامَ تسعَ عَشرَهْ ... بكلٌ مَحبُوكٍ القُوى ذي مِره
ثم أتاهم بعد بالرجال ... فقاتلوهم أبلغَ القِتالِ
سنة عشرين وثلثمائة

حتى إذا ما سلفت شُهورُ ... من عام عِشْرين لها ثبورُ
ألقت يديها للإمام طائعَهْ ... واستسلمت قسراً إليه باخعه
فأذعنتْ وقبلها لم تُذْعن ... ولم تَقُد من نَفْسها وتُمْكنِ
ولم تَدِنْ لربِّها بدين ... سبعاً وسَبعين من السِّنين
ومُبتدى عشرين مات الحاجبْ ... مُوسى الذي كان الشهابَ الثاقبْ
وبَرز الإمامُ بالتأييد ... في عُدّة منه وفي عَديدِ
صَمْدا إلى المدينة اللعينه ... أتعسها الرحمنُ من مَدينه
مدينةُ الشِّقاق والنفاقِ ... وموئل الفساق والمُراقِ
حتى إذا ما كان منها بالأمم ... وقد ذَكا حَرّ الهَجير واحتدمْ
أتاه واليها وأشياخُ البَلدْ ... مستسلمين للإمام المعتمدْ
فوافقوا الرحبَ من الإمام ... وأنزِلوا في البِرِّ والإكرام
ووجّه الإمامُ في الظهيرةَ ... خيلاً لكي تدخل في الجَزِيرَه
جريدةٌ قائدُها دري ... يَلمع في متونها الماذيّ
فاقتحمُوا في وَعْرها وسَهلَها ... وذاك حينَ غفلةٍ من أهلهَا
ولم يكن للقوم من دفاع ... بَخيل دريّ ولا امتناعٍ
وقوّض الإمامُ عند ذلكا ... وقلبه صَبٌّ بما هنالكَا
حتى إذا ما حلَّ في المدينَهْ ... وأهلُها ذليلةٌ مَهينَهْ
أقمعها بالخيل والرجال ... من غير ما حرب ولا قِتال
وكان من أوّل شيء نظرَا ... فيه وما رَوى له ودبَّرَا
تهَدُّم لِبابها والسّورِ ... وكان ذاك أحسنَ التدبير
حتى إذا صيَّرها بَراحَا ... وعاينوا حريمها مُباحَاَ
أقَرّ بالتّشييدِ والتّأسيس ... في الجبل النَامي إلى عَمْروس
حتى استوى فيها بناء مُحكمُ ... فحَلّه عاملُه والحشمُ
فعند ذاك أسلمت واستسلمت ... مدينةُ الدّماء بعد ما عَتَبْ
سنة إحدى وعشرين وثلثمائةفيها مَضى عبد الحميد مُلتئمْ ... في أهبة وعُدّة من الحَشَمْ
حتى أتى الحصنَ الذي تَقلَعَا ... يحيى بن ذي النون به وامتنعَا
فحطّه من هَضبات ولبِ ... من غير تعْنيت وغير حَرْبِ
إلا بترْغيب له في الطاعهْ ... وفي الدُخول مَدْخل الجماعَهْ
حتى أتى به الإمامَ راغبَا ... في الصفح عن ذُنوبه وتائبَا
فَصفح الإمامُ عن جنايتِهْ ... وقَبْل المبذولَ من إنابِتْه
وردِّه إلى الحُصون ثانيَا ... مُسجّلا له عليها وَاليَا
سنة اثنتين وعشرين وثلثمائةثم غزا الإمامُ ذو المَجدينِ ... في مُبتدا عشرين واثنتين
في فَيلق مُجَمهر لُهام ... مُدَكْدِك الرُّؤوس والآكامَ
حافُ الرّبى لزَحْفَه تَجيشُ ... تجيشُ في حافاته الجيوشُ
كأنهم جِنُّ على سَعالي ... وكُلهم أمضىَ من الرِّئبال
فاقتحمُوا مُلوندة ورومَهْ ... ومِن حَواليها حصون حيمهْ
حتى أتاه المَارقُ التّجيبِي ... مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ
تخَصَّه الإمامُ بالترحيبِ ... والصَفح والغُفران للذُّنوبِ
ثم حَباه وكَساه ووَصَلْ ... بشاحج وصاهلٍ لا يُمْتَثلْ
كلاهُما من مَركب الخلائفِ ... في حِلْية تعْجِزُ وصفَ الواصفِ
وقال كُن منّا وأوطَن قُرْطبَه ... نُدنيك فيها من أجلِّ مَرْتبة
تكن وزيراً أعظمَ الناس خَطَرْ ... وقائداً تَجْبي لنا هذا الثّغَرْ

فقال إني ناقةٌ من عِلَّتي ... وقد تَرى تغيري وصفرتيِ
فإِن رأيتَ سيدي إمْهالِى ... حتى أرمّ من صَلاح حالي
ثم أوافيك على استعجال ... بالأهل والأولادِ والعِيال
وأوثق الإمامَ بالعهودِ ... وجَعل اللّه من الشهودِ
فقَبل الإِمامُ من أيمانه ... وردّه عفواً إلى مكانِه
ثم أتته ربةُ البَشاقِص ... تُدْلِى إليه بالوِداد الخالص
وأنها مُرْسلة من عنده ... وجَدّها متصلٌ بجَدّه
واكتفلتْ بكُلِّ بنبلونى ... وأطلقت أسرى بني ذي النّونِ
فأوعدَ الإمامُ في تَأمينهَا ... وتكّبَ العسكرَ عن حُصونهَا
ثم مَضى بالعزِّ والتَمكين ... وناصراً لأهل هذا الدّينِ
في جُملة الراياتِ والعساكرِ ... وفي رِجال الصّبر والبَصائرِ
إلى عِدَى اللّه من الجلالقِ ... وعابدِي المَخلوقِ دون الخالقِ
فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعَا ... وهَتكوا الربوع والرِّباعَا
وخَربوا الحُصونَ والمدائنَا ... وأنفروا من أهلها المَساكنَا
فليس في الدِّيار من ديارِ ... ولا بها من نافخٍ للنارِ
فغادروا عُمْرانَها خرابَا ... وبَدّلوا رُبوعها يَبابَا
وبالقِلاع أحْرقوا الحُصونَا ... وأسْخنوا من أهلها العُيونا
ثم ثَنى الإِمامُ من عِنانِه ... وقد شَفى الشَجيّ من أشجانِه
وأمّن القِفارَ من أنجاسها ... وطهَر البلادَ من أرجَاسِهَا
127 - /
كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج
والطالبين والبرامكةفرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة قال الفقيهَ أبو عمرَ أحمدُ بنُ محمد بنِ عبدِ ربّه رضي الله تعالى عنه: قد مضى قولُنا في أخبار الخُلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تَصرّفت به دولهم، ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجَّاج والطالبيين والبرامكة، وماسِحون على شيء من أخبار الدولة، إذ كان هؤلاء الذين جرّدنا لهم كتابَنا هذا قُطبَ المُلك الذي عليه مدار السياسة، ومعادنَ التَّدبير، ويَنابيعَ البلاغة، وجوامعَ البيان. هم راضوا الصِّعاب حتى لانت مقاردُها، وخَزموا الأنوف حتى سكنتْ شواردُها، ومارسوا الأمور، وجرّبوا اَلدُّهُور؟ فاحتملوا أعباءَها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرت قواعدُ الملك، وانتظمت قلائدُ الحكم، ونَفذت عزائم السلطان.
أخبار زيادكانت سُميَّة أُمّ زياد قد وَهبها أبو الخَير بن عمرو الكِنْدي للحارث بن كَلَدة، وكان طبيباً يعالجه فولدت له على فِراشه نافعاً، ثم ولدتْ أبا بَكْرة، فأنكر لونَه. وقيل له: إن جاريتك بَغيّ. فَانْتِفِى من أبي بَكْرة ومن نافع، وَزَوْجهَا عُبيداً، عبداً لابنته. فولدتْ على فراشه زياداً. فلما كان يومُ الطائف نادَى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبدٍ نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله. فنزل أبو بكرة واسلم ولحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الحارث بن كلَدة لنافع: أنت ابني، فلا تَفعل كما فَعل هذا، يريد أبا بكرة. فلَحِق به، فهو ينتسب إلى الحارث بن كلَدة.
وكانت البَغايا في الجاهليّة لهن راياتٌ يُعرفن بها، ويِنَتْحَيْهَا الفِتْيان. وكان أكثرُ الناس يُكْرهون إماءَهم على البِغاء والخُروج إلى تلك الرايات، يبتغون بذلك عَرضَ الحياة الدنيا. فَنَهَى الله تَعَالَى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز: " ولا تُكرِهُوا فَتَياتِكم على البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًاً لِتَبْتَغوا عَرِضَ الحَياة الدُّنيا. ومَنْ يُكْرِهْهن " يريد في الجاهلية " فإنّ الله مِن بَعْد إكراههنّ غفُورٌ رَحِيم " يريد في الإسلام. فيقال: إن أبا سفيان خَرج يوما، وهو ثَمِل، إلى تلك الرايات، فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بَغِيّ؟ فقالت: ما عندي إلا سُمية. قال: هاتها على نَتن إبطيها، فوقع بها. فولدت له زياداً، على فراش عُبيد.

ووجه عاملٌ من عُمّال عمرَ بن الخطّاب زياداً إلى عمرَ بفَتح فَتحه الله على المسلمين. فأمره عمرُ أن يَخطب الناسَ به على المنبر. فاحسن في خطبته وجَوّد، وعند أصل المِنبر أبو سفيان بن حَرْب وعليّ بن أبي طالب. فقال أبو سفيان لعليِّ: أيُعجبك ما سمعتَ من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابنُ عمّك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفتُه في رَحم أمه سُميَّة. قال: فما يَمنعك أن تدعِيهِ؟ قال: أخشى هذا القاعدَ على المِنبر - يعني عُمَر بن الخطاب - أن يُفسد عليّ إهابي. فبهذا الخبر استلحق معاويةً زياداً وشَهد له الشُّهود بذلك. وهذا خلافٌ حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: الولدُ للفراش وللعاهر الحَجَر.
اَلْعَتَبَي عن أبيه قال: لما شَهِد الشهود لزياد قام في أَعْقَابهمْ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: هذا أمرٌ لم أشهد أولَه ولا عِلْم لي بآخره، وقد قال أميرُ المؤمنين ما بَلغكم، وشهد الشهودُ بما سَمعتم. فالحمدَ للّه الذي رفع منا ما وضع الناس، وحَفظ منّا ما ضَيّعوا. وأما عُبيد فإنما هو والدٌ مَبْرور، أو رَبِيب مَشْكور. ثم جلس. وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطّ أشدَّ عليَّ من قول الشاعر:
فكَّر ففي ذاك إن فَكَّرتَ مُعْتَبر ... هل نِلتَ مَكرُمةً إلا بِتَأْمِير
عاشتْ سُميَّة ما عاشت وما عَلِمتْ ... أنّ ابنَها من قريش في الجَماهير
سُبحان مَن مُلْك عباد بقُدرته ... لا يَدفع الناسُ أسبابَ المقادير
وكان زياد عاملاً لعليّ بن أبي طالب على فارس: فلما مات عليّ رضي الله عنه، وبايع الحسنُ معاويةَ عامَ الجماعة، بقي زيادٌ بفارس وقد مَلكها وضَبط قَلاعها، فاغتمّ به معاوية، فأرسل إلى المُغيرة بنُ شعبة. فلما دخل عليه قال: لكُل نبأ مُستقر، ولكُل سر مسَتودِع، وأنت موضعُ سري وغاية ثِقَتي. فقال: المغيرة: يا أمير المؤمنين، إنْ تستودعني سرك تستودعه نَاصِحاً شَفيقاً، ووَرِعا رفيقاً، فلا ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتُ زياداً واعتصامَه بأرض فارس ومُقامه بها، وهو داهية العرَب، ومعه الأحوالُ، وقد تحصّن بأرض فارس وقِلاعها يُدبّر الأمور، فما يُؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو أعاد جَذَعه. قال له المُغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم. فخرَج إليه. فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مُستقبلٌ الشمسَ. فقام إليه زياد ورحِّب به سرُّ بقدومه، وكان له صديقاً - وذلك أنّ زياداً كان أحدَ الشُهود الأربعة الذين شَهدوا على المُغيرة، وهو الذي تَلجج في شهادته عند عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه، فنجا المغيرة وجُلد الثلاثةُ من الشهود، وفيهم أبو بكرة أخو زياد، فحلف أن لا يكلمٍ زياداً أبداً - فلَما تَفاوضا في الحديث قال له المغيرة: أعلمتَ أنّ معاوية استخف الوجل حتى بعثتي إليك، ولا نَعلم أحداً يَمد يَده إلى هذا الأمر غيرَ الحسن، وقد بايع معاويةَ فخُذ لنفسك قبل التَوطين فيَستغني عنك معاوية. قال: أشر عليّ وارم الغرضَ الأقصى، فإنّ المُستشار مُؤتَمن. قال: أرى أن تَصل حبلَك بحَبْله وتسيرَ إلَيه وتعير الناسَ أذناً صماء، وعَينْاً عمياء. قال يا بن شُعبة، لقد قلتَ قولاً لا يكون غَرْسُه في غير منبته، ولا مَدَرة تغذية، ولا ماء يَسْقيه، قال زهير:
وهل يُنْبت التخطيء إلا وشيجُه ... وتُغْرس إلا في مَنابتها النخلُ
ثمِ قال: أرى ويقضي اللّه. وذكر عمر بن عبد العزيز زِيَاداً فقال: سَعي لأهل العِراق سَعْيَ الأم البرّة وجَمع لهم جَمْعَ الذَّرة. وقال غيره: تَشبَّه زيادٌ بعمرَ فأفرط، وتشبه الحجّاج بزياد فأَهلك الناس. وقالوا: الدُّهاة أربعة: معاوية للرويّة، وعمرو بن اَلْعاصّ للبَديهة، والمُغيرة للمعضلات، وزياد لكُل صَغيرة وكبيرة.
ولما قَدم زيادٌ العراق قال: مَن على حَرَسكم؟ قالوا: بَلَج. قال: إنما يُحترس من مثل بَلَج، فكيف يكون حَارِساً! أخذه الشاعر فقال:
وحارس من مثله يُحْترس

العَتَبَيْ قال: كان في مجلس زياد مكتوب: الشِّدة في غير عُنف، واللّين في غير ضَعف. المُحسن يُجازَى بإحسانه، وَالْمُسِيء يعاقَب بإساءته. الأعطيات في أيامها. لا احتجابَ عن طارق لَيْل ولا صاحب ثغر. وبَعث زيادٌ إلى رجال من بني تَميم ورجال من بني بَكْر، وقال: دُلّوني على صُلَحاء كل ناحية ومن يُطاع فيها. فدلوه، فضمّنهم الطريق وحَدّ لكُل رجل منهم حَدا. فكان يقول: لو ضاع حَبل بيني وبين خُراسان عرفتُ من أخذ به وكان زياد يقول: من سَقَى صبياً خمراً حددناه، ومن نَقب بيتاً نَقبناً عن قلبه، ومن نَبش قبراً دفّناه حيّاً. وكان يقول: اثنان لا تُقاتِلوا فيهما: الشتاء وبُطون الأودية. وأول من جُمعت له العراق زياد، ثم ابنُه عبيد الله بن زياد، لم تجتمع لقرشيّ قط غيرَهما. وعُبيد الله بن زياد أول من جُمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعُمان، وإنما كان البحران وعُمان إلى عُمال أهل الحجاز، وهو أول من عرف العُرفاء، ودعا النقباء، ونَكَبالمناكب، وحصل الدواوين، ومُشي بين يديه بالعَمد، ووَضع الكراسي، وعمل المَقصورة، ولَبس الزيادي، ورَبعَ الأرباع بالكوفة وخمسَ الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمُقاتلة والذرية من أهل البصرة وأهل الكوفة وبلغ بالمُقاتلة من أهل الكوفة ستّين ألفاً، ومقاتلة البصرة ثمانين ألفاً، والذرية مائة ألف وعشرين ألفاً. وضَبط زياد وابنهُ عُبيد الله العراقَ بأهل العراق.
قال عبدُ الملك بن مروان لعبَّاد بنِ زياد: أين كانت سيرةُ زياد من سيرة الحجاج؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ زياداً قَدِم العراقَ وهي جَمْرة تشتعل، فسَلَّ أحقادَهم، وداوَى أدواءهم، وضَبط أهلَ العراق بأهل العراق. وقَدمها الحجاجُ فكسر الخراج، وأفسد قلوبَ الناس، ولم يَضْبطهم بأهل الشام فضلاً عن أهل العراق، ولو رام منهم ما رامَه زياد لم يَفْجأك إلا على قَعود يُوجف به.
وقال نافعٌ لزِياد: استعملتَ أولادَ بَكْرة وتركت أولادي؟ قال: إني رأيتُ أولادك كُزْماً قصاراً، ورأيت أولاد أبي بكرة نُجباء طوالاً. ودخل عبد الله بن عامر على مُعاوية، فقال له: حتى متى تذهب بخراج العراق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول هذا لمن هو أبعدُ منِّي رَحماً! ثم خرج. فدخل على يزيد فاخبره وشكا إليه. فقال له: لعلك أغضبتَ زياداً؟ قال: قد فعلتُ. قال: فإنه لا يَرضى حتى تُرضي زياداً عنك. فانطلق ابنُ عامر، فاستأذن على زياد، فأذن له وألطفه. فقال ابنُ عامر: إن شئْت فصُلح بعتاب، وإن شئتَ فصُلح بغير عتاب. " قال زياد: بل صُلْحٌ بغيرِ عِتاب " فإنه أسلم للصَّدر. ثم راح زيادٌ إلى مُعاوية فأخبره، وأصبح ابنُ عامر غادياً على مُعاوية. فلما دخل عليه، قال: مرحباً بأبي عبد الرحمن، ها هنا، وأجلسه إلى جَنْبه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن:
لنا سياق ولكم سياق ... قد علمتْ ذلكمُ الرفاق
الحسن بنُ أبي الحسن قال: ثَقُل أبو بكرة فأرسل زياد إليه أنسَ بن مالك ليصالحَه ويُكلّمه، فانطلقتُ معه. فإذا هو مُول وجهَه إلى الجدار، فلما قَعد قال له: كيف تجدك أبا بكرة؟ فقال صالحا، كيف أنتَ أبا حَمْزة؟ فقال له أنس: اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك، فإنّ الحياة يكون فيها ما يكون، فأمّا عند فراق الدُّنيا فلَيستغفر الله أحدُ كما لصاحبه، فوالله ما علمتُ إنه لوَصول للرَحم؟ هذا عبدُ الرحمن ابنُك على الأبلة، وهذا داود على مدينة الرِّزْق، وهذا عبدُ الله على فارس كلها. والله ما اعلمه إلا مُجتهداً: قال: أقعدوني. فأقعدوه، فقالت: أخبرني ما قلتَ في أخر كلامك، فأعاد عليه القولَ. فقال: يا أنس، وأهلُ حَروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطئوا؟ والله لا أكلمه أبداً ولا يصلي عليّ. فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال، وقال له: إنه قَبيحٌ أن يموت مثْل أبي بكرة بالبَصرة، فلا تُصلّي عليه ولا تقوم على قَبره، فاركب دوابّك والحق بالكوفة. قال: ففعل، ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر، فصلّى عليه أنس بن مالك.

وقدم شريح على زياد من الكوفة فقضى بالبَصرة، وكان زياد يُجلسه إلى جَنبه ويقول له: إن حكمتُ بشيء ترى غيرَه أقربَ إلى الحق منه فأعْلمنيه. فكان زياد يَحكم فلا يَرُدّ شريحٌ عليه. فيقول زيادٌ لشريح: ما ترى؟ فيقول: هذا الحكم؟ حتى أتاه رجل من الأنصار، فقال: إ نّي قدمت البَصرة والخطط موجودة فأردت أن أختطّ لي، فقال لي بنو عَمي؟ وقد اختطّوا ونزلوا: أين تخرُج عنا؟ أقم مَعنا واختطّ عندنا، فوسّعوا لي، فاتخذت فيهم داراً وتزوّجت، ثمّ نزع الشيطان بيننا فقالوا لي: اخرُج عنا. فقال زياد: ليس ذلك لكم، مَنعتموه أن يَختط والخِطط موجودة، وفي أيديكم فضل فأعطيتموه، حتى إذا ضاقت الخُطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به، لا تخرج من منزلك. فقال شريح: يا مُستعير القدر ارددها. قال زياد: يا مستعير القدر أحبسْها ولا تَرْددها. فقال محمد بن سيرين: القضاء بما قال شُريح، وقولُ زياد حَسن. وقال زياد: ما غَلبني أميرُ المُؤمنين مُعاوية إلا في واحدة، طلبتُ رجلاً فلجأ إليه وتحرم به، فكتبتُ إليه: إن هذا فساد لعَملي، إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك فتحرّم بك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ بسياسة واحدة فيكونَ مَقامُنا مقامَ رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغِلْطة، وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس فيما بيننا.
ولما عَزل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياداً عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خِيانة؟ قال له: أعن عجز أم خِيانة؟ لا عَن واحدة منهما، ولكنّى كرهتُ أن أحمل على العامّة فضلَ عقلك. وكتب الحسنُ بن علي رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شِيعته، عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يَملكه، وكان عنوان كتابه: من الحَسن بن عليّ إلى زياد. فغضب زيادٌ إذ قَدّم نفسه عليه ولم يَنسبه إلى أبي سفيان، فكتب إِليه: من زياد بن أبي سُفيان إلى حسن: أما بعد، فإنكَ كتبتَ إليّ فاسق لا يأويه إلا الفُساق، وايم الله لأطلبنّه ولو بين جِلدك ولحمك، فإِن احبّ لحمٍ إلىّ أن آكلهُ لحمٌ أنتَ منه. فكتب الحسنُ إلى معاوية يشتكي زياداً، وادرج كتاب زياد في داخل كتابه. فلما قرأه معاوية أكثر التعجُّب من زياد، وكتب إِليه: أما بعد. فإنّ لك رأيين أحدهُما من أبي سفيان والآخر من سُمية، فأما الذي من أبى سفيان فحَزم وعَزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأيُ مثلها، وإنّ الحسن بن علي كتب إلىّ يذكر أنك عرضْت لرجل من أصحابه، وقد حجزناه عنك ونُظراءَه، فليس لك على واحد منهم سَبيل ولا عليه حكم. وعجبتُ منك حين كتبتَ إلى الحسن لا تَنْسُبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكلْته لا أم لك؟ فهو ابنُ فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن حين اخترتَ له! وكتب زياد إلى معاوية: إنّ عبدَ الله بن عبَّاسُ يُفسد الناسَ عليّ، فإن أذنتَ لي أن أتوعّده فعلتُ. فكتب إليه: إن أبا الفضل وأبا سُفيان كانا في الجاهلية في مِسْلاخ واحد، وذلك حِلْف لا يَحلُّه سوءُ رأيك. واستأذن زيادٌ معاويةَ في الحجّ، فأذِن له. وبَلغ ذلك أبا بكرة، فأقبل حتى دخل على زياد، وقد أجلسِ له بَنيه، فسلم عليهم ولم يُسلّم على زياد. ثم قال: يا بني أخي، إن أباكم رَكب أمراً عظيماً في الإسلام بادعائه إلى أبي سفيان، فوالله ما علمتُ سُميةَ بغتْ قط، وقد استأذن أميرَ المؤمنين في الحجّ وهو مارٌّ بالمدينة لا محالة، وبها أم حَبيبة بنت أبي سفيان زَوجُ النبيّ صلى الله عليه و سلم، ولا بُدّ له من الاستئذان عليها، فإِن أذنت له فَقَعد منها مَقْعد الأخ من أخته فقد انتهك من رسول الله صلى الله عليه و سلم حرمة عظيمة، وإن لم تأذن له فهو عارُ الأبد، ثم خرج. فقال له زياد: جَزاك الله خيراً من أخ، فما تَدع النصيحةَ على حال. وكتب إلى معاوية يَستقيله، فأقاله. وكتب زيادٌ إلى مُعاوية: إني قد أخذتُ العِراق بيميني وبقيتْ شمالي فارغة، وهو يعرّض له بالحجاز. فبلغ ذلك عبدَ الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: اللهم أكفِنا شماله. فعرضت له قرحة في شماله، فقَتلته. ولما بلغ عبدَ الله ابن عمر موتُ زياد قال: اذهب إليك ابنَ سُمية، لا يداً رفعت من حرام، ولا دنيا تملّيت.

قال زياد لعَجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على. الآداب. قال: فمن تُؤخِّر؟ قال: من لا يَعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يَلبسون كُسوة الشتاء في الصيف!، وكسوة الصيف في الشتاء. وقال زياد لحاجبه: ولّيتك حِجابتي وعَزَلْتك عن أربع: هذا المُنادي إلى الله في الصلاح والفلاح، لا تَعُوجنّه عنّى ولا سُلطان لك عليه؟ وطارق الليل، لا تَحْجبه فشرُّ ما جاء به ولو كان خيراً ما جاء في تلك الساعة؟ ورسول صاحب الثغر، فإنه إن أبطأ ساعةً أفسد عملَ سنة؟ وصاحب الطعام، فإنّ الطعام إذا أعيد تَسْخينه فَسد.
وقال عَجلان حاجبُ زياد: صار لي في يوم واحد مائةُ ألف دينار وألف سيف.
قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أعطىِ زيادٌ ألفَ رجل مائتى ألف دينار وسيفاً، فأعطاني كل رجل منهم نصفَ عطائه وسيفه.
أخبار الحجاجِ
دخل المُغيرة بن شُعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلِّل حين انفلتت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنتِ تتخللين من طَعام البارحة فإنك لقذرة، وإن كان من طَعام اليوم إنك لنَهمة، كنتِ فبِنْت. قالت: والله ما فَرحنا إذ كنّا ولا أَسِفنا إذ بِنّا، وما هو بشيء مما ظننتَ، ولكنّى استكت فأردت أن أتخلّل للسواك. فندم المغيرة على ما بَدر منه، فخرج أسفاً، فلقي يوسف بن أبي عَقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلتُ الساعةَ عن سيِّدة نساء ثَقيف، فتزوّجها فإنها تُنجب لك، فتزوّجها فولدتْ له الحجاج.
ومما رواه عبدُ الله بن مُسلم بن قُتيبة قال: إنّ الحجَّاج بن يوسف كان يُعلّم الصِّبيان بالطائف، واسمه كُليب، وأبوه يوسف معلّم أيضاً. وفي ذلك يقول مالك بن الرَّيب:
فماذا عسى الحجَّاجُ يَبلغ جُهده ... إذا نحن جاوزنا حفيرَ زيادٍ
فلولا بنو مَروان كان ابنُ يوسف ... كما كان عبداً من عَبيد إياد
زمانَ هو العَبد المُقرّ بذُلّة ... يروح صبيانَ القُرى ويُغادي
ثم لحق الحجاجُ بن يوسف برَوْح بن زِنباع، وزير عبد الملك بن مَروان، فكان في عديد شُرطته إلى أن شكا عبدُ الملك بن مروان ما رأى من انحلال عسكره، وأنّ الناسَ لا يَرحلون برَحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال رَوْح بن زنْباع: يا أمير المؤمنين، إنّ في شُرطتي رجلاً لو قلّده أميرُ المؤمنين أمر عَسكره لأرحلهم برَحيله وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجّاج بن يوسف. قال: فإِنّا قد قَلدناه ذلك. فكان لا يقدر أحدٌ أن يتخلّف عن الرّحيل والنزول إلا أعوانَ رَوْح بن زنباع. فوقف عليهم يوماً وقد رحل الناسُ وهم على طَعام يأكلون، فقال لهم: ما مَنعكم أن تَرْحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا بن اللّخناء، فكُلْ معنا. فقال: هيهات! ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجُلدوا بالسّياط، وطوفهم في العسكر. وأمر بفَساطيط رَوْح بن زنباع فأحرقت بالنار. فدخل روحُ بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكياً. فقال له: مالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الحجّاج بن يوسف الذي كان في عديد شُرطتي ضَرب عَبيدي وأحرق فَساطيطي. قال: عليّ به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: ما أنا فعلتُه يا أمير المؤمنين قال: ومَن فعله ؟قال: أنت والله فعلته، إنما يدي يدُك وسَوطي سوطُك، وما على أمير المؤمنين أن يُخْلف على رَوْح بن زنباع للفُسطاط فُسطاطين، وللغُلام غلامين، ولا يَكْسرني فيما قَدّمني له. فأخْلف لرَوْح بن زنْباع ما ذَهب له، وتقدّم الحجاجُ في منزلته. وكان ذلك أولَ ما عرف من كفايته.
قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار قال: وكان الحجّاج بن يوسف يَضع في كُل يوم ألف خِوان في رمضان، وفي سائر الأيام خَمسَمائة خوان، على كل خِوان عشرةَ أنفس وعشرة ألوان وسَمكة مَشويّة طريّة وأرزة بسكر، وكان يُحمل في مِحفّة ويُدار به على موائده يتفقّدها، فإِذا رأى أرزة ليس عليها سُكر وسعى الخباز ليجيء بسُكرها، فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سُكر، أمر به فضرُب مائتي سوط. فكانوا بعد ذلك لا يَمشون إلا متأبطي خرائط السكر. قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يَضع خمسمائة خِوان، فكان طعام الحجّاج لأهل الشام خاصّة، وطعام يُوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.

العُتبيّ قال: دخل على الحجّاج سُليك بن سُلَكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعِرْني سمعك، واغضُض عنّي بصرك، واكفُف عني غَربك، فإِن سمعتَ خطأ أو زللا فدونَك والعُقوبة. فقال: قُل، فقال: عَصى عاصٍ من عُرض العَشيرة فحُلّق على اسمي، وهُدمت داري، وحُرمت عطائي. قال: هيهات! أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يَجني عليك وقد ... تَعدِي الصحاحَ مباركُ الجُربِ
ولربّ مأخوذٍ بذنبِ عشيرةٍ ... ونَجا المُقارف صاحبُ الذنب
قال: أصلح الله الأمير، فإِني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال: " يأيّها العَزيزُ إنّ له أباً شيْخاً كَبيراً فخُذ أحَدنا مكانَه إِنَّا نَراك من المُحْسِنين. قال معاذ الله أن نأخُذ إلا مَنْ وجدْنا مَتاعَنا عِنده إنّا إذاً لظالمون " . فقال الحجاج: عليّ بزيد بن أبي مُسلم، فأتي به، فمثَل بين يديه، فقال: افكُك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابنِ له منزلَه، ومُر مُناديا ينادِ في الناس: صَدَق الله وكَذب الشاعر.
أُتي الحجاجُ بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دَير الجماجم، فقال لَحرْسى: قُل لها: يا عدوة اللّه، أين مالُ الله الذي جَعلته تحت ذَيلك؟ فقال: يا عدوة اللّه، أين مالُ الله الذي جعلته تحت استك؟ فقال له: كذبتَ، ما هكذا قلتُ، أرسلها فخلى عنها. الأصمعي قال: ماتت رُفقة عَطَشاً بالشجِي - والشَّجِي: رَبو من الأرض في بطنَ فلج - فَشَجِيَ به الوادي فسُمِّى شج - فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرَّعوا إذا نَزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم، فحفروا. فأمر الحجّاج رجلا، يقال له عضيدة يحفر البئر، فلما أنبطها حمل منها قِربتين إلى الحجاج بأواسط، فلما قدم بهما عليه. قال: يا عديدة، لقد تجاوزت مياهاً عذاباً، أخسف أم أشلت؟ لا واحدَ منهما، ولكنْ نَبَطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قَدره؟ قال: مرّت بنا رًفقة فيها خمسة وعشرون جملاً فَرويت الإبل وأهلها. قال: أو لِلإبل حَفرتها؟ إنما حفرتَها للناس! إن الإبل ضُمْر خُسْف، ما جُشّمت تجشّمتْ.
بعث عبدُ الملك بن مَروان الحجَّاج بن يوسف والياً على العراق وأَمره أن يَحْشر الناسَ إلى المهلَّب في حَرب الأزارقة. فلما أتى الكُوفة صَعِد المِنبَر مُتلثّماً متنكِّبا قوسَه، فجلس واضعاً إِبهامه على فيه. فنظر محمدُ بن عُمير بن عُطارد التميمي، فقال: لَعن الله هذا ولَعن مَن أرسله إلينا! أرسل غلاماً لا يستطيع أن يَنطق عِيَّاً! وأخذ حصاةً بيده لِيَحْصبه بها. فقال له جليسُه: لا تَعجل حتى ننظر ما يَصنع فقام الحجاج فكشف لِثامَه عن وجهه وقال:
أنا ابنُ جلاَ وطَلاَّع الثَنايا ... متى أضع العِمامةَ تَعْرفوني
صليبُ العُود مِن سَلَفْي نِزار ... كنَصل السيفِ وضّاح الجَبَين
أخو خَمْسين مجتمعٌ أشدِّي ... ونَجَّذني مداورة الشؤون
أما والله إني لأحملُ الشرَّ بثِقْله، وأحذوه بنَعله، وأجزيه بمثله؟ أما والله إني لأرى رؤسا قد أَينعت وحان قِطافها، وكأني أرى الدماء تبق العمائم واللِّحى لترقرق
هذا أوانً الشدِّ فاشتدّي زيمْ ... قد لفّها الليلُ بسواق حُطَمْ
ليس براعي إبلٍ ولا غَنم ... ولا بجزَار على ظَهر وَصَمْ

ألا إنّ أميرَ المؤمنين عبدَ الملك بن مروان كَبَّ كنانته فعجَم عيدانَها، فوجدني أصلبهاعوداً، . فوجّهني إليكم، فإنكم طالما سَعيتم في الضَّلالة، وسَننتم سُنن البَغي. أما والله لألحونَّكم لحوَ العصا، ولأعصَبنّكم عصْب السِّلمة، ولأقرعنَّكم، قَرْع المَرْوة، ولأضربنَّكم ضَرْب غَرائب الإبل. والله ما أخْلُق إلا فَريت، ولا أعد إلا وفّيت. إني واللّه لا أغمز تَغمازَ التّين، ولا يُقعقع لي بالشِّنان. إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما يقول، وفيم أنتم ونحو هذا. من وجدتُه بعد ثالثة من بعث المُهلَّب ضربت عنقه. ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين، فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى مَن بالكوفة من المسلمين. سلامٌ عليكم. فلم يقُل أحد شيئاً. فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نِهّية، والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمُنّ. اقرأ يا غلام كتابَ أمير المؤمنين. فلما بلغ قولَه: سلام عليكم لم يبقَ أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل، فأتاه عُمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إنّي شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوَى على الغَزْو منّي. قال: أجيزُوا ابنَه عنه، فإن الحدَثَُ أحبُّ إلينا من الشيخِ. فلما وَلّى الرجلً، قال له عنبسةُ بن سَعيد. أيها الأمير، هذا الذي رَكض عثمان برجله وهو مَقتول. فقال: رُدُّوا الشيخ، فردُّوه، فقال: أضربوا عُنقه. فقال فيه الشاعر.
تجهَّزْ فإمّا أن تزور ابنَ ضابىء ... عُمَيراً وإمّا أن تَزور المهلَّبَا
هما خُطَّتا خَسْفٍ نجاؤك منهما ... ركوبُك حَوْليا من الثَّلْج أَشهبا
ثم قال: دُلّوني على رجل أوليه الشُّرطة. فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ قال: أريده دائم العُبوس، طويلَ الجلوس؟ سمينَ الأمانة، أعجفَ الخِيانة، لا يَحْنق في الحق على حُرّ أو حُرة، يَهون عليه سؤال الأشراف في الشَفاعة. فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عُبيد التّميمي. فأرسل إليه فاستعمله: فقال له: لستُ أقبلها إلا أن تكفيَنِي عمالَك وولدَك وحاشيَتك. فقال الحجاج: يا غلام، نادِ: مَن طَلب إليه منهم حاجةَ فقد برئتْ الذمةُ منه. قال الشعبيُّ: فوالله ما رأيتُ قطُّ صاحب شرطة مثلَه، كان لا يَحبس إلا في دَيْن، وكان إذا أتي برجل نَقب على قوم وَضع مِنْقبته في بَطنه حتى تَخرج من ظهره، وكان إذا أُتي برِجل نَبّاش حَفر له قبراً ودَفنه فيه حيّاً، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شَهر سلاحاً قَطع يَده، فربما أقام أربعين يوماً لا يُؤتى إليه بأحد. فضمّ الحجاجُ إليه شرُطة البَصرة معِ شرُطة الكوفة.
ولما قَدِم عبد الملك بنُ مروان المدينة نزل دارَ مروان، فمرّ الحجّاجُ بخالد ابنِ يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجّاج سيف محلَّى، وهو يَخطِر مُتبختراً. في المسجد. فقال رجل من قُريش لخالد: من هذا التّختارة؟ فقال بخ بخ! هذا عمرُو بن العاص! فسمعه الحجاجُ فمال إليه، فقال: قلتَ: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرّني أن العاص وَلدني ولا ولدتُه، ولكن إن شئتَ أخبرتُك من أنا: أنا ابنُ الأشياخ من ثَقيف، والعقائل من قُريش، والذي ضَرب مائة بسيفه هذا كلهم يَشهدون على أبيك بالكفر وشُرب الخمر حتى أقرُّوا أنه خليفة. ثم ولّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص!

الأصمعي قال: بعث الحجاجُ إلى يحيى بن يَعْمرً، فقال له: أنت الذي تقول إنّ الحسنَ بن على ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربنّ عُنقك. فقالت له: فإن أتيت بالمخرِج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ: " وتلْك حُجتنا آتيناها إبراهيمَ على قَوْمه نرْفع درجاتٍ مَن نَشاء " إلى قوله " ومِن ذُرّيته داودَ وسُليمانَ وأيوبَ ويُوسفَ ومُوسى وهاَرون وكذلك نَجْزي المُحْسنين. وزَكريّا ويَحيى وعِيسى " فمن أقربُ: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابنه بنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأتُ هذه الآية قط، وولاّه قضاءَ بلد. فلم يزل بها قاضياً حتىِ مات. قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبدُ الملك بنُ مَروان سِنان قُريش وسيفَها رأياً وحزماً، وعابدَها قبل أن يُستخلفَ ورعاً وزُهداً، فجلس يوماً في خاصّته فقَبض على لِحيته فشمَّها مليا، ثم اجتر نَفسَه ونَفخ نفخةً أطالها، ثم نَظر وُجوه القوم فقال: ما أطول يومَ المسألة عن ابن أمِ الحجّاج وأدحضَ المحتجّ على العليم بما طَوته الحُجب. أما إنّ تَمليكي له قرَن بي لوعةً يَحشّها التّذكار. كيف وقد علمتُ فتعاميتُ، وسمعتُ فتصاممت، وحَمله الكرامُ الكاتبون. والله لكأني إلفُ ذي الضِّغن على نَفْسي، وقد نَعتِ الأيامُ بتصرّفها أنفساً حُق لها الوعيد بتصرّم الدُّول. وما أبقت الشًّبهة للباقي متعلَقاً، وما هو إلا الغِلّ الكامن من النَّفس بحَوْبائها، والغَيْظ المُندمل. اللهم أنت لي أوسع، غيرَ مُنتصر ولا مُعتذر. يا كاتب، هاتِ الدواةَ والقِرْطاس. فقعد كاتبُه بين يديه وأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مَروان إلى الحجَّاج بن يوسف: أما بعد. فقد أصبحتُ بأمرك بَرِماً، يُقعدني الإشفاقُ، ويُقيمني الرجاء وإذا عجزتُ في دار السعة وتوسًّط الملك وحين المَهل واجتماع الفكر، أن ألتمسالعُذرَ في أمرك، فأنا لعمرُ اللهّ، في دار الجَزاء، وعَدَم السلطان، واشتغال الحامّة، والرُّكون إلى الذِّلة من نفسي، والتوقّع لما طُويت عليْة الصحفُ، أعجز. وقد كنتُ أشركتُك فيما طوقني الله عزَ وجل حملَه، ولاثَ بحَقْويّ من أمانته في هذا الخلق المَرْعيّ، فدُللتُ منك على الحزم والجِدّ في إماتة بِدعَة وإنعاش سُنّة، فقعدتَ عن تلك ونهضتَ بما عاندَها، حتى صِرْت حُجة الغائب والشاهدِ القائم، وعُذّر اللاعنِ. فلعن الله أبا عَقيل وما نَجل، فالأم والد وأخبث نَسل. فَلعمري ما ظَلمكم الزِّمان ولا قَعدت بكم المراتب. لقد ألْبسْتكم مَلبسكم، وأقعدتكم على رَوابي خططكم، وأحلّتكم أعلى مَنَعتكم، فمن حافر وناقل وماتِح للقُلُب المُقْعَدة في الفيافي المتفيهقة، ما تقدَّم فيكم الإسلام ولقد تأخّرتم، وما الطائف منّا ببعيد يُجهل أهلهُ. ثم قمتَ بنفسك وطمحتَ بهمَتك. وسرّك انتضاءُ سَيفك، فاستخرجك أميرُ المؤمنين من أعوان رَوْح ابن زِنباع وشُرطته، وأنت على معاونته يومئذ مَحسود، فهفا أميرُ المؤمنين، والله يُصبح بالتوبة والغفران زلّته وكأني بك وكأنَ ما لو لم يكن لكان خيراً مما كان. كل ذلك مِن تجاسرك وتَحاملك على المُخالفة لرأي أمير المؤمنين. فصدعْتَ صفاتَنا، وهَتكت حُجبنا، وبَسطت يديك تحقِن بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة، والأرحام الواشجة، في أوعية ثَقيف. فاستغفر الله لذَنْب ما له عُذر. فلئن استقال أميرُ المؤمنين فيك الرأيَ فقلد جالت البصيرةُ في ثَقيف بصالح النبيّ صلى الله عليه و سلم، إذ ائتمنه على الصدقات، وكان عبدَه فهرب بها عنه، وما هو إلا اختبار الثّقة والتلطًّف لمواضع الكفاية، فقعد به الرجاءُ كما قَعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له. فكأنّ هذا أَلبس أميرَ المؤمنين ثوبَ العزاء، ونهض بعُذره إلى استنشاق نَسيم الرّوْح. فاعتزِلْ عمل أمير المُؤمنين، واظعن عنه باللَّعنة اللازمة، والعُقوبة الناهكة إن شاء اللّه، إذ استحكم لأمير المُؤمنين ما يُحاول من رَأيه والسلام.

ودعا عبدُ الملك مولى يقال له نُباتة، له لسان وفَضْل رأي، فناوله الكتابَ، ثم قال له: يا نُباتة، العَجلَ ثم العجلَ حتى تأتَي العراق، فضَع هذا الكتاب في يد الحجاج وترقّب ما يكون منه، فإن اجبَل عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقْلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهَدِّن الناسَ حتى يأتيهم أمري، بما تَصفني به في حين انقلاعك، من حُبِّي لهم السلامة. وإن هَشَّ للجواب ولم تَكْتنفه أربة الحَيرة، فخُذ منه ما يُجيب به وأفْرِزه على عمله، ثم اعجَل عليّ بجوابه. قال نُباتة: فخرجتُ قاصداً إلى العراق، فضمّتني الصّحارى والفيافي، واحتواني القُرّ، وأخذ مِنّي السفرُ حتى وصلتُ. فلما وردتُه أدخلت عليه في يوم ما يَحْضُره فيه المَلأ، وعليّ شحوبُ مُضْنَى، وقد توسّط خدمَه من نواحي، وتدثّر بِمطْرَف خَزّ أدكن، ولاثَ به الناسُ من بني قائمٍ وقاعد. فلما نظر إليَّ، وكان لي عارفاً، قعد، ثم تبسّم تبسّم الوَجِل، ثم قال: أهلاً بك يا نُباتة، أهلا بمولى أمير المُؤمنين، لقد أثرّ فيك سفرُك، وأعرف أميرَ المؤمنين بك ضنيناً، فليتَ شعرِي، ما دَهِمَك أو دَهِمَني عنده. قال: فسلّمتُ وقعدتً. فسأل: ما حالُ أميرِ المُؤمنين وخوَله؟ فلما هَدأ أخرجت له الكتاب فناولتُه إياه. فأخذه منّي مُسرعاً ويدُه تُرْعَد، ثم نظر في وُجوه الناس فما شعرتُ إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كُلُّ من يُطيف به من خَدمه تَلْقاه جانباً لا يسمعون منّا الصوت. ففكّ الكتابَ فقرأه، وجعلَ يتثاءب وُيردد تثاؤبه ويسير العرقُ على جَبينه وصُدْغيه على شدّة البرد من تحت قَلَنْسوته، من شدّة الفَرق، وعلى رأسه عِمامةُ خزّ خضراء، وجعل يَشخص إليّ ببصر ساعةً كالمتوهِّم، ثم يعود إلى قراءة الكتابَ، ويُلاحظني النظرِ كالمُتفهم، إلا أنه واجم، ثم يعاود الكتابَ، وإنّي لأقول: ما أراه يُثبت حروفه من شدّة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته. ثم مالت يدُه حتى وقع الكتابُ على الفراش، ورَجع إليه ذهنُه، فمسح العرق عن جَبينه، ثم قال متمثّلا:
وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارَها ... ألفيتَ كُلّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ
ثم قال: قَبُح والله منّا الحسنُ يا نُباتة، وتَواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن.
وما هذا إلا سانح فكْرة نَمَّقها مُرصِد يَكْلَب بقِصَّتنا، مع حُسن رأي أمير المؤمنين فينا. يا غلام. فتبادر الغِلمان الصَّيحةَ، فملئ علينا منهم المجلس حتى دَفأتني منهم الأنفاس. قال: الدّواةَ والقرطاس، . فأتي بالدواة والقرطاس، فكتب بيده: وما رَفع القلم إلا مُستمدّاً حتى سَطَّر مثل خدِّ الفرس. فلما فَرغِ قال لي: يا نُباتة، هل علمتَ ما جئت به فنُسمعك ما كتبنا؟ فقلت: لا. قال: إذا حَسْبك منَّا مثلُه. ثم ناولني الجوابَ وأمر لي بجائزة فأجزل، وجَرد لي كِساء، ودَعا لي بطَعام فأكَلتُ، ثم قال نَكِلك إلى ما أمرت به من عَجلة أو تَوانٍ، وإنّي لأحب مُقارنتك والأنس برُؤيتك. فقلتُ: كان معي قُفْلٌ مفتاحُه عندك، وفمتاح قُفلك عندي، فأُحدثت لك العافية بأمرين: فأقفلتَ المَكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك، وما أحب أن أزيدك بياناً، وحسبُك من استعجالي القيام. ثمٍ نهضتُ، وقام مُودِّعاً لي فالتزمني، وقال: بأبي أنت وأمي، رُبّ لَفظة مَسْموعة، ومحتقر نافعِ، فكُن كما أظُن. فخرجتُ مُستقبلاً وَجهي حتى وردتُ أميرَ المؤمنين، فوجدتُه مُنصرفاً من صلاة العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجَع يا نُباتة! قفلتُ: مَن خاف من وجه الصَّباح أدْلج، فسلّمت وانتبذتُ عنه. فتركني حتى سَكن جأشي ثم قال: مَهْيم؟ فدفعتُ إليه الكتاب، فقرأه مُتبسّماً، فلمّا مَضى فيه ضَحك حتى بدت له سِنٌّ سوداء، ثم استقصاه فانصرف إليّ، فقال: كيف رأيتَ إشفاقَه؟ قال: فقصصتُ عليه ما رأيتُ منه فقال: صلواتُ الله على الصادق الأمين " إنّ من البيان لسحراً " ثم قَذف الكتاب إليّ، فقال: اقرأ، فقرأتُه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وخليفة ربِّ العالمين؟ المُؤيَّد بالولاية، المَعصوم من خَطل القول، وزَلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذَوي أَمره، من عَبدٍ اكتنفته الذِّلة، ومَدَّ به الصَّغار إلى وَخيم المَرْتع، ووَبيل المكْرع، من جليلٍ فادح، ومُعتدٍ قادحٍ. والسلام عليك ورحمةُ اللّه، التي اتسعت فَوسعت، وكان بها إلى أهل التَّقوى عائدا فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجياً لعَطفك بعَطفه، أما بعد. كان الله لك بالدَّعة في دار الزَوال، والأمن في دار الزِّلزال. فإنه من عُنيت به فكرتُك يا أمير المؤمنين مَخْصوصاً فما هو إلا سَعيد يُوثر أو شَقيٌّ يُوتر، وقد حَجَبني عن نواظر السعد لسانُ مرصِد، ونافسٌ حَقِد، انتهز به الشيطانُ حين الفكرة، فافتتح به أبوابَ الوَساوس بما تَحْنق به الصُّدور. فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رَجيم إنما سلطانُه على الذين يتولّونه، واعتِصاماً بالتَّوكّل على من خَصَّه بماَ أجزل له من قَسْم الإيمان وصادق السنة. فقد أراد اللَعين أن يَفْتُق لأوليائه فَتْقاً نَبا عنه كيدُه، وكثر عليه تحسَّرْه، بَليِّة قَرع بها فكرَ أمير المؤمنين مُلبساً، وكادحاً ومُؤرشاً، ليُفل من عزمه الذي نَصبني له، ويُصيب ثأراً لم يَزل به موتوراً.
وذَكر قديمَ ما مُني به الأوائل وكيف لحقتُ بمثله منهم، وما كُنت أبلوه من خِسَّة أقدار ومُزاولة أعمال، إلى أن وصلتُ ذلك بالتشرُط لرَوح بن زِنباع.

وقد علم أمير المؤمنين، بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأنّ الذي عُيِّر به القوم من مَصانعهم من أشدِّ ما كان يُزاوله أهلُ القُدْمة الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتَعضوا من ذكر ما كان، وارْتفعوا بما يكون، وما جَهل أميرُ المؤمنين - وللبيان موقعُه غيرَ مُحتج ولا متعد - أنّ متابعةَ رَوح بن زِنباع طريقُ الوسيلة لمن أراد مَن فوقه، وأنّ رَوْحاً لم يُلْبسْني العزمَ الذي به رَفعني أميرُ المؤمنين عن خَوله، وقد ألصقتْني برَوْح بن زِنباع هِمَّةٌ لم تزل نواظرُها تَرْمي بي البعيدَ، وتُطالع الأعلام. وقد أخذتُ من أمير المؤمنين نصيباً اقْتسمه الإشفاقُ من سَخطته، والمُواظبة على مُوافقته، فما بقي لنا في مثله بعده إلا صُبابة إرث، به تَجول النفس، وتَطْرِف النواظر. ولقد سِرْتُ بعين أمير المؤمنين سيرَ المَثبِّط لمن يَتلوه المُتطاول لمن تقدّمه، غيرَ مبتٍّ مُوجِف، ولا مُتثاقل مُجْحِف، ففتُّ الطالبَ، ولحقت الهارب، حتى سادت السنة، وبادت البدعة، وخسئ الشيطان، وحُملت الأديان إلى الجادّة العُظمى. والطريقة المُثلى. فهأنذ يا أميرَ المؤمنين: نُصْبَ المسألة لمن رَامني، وقد عقدت الحَبْوة، وقَرنت الوَظِيفين لقائل مُحتَج، أو لائمٍ مُلْتجّ. وأميرُ المؤمنين وليُ المظلوم، ومَعْقل الخائف. وستُظهر له المِحنةً نبأ امرى، ولكُل نبأ مستقر. وما حَفَنت يا أميرَ المؤمنين في أوعية ثَقيف حتى رَوي الظمآن، وبَطِن الغَرثان، وغَصَت الأوعية، وانقدَت الأوكية في آل مَروان فأخذت فضلاً صار لها، لولاهم للقطتْه السابلة. ولقد كان ما أنكره أميرُ المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظُم الخطبُ فوق ما كان، وإنَّ أميرَ المؤمنين لرابعُ أربعة، أحدُهم ابنة شُعيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ رَمت بالظن غرضَ اليقين تفرُّساً في النجيّ المُصطفى بالرسالة، فحقَّ لها في الرجاء، وزالت شُبهة الشكّ بالاختبار، وقبلَها العزيزُ في يوسف، ثم الصدِّيق في الفاروق، رحمةُ الله عليهما، وأميرُ المؤمنين في الحجَّاج. وما حَسد الشيطانُ يا أمير المؤمنين خاملاً، ولا شَرق بغير شَجى. فكم غيظة يا أمير المؤمنين. للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلّت حيلتُه. ووَهن كيْدُه يوم كيْت وكيت، ولا أظنّ اذكرَ لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعتُ لأمير المؤمنين في صالحٍ، صلواتُ الله عليه، وفي ثَقيف مقالاً، هَجم بي الرجاءُ لعدله، عليه بالحُجَّة في ردّه بمُحكم التنزيل على لسان ابن عمه خاتَم النبيّين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن الله عز وجلّ، وحكاية عن الملأ من قُريش عند الاختيار والافتخار، وقد نَفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يَدَعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى. فقالوا: " لولا نزل هذا القُرآنُ على رجُل من القَرْيَتين عَظِيم " . فوقع اختيارهم، عند المُباهاة بنَفْخة الكُفر وكِثر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي وأبي مَسْعود الثَّقفي، فصارا فيا الإفْتخار بهما صِنْوين، ما أنكر اجتماعَهما من الأمة مُنكر في خبر القرآن، ومبلِّغ الوحي. وإن كان ليُقال للوليد في الأمة يومئذ رَيْحانة قُريش، وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرَّحمة الشاملة في القَسم السابق، فقال عزّ وجلّ: " أهم يَقسمون رَحْمة ربك نحن قَسَمْنا بينهم مَعيشَتَهم في الحَياة الدُّنيا " . وما قدَّمتْني يا أميرَ المؤمنين ثقيفُ في الاحْتجاج لها، وإنّ لها مقالاً رحباً، ومُعاندة قديمة، إلا أنّ هذا من أيسر ما يَحتجّ به العبدُ المُشفق على سيِّده المُغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عَزل أم أقرّ، وكلاهما عَدْل مُتَّبع. وصواب معتفد. والسلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمة اللّه.
قال نُباتة: فأتيتُ على الكتاب بمَحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبتُه سارقتُه النظَر على الهيبَة منه، فصادف لَحظي لَحظه، فقال: اقطعه، ولا تُعلمنَّ بما كان أحداً فلما مات. عبدُ الملك فشا عنّي الخبر بعد موته.

محمد بن المُنتشر بن الأجدع الهَمداني قال: دَفع إليَّ الحجاج رجلاً ذِمِّيا وأَمرني بالتَّشديد عليه والإستخراج منه، فلمِا انطلقتُ به، قال لي: يا محمد، إنّ لك لشَرَفاً ودِيناً، وإن لا أعطي على القَسر شيئاً فاستَأْذِني وارفُق بي. فقال: ففعلتُ، فأدى إليّ في أسبوع خَمسمائة ألف. فبلغ ذلك الحجَّاجَ فأَغضبه، فانتزعه منِ يدي ودَفعه إلى الذي كان يتولّى له العذاب، فدقّ يديه ورجليه، ولم يُعطهم شيئاً، قال محمد بن المنتشر: فإني لسائرٌ يوماً في السوق، إذا صائح بي يا محمد، فالتفتُّ، فإذا أنا به مُعرّضاً على حمار مَدقوقَ اليدين والرِّجلين. فخفت الحجاجِ إن أتيتُه وتذمَّمتُ منه، فملتُ إليه، فقال لي: إنك وَليتَ منّي ما ولي هؤلاء، فرفقتَ بي وأحسنتَ إليَّ، وإنهم صنعوا ما ترى، ولم أعطهم شيئاً ولي خُمسمائة ألف عند فلان فخُذها مكافأة لما أحسنتَ إليّ. فقلت: ما كنْتُ لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً. قال: فأمّا إذا نبت فاسْمع منِّي حديثاً أحدِّثك به حدَّثنيه بعض أهل دينك عن نبيِّك صلى الله عله وسلم أنه قال: " إذا رضي الله عن قوم أَنزل عليهم المطر في وَقته، وجعل المالَ في سُمحائهم، واستْعمل عليهم خِيارهم وإذا سَخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وَقته، وجعل المال في بُخلائهم، واسْتعمل عليهم شرارهم " . فانصرفتُ، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسولُ الحجَّاج. فسرتُ إليه، فألفيتُه جالساً على فراشه والسيفُ مُصَلت بيده. فقال لي: ادْنُ، فدنوْتُ شيئاً. ثم قال لي: ادن، فدنوتُ شيئاً. ثم قال لي الثالثة: ادْنُ، لا أبَالك! فقلتُ: ما بي إلى الدنوَ من حاجة، وفي يد الأمير ما أَرى. فضحك وأغمد سيفَه، وقال: اجْلس، ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له أيها الأمير، والله ما غششتُك منذ اسْتنْصحتَني، ولا كذبتُك منذ اسْتَخبرتني، ولا خُنتك منذ ائتمنتني، ثم حدَثته. فلما صرتُ إلى ذكر الرجل الذي المالُ عنده اعرض عنّي بوجهه، وأومأ إليَّ بيده، وقال: لا تُسَمِّه، ثم قال: إنَّ للخبيث نفساً وقد سمع الأحاديث.
ويقال: إن الحجَّاج كانَ إذا اسْتَغرب ضَحِكاً والَى بين الاسْتغفار، وكان إذا صَعد المِنبر تلفّع بمطْرَفه، ثم تكلَم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيّد في الكلام، فيُخرج يَده من مطْرَفه، ثم يَزجر الزَّجرة فيَقْرع بها أقصى مَن في المسجد.
صعد خالدُ بن عبد الله القَسريّ المِنبر في يوْم جمعة وهو إذ ذاك على مكة، فذكر الحجَّاجَ، فحَمِد طاعته وأثنى عليه خَيْراً. فلما كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشَتم الحجاج ونَشرْ عُيوبه وإظهار البراءة منه. فَصَعِد المِنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ إبليس كان مَلَكاً من الملائكة، وكان يظْهر منِ طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلاً، وكان الله قد عَلم من غِشّه وخُبثه ما خفِي على ملائكته، فلما أراد الله فضيحتَه أَمره بالسُّجود لآدم، فظهر لهم منه ما كان مُخفيه، فلعنوه. وإن الحجَّاج كان يُظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كُنَّا نرى له به فَضْلاً، وكأنَّ الله قد أطلعَ أميرَ المؤمنين من غِشه وخبثه على ما خفي عنَّا، فلما أراد الله فضيحتَه أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين فلعنه، فالْعنوه لَعنه الله، ثم نزل.
ولما أُتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحَرسيِّ: قل لها: يا عدوَّة اللّه، أين مال الله الذي جعلتِه تحت ذَيلك؟ فقال لها الحرسيُ: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلتِه تحت استك؟ قال الحجاج: كذبْت، ما هكذا قلت. أرْسِلْها. فخلي سبيلَها.

أبو عَوانة عن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل الحجاج إلي، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل الأميرُ إليّ حتى عَرف اسمي! قال لي: متى هبطتَ هذه الأرض؟ قلت: حين ساكنتُ أهلها. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قلتُ: أقرا منه ما إن اتّبعتُه كفاني قال: إني أريد أن أستعين بك على بعض عَملي. قلت: إن تستعن بي بكبيرِ أخرَق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن تَدَعْني فهو أحبُّ إليَّ، وإن تُقحمني أتقحم. قال: إن لم أجد غيرَك أقْحمتك، وإن وجدتُ غيرَك لم أقحمك. قلت: وأخرى أكرم الله الأمير، إني ما علمتُ الناس هابوا أميراً قط هيبَتهم لك، والله إني لأتعارّ من الليل فأَذكرك فما يَأتيني النومُ حتى أصبح، هذا ولستُ لك على عمل. فأعجبه ذلك، وقال: هيه، كيف قلتَ؟ فأعدتُ عليه الحديث. فقال: إنّي والله ما أعلم اليومَ رجلاً على وجه الأرض هو أجرأ على دمٍ منّي. قال: فقمتُ فعدلتُ عن الطريق عمداً كأنّي لا أبصر. فقال: اهدوا الشَيخ، أرشدوا الشيخ.
أبو بكر بن أبي شَيبة قالت: دخل عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى على الحجَّاج، فقال لجلسائه: إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يَسُب أميرَ المؤمنين عثمان فانْظروا إلى هذا. فقال عبدُ الرحمن: معاذَ الله أيها الأميرُ أن أكون أسب عثمان، إنه لَيحجِزُني عن ذلك آياتٌ في كتاب الله تعالى: " للفُقراء المُهاجرين الذين أخْرِجوا مِن دِيارهم وأموالهم يَبْتغون فَضلاً من الله ورِضْواناً ويَنْصرون الله ورسولَه أولئك هم الصادِقون " فكان عثمانُ منهم. ثم قال: " والَّذِينِ تَبوؤا الدارَ والإيمان مِن قَبْلهم يُحبُّون مَن هاجَرَ إليهم ولا يَجدُون في صُدُورهم حاجةَ مما أوتُوا ويُؤثِرون على أنفُسهم ولو كان بهم خَصَاصة " فكان أبي منهم. ثم قال: " والَّذِين جاءُوا مِن بَعْدِهمِ يَقولون ربنا اغْفِر لنا وَلإخْواننا الَّذين سَبَقُونا بالإيمان " فكنتُ أنا منهم. قال: صدقت.
أبو بكر بن أبي شَيبة عن أبي مُعاوية عن الأعمش قال: رأيتُ عبدَ الرحمن ابن أبي ليلى ضَربه الحجَّاج ووقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: ألعن الكاذبين: علي بن أبي طالب، وعبدَ الله بن الزبير، والمُختارَ بن أبي عُبيد. فقال: لعَنَ الله الكاذبين، ثم قال: فيُ علي بن أبي طالب، وعبدُ الله بن الزُّبير، والمُختار بن أبي عُبيد، بالرفع. فعرفتُ حين سَكت ثم ابتدأ فرفع أنه ليس يُريدهم.
قال الشَعبيُ: أتي بي الحجاجُ مُوثَقاً، فلما جئتُ باب القصر لَقِيني يزيدُ بن أبي مسلم كاتبُه، فقال: إنا للّه يا شَعبي لما بين دَفتيك مِن العلم، وليس اليومُ بيوم شفاعة. قلتُ له: فما المَخرج؟ قال: بُؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك وبالحَرَي أن تنجوَ. ثم لقيني محمدُ بن الحجّاج فقال لي مثلَ مَقالة يزيدَ. فلما دخلتُ على الحجاج قال لي: وأنعت يا شَعبيُ فيمن خَرج علينا وأكثر؟ قلتُ: أصلحَ الله الأمير، نَبا بنا

المنزل، وأجدب بنا الجَناب، واستحلَسَنا الخوفُ، واكتحلنا السَّهر، وضاق المسلك، وخَبَطتنا فتنةٌ لم نكنْ فيها بررة أتقياء، ولا فَجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برُّوا بخروجهم علينا ولا قووا، أطلقوا عنه. فاحتاج إلي في فَريضة بعد ذلك فأرسل إليَّ، فقال: ما تقول في أم وأخت وجَدّ؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن مسعود، وعليّ، وعثمان، وزَيد، وابنُ عباسِ. قال: فما قال فيها ابنُ عباس، إن كان لِمَنْقَباً؟ قلت: جعل الجَد أباً ولم يُعط الأخت شيئاً، وأعطى الأم الثلث. قال: فما قال فيها ابنُ مسعود؟ قلت: جَعلها من ستَة، فأعطى الجدَّ ثلاثة، وأعطى الأم اثنين، وأعطى الأختَ سهماً. قال: فما قال زَيد؟ قلت: جعلها من تِسعة، فأعطى الأمَّ ثلاثة، وأعطى الجد أربعة، وأعطى الأختَ اثنين، فجعل الجَدّ معها أخاً. قال: فما قال فيها أميرُ المؤمنين عثمان؟ قلتُ: جعلها ثلاثاً. قال: فما قال فيها أبو تُراب؟ قلتُ: جعلها من ستة، فأعطى الأختَ ثلاثة، وأعطى الأمّ اثنين، وأعطى الجدّ سهماً. قال: مُر القاضي فلْيُمضها على ما أمضاها أميرُ المؤمنين. فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجبُ فقال له: إن بالباب رُسلاً. فقال: إيذن لهم. قال: فدخلوا وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفُهم على عواتقهم، وكُتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سُليم يقال له شَبابة بن عاصم، فقال له: مِن أين؟ قال: من الشام. قال: كيف تركتَ أمير المؤمنين وكيف تركتَ حَشمه؟ فأخبره. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم. أصابتني فيما بَيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعتْ لي كيف كان وَقْع المطر وتَباشيره؟ قال: أصابتني سحابةٌ بحوارين فَوقع قَطر صغار وقَطْر كبار، فكانت الصغار لحْمة للكبار، ووقع نشيطاَ ومُتداركاً، وهو السّيح الذي سمعتَ به، فوادٍ سائل، ووادٍ نازح، وأرض مُقبلة، وأرض مُدبرة. وأصابتني سحابةٌ بَسرا ء فلَبّدت الدِّماث، وأسالت العَزَاز، وأدحضت التِّلاع، وصَدَعت عن الكمأة أماكنها. وأصابتني سحابةٌ بالقَرْيتين فقاءت الأرضُ بعد الرّي. وامْتلأت الأخاديد، وأفعمت الأودية، وجِئْتك في مثل وِجار الضَبُع. ثم قال: إيذَن، فدخل رجل من بن أسد. فقال: هل وراءَك من غيث؟ قال: لا، كثُر الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنّا أنه عام سَنة. قال: بئس المُخبر أنت. قال: أخبَرْتُك الذي كان ثم، قال: إيذَن. فَدَخَل رجل من أهل اليمامة. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، سمعت الرُّوّاد يَدْعون إلى الماء وسمعتُ قائلاً يقول: هَلُمّ ظَعنَكم إلى محلّة تَطفأ فيها النيران، وتشكّى فيها النساء، وتنافسُ فيها المِعزى. وقال الشعبيّ: فلم يدر الحَجّاج ما قال. فقال له: تبا لك! إنما تُحدّث أهلَ الشام فأَفْهِمْهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناسُ، فكَثُر التمر والسمن والزُبد والّلبن، فلا تُوقَد نار يُختبر بها. وأما تشَكى النساء، فإن المرأة تظلّ ترُبِق بَهمْها، وتَمخَض لبنها، فتَبيت ولَها أنينٌ من عَضُدها. وأما تنافس المِعزى، فإنها ترى من أنواع التمر وأنواع الشجر ونَوْر النبات ما يُشبع بطونَها ولا يُشبع عيونها، فتبيتً وقد امتلأت أكراشُها، ولها من الكِظّة جِرة، فتبقى الجرّة حتى تَستنزل الدِّرّة. ثم قال: إيذن، فدخل رجلٌ من المَوالي كان من أشد الناس في ذلك الزمان. فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال. نعم، ولكني لا احسن أن أقول ما يقول هؤلاء. قال: فما تُحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحُلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلتُ عليك. فقال: لئن كنتَ أقصرَهم في المطر خُطبة، فإنك لأطولُهم بالسيف خُطوَة.

إبراهيم بن مَرزوق عن سعيد بن جُويرية قال: لما كان عامُ الجماعة كتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجّاج: انظر ابن عمر فاقْتد به وخُذ عنه، يعني في المناسك. قال: فلما كان عشيّة عرفة، سار الحَجّاج بين يدي عبد الله بن عُمر وسالمٍ ابنِه، فقال له سالم: إن أردتَ أن تُصيب السّنة اليوم فأوْجز الخُطبة وعَجِّل الصلاة. قال: فقَطَّب ونظر إلى عبد الله بن عُمر. فقال: صدق. فلما كان عند الزوال مَرَّ عبد الله بن عمر بسرادقه، وقال الرّواح: فما لَبث أنْ خَرج ورأسًه يَقْطُر كأنه قد اغتسل. فلما أفاض الناسُ، رأيتُ الدم يتحدّر من النَّجيبة التي عليها ابنُ عمر، فقال: أبا عبد الرحمن، عقرت النَّجيبة؟ قال: أنا عُقِرْت ليس النَّجيبة، وكان أصابه زُج رُمح بين إصبعين من قَدمه، فلما صرْنا بمكة دخل عليه الحجّاج عائداً؟ فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو علمتُ مَن أصابك لفعلتُ وفعلت. قال له: أنت أصبتني. قال: غفر الله لك. لم تقول هذا؟ قال: حملتَ السلاحَ في يوم لا يُحمل فيه السلاح؟.
أبو الحسن المدائني قال: أخبرني من دَخل المسجد، والحجّاج على المِنبر، وقد ملأ صوتُه المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليَشْكري حيث يقول:
رُبّ من أنضجتُ غيظا صدره ... قد تمنَّى ليَ موتاً لم يطع
ساء ما ظَنُوا وقد أبليتُهم ... عند غايات المدَى كيف أقع
كيف يَرجون سِقاطي بعدما ... شَمِل الرأسَ مَشيبٌ وصَلع
كتب الوليدُ إلى الحجّاج: أن صِفْ لي سيرتَك. فكتب إليه: إني أيقظت رأي، وأنمتُ هواي، فأدنيت السيّد المطاع في قومه، ووليتُ الحَرْبَ الحازمَ في أمره، وقلّدت الخِراج المُوفِّر لأمانته، وصرَفتُ السيفَ إلى النَطف المُسيء، فخاف المُريبُ صولةَ العِقاب، وتمسّك المُحسن بحظّه من الثواب. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قرأ الحجاجُ: في سورة هود " قال يا نُوح إنّه لَيس من أهْلك إنّه عَمَل غير صالح " فلم يَدُر كيف يقرأ: عمل بالضم والتنوين، أو عمل بالفتح فبعث حَرسيّا فقال: إيتني بقارئ. فأتي به، وقد ارتفع الحجّاج عن مجلسه، فحبسه ونَسيه حتى عَرض الحجاجُ حبسه بعد ستة أشهر، فلما انتهى إليه قال له: فيم حُبست؟ قال: في ابن نُوح، أصلح الله الأمير، فأمر بإطلاقه.

إبراهيم بن مرزوق قال: حدثني سعيد بن جُويرية قال: خَرجتْ خارجةٌ على الحَجّاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك أن يَخرج معه، فأبى. فكتب إليه يَشْتمه. فكتب أنسُ بن مالك إلى عَبد الملك بن مروان يشكوه، وأدرج كتابَ الحجّاج في جوف كتابه. قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المُهاجر: بعث إليّ عبدُ الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعثُ إليّ في مثلها. فدخلتُ عليه وهو أشدُّ ما كان حَنقاً وغَيظاً، فقال: يا إسماعيل، ما أشدَّ عليّ أن تقول الرعيّة: ضعُف أمير المؤمنين وضاق ذَرعه في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل له حَسنة، ولا يتجاوز له عن سَيّئة! فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ يذكر أن لحجّاج قد أ ضَرّ به وأساء جواره، وقد كتبتُ في ذلك كتابين: كتاباً إلى أنس بن مالك، والآخَر إلى الحجّاج، فاقبضْهما ثم أخرج على البريد، فإذا وردتَ العِراق فأبدأ بأنس بن مالك فادفعْ إليه كتابي، وقل له: أشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتيَ أمرٌ تكرهه إن شاء اللّه. ثم إيت الحِجَاجَ فادفع إليه كتابه، وقُل له: قد اغتررتَ بأمير المؤمنين غِرّة لا أظنك يُخطئك شرُها، ثم أفهم ما يتكلمُ به وما يكون منه، حتى تُفْهمني إياه إذا قَدِمت عليّ إن شاء الله قال إسماعيل: فقبضتُ الكتابين وخرجتُ على البريد حتى قَدِمتُ العراق، فبدأتً بأنس بنِ مالك في منزله، فدفعتُ إليه كتاب أمير المؤمنين وأبلغتُه رسالتِه، فدعا له وجزاه خيراً. فلما فرغ من قِراءة الكتاب قلتُ له: أبا حمزة، إن الحجاج عاملٌ ولو وُضع لك في جامعةٍ لَقَدر أن يَضرك ويَنفعك، فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك لا أخرجُ عن رأيك. ثم أتيتُ الحجاجَ، فلما رآني رحَّب وقال: والله لقد كنتً أحب أن أراك في بلدي هذا. قلت: وأنا والله قد كنتُ أحب أن أراك وأَقْدَم عليك بغير الذي أرسلتُ به إليك. قال: وما ذاك؟ قلت: فارقتُ الخليفةَ وهو أغضبُ الناس عليك. قال: ولم؟ قال: فدفعتُ إليه الكتاب. فجعل يقرؤه وجبينه يَعرق. فيمسحه بيمينه، ثم قال: أركبْ بنا إلى أَنس بن مالك. قلت له: لا تَفعل، فإني سأتلطّف به حتى يكون هو الذي يأتيك؟ وذلك للذي شرتُ عليه من مُصالحته. قال: فألقى إلي، كتابَ أمير المؤمنين فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف. أما بعد. فإنك عبدٌ طَمَت بك الأمور فطغَيتَ وعَلوت فيها حتى جُزت قدرك، وعَدوت طَوْرك، ويم الله يابن المُسْتفرمة بعَجَم زبيب الطائف، لأغمزنّك كبعض غَمزات اللُّيوث للثّعالب، ولأرْكضْنك رَكضة تدخل منها في وَجْعاء أمك. أذكر مكاسبَ آبائك بالطائف، إذ كانوا يَنْقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار والمَناهل بأيديهم، فقد نسيتَ ما كنتَ عليه أنت وآباؤك من الدَّناءة واللُّؤم والضراعة. وقد بلغ أميرَ المؤمنين استطالةٌ منك على أنس بن مالك خادِم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جُرْأةً منك على أمير المؤمنين وغِزة بمَعرفة غِيَره ونقَماته وسَطَواته على مَن خالف سبيلَه، وعَمد إلى غير مَحبّته، ونَزل عند سَخْطته. وأظنك أردتَ أن تُروزه بها لتعلم ما عنده من التَّغيير والتّنكير فيها. فإن سُوِّغتَها مضيتَ قُدُما، وإن بُغَضتَها ولّيت دُبراً، فعليك لعنةُ الله مِن عبد أخْفش العينين، أصكّ الرجلين، ممسوح الجاعرتين وايم الله لو أن أميرَ المؤمنين علم أنك اجترمت منه جُرماً، وانتهكت له عرْضاً فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك مَن يَسحبك ظهراً لِبطن حتى. يَنتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكمَ فيك ما احبّ. ولن يَخْفى على أمير المؤمنين نَبؤُك، ولكل نَبأ مُستقر ولسوف تعلمون.
قال إسماعيل: فانطلقتُ إلى أنس، فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج.

فلما دخلنا عليه قال: يَغفر الله لك أبا حمزة، عَجِلْت باللائمة وأغضبتَ علينا أميرَ المؤمنين، ثم أخذ بيده فأَجلسه معه على السرير. فقال أنس: إنك كنتَ تزعم أنّا الأشرار، والله سمّانا الأنصار. وقلتَ: إنّا من أبخل الناس، ونحن الذين قال الله فيهم: " ويُؤْثِرون على أنْفًسهمِ ولو كانَ بهم خَصَاصة " . وزعمتَ أنا أهلُ نِفاق والله تعالى يقول فينا: " والّذين تبوَّءوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم يُحبّون مَن هاجَر إليهم ولا يَجدُون في صُدورهمْ حاجةً مما أوتُوا " . فكان المَفْزع والمُشتكى في ذلك إلى الله وإلىَ أمير المؤمنين، فتولّى من ذلك ما ولاهّ الله، وعرف من حقِّنا ما جَهلتَ، وحَفظ منّا ما ضيعتَ، وسَيحكم في ذلك رب هو أرضى للمُرضي، وأسخطُ للمُسخط، وأقدرُ على المُغير، في يوم لا يشوب الحق عنده الباطلُ، ولا النورَ الظلمةُ، ولا الهدى الضلالةُ. والله لوِ أنّ اليهود أو النّصارى رأت مَن خدَم موسى بن عمران أو عيسى بن مريم يوماً واحداً لرأت له ما لم تَرَوا لي في خدمة رسول الله عَشرَ سنين. قال فاعتذر إليه الحجاحُ وترضاه حتى قَبل عُذره ورضي عنه، وكتب برضاه عنه وقبوله عُذرَه. ولم يزل الحجاحُ له مُعظماً هائباً له حتى أنسٌ رضي الله عنه. وكتب الحجاحُ إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد. أصلحَ الله أميرَ المؤمنين وأبقاه، وسهّل حظه وحاطه ولا أعدمنا إياه فإن إسماعيل بن أبي المُهاجر رسول أمير المؤمنين - أعزّ الله نَصره - قَدِم عليّ بكتاب أمير المُؤمنين - أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءَه - يذكر شتيمتي وتَوْبيخي بآبائي، وتَغييري بما كان قبلَ نزول النَعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمَته عليه وإحسانه إليه. ويذكر أميرُ المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالةً منّي علىِ أنس بن مالك خادِم رسول الله صلى الله عليه و سلم، جراءةً مني على أمير المؤمنين وغِرّة بمعرفةِ غِيره ونقَماته وسَطواته على مَن خالف سبيلَه، وعَمد إلى غير محبته، ونزل عند سَخْطته. وأميرُ المؤمنين، أصلحه الله، في قَرابته من محمد رسول الله - إمام الهدى وخاتَم الأنبياء أحق من أقال عَثْرتي وعَفا عن ذَنبي، فأمهلني ولم يُعجلني عند هَفوتي، للذي جُبل عليه من كريم طبائعه، وما قلّده الله من أمور عباده، فرِأيُ أمير المؤمنين، أصلحه الله في تَسْكِين رَوْعتي، وإفراج كربتي، فقد مُلئت رُعباً وفرقاً من سَطْوته وفُجاءةِ نقْمته وأميرُ المؤمنين - أقاله الله العثراتِ، وتجاوز له عن السيآت، وضاعفت له الحسنات، وأعلى له الدَّرجات. أحقّ من صَفح وعفا، وتَغَمّد وأبقى، ولم يُشمت بي عدوًّا مُكبّا، ولا حسودا مُضبّا، ولم يجرِّعني غُصصا. والذي وَصف أميرُ المؤمنين من صنيعه إليّ وتَنويهه بي بما أسند إليِّ من عمله وأوطأني من رِقاب رعيته، فصادقٌ فيه مجزيّ بالشكر عليه والتوسّلُ مني إليه بالولاية، والتقرّبُ له بالكفاية. وقد عاين إسماعيلُ بن أبي المُهاجر، رسولُ أمير المؤمنين وحاملُ كتابه، نزولي عند مسرّة أنس بن مالك، وخُضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقَه إياي، ودُخولَه علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أميرُ المؤمنين ويُنهيه إليه. فإن رأى أميرُ المؤمنين - طوّقني الله شُكره وأعانني على تأدية حقّه وبَلَّغني إلى ما فيه مُوافقة مَرْضاته ومدَ لي في أجله - أمر لي بكتاب مِن رضاه وسلامة صَدْره، يُؤمِّنني به من سَفك دَمي ويَرُدّ ما شَرَد من نومي ويَطمئن به قلبي، فقد وَرد عليّ أمرٌ جَليل خَطْبُه، عظيم أمرُه، شديد عليّ كربُه. أسأل الله أن لا يُسخط أميرَ المُؤمنين عَلَيّ، وأن يَبْتلِيَه في حَزمه وعَزمه، وسياسته وفِراسته ومواليه وحَشمه، وعُماله وصنائعه، بما يُحمَد به حُسنُ رأيه، وبُعْدُ هِمَّته؟ إنه وليّ أمير المؤمنين، والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
فحدّث إسماعيلُ أنه لما قرأ أميرُ المؤمنين الكتابَ قال: يا كاتب، أفرخ رُوع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه.

كان سليمانُ بن عبد الملك يكتب إلى الحجّاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كُتباً فلا يَنظر له فيها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف: سلامٌ على أهل الطاعة من عباد الله. . أما بعد. فإنك امرؤ مَهْتوك عنه حجابُ الحقّ، مولَع بما عليك لا لك، مُنصرف عن مَنافعك، تاركٌ لحظّك، مُستخفّ بحق الله وحق أوليائه. لا ما سلف إليك من خير يَعطفك، ولا ما عليك لا لك يصرِفك. في مُبهمة من أمرك مَغْمور مَنكوس مُعصوصر عن الحق اعصيصاراً، ولا تتَنكَّب عن قَبيح، ولا تَرعوي عن إساءة، ولا ترجو الله وقاراً، حتى دُعيت فاحشاً سبَّاباً. فقِسْ شِبرك بفَترك، واحذُ زمام نَعلك بحذو مثله. فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنّك دَوْسة تلين منها فرائصك، ولأجعلنّك شر يداً في الجبال، تلوذ بأطراف الشمال، ولأعَلقنّ الرًّومية الحمراء بثَدْييها. علم الله ذلك منّي وقضىَ لي به عليّ، فقِدْماً غرّتك العافية، وانْتحيتَ أعراضَ الرّجال، فإنك قَدَرْتَ فَبَذخْتَ، وظَفِرت فتعدَّيت. فرويدكَ حتى تنظر كيف يكون مصيرُك إن كانت بي وبك مُدة أتعلّق بها، وإن تكن الأخرى فأرجو أن تَؤول إلى مَذلة ذَليل، وخِزْية طويلة، ويُجعل مصيرُك في الآخرة شرَّ مَصير. والسلام.

فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سُليمان بن عبد الملك. سلامٌ على من اتّبع الهدى. أما بعد. فإنك كتبتَ إليّ تَذْكر أنّي امرؤ مَهْتوك عنّي حِجابُ الحق، مُولَع بما عليّ لا لي، مُنصرف عن منافعي، تاركٌ لحظّي، مُستخف بحقّ الله وحقّ وليّ الحق. وتذكر أنك ذو مُصاولة ولَعمري إنك لصبيٌّ حديث السنّ تُعذَر بقلّة عَقلك وحَداثة سنّك ويُرقَب فيك غيرُك، فأما كتابُك إليّ فلَعمري لقد ضَعُف فيك عقلك، واسْتُخِفّ به حلمُك، فلِله أبوك. أفلا انتصرت بقضاء الله دون قَضاءك، ورجاءِ الله دون رجائك، وأمتَّ غيظك، وأمنت عدوِّك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تُنَبّهه فيَلتمسَ من مُكايدتك ما تلتمس منِ مُكايدته، ولكنّك لم تَسْتشِفّ الأمور علماً، ولم تُرزق من أمرك حَزْماً. جمعتَ أموراً دلاك فيها الشيطانُ على أسوأ أمرك، فكان الجفاءُ مِن خليقتك، والْحُمق مِن طَبيعتك، وأقبل الشيطانُ بك وأدبر، وحدّثك أنك لن تكون كاملاً حتى تَتعاطى ما يَعيبك. فتَحذلقت حنجرتُك لقوله، واتّسعت جوانبُها لكذبه. وأما قولُك لو مَلّكك الله لعلّقت زينبَ بنت يوسف بثَدْييها، فأرجو أن يكرمها الله بهَوانك، وأن لا يُوَفَق ذلك لك إن كان ذلك مِن رأيك، مع أنّي أعرف أنك كتبتَ إليَ والشيطانُ بين كَتفَيك، فشرُّ مُمْل على شرِّ كاتب راض بالخَسف، بالحُمق أن لا يدلّك على هُدى، ولا يردّك إلا إلى رَدى. وتحلَّب فُوك للخلافة، فأنت شامخ البَصر، طامح النَّظر، تظنُّ أنك حين تَمْلكها لا تَنْقطِع عنك مُدتها. إنها للُقطة الله التي أسأل أن يُلهمك فيها الشكر، مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما. وإن نَفخ الشيطان في مُنخريك فهو أمر أراد الله نَزعه عنك وإخراجه إلى مَن هو أكمل به منك. ولعمري إنها لنصيحة، فإنْ تَقبلها فمثلُها قُبل، وإن تردّها عليّ اقتطعتُها دونك؟ وأنا الحجاج. قدم الحجاجُ على الوليد بن عبد الملك فدخل عليه، وعليه دِرْع وعمامة سوداء، وقوس عربيَّة وكِنانة، فبعثتْ إليه أمُّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان: مَن هذا الأعرابيّ المُستلئم في السلاح عندك وأنت في غِلالة. فبعث إليها: هذا الحجاج بن يوسف. فأعادت الرسولَ إليه تقول: والله لأن يَخلو بك مَلَكُ الموتِ أحبُّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج. فأخبره الوليدُ بذلك وهو يمازحه. فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مُفاكهة النساء بزُخرف القول، فإنما المرأة رَيحانة، ولست بقَهْرمانة، فلا تطْلعها على سرِّك، ومُكايدة عدوّك. فلما دخل الوليدُ عليها أخبرها بمقَالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مُستلئما، ففعل ذلك. وأتى الحجاج فَحجبته، فلم يزل قائماً، ثم قالت له: إيه يا حجاج، أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقَتْلك عبد الله بن الزًّبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرِار خَلقه ما ابتلاك برَمْي الكَعبة، وقَتْل ابن ذاتِ النِّطاقين، وأوَّل مولود وُلد في الإسلام. وأما نَهْيك أمير المؤمنين عن مُفاكهة النساء وبُلوغ أوطاره منهن، فإنْ كُنّ يَنْفرجن عن مِثلك، فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن يَنْفرجن عن مِثله فغيرُ قابل لقولك. أما والله لقد نَقَص. نساء أمير المؤمنين الطيّبَ عن غدائرهن فبِعنه في أَعطية أهل الشام حين كنتَ في أَضيق من القَرَن قد أَظلّتك رماحُهم، وأثخنك كِفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، فما نَجّاك الله من عد أمير المؤمنين إلا بحبّهم إياه. وللّه دَرّ القائل إذ نظر إليك، وسنان غَزالة بين كَتفيك:
أسَدٌ عليّ وفي الحُروب نعامةٌ ... رَبداءُ تَجْفِل من صفير الصافر
هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوَغى ... بل كان قَلبُك في مخالبِ طائر
صَدعت غزالةُ جمعَه بعساكر ... ترِكتْ كتائبَه كأمس الدابر
ثم قالت: اخرُج. فخرج مَذْموماً مدحوراً.

كان عُروة بن الزبير عاملاً على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصَل به أن الحجاجَ مُجْمعِ على مُطالبته بالأموال التي بيده وعَزْله عن عَمله، ففرّ إلى عبد الملك وعاد به تخوّفا من الحجاج، واستدفاعاً لضرَره وشرّه. فلما بلغ ذلك الحجاحَ كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد. فإنّ لواذ المُعترضين بك، وحُلول الجانحين إلى المُكث بساحتك، واستلانَتهم دَمِث أخلاقك، وسَعة عَفْوك، كالعارض المُبرق لا يَعْدم له شائماً، رجاء أن ينالَه مطرهُ وإذا أدنى الناس بالصّفح عن الجرائم كان ذلك تَمْرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال. والناس عبيد العصا، هم على الشدّة أشد اسْتباقاً منهم على اللِّين. ولنا قِبَل عُروة بن الزُّبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قَطْعٌ لطمع غيره، فَلْيبعث به أميرُ المؤمنين، إن رأى ذلك. والسلام.
فلما قرأ الكتابَ بعثَ إلى عُروة، ثم قال له: إنّ كتاب الحَجّاج قد وَرد فيك، وقد أبى إلا إشخاصَك إليه. ثم قال لرسول الحجَّاج: شأنَك به. فالْتفت إليه عروةُ مقبَلاً عليه، وقال: أما والله ما ذلَّ وخَزِي مَن ملكتموه، والله لئن كان الملك بجَواز الأمر، ونَفاذ النَهي، إن الحجاج لسُلطانٌ عليك يُنفّذ أموره دون أمورك، إنك لتُريد الأمرَ يَزِينك عاجله، ويَبقى لك أكرومةً آجلُه، فَيَجذِبُك عنه ويَلقاه دونك، ليتولّى من ذلك الحُكم فيه، فيحظَى بشرف عَفْو إن كان، أو بجُرم عقوبة إن كانت. وما حاربَك مَن حاربَك إلا على أمرٍ هذا بعضُه.
قال: فنظر في كتاب الحجاج مرّة، ورَفع بصرَه إلى عُروة تارة، ثم دعا بدواةٍ وقرطاس فكتب إليه: أما بعد. فإن أميرَ المؤمنين، رآك مع ثِقته بنَصيحتك خابطاً في السياسة خَبْط عَشْواء الليل. فإِن رأيك الذي يُسَوِّل لك أنَّ الناس عبيدُ العصا هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوُثوب عليك، وإذ أخرجت العامة بعُنف السياسة كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفُرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الدّاعي ولا هُداه، إذا رَجَوْا بذلك إدراك الثأر منك. وقد وَليَ العراق قَبلك ساسةٌ، وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقربُ من عَمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلحَ منك عليهم، وللشدَّة واللين أهلون، والإفراطُ في العفو أفضلُ من الإفراط في العقوبة. والسلام.
زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحَجّاج حُجاجاً، فلما انتهينا إلى البيداء وافينَا ليلةَ الهلال، هلال ذي الحجة، فقال لنا الحجاج: تَبصرّوا الهلال، فأما أنا ففي بَصري عاهة. فقال له نَوفل بن مُساحق: وَتدري لم ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قال: لكثرة نَظرك في الدفاتر.
الأصمعي قال: عُرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثةً وثلاثين ألفاً لم يجب على واحد منهم قَتل ولا صَلْب، ووُجد فيهم أعرابيٌ أخذ يَبول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أطلق. فأنشأ الأعرابيّ يقوِل:
إذا نحن جاوزنا مدينةَ واسط ... خرِينا وبُلْنا لا نَخاف عِقابَا
أبو داود المُصحفيّ، عن النَضر بن شُميل، قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا مَن قتل الحجاجُ صَبْراً. فوجدوهم مائةَ ألف وعشرين ألفًا.
وخطب الحجاجُ أهلَ العراق، فقال: يأهل العراق. بلغني أنكم تَروُون عن نبيِّكم أنه قال: مَن ملك عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عُنقه، حتى يفكّه العَدل أو يُوبقه الجَوْر. وايم اللهّ، إني لأحبُّ إليَّ أن احشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً من أن احشر معكم مُطلقاً.
ومرض الحجاجُ ففرح أهلُ العراق، وقالوا: مات الحجاجُ! مات الحجاج! فلما أفاق صَعد المِنبر وخَطب الناس، فقال يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضتُ فقلتم: مات الحجاج. أما والله إني لأحبُّ إليَّ أن أموت من ألاّ أموت، وهل أرجو الخيرَ كلٌه إلا بعد الموت، وما رأيتُ الله رَضي بالخُلود في الدنيا إلا لأبغض خَلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس. ولقد رأيتُ العبدَ الصالح سأل ربَّه، فقال: " رب هب لِي مُلكاً لا يَنْبَغي لأحَدِ مِن بَعْدِي " . ففعل، ثم اضمَحل ذلك فكأنه لم يكن.

وأراد الحجاجُ أن يَحج. فاسْتخلف محمداً ولده على أهل العراق، ثم خَطب فقال: يأهل العراق، إني أرد تُ الحجَّ وقد اسْتخلفتُ عليكم محمداً ولدي، وأوصيتُه فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى فيهم أن يُقبل من مُحسنهم، ويُتجاوز عن مُسيئهم. وإني أوصيتُه ألا يقبل من مُحسنكم، وألا يتجاوزَ عن مُسيئكم. ألا وإنكمِ قائلون بعدي مقالةً لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة. وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة. ثم نزل.
فلما كان غداةَ الجمعة مات محمدُ بن الحجاج، فلما كان بالعشيّ أتاه بريدٌ من اليمن بوفاه محمد أخيه. ففرح أهلُ العراق، وقالوا: انقطع ظهرُ الحجاج وهِيض جناحُه فخرج فصعد المنبرَ ثم خطب الناس، فقال: أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنتُ أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة. وايم الله، ليُوشكنّ الباقي مني ومنكم أن يَفنى، والجديدُ أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تُدال الأرض منّا كما أدلنا منها، فتأكل من لُحومنا وتشرب من دمائنا، كما قال الله تعالى: " ونُفِخ في الصور فإذا هُم من الأجْدَاثِ إلى رَبِّهم يَنْسِلون " . ثم تمثل بهذين البيتين:
عَزائي نبيُّ الله مِن كل مَيت ... وحَسبي ثوابُ الله من كل هالك
إذا ما لقيتُ الله عنِّي راضيا ... فإنَّ سُرورَ النًفس فيما هُنالك
ثم نزل وأَذن للناس فدخلوا عليه يُعزونه، ودخل فيهم الفرزدقُ فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيتَ محمداً ومحمداً؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جَزع الحجّاجُ ما من مُصيبة ... تكون لمَحزون أمضَّ وأَوْجعَا
مِن المصطفى والمُنتقى من ثِقاته ... جناحاه لما فارقاه وودّعا
جناحا عَتيق فارقاه كلاهُما ... ولو نزعا من غيره لتَضعضعَا
ولو أنَّ يومَيْ جُمعتيه تتابعا ... على شامخٍ صَعَب الذري لتصدَّعا
سَميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا
قال: أَحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلَّفنيِ الحجاجُ بيتاً سادسا لضَرب عنقي قبل أن آتيه به، وذلك أنه دخل ولم يهيئ شيئاً.
قولهم في الحجاجالرِّياشيّ عن العتبي عن أبيه، قال: ما رأيت مثلَ الحجاج، كان زِيَّه زِي شاطراً. وكلامه كلامَ خارجيّ، وصولتُه صولةَ جبار. فسألته عن زيّه فقال: كان يُرجِّل شعرَه ويَخْضِب أطرافه. كثيرُ بن هشام عن جعفر بن بُرْقان: قال: سألتُ ميمون بن مهران فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يَذكر أنه خارجيّ؟ فقال: إنك لا تصلّي له إنما تصلّي لله، قد كُنا نصلّي خلف الحجَّاج وهو حَروري أزرقيّ. قال: فنظرِت إليه، فقال: أتدري ما الحرويُّ الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سمَّاك كافراً واستحلَّ دمك، وكان الحجاج كذلك.
أبو أمية عن أبي مُسهر قال: حدَّثنا هشامُ بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أُمة بمُنافقيها وجئْنا بالحجاج لفضلناهم.
وحلف رجل بطلاق امرأته إن الحجَّاج في النار. فأتى امرأتَه، فمنعْته نفسَها.
فسأل الحسنَ بن أبي الحسن البصري. فقال: لا عليك يابن أخي، فإنه إن لم يكن الحجاج في النار، فما يَضُرّك أن تكون مع امرأتك على زنى.
أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجُمحيّ عن عليّ بن زَيد، قال: لما مات الحجاجُ أتيتُ الحسنَ فأخبرتُه. فخرّ ساجداً. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن مَنصور، قال: قلتُ لإبراهيم: ما ترى في لَعْن الحجاجِ؟ قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " ألا لَعْنةُ الله على الظالمين " ، فأَشهدُ أنَّ الحجاج كان منهم.

وكيعٌ عن سُفيان عن محمد بن المُنكدر عن جابر بن عبدِ اللّه، قال: دخلت على الحجاج فما سلّمت عليه. وَكيع عن سُفيان قال: قال يزيد الرِّقاشيُّ عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك، ميمون بن مِهران قال: كان أنس وابن سِيرين لا يَبيعان ولا يَشتريان بهذه الدراهم الحجِّاجيّة. وقال عبدُ الملك بن مروان للحجَّاج: ليس من أحد إلا وهو يَعرف عيبَ نفسه، فصِف لي عيوبَك. قال: أعفني يا أميرَ المؤمنين. قال: لا بدَّ أن تقول. قال: أنا لَجوج حَسود حَقود. قال: ما في إبليس شرَّ من هذا، أبو بكر بن أبي شَيبة، قال: قيل لعبد الله بن عُمر: هذا الحجّاج قد وَلي الحرمَين. قال: إنْ كان خيراً شَكرنا، وإن كان شرًّا صَبرنا. ابن أبي شَيبة قال: قيلَ للحسن: ما تقول في قتال الحجاج؟ قال: إنَ الحجاج عُقوبة من الله فلا تَسْتقبلوا عُقوبة الله بالسيف. ابنُ فضيل قال: حدّثنا أبو نُعيم قال: أمر الحجاجُ بماهان أن يُصلب على بابه. فرأيتُه حين رُفعت خشبته يُسبَح ويهَلّل ويدبِّر ويَعقد بيده، حتى بلغ تسعاً وتسعين، وطعنه رجلٌ على تلك الحال، فلقد رأيتها بعد شهر في يده. قال: وكُنّا نرى عند خَشبته بالليل شَبيها بالسَراج. أبو داود المُصحفيّ عن النَّضر بن شَميل، قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا من قتل الحجاج صبراً. فوجدوهم مائة وعشرين ألفاً.
من زعم أن الحجاج كان كافراً
ميمون بن مِهران عن الأجلح، قال: قلتُ للشعبيّ: يزعم الناسُ أنّ الحجاجَ مُؤمن. قال: مؤمن بالجبّت والطاغوت كافر بالله. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش، قالَ: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن تَرْضون؟ قالوا: بمجاهد. فأتوه، فقالوا: إنّا قد اختلفنا في الحجاج. فقال: أجئتُم تسألوني عن الشيخ الكافر؟ محمد بن كَثير عن الأوزاعيّ، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاجِ بن يوسف يَنْقض عُرى الإسلام عروةً عروة. عطاءُ بن السائب، قال: كنتُ جالساً مع أبي البَخْتَريّ والحجاج يَخْطب، فقال: في خُطبته: إنَّ مَثَل عثمان عند الله كمثَل عيسى بن مريم، قال الله فيه: " إنِّي مُتوفِّيك ورَافعُك إليَّ ومطَهِّرك مِن الذين كَفروا وجاعِلُ الذين أتبَعوك فوقَ الذين كَفَروا إلى يوم القِيامة " . فقال أبو البَخْتَريّ: كفر وربَّ الكعبة.

ومما كفرت به العلماءُ الحجّاج قولُه، ورَأى الناسَ يطوفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِنبره: إنما يطوفون بأعواد ورِمَّة. الشيبانيُّ عن الهيثم عن ابن عيّاش قال: كُنا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتابٌ من الحجاج يُعظِّم فيه أمرَ الخلافة ويزعم أن السموات والأرض ما قامتا إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضلُ من الملائكة المُقرَّبين والأنبياء المُرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته وأسكنه جَنّته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رُسلاً إليه. فأعجب عبدُ الملك بذلك، وقال: لوددتُ أن عندي بعض الخوارج فأخاصمَه بهذا الكتاب، فانصرف عبدُ الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضِيفانه وحدَثهم الحديث، فقال له حُوار بن زيد الضّبي، وكان هارباً من الحجاج: توثَّق لي منه، ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان. فقال: هو آمنٌ على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حُوار فاخبره بذلك. فقال: بالغداة إن شاء اللّه. فلما أصبح اغتسل ولبس ثَوْبين ثم تحنّط وحَضر باب عبد الملك فدخل عبدُ الله فقال: هذا الرجل بالباب: فقال: أَدْخله يا غلام. فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ بيضٌ يُوجد عليه ريح الحَنوط، فقال: السلام عليكم، ثم جلس. فقال عبدُ الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به: فقال اقرأ، فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حُوار: أراه قد جَعلك في موضعٍ مَلكاً وفي موضع نبيّاً وفي موضع خليفة، فإن كنت مَلَكاً فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيّاً فمن بعثك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مَشورة من المسلمين أم ابتززتَ الناس أمورَهم بالسيف؟ فقال عبد الملك قد أمّناك ولا سبيلَ إليك، والله لا تُجاورني في بلد أبداً. فارحل حيثُ شئت. قال: فإني قد اخترتُ مصر، فلم يزل بها حتى مات عبدُ الملك. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالَقاني، قال: حدّثنا جريرُ عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجّاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدِكم في أهله أكرمُ عليه أم رسولُه إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: للّه عليَّ ألا أصلَي خلفك صلاة أبداً، ولئن وجدتُ قوماً يقاتلونك لقاتلتُك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قُتل.
قيل للحجّاج: كيف وجدتَ منزلك بالعراق؟ قال خيرُ منزل لو أدركتُ بها أربعة فتقرّبتُ إلى الله بدمائهم. قيل: ومَن هم؟ قال: مُقاتل بن مِسمع، ولي سِجِستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قَدِم البصرة بَسط الناسُ له أرديتَهم، فقال: لمثل هذا فَلْيعمل العاملون. وعُبيد الله بن ظَبيان، قام فخطب خُطبة أوجز فيها، فنادى الناسُ من أعراض المسجد: أكثر الله فينا من أمثالك. قال: لقد سألتم الله شَططا. ومَعْبَد بن زُرارة، كان ذات يوم جالساً على الطريق فمرَّت به امرأة، فقالت: يا عبد الله، أين الطرِيق إلى مكان كذا؟ فغَضب، وقال: ألمثلي يقال يا عَبد اللّه! وأبو سِماك الحنفيّ أَضلَ ناقتَه، فقال: لئن لم يَرُدها الله عليَّ لا صلّيت أبداً، فلما وجدها، قال: عَلِم الله أنَ يميني كانت بَرة. قال ناقل الحديث. ونسيِ الحجاجُ نفسه وهو خامس الأربعة، بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحاداً وأكفرُهم في كتابه إلى عبد الملك بن مروان: " إن خليفة الله في أرضه أكرمُ عليه من رسوله إليهم وكتابه إليه " ، وبلغه أنه عَطس يوماً فحمد الله وشَمَّته أصحابُه فردّ عليهم ودعا لهم، فكتب إليه: " بلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين، ومِن تَشْميت أصحابه له وردِّه عليهم، فياليتَني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً " .

وكان عبدُ الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرىَ الجَمَاجم أن يَعْرضهم على السيف، فمن أَقرّ منهم بالكَفر بخُروجه علينا فخلِّ سبيله، ومَن زعم أنه مُؤمن فاضرب عُنقه. ففعل. فلما عَرضهم أُتى بشيخ وشابّ، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر قال: بل كافر. فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكُفر. فقال له الشيخ: أعن نَفسي تُخادعني يا حجاج، والله لو كان شيء أعظَم من الكُفْر لرضيتُ به. فضحك الحجاج وخلّى سبيلهما. ثم قُدِّم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دِين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين. فقال: اضربُوا عُنقه. ثم قُدم آخر، فقال له: علىِ دِين من أنت؟ قال: على دين أَبيك الشيخ يوسف. فقال: أما والله لقد كان صوّاماً قوّاماً. خلِّ عنه يا غلام. فلما خلّى عنه انصر فَ إليه، فقال له: يا حجاج، سألتَ صاحبي: على دين مَن أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين، فأمرتَ به فقُتل؟ وسألَتني: على دين مَنِ أنت؟ فقلتُ: على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلتَ: أمَا والله لقد كان صوّاماً قواماً، فأمرتَ بتَخْلية سبيلي، والله لو لم يكن لأبيكَ من السيئات إلا أنّه وَلد مثلَك لكَفاه: فأمر به فقتل: ثم أتى بعِمْران بن عِصام العَنزي، فقال: عمران؟ قال: نعم. قال: ألم أُوفدك على أمير المؤمنين ولا يُوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوِّجك مارية بنت مِسمع سيدة قومها ولم تكن أهلاً لها؟ قال: بلى. قال: فما حَمَلك على الخروج علينا؟ قال: أخْرجني باذان. قال: فأين كنتَ من حُجة أهلك؟ قال: أَخرجنيِ باذان. فأمر رجلاً فكَشف العمامة عن رأسه، فإذا هو مَحلوق. قال: ومحلوق أيضاً! لا أقالني الله إن لم أَقتُلك. فأمر به فضُرب عنقه. قال: فسأل عبدُ الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام فقيل له: قَتله الحجَّاج. فقال: ولم؟ قال: بخُروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان يَنبغي له أن يَقْتله بعد قوله:
وبَعثتَ من ولد الأغرّ مُعتَّب ... صَقْراً يلوذ حمامُه بالعَوْسج
فإذا طبختَ بناره أنضجتَها ... وإذا طبختَ بغيرها لم تُنضج
وهو الهِزبر إذا أراد فريسةً ... لم يُنْجِها منه صريخُ الهَجْهج
ثم أتى بعامر الشَّعبيّ ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسَعيد بن جُبير. وكان الشَّعبيُّ ومُطَرِّف يَريان التَّورية، وكان سعيدُ بن جُبير لا يرى ذلك فما قُدِّم له الشعبيّ. قال: أكافرٌ أنت أم مُؤمن؟ قال: أَصلح الله الأمير، نَبا بنا المنزل، وأجْدب بنا الْجَناب، واستحلَسَنا الخوفُ، واكْتَحلنا السهر، وخَبَطتْنا فِتنة لم نكن فيها بَرَرَةً أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال الحجاج: صَدق واللهّ، ما برُّوا بخُروجهم علينا ولا قَوُوا، خَلِّيا عنه. ثم قُدِّم إليه مُطَرِّف ابن عبد اللّه، فقال له: أكافرٌ أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إنّ مَن شقَّ العصا، ونَكَث البَيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المُسلمين، لجدير بالكُفر. فقال: صدق، خلِّيا عنه. ثم أتى بسَعيد بن جُبير، فقال له: أنت سَعيد بن جُبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقيُّ بن كُسَير. قال: أمي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيتَ وشقيتْ أمك قال: الشقاء لأهل النار. قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنتُ به. قال: اضربوا عنقه.
موت الحجاجمات الحجَّاج بن يوسف في آخر أيام الوليد بن عبد الملك، فتفجع عليه الوليد وولى مكانَه يزيدَ بن أبي مُسلم كاتب الحجاج، فكفَى وجاوز. فقال الوليد: مات الحجَّاج ووليتُ مكانَه يزيد بن أبي مُسلم، فكنت كمن سَقط منه درهم وأصاب ديناراً. وكان الوليدُ يقول: كان عبد الملك يقول: الحجاج جِلْدة ما بين عينيّ وأنفي. وأنا أقول: إنه جلدةً وَجهي كُلّه.
قال: ولما بلغ عمرَ بن عبد العزيز موتُ الحجاج خرج ساجداً. وكان يدعو الله أن يكون موتُه على فراشه ليكَونَ أشدَ لعذابه في الآخرة.
أبو بكر بن عيّاش قال: سُمع صياحُ الحجاج في قَبره، فأتوا إلى يزيدَ بن أبي مُسلم فأخبروه، فركب في أهل الشام فوَقف على قَبره فتسمّع، فقال: يرحمك الله يا أبا محمد، فما تَدع القراءةَ حتى مَيِّتاً.

الرياشيّ عن الأصمعيّ، قال: أقبل رجلٌ إلى يزيدَ بن أبي مسلم، فقال له: إ نّي كنت أرى الحجاج في المنام فكنت أقول له: أخبرني ما فعل الله بك؟ قال: قَتلني بكل قتيل قتلتُه قتلةً، وأنا مُنتظر ما ينتظره الموحِّدون. ثم قال: رأيتُه بعد الحول فقلت له: ما صَنع الله بك؟ فقال: يا عاضّ بَظر أمه، سألتني عن هذا عامَ أول فأخبرتك؟ فقال يزيدُ بن أبي مسلم: أشهدُ أنك رأيت أبا محمد حقاً. وقال الفرزدق يرثي الحجاجَ ليُرضي بذلك الوليدَ بن عبد الملك:
لِيَبْكِ على الحجّاج مَن كان باكياً ... على الدِّين مِن مستوحِش الليل خائف
وأرمَلةٌ لما أتاها نَعِيُّه ... فجادت له بالواكفات الذَوارف
وقالت لِعبْدَيها أنيخا فعجل ... فقد مات راعي ذَوْدنا بالتَنائف
فليت الأكُفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف ... يُقَطَّعنَ إذ يَحْثِين فوق السفائف
فما ذَرفت عينان بعد محمد ... على مِثله إلا نُفوسَ الخلائف
قال ابن عَيّاش: فلقيتُ الفرزدق في الكوفة، فقلت له: أخبرني عن قولك: " فليتَ الأكفَّ الدافنات ابن يوسف يقطعن " ما معناك في ذلك؟ فقال: وددتُ والله أنّ أرْجُلهم تُقطع مع أيديهم.
قال ابنُ عَيْاش: فلما هلك الوليد واستُخلف سليمانُ استعملَ يزيدَ بن المُهلَّب على العراق وأمره بقتل آل أبي عَقيل، فقتلهم فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن نَفَّر الحجاجَ آلُ مُعتِّب ... لَقُوا دَوْلة كان العدوُّ يُدالُها
لقدْ أصبح الأحياءُ منهم أذًلة ... وموتاهُمُ في النار كُلْحاً سِبالُها
وكانوا يرون الدائراتِ بغيْرهم ... فصارَ عليهم بالغداة انتقالُها
وكُنّا إذا قُلنا اتق الله شمَّرت ... به عزّة لا يُستطاع جِذالُها
أْلكني مَن كان بالصِّين أورمتْ ... به الهندَ ألواح عليها جلالُها
هَلُمَّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات عن أرض العراق خَبالُها
ألا تَشكُرون الله إذ فَكِّ عنكُم ... أَداهمَ بالمَهديّ صُمًّا قِفالُها
وشِيمتْ به عنكم سيوفٌ عليكًم ... صباحَ مَساء بالعذاب استلالُها
وإذ أنتُم مَن لم يَقُل أنا كافر ... تردّى نهاراً عَثرةً لا يُقالُها
قال ابن عَيَّاش: فقلت للفرزدق. ما أدري بأي قَوليك نَأخذ، أبمَدحك في الحجاج حياته، أم هَجْوِك له بعد موته؟ قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه، فإذا تخلّى عنه تخلّينا عنه.
ولما مات الحجاجُ دخل الناسُ على الوليد يعزونه ويُثْنون على الحجاج خيراً، وعنده عمرُ بن عبد العزيز، فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان الحجاجُ إلا رجلاً منا؟ فرضيها منه.
أخبار البرامكةقال أبو عثمان عمرو بن بَحر الجاحظ: حدّثني سهلُ بن هارون، قال: والله إن كانوا سَجّعوا الطُب، وقرضوا القريض لعيالٌ على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى. ولو كان كلامٌ يُتصوَّر دُرا، أو يُحيله المنطق السريّ جوهراً، لكان كلامَهما والمُنتقى من لَفظهما. ولقد كان مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كُتبه فدمين عَيِيين، وجاهليين أًميين، ولقد عمرتُ معهم، وأدركتُ طبقة المُتكلمين في أيامهم، وهم يَرون أنَّ البلاغة لم تُسْتكمل إلا فيهم، ولم تكُن مقصورةً إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم مَحْض الأنام، ولُباب الكرام، ومِلح الأيام، عِتْقَ مَنظر، وجَوْدَة مَخبر، وجَزالة مَنطق، وسُهولة لفظ، ونَزاهة نفس، وأكتمال خِصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خِصالهم، كثيرَ أيام سواهم، مِن لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصُّور، وانبعاث أهل القبور، حاشى أنبياءِ الله المُكرّمين، وأهل وَحيه المُرسلين، لما باهتْ إلا بهم، ولا عَوّلت إلا عليهم. ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعْرَاقهم، وسَعة آفاقهم، ورَوْنق سِياقهم، ومَعْسول مَذاقهم، وبَهاء إشراقهم، ونَقاوة أعْراضِهم، وتَهذيب أغْراضهم، واكتمال الخير فيهم، في جَنب محاسن الرشيد كالنُّقطة في البحر، والخَرْدلة في المَهْمة القفر.

قال سهل بن هارون: إنّي لأحصِّل أرزاقَ العامة بين يدي يحيى بن خالد في في بناء خلابه داخل سُرادقه، وهو مع الرَّشيد بالرقة، وهو يَعقدها جُملاً بكفه، إذ غشيتْه سآمة، وأخذته سِنة فغلبته عيناه، فقال: ويْحَك يا سهل! طرق النومُ شَفْريّ، وحَلَّت السِّنة جَفْنيّ، فما ذاك؟ قلت ضيفٌ كريم، إنْ قَرَّبته رَوَّحك، وإن مَنعته عَنّتك. وإن طردته طَلبك، وإن أقصيته أَدركك، وإن غالبتَه غَلبك. قال: فنام أقلّ من فُواق بكيه أو نَزْع من رَكية، ثم انتبه مذعوراً فقال: يا سهل، لأمرٍ ما كان والله قد ذَهب مُلْكنا، ووَلّى عِزًّنا، وانقضت أيامُ دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأن مُنشداً أنشدني:
كأن لم يَكُن بين الْحَجونِ إلى الصفا ... أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر
فأجبتُه من غير رويَّة ولا إجالة فِكْرة:
بلى نحنُ كُنا أهلَها فأَبادنا ... صروفُ اللَّيالي والجدودُ العواثرُ
قال: فوالله ما زلتُ أعرفها منه وأراها ظاهرةً فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مَقعدي بين يديه أكتبُ توقيعات في أسافل كُتبه لطلاِّب الحاجات إليه، قد كلّفني إكمالَ معانيها وإقامة الوَزن فيها، إذ وجدتُ رجلاً سعى إليه حتى ارتمى مُكباً عليه، فرفع رأسَه، فقال: مهلاً، ويحك! ما اكتتم خير ولا استَتر شرِّ. قال: قَتل أميرُ المؤمنين جعفراً الساعة. قال: أوقد فعل !قال فما زاد على أن رَمى بالقلم من يده، وقال: هكذا تقومُ الساعة بغتة.
قال سهل بن هارون: فلو انكفأت السماءُ على الأرض ما زاد. فتبرأ مِنهم الحميم، واستبعد عن نسبهم القريب، وجَحد ولاءَهم المولى. ولقد اعتبرت لفقدهم الدُّنيا، فلا لسان يخطِر بذِكْرهم، ولا طَرْف ناظِر يُشير إليهم.
وضَم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضلَ ومحمداً وخالداً، بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالداً، أبناء جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيداً وخالداً ومعمراً، بني الفضل ابن يحيى؟ ويحيى وجعفراً وزيداً، بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفراً وعمر ومعمراً، بني خالد بن يحيى، ومن لَفّ لفهم أوهَجس بصَدره أمل فيهم.
وبعث إليّ الرشيدُ. فوالله لقد أعجلتُ عن النظر، فلبست ثياب أحزاني وأعظمُ رَغْبتي إلى الله الإراحة بالسيف و ألا يُعبثَ بي عبث جعفر. فلما دخلتُ عليه، ومثلت بين يديه، عَرف الذُّعر في تجرّض رِيقي وشُخوصي إلى السيف المَشهور ببَصري. فقال: إيه يا سهل، مَن غمط نعمتي، وتعدّى وصيتي، وأنب مُوافقتي، أعجلْته عُقوبتي. قال: فوالله ما وجدتُ جوابَها حتى قال لي: لِيُفْرِخ رَوْعُك، ويَسْكن جأشك، وتَطبْ نفسك، وتطمئنّ حواسك، فإن الحاجة إليك قَرّبت منك، وأبقت عليك، بما يَبْسط مُنقبضك، ويُطلق مَعْقولك، فما اقتُصر على الإشارة دون اللِّسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحُسام الباتر. وأشار إلى مَصرع جعفر، فقال: " مَنْ لم يؤدبه الجميلُ ففي عُقوبته صَلاحُه "

قال سهل: فوالله ما أعلمني أنّي عَييتُ بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ، فما عَولت في الشُّكر إلا على تَقبيل باطن يديه ورِجْليه. ثم قال: اذهب، فقد أحللتُك محلَّ يحيى، ووهبُتك، ما ضَمنته أفنيته وما حواه سُرادقه، فأقبض الدواوين واحْص حِباءه وحِباء جعفر لنأمرك بقَبضه إن شاء اللّه. قال سهل: فكنتُ كمن نُشر عن كفن واخرج من حَبس. وأحصيت حِباءهما فوجدتُه عشرين ألف دينار، ثم قَفل راجعاً إلى بغداد، وفرق البُرُد إلى الأمصار. بقَبض أموالهم وغَلاتهم. وأمر بِجيفة جعفر وجئتُه، ففُصلت على ثلاثة جُذوع، رأسُه في جِذع على رأس الجسر مُستقبِلَ الصرَّاة، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جِذع على آخر الجسر الثاني ما يلي باب بغداد. فلما دنونا من بغداد، طلع الجِسرُ الذي فيه وجهُ جعفر، واستقبلنا وجههُ واستقبلته الشمس، فوالله لخِلتها تطلع من بين حاجبيه. فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يَساره، فلما نظر إليه الرشيد، وكأنما قنى شعره، وطل بنُورة بَشره، اربدّ وجهه وأغضى بصره. فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عَظُم ذنب لم يَسعه عفوُ أمير المؤمنين. وقال الرشيد: مَن بَرِد غيرَ مائه يَصْدر بمثل دائه، ومن أراد فَهْم ذنبه يُوشك أن يقوم على مثل راحلته. عليّ بالنّضاحات، فنَضح عليه حتى احترق عن آخره وهو يقول: لئن ذهب أثرُك، لقد بقي خبرُك، ولئن حُط قدرك، لقد علا ذكرك.
قال سهل بن هارون: وأمر بضَمّ أموالهم، فوُجد من العشرين ألفَ ألفِ التي كانت مبلغ جِبايتهم اثنا عشرَ ألفَ ألفِ مكتوبٌ على بِدرها صُكوك مختومة بتفسيرها وفيما حَبوا بها، فما كان منها حباء على غَريبة أو استطراف مُلحة تصدّق بها يحيى أثبت ذلك في دِيوانها على تواريخ أيامها. فكان ديوانَ إنفاق واكتساب فائدة. وقَبض من سائر أموالهم ثلاثين ألفَ ألفٍ وسِتَّمائة ألفٍ وستةً وسبعين ألفاً، إلى سائر ضياعهم وغَلاتهم ودُورهم ورياشهم، والدَقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقلّه، ولا يَعرف أيسره، إلا مَن أحصى الأعمال وعَرف مُنتهى الآجال. وأبرزت حُرمه إلى دار الباتوقة بنت المهديّ، فوالله ما علمتُه عاش ولا عِشْنَ إلا من صدقات مَن لم يزل متصدِّقاً عليه، وما رأوا مثلَ موجدة الرشيد فيما يُعلم من ملك قبلَه على أحد مَلكه.

وكانت أمُ جعفر بن يحيى، وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحطبة، أرضعت الرشيدَ مع جعفر، لأنه كان رُبي في حجرها، وغُذي برَسْلها، لأنّ أمه ماتت عن مَهده. فكان الرشيدُ يُشاورها مُظهراً لإكرامها والتبرك برأيها، وكان آلَى وهي في كَفالتها ألاّ يَحْجبها ولا استشفعَتْه لأحد إلا شَفَعها، وآلت عليه أمُ جعفر ألاّ دخلت عليه إلا مَأذوناً لها، ولا شَفعت لأحد لغَرض دُنيا. قال سهل: فكم أسير فكَّت، ومُبْهم عنده فَتحت، ومُستغلق منه فَرَّجت. واحتجب الرشيدُ بعد قدومه. فطلبت الإذن عليه من دار الباتوقة ومَتَّت بوسائلها إليه، فلم يأْذن لها ولا أَمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خَرجت كاشفةً وجهها واضعةً لثامها مُحْتفيةً في مَشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد. فدخل عبدُ الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظِئْر أمير المؤمنين بالباب في حالة تَقْلب شماتةَ الحاسد إلى شَفقة أمَّ الواحدِ. فقال الرشيدُ: ويحك يا عبدَ الملك أوَ ساعية؟ قال: يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عَبد الملك، فرُب كَبد غَذتها، وكُربة فَرَّجتها، وعَوْرة سترتها. قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيدُ إليها داخلةً مُحتفية قام مُحتفياً حتى تلقاها بين عَمد المجلس، وأكبَّ على تَقبيل رأسها ومواضعِ ثَدْييها، . ثم أجلسها معه. فقالت: يا أمير المؤمنين، أَيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوْفاً لك الأعوان، ويَحردك عنا البهتان؟ وقد ربيّتك في حِجري، وأخذت برَضاعك الأمان من عدوي ودَهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسنى من رأفته بتَركة كُنيتهْا أخر ما كان أطمعني من برّه بها أولاً. قالت: ظِئْرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عَرفه به أميرُ المؤمنين من نَصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرضه للحَتف في شأن مُوسى أخيه. قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقَضاء حُم، وغَضب من الله نَفذ. قالت: يا أمير المؤمنين، يَمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب. قال: صدقتِ، فهذا مما لم يَمْحه اللّه. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل ابن هارون: فأَطرق الرشيد ملياً، ثم قال:
وإذا المَنيّة أنشبت أظفارَها ... ألفيتَ كل تميمة لا تَنفعُ
فقالت بغير روّية: ما أنا ليحيى بتَميمة يا أميرَ المؤمنين، وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول عزّ وجلّ: " والكاظمين الغَيْظ والعافينَ عن النّاس والله يُحبُّ المُحسنين " فأَطرق هارون مليّاً، ثم قال: يا أم الرشيد، أقول:
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تَكَد ... إليه بوَجْهٍ آخرَ الدَّهر تُقْبلُ
فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول:
ستَقطع في الدّنيا إذا ما قَطعتَني ... يَمينك، فانْظر أي كف تبدَّلُ؟

قال هارون: رضيتُ. قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. من ترك شيئاً للّه لم يُوجده الله فَقْدَه. فأكبّ هارون ملياً، ثم رَفع رأسه يقول: للّه الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ. قالت: يا أمير المؤمنين، " ويومئِذ يَفْرح المُؤمنون بنصر الله يَنْصُرِ مَن يَشاء وهو العَزيزُ الرَّحيم " . وأذكُر يا أمير المؤمنين، أليّتك: ما استشفعتُ إلا شفَعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليَّتَك أن لا شَفعت لمُقترف ذنباً. قال سهل بن هارون: فلما رأتْه صَرَّح بمَنعها ولاذ عن مَطلبها أخرجت حُقًّا من زَبَرْجدة خَضراء فوضعتْه بين يديه فقال الرشيد: ما هذا؟ ففَتحت عنه قفلاً من ذهب فأخرجت منه قَميصه وذؤابته وثَناياه، قد غَمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأَستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جَسدك وطَيَّب جوارحك ليحيى عبدِك. فأخذ هارون ذلك فلَثمه، ثم أستعبرَ وبكى بُكاء شديداً وبكى أهْل المجلس. ومرّ البشيرُ إلى يحيى وهو لا يَظن إلا أ نّ البكاء رحمةَ له ورجوعٌ عنه، فلما أفاقَ رَمى جميع ذلك في الحق. وقال لها: لحسناً ما حفظتِ الوديعة. فقالت: وأهل للمكافأة أنتَ يا أمير المؤمنين. فسكتَ وقَفل الحق ودَفعه إليها وقال: " إ نّ الله يأمركم أن تْؤدّوا الأماناتِ إلى أهلها " . قالت: والله يقول: " وإذا حَكمتم بين الناس أن تَحْكُموا بالعَدْل " . ويقول: " وأَوفُوا بعَهد الله إذا عاهدتُم " . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمتَ لي به أن لا تَحجبني ولا تَجبهني. قال: أ حب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه. قالت: أنصفتَ يا أمير المؤمنين. وقد فعلتُ غيرَ مُستقيلة لك ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمَّن لم يُسخطك. قال: يا أم الرشيد، أما لي عليك من الحق مثلُ الذي لهم؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين، أعزُّ عليّ وهم أحبُّ إليّ. قال: فتحكّمي في ثمنه بغيرهم؟ قالت: بلى، قد وَهبتكه، وجعلتُك في حِلّ منه، وقامت عنه. وبَقي مبهوتاً ما يُحير لفظة. قال سهل: وخرجتْ فلم تَعُد، ولا والله ما رأيتُ ها عَبرة ولا سمعتُ لها أنه.
قال سهل: وكان الأمين محمدُ بن زبيدة رضيعَ يحيى بن جعفر، فمتَّ إليه يحيى بنُ خالد بذلك، فوعد استيهاب أمه إياهم وتكلّمها لهم، ثم شَغله اللهوُ عنهم. فكتب إليه يحيى، ويقال إنها لسليمان الأعمى أخي مُسلم بن الوليد، وكان مُنقطعاً إلى البرامكة، يقول:
يا مَلاذي وعِصْمتي وَعِمَادي ... ومُجيري من الخُطوب الشدادِ
بكَ قام الرجاءُ في كلَّ قلب ... زاه فيه البلاءُ كل مَزاد
إنما أنت نِعمة أعْقبتها ... نِعَم نفعُها لكلِّ العِباد
وَعْدَ مولاك أتممنه فأبهى ال ... در ما زين حسنه بانعقاد
ما أظلت سحائب اليأس إلا ... كان في كَشْفها عليك اعتمادي
إن تراختْ يداك عنّي فُوَاقاً ... أكَلَتني الأيامُ أكلَ الجَراد
وبعث بها إلى الأمين محمد، فبعث بها الأمينُ إلى أمه زُبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لَذَته، وعندَ إقبال أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبّأت جواريها ومُغنياتها وأمرتهنَ بالقيام معها إذا قامت. فلما فَرغ الرشيدُ من قراءتها لم يَنقض حَبوته حتى وقَّع في أسفلها: عِظَم ذَنبك أمات خواطرَ العفو عنك، ورَمى بها إلى زُبيدة. فلما رأت توقيعَه علمت أنه لا يرجع عنه.

وقال بعض الهاشميِّين: أخبرني إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن العباس، قال: كنتُ أساير الرشيدَ يوماً والأمينُ عن يمينه والمأمون عن شماله، فأستْداني وقدَّمهما أمامه، فسايرتُه، فجعل يُحدَثني، ثم بدأ يُشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أَضمر عليه لهم، وأنهم اْستوحشوه من أنفسهم، وأنني عنده بالوضع الذي لا يَكْتمني شيئاً من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تَنْقلني من السعة إلى الضيق. فقال الرشيد: إلا أن تقول، فإني لا أتهمك في نَصيحة ولا أِّخافُك على رأي ولا مَشورة. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إني أرى نفاسَتك عليهم بما صاروا إليه من النَعمة والسِّعة، ولك أن تأمر وتَنهى، وهم عبيدٌ لك بإنباتك إياهم، فهل يَصنعون ذلك كُلَه إلا بك؟ قال - وكنتُ أحطِب في حبال البرامكة - فقال لي: فضياعُهم ليس لولدِي مثلُها وتَطيب نفسي بذلك لهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الملك لا يَحسد ولا يَحْقد، ولا يُنعم نِعمة ثم يُفسد نِعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى وجهه عني قال إسحاق فعلمت أنه سيوقع بهم ثم انصرفتُ فكتمت الخبرَ، فلم يسمع به أحدٌ. وتجنّبت لقاءَ يحيى والبرامكة خوفاً أن يُظن أنّي أُفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدَّ ما كان إكراماً لهم. وكان قتلُهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعْتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهِندي. فقال له؟ ماذا ترى في هذه العِلة؟ فقال منكة: داءٌ كبير، دواؤه يسير، والصبر أيسر. وكان مُتفنّناً. فقال له يحيى: ربما ثَقُل على السّمْع خَطْرة الحق به. وإذا كان ذلك كذلك كان الهجرُ له ألزمَ من المُفاوضة فيه. قال منكة: لكنني أَرى في الطالع أثراً والأمرُ فيه قريب، وأنت قسيم في المَعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمةً لا نتاج لها، ولكنّ الأخذَ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور مُنصرفة إلى العواقب، وما حُتم فلا بدّ أن يَقع، والمَنعة بمُسالمة الأيام نُهزة، فاقْصِد لما دعوتُك له من هذا الأمر المَوجود بالمِزاج. قال منكة: هي الصفواءُ مازجتْها مائيةُ البلغم، فحدَث لذلك ما يَحدث من اللهب عند مُماسّة رطوبة الماء من الأشْتغال. فخُذ ماء الرمان فدُف فيه إهْلِيلَجة سوداء تُنهضك مجلساً أو مجلسين، ويَسْكن ذلكَ التوقدّ إن شاء الله.
فلما كان من أمرهم ما كان تلطّف منكَة حتى دخل الحبس فوجد يحيى قاعداً على لبْد، والفضلُ بين يديه يَخْدمه، فاسْتعبر منكة باكياً، وقال: كنتُ ناديتُ لو أسرعتَ الإجابة. قال له يحيى: تراك كنتَ قد علمتَ من ذلك شيئاً جهلته؟ قال: كلا، ولكن كان الرجاء للسلامة بالبراءةَ من الذنب أغلبَ من الشّفق، وكان مُزايلة القَدْر الخَطير عنَّا أقلَّ ما تُنقَض به التُّهمَة، فقد كانت نِقْمة أرجو أن يكون أولها صَبراً وأخرها أجراً. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال منكة: ما أرى له دواء أنفعَ من الصبر، ولو كان يُفدى بملْك أو بمُفارقة عضو كان ذلك مما يَجب لك. قال يحيى: قد شكرتُ لك ما ذكرت فَإِن أمكنك تَعاهُدَنا فافْعل. قال منكة: لو أمكنني تخليفُ الرُّوح عندك ما بَخِلْتُ به، إذ كانت الأيام تَحْسن بسلامتك.

وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد: لأمير المؤمنين، وخليفة المهديين، وإمام المُسلمين، وخليفة ربّ العالمين. من عبْد أسلمتْه ذنوبُه، وأوْبقته عيوبه، وخَذله شقيقُه، ورَفضه صديقهُ، وما به الزمان، ونَزل به الحِدْثان، فعالج البُؤس بعد الدَّعة، وأفترش السُّخط بعد الرضا، وأكتحل بالسًّهاد بعد الهُجود؟ ساعته شهر، وليلته دهر؟ قد عاين الموتَ، وشارف الفَوْت، جزعاً لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفاً على ما فات من قُربك لا على شيء من المَواهب، لأن الأهل والمالَ إنما كانا لك وبك، وكان في يديَّ عارية، والعارية مردودة. وأما ما أصبت به من ولدي فبذَنبه، ولا أَخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجازت به فوق خدِّه. تفكر في أمري جعلني الله فداك ولْيَمل هواك بالعفو عن ذَنب إن كان فمِن مثِلي الزَّلل، ومِن مثلك الإقالة، وإنما اعتذر إليك بإقراري بما يجب به الإقرار حتى تَرضى، فإذا رضيت رجوتُ إن شاء الله أن يتبينّ لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعدَه ذنبٌ أن تَفْغره. مدَّ الله في عمرك، وجعل يومي قبل يومك. وكتب إليه بهذه الأبيات:
قل للخَليفة ذي الصَّني ... عة والعَطايا الفاشِيَة
وابنِ الخلائِف من قُري ... ش والمُلوك العالية
إنّ البَرامكة الّذي ... ن رمُوا لدَيْك بداهية
صفر الوجوه عليهم ... خلع المَذلة بادية
فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز ُنَخْل خاوية
عَمَّتهم لك سَخطة ... لم تبق منهم باقية
بعد الإمارة والوزا ... رة والأُمور الساميه
ومنازل كانت لهم ... فوق المَنازل عالِيه
أضحَوْا وجُلَّ مُناهم ... منك الرِّضا والعافيه
يا من يودُّ لي الرَّدى ... يَكْفيك منيَ ما بيه
يكفيك ما أبصرتَ من ... ذلِّي وذُل مَكانِيه
وبُكاء فاطمةَ الكئي ... بة والمَدامع جاريه
ومَقالها بتوجّعٍ ... يا سَوْأتي وشَقائيه
مَن لي وقد غَضب الزما ... نُ على جَميع رِجاليه
يا لهفَ نفسي لهفها ... ما للزّمانِ وماليه؟
يا عطفة المَلك الرِّضا ... عُودي علينا ثانيه
فلم يكن له جواب من الرشيد.
واعتلَّ يحيى في الحَبس، فلما أَشفى دعا برُقعة فكتب في عُنوانها: يُنفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدّم الخضمُ إلى مَوقف الفَصل، وأنت على الأثر، والله حَكم عَدْل، وستقدم فتعلِم. فلما ثَقُلَ قال للسجان: هذا عهدي توصله إلى أمير المؤمنين، فإنه وليّ نعمتي، وأحقُّ من نفّذ وصيّتي. فلما مات يحيى، أوصل السجانُ عهدَه إلى الرشيد. قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلتْ الرقعةُ إليه. فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أَدري لمن الرُّقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أَكْفيك؟ قال: كلا، إني أخافُ عادةَ الرّاحة أن تُقوِّي سلطان العجز، فيحكم بالغَفلة، ويقضي بالبلادة، ووقّع فيها: الحَكم الذي رضيتَ به في الآخرة لك هو أعدى الخُصوم عليك، وهو مَن لا يُنقض حُكمه، ولا يُردّ قضاؤه. قال: ثم رَمى بالصكّ إليّ، فلما رأيتُه علمت أنه ليحي، وأنّ الرشيدَ أراد أن يُؤثر الجوابَ عنه.
وقال دِعبل يَرثي بنيِ برمك:
ولما رأيتُ السيفَ جَلَل جعفرا ... ونادَى مُنادٍ للخليفة في يَحيى
بكيتُ على الدُّنيا وأيقنت ... أنما قُصارى الفتى يوماً مُفارقةُ الدنيا
وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك:
هَدَا الخالُون عن شَجوِي ونامُوا ... وعَيْنيَ لا يُلائمها المنامُ
وما سَهري بأنّي مستهام ... إذا سهر المُحِب المُستهام
ولكن الحوادثَ أرقتنيِ ... فبي أرقٌ إذا هَجع النِّيام
أصبت بسادةٍ كانوا عُيوناً ... بهم نُسقى إذا انقطع الغَمام
فقلتُ وفي الفؤاد ضرامُ نار ... وللعَبرات من عَينيِ انسجام

على المَعروف والدُّنيا جميعاً ... ودَوْلةِ آل بَرمك السلام
جَزعتُ عليك يا فضل بنَ يحيى ... ومَن يجزع عليك فلا يُلام
هَوَت بك أنجُم المَعروف فينا ... وعَزّ بفَقدك القومُ اللئام
وما ظَلم الإله أخاك لكنْ ... قضاء كان سبّبه اجترام
عِقابُ خليفة الرَّحمن فَخْر ... لمن بالسيف صَبّحه الحِمام
عَجبتُ لما دها فضلَ بنَ يحيى ... وما عَجَبِي وقد غَضِب الإمام
جَرى في اللّيل طائرُهم بنَحْس ... وصَبَّح جعفراً منه اصطلام
ولم أرَ قبل قَتلك يابن يَحيى ... حُساماً قَدّه السيفُ الحُسام
بُرين الحادثات له سِهامًا ... فغالتْه الحوادثُ والسِّهام
لِيَهْن الحاسدين بأنّ يحيى ... أسيرٌ لا يَضيم ويستضام
وأنّ الفضل بعد رِداء عزٍّ ... غَدا ورداؤُه ذالٌ ولام
فقُل للشامتين بهم جميعاً ... لكم أمثالُها عامٌ فَعام
أمينَ الله في الفَضل بن يحيى ... رَضيعِك والرَّضيعُ له ذِمام
أبا العبَّاس إنّ لكُل هَمًّ ... وإنْ طال انقراض وانصرام
أرى سَبب الرضا وله قَبول ... على الله الزيادةُ والتَّمام
وقد آليتُ فيه بصَوم شهر ... فإن تَمّ الرِّضا وَجب الصيام
وقد آليتُ مُعتزما بنَذْرٍ ... ولى فيما نذرتُ به اعتزامُ
بأنْ لا ذُقتُ بعدكُم مُداما ... ومَوتي أن يُفارقني المُدام
أألهو بعدكم واقرّ عَيناً ... عليَ اللَهوُ بعدكم حَرام
وكيف يَطيب لي عيش وفَضل ... أسيرٌ دونه البَلد الشآم
وجَعفرُ ثاوياً بالجسر أبلت ... محاسنَه السمائمُ والقَتام
أمُرُّ به فيَغْلبني بكائي ... ولكنّ البُكاء له اكتتام
أقول وقُمت مُنتصباً لديه ... إلى أن كاد يَفْضَحني القِيام
أمَا والله لولا خوفُ واشٍ ... وعينِ للخليفة لا تنام
لَثَمْنا رُكن جِذْعك واستَلمنا ... كما لَلناس بالحَجَر استلام
وقال بعض الشعراء يُغري هارون ببني برمك.
قل للخليفة في اكتفائه ... دُون الأنام بحُسن رائه
إمّا بدأتَ بجَعفرٍ ... فاسق البَرامك مِن إنائه
ما برْمكيٌّ بعده ... تَقِف الظُّنون على وَفائه
أنى وقَصْر البرمك ... يّ إلى انتكاثِ من شَقائه
فلقد رفعتَ لجعفرٍ ... ذِكْرين قَلاَ في جَزائه
فارفع ليَحيى مثلَه ... ما العُود إلا مِن لِحائه
وأخضِب بصَدْر مُهنَّد ... عُثنون يَحيىِ مِن دِمائه

إبراهيم بن المهديّ قال: قال لي جعفرُ بن يحي يوماً إنني استأذنتُ أميرَ المؤمنين في الحِجامة وأردتُ أن أخلو بنفسي وأفِرَّ من أشغال الناس وأتوحَّد، فهل أنت مُساعدي؟ قلتُ: جعلني الله فِداك، أنا أسعد بمُساعدتك وأنسُ بمُخالاتك: فقال: بَكِّر إلى بكور الغُراب. قال: فأتيتُ عند الفَجر الثاني: فوجد تُ الشَّمعة بين يديه وهو قاعدٌ ينتظرني للمِيعاد. قال: فصلّينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحِجامة، فأتى الحجَّام، فَحجمنا في ساعة واحدة. ثم قُدِّم إلينا الطعام، فَطعِمنا. فلما غَسلنا أيدينا خُلع علينا ثياب المنادمة وضمِّخنا بالخَلوق، وظَلِلنا بأسرَ يوم مَرّ بنا. ثم إنه تذكَّر حاجة فدعا الحاجب. فقال له: إذا جاء عبدُ الملك القَهْرمان فَأذن له، فنسي الحاجب، وجاء عبدُ الملك ابن صالح الهاشمي على جَلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذِن له الحاجب. فما راعنا إلا طَلعة عبدُ الملك بن صالح، فتغيّر لذلك وجهُ جعفر بن يحيى، وتَنغّصِ عليه ما كان فيه. فلما نَظر إليه عبدُ الملك على تلك الحالة دعا غلامَه، فدَفع إليه سيفه وسَواده وعِمامته، ثم جاء فوَقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صَنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلامُ فطَرح عليه ثيابَ المُنادمة، ودعا بطَعام فطَعم، ثم دعا بالشَّراب فشرب ثلاثاً، ثم قال: ليخفِّف عنّي فإنه شيء ما شربتُه قطُّ. فتهلَّل وجهُ جعفر فرحاً. وقد كان الرشيد حاور عبدَ الملك على المُنادمة فأَبى ذلك وتنزه عنه. ثم قال له جعفر بن يحيى: جَعلني الله فداك، قد تفضَّلت وتطوّلت وأسعدتَ، فهل من حاجة تَبْلغها مقدرتي، وتُحِيط بها نعمتي فأقضِيَها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إنَّ قلبَ أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرِّضا عنّي. قال: قد رَضي عنك أميرُ المؤمنين. ثم قال: وعليّ أربعةُ آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحبُّ إليَ من مالي. قال: وابني إبراهيم أحبُّ أن أ شُد ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زَوَّجه أميرُ المؤمنين ابنَتَه عائشة الغالِية. قال: وأحبُ أن تَخْفِق الألويةُ على رأسه بولاية. قال: قد ولاَه أميرُ المؤمنين مِصر. قال: فانصرَف عبدُ الملك ونحن نَعجب من إقدام جعفر على الرَّشيد من غير اسْتئذان. فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودَخل جعفر، فلم يَلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد ابن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النِّكاح وحُملت البِدَر إلى عبد الملك وكُتب سِجلّ إبراهيم على مِصر. وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفَه، نَزل ونزلنا بنزوله. فالتّفت إلينا، فقال: تعلَّقت قلوبُكم بأوَّل أمر عبد الملك فأحببتُم أن تعرفوا آخره، وإني لما دخلتُ على أمير المُؤْمنين ومَثلت بين يديه سألني عن أمْسي، فابتدأتُ أحدثه بالقِصَّة من أولها إلى آخرها، فجعل يقول: أحسنَ واللّه! أحسن والله ثم قال: فما أجبتُه، فجَعلت أخبره وهو يقول في كل شيء: أحسنت. وخرج إبراهيم والياً على مصر.
من أخبار الطالبيينحدّث عبدُ العزيز بن عبد الله البَصريّ عن عثمان بن سَعيد بن سَعد المدَنيّ قال: لما وَلى الخلافةَ أبو العبَّاس السفّاح قَدِم عليه بنو الحَسن بن عليّ ابن أبي طالب، فأعطاهم الأموال وقَطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحَسن: احتكمْ عليّ، قال: يا أميرَ المؤمنين، بألف ألف دِرْهم، فإني لم أرها قَطُّ. فاْستَقْرضها أبو العبَّاس من ابن مُقَرِّن الصَّيرفيّ وأَمر له بها - قال عبدُ العزيز: لم يكن يومئذ بيتُ مال - ثم إ نّ أبا العباس أتى بجَوهر مَروان، فجعل يُقلِّبه وعبد الله بن الحَسن عنده، فَبَكى عبدُ الله. فقال له: ما يُبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مَروان وما رأت بناتُ عمك مثلَه قطّ. قال: فحبَاه به. ثم أمر بنَ مُقرِّن الصّيرفيّ أن يَصل إليه ويَبتاعه منه. فاشْتراه منه بثمانين ألف دينار. ثم حَضر خروجُ بني حسن فأرسل معهم رجلاً من ثِقاته، وقال له: قُم بإنزالهم ولا تَأن في إلطافهم. وكلما خلوتَ معهم فأَظْهر الميل إليهم والتحاملَ علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحقُّ بالأمر منّا، وأحْص لي ما يقولون وما يكون منهم في مَسيرهم ومَقْدَمهم.

ومما كان خَشَّن قلب أبي العبّاس حتى أساء بهم الظن، أنه لما بَنى مدينةَ الأنبار دخلَها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن، وهو يسير بينهما ويُريهما بُنيانه وِما أقام فيها من المَصانع والقُصور، فظهرت من عبد الله بن الحسن فَلْتة، فجَعل يتمثَل بهذه الأبيات:
ألم ترجَوْ شناً قد صار يَبْني ... قصوراً نَفْعُها لبني نُفَيْلَهْ
يُؤَمِّل أن يُعِمِّر عُمْر َنُوح ... وأَمرُ الله يَحْدث كلّ لَيله
قال: فتغيَر وجهُ أبي العبَّاس. فقال له أبو جعفر: أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة؟ قال: لا والله ما ذهبتُ هذا المذهب ولا أردتُه، ولا كانت إلا كلمة جرتْ على لساني، لم ألقِ لها بالاً. فأوحشتْ تلك الكلمة أبا العباس. فلما قَدِم المدينةَ عبد الله بن حسَن اجتمع إليه الفاطميون، فجعل يُفرَق فيهم الأموالَ التي بَعث بها أبو العباس، فعظُم بها سرورُهم. فقال لهم عبد الله بن الحسن: أفرحتم؟ قالوا: وما لنا لا نَفرح بما كان مَحجوباً عنَا بأيدي بني مَروان حتى أتى الله بقَرابتنا وبني عَمِّنا، فأصاروه إلينا. قال لهم: أفَرَضيتُم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قومٍ آخرين؟ فخرج الرجلُ الذي كان وكَّله أبو العباس بأخبارهم، فأخبره بما سمع من قولهم وقولِه؟ فأخبر أبو العبّاس أبا جعفر بذلك، فزادت الأمور شرّاً.
ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة، وكتب إلى عامله: أن أعط الناسَ في أيديهم ولا تَبعث إلى أحدٍ بعطائه، وتَفقّد بني هاشم ومَن تخلَف منهم ممّن حضر، وتحفّظ بمحمد وإبراهيم، ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحدٌ عن العطاء إلا محمد وإبراهيم، ابنا عبد الله بن الحسن، فإنهما لم يَحضرُا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبتدأ سنة تِسْع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويُخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبدُ اللهّ: إنه لا يَدري أين هما ولا أين توَجها، وإن غيبَتهما غيرُ معروفة. فلم يلبث أبو جعفر، وكان قد أذكى العُيون ووَضع الأرصاد، حتى جاءه كتابٌ من بعض ثقاته يُخبره أنّ رسولاً لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخُراسان يَسْتدعيهم إليهم. فأمر أبو جعفر برِسولهم، فأتي به وبكُتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطَوابعها، لم يَفتح منها كتاباً، وردّ إليه رسولَه، وكتب إليه: إني أتيت برسولك والكُتب التي معه، فرددتُها إليك بطوابعها كراهيةَ أن أطلع منها على ما يُغَيِّر لك قلبي، فلا تَدْعُ إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفُرقة بعد الاجتماع، وأظْهِر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيثُ تحب من الولاية والقرابة وتَعظيم الشرف. فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصَّل في كتابه، ويُعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد الْتئامه. ثم جاءه كتابُ ثقة من ثقاته يذكر أنَ الرسول بعينه خَرج بالكُتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المُهلبي، فإن أراده أميرُ المؤمنين فَلْيضع عليه رَصَده. فوضع عليه أبو جعفر رَصده. فأتي به إليه ومعه الكُتب، فحَبس الرسولَ وأمضى الكُتبَ إلى خُراسان مع رسول من عنده من أهل ثقاته. فقدمتْ عليه الجواباتُ بما كره، واسْتبان له الأمرُ. فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول:
أريد حياتَه ويُريد قتلي ... عذيرَك مِن خليلك من مُرادِ
أما بعد، فقد قرأتُ كُتبك وكُتب ابْنيك وأنفذتُها إلى خُراسان، وجاءتني جواباتُها بتَصديقها، وقد استقرّ عندي أنك مُغَيبٌ لابنيك تعرف مكانَهما، فاظْهِرهما إليّ، فإن لك في أن أعظم صِلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتْهما قرابتُهما، فتدارك الأمورَ قبل تفاقُمها.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
وكيف أريد ذاك وأنت منى ... وزَنْدُك حين تُقْدح من زِنادِي
وكيف أريد ذاك وأنت منِّي ... بمَنزلة النياط من الفُؤاد

وكتب إليه: إنه لا يدري أين توجها من بلاد اللّه، ولا يَدري أين صارا، وإنَّه لا يعرف الكُتب ولا يشك أنها مُفتعلة. فلما اخْتَلفت الأمور على أبي جعفر بَعث سَلْم بن. قُتيبة الباهليّ وبَعث معه بماله، وأمره بأمره، وقال له: إنّي إنما أدخلك بين جلدي وعظمي، فلا توطئني عَشْواء ولا تُخْف عني أمراً تَعلمه. فخرج سَلْم بن قُتيبة حتى قَدِم المدينةَ، وكان عبد الله يُبسط له في رُخام المنبر في الروضة، وكان مَجلسه فيه. فجَلس إليه وأظهر له المَحبة والمَيل إلى ناحيته، ثمِ قال له حين أنس إليه: إنَ نفراً من أهل خُراسان وهم فلان وفلان - وسمّى له رجالاً يعرفهم ممن كان يُكاتب ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرُهم - قد بَعثوا إليك معي مالاً، وكتبوا إليك كتاباً. فقَبل الكتاب والمال، وكان المالُ عشرةَ آلاف دينار، ثم أقام معه ما شاء الله حتى أزداد به أنساً وإليه استنامة، ثم قال له: إني قد بُعِثتُ بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد وإلى ولي عهده إبراهيم، وأمرتُ أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتَني إليهما وأدخلتَني عليهما أوصلتُ إليهما الكتابين والمال، ورحلتُ إلى القوم بما يُثلج صدورَهم، وتَقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإنْ كان أمرهما مظلماً، ولِم تكن تعرف مكانهما، لم نخاطر بدينهم وأموالهم ومُهجهم. فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تَفْسد عليه من حيث يرجو صلاحها إلا بإِيصاله إليهما وأظهارهما له أوْصله، فدفعَ الكتابين مع أربعين ألف درهم، ثم قال: هذا محمد وهذا إبراهيم. فقال لهم: إنَ من ورائي لم يَبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرَف إلى قوم إلا بجُملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخُطة ووجبت له هذه الدَّعوة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هنا من هو أقربُ من رسول الله رَحماً وأوجبُ حقّاً منه. قال: ومن هو؟ قال: أنت إلا أن يكون عندك ابنك محمد أثرٌ ليس عندك في نفسك. قال: فكذلك الأمرُ عندي. قال له: فإنَّ القومَ يَقتدون بك في جميع أمورهم ولا يُريدون أن يبذلوا دينَهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحُجة يرجون بها لمن قَتل منهم الشهادة، فإن أنت خلعتَ أبا جعفر وبايعتَ محمداً اقتَدَوْا بك، وإنْ أبيْتَ اقتَدَوا بك أيضاً في تَركك ذلك ثقةً بك لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَوْضعك الذي وَضعك الله فيه. قال: فإنّي أفعل. فبايَعَ محمداً وخلع أبا جعفر. وبايعه سَلْم من بعده، وأخذ كُتبَه وكتبَ إبراهيم ومحمد وخرج. فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسمُ، فأخبره حقيقة الأمر ويقينه. فلما دخل أبو جعفر المدينةَ أرسل إلى بني الحسن فجَمَعهم، وقال لسَلْم: إذا رأيتَ عبد الله عندي فقُم على رأسي وأشِرْ إليَ بالسلاح، ففعل. فلما رآه عبد الله سُقط في يده وتغيَّر وجهه. فقال له أبو جعفر: مالك أبا محمد، أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فاقِلْني وصلْتك رحم. فقال له أبو جعفر: هل علمتَ أنك تعرف موضع وَلَديك وأنه لا عُذر لك وقد باح السرُّ، فأظهرهما لي، ولك أن أصلَ رحمك ورَحمهما، وأن أعظم ولايتهما وأعطيَ كلّ واحد منهما ألف ألفِ درهم. فتراجعٍ عبد الله حتى انكفأ على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلاً، فأمر بِحبسهم جميعاً. وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعَبّأ على القتال، ولم يَشك أنَّ أهل المدينة سيُقاتلونه في بني حَسن، فعبّأ ميمنة وميسرة وقَلْباً وتهيأَ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مُعطياً يُعطون العطايا. فلم يتحرك عليه منهم أحد، ثم مَضى بهم إلى مكَة.

فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمدُ بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر: مِن عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله " إِنما جَزاءُ الذينَ يحاربُون الله ورسولَه ويَسْعَوْن في الأرض فَساداً أن يُقَتلوا أوْ يُصلّبُوا أو تُقطَّع أيدِيهم وأرْجُلُهم من خِلاف أو يُنْفَوا من الأرض ذلك لهم خِزْى في الدُّنيا ولهم في الآخرة عذاب عَظيم. إلا الذين تَابُوا مِن قبْل أنْ تَقْدِروا عليهم فاعلموا أنّ الله غَفُورٌ رَحيم " . ولك عليّ عهدُ الله وميثاقه وذمَّة الله وذمة نبيّه، إن أنتُما أتيتُما وتُبتما ورَجعتما من قبل أن أقدرَ عليكما وأن يقع بيني وبينكما سَفك الدماء، أن أؤمنكما وجميعَ ولدكما. ومن شايعكما وتَابَعكما على دِمائكم وأموالكم، وأوسعكم ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألفَ ألفِ درهم لكلِّ واحد منكما، وما سألتما من الحوائج، وأبوئكما من البلاد حيث شئتُما، وأطْلِق من الحبس جميعَ ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحداً منكما بذَنب سَلف منه أبداً. فلا تُشمت بنَا وبك عدوّنا من قريش، فإن أحببْتَ أن تتوثق من نفسك بما - عرضتُ عليك، فوَجَّه إليَّ مَن أحببْتَ ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق ما تأمن وتطمئن إليه إن شاء الله والسلام.
فأجابه محمدُ بن عبد اللهّ: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد " طَسِم. تلك آياتُ الكِتَاب المُبِين. نَتْلو عليكَ مِن نبأ مُوسى وفِرْعوْن بالحقِّ لقوم يُؤْمنون " إلى قوله " وما كانَوا يَحْذَرون " . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضتَه، فإنَّ الحقَّ معنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخَرجتم إليه بشِيعتنا، وحَظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا رحمه الله كان الإمام فكيف ورثتم ولايةَ ولده وقد علِمتُم أنه لم يطلب هذا الأمر أحدٌ بمثل نَسَبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظِّئار، ولا من أبناء الطُّلقاء، وأنه ليس يَمُتُّ أحدٌ بمثل ما نَمُتّ به من القرابة والسابقة والفضل وأنا بنو أم أبي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم، وأنّ الله اختارنا واخْتار لنا، فولدنا من النبيّين أفضلُهم، ومن الألف أوّلهم إسلاماً علي بن أبي طالب، ومن النّساء أفضلُهن خديجة بنت خُويلد، وأول مَن صلّى إلى القبلة منهن، ومن البنات فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة، ولدت الحَسن والحُسين سيدَي شباب أهل الجنة صلواتُ الله عليهما، وأنَ هاشماً وَلد عليا مرتين، وأنَّ عبد المطلب وَلد حسناً مرتين، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وأني من أوسط بني هاشم نَسباً وأشرفهم أباً وأمّاً لم تُعْرِق فيّ العجم ولم تُنازع فيّ أمهاتُ الأولاد. فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمهات في الجاهليّة والإسلام، حتى أختار لي في النار، فأَنا ابنُ أرفع الناس درجةً في الجنّة، وأهونهم عذاباً في النار، وأبي خيرُ أهل الجنة، وأبي خيرُ أهل النار، فأنا ابن خير الأخيار، وأبن خير الأشرار، فلك اللّهُ، إن دَخلتَ في طاعتي وأوجبتَ دَعْوتي، أن أؤمِّنك على نَفسك ومالك ودَمك وكلِّ أمرٍ أحدثتَه، إلا حداً من حُدود اللّه، أو حقَّ امرئ مُسلم أو مُعاهد، فقد علمتَ ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعَهد؟ لأنك لا تُعطي من العهد أكثرَ مما أعطيتَ رجالاً قبلي. فأيَ الأمانات تُعطيني: أمانَ ابن هبيرة، أو أمانَ عمك عبد الله بن عليّ، أو أمانَ أبي مُسلم. والسلام.

فكتب إليه أبو جعفر المنصور: من عبد الله أمير المُؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حَسن، أما بعد. فقد بلغني كتابُك، وفهمتُ كلامَك، فإذا جُل فخرك بقَرابة النِّساء، لتضل به الغوغاء. ولم يَجعل الله النساءَ كالعُمومة والآباء، ولا كالعَصبة الأولياء؟ لأن الله جعل العمَّ أباً وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى. ولو كان اختيارُ الله لهنّ علىِ قدر قَرابتهن لكانت آمنة أقربَهن رَحِماً، وأعظمَهن حقًا، وأولَ مَن يدخل الجنة غداً، ولكنّ اختيارَ الله لخَلقه على قدر عِلْمه الماضيِ لهم. فأما ما ذكرتَ من فاطمة جدَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإنَ الله لم يَرزق أحداً من وَلدها دينَ الإسلام ولو أنَّ أحداً من ولدها رُزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكُل خَيْر في الدُّنيا والآخر، ولكنّ الأمرَ لله يَختار لدِينه مَن يشاء. وقد قال جل ثناؤه: " إنكَ لا تَهْدِيِ مَن أحْبَبْتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَن يَشاء وهُو أعلمُ بالمُهتَدِين " . وقد بعثَ الله محمد صلى الله عليه وسلم وله عُمومة أربعة، فأنزل الله عليه: " وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقرَبين " . فَدعاهم فأنذرهم، فأجابه اثنان أحدُهما أبِي، وأبي عليه اثنان أحدُهما أبوك، فقطع الله ولايتَهما منه، ولم يَجعل بينهما إلا ولا ذمَة ولا مِيراثاً. وقد زعمتَ أنك ابنُ أخفِّ أهل النار عذاباً وابنُ خير الأشرار، وليس في الشرِّ خِيارٌ، ولا فَخرَ في النار، وسترد فتَعلم " وسَيعلم الذيِ ظَلمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنْقَلبون " . وأما ما فَخرتَ به من فاطمةَ أمّ عليّ، وأنّ هاشماً ولد عليَّا مرتين، وأنِّ عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وَلدك مرَّتين، فَخيرُ الأولين الآخِرين رسوِلُ الله صلى الله عليه وسلم، لم يَدله هاشمٌ إلا مرَّة واحدة، ولا عبدُ المطلب إلاَ مرة واحدة. وزعمت أنّك أوسطُ بني هاشم نَسَباً وأكرمُهم أباً وأمّاً، وأنك لم تَلِدْك العَجم، ولمِ تُعْرِق فيك أمَّهاتُ الأولاد، فقد رأيتُك فَخرتَ على بني هاشم طُرًّا، فانظُر أين أنت ويحك من الله غداً! فإنك قد تعدّيت طَوْرك، وفَخرت على مَن هو خيرٌ منك نفساً وأبا وأوّلاً وآخِراً: فَخرتَ على إبراهيم ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل خيار ولدِ أبيك خاصة وأهلُ الفَضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما وُلد منكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من عليّ بن الحُسين، وهو لأم ولد، وهو خَيرٌ من جَدِّك حَسن بن حسن. وما كان فيكم بعدَه مثلُ ابنه محمد بن عليّ، وجدته أم ولد، وهو خيرٌ من أبيك، ولا مثلُ ابنه جَعفر، وهو خيرٌ منك، وجدّته أم ولد. وأما قولُك: إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول: " ما كانَ محمداً أبَا أحَدِ مِن رِجالِكم ولكنْ رسولُ الله وخاتَم النبيّين " ولكنكم بنو ابنتِه وهي امرأة لا تُحرز ميراثَاً، ولا تَرث الوَلاء، ولا يَحل لها أن تَؤُم، فكيف توَرت بها إمامة، ولقد ظَلمها أبوك بكُل وجه، فأَخرجها نهاراً مرَّضها سِرّاً، ودَفنها ليلاً. فأبي الناس إلا تقديم الشيخين وتفضيلَهما.
ولقد كانت السُّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدَّ أبا الأم والخال والخالةَ لا يرثون.

وأما ما فَخرتَ به من عليِّ وسابقته. فقد حضرتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ، فأمر غيرَه بالصلاة. ثم أخذ الناسُ رجلاً بعد رجل فما أخذه، وكان في الستّة من أصحاب الشُّورى، فتركوه كُلهم: رفضه عبدُ الرحمن بن عوف، وقاتله طَلحة والزبير، وأبى سعدٌ بيعتَه وأغلق بابَه دونه، وبايع معاويةَ بعده. ثم طلبها بكلِّ وجه فقاتل عليها، ثم حَكّم الحَكَمين ورضي بهما وأعطاهما عهدَ الله وميثاقَه، فاجْتمعا على خَلْعه واخْتلفا في مُعاوية. ثم قال جدُّكَ الحسن فباعها بِخرَق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعتَه بيد مُعاوية، ودَفع الأموالَ إلى غير أهلها، وأخذَ مالاً من غير ولائه. فإن كان لكم فيها حقّ فقد بِعْتموه وأَخذتُم ثمنَه. ثم خرج عمُّك الحُسيَن على ابن مَرْجانة، فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه وأتوا برأْسِه إليه. ثم خرجتُم على بني أُمية فقتّلوكم وصَلّبكم على جُذوع النخل وأحرقوكم بالنِّيرانِ ونَفوكم من البُلدان، حتى قُتل يحيى بن زيد بأرض خُراسان، وقَتلوا رجالَكم وأسروا الصِّبْية والنِّساء وحَملوهم كالسَّبي المجلوب إلى الشام. حتى خرجنا عليهم فَطلبنا بثأرِكم، وأدْركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضَهم وديارَهم وأَموالَهم، وأردنا إشراككم في مُلكنا، فأبيتم إلا الخروجَ علينا. وظننتَ ما رأيتَ من ذكرنا أباكَ وتَفصيلنا إياه أنّا نُقدمه على العبَّاس وحمزة وجَعفر، وليس كما ظننْتَ ولكنّ هؤلاء سالمون مُسلّم منهم، مُجتمع بالفضل عليهم.
وابتُلى بالحرب أبوكَ، فكانت بنو أمية تَلعنه على المنابر كما تَلعن أهلَ الكفر في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكرنا فَضلة وعنَّفناهم وظَلِّمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أنَّ المكْرمة في الجاهلية سقايةُ الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعبَّاس من بين إخوته، وقد نازعَنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم نَزل نَليها في الجاهليّة والإسلام. فقد علمتَ أنه لم يَبْق أحد مِن بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غيرَ العبَّاس وحدَه، فكان وارثَه من بين إخوته. ثم طلب هذا الأمرَ غيرُ واحد من بني هاشم فلم يَنله إلا ولدُه، فالسقاية سقايتُنا، وميراث النبيِّ صلى الله عليه وسلم ميراثُنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فَضل ولا شَرف في الجاهليَّة والإسلام إلاَ والعبَّاس وارثه ومُورِّثه، والسلام.
فلما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحَسن بالمدينة بايعه أهلُ المدينة وأهل مكّة.
وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان، فاجتمع الناسُ إليه، فنَهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلّب، فسلّم إليه البَصرة بغير قتال. وأَرسل إبراهيمُ بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيْشاً، فأخذها بعد قتال شديد، وأرسلِ جيشاً إلى واسط فأَخذها. ثم إن أبا جَعفر المَنصور جَهَّز إليهم عيسى بنَ موسى، فَخرج إلى المدينة، فلقيه محمدُ بن عبد الله، فانهزم بأَصحابه وقُتل. ثم مضى عيسى بنُ موسى إلى البصرة فلقى إبراهيمَ بن الحسن، فقتله وبَعث برأْسه إلى أبي جعفر.
وقال رجل من أَهل مكّة: كُنَّا جلوساً مع عمرو بن عُبيد بالمَسجد، فأتناه رجلٌ بكتاب المَنصور على لسان مُحمد بن عبد الله بن الحَسن يَدعوه إلى بيعته، فقرَأه ثم وَضعه. فقال له الرسول: الجواب. فقال: ليس له جواب، قُل لصاحبك يَدعْنا نَجلس في الظلِّ ونَشرب من هذا الماء البارد حتى تأتيَنا آجالُنا.
مروان بن شجاع، مولى بني أميَّة، قال: كنتُ مع إسماعيل بن عليّ بفارس أؤدب ولَده، فلما لَقِيته المُبيِّضة وظفر بهم أتى منهم بأربعمائة أسير، فقال له أخوه عبدُ الصمد، وكان على شُرطته: أضرب أعناقهم. فقال ما تقول يا مروان؟ قلت: أصلح الله الأمير، إنه أوَل مَن سَنِّ قِتال أهل القِبْلة عليُ بن أبي طالب، فَرأى أن لا يُقتل أسير، ولا يُجهز على جريح، ولا يُتبع مولى. قال: خُذ بيعتَهم وخلّ سبيلَهم.
قيل لمحمد بن علي بن الحسين: ما أقَل ولدَ أبيك؟ قال: إني لأعجبُ كيف وُلدُت له! قيل له وكيف ذلك؟ قال: إنه كان يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يَتفرَّغ للنساء؟

ولما وَجَّه المَنصورُ عيسى بنَ موسى في مُحاربة بني عبد الله بن الحسن، قال: يا أبا موسى إذا صرتَ إلى المدينة فادْع محمدَ بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدُخول في الجماعة، فإن أجابك فاقْبل منه، وإن هَرب منك فلا تَتبعه، وإن أبي إلا الحربَ فناجزْه واسْتعن بالله عليه، فإذا ظفرتَ به فلا تُخيفنَّ أهلَ المدينة وعُمَهم بالعفو، فإنهم الأصلُ والعشيرة وذُرَية المهاجرين والأنصار، وجيران قَبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه وصيَّتي إياكَ، لا كما أوصىَ به يزيدُ بن فعاوية مُسلمَ بن أبي عُقبة حين وجه إلى المدينة وأمرَه أن يَقتل مَن ظَهر له إلى ثنية الوَداع، وأن يُبيحها ثلاثة أيام، ففَعل. فلما بلغ يزيدَ ما فعله تمثّل بقول ابن الزَبَعْري في يوم أحد حيث قال:
ليت أشياخِي ببَدرِ شَهِدُوا ... جَزَع الخَزْرج مِن وَقْع الأسَلْ
ثم اكتُب إلى أهل مكة بالعَفو عنهم والصفح، فإنهم آلُ الله وجيرانُه، وسُكّان حَرمه وأمْنه، ومَنبت القوم والعشيرة، وعظّم البيتَ والحَرم، لا تُلحِد فيه بظُلم، فإنه حَرم الله الذي بَعث منه نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم، وشرّف به آباءنا لتَشريف الله إيانا. فهذه وصيتي لا كما أوصى به الذي وجه الحجاجَ إلى مكّة فأمره أن يَضع المَجانيق على الكَعبة وأن يُلحد في الحرم بظُلم، ففعل ذلك. فلما بلغه الخبرُ تمثّل بقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يَجْهلنْ أحدٌ علينا ... فنجهَلَ فوِقَ جَهلاً لجاهلينا
لنا الدُّنيا ومن أضحى عليها ... ونَبْطِش حين نَبْطش قادِرينا
الرياشي قال: قال عيسى بنُ موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة حَرْب بني عبد الله بن الحسن، جعل يُوصيني ويكثر. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إلى كم توصيني؟
إنِّي أنا السيفُ الحُسام الهِنْدي ... أكلتُ جَفني وفَريت غِمْدي
فكُل ما تطلب منيعندي
وقال مُعاوية يومًا لجُلسائه: مَن أكرم الناس أباً وأمًا وجداً وجَدةً وعماً وعمَةً وخالاً وخالة؟ فقالوا: أميرُ المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن عليّ وقال: هذا، أبوه علي بن أبي طالب، وأمُّه فاطمة بنت محمد، وجدّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، و جدَته خديجة، وعمّه جعفر، وعمَّته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم بن محمد، وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم الرَّياشيّ عن الأصمعي قال: لما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فبايعه أهلُ المدينة وأهلُ مكّة، وخرج إبراهيمُ أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط، قال سُديف بن مَيمون في ذلك:
إنَ الحَمامة يوم الشَعب من حَضَن ... هاجت فؤادَ مُحبّ دائِم الحَزَنِ
إنا لنأمُل أن ترتد ألفتنا ... بعد التباعد والشَّحْناء والإحَن
وتَنْقضي دولةٌ أحكامُ قادتها ... فيها كأحكام قَوْم عابدِي وَثَنِ
فانهَض ببَيعتكم نَنهض بطاعتنا ... إنَّ الخلافةَ فيكم يا بَنىِ حَسن
لا عَزّركنُ نِزارٍ عند نائبة ... إنْ أسلموك ولا رُكنٌ لذي يَمنِ
ألست أكرمَهم يوماً إذا انتسبوا ... عُوداً وأنقاهم ثوباً من الدَرِن
وأعظمَ الناس عند الله منزلةً ... وأبعدَ الناس من عَجز ومن أفن
فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استُطير بها. فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سُديفاً فيدفنَه حياً، ففعل.
قال الرياشي: فذكر هذه الأبيات لأبي جعفر، شيخ من أهل بغداد. قال: هذا باطل، الأبيات لعبد الله بن مصعب، وإنما كان سببُ قتل سُديف أنه قال أبياتَاً مُبهمة، وكتب بها إلى أبي جعفر، وهي هذه:
أسرفت في قَتل الرعيّة ظالماً ... فاكفف يدَيك أضلَّها مَهديُها
فلتأتينّ رايةٌ حسنيه ... جرارة يقتادها حسنيها

فالتفت أبو جعفر، فقال لخازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكِّراً، حتى إذا لم يبق إلا أن تَضع رجلَك في الغَرز اثتني، ففعل. فقال له: إذا أتيت المدينة فادخل مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم فدَع سارية وثانية، فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدَم يُكثر التلفت، طويل كبير، فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب، واذكر شدّة الزمان عليهم ثلاثة أيام، ثم قُل له في الرابع: مَن يقول هذه الأبيات:
أسرفتَ في قتل الرعية ظالما
قال: ففعل. فقال له الشيخ: إن شئت نبّأتك مَن أَنت؟ أنت خازم ابن خُزيمة، بعثك إليَّ أميرُ المؤمنين لتعرف مَن قائل هذا الشعر، فقُل له: جُعلت فداك، والله ما قلتُه ولا قاله إلا سُديف بن ميمون، فإني أنا القائل وقد دَعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد اللّه:
دعَوني وقد شالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نارُ الحُباحب
أبا للّيث تغترُّون يَحْمي عرينَه ... وتَلْقون جهلاً أًسدَه بالثعاَلب
فلا نَفعتْني السنُّ إن لم يَؤُزّكم ... ولا أَحكَمْتني صادقاتُ التجارب
قال: وإذا الشيج إبراهيمُ بن هَرْمة. قال: فقدمتُ على المنصور فأَخبرته الخبر. فكتب إلى عبد الصمد بن عليّ، وكان سُديف في حَبسه، فأَخذه فدَفنه حياً.
قال الرياشيّ سمعتُ محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابنِ أبي حفصة: ما أغراك ببني عليّ؟ قال: ما أحدٌ أحبَّ إليّ منهم، ولكني لم أجد شيئاً أنفَع عند القوم منه. ولما دخل زيدُ بن عليّ على هشام بن عبد الملك قال له: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة. قال له: أمّا قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيبَ إلا اللّه، وأما قولك إني ابن أمة. فهذا إسماعيل ابنُ أمة، أخرج الله من صُلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وإسحاقُ ابن حُرّة، أخرج الله من صُلبه القِردة والخنازير وعَبدة الطاغوت، وخَرج من عنده، فقال: ما أحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذلّ، فقال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وقال زيد بن عليّ عند خُروجه من عند هشام بن عبد الملك:
شرَده الخوفُ وأزْرى به ... كذاك مَن يَكْره حَرّ الجلادْ
مُحْتفَى الرِّجلين يَشكو الوَجَى ... تَقرعه أطرافُ مَرْو حِدَاد
قد كان في الموت له راحةٌ ... والموتُ حَتْم في رِقاب العِباد
ثم خَرج بِخُراسان، فقُتل وصُلب. فيه يقول سُديف لأبي العبَّاس يُغريه ببني أمية حيث يقول:
واذكُروا مصرعَ الحُسين وزيداً ... وقتيلاً بجانب المِهراس
يريد إبراهيم الإمام، أخا أبي العبّاس.
باب من فضائل
علي بن أبي طالب رضي الله عنهعوانةُ بن الحَكم قال: حجّ محمدُ بن هشام، ونزلتْ رفقة، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه الناس، وهو يأمر وينهى، فقال محمدُ بن هشام لمن حولَه: تجدون الشيخَ عراقياً فاسقاً. فقال له بعضُ أصحابه: نَعم، وكُوفيا مُنافقاً. فقال محمد: عليّ به، فأتي بالشيخ. فقال له: أعراقيّ أنت؟ فقال له: نعم، عراقيّ. قال: وكوفيّ؟ قال: وكُوفي. قال، وتُرابيّ؟ قال: وترابيّ، من التراب خُلقت وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوي أبا تُراب؟ قال: وَمن أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابنَ عمّ رسوله الله صلى الله عليه وسلم و زَوج فاطمةَ ابنتِه، وأبا الحسن والحُسين؟ قال: نعم. قال: فما قولك فيه؟ قال: قد رأيتُ من يقول خيراً ويَحمد، ورأيت من يقول شرّاً ويذُم. قال: فأيهما أفضلُ عندك، أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن علياً جاء بوزن الجبال حسنات ما نَفعني، ولو أنه جاء بوزنها سيّئات ما ضرّني، وعثمان مثلُ ذلك. قال: فاشتم أبا تراب. قال: أو ما تَرضى مني بما رَضي به مَن هو خير منك ممن هو خيرُ منّي هو شرّ من عليّ؟ قال: وما ذاك؟ قال رضي اللهّ، وهو خير منك، مِن عيسى، وهو خير منّىِ، في النصارى، وهم شرّ من عليّ إذ قال: " إن تُعذَبهم فإنهم عبادُك وإن تَغْفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم " .

الرّياشيّ قال: أنتقص ابنٌ لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً فقال له أبوه: يا بُني: إنه والله ما بَنت الدنيا شيئاً إلا هَدمه الدِّين، وما بَنى الدينُ شيئاً فهَدمته الدنيا. أما ترى عليا وما يُظهر بعضُ الناس من بُغضه ولَعنه على المنابر، فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يَندبون به موتاهم من المَدح بين الناس، فكأنما يكشفون عن الجيَف.
قدم الوليدُ مكةَ، فجعل يطوفَ البيتَ، والفضلُ بن العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب يستقي من زَمزم وهو يقول:
يأيها السائلُ عن علي ... تسأل عن بَدرٍ لنا بَدْرِيّ
مُردَدٍ في المجد أبطحي ... سائلةٍ غُرّته مَضيّ
فلم يُنكر عليه أحد.
العُتبي قال: قيل يوماً لمَسلمة بن هلال العَبديّ: خَطب جعفر بن سليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسمع مثلُها قط، وما دَرينا أوجُهه كان أحسنَ أن كلامُه! قال: أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون، وبلسان النبوّة ينطقون.
وكتب عَوَّام، صاحب أبي نُواس، إلى بعض عُمّال ديار رَبيعة:
بحقّ النبي بحقِّ الوصيّ ... بحق الحُسين بحق الحَسَنْ
بحق التي ظلِمت حقَها ... ووالدُها خيرُ مَيّتٍ دُفِن
ترفَّق بأرزاقنا في الخِراج ... بتَرفيهها وبحَطّ المُؤن
قال: فاسقط عنه الخِراج طولَ ولايته.
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضيِ القضاة، فقال: إنّ أميرَ المؤمنين أمرني أن احضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه يَفْقَه ما يُاقل له ويُحسن الجواب، فسمُّوا من تَظنّونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين. فسمَّينا له عِدة، وذكر هو عِدة، حتى تمَّ العددُ الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبُكور في السَّحر، وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك. فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه، حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف. فلما نَظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين يَنتظرك، فأدخلنا. فأُمرنا بالصلاة، فأخذنا فيها، فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا، فدَخلنا. فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطّويلة وعمامته. فوقفنا وسلّمنا، فردّ السلام، وأمرنا بالجلوس. فلما استقرّ بنا المجلسُ تحدّر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك، وأما الخُفّ فما مِن خَلْعه علة، من قد عرفها منكم فقد عَرفها، ومن لم يَعْرِفها فسأعرّفه بها، ومدّ رجلَه. ثم قال انزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم. قال: فأمسكنا. فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين. فتعجّبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا. فلما استقرّ بنا المجلس قال: إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة، فمن كان به شيء من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه، لم يَفقه ما يقول: فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك، وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا أبا محمد، قل ولْيقل القومُ من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة، وهو مُطرق لا يتكلم. حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلّة. ثم لم يزل يَرد على كل واحد منّا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا. ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه، ودينه الذي يَدين الله به. قلنا: فليَفعل أمير المؤمنين وفقّه اللّه. فقال: إن أمير المؤمنين يَدين الله على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بالخلافة. قال إسحاق: قلت: يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة. فقال: يا إسحاق، اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سَل. قلت: من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول الله وأحقُّهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة. قال: صدقت. قال: فأخبرني عمَّن فضل صاحبَه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول اللّه، أَيَلحق به؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم، فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة. قلت: أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضولُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاضلَ أبداً. قال: يا إسحاق: فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك من فضائل عليّ ابن أبي طالب. فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليّ فقل إنه أفضل منه، لا واللّه، ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه. لا واللّه، ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه، لا واللّه، ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه. ثم قال: يا إسحاق، أي

الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه؟ قلت: الإخلاص بالشهادة. كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه؟ قلت: الإخلاص بالشهادة.
قال: أليس السَّبقَّ إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: أقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: " والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون " إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام، فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليّا أسلم وهو حَديث السنّ لا يجوز عليه الحُكم، وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من الله؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل إلهاماً فتُقدّمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى. قلت: أجل، بل دعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. قال: يا إسحاق، فهل يخلو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تَكلَّف ذلك من نفسه؟ قال: فأطرقت: فقال: يا إسحاق، لا تَنسب رسول الله إلى التكلُّف، فإنّ الله يقول: " وما أنا من المُتَكلفِّين " . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر اللّه. قال: فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم؟ قلت أعوذ بالله! فقال: أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إنّ علياً أسلم صبيَاً لا يجوز عليه الحُكم، وقد كُلِّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حُكم الرسول صلى الله عليه وسلم أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى الله عزّ وجلَّ؟ قلت أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليّاً على هذا الخلق أبانَه بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أنّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته، لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه؟ قلت: لا أعلم، ولا أدري فَعل أو لم يفعل. قال يا إسحاق، رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه؟ قلتُ: لا. قال: فدَع ما قد وضعه الله عنّا وعنك. ثم قال: أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل اللهّ. قالت صدقت، فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجد لعليّ في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال؟ في أي الأوقات شئتَ؟ قلت: بدر. قال: لا أريد غيرها، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر، أخبرني كم قَتْلى بدر؟ قلت: نيّف وستون رجلاً من المشركين. قال: فكم قَتل عليٌ وحدَه؟ قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين، والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين، كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَريشه، قال: يَصنع ماذا؟ قلت: يدبِّر. قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريِكاً أم افتقارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبِّر أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون معه شريكاً، أو أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم افتقَار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك؟ أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضلَ ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كل الجيش كان مجاهداً. قال صدقتَ، كل مجاهد، ولكنَ الضارب بالسيف المحاميَ عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الجالس أفضلُ من الجالس، أما قرأتَ في كتاب الله: " لا يَسْتوي القاعِدون من المُؤمِنين غَيْرُ أولى الضَرَر والمجاهدُون في سبيل الله بأمْوالِهم وأنُفسِهم فَضّل الله المُجاهدين بأموالهم وبأنْفُسهم علىِ القاعِدين درجَةَ وكلاَّ وَعَدَ الله الحُسْنَى. وفضَل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " .

قلت: وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال: فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر. قلت: أجل. قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أقرأ عليّ: " هَلْ أتىَ عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يَكُن شَيْئَاً مَذْكوراً " . فقرأت منها حتى بلغت: " يَشربون من كأسٍ كانَ مِزاجها كافوراً " إلى قوله: " ويُطْعِمون الطّعَام على حبه مِسْكيناً ويَتيماً وأسِيراً " . قال: على رِسْلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلتُ: في علي. قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نُطْعِمك لوجه اللّه؟ قلت: أجل. قال: وهل سمعتَ الله وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً؟ قلت: لا. قال: صدقت؟ لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أن رجلاً قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا؟ ولا أدري إن كان رسولُ الله قاله أم لم يقُله، أكان عندك كافراً؟ قلت: أعوذ باللهّ. قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السُّوِرة من كتاب الله أم لا، أكان كافراً؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقاً. يا إسحاقَ، أتروي الحديث؟ قلت: نعمِ. قال؟ فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدَثني به. قال: حدَثته الحديث. فقال: يا إسحاق، إني كنتُ أكلمك وأنا أظنّك غيرَ معاند للحقِّ، فأما الآن فقد بان لي عنادُك، إنك تُوفق أنَّ هذا الحديث صحيح؟ قلت: نعم، رواهِ من لا يُمكنني ردُه. قال: أفرأيتَ أنَ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليّ، لا يخلو من إحدى ثلاثة: مِن أن تكون دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنده مَردودة عليه؟ أو أن يقول: إن الله عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه، أو أن يقول: إن الله عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول. فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول؟ فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق، لا تقل منها شيئاً، فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك، وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله. قلت لا أعلم، وإنَّ لأبي بكَر فضلاً. قال: أجل، لولا إنّ له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه، فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة؟ قلت: قول الله عزِّ وجل: " ثاني اثنين إذْ هُما في الْغَار إذْ يقُولُ لصاحبِه لا تَحْزَن إنَّ الله معَنا " ، فنَسبه إلى صحبته. قال: يا إِسحاق، أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك، إني وجدتُ الله تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً، وهو قوله: " فقال له صاحبُه وهو يُحاوِرُه أَكفَرْتَ بالّذي خَلَقَك مِن تًراب ثم من نُطْفة ثم سَوَّاك رَجُلاً. لكن هو الله رَبي ولا أشرْك برَبِّي أحَداً " . قلت: إن ذلك صاحب كان كافراً، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيّه مُؤمناً، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث، قلت: يا أمير المؤمنين، إن قَدْر الآية عظيم، إن الله يقول: " ثاني اثنين إذ هُما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تَحْزَن، إنَّ الله مَعَنا " . قال: يا إسحاق، تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الاستقصاءِ عليك، أَخبرني عن حُزن أبي بكر، أكان رِضى أم سُخطاً؟ قلت: إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه، وغمًا أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جَوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضىَ أم سُخط؟ قلت: بل رضىَ لله. قال: فكأن الله جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضىَ الله عز وجل وعن طاعته. قلت: أعوذ باللّه. قال: أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضى لله؟ قُلت: بلى. قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: " لا تحزن " نهياً له عن الحزن. قلت: أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق، إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ الله يردّك إلى الحق ويَعْدِل بك عن الباطل لكَثرة ما تَستعيذ به. وحدِّثني عن قول اللّه: " فأَنزَلَ الله سكينتَه عليه " ومَن عنى بذلك: رسولَ الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول اللّه. قال: صدقْت. قال: فحدِّثني عن قول الله عزِّ وجل: " ويَوم حُنَين إذ أَعجَبَتكم كَثرتُكم " إلى قوله: " ثم أنزلَ الله سَكِينَتَه على رسولِه وعلى المُؤمنين "

أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه، والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حَضره من بني هاشم.علم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه، والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حَضره من بني هاشم.
قال: فمن أفضلُ: من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم مَن انهزم عنه ولم يَره الله موضعاً لينزلَها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينةُ؟ قال: يا إسحاق، من أفضل: مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه، حتىِ تمَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فأمره رسولُ للّه بذلك. فبكى عليّ رضي الله عنه. فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفاً عليك، أَفتَسْلم يا رسول الله قال: نعم. قال: سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه. ثم أتى مضجَعه واضطجع، وتسجَّى بثَوبه. وجاء المشركون من قُريش فخفّوا به، لا يشكّون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه، وعليّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه، ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع، كما جَزع صاحبُه في الغار، ولم يَزل عليُّ صابراً مُحتسباً. فبعث الله ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح فلما أصبحِ قام، فنظر القومُ إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما عِلْمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا فلم يَزل عليّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه الله إليه. يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروِه. ففعلتُ. قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث، هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جَرى بينه وبين عليّ، وأنكر ولاء عليّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: من كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال مَن ولاه، وعاد من عاداه. وفي أي موضع قال هذا؟ أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس، فاعلموا ذلك أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون؟

فقلتُ: اللهم نعم. قال: يا إسحاق، أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحْكم؟ لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جَلّ ذكره قال في كتابه: " اتخَذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دُونِ الله " ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم. يا إسحاق، أتروي حديث: " أنت منّي بمَنزلة هارون من موسى " ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَحه وجَحده. قال: فمن أوثق عندك: مَن سمعتَ منه فصحّحه، أو مَن جحده؟ قلت: مَن صحَحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت: أعوذ باللهّ. قال: فقال قولاً لا معنى له، فلا يُوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله. قال: أفما تعلم أنّ هارون كان أخَاً موسى لأبيه وأمه؟ قلت: بلى. قال: فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه؟ قلت: لا. قال: أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ؟ قلت: بلى. قال: فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون، فما معنى قوله: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " ؟ قلت له: إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالاً له. قال: فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له؟ قال: فأطرقتُ. قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب اللّه بينّ. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عزَ وجلّ حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون: " اخلُفْني في قَوْمي وأصلِح ولا تَتَبع سَبيلَ المُفْسدين " . قلت: يا أمير المؤمنين، إِن موسى خَلّفَ هارون في قومه وهو حيّ، ومَضى إلى ربه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته. قال: كلا ليس كما قلت. اخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون، هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إِلى غزاته، هل خلّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان؟ فأنى يكون مثلَ ذلك؟ وله عندي تأويلِ آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه، ولا أعلم أحداً أحتج به، وأرجو أن يكون توفيقاً من الله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله: " واجْعَلِ لي وزيراً منِ أهلي هارون أخي أشدُد به أزرِي وأشركه في أمري كي نُسبّحك كثيراً ونَذْكُرك كثيراً إنك كنتَ بنا بصيراً " : فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى، وزيري منِ أهلي، وأخي أشد به أزري، وأشركه في أمري، كي نَسبح الله كثيراً، ونذكره كثيراً، فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له. قال: فطال المجلسُ وارتفع النهار. فقال يحيى ابن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد الله به بالخير، وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه. قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه اللّه. فقال: و الله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقبلوا القول من الناس " ما كنت لأقبل منكم القول. اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي، اللهم إني أدينك بالتقرّب إليك بحب عليّ وولايته.
وكتب المأمون إلى عبد الجبّار بن سعد المُساحقيّ عامله على المدينة: أن أخطُب الناس وأدعهم إلى بيعة الرِّضا علي بن موسى. فقام خطيباً فقال: يأيها الناس، هذا الأمر الذي كُنتم فيه تَرغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم تَرجون، هذا عليٌّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب:
ستةُ آباءِ همُ ما هُم ... مِن خَير مَن يشرب صَوْبَ الغَمام

وقال المأمون لعليّ بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خَلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته مَن هو أقربُ إليه من عليّ، أو من هو في قُعْدُده؟ وإن ذَهبتَ إِلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر بعدها للحسن والحُسين، وقد ابتزهما عليٌ حَقهما وهما حيّان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه. فلم يجد عليَّ بن موسى له جواباً.
باب من أخبار الدولة العباسيةرُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظّهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العبّاس لم يحضُر؟ قالوا: ولد له مولود. فلما صلى عليّ الظهر، قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه، فقال له: شكرتَ الواهب وبُورك لك في الموهوب، فما سمّيتَه؟ قال: لا يجوز لي أن أُسميه حتى تُسميه أنت. فأمر به فأًخرج إليه فأخذه، فحنّكه ودَعا له وردَّه، وقال: خُذه إليك أبا الأملاك، وقد سميّتُه علياً وكَنّيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاويةُ قال لابن عباس: لك اسمُه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه.
وكان علي سيِّداً شريفاً عابداً زاهداً، وكان يصلّي في كُل يوم ألف ركعة، وضرُب مرَّتين، كلتاهما، ضَربه الوليد، فإحداهما، في تزوجيه لُبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك بن مروان فعضَّ تُفاحة ورَمى بها إليها، وكان أبخر، فدعت بسكّين. فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط عنها الأذى، فطلَّقها، فتزوَّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس، فضَربه الوليد، وقال: إنما تتزوج أمهاتِ أولاد الخُلفاء لتضع منهم. لأنّ مروان بن الحَكم إنما تزوَّج أُم خالد بن يزيد ليَضع منه. فقال عليّ بنُ عبد الله بن عباس: إنما أرادتْ الخُروج من هذه البلدة وأنا ابنُ عمها، فتزوجتُها لأكون لها مَحرماً. وأما ضربهُ إياه في المرة الثانية، فإن محمد بن يزيد قال: حدَّثني مَن رآه مَضروباً يُطاف به على بَعير ووجهُه مما يلي ذنَب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذّاب. قال: فأتيتُه فقلتُ: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكَذِب؟ قال: بلغهم أني أقول إن هذا الأمرَ سيكون في ولدي، والله ليكوننَّ فيهم حتى تملكَهم عبيدُهم الصغار العُيون، العِراض الوجوه، الذين كأنّ وجوههم المجانّ المُطرقة. وفي حديث آخر: إن عليّ بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس وأبو جعفر، فشكا إليه ديناً لزمه، فقال له: كم دَينُك؟ قال: ثلاثون ألفاً، فأمر له بقضائه، فشكره عليه، وقال: وصلتَ رحماً، وأنا أريد أن تستوصي بابنيَّ هذين خيراً. قال: نعم. فلما تولّى، قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخَ قد أهْتَر وأَسنّ وخُولط، فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه عليّ بن عبد الله بن العباس، فقال: والله ليكوننِّ ذلك وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه.
قال محمد بن يَزيد: وحدِّثني جعفرُ بنُ عيسى بن جعفر الهاشميّ قال: حضَر عليُّ بن عبد الله مجلسَ عبد الملك بن مروان، وكان مُكرماً له، وقد أهديت له من خُراسان جارية وفَصّ خاتمَ وسيف. فقال: يا أبا محمد، إنّ حاضر الهدية شريكٌ فيها، فاختر من الثلاثة واحداً. فاختار الجارية، وكانت تسمَّى سُعدى. وهي من سَبي الصغْد من رهط عُجيف بن عَنْبسة، فأولدها سليمان بنَ عليّ، وصالح بن عليّ. وذكر جعفرُ بن عيسى أنه لما أولدها سليمان، أجتنبت فراشه، فمرض سليمانُ من جُدريّ خَرج عليه. فانصرف عليّ من مُصلاَّه فإذا بها على فراشه، فقال: مرحباً بك يا أم سليمان. فوقع عليها فأولدها صالحاً. فاجتنبت فراشَه، فسألها عن ذلك. فقالت: خِفتُ أن يموت سليمان في مَرضه، فينقطع النسبُ بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن إذ ولد تُ صالحاً فالبحرّي إن ذهب أحدهما بقي الآخر، وليس مِثلي وطيئة الرجال.


ج12. كتاب : العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي


وزعم جعفرٌ أنه كانت في سليمان رُتّة وفي صالح مثلُها، وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وكان عليّ يقول: أكره أنْ أوصي إلى محمد ولدي، وكان سيدَ ولده وكبيرَهم، فأشينه بالوصيّة، فأَوصى إلى سليمان. فلما دُفن عليّ جاء محمد إلى سُعدى ليلاً، ولْكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما اصبح غداً عليه سليمان بالوصية، فقال: فقال: أخرجي لي وصيّة أبي. قالت: إن أباك أجلُّ من أن تُخرَج وصيّته ليلاً، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غداً عليه سليمان بالوصية، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصيّة أبيك. فقال: جزاك الله من ابنٍ وأخ خيراً، ما كنت لأثَرِّب على أبي بعد موته كما لم أثَرِّب عليه في حياته.

العُتبي عن أبيه عن جدّه قال: لما اشتكى معاويةُ شكاتَه التي هلك فيها أرسل إلى ناس من جلّة بني أمية، ولم يحضرها سفياني غيري وغير عثمان بن محمد، فقال: يا معشر بني أمية، إني لما خِفْتُ أن يسبقكم الموتُ إليَّ سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قَدَراً، ولكن لأبلغِ عُذْراً. إن الذي اخلِّف لكم من دنياي أمرٌ ستُشاركون فيه وتُغْلبون عليه، والذي أخَلف لكم من رأى أمر مقصور لكم نَفْعه إن فعلتموه، مَخوف عليكم ضرَره إن ضَيّعتموه. إن قريشاً شاركتكم في أنسابكم، وانفردتُم دونها بأفعالكم، فقدَّمكم ما تقدمتُم له، إذ أخَّر غيرَكم ما تأخروا عنه، ولقد جُهل بي فَحَلمْت، ونُقر لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم. إنّ دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول. فإذا كان ذلك كذلك، كان سببُه اختلافَكم فيما بينكم، واجتماعَ المختلفين عليكم، فيُدْبر الأمرُ بضد ما اقبل به. فلستُ أذكر جسيماً يُركب منكم، ولا قبيحاً يُنتهك فيكم، إلا والذي أمسك عن ذكره أكثُرُ وأعظم، ولا مُعوّل عليه عند ذلك أفضلُ من الصبر واحتساب الأجر. سيمادكم القومُ دولتَهم امتداد العِنانين في عُنق الجواد، حتى إذا بلغ الله بالإمر مَداه، وجاء الوقتُ المبلول بريق النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع الحِلْقة المطبوعة على مَلالة الشيء المَحبوب، كانت الدولةُ كالإناء المُكْفأ. فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتَّقه غيركم فيكم، فجعل العاقبةَ لكم، والعاقبةُ للمتقين. قال عمرو بن عُتبة: فدخلتُ عليه يوماً آخر فقال: يا عمرو، أوعيتَ كلامي؟ قلت: وعيتُ. قال: أعِد عليّ كلامي فقد كلمتُكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. قال شبيبُ بن شَيبة الأهتميّ: حججت عامَ هلك هشامُ وولي الوليدُ بن يزيد، وذلك سنة خمس وعشرين ومائة، فبينما أنا مُريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبواب المسجد فَتى أسمرُ رقيقُ السمرة، موفر اللمة. خفيف اللحية، رَحب الجبهة، أقنى بينّ القَنَى، أعينُ كأنّ عينيه لسانان يَنطقان، يخلط أبهة الأملاك بزيِّ النُّساك، تَقبله القلوب، وتَتبعه العيون، يُعرف الشَرف في تواضعه، والعِتْق في صُورته، واللُّب في مِشيته. فما ملكتُ نفسي أن نهضتُ في أثره سائلاً عن خبره، وسَبقنيِ فتحرَّم بالطواف، فلما سبَّع قصد المقام فركع، وأنا أرعاه ببصري. ثم نَهض مُنصرِفاً، فكأن عيناً أصابته، فكبا كَبوة دَميت لها إصْبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوتُ منه متوجّعاً لما ناله مُتّصلاً به، أمسح رجله من عَفر التراب، فلا يَمتنع عليَ، ثم شققتُ حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، وما يُنكر ذلك ولا يَدْفعه، ثم نهض متوكئاً عليّ. وانقدتُ له أماشيه، حتى إذا أتى داراً بأعلى مكّة، ابتدره رجلان تكاد صدورهما تَنفرج من هَيبته، ففتحا له الباب. فدخل، واجتذبني فدخلتُ بدخوله، ثم خلّى يدي وأقبل على القِبْلة، فصلى ركعتين أوجز فيهما في تَمام، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم يَخْف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلُك بي، فمن تكون يرحمك اللهّ؟ قلت: شَبيب بن شيبة التميميّ. قال: الأهتميّ؟ قلتُ: نعم. قال: فرحّب وقَرّب، ووصف قومي بابين بيان، وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجلك، أصلحك اللّه، عن المسألة، وأحب المعرفة. فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبدُ الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما أشبَهك بنَسبك، وأدلَك على مَنْصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبّتك ما لا أبلغه بوَصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا بني تميم، فإنّا قوم يُسعد الله بحُبنا من احبّه، ويُشقي ببُغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمانُ إلى قلب أحدكم حتى يُحبَّ الله ويُحب رسوله، ومهما ضَعُفنا عن جزائه قوِي الله على أدائه. فقلت له: أنت تُوصف بالقلم وأنا من حَمَلته، وأيامُ الموسم ضَيقة، وشُغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء احب أن أسأل عنها، أفتأذن لي فيها جُعلت فداك؟ قال: نحن من أكثر الناس مُستوحشون، وأرجو أن تكون للسرِّ موضعاً، وللأمانة واعياً، فإِن كنتَ كما رجوتُ فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والإيمان ما سكَن إليه، فتلا قولَ اللّه: " قُلْ أيّ شيءٍ أكْبرُ شهادةً قُل الله شهيد بَيْني وبَيْنكم " ثم قال: سَل عما بدا لك. قلت:

ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي، خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء، وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه، فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال، فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً، رحمةً منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك، فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها، تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها، فنسأل الله خيرَها، ونعوذ بالله من شرها، فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلباً بحقنا، فنُنصر ويُخذلون، كما نُصر بأولنا أولُهم، ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر، " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا، وإنما يَشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دَولتنا، ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا، فهم مواليهم، ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء، ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه، فتذهب النَّائرة، وتَخبو الفِتْنة، وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ؟ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو؟ قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر، وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد، وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم، ويَرُمّ به ما نَثْلم، ونستغفر الله مما لا نَعلم، وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك، ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال؟ ومع العدوّ التحرّز والإحتيال، والتذلّل والإغتيال؟ وربما أمَلَّ المُدِلّ، وأخلَّ المُسترسل، وتجانب المُتقرّب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا، وهي لوليّنا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدْح في الدين، أو هَتْك للمُلك، أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق؟ وأنصَح وإن باعدك النُّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه، فإنه مَحذول، ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه، فإِنه مَنصور، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصِلْ إذا قطعوك، ولا تَستخْفِ فيمقتوك، ولا تَنْقبض فيتحشَّموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضتُ لوداعه فودَّعته، ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً؟ قال: الله المقدِّر المُوقِّت، فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة، وعليه أخْلِفتْ، وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني، حتى عَرف منزلي، ثم أتاني بكُسوة من كُسوته، فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه، قال: وافترقنا.ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي، خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء، وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه، فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال، فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً، رحمةً منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك، فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها، تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها، فنسأل الله خيرَها، ونعوذ بالله من شرها، فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلباً بحقنا، فنُنصر ويُخذلون، كما نُصر بأولنا أولُهم، ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر، " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا، وإنما يَشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دَولتنا، ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا، فهم مواليهم، ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء، ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه، فتذهب النَّائرة، وتَخبو الفِتْنة، وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ؟ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو؟ قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر، وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد، وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم، ويَرُمّ به ما نَثْلم، ونستغفر الله مما لا نَعلم، وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك، ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال؟ ومع العدوّ التحرّز والإحتيال، والتذلّل والإغتيال؟ وربما أمَلَّ المُدِلّ، وأخلَّ المُسترسل، وتجانب المُتقرّب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا، وهي لوليّنا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدْح في الدين، أو هَتْك للمُلك، أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق؟ وأنصَح وإن باعدك النُّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه، فإنه مَحذول، ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه، فإِنه مَنصور، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصِلْ إذا قطعوك، ولا تَستخْفِ فيمقتوك، ولا تَنْقبض فيتحشَّموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضتُ لوداعه فودَّعته، ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً؟ قال: الله المقدِّر المُوقِّت، فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة، وعليه أخْلِفتْ، وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني، حتى عَرف منزلي، ثم أتاني بكُسوة من كُسوته، فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه، قال: وافترقنا.

قال: فوالله ما رأيتُه إلا وحرسيَّان قابضان عليّ يُدنياني منه في جَماعة من قومي لأُبايعه. فلما نَظر إليَّ أَثبتنَي، فقال: خلِّيا عمن صحَت مودتُه، وتقدَمت حُرمته، وأخدتْ قبل اليوم بيعتُه. قال: فأكبر الناسُ ذلك من قوله، ووجدتهُ، على أوّل عهده لي، ثم قال لي: أين كنتَ عنّي في أيام أخي أبي العبّاس. فذهبتُ أعتذر. قال: أَمسِك، فإنّ لكل شيء وقتاً لا يعدوه، ولن يَفوتك إن شاء الله حظُّ مودّتك وحق مُسابقتك، فاختر بين رِزْقٍ يَسعك أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيَّتك. قال: وأنا لها أحفظ، إنما نهيتُك أن تخطُب الأعمال، ولم أَنهك عن قَبولها. قلت: الرزقُ مع قرب أمير المؤمنين أحبُّ إليَّ. قال: ذلك لك، وهو أجمّ لقلبك، وأَودع لك، وأعفَى إن شاء الله ثم قال: هل زدتَ في عِيالك بعدي شيئاً، وكان قد سألني عنهم، فذكرتُهم له، فعجبتُ من حفظه، قلت: الفرسَ والخادم. قال: قد أَلحقنا عيالَك بعيالنا وخادمك بخادمنا وفرسك بخَيلنا، ولو وسعني لحملتُ إليك بيت المال، وقد ضممتُك إلى المهديّ، وأنا أُوصيه بك، فإنه أَفرغ لك مني.
قال لأحوص بن محمد الشاعر الأنصاريّ، من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الذي حَمت لَحمه الدَّبْر، يُشبِّب بامرأة يقال لها أم جعفر، فقال فيها:
أدورُ ولولا أن أرى أم جَعفر ... بأبياتكم ما دُرت حيث إِدُور
وكان لأم جعفر أخٌ يقال له أيمن، فأستعدَى عليه ابنَ حَزم الأنصاري، وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك، وهو أبو بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزم، فبعث ابنُ حزم إلى الأحوص، فأتاه. وكان ابنُ حزم يُبغضه، فقال: ما تقول فيما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنك تُشبّب بأخته ولد فضحتَه وشَهرت أخته بالشعر. فأنكَر ذلك. فقال لهما: قد اشتبه علي أمرُكما، ولكنني أدفع إلى كُل واحد منكما سَوطاً، ثم اجتِلدا، وكان الأحوص قصيراً نحيفاً، وكان أيمن طويلاً ضخماً جَلْداً. فغلب أيمنُ الأحوصَ، فضَربه حتى صَرعه وأثخنه. فقال أيمن:
لقد مَنع المعروفَ من أم جعفر ... أشمُ طويلُ السّاعدين غَيورُ
عَلاكَ بمَتن السَّوْط حتى أتْقيتَه ... بأصفرَ مِن ماء الصِّفاق يَفُور
قال: فلما رأى الأحوص تحامُلَ ابْنِ حزم عليه امتدح الوليدَ، ثم شَخص إليه إلى الشام، فدخل عليه فأنشده:
لا ترثين لَحزْميٍّ رأيتَ به ... ضُرًّا ولو ألقي الحَزميُّ في النار
الناخسين لمَروان بذي خُشُب ... المُدْخلين على عُثمان في الدار
قال له صدقتَ والله، لقد كُنّا غَفلنا عن حزم وآل حزم ثم دعا كاتبَه فقال: اكتُب عهد عثمان بن حيّان المُري على المدينة، وأعزِل ابن حزم، واكتُب بقبض أموال حَزم وآل حَزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان، ولا يأخذون لأمويّ عطاءً أبداً ففعل ذلك. فلم يزالوا في الحِرمان للعطاء مع ذَهاب الأموال والضِّياع حتى انقضت دولةً بنى أمية وجاءت دولة بني العبّاس. فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة قدم عليه أهل المدينة، فجلس لهم فأمر حاجبَه أن يتقدّم إلى كل رلّ منهم أن يَنتسب له إذا قام بين يديه، فلم يزالوا على ذلك يفعلون، حتى دخل عليه رجلٌ قَصير قَبيح الوجه، فلما مَثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنُ حزم الأنصاريّ الذي يقول فينا الأحوص:
لا تَرثينّ لحزميٍ رأيتَ به ... ضرًا ولو ألقي الحَزميُّ في النار
الناخسين لمروان بذي خُشب ... والمدخلين على عثمان في الدار

ثم قال: يا أمير المؤمنين، حُرمنا العطاء منذ سِنين، وقُبضت أموا لُنا وضياعُنا. فقال له المنصور: أعِد عليَّ البيتين. فأعادهما عليه. فقال: أما والله لئن كان ذلك ضَرَّكم في ذلك الحين ليَنفعنَّكم اليوم، ثم قال: عليَ بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخُوزيّ. فقال: اكتُب إلى عامل المدينة أن يَرُدّ جميع ما اقتطعه بنو أميَّة من ضِياع بني حَزم وأموالهم، ويَحسب لهم ما فاتَهم من عطائهم، وما استُغلَّ من غَلاّتهم من يومئذٍ إلِى اليوم، فيُخلف لهم جميعَ ذلك من ضِياع بني مَروان، ويَفْرض لكُل واحد منهم في شرَف العطاء - وكان شرفُ العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة - ثم قال: عليَّ الساعة بعشرة آلاف دَرهم تُدفع إلى هذا الفتى لنَفقته. فخرج الفتى من عنده بما لم يَخرج به أحد ممن دخل عليه.
ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم
أبو العباس السفاحولد أبو العبَّاس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب مُستهل رجب سنةَ أربع ومائة. وبُويع له بالكوفة يومَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من ربيعٍ الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وتُوُفِّي بالأنبار لثلاثَ عشرَةَ ليلةً خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. فكانت خلافتُه أربعَ سنين وثمانيةَ أشهر. وأمه رَيطة بنتُ عبيد الله بن عبد الله ابن عبد المَدان.
وكان أبيضَ طويلاً أقنَى الأنف حسنَ الوجه حسنَ اللّحية جعدَها. نقشُ خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن " . وصلى عليه عمُه عيسى بن عليّ. ورُزق من الولد اثنين: محمد، من أم ولد، ومات صغيراً، وابنة سمَّاها رَيطة، من أم ولد، تزوَّجها المهديُّ وأولدها عليّاً وعُبيد اللّه.
ووَزَر له أبو سَلمة حَفْص بن سليمان الخلال، وهو أول من لُقِّب بالوزارة.
فقتلهِ أبو العبّاس وأستوزر بعده خالَد بن بَرْمك إلى آخر أيَّامه، وكان حاجَبه أبو غسان صالحُ بن الهيثم، وقاضيَه يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ.
المنصوروبُويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله ابن العبّاس في اليوم الذي تُوفِّي فيه أخوه لثلاثَ عشرةَ خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. وكان مولدُه بالشراة لسبعٍ خَلونَ من ذي الحجة سنةَ خمس وتسعين. وتُوفِّي بمكة قبل التَرْوية بيوم، لسبعٍ خَلَونَ من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسين ومائة وهو مُحْرم. ودُفن بالحَجون. وصلَّى عليه إبراهيمُ بن يحيى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بنِ العبِّاس. وكانت مُدَّة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانيةَ أيام. وكانت سِنّه ثلاثاً وستين سنة. وأمُّه أَمَة اسمها سَلامة. وجِنْسها بربرية.
وكان أسمرَ طُوالاً نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين يَخْضِب بالسواد. ونقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤِمن " . وتزوَج بنت منصور الحِمْيرية، وولدت له: محمداً، وهو المهديُّ، وجعفراً. وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرَّى إلا عن أمرها. وكان قد ابتاع جاريته أمَّ عليّ وجعلها قيِّماً في داره على أمِّ موسى وأولاده. فحظيت عند أمِّ موسى وسألته التسرِّي بها لمَا رأت من فضلها. فواقعها فأولدها عليّاً، وتوفي قبل استكمال سَنة؟ ثم فاطمة بنت محمد، من ولد طَلحة بن عُبيد اللّه، فولدت له سُليمان، وعيسى، ويعقوب. ورُزق من أمهات الأولاد: صالحاً والعالية وجعفراً والقاسمَ والعبَّاس وعبد العزيز.
ووُزر له ابنُ عطية الباهليّ، ثم أبو أيوب الموريانيّ، ثم الربيع، مولاه. وكان حاجبه عيسى بنُ روضة، مولاه، ثم أبو الخَصيب، مولاه. وكان قاضيَه عبدُ الله بن محمد بن صفوان، ثم شريك بن عبد اللّه، والحسن بن عمار، والحجَّاج بن أرطاة.
المهديثم بُويع ابنُه أبو عبد الله محمد المهديُ بن عبد الله المَنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس صبيحة اليوم الذي تُوفي فيه أبوه لستٍّ خلَوِن من ذي الحجة سنةَ ثمان وخمسين ومائة. وكان مولدُه بالحميمة يومَ الخميس لثلاث عشرةَ ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وعشرين ومائة. وتُوفي بما سَبَذان في المُحرم سنة تسع وستين ومائة. وصلّى عليه ابنُه الرشيدُ - فكانت خلافته عشرَ سنين وخمسةً وأربعين يوماً. وكانت سنه إحدى وأربعين سنة وثمانيةَ أشهر ويومين.

وكان أسمرَ طويلاً معتدلَ الخلف، جعدَ الشعر، بعينه اليمنى نُكتة بياض، نقش خاتمه " الله ثقة محمد وبه يؤمن " وتزوَج رَيطة بنت السفاح، وأولدها علياً وعُبيد اللهّ. وأول جارية ابتاعها مَحْياة، فرُزق منها ولداً مات قبل استكمال سنة. وكان يبتاع الجواري باسمها وتُقَربهن إليه. وأول من حَظِي منهن عنده رحيم، ولدت له العباسة، ثم الخَيزران، فولدت له موسى وهارون والبانوقة؟ ثم حللة وحَسنة، وكانتا مغنيتين مُحسنتين. وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أمَ عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد اللهّ، وأعتق الخيزران في السنة وتزوَّجها. ووَزر له أبو عبد الله مُعاوية بن عبد الله الأشعري، ثم يعقوب بن داود السلمي، ثم الفيض بن أبي صالح. واستحجب سلامان الأبْرش. واستخلف علي القضاء محمد بن عبد الله بن عُلاثة، وعافيةَ بن يزيد، كانا يَقْضيان معاً في مسجد الرُصافة.
الهاديثم بويع ابنُه أبو محمد موسى الهادي بن المهديّ مستهل صفر سنة تسع وستين ومائة. وتُوفي ليلة الجمعة لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيعِ الأول سنة سبعين ومائة بعِيساباد. وصلّى عليه أخوه الرشيد. وكانت خلافتُه سنة وشهرين إلا أياماً. وكانت سنُّه ستاً وعشرينِ سنة.
وكان أبيضَ طويلاً جسيماً بشَفته العليا تقلُص. نقش خاتمه " الله ربي " . وتزوَّج أمةَ العزيز، فأولدها عيسى؟ ثم رحيم، فأولدها جعفراً؛ ثم سعوف، فأولدها العباس؟ واشترى جاريته حسنة بألف درهم، وكانت شاعرةً، فرُزق منها عدَة بنات، منهن أم عيسى، تزوَّجها المأمون. وكان له من أمهات الأولاد عبد الله وإسحاق وموسى، وكان أعمى.
ووَزر له الربيع بن يونس، ثم عمر بن بَزيع. واستحجب الفضلَ بن الربيع. وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيمَ، في الجانب الغربيّ، وسعيدَ بن عبد الرحمن الجُمحيّ، بالجانب الشرقي.
هارون الرشيدثم بُويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يومَ الجمعة لأربَع عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة وُلد عبد الله المأمون. ولم يكن في سائر الزمان ليلة وُلد فيها خليفة وتُوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان مولد الرشيد في المُحرم سنة ثمان وأربعين ومائة. وتُوفِّي في جُمادى الأولى سنةَ ثلاث وتسعين ومائة ودُفن بطوس. وصلَّى عليه ابنُه صالح. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستةَ عشر يوماً. وكانت سنُه ستًا وأربعين سنة وخمسة أشهر. ولما أفضتْ إليه الخلافةُ سلّم عليه عمُه سليمان المَنصور، والعبَّاس بن محمد عُم أبيه، وعبدُ الصمد ابن علي عمّ جده، فعبدُ الصمد عم العباس، والعبّاس عمُّ سليمان وسِليمان عم هارون.
وكان الرشيد أبيضَ جسيماً طويلاً جميَلاً. قد وَخطه الشيب. نقش خاتمه " لا إله إلا الله " ، وخاتم آخر " كن من الله على حذر " وتزوَج زُبيدة، واسمُها أمَة العزيز، وتُكنى أمَّ الواحد، وزُبيدة لقب لها. وهي ابنة جعفر بن المَنصوِر، أولدها محمداً الأمين؟ ثم مراجل، فأولدها عبد الله المأمون؟ وماردة، أولدها محمداً المعتصم؟ ونادر، ولدت له صالحاً؟ وشجا، ولدت له خديجة ولبابة؟ وسريرة، ولدت محمداً، وبَربرية، ولدت له أبا عيسى ثم القاسم، وهو المؤتمن؟ وسكينة، وحث، فولدت له إسحاق وأبا العبَّاس.
وَوزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقَتله، ثم الفضل بن الربيع. واستحجب بِشرَ بن ميمون، مولاه؟ ثم محمد بن خالد بن بَرمك. واستخلف على قَضاء الجانب الغربي نُوحَ بن دَرَّاج، وحفصَ بن غِياث.
الأمينثم بويع أبو عبد الله محمد الأمين في جُمادي الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة. وقُتل يومَ الأحد لخمس بقين من المُحرم سنة ثمانٍ وتسعين ومائة. وكان مَولده بالرُّصافة سنةَ إحدى وسَبعين ومائة في شوَّال. فكانت خلافته أربعَ سنين وستةَ أشهر وأياماً. صفا له الأمر في جُملتها سنتين وشهراً. وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سَنتين.
وكان طويلاً جسيماً جميلاً حسنَ الوجه بعيدَ ما بين المَنْكبين، أشقرَ سبطاً، صغير العَينين، به أثر جُدري. نقش خاتمه " محمد واثق بالله " . ورُزق من الولد موسى، من أم ولد تُدعى نَظم، ولَقبه الناطق بالحق، وضرَب اسمَه على الدراهم.
وذكر الصُّولي قال: حدّثني مَن قرأ على دِرهم:

كُل عز ومفخر ... فلمُوسى المُظفِّرِ
مَلك خُطَّ ذِكْرُه ... في الكَتاب المُسَطّرِ
وماتت نَظم فاشتد جزعه عليها، فدخلت زُبيدة معزِّيةً له، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ... ففي بَقائك ممَّن قد مَضى خَلف
عُوِّضت مُوسى فماتت كُال مَرزية ... ما بعد مُوسى على مَفقودةٍ أسف
وبايع لابنه مولى في حياته، ولأخيه عبد اللّه، وأمه أمّ ولد، ونَقَش اسمَه أيضاً على الدراهم.
وكان لجعفر بن موسى الهادي جاريةِّ اسمُها بَذْل، فطلبها الأمين منه، فأبى عليه، وكان شديدَ الوجد بها. فزاره الأمينُ يوماً فسُر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل، فانصرف وأخذ الجارية. فلما أصبح جعفر نَدم على ما جرى ولم يَدْر ما يصنع. فدخل على الأمين. فلما مَثل بين يديه قال له: أحسنت والله يا جعفر بدَفعك بذل إلينا وما أحسنّا. ووَقر زَورقه بعشرين ألفَ ألفِ درهم.
ووَزر للأمين الفضلُ بن الرَّبيع إلى آخر أيامه. وكان حاجبَه العباسُ بن الفضل بن الربيع، ثم عليُّ بن صالح صاحب المُصلّى، ثم السِّندي بن شاهك.
المأمونثم بُويع أبو العبِّاس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قَتل أخيه، يومَ الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولدُه بالياسرية في ليلة الجمعةَ لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وتُوفي بالبَذَنْدُون سنة ثماني عشرة ومائتين لثمانٍ خلون من رجب. ودُفنِ بطرسوس فكانت خلافتُه عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثةَ عشرَ يوماً وكانت سنُه ثمانياً وأربعين سنة وأربعةَ أشهر إلا أياماً.
وكان أبيضَ تعلوه شُقرة، أجنأ أعينَ طويلَ اللحية رقيقَها ضيقَ الجبين، بخدِّه خالٌ أسود، وكان قد وَخطه الشيب. نَقْش خاتمه " سَل الله يُعطك " .
وكان الرشيد حدَّ المؤمون. وذلك أنه دَخل على الرشيد وعنده مُغَنية تُغنيه فلَحنت، فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن، فتغيّر لونُ الجارية وفَطن الرشيد لذلك، فقال: اعْلمتها بما صنعت؟ قال: لا والله يا مولاي. قال: ولا أومأتَ إليها؟ قال: قد كان ذلك. فقال: كُن منّي بمرأى ومَسمع فإذا خرج إليك أمرى فانته إليه، ثم أخذ دواةً وقرطاساً وكتب إليه:
يا آخذ اللَّحن على ال ... قينة عند الطَربِ
تُريد أن تفهمها ... حدَّ لُغات العرب
أقسم بالله وما ... سَطَر أهلُ الكُتب
للكَلب خيرٌ أدباً ... مِن بعض أهل الأدب
إذا قرأتَ ما كتبتُ به إليك، فَأمُر مَن يضربك عشرين مَقرعة جياداً. فدعا المأمون البوابين ثم أمرهم ببَطحه وضَربه، فامتنعوا. فأقسم عليهم، فامتثلوا أمره. ورُزق من الولد محمداً الأصغر، وعُبيد اللّه، من أم عيسى بنت موسى الهادي. وتزوَّج بُوران بنت الحسن بن سَهل، بنى بها سنةَ عشر ومائتين، ووَهب لأبيها عشرةَ آلافِ ألفِ درهم، ولولده ألفَ ألفِ درهم. وكان له عدّة أولاد من بنين وبنات.
ووَزر له الفضلُ بن سهل ذو الرياستين، ثم الحسنُ بن سهل، ثم أحمد بن أبي خالد ثم أحمد بن الأحول، يوسف، ثمِ ثابت بن يحيى، ثم محمد بن يزداد. واستحجب عبدَ الحميد بن شَبيب، ثم محمداً وعلياً، ابني صالح مولى المنصور.
المعتصم باللّه
ثم بُويع أخوه أبو إسحاق المُعتصم بن الرشيد يومَ الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة. وتُوفي بسرَ من رأىِ يوم الخميس لاثنتي عشرةَ ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وصلّى عليه ابنُه هارون الواثق. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. وأمه أم ولد يقال لها ماردة.
وكان أبيضَ أصهبَ اللحية طويلها مَربوعاً مُشرب اللون حُمْرةً. نقش خاتمه " الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن " وكان شديدَ البأس، حَمل باباً من حديد فيه سبعُمائةٍ وِخمسون رطلاً وفوقه عِكام فيه مائتان وخمسون رطلاً، وخَطا خُطا كثيرة وكان يُسمَى ما بين إصبعي المُعتصم المِقطرة، لشدّته. وإنه أعتمد يوماً على غلام فدقَّه. وذكر الصُوليّ أنه كان يسمى المُثمّن، وذلك أنه الثامن من خلفائهم.

ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة. ووَلي الأمرَ في سنة ثماني عشرة ومائتين، وله ثماني وأربعون سنة. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. ورُزق من الولد الذَكور ثمانية، ومن الإناث ثمانياً. وغزا ثماني غزوات. خلَّف في بيت ماله ثمانية آلافِ دينار، ومن الوَرِق ثمانية آلاف ألف درهم.
ووَزر له الفضلُ بن مروان، ثم أحمد بن عمَّار، ثم محمد بن عبد الملك الزيات. واستحجب وَصيفاً مولاه، ثم محمد بن حمّاد بن دَنْفش.
الواثقثم بويع ابنه أبو جعفر هارون صبيحةَ اليوم الذي تُوفي فيه أبوه يومَ الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنةَ سبع وعشرين ومائتين. وكان مولدُه يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة ستّ وتسعين ومائة. وتُوفي بسُرَ مَن رأى يوم الأربعاء لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وصلّى عليه أخوه المتوكّل. فكانت خلافتُه خمسَ سنين وتسعةَ أشهر وثلاثةَ عشر يوماً. وكانت سنّه ستاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياماً.
وكان أبيضَ إلى الصُّفرة، حسنَ الوجه جسيماً في عينه اليمنى نُكتة بياض نقش خاتمه " محمد رسول الله " وخاتم آخر " الواثق بالله " . ورُزق من الولد محمداً المُهتدي، وأبا وأمه أم ولد يقال لها قُرب؟ وعبد الله، وأبا العبَّاس أحمد، وأبا إسحاق محمداً، وأبا إسحق إبراهيم.
ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات. وحاجبه إيتاخ، ثم وصيف مولاه، ثم ابن دَنفش. وقاضيه ابن أبي دُواد.
المتوكلثم بُويع أخوه أبو الفضل جعفر المتوكّل يومَ الأربعاء لستً بقين من ذي لحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكان مولده يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين. وقُتل ليلةَ الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ودُفن في القصر الجعفري. وصلى عليه ابنهُ المُنتصر ولمن عهده. فكانت مدةُ خلافته أربعَ عشرةَ سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وكانت سنّه أربعين إلا ثمانيةَ أيام.
وكان أسمرَ كبيرَ العينين نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين. نقَش خاتمه " على إلهي اتكالي " . وكان كثيرَ الولد.
وَزر له محمد بن عبد الملك الزيات، ثم محمد بن الفضل الجُرجانيّ، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. واستحجب وصيفاً التّركي، ثم محمد بن عاصم، ثم إبراهيم بن سهل. وكان خليفتَه على القضاء يحيى بن أكثم.
المنتصرثم بويع ابنُه أبو جعفر محمد المنتصر لأربع خلوان من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان مولدُه يومَ الخميس لستٍّ خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. فكانت خلافتُه ستة أشهر؟ وسنّه ستاً وعشرين سنة إلا ثلاثةَ أيام.
وكان قصيراً أَسمرَ ضخم الهامة عظيمَ البطن جَسيماً، على عينه اليمنى أثر. نقَش خاتمه " يؤتى الْحذِر من مأمنه " ، وعلى خاتم آخر " أنا من آل محمد. الله وليّ ومحمد " .
ورُزق من الولد عليا وعبدَ الوهاب وعبدَ الله وأحمدَ.
ووَزَر له أحمدُ بن الخصيب. وحاجبه وصيف، ثم بغا، ثم ابنُ المَرزبان، ثم أوتامش.
المستعينثم بويع المُستعين أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن المعتصم يوم الاثنين لأربع خَلون من شهر ربيع الآخر سنةَ ثمان وأربعين ومائتين. وخلع نفسه بموافقة المُعتزّ بوساطة أبي جعفر المَعروف باْبن الكردية، يومِ الجمعة لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين. وقُتل بالقادسية مع خَلعه نفسَه بتسعة أشهر. وأمه أم ولد يقال لها مخارق.
وكان مربوعاً أحمرَ الوجه أشقَر مُسْمِناً عريض المنكبين، ضخم الكراديس، خفيف العارضين، بوجهه أثر جُدري، ألثغ بالسين. نقش خاتمه " في الاعتبار غِنى عن الاختبار " .
وزر له أحمدُ بن الخَصيب، فنكبه، وقلّد مكانَه ابنَ يَزْداد؟ ثم شُجاع بن القاسم، كاتب أوتامش، وأوتامش هذا حاجبه. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة إلا ثمانية أيام.
المعتز

ثم وَلِى أبو عبد الله محمد المعتزّ بن المتوكّل يومَ الجمعة. لأربع خلون منِ المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكانت الفِتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنةَ. وقُتل عشيةَ يوم الجمعة لليلة خلتْ من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان مولده يومَ الخميس لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافتُه منذ بُويع له واجتمعت الكلمةُ عليه ثلاثَ سنين وستةَ أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، ومنذ بايعه أهل سُرِّ من رأى إلى أن قُتل أربعَ سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً. وقتله صالح بن وَصيف.
وكان أبيض شديدَ البياض، رَبْعة حسنَ الجسم، على خدِّه الأيسر خالٌ أسود الشعر. نقش خاتمه " الحمد للهّ رب كل شيء وخالق كل شيء " .
وزر له جعفر بن محمود الإسكافي، ثم عيسى بن فرخان شاه، ثم أحمد ابن إسرائيل الأنباري. وحاجبه سَماء بن صالح بن وصيف. وكانت سنه أربعاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً.
المهتديثم بويع المهتدى أبو عبد الله محمد بن الواثق بسُرَّ من رأى يومَ الأربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وكان مولده يومَ الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة تِسع عشرة ومائتين: وقُتل بسرَ من رأى بسَهم لحقه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. فكانت خلافتُه أحدَ عشرِ شهراً وأربعةَ عشر يوماً. وكانت سنة سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأحدَ عشر يوماً وكان أبيضَ مُشرباً حُمرة، صغيرَ العينين، أقنى الأنف، في عارضيه شيب، و خَضب لما ولي الخلافة: نقش خاتمه " من تعدَى الحق ضاق مذهبه !.
وزَر له أيوب سليمان بن وَهب. وحاجبه باك باك.
المعتمدثم بويع أبو العبَّاس أحمد المعتمد بن المتوكل يومَ الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ستٍ وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة. وكانت سنه خمسين سنة وخمسةَ أشهر واثنين وعشرين يوماً. ومات أخوه وولىّ عهده طَلحة الموفّق في أيامه في صفر سنة ثمان سبعين ومائتين، وكان قد غَلب على الأمر لمَيل الناس إِليه. وكان المعتمد قد عَقد لولده جعفر ولقبه المُفوض، وبعدَه لأبي أحمد طلحة الموفّق، فاشتد أمرُ الموفَق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومَال الناس إِليه، واسمه الناصر لدين للَه، وكان يُدْعى له على المِنبر، في أيام المعتمد، وكان الموفّق حَبس ابنَه أبا العباس المعتضد، فلما حضرتْه الوفاةُ أطلقه للقيام بالأمر، وأجرى المُعتمد أمرَه على ما كان يَجري عليه أمر أبيه الموفق، وافرده بولاية العهد، وأمر بكَتْب الكُتب بخلع ابنه المفوض وأفرد المُعتضد بالعَهد وجَعله الخليفة بعده.
وكان المعتمد أسمر مربوعاً نحيفَ الجسم حسنَ العينين مدوَر الوجه، على وجه أثر جُدريّ. نقش خاتمة " السعيدُ من كفي بغيره " . ووَزر له عبيدُ الله يحيى ابن خاقان، ثم سليمان بن وهب، ثم الحسن بن مَخلد، ثم صاعد بن مخلد، ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حاجبه موسى بن بغا، ثم جعفر بن بغا، ثم بكتمر.
المعتضدوبُويع المعتضد أبو العباس أحمد بن المُوفق في رجب سنة سبع وسبعين ومائتين.
-
وكان مولده في جُمادى الآخرة سنةَ ثلاث وأربعين ومائتين. وتُوفى ببغداد ليلة الثلاثاء لسبع بقين من شهر - ربيع الأخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه أبو عمر القاضي. فكانت خلافته تسعَ سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام. وكانت سنّه خمساً وأربعين سنة وتسعةَ أشهر وأياماً: وأمه ضرِار.
وكان نحيفَ الجسم معتدلَ القامة طويلَ اللحية أسمر. نَقْش خاتمة الاضطرار يزيل الاختيار ووَزر له عُبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم ابنُه القاسم بن عُبيد اللّه. وحاجبه صالح الأمين.
المكتفي

ثم بُويع ابنُه أبو محمد علىّ بن المُعتضد يومَ الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وكان مولدُه في رَجب سنة أربع وستين ومائتين، وتُوفى ببغداد فدُفن عند قبر أبيه ليلةَ الأحد لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وكانت خلافتُه ستَّ سنين وستة أشهر وعشرين يوماً. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وأربعةَ أشهر وأياماً. وأمه جيجق، وقيل خاضع. وكان رَبْعة حسنَ الوجه أسودَ الشعر وافرَ اللحية عريضها، ولم يَشِب إلى أن مات. نقش خاتمه " بالله على بن أحمد يثق. وخلّف في بيت ماله ستة عشر ألفَ ألفِ دينار، ومن الوَرِق ثلاثين ألفَ ألفِ درهم.
ووَزر له القاسم بن عُبيد الله، ثم العباس بن الحسن ثم الحسن بن أيوب. وحاجبُه خَفيف السمَرْقَندىّ، ثم سَوسن مولاه.
المقتدرثم بُويع المقتدر، وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفّى فيه أخوه يومَ الأحد لثلاث عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وخُلع في خلافته دَفعتين، الأولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام بابن المُعتز وبطل الأمر من يومه. والدَفعة الثانية بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، خَلع نفسه وأشهد عليه وأجلس القاهرَ يومين وبعضَ اليوم الثالث. ووقع الخُلف بين العسكرين، وعاد المقتدرُ إلى حاله. وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة لاثنتين وثمانين ومائتين. وقُتل بالشَّماسية يوم الأربعاءِ لثلاثٍ بقين من شوَّال سنة عشرِين وثلثمائة. فكانت خلافتُه خمساً وعشرين سنة إلا خمسةَ عشرا يوماً. وكانت سنّه ثمانياً وثلاثين سنة وشهراً وعشرين يوماً.
وكان أبيضَ مَشرباً حُمرة حسنَ الخلق ضخم الجسم، بعيد ما بين المَنكبين، جعدَ الشعر، مدوَرَ الوجه، قد كَثُر الشيبُ في وجه. نقش خاتمه " الحمد للّه الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير " .
وَوَزر له العبَّاس بن الحسن، ثم علىّ بن محمد بن موسى بن الفُرات، ثم عبيد الله بن خاقان، ثم أبو الحسن علىّ بن عيسى بن داود بن الجراح ثم حامد بن العبّاس، ثم أحمد بن عبيد الله الخَصيبي، ثم محمد بن علىّ بن مُقلة، ثم سليمان بن الحسن بن مَخلد بن الجراح ثم عُبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عُبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم الفضل بن جَعفر ابنِ موسى بن الفرات. واستحجب سَوسنا، مولى المكتفي، ونصراً القشوريّ، وياقوتاً المعتضديّ، وإبراهيم ومحمداً، ابني رائق.
القاهرثم بويع أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلثمائة. وخُلع وسُمل يوم الأربعاء لخمس خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده لخمس خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين ومائتين، وكانت خلافتُه سنةً وستة أشهر وستة أيام. وعاش إلى أيام المطيع، وكانت سنه وكان رَبْعة أسمر اللون، معتدل القامة، أصهب الشعر. وَوَزر له أبو علىّ محمد بن مُقلة، ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللهّ، ثم أحمد بن عُبيد الله الخَصيبىّ. واْستحجب علىّ بن بليق، مولى يونس، ثم سلامة الطولوني.
الراضيثم بويع الراضي أبو العباس أحمد بن المُقتدر يومَ الأربعاء لستٍّ خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده في رَجب سنةَ سبع وتسعين ومائتين. ومات ببغداد ليلةَ السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وثلثمائة. ودُفن بالرُصافة. وكانت خلافتهُ ستِّ سنين وعشرة أيام. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وثمانيةَ أشهر وأياماً. وأمه أمُّ ولد يقال لها ظَلوم. كان قصيرَ، نحيفَ الجسم، أسودَ الشعر، رقيق السُّمرة، في وجهه طول.
نقش خاتمه " رسول الله " . ووزر له أبو علّيِ محمد بن مُقله، ثم ابنُه أبو الحسين علي بن محمد ثم عبد الرحمن بن عيسى بَن داود بن الجرَّاح ثم محمد بن القاسم الكَرْخيّ، ثم سُليمان بن الحَسن بن محمد بن الجراح ثم الفَضل بن جعفر بن الفرات ثم أبو عبد الله أحمد بن محمد اليزيديّ. واستحجب محمدَ بن ياقوت، ثم ذكيّاً، مولاه.
المتقيَ

ثم بويع أخوه المُتقي أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر يومَ الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة. وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً إلا أياماً.
وكان أبيض تعلوه حُمرة، أصهَبَ شَعرِ اللحية، كثّ اللِّحية، بفكه الأدنى عِوَج. نقش خاتمه " محمد رسول الله " وزر له أحمد بن محمد بن ميمون، ثم اليزيدىّ، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم أبو إِسحاق محمد بن أحمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكَرخي، ثم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ، ثم عليِّ بن محمد بن مُقلة. واستحجب سلامة، مولى خُمارويه بن أحمد، ثم بدر الخرشني، ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المُفْلحيّ.
المستكفيثم بُويع أبو القاسم عبد الله بن عليّ المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة بالسِّنديّة عُقيب كسوف القمر. وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. فكانت خلافته سنة واحدة وسِتة أشهر وأياماً. وكان مولدُه مستهل سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكانت سنه سبعاً وأربعين سنة. وأمه أم ولد يقال لها غُصن.
وكان أبيضَ تعلوه حُمرة، ضخمَ الجسم، تام الطُول؟ خفيفَ العارضين، كبيرَ العينين، أشهلَ، جهوريّ الصوت. نقش خاتمه " محمد رسول الله " . وَزر له محمد بن عليّ السرَّ مَن رائي. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي، واستحجب أحمد بن خاقان.
المطيعثم بُويع المطيع أبو القاسم الفضل بن المقتدر لسبعِ بقين من شعبان سنه أربع وثلاثين وثلثمائة وخَلع نفسَه ببغداد لسبعَ عشرة ليلة خَلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلثمائة. وكان مولدُه في النصف من ذي القِعدة سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي في. فكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد تُدعى مَشْعلة. وكانت سنة وكان شديدَ البياض أسودَ شعر الرأس واللحية. وَزر له عليّ بن محمد ابن مُقلة. والناظر في الأمورِ أبو جعفر الصيمريّ. كاتب أحمد بن بُويه. ثم استولى على اسم الوزارة. وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازيّ، ومات وقام مقامه أبو محمد الحسن بن محمد المُهلبي، وحاجبه عزْ الدولة بُحتيار ابن مُعز الدولة.
تم كتاب اليتيمة الثانية
كتاب الدرة الثانية في أيام العرب
ووقائعهم
فرش الكتابقال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عَبد ربّه رضي الله عنه: قد مَضى قولُنا في أخبار زياد والحجَّاج والطالبين والبرامكة، ونحن قائلون بعَون الله وتَوفيقه في أيام العرب ووقائعهم فإنها مآثر الجاهليَّة، ومكارمُ الأخلاق السنيّة. قيل لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كُنّا نتناشد الشعر، ونتحدّث بأخبار جاهليّتنا. وقال بعضُهم: وددتُ أنّ لنا مع إسلامنا كرمَ أخلاق آبائنا في الجاهليَّة، ألا ترى أنّ عَنترة الفوارس جاهليّ لا دينَ له، والحسنَ بن هانئ إسلاميّ له دين، فمنع عنترةَ كرمُه ما لم يَمنع الحسنَ بن هانئ دينُه؟ فقال عنترة في ذلك:
وأغُضّ طَرْفي إن بَدت ليَ جارتي ... حتى يُوارِي جارتي مَأواها
وقال الحسنُ بن هانئ مع إسلامه:
كان الشبابُ مطيَّةَ الجَهل ... ومُحسِّنَ الضَّحكات والهَزْل
والباعِثي والناسُ قد رَقدوا ... حتى أتيتُ حليلةَ البَعْل
حروب قيس في الجاهليةيوم مَنْعِجِ
لغَنيّ على عبس

قال أبو عبيدة مَعْمر بن المُثنّى: يوم مَنعج، يقال له يوم الرِّدْهة، وفيه قُتل شأس بن زُهير بن جَذيمة بن رَواحة العبسيّ بمنعج على الردْهة. وذلك أنّ شأس بن زُهير أقبل من عند النُعمان بن المُنذر، وكان قد حَباه بحباء جَزيل، وكان فيما حباه قطيفةٌ حَمراء ذات هُدب وطَيلسانٌ، وطِيبٌ. فورد مَنْعج، وهو ماء لغنيّ، فأناخ راحلتَه إلى جانب الرَّدْهة عليها خِباء لرِيَاح ابن الاسَل الغَنويّ، وجعل يَغتسلِ، وامرأةُ رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض. فانتزع له رياحٌ لسَهما فقتله ونحر ناقته فأكلها، وضمَّ متاعَه وغَيَّب أثره. وفُقد شأس بن زهير، حتى وجدوا القطيفةَ الحمراء بسوق عُكاظ قد سامتهاامرأةُ رياح بن الأسَل، فعلموا أنّ رياحاً صاحبُ ثأرهم. فغزت بنو عَبس غنياً قبل أن يطلبوا قَوَداً أوْدِيةً، مع الحصين بن زُهير بن جَذيمة والحُصين بن أسَيد بن جَذيمة. فلما بلغ ذلك غَنِياً قالوا لرِيَاح: أنجُ لعلّنا نُصَالح القومَ على شيء. فخرج رياحٌ رَدِيفاً لرجلِ من بني كلاب، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وِجْهة القوم. فمرّ صُرَدٌ على رُءوسهما فصَرصر. فقالا: ما هذا؟ فما راعهما إلا خيلُ بني عَبْس. فقال الكِلاَبي لرِياح: أنحدر من خَلفي وألتَمس نفقاً في الأرض فإنّي شاغلٌ القومَ عنك. فأنحدر رياحٌ عن عَجز الجَمل حتى أتى صَعْدة فاحتفر تحتها مثلَ مكان الأرنب ووَلَج فيه. ومَضى صاحبُه، فسألوه فحدّثهم، وقال: هذه غني جامعة وقد استمكنتُم منهم. فصدقوه وخلّوا سبيلَه. فلما ولّى رأوا مَركبَ الرجل خلفَه، فقالوا: مَن الذي كان خلفَك؟ فقال: لا أكذب، رياح بن الأسل، وهو في تلك الصَعَدات. فقال الحُصينان لمن معهما: قد أمكننا الله من ثأرنا ولا نُريد أن يَشرَكنا فيه أحد. فوقفوا عنهما، ومَضيا فجعلا يُرِيغان رياحَ بن الأسل بين الصَعَدات. فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي ترِيغانه. فابتدراه، فَرمى أحدَهما بسهم فأقصده، وطَعنه الآخر قبل أن يَرْميه فأخطأه، ومرَّت به الفرسُ، واستدبره رياحٌ بسهم فقَتله، ثم نجا حتى أتى قومَه، وانصرفوا خائبين مَوْتورين وفي ذلك يقول الكُميت بن زيد الأسديّ، وكانت له أمان من غَنيّ:
أنا ابنُ غَنيّ والداي كلاهما ... لأمَّين منهم في الفُروع وفي الأصل
هم استَودعوا زُهَراً بسَيْب بن ساِلم ... وهُم عَدلوا بين الحُصَينيين بالنبْل
وهم قَتلوا شأسَ المُلوك وأرغموا ... أباه زُهيراً بالمَذَلّة والثُكْل
يوم النفراوات
لبني عامر على بني عبس

فيه قُتل زُهير بنِ جَذيمة بن رَوَاحة العَبسيّ وكانت هوازن تُؤدي إليه إتَاوة، وهي الخراج. فأتته يوماً عجوز من بني نصر بن مُعاويةَ بسَمن في نِحْي واعتذرت إليه وشكتْ سنينَ تتابعت على الناس، فذاقه فلم يَرْض طعمَه، فدَعسها بقوس في يده عُطل في صدرها. فاستلقت على قَفاها مُنكشفة. فتألى خالدُ بن جعفر، وقال: والله لأجعلنّ ذراعي في عُنقه حتى يُقتلَ أو أقتل. وكان زهير عَدُوسا مِقداماً لا يُبالي ما أَقدم عليه. فاستقلّ، أي انفرد، من قومه بابنَيْه وبَنى أَخويه: أُسيدَ وزِنْباع، يَرعى الغيثَ في عُشَرَاوات له وشَوْل. فأتاه الحارث بن الشرَّيد، وكانت تُماضر بنت الشَرِيد تحت زُهير فلما عرف الحارث مكانَه أنذر بني عامر بن صَعصعة، رهطَ خالد بن جعفر. فركب منهم ستة فوارس، فيهم خالد بن جعفر، وصَخر بن الشريد، وحُنْدج ابنُ البَكاء، ومعاوية بن عُبادة بن عَقِيل، فارس الهَرار - ويقال لمُعاوية: الأَخيل: وهو جَدّ ليلى الأخْيليّة - وثلاثة فوارس من سائر بني عامر. فقال أسَيد لزُهير: أعلمتْني راعيةُ غَنمي أنها رأتْ على رأس الثنيّة أشباحاً ولا أَحسبُها إلاّ خيلَ بني عامر، فالحق بنا بقَومنا. فقال زهير: كُل أَزبّ نَفور. وكان أًسيد أشعرَ القفا، فذهبتْ مثلاً. فتحمَّل أًسيد بمن معه وبقي زُهير وابناه: ورقاء والحارث وصُحبتهم الفوارس. فتمرِّدت بزُهير فرسُه القَعساء، ولحقه خالد ومُعاوية الأخيل، فطعن مُعاوية القعساء، فقلبت زُهيراً، وخرَّ خالد فوقه، ورفع المِغْفر عن رأس زُهير، وقال: يا آل عامر، أَقبلوا جميعاً. فأقبل معاويةُ، فضرِب زهيراً على مَفْرق رأسه ضرِبةً بلغت الدِّماغ، وأقبل ورَقاء بن زُهير فضرب خالداً وعليه درعان فلم يُغن شيئاً، وأجهض ابنا زُهير القوم عن زهير واحتملاه وقد اثخنته الضَّربة، فمنعوه الماء. فقال: أَميِّتٌ أنا عَطشاً؟ اسقُوني الماء وإن كانت فيه نفسي. فسقَوْه فمات بعد ثلاثة أيام. فقال في ذلك وَرقاء ابن زُهير:
رأيتُ زهيراً تحت كَلْكل خالدٍ ... فأقبلتُ أَسعَى كالعَجول أُبادرُ
إلى بَطَليْن يَنْهضان كلاهما ... يردان نصل السيف والسيف نادر
فشُلَّت يميني يومَ أضربُ خالداً ... ويمنعه مني الحديد المظاهر
فيا ليت أنّي قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بُشِّرْتِ بي إذ وَلَدْتِني ... فماذا الذي ردت عليك البشائر
وقال خالدُ بن جعفر في قتله زُهيراً:
بل كيف تكْفُرني هوازنُ بعدما ... أعتقتهُم فتوالدوا أحرار
وقتلتُ رَبّهمُ زُهيراً بعدما ... جَدَع الأنُوف وأَكثر الأوتارا
وجعلتُ مَهر بناتِهم ودياتِهم ... عَقْل الملوك هَجائنا وبِكارا
يوم بطن عاقل
لذبيان على عامرفيه قُتل خالد بن جَعفر ببطن عاقل. وذلك أن خالداً قَدم على الأسود بن المُنذر، أخي النُّعمان بن المُنذر، ومع خالد عُروة الرحَّال بن عُتبة بن جعفر. فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غَيظ بن مُرَّة بن عَوف بن سعد ابن ذُبيان عند الأسود بن المُنذر. قال: فدعا لهما الأسود بتَمر. فجيء به على نِطْع فجُعل بين أيديهم. فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث، ألا تَشكر يدي عندك أن قتلتُ عنك سيّدَ قومك زُهيراً وتركتك سيدَهم؟ قال: سأَجزيك شُكْر ذلك. فلما خرج الحارث قال الأسود لخالد ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب وأنت ضيفي فقال له خالد: إنما هو عَبد من عَبيدي لو وجدني نائماً ما أَيقظني. وانصرف خالدٌ إلى قُبَّته، فلامه عِروةُ الرحّال. ثم ناما وقد أشرجت عليهما القُبة، ومع الحارث تَبيع له من بني مُحارب يقال له خِرَاش. فلما هدأت العُيون أخرج الحارث ناقتَه، وقال لِخَراش: كُن لي بمَكان كذا، فإن طَلع كوكب الصُّبح ولم آتِك فانظُر أي البلاد أحب إليك فأعمِد لها. ثم انطلق الحارث حتى أتى قُبةَ خالد فهتك شرَجَها، ثم ولَجها، وقال لعُروة: أسكُت فلا بأس عليك.

وزعم أبو عُبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالداً وهو نائم فقتله، ونادى عُروة عند ذلك: واجِوَارَ المَلك! فأقبل إليه الناسُ، وسَمع الهُتافَ الأسودُ بن المُنذر، وعنده امرأة من بني عامر، يقال لها المُتجردة، فشقت جَيبَها وصرَخت. وفي ذلك يقولُ - عبد الله بن جَعدة:
شَقت عليكَ العامرية جَيْبَها ... أسفاً وما تَبْكِي عليكَ ضلا
يا حارِ، لو نَبهتَه لوجدتَه ... لا طائشاً رعِشاً ولا مِعْزالا
واغرورقت عيناي لما أخْبرت ... بالجَعفري وأسبلتْ إسبالا
فلنقتلنَ بخالدٍ سرواتِكم ... ولنجعلنْ للظالمين نَكالا
فإذا رأيتُم عارضاً متهللاً ... مِنّا فإنا لا نُحاول مالا
يوم رحرحان
لعامر على تميمقال: وهرب الحارثُ بن ظالم ونَبَتْ به البلادُ، فلجأ إلى مَعبد بنِ زُرارة، وقد هَلك زرارةُ، فأجاره. فقالت بنو تميم لمَعبد: مالك آويتَ هذا المَشئوم الأنكد، وأغريت بنا الأسود؟ وخَذلوه غير بني دمَاوية، وبني عبد الله ابن دارم. وفي ذلك يقول لَقيطُ بن زُرارة:
فأمَا نَهشلٌ وبنو فُقَيْم ... فلم يَصبِر لنا منهم صَبُورُ
فإنْ تَعمِد طُهيةَ في أمور ... تجدْها ثَم ليس لها نَصير
ويَربوع بأسْفل ذي طُلوح ... وعمرو لا تَحل ولا تَسير
أسيد والهُجيم لها حُصاص ... وأقوامٌ من الجَعْراء عُور
وأسلمنا قبائلُ من تميم ... لها عددٌ إذا حُسبوا كَثير
وأما الآثمان: بنو عَديّ ... وَتيم إذا تُدبرت الأمور
فلا تَنعم بهم فِتيانَ حَرْب ... إذا ما الحيُ صبحهم نذير
إذا ذهبت رماحُهمِ بزَيْد ... فإن رِماحَ تَيْم لا تَضير
قال: وبلغ الأحوصَ بن جعفر بنِ كلاب مكانُ الحارث بن ظالم عند مَعبد، فغزى مَعبداً، فالتقَوْا برَحرحان. فانهزمت بنو تَميم وأسر مَعبد ابنُ زرارة، أسره عامرٌ والطفيل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لَقيطُ ابن زُرارة عليهم في فِدائه، فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقال: لا يا أبا نَهشل، أنت سيد الناس وأخوكَ معبد سيد مضر، فلا نقبل فيه إلا ديةَ مَلِك. فأبى أن يَزيدهم، وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحداً في ديته على مائتي بعير. فقال مَعبد للقِيط: لا تَدَعْني يا لقيط، فوالله لئن تركتَني لا تراني بعدها أبداً. قال: صبراً أبا القَعقاع، فأين وصاة أبينا ألا تُؤكلوا العربَ أنفسكم، ولا تَزيدوا بفدائكم على فِداء رجل منكم، فَتذْؤُب بكم ذُؤبان العرب. ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبداً الماءَ وضارّوه حتى مات هُزالا.
وقيل: أبَى معبد أن يَطعم شيئا أو يَشرب حتى مات هُزالا. ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل:
قضينا الجَوْن من عبس وكانت ... منية مَعبد فينا هُزالاَ
وقال جرير:
وليلةَ وادي رَحْرحان فَرَرْتُم ... فِراراً ولم تُلْووا زَفيفَ النعائِم
تركتم أبا القَعقاع في الغُل مُصْفَداً ... وأيَ أخ لم تسلموا
وقال:
وبرَحرحان غداةَ كُبِّل مَعبد ... نَكَحوا بناتِكم بغَير مُهورِ
يوم شعب جبلة
لعامر وعبس على ذبيان وتميم

قال أبو عُبيدة: يوم شِعب جَبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وَقْعة رَحرحان جمع لقيطُ بن زرارة لبني عامر وألب عليهم. وبين يوم رَحرحان ويوم جَبلة سنة كاملة. وكان يوم شِعْب جَبَلة قبلَ الإسلام بأربعين سنة، وهو عام وُلد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عَبس يومئذ في بني عامر حُلفاءَ لهم، فاْستعدى لَقيط بني ذُبيان، لعداوتهم لبني عَبس من أجل حَرب داحس، فأجابته غَطفان كلّها غيرَ بني بدر. وتجمّعت لهم تميم كلها غير بني سَعد، وخرجت معه بنو أَسد لحلْف كان بينهم وبين غَطفان، حتى أتى لقيط الجونَ الكَلْبيّ، وهو ملك هَجر، وكان يَجبى مَن بها من العَرب، فقال له: هل لك في قوم غارِّين قد مَلئوا الأرض نَعماً وشاء فترسلَ معي ابنيك، فما أَصبنا من مال وَسبْى فلهما، وما أصبنا من دم فَلِي؟ فأجابه الجَون إلى ذلك، وجعل له موعداً رأسَ الحَوْل. ثم أتى لقيطٌ النعمانَ بن المُنذر فاسنتجده وأطعمه في الغنائم، فأجابه. وكان لقيطٌ وجيهاً عند الملوك. فلما كان على قَرن الحَول من يوم رَحرحان انهلّت الجيوش إلى لَقيط، وأقبل سِنانُ بن أبي حارثة المُرّي في غَطفان، وهو والد هَرِم بن سِنان الجَواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجونُ ابنيه معاويةَ وعمراً، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسَّان ابن وَبَرة الكَلبيّ. فلما توا فَوْا خرجوا إلى بني عامر، وقد أُنذروا بهم وتَأهّبوا لهم. فقال الأحوصُ بن جعفر، وهو يومئذ رَحَا هوازن، لقيس بنُ زهير: ما ترى؟ فإنك تزعم أنه لم يَعْرض لك أمران إلا وجد تَ في أحدهما الفَرج. فقال قيسُ ابن زهير: الرأي أن نَرتحل بالعِيال والأموال حتى نَدْخل شِعْب جَبلة فنُقاتِل القوم دونها من وَجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشِّعب، وإنّ لقيطاً رجل فيه طَيش فسيقتحم عليك الجبَل، فأرى لك أن تأمر الإبل فلا تَرعى ولا تُسقى وتُعقل، ثم تَجعل الذّراري وراء ظُهورنا، وتأمر الرجالَ فتأخذُ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشِّعب حَلّت الرّجّالة عُقل الإبل، ثم لَزِمت أذنابَها، فإنها تنحدر عليهم وتحنّ إلى مرعاها وورْدها، ولا يَردّ وجوهَها شيء، وتخرج الفُرسان في إثر الرّجّالة الذين خلفَ الإبل فإنها تُحطّم ما لقيت وتُقبل عليهم الخيل، وقد حُطِّموا من عَل. قال الأحوص: نِعم ما رأيت، فأخذ برأيه. ومع بني عامر يومئذ بنو عَبس، وغنى في بني كِلاب، وباهلةُ في بني كعب، والأبناءُ أبناء صَعصعة. وكان رهط المُعَقَر البارقيّ يومئذ في بني نُمير بن عامر، وكانت قبائل بَجيلة كُلّها فيهم غير قَسْر. قال أبو عُبيدة: وأقبل لَقيط والملوك ومن مَعهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شِعْب جَبلة، فنزلوا على فَم الشِّعب. فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فَم الشِّعب حتى يَعْطشوا ويَخْرجوا، فوالله ليتساقطُنّ عليكم تساقطَ البَعَر من أست البعير. فأتوا حتى دخلوا الشِّعب عليهمِ، وقد عقلوا الإبل وعَطّشوها ثلاثة أخماس، وذلك اثنتا عشرةَ ليلة، ولم تَطْعم شيئاً. فلما دخلوا حلّوا عُقُلَها، فأقبلت تهوي. فسمع القومُ دَويها في الشِّعب، فظنوا أن الشِّعب قد هُدم عليهم، والرّجالة في إثرها آخذين بأذنابها، فدقّت كلَّ ما لقيتْ، وفيها بَعير أعور يتلوه غلام أعسر أخذٌ بذنبه وهو يرتجز ويقول: " أنا الغلامُ الأعسر الخيرُ فيِّ والشرّ والشرُّ في أَكثرْ " فانهزموا لا يُلوون على أحد. وقُتلَ لقيطُ بنُ زُرارة، وأسر حاجبُ بن زرارة، أسره ذو الرُّقَيْبة. وأسر سِنان بن حارثة المُري، أسره عُروة الرحال، فجزّ ناصيَته وأطلقه، فلم تَشِنْه. وأسر عمرو بن أبي عمرو بن عُدس، أسره قيس بن المُنتفق، فجزّ ناصيته ناصيته وخلاّه طَمعاً في المُكافأة، فلم يَفعل. وقُتل معاوية بن الجَوْن، ومُنقذ بن طَرِيف الأسدي، ومالك بن رِبْعيّ بن جَندل ابن نَهشل. فقال جرير:
كأنك لم تَشهدْ لَقِيطاً وحاجباً ... وعمرو بنَ عمرو إذ دَعا يا لَدَارم
ويومَ الصّفا كُنتم عَبيداً لعامر ... وبالحَزْن أصبحتم عَبيدَ اللَهازم
يعنى بالحَزن يومَ الوقيط. وقال جرير أيضاً في بني دارم:
ويومَ الشِّعب قد تَركوا لَقِيطاً ... كأنّ عليه حُلّةَ أرْجوانِ
وكبل حاجبٌ بشِمام حَوْلاً ... فحكَم ذا الرًّقيبة وهو عَانى

ِوقالت دخْتَنوس بنت لَقيط تَرثي لَقيطاً:
فَرَّت بنو أسد فِرا ... رَ الطيْر عن أربابها
عن خَير خِنْدف كلها ... مِن كهلها وشَبابها
وأتَمَها حسباً إذا ... نُصَّتْ إلى أحسابها
وقال المُعقَر البارقيّ:
أمِن آل شَعثاء الحُمول البَواكرُ ... مع الصُّبح أم زَالتْ قُبيلُ الأباعرُ
وحَلت سُليمى في هِضاب وأيكة ... فليس عليها يومَ ذلك قادر
وألقتْ عَصاها واستقرت بها النَوى ... كما قَرّ عيناً بالإياب المُسافر
وصبحها أملاكُها بكتَيبةٍ ... عليها إذا أمستْ من الله ناظر
مُعاويةُ بنُ الجَون ذُبيانُ حولَه ... وحسان في جَمع الرِّباب مُكاثر
وقد زَحفتْ دُودان تَبغي لثأرِها ... وجاشت تميم كالفُحول تُخاطر
وقد جَمَعوا جمعاً كأنَّ زُهاءه ... جراد هَفا في هَبْوة مُتطاير
فمرّوا بأطناب البُيوت فردّهم ... رجال بأطناب البيوت مَساعر
فباتوا لنا ضيفاً وبِتْنا بنِعْمة ... لنا مُسْمِعاتٌ بالدُّفوف وزامِر
فلم نَقْرهم شيئاً ولكنْ قِراهُم ... صَبوح لدينا مَطْلَع الشمس حازِر
وصَبَحهم عد الشَرُوق كتائب ... كأركان سَلْمى سيرُها مُتواتر
كأن نَعام الدَوَ باض عليهمُ ... وأعينهمُ تحت الحَبيك خَوازر
مِن الضاربين الهام يَمْشون مَقدماً ... إذا غُصّ بالرِّيق القليل الحَناجر
أضنّ سرَاةُ القوم أنْ لن يُقاتلوا ... إذا دُعيت بالسَّفْح عَبْسٌ وعامر
ضربنا حَبِيك البَيْض يا غَمر لجة ... فلم يَنج في الناجِين منهم مُفاخر
هوى زَهْدمٌ تحت العَجَاج لحاجب ... كما انقضّ بازٍ أقتمُ الرِّيش كاسر
يُفرّج عنّا كُلَّ ثَغرٍ نخافه ... مِسَحّ كسِرْحان القَصيمة ضَامر
وكُلُّ طَموح في العِنان كأنها ... إذا اغتمَست في الماء فَتْخاء كاسِر
لها ناهضٌ في الوَكْر قد مهدت له ... كما مَهَدت لِلبَعْل حَسناءُ عاقِرِ
تخاف نِساءً يَبْتَززن حِليلَها ... مُحرَّبةٌ قد أحْردتها الضرائر
استعار هذا البيت فألقت عصاها من المُعَقّر البارقيّ، إذ كان مثلاً في الناس، راشدُ بن عبد ربّه السُّلمى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبا سُفيان بن حرب عَلَى نَجران فولاّه الصلاةَ والحَرب، ووجّه راشدَ ابن عبد ربّه السُّلمى أميراً على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربّه:
صحا القلب عن سَلْمى وأقْصر شأْوه ... ورَدّت عليه تبتغيه تًماضرُ
وحَلّمه شَيْبُ القَذال عن الصِّبا ... وللشَّبيبُ عن بَعض الغَواية زاجر
فأقصر جهلي اليومَ وارتد باطلي ... عن اللهو لما أبيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعدَ صحْوه ... بمَعرض ذي الآجام عِيسٌ بَواكر
ولما دنتْ من جانب الغُوط أخصبت ... وَحلّت فلاقاها سُلَيم وعامر
وخبّرها الرُّكبان أنْ ليس بينها ... وبين قُرى بصرى ونَجران كافر
فألقت عَصاها واستقرَّت بها النِّوى ... كمَا قَر عيناً بالإياب المُسافر
فاستعار هذا البيت الأخير من المُعقّر البارقيّ، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثّلهم به.
يوم مقتل الحارث بن ظالمبالخَربَة

قال أبو عُبيدة: لما قَتل الحارث بنُ ظالم خالدَ بن جعفر الكِلابيّ أتى صديقاً له من كِندة، فالتفَّ عليه، فطلبه الملك، فخَفَّى ذكره. ثم شَخص من عند الكِنْديّ، وأضمرته البِلاد حتى استجار بزياد، أحد بني عِجل بن لُجيم، فقام بنو ذُهل بن ثَعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعِجْل: أخْرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقَة لنا بالشهباء ودَوْسر - وهما كتيبتان للأسود بن المُنذر - ولا بمُحاربة الملك. فأبتْ ذلك عليهم عِجْل. فلما رأى ذلك الحارثُ ابنُ ظالم كَرِه أن يَقع منهم فِتْنة بسببه، فأرتحل من بني عِجْل إلى جَبلَي طيىء، فأَجاروه، فقال في ذلك:
لَعمري لقد حَلِّ بي اليومَ ناقَتي ... على ناصِر من طَيىّء غير خاذل
فأصبحتُ جاراً للمَجرَّةِ فيهم ... على باذخ يعلو يدَ المتطاول
إذا أَجأ لفت علِيَّ شِعابَها ... وَسَلْمى فأني أنتمُ مِن تَناولي
فمكث عندهم حِيناً ثم إنّ الأسود بن المُنذر لما أَعجزه أمره أرسل إلى جارات كُنّ للحارث بن ظالم، فاستاقهنّ وأموالهن. فبلغِ ذلك الحارثَ ابنَ ظالم، فخرج من الجَبلين، فاندسَّ في الناس حتى عَلمِ مكان جاراته ومَرعى إبلهن، فأتاهنّ فاستنقذهنّ، واستاق إبلَهن فألحقهنّ بقومهن، واندس في بلاد غَطفان، حتى أتى سِنانَ بن أبي حارثة المُري، وهو أبو هَرِم الذي كان يمدحه زُهير. وكان الأسود بن المنذر قد اْسترضع ابنه شَرَحْبيل عند سَلْمى امرأة سِنان، وهي من بني غَنم بن دُودان بن أسد، فكانت لاَ تأمن على ابن الملك أحداً، فاستعار الحارث بن ظالم سَرج سِنان، وهو في ناحية الشَّرَبَّة لا يعلم سِنَان ما يُريد، وأتى بالسّرْج امرأة سنان وقال لها: يقول بعلُك: ابعثي بابن الملك مع الحارث، فإني أريد أن أستأمن له الملكَ، وهذا سرجُه آية ذلك. قال: فزينته سَلْمى ودفعتْه إليه. فأتى بِه ناحيةً من الشرَبة فقَتله، وقال في ذلك:
أخصْيي حِمارٍ بات يَكْدِم نَجْمةً ... أتُؤكل جاراتي وجارُك سالمُ
علوتُ بذي الحيات مَفْرقَ رأسِه ... ولا يركب المَكْروهَ إلا الأكارم
فتكتُ به كما فتكتُ بخالد ... وكان سِلاحي تَجْتويه الجماجم
بَدأتُ بذاك وانثنيتُ بهذه ... وثالثة تَبيضّ منها المَقادم
قال: وَهَرب الحارث من فَوره ذلك، وهَرب سنان بن أبي حارثة. فلما بلغ الأسودَ قتلُ ابنه شرحبيل، غزا بنِي ذُبيان، فقتل وسَبى وأخذ الأموال، وأغار على بني دُودان، رَهْطِ سَلْمى التي كانِ شرحبيل في حِجرها، فقتلهم وسبَاهم، بسَط أرِيك. قال: فوجد بعد ذلك نَعلي شرحبيل في ناحِية الشَّربة عند بني مُحَارب بن خَصفة، فغزاهم الملك، ثم أسرهم، ثم أحْمَى الصَّفا، وقال: إني أحذيتكم نعالاً، فأمشاهم على ذلك الصفا، فتساقطت أقدامهم. ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفَزاري احتمل للأسود ديةَ ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورَهنه بها قوسَه فوفاه بها، فقال في ذلك:
ونحن رهنا القوسَ ثُمَّتَ فودِيت ... بألفٍ على ظَهر الفَزاري أقْرعاً
بعشر مِئين للملوك وفَى بها ... ليُحمَد سيار بن عمروٍ فأسرعا
وكان هذا قبل قَوس حاجب. وقال في ذلك أيضاً:
وهل وجد تُم حاملاً كحاملي ... إذ رَهن القوسَ بألفٍ كامل
بِدِية ابن المَلِك الحُلاحِل ... فافتكها مِن قَبل عام قابِل
سيار الموفى بها ذو النَائل وهرب الحارث فلحق بمَعبد بن زُرارة، فاستجار به فأجاره، وكان من سَببه وقعة رَحْرَحان التي تقدم ذكرها. ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش، لأنه يقال إن مُرة بن عَوف بن سعد بن ذبيان، إنما هو مُرة بن عَوف بن لؤي ابن غالب، فتوسَّل إليهم بهذه القَرابة، وقال في ذلك:
إذا فارقتُ ثَعلبة بنَ سَعْد ... وإخوتَهم نسبت إلى لُؤيّ
إلى نَسب كريم غير دَغْل ... وحيٍّ من أكارم كُلّ حَيّ
فإمْ يك منهمُ أصْلي فمنهم ... قَرابين الإله بني قُصي
فقالوا: هذه رَحم كَرْشَاء، إذ استغنيتُم عنها لنْ يَتِرَكم. قال: فشخص الحارث عنهم غَضبان، وقال في ذلك:
ألا لستم منّا ولا نحن منكُم ... بَرِئْنا إليكم من لُؤي بن غالب

غَدَوْنا على نَشْز الْحِجاز وأنتم ... بمنشعب البَطْحاء بين الأخاشب
وتوجّه الحارث بن ظالم إلى الشام فلحق بيزيدَ بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه. وكان ليزيد ناقة مُحماة، في عُنقها مُدية وزِناد وصُرَة مِلْح، وإنما كان يَمتحن بها رعيِّته لينظر مَن يجترئ عليه. فوَحِمت امرأة الحارث فاشتهت شَحماً في وَحَمها، فانطلق الحارثُ إلى ناقة الملك فانتحرها، وأتاها بشَحمها، وفُقدت الناقة، فأرسل الملكُ إلى الخِمْس التغلبي، وكان كاهناً، فسأله عن الناقة، فأخبره أنِّ الحارث صاحبها. فهَم الملك به، ثم تذمم من ذلك. وأوجس الحارثُ في نفسه شرّاً، فأتى الخِمْس التّغلبيّ فقَتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقَتله. قال: أيها الملك، إنك قد أجرتَني فلا تَغْدرنّ بي. فقال الملك: لا ضَير إن غدرتُ بك مرة لقد غدرتَ بي مراراً. وأمر ابنَ الخِمْس. فقَتله وأخذ ابنُ الخِمْس سيفَ الحارث فأتى به عُكاظ في الأشهر الحُرم، فأراه قيسَ بن زُهير العبسيّ، فضربه به قيسٌ فقَتله، وقال يرثي الحارثَ بن ظالم:
ومَا قصَرتْ من حاضنٍ سترَ بَيتها ... أبرّ وأوفَى منك حارِ بنَ ظاِلم
أعز وأحمَى عند جارٍ وذِمّة ... وأضرَبَ في كابٍ من النّقع قاتم
حرب داحس والغبراءوهي من حُروب قيس قال أبو عُبيدة: حرب داحس والغبراء بين عَبس وذُبيان، ابني بَغيض بن رَيْث بن غَطفان. وكان السبب الذي هاجها أنّ قيسَ بن زُهير وحَمل بن بَدر تَراهنا على داحسِ والغَبراء، أيهما يكون له السَّبْق، وكان داحس فحلاً لقيس ابنُ زهير، والغبراء حِجْراً، لحَمَل بن بَدْر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، وجعلا مُنتهى الغاية مائة غَلْوة، والإضمار أربعين ليلة، ثم قادوهما إلى رأس المَيدان بعد أن أَضمروهما أربعين ليلة، وفي طَرف الغاية شِعاث كثيرة. فأكمن حَملُ بن بدر في تلك الشّعاب فِتْيانا على طريق الفَرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردّوا وجهه عن الغاية. قال: فأرسلوهما فأحضرا، فلما احضرا خَرجت الأنثى من الفحل. فقال حَمَل بن بدر: سبقتُك يا قيس. قال قيس: رُوَيدا يَعْدُوان الجَدَد إلى الوَعْث ترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أَوغلا في الجَدد وخرجا إلى الوَعْث بَرز داحس عن الغَبراء فقال قيس: جَرْي المُذْكيات غِلاء، فذَهبت مثلاً. فلما شارف داحس الغاية ودنا من الْفِتية، وَثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية. ففي ذلك يقول قيسُ بن زُهير:
وما لاقيت من حَمل بن بَدْر ... وإخوته على ذاتِ الإصادِ
هُمُ فَخروا عليّ بغير فَخْر ... وردّوا دون غايته جَوادي
ثارت الحرب بين عبس وذُبيان، ابني بَغيض، فبقيت أربعين سنة لم تُنتَج لهم ناقه ولا فَرس، لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنَه مالكاً إلى قيس بن زُهير يطلب منه حَق السبتى. فقال قيس: كلا، لأمطُلنك به، ثم أخذ الرُّمح فَطعنه به فدقّ صلبه، ورجعت فرسه عارية فاْجتمع الناسُ فاحتملوا دية مالك مائة عُشَراء. وزعموا أن الرَّبيع بن زياد العَبسيّ حَملها وحدَه، فقَبضها حُذيفة وسكن الناس. ثم إن مالك بن زهير نزل اللُّقاطة من أرض الشربّة، فأخبر حُذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عَنترة الفوارس:
فللّه عَينَا مَن رَأى مثلَ مالِكٍ ... عَقيرةَ قوم أن جَرَى فَرَسان
فليتهما لم يَجريا قَيْد غَلوة ... وليتهما لم يُرْسَلا لِرهان
فقالت بنو عَبس: مالك بن زُهير بمالك بن حُذيفة، ورُدّوا علينا مالَنا. فأبَى حذيفةُ أن يردّ شيئاً. وكان الربيعُ بن زياد مجاوراً لبني فَزارة، ولم يكن في العَرب مثلُه ومثلُ إخوته، وكان يقال لهم الكَمَلة، وكان مُشاحناً لقيس بن زهير من سَبب دِرْع لقيس غَلبه عليها الربيعُ بن زياد، فاطّرد قيسٌ لَبوناً لبني زياد فأتى بها مكةَ، فعاوض بها عبد الله بن جُدعان بسلاح، وفي ذلك يقول قيس ابن زُهير:
ألم يبلغك والأنباءُ تنْمِي ... بما لاقت لَبون بني زِياد
ومَحْبسها على القُرشيّ تُشْرى ... بأدراع وأسياف حِداد
وكنتُ إذا بُليت بخَصم سَوء ... دَلفتُ له بدَاهية نآد

ولما قُتل مالك بن زُهير قامت بنو فَزارة يسألون ويقولون: مَا فعل حِماركم؟ قالوا: صِدْناه. فقال الربيع: ما هذا الوَحْي؟ قالوا: قتلنا مالكَ بن زهير. قال بئسما فعلتم بقَومكم، قَبلتم الدِّية، ثم رَضيتم بها وغَدرتم. قالوَا: لولا أنك جارنا لقَتلناك، وكانت خُفرة الجار ثلاثاً. فقالوا له: بعد ثلاث ليال: اخرُج عنا. فخرج وأتبعوه فلم يَلحقوه، حتى لَحق بقومه. وأتاه قيسُ بن زهير فعاقده. وفي ذلك يقول الربيع:
فإنْ تكُ حَربُكم أمستْ عوَانا ... فإني لم أكُن ممَن جَناها
ولكنْ وُلْد سودة أرثوها ... وَحشُوا نارها لِمَن اصطلاها
فإنّي غيرُ خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بَلغت مداها
ثم نَهضت بنو عَبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان إلى بني فَزارة وذُبيان، ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بني فَزارة حُذيفة بن بَدر.
يوم المريقب
لبني عبس على فزارةفالتقوا بذي المرَيْقِب: من أرض الشربة؟ فاقتتلوا، فكانت الشوكةُ في بني فَزارة، قُتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين، أحد بني عديّ بن فَزارة، وضَمضم أبو الحصين المُري، قتله عَنترة الفوارس، ونَفر كثير ممن لا يعرف أسماؤهم. فبلغ عنترةَ أنّ حُصينا وهَرِماً، ابني ضَمضم، يشتُمانه ويُواعدانه فقال في قصيدته التي أولها:
يا دار عَلبة بالجوَاء تَكلَمي ... وعِمِي صَباحاً دَار عَبلة واسلمي
ولقد خَشيتُ بأن أمَوتَ ولم تَدُر ... للحَرْب دائرةُ على ابنى ضَمْضم
الشاتِمَي عِرْضى ولم أشتمهما ... والناذِرين إذا لم ألْقَهما دَمي
إن يَفعلا فلقد تركت أباهما ... جَزَر السباع وكل نَسر قَشْعم
لما رآني قد نزلتُ أريده ... أبدى نواجذَه لغَير تَبسم
وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس:
فلتعلَمن إذا التقت فُرسانُنا ... يوم المُريقب أنَ ظنك أحمقُ
يوم ذي حسى
لذبيان على عبسثم إن ذُبيان تجمّعت لِمَا أصابت بنو عَبْس منهم يومَ المُريقب: فزارةُ، ابن ذُبيان، ومُرة بن عَوف بن سعد بن ذُبيان، وأحلافُهم، فنزلوا فتوافَوْا بذي حُسَا، وهو وادي الصفا من أرض الشَرّبة، وبينها وبين قَطن ثلاث ليال، وبينها وبين اليَعْمرية ليلة. فهربت بنو عَبر، وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذُبيان، واتبعوهم حتى لَحقوهم، فقالوا: التَفاني أو تُقيدونا. فأشار قيسُ ابن زُهير على الربيع بن زياد ألا يُناجزوهم وأن يُعطوهم رهائنَ من أبنائِهم حتى ينظروا في أمرهم. فتراضَوْا أن تكون رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو، أحدِ بني ثعلبة ابن سعد بن ذبيان. فدَفعوا إليه ثمانيةً من الصِّبيان وانصرفوا، وتكاف الناس. وكان رأيُ الربيع مُناجزَتهم. فصرفه قيس عن ذلك. فقال الربيع:
أقول ولم أملك لقَيْس نصيحةً ... أرى ما يَرى واللهُ بالغَيبِ أعلم
أَتُبقي على ذُبيان في قَتل مالك ... فقد حَشَ جاني الحَرب ناراً تَضرَّم
فمكثت رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو حتى حضرتْه الوفاة، فقال لابنه مالك ابن سُبيع: إن عندك مكرمةً لا تَبيد، لا ضَيْرَ إنْ أنت حفظتَ هؤلاء الأغَيلمة، فكأَنّي بك لو متَُّ أتاك خالُك حُذيفة بنُ بدر فعَصر لكَ عيْنيه وقال: هلك سيدُنا، ثم خَدعك عنهم حتى تَدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبداً، فإن خِفْتَ ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك شبيع أطاف حُذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه. فأتى بهم اليَعْمريّة، فجعل يُبرز كل يوم غُلاماً فينصبه غَرضاً، ويقول: نادِ أباك. فيُنادي أباه حتى يَقتله.
يوم اليعمرية
لعبس على ذبيانفلما بلغ ذلك مِن فِعل حُذيفة بني عبس أَتوهم باليَعْمرية فلقُوهم - بالحَرَّة، حرَّة اليعمريّة - فقتلوا منهم اثني عشر رجلاً، منهم: مالكُ بن سُبيع الذي رَمَى بالغِلْمة إلى حُذيفة، وأخوه يزيدُ بن سُبيع، وعامر بن لَوذان، والحارث بن زَيد، وهرم بن ضَمضم، أخو حُصين. ويقال ليوم اليعمريّة يوم نفْر، لأنّ بينهما أقلَّ من نصف يوم.
يوم الهباءة
لعبس على ذبيان

ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جَنب جَفْر الهَباءة، واقتتلوا من بُكرة حتى أنتصف النهار، وحَجز الحرّ بينهم، وكان حُذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركضُ فقال قيس بن زهير: يا بني عبس، إن حذيفة غداً إذا احتدمت الوديقة مُستنقع في جَفْر الهَباءة، فعليكم بها. فخرجوا حتى وَقعوا على أثر صارف، فرس حُذيفة، والحَنْفاء، فرس حَمل بن بذر. فقال قيس بن زهير: هذا أثر الحَنْفاء وصارف، فَقَفَوْا أثَرهما حتى توافَوْا مع الظَّهيرة على الهَباءة. فَبصُر بهم حملُ بن بدر، فقال لهم: من أبغضُ الناس إليكم أن يقف على رؤوسكم؟ قالوا: قيسُ ابنُ زهير والربيعُ بن زياد، فقال: هذا قيسُ بن زهير قد أتاكم. فلم يَنقض كلامُه حتى وقف قيسٌ وأصحابُه على جَفْر الهَباءة، وقيس يقول: لبّيكم لَبَّيكم - يعني إجابة الصِّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يُقتلون - وفي الجفر حُذيفةُ وحَمَل، ابنا بدر، ومالك بن بَدْر، ووَرْقاءُ بن هِلال، من بنِي ثَعلبة بن سعد، وحَنَش بن وهْب. فوقف عليهم شدَّاد بن مُعاوية العَبْسيِّ؛ وهو فارس جَروة، وجروة فرسه، ولها يقول:
ومَنْ يكُ سائلاً عنّي فإنّي ... وجَروةَ كالشِّجا تحت الْوريد
أقوتها بقُوتي إنْ شَتَوْنا ... وألحقها رِدائي في الجَليد
فحال بينهم وبين خَيلهم. ثم توافت فرسان بني عَبس، فقال حَمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس. فقال: لَبيكم لَبَّيكم. فعَرف حُذيفة أنه لن يَدعهم، فأنتهر حملاً وقال: إياك والمأثورَ من الكلام. فَذهبت مثلاً. وقال لقيس: لئن قتلَتني لا تَصلح غطفانُ أبعدها. فقال قيس: أبعْدَها الله ولا أصلحها. وجاءه قِرْواش بمعْبلة، فقَصَم صُلبه. وأبتدره الحارث بن زُهير وعمرو بن الأصلع، فَضرباه بِسَيْفيهما حتى ذفّفَا عليه. وقَتل الربيعُ بن زياد حمَل بن بدر. فقال قيس ابن زهير يَرثيه:
تعَلّم أنّ خيرَ الناس مَيْت ... على جَفْر الهَباءة ما يَرِيم
ولولا ظُلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما طَلع النجوم
ولكن الفَتى حملَ بن بَدر ... بَغى والبَغْيُ مَرْتعه وَخيم
أضن الحلْم دلّ عليّ قَومي ... وقد يُستضعف الرجُل الحليم
ومارستُ الرجالَ ومارَسُوني ... فَمُعْوجٌ عليَّ ومُستقيم
ومثّلوا بحُذيفة بن بدر كما مَثل هو بالغِلْمة، فقَطعوا مَذاكيره وجعلوها في فيه، وجعلوا لسانه في استه. وفيه يقول قائلهم:
فإنّ قتيلاً بالهَباءة في استه ... صحيفتُه إنْ عاد للظُّلم ظالمُ
متى تَقرأوها تَهْدِكم عن ضلالكم ... وتُعرف إِذ ما فُضَّ عنها الخَواتم
وقال في ذلك عَقيل بن علَّفة المرِّي:
ويوقد عوفٌ للعشيرة نارَه ... فهلا على جَفْر الهَباءة أوْقدَا
فإنّ على جَفر الهَباءة هامة ... تُنادي بني بَدر وعاراً مُخلّدا
وإنّ أبا ورد حُذيفَةَ مُثْفَرٌ ... بأيْر على جَفر الهَباءة أسودا
وقال الربيع بن قَعْنب:
خَلُق المَخازي غيرَ أنّ بذي حُسا ... لبني فَزارة خِزْيةً لا تَخْلقُ
تِبْيانُ ذلك أنّ في استِ أبيهم ... شَنعاءَ من صُحف المَخازي تَبْرق
وقال عمرو بن الأسِلع:
إنّ السماء وإنّ الأرض شاهدة ... والله يَشهد والإنسانُ والبَلدُ
أنّي جَزيتُ بني بَدْر بسَعْيهم ... على الهَباءة قَتلاً ماله قَوَد
لمّا التقينا على أَرجاء جُمّتها ... والمَشرفيّة في أيماننا تَقِد
عَلوتُه بحُسام ثم قلتُ له ... خُذْها إليك فأنتَ السيّد الصِّمَد
فلما أصيب أهلُ الهَباءة واستعظمت غَطفان قَتل حُذيفة تجمّعوا، وعَرفت بنو عَبس أنْ ليس لهم مُقام بأرض غَطفان، فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حَنيفة، ثم رَحلوا عنهم فنزلوا ببني سَعد بن زيد مَناة.
يوم الفروق

ثم إنّ بني سَعد غدروا لجوارهم، فأتوا معاويةَ بن الجَوْن فاستجاشوه عليهم وأرادوا أكلَهم. فبلغ ذلك بني عَبس، ففروا ليلاً وقدموا ظُعُنهم، ووقف فرسانهم بمَوضع يقال له الفَرُوق. وأغارت بنو سَعد ومَن معهم من جُنود المَلِك على محلّتهم، فلم يجدوا إلا مَواقد النَيران، فاتبعوهم حتى أتوا الفَروق، فإذا بالخيل والفُرسان، وقد توارت الظعن، فانصرفوا عنهم. ومضى بنو عَبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم وكان بنو جَذِيمة من بني عَبس يُسَمون بني رَوَاحة، وبنو بَدر من فَزارة يُسمون بني سَوْدة. ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم، وكان أول مَن سعى في الحَمالة حَرْملة بن الأشعر بن صِرمة بن مُرَّة، فمات، فسعى فيها هاشمُ ابن حَرملة ابنُه، وله يقول الشاعر:
أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمله ... يوم الهَباتَينْ ويوم اليَعْمَله
ترى المُلوك حولَه مُرعْبله ... يَقْتل ذا الذّنب ومَن لا ذَنْبَ له
يوم قَطَن
فلما توافَوْا للصُلح وقفت بنو عَبس بقَطن، وأقبل حُصين بن ضَمْضم، فلقي تيحان. أحد بني مخزوم بن مالك. فقتله بأبيه ضَمضم، وكان عنترةُ بن شدّاد قتله بذي المُريقب. فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بَلَّ البحر صُوفة، وقد غدرتم بنا غيرَ مرّة، وتنَاهض القومُ عبس وذُبيان، فالتَقَوْا بقَطن، فقَتل يومئذ عمرو بن الأسلع عُيينةَ، ثم سَفرت السفراءُ بينهم، وأتى خارجةُ بن سِنان أبا تَيحان بابنه فدَفعه إليه، فقال: في هذا وفاء من ابنك. فأخذه فكان عنده أياماً. ثم حمل خارجةُ لأبي تيْحان مائةَ بعير قادها إليه واصطلحوا وتعاقدوا.
يوم غدير قَلْهى
قال أبو عُبيدة: فاصطلح الحيان إلاّ بني ثَعلبة بن سَعد بن ذُبيان، فإنهم أبَوْا ذلك، وقالوا: لا نَرضى حتى يُودوا قَتلانا أو يُهدَر دمُ مَن قَتلها. فخرجوا من قَطن حتى وَردوا غدير قلْهى فسَبقهم بنو عَبْس إلى الماء فمَنعوهم حتى كادوا يموتون عَطشَاً ودوابّهم، فاصلح بينهم عوف ومَعقل، ابنا سُبيع، من بني ثعلبة، وإياهما يَعني زُهير بقوله:
تداركتُما عَبْساً وذُبيان بعدما ... تفانَوْا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشَم
فورَدوا حَرباً واخرجوا عنه سَلْما.
تم حرب داحس والغبراء.
يوم الرّقم
لغطفان على بني عامرغَزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غَطَفان بالرَّقَم - وهو ماء لبني مُرة - وعلى بني عامر عامر بن الطُّفيل - ويقال يزيد بن الصعق - فركب عُيينة بن حِصن في بني فَزارة، ويزيد بن سِنان في بني مُرَّة، ويقال الحارث بن عَوف، فانهزمت بنو عامر، وجعل يقاتل عامر بن الطُّفيل ويقول: " يَا نَفْسُ إلا تقْتلي تَموتي " فزعمت بنو غَطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذٍ أربعةً وثمانين رجلاً، فدَفعوهم إلى أهل بيت من أَشجع، كانت بنو عامر قد أصابُوا فيهم، فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحَكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم جِرِابُ بن كعب، حتى انتهوا إلى ماء يقال له المَرَوراة، فقطع العطشُ أعناقَهم فماتوا، وخنق نفسَه الحكمُ بن الطُّفيل تحت شجرة مخافَة المُثلة. وقال في ذلك عُروة بن الوَرْد:
عجبت لهمِ لمْ يَخْنقون نُفوسهم ... ومَقْتلهم تحت الوَغى كان أجدرَا
يوم النُّتَأة
لعبس علي بني عامرخرجتْ بنو عامر تُريد أن تدرك بثأرها يوم الرِّقم، فجمعوا على بني عَبس بالنُتَأة وقد أنذروا بهم، فالتقوا، وعلى بني عامر عامرُ بن الطُّفيل، وعلى بني عَبس الربيعُ بن زياد، فاقتتلوا قتالاً شديداً. فانهزمت بنو عامر وقُتل منهم صَفوان بن مُرة، قتله الأحنفُ بن مالك، ونهشل بن عُبيدة بن جعفر، قَتله أبو زُعبة بن حارث: وعبدُ الله بن أَنس بن خالد. وطَعنِ ضبيعةُ بن الحارث عامرَ بن الطُّفيل فلم يَضرّه، ونجا عامر، وهُزمت بنو عامر هَزيمةَ قَبيحة. فقال خراشةُ بن عمرو العَبْسي:
وسارو على أَظمائهم وتَواعدُوا ... مِياهاً تحامتها تَميم وعامِرُ
كأنْ لم يكن بين الذُّنَاب وواسطٍ ... إلى المُنحنَى مِن ذي الأراكة حاضر
ألا أَبْلِغَا عنّي خَلِيلِيَ عامراً ... أتَنْسى سُعادَ اليومَ أم أنتَ ذاكِر

وصدتك أطرا فُ الرِّماحِ عن الهَوى ... ورُمتَ أموراً ليس فيها مَصادر
وغادرتَ هِزّانَ الرئيس ونَهشلاً ... فلله عينا عامرٍ مَن تُغادر
وأسلمتَ عبدَ الله لما عرفتَهم ... ونَجّاك وثّابُ الجَرَاميز ضَامر
قَذَفْتَهمُ في الموت ثم خَذلْتهم ... فلا وَالت نفس عليك تحاذر
وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطُّفيل هو الذي طَعن ضُبيعة بن الحارث، ثم نجا من طَعنته، وقال في ذلك:
فإن تَنجُ منها يا ضُبيع فإنّني ... وَجدِّك لم أعقِدْ عليك التَّمائمَا
يوم شُوَاحط
لبني محارب على بني عامرغَزت سرّيةٌ من بني عامر بن صعصعة بلاَد غَطفَان، فأغارت على إبل لبني مُحارب بن خَصَفة، فأدركهم الطلبُ، فقتلوا من بني كلاب سَبعةً واْرتدّوا وإبلهم. فلما رجعوا من عندهم وَثب بنو كلاب على جَسْر، وهم من بني مُحارب، كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صَعصعة، فقالوا: نَقتلهم بقَتل بني محارب من قَتلوا منّا. فقام خِداش بن زُهير دونهم حتى مَنعهم من ذلك، وقال:
أيا راكباً إمّا عرِضتَ فبلّغنْ ... عَقِيلاً وابْلغ إن لقيتَ أبا بَكْر
فيا أخَوَينا من أبينا وأمنا ... إليكم إليكم لا سبيلَ إلى جَسْر
دعُوا جانبي إني سأترك جانباً ... لكم واسعاً بين اليَمامة والقَهرْ
أبى فارسُ الضَحياء عمرو بنُ عمرو ... أبي الذَّم واختار الوَفاء على الغَدْر
يوم حوّزة الأول
لسُلَيم على غطفان
قال أبو عُبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حَرْملة، أحد بني مُرة بن غطفان، كلام بعُكاظ، فقال معاوية: لوددتُ والله أني قد سمعتُ بظعائنَ يَنْدبنْك. فقال هاشم: والله لوددتُ أني قد تَربت الرَّطْبة - وهي جْمة معاوية، وكان الدهرَ تَنطِف ماءً ودُهنا وإن لم تُدْهن - فلما كان بعدُ تهيأ معاوية ليغزو هاشماً، فنهاه أخوه صخر. فقال، كأني بك إن غزوتهم علق بجمَتك حسك العُرْفط. قال: فأبى مُعاوية وغزاهم يوم حوزة، فرآهم هاشم بن حرملة قبل أن يراه مّعاوية، وكان هاشماً ناقهاً من مَرض أصابه، فقال لأخيه دُريد ابن حَرملة: إنّ هذا إن رآني لم آمَن أن يَشد عليّ وأنا حديثُ عهد بشَكِيَّة، فاستَطْرِدْ له دوني حتى تجعلَه بيني وبينك، ففعل. فحمل عليه معاويةُ وأردفه هاشم، فاختلفا طَعنتين، فأردى معاويةُ هاشماً عن فرسه الشمّاء، وأنفذ هاشم سِنانة من عانة معاوية. قال: وكَرّ عليه دُريد فظنّه قد أرْدى هاشماً، فضرب معاويةَ بالسيف فقتله، وشدَّ خِفافُ بن عُمير على مالك ابن حارث الفَزاريّ: قال: وعادت الشمّاء، فرس هاشم، حتى دخلت في جَيش بني سُليم، فأخذوها وظنّوها فرس الفَزاري الذي قَتله خفاف، ورجع الجيشُ حتى دنوا من صَخْر، أخي معاوية، فقالوا: أنْعم صَباحاً أبا حسان. فقال: حُييتم بذلك، ما صنع مُعاوية؟ قالوا: قُتل. قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قَتلنا صاحبَها. قال: إذاً قد أدركتم ثأركم، هذه فرسُ هاشم بن حرملة.
قال: فلما دخل رجب رَكِب صخرُ بن عمرو الشّماءِ صبيحةَ يوِم حَرام فأتى بني مُرة. فلما رأوه، قال لهم هاشم: هذا صخر فحيوه وقولوا له خيراً، وهاشم مريض من الطعنة التي طَعنه معاوية، فقال: مَن قَتل أخي؟ فسكتوا. فقال: لمن هذه الفرسُ التي تحتي؟ فسكتوا. فقال هاشم: هَلَم أبا حسان إلى مَن يُخبرك. قال: مَن قتل أخي؟ فقال هاشم: إذا أصبتَنِي أو دريداً فقد أصبتَ ثأرَك. قال: فهل كفَّنتموه؟ قال: نعم، في بُردين، أحدهما بخَمس وعشرين بَكْرة. قال: فأروني قبره. فأروه إياه. فلما رأى القبر جَزع عنده، ثم قال: كأنكم قد أنكرتُم ما رأيتُم من جَزعي، فوالله ما بِت منذ عَقَلتُ إلا واتراً أو موتوراً، أو طالباً أو مطلوباً، حتى قُتل معاوية فما ذقت طَعم نوم بعده.
يوم حوزة الثاني

قال: قم غَزاهم صَخر، فلما دنا منهم مضى على الشمّاء، وكانت غَرّاء مُحجّلة، فسوَّد غُرتها وتَحجيلها، فرأتْه بنتٌ لهاشم، فقالت لعمّها دُريد: أين الشمّاء؟ قال: هي في بني سُليم، قالت: ما أشبهها بهذه الفرس. فاستوى جالساً، فقال: هذه فرس بَهيم والشمّاء غَرّاء محجّلة، وعاد فاضطجع. فلم يَشعر حتى طَعنه صخر. قال: فثارُوا وتَناذروا، وولّى صَخر، وطلبته غَطفان عامّةَ يومها، وعارض دونه أبو شَجرة بن عبد العُزّى، وكانت أمه خَنساء أخت صَخر وصَخْر خاله، فرد الخَيل عنه حتى أراح فرسَه ونجا إلى قومه. فقال خُفاف بن ندبه لما قتل مُعاوية: قَتلني الله إن بَرحت مِن مَكاني حتى أثار به، فشدّ على مالك، سيّد بني جُمح، فقَتله، فقال في ذلك:
فإن تَكُ خَيلي قد أصيب صَميمُها ... فَعمْداً على عَيْنٍ على عَين تَيَمَّمْتُ مالكا
نَصبتُ له عَلْوَى وقد خام صُحبتي ... لأَبْنيَ مَجداً أو لأثأر هالكا
أقول له والرمحُ يَأْطر مَتنْه ... تَأَمَّل خُفافاً إنني أنا ذلكا
وقال صَخر يَرثي مُعاوية، وكان قال له قومه، أهجُ بني مُرة. فقال: ما بيننا أجل من القَذْع. وأنشأ يقول:
وعاذلةٍ هَبّت بليلٍ تَلُومني ... ألا لا تلُوميني كَفَى اللومُ مابيا
تقول أَلا تَهْجو فوارسَ هاشم ... وماليَ أنْ أهْجوهم ثُم مالِيا
أبى الذم أنّي قد أصابوا كَريمتيِ ... وأنْ لَيس إهداء الخَنا مِن شِمَاليا
إذا ما أمرؤ أَهدَى لِمَيْتٍ تحيةَ ... فَحَيّاك ربًّ الناس عَنِّي مُعاويا
وهَوَّن وَجدي أنني لم أقُل له ... كذبت ولم أبخلْ عليه بماليا
وذي إخوة قطّعت أقرانَ بَيْنهم ... كما تَركوني واحِداً لا أخَالِيا
وقال في قَتْل دريد:
ولقد دفعت إلى دُريد طَعنةً ... نَجْلاء تُوغَرِ مثل غَطّ المنخُر
ولقد قتلتُكمُ ثُناءَ ومَوْحداً ... وتركتُ مُرّة مِثل أمس الدَّابر
قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حَرملة فإنه خَرج مُنتجعاً، فلقيه عمرُو بن قيس الجشميّ فتَبِعه، وقال هذا قاتلُ مُعاوية، لا وَألتْ نفسي إن وَأل فلما نزل هاشمٌ كَمَن له عمرو بن قَيس بين الشَجر، حتى إذا دنا منه أرسل عليهِ مِعْبلة ففَلق قَحفه فقتله، وقال في ذلك:
لقد قتلتُ هاشمَ بن حَرْمله ... إذ المُلوك حوله مُغَرْبله
يقتل ذا الذَنب ومن لا ذنَب له
يوم ذات الأَثل
قال أبو عُبيدة: ثم غزا صخرُ بن عمرو بن الشَّريد بني أَسد بن خُزيمة واكتسحِ إبلهم فأتى الصريخُ بني أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قِتالاً شَديداً، فطعن ربيعةُ بن ثَور الأسديّ صخراً في جَنبه، وفات القَوم بالغَنيمة. وجرى صخرٌ من الطعنة، فكان مريضاً قريبا من الحَوْل حتى مَلّه أهلُه، فسمِع امرأة من جاراته تسأل سَلْمى امرأته: كيف بعلُكِ؟ قالت: لا حَيّ فيُرجى، ولا ميْت فيُنسىَ، لقد لقينا منه الأمرَّين. وكانت تُسأل أمه: كيف صخر؟ فتقول: أرجو له العافية إن شاء اللّه. فقلل في ذلك:
أرى أُمّ صخر لا تَملّ عِيادتي ... ومَلّت سُلَيمى مَضْجعي ومَكاني
فأيّ امرئ ساوَى بأمّ حَليلةً ... فلا عاش إلا في شَقَى وهَوانَ
وما كنتُ أخشِىَ أن أكونَ جِنازة عليكِ ... ومَن يَغترُّ بالحَدثان
لَعمري لقد نبّهتُ مَن كان نائماً ... وأسمعت مَن كانت له أذنان
أَهُمّ بأمر الحَزْم لو أسْتَطيعه ... وقد حِيل بين العَيْر والنّزوان
فلما طال عليه البلاءُ وقد نَتأت قِطْعة من جَنبه مثْلُ اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعْتها لرجونا أن تَبرأ. فقال: شَأنكم. فقطعوها فمات. فقالت الخَنساء أخته ترثيه
فما بالُ عَينِيَ ما بالُها ... لقد اخضل الدمع سِرْبالَها
أمِن فَقدِ صَخْر من آل الشَري ... د حَلّت به الأرضِ أثقالَها
فآليت أبكي على هالك ... وأسأل نائحةً ما لَها

هممتُ بنَفسيِ كُلَّ الهموم ... فأولَى لنَفسيَ أولى لها
سأحمل نفسي على آلة ... فإمَّا عليها وإما لها
وقالت ترثيه:
وقائلة والنَّعشُ قد فات خَطْوَها ... لِتُدركَه يا لهفَ نَفسي على صَخْرِ
ألا ثَكِلَت أمُّ الذين غَدَوا به ... إلى القبر ماذا يَحملون إلى القَبْرِ
يوم عَدْنِيَّة
وهو يوم مِلْحان
قال أبو عُبيدة: هذا اليوم قبل يوم ذات الأثْل، وذلك أن صخراً غَزا بقومه وترك الحيّ خِلْواً، فأغارت عليهم غطفان، فثارت إليهم غِلْمانهم ومَن كان تخلّف منهمِ، فقُتل من غَطفان نَفر وأنهزم الباقون، فقال في ذلك صَخر:
جزى الله خيراً قومَنا إذ دعاهُم ... بَعْدنِيةَ الحَيُّ الخُلوف المُصبِّح
وغلمانُنا كانوا أسود خَفِيَّة ... وحَقَّ علينا أن يُثابوا وُيمدحوا
هُم نَفَّروا أقرانَها بمُضَرَّس ... وسعْرٍ وَذوا الجَيش حتى تَزحزحوا
كأنهم إذ يُطردون عَشية ... بقُنّة مِلْحان نَعام مُروّح
يوم اللوى
لغطفان على هوازنقال أبو عُبيدة: غزا عبدُ الله بن الصِّمة - واسم الصمَة معاوية الأصغر، من بني عزيّة بن جُشم بن مُعاوية بن بكر بن هوازن، وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاثُ كنى، فاسمه عبد الله وخالد ومَعبد، وكُنيته أبو فُرغان وأبو ذفافة وأبو وفاء، وهو أخو دُريد بن الصمة لأبيه وأمه - فأغار على عَطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها. فقال له أخوه دُريد: النجاة، فقد ظَفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى انتقع نقيعتي - والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الابل فيَصنع منها طَعاماً لأصحابه ويَقْسم ما أصاب على أصحابه - فأقام وعَصى أخاه، فتتبعته فَزازة فقاتلوه، وهو بمكان يقال له اللَوى، فقُتل عبد اللهّ، وارتُث دُريد فبقي في القَتلى. فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدُهما لصاحبه: إني أرى عينيه تَبِصّ، فأنزل فانظُر إلى سُبتَّه. فنزل فكشف ثوبَه فإذا هي تَرمْز، فطَعنه، فخرج دم كان قد أحتقن. قال دُريد: فأفقتُ عندها، فلما جاوزوني نهضتُ. قال: فما شعرِت إلا وأنا عند عُرقوبيَ جمل امرأة من هَوازن. فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك. قلت: لا، بل مَن أنت؟ ويلك! قالت: امرأة من هَوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دُريد ابن الصَمّة. قال: وكانت في قوم مُجتازين لا يشعرون بالوَقعة، فضمته وعالَجَته حتى أفاق. فقال دُريد يرثي عبد الله أخاه ويذكر عِصْيانه له وعِصْيان قومه بقوله:
أعاذِلَ إن الرزءَ في مِثل خالد ... ولا رُزْءَ فيما أهلك المرءُ عن يَدِ
وقُلت لعارض وأصحاب عارض ... ورَهْطِ بني السوداء والقوم شهَدى
علانيةً ظنُوا بألفي مُدَججِ ... سراتُهم في الفارسيّ المُسرَّد
أمرتُهم أمرِي بمُنقطع اللوى ... فلم يستبينوا الرُشد إلا ضحَى الغَد
فلما عَصَوْني كنتُ منهم وقد أرى ... غَوايتَهم وأنني غيرُ مُهْتدي
وما أنا إلا من غَزِيّة إن غَوَت ... غويتُ وإن تَرْشُد غَزيّة أرْشُد
فإن تُعقب الأيامُ والدهر تَعلموا ... بَني غالب أنا غِضاب لِمَعبد
تنادَوْا فقالوا أردَت الخيلُ فارساً ... فقلتُ أعبدُ الله ذلكم الردي
فإنْ يك عبدُ الله خلَّى مكانَه ... فما كان وقَافاً ولا طائشَ اليَد
ولا بَرِماً إذ ما الرياحُ تناوحتْ ... برَطْب العِضاه والضرّيع المُعضد
كميشُ الإزار خارجٌ نصف ساقه ... صبور على الضراءِ طلاع أنجُد
قليل التشكّي للمَصائب حافظٌ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غَد
وهوَن وَجْدي أنّني لم أَقُل لَه ... كَذَبْت ولم أبْخل بما مَلكتْ يدِي

أبو حاتم عن أبي عُبيدة قال: خَرج دريدُ بن الصِّمة في فوارسَ من بني جشَم، حتى إذا كانوا في وادٍ لبني كِنانة يقال له الأخْرم، وهم يُريدون الغارةَ على بني كنانة، إذ رُفع له رجل في ناحية الوادي معه ظَعينة، فلما نَظر إليه قال لفارس من أصحابه: صِحْ به: خَلِّ عن الظعينة وأنجُ بنفسك. فانتهى إليه الفارسُ وصاح به وألحّ عليه. فألقى زمامَ الناقة وقال للظَّعينة:
سِيرى على رِسْلك سَيْرَ الآمنِ ... سيرَ رَداحٍ ذَاتِ جأشٍ ساكِنِ
إنّ أنثنائي دون قِرْني شائني ... أَبلى بلائي وأخبُري وعايِني
ثم حَمل عليه فصرَعه وأخذ فرسَه فأعطَاه للظِّعينة. فبعث دُريد فارساً آخر لينظرَ ما صَنع صاحبُه. فلما انتهى إليه ورأى ما صَنع صاح به. فتصامم عنه كأن لم يَسمع. فظن أنه لم يَسمع، فغَشيه. فألقى زِمامَ الرَّاحلة إلى الظّعينة، ثم خَرج وهو يقول:
خَلِّ سبيلَ الحُرّة المنيعة ... إنك لاقٍ دونها رَبيعه
في كَفّه خَطِّيَّة مطيعه ... أَوْلا فخُدْها طعنةً سَريعه
والطَّعنُ منّي في الوغَى شريعه
ثم حَمل عليه فصرعه. فلما أبطأ على دُريد بعث فارساً لينظر ما صنعا. فلما انتهى إليهما وجدهما صريعَيْن، ونظر إليه يقود ظعينته ويجُر رُمْحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال للظَّعينة: أقصِدي قصدَ البيُوت، ثمِ أقبل عليه فقال:
ماذا تُريد من شَتيم عابس ... ألم تَر الفارس بعد الفارِس
أَرْداهما عاملُ رُمح يابس
ثم حَمل عليه فصرعه وانكسر رُمحه. وارتاب دُريد فظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقَتلوا الرجل. فلحق دريد ربيعةَ، وقد دَنا من الحيّ، ووجد أصحابَه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إنّ مِثْلك لا يُقتل، ولا أرى معك رُمحك والخيلُ ثائرةٌ بأصحابها، فدونَك هذا الرُّمحَ فإني مُنصرف إلى أصحابي ومُثبِّطهم عنك. فانصرف إلى أصحابه، فقال: إنّ فارس الظَّعينة قد حَماها وقَتل أصحابكم وأنتزع رُمحي، ولا مَطْمع لكم فيه. فانصرف القومُ. فقال دُريد في ذلك:
ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله ... حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتل
أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةّ ... ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل
مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه ... مثل الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيْقل
يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه ... مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل
وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه ... مثلَ البُغاث خَشِين وَقْع الأجْدل
يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه ... يا صاح مَن يَكُ مثلَه لا يجهل
وقال ابنُ مُكَدَم:
إن كان يَنفعكِ اليقينُ فسائلِي ... عنِّي الظعينةَ يومَ وادي الأخْرم
إذ هِي لأوَّل مَن أتاها نُهبة ... لولا طعانُ رَبيعة بنِ مُكَدَّم
إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خَلِّ الظعينَةَ طائعاً لا تَنْدَم
فصرفتُ راحلة الظَّعينة نحوَه ... عمداً ليعلَم بعضَ ما لم يَعلم
وهتكت بالرُّمح الطَّويل إهابه ... فَهَوى صريعاً لليَدين وللفَمَ
ومَنحت آخرَ بعدَه جَيَّاشةً ... نَجْلاء فاغرةً كشِدْقِ الأضجَم
ولقد شفعتُهما بآخَر ثالثٍ ... وأبى الفِرارَ عن العُداة تَكرُّمي
ثم لم يَلبث بنو كنانة أن أغاروا على بني جُشم، فقتلوا، وأسروا دريدَ بن الصِّمة، فأخفى نَسبه. فبينما هو عندهم مَحبوس إذ جاءت نِسوة يتهادَيْن إليه

فصاحت إحداهنّ فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جَرّ علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رُمحه يوم الظعينة، ثم ألقت عليه ثَوبها، وقالت: يا آل فراس، أنا جارةٌ له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو؟ فقال: أنا دُريد ابن الصَمة، فمَن صاحبي؟ قالوا: رَبيعة بن مُكدَم. قال: فما فَعل؟ قالوا: قتلتْه بنو سليم. قال: فما فعلتْ الظّعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته. فحَبسه القومُ وأتمروا أنفسهم، فقال بعضُهم: لا ينبغي لدُريد أن تُكفر نعمتُه على صاحبنا، وقال الآخرون: لا والله لا يَخرج من أيدينا إلا برضا المُخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل. وهي رَبطة بنت جِذْل الطِّعان، فقالت:
سنَجزى دُريداً عن ربيعة نِعمةً ... وكُل امرئ يجزى بما كان قَدَّمَا
فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه ... وإن كان شرًا كان شراً مُذَمما
سنَجزيه نُعمَى لم تكن بصَغيرةٍ ... بإهدائه الرُّمح الطَّويل المقوما
فلا تَكّفروه حَقّ نُعماه فيكُم ... ولا تركبوا تلك التي تَمْلأ الفَما
فإنْ كان حَياً لم يَضِق بثَوابه ... ذِراعاً غَنِياً كان أو كان مُعْدِما
ففُكّوا دُريداً من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسىَ إلى الشرّ سلَما
فلما أصبحوا أطلقوه. فكستْه وجَهَّزته ولحق بقومه. فلم يَزل كافا عن حَرب بني فراس حتى هلك.
يوم الصلعاء
لهوازن على غطفانفلما كان في العام المُقبل غزاهم دُريد بن الصَمة بالصَّلعاء، فخرجت إليه. غطفان. فقال دُريد لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى خيلاً عليها رجال كأنهم الصَبيان، أسِنتها عند آذان خَيلها. قال: هذه فَزارة. ثم قالت: انظُر ما ترى؟ قال: أرى قوماً كأن عليهم ثياباً غُمست في الجادي. قال: هذه أشجع. ثم قال: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوماً يَهزّون رماحَهم سوداً يخدُون الأرضَ بأقدامهم. قال: هذه عَبْس، أتاكم الموت الزُّؤام، فاثبتُوا. فالتقوا بالصّلعاء، فكان الظَّفر لهوازن على غَطفان، وقَتل دُريدٌ ذُؤَابَ بن أسماء بن زيد بن قَارِب.
حرب قيس وكنانة
يوم الكديد
لسليم على كنانةفيه قتل ربيعة بنُ مُكَدَّم فارسُ كنانة. وهو من بني فِراس بنِ غنْم بن مالك بن كِنانة، وهم أنجد العرب، كان الرجل منهم يُعدل بعشرة من غيرهم، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددتُ والله أنّ لي بجَميعكم، وأنتم مائةُ ألف، ثَلثَمائةٍ من بني فراس بن غنم. وكان ربيعة بن مُكَدَم يعقَر على قبره في الجاهليَّة، ولم يُعقر على قبر أحد غيره، ومر به حسانُ بن ثابت. وقتلته بنو سُليم يوم الكَدِيد. ولم يحضُر يوم الكَدِيد أحد من بني الشريد.
يوم برزة
لكنانة على سليمقال أبو عُبيدة: لما قَتلت بنو سُليم ربيعَة بن مُكدم فارسَ كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله. ثم إن ذا التاج مالكَ بن خالد بن صَخر بن الشّريد - واسم الشريد عمرو، وكانت بنو سُليم قد توجوا مالكاً وأمَروه عليهم - غزا بني كنانة، فأغار على بني فِراس ببَرْزة، ورئيسُ بني فِراس عبدُ الله بن جِذْل. فدعا عبدُ الله إلى البِراز، فبرز إليه هندُ بن خالد بن صَخْر بن الشرًيد، فقال له عبدُ اللّه: مَن أنت؟ قال: أنا هِندُ بن خالد بن صَخر. فقال عبدُ الله: أخوك أسن منك، يُريد مالكَ بن خالد. فَرجع فأحضر أخاه، فبَرز له، فجعل عبدُ الله ابن جِذلَ يرتحز ويقول:
ادْنُ بني قِرْف القِمَعْ ... إنّي إذا الموتُ كَنَعْ
لا أستغيثُ بالجَزَعْ
ثم شَدّ على مالك بن خالد فقتله فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشد عليه عبد الله بن جِذل فقتله أيضاً. فشدّ عليه أخوهما عمرو بنُ خالد بن صَخْر بن الشَّريد، فتخالفا طَعْنتين، فجرح كُلُّ واحد منهما صاحبَه وتحاجزا. وكان عمرو قد نهى أخاه مالكاً عن غَزو بني فِراس، فعصاه وانصرف للغَزْو عنهم. فقال عبدُ الله بن جذل:
تجنبتُ هِنداً رغبةً عن قتاله ... إِلى مالكٍ أَعْشُو إلى ضَوْء مالِك
فأيقنت أنّي ثائرُ ابن مُكَدَّم ... غَداتئذ أو هالك في الهَوالك
فأنفذتُه بالرُّمح حينَ طَعنتُه ... مُعانقةً ليست بطَعْنة باتِك

وأثنى لكُرز في الغبار بطَعْنة ... عَلَتْ جِلْدَه منها بأحمَر عاتك
قتلنا سُليماً غَثَّها وسَمِينها ... فصبراً سُليماً قد صَبرنا لذلك
فإن تك نِسواني بَكَين فقد بَكت ... كما قد بَكَتْ أمٌّ لكُرز ومالك
وقال عبد الله بنْ جِذل أيضاً:
قَتلنا مالكاً فبَكَوْا عليه ... وهل يُغْني مِن الجَزع البُكاء؟
وكُرْزاً قد تَركناه صريعاً ... تَسيل علَى تَرائبه الدِّماء
فإنْ تَجزع لذاك بنو سُلَيمفقدوأبيهم غُلب العَزاء
فصبراً يا سُليم كما صَبرنا ... وما فِيكم لواحدنا كِفاء
فلا تَبْعد ربيعةُ من نَديم ... أخو الهُلاك إن ذُمّ الشِّتاء
وكم مِن غارة ورَعِيل خَيْل ... تَدَاركها وقد حَمِس اللِّقاء
يوم الفيفاء
لسليم على كنانةقال أبو عُبيدة: ثم إنّ بني الشّريد حَرَّموا على أنفسهم النِّساء والدُّهن، حتى يُدركوا بثأرهم من بني كِنانة. فغزا عمرو بن خالد بن صَخر بنِ الشرّيد بقومه حتى أغار على بني فِراس، فقَتل منهم نَفراً: منهم عاصم بن المُعلَى، ونَضلة والمُعارِك، وعمرو بن مالك، وحِصْن، وشُريح، وسَبى سَبْيا فيهم ابنة مُكَدّم، أخت ربيعة بن مُكَدّم. فقال عبَّاس بن مِرْداس في ذلك يرُدّ على ابن جِذْل في كلمته التي قالها يومَ بَرْزة:
ألا أَبلغَا عَنّي ابن جِذْل ورهْطَه ... فكيف طَلبناكمُ بِكُرْزٍ ومالِك
غداةَ فَجَعْناكم بحِصن وبابنه ... وبابن المُعلَّى عاصمٍ والمعارك
ثمانية منهم ثَأرناهُم به ... جميعاً وما كانوا بَواءً بمالك
نُذيقكم، والموتُ يَبني سرُادقاً ... عليكم، شَبا حدِّ السّيوف البواتك
تَلُوح بأيدينا كما لاح بارق ... تلألأ في داجٍ من اللَّيل حالك
صَبحناكم العُوجَ العَناجيج بالضُّحى ... تَمُر بنا مَرِّ الرِّياح السواهك
إذا خرجت من هَبْوة بعد هَبْوة ... سَمت نحو ملتف من الموت شائكِ
وقال هندُ بن خالد بن صخر بن الشَريد:
قتلتُ بمالك عمراً وحِصْناً ... وخَلّيت القَتام على الخُدودِ
وكُرزاً قد أًبأتُ به شُريحاً ... على أَثر الفوارس بالكَديد
جَريناهم بما انتكهوا وزِدْنا ... عليه ما وَجدنا من مَزِيد
جَلَبنا من جَنوب الفَرْد جُرْداً ... كطَيْر الماء غَلّس للوُرود
قال: فلما ذكر هندُ بن خالد يوم الكَدِيد، وافتخر به ولم يشهده أحدٌ من بني الشريد، غضب من ذلك نُبيشة بن حَبيب، فأنشأ يقول:
تُبخل صُنْعَنا في كُل يوم ... كمَخْضوب البَنان ولا تَصِيد
وتأكل ما يَعاف الكلبُ منه ... وتَزعم أن والدَك الشريد
أبى لي أن أقِر الضيمَ قيس ... وصاحبُه المَزُور به الكَديد
حرب قيس وتميميوم السُّوبان
لبني عامر على بني تميمقال أبو عُبيدة: أغارت بنو عامر علي بني تميم وضَبْة فاقتتلوا. ورئيس ضَبَة حسّان بن وَبرة، وهو أخو النعمان لأمه، فأسره يزيد الصعِق، وانهزمت تميم. فلما رأى ذلك عامرُ بن مالِكِ بن جَعفر حَسده، فشذ على ضرِارَ بن عمرو الضبي، وهو الردِيم. فقال لابنه أدْهم: أغْنِه عني. فشد عليه فطَعنه. فتحوّل عن سرَجه إلى جَنب أبدائه. ثم لَحقه، فقال لأحد بَنيه أغنه عني، فَفَعل مثل ذلك. ثم لَحقه، فقال لابن له آخر: أغنه عني، ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلا مُلاعب الأسنة، فسُمَى عامرٌ من يومئذ ملاعبَ الأسنة. فلما دنا منه قال له ضِرار: إني لأعلم ما تريد، أتُريد اللبن؟ قال: نعم. إنك لن تَصل إلي ومِن هؤلاء عينٌ تَطرف، كلهم بني. قال له عامر: فأحلني على غيرك. فدلّه على حُبيش بن الدُّلف وقال: عليك بذلك الفارس. فشدّ عليه فأسره. فلما رأى سوادَه وقِصَره جعل يتفكّر. وخاف ابن الدُلف أن يقتله، فقال: ألست تُريد اللبن؟ قال: بَلى. قال: فأنا لك به. وفادى حسان بن وَبرة نفسَه من يزيد بن الصّعق على عَصافيرالنعمان بذي لِيان، وذو ليان، عن يمين القَرْيتين.


يوم أقرن
لبني عبس على بني دارمغزا عمرو بن عُدَس من دارم، وهو فارس بن مالك بن حَنظلة، فأغار على بني عَبْس وأخذ إبلا وشاء، ثم أقبل، حتى إذا كان أسفَل من ثَنية أقْرُن نزل فابتَنى بجارية من السبْي. ولحقه الطلب، فاقتتلوا. فقتَل أنسُ الفوارس بنُ زياد العَبْسي عَمراً، وانهزمت بنو مالك بن حَنظلة. وقتلت بنو عبس أيضاً حَنظلةَ بن عمرو - وقال بعضُهم: قُتل في غير هذا اليوم - وارتدوا ما كان في أيدي بني مالك. فنعى ذلك جريرٌ على بني دارم فقال:
هل تَذكُرون لَدَى ثنية أقْرُن ... أنسَ الفَوارس حين يَهْوي الأسلع
وكان عمرو أسلعَ، أي أبرص، وكان لسَمَاعة بن عمرو خال من بني عَبس، فزاره يوماً فقَتله بأبيه عمرو.
يوم المروت
لبني الغير على بني قشيرأغار بَحيِر بن سَلْمة بن قُشير على بني العَنبر بن عمرو بن تميم، فأتى الصريخُ بني عمرو بن تميم، فاتبعوه حتى لحقوه، وقد نزل المَرُّوت، وهو يَقسم المِرْباع ويُعطى مَن معه. فتلاَحق القومُ واقتتلوا. فطعَن قعْنبُ بن عتّاب الهيثَم بن عامر القُشيري فصرعه فأسره، وحَمل الكدَام، وهو يزيد بن أزهر المازني على بحير بن سَلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم نزل إليه فأسره. فأبصره قَعنب بن عتاب، فحمل عليه بالسيَّف فضربه فقتله. فانهزم بنو عامر وقُتل رجالهم. فقال يزيدُ بن الصَعِق يرثي بَحيرا:
أواردةٌ عليّ بني رِياح ... بفَخْرهُم وقد قتلوا بَحيرَا
فأجابته العَوْراء، من بني سَليط بن يَربوع:
قَعيدَك يا يزيدُ أبا قُبيس ... أَتُنذر كي تُلاقينا النّذورَا
وتُوضِع تُخبرالرُّكبان أنّا ... وُجدنا في مراس الحَرب خُورا
ألم تعلم قعيدَك يا يزيد ... بأنا نَقَمع الشَّيخَ الفَخُورا
ونفقأ ناظِرَيه ولا نُبالي ... ونَجعل فوق هامَتِه الذَّرورا
فأبلغ إن عَرضت بني كلاب ... بأنا نحن أَقعَصْنا بَحيرا
وضرَّجنا عُبيدة بالعَوالي ... فأَصبح مُوثَقاً فِينا أَسِيرا
أفخراً في الخلاء بغير فَخْرٍ ... وعند الحَرب خَواراً ضَجُورا
يوم دارة مأسل
لتميم على قيسغزا عُتبة بن شُتَير بن خالد الكِلابيّ بني ضَبّة فاستاق نَعَمهم، وقَتل حُصيْن ابن ضِرار الضَّبي، أبا زَيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومَه وخرج ثائراً بابنِهِ حُصين، وزيد الفوارس، يومئذ حَدَث لم يُدرك، فأغار على بني عمرو بن كِلاب، فأفلت منه عُتبةُ بن شُتير بن خالد، وأسر أباه شُتير بن خالد، وكان شيخاً أعور. فأتى به قومه، فقال: إما أن ترُدّ ابني حُصينا. قال: فإني لا أَنشر الموتى. قال: وإما أن تدفع إليّ ابنك عُتبة أقتله به. قال: لا تَرضى بذلك بنو عامر أن يدفعوا فارسَهم شاباً مُقتبَلاً بشَيخ أعورَ هامة اليوم أو غد. قال: وإما أن أقتلك. قال: أمّا هذه فنعم. قال: فأمر ضِرارٌ ابنَه أدهم أن يَقتله، فلما قَدّمه ليضربَ عُنقه نادى شُتير: يا آل عامر، صَبْراً، بصبيّ. كأنه أنِف أن يُقتل بصبيّ. فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة:
وخيَرْنا شُتيراً في ثلاثٍ ... وما كان الثلاثُ له خيارَا
جعلتُ السيفَ بين اللِّيث منه ... وبين قِصاص لمَّته عِذَارا
وقال الفرزدق يَفخر بأيام ضبّة:
ومَغبوقة قبل القِيان كأنّها ... جَرادٌ إذا أجلى عن القَزع الفجر
عوابسُ ما تَنفكُّ تحت بطونها ... سَرابيلُ أبطال بنائُقها حُمْر
تَركْن ابنَ ذي الجَدَّين يَنْشِج مُسْندا ... وليس له إلا ألاءته قَبر
وهُنّ على خَذَي شتير بن خالد ... أثير عَجاج من سنَابكها كُدْر
إذا سُوّمت للبأس يَغْشى ظُهورَها ... أسودٌ عليها البِيض عادتها الهَصْر
يَهزّون أرماحاً طِوالا مُتونُها ... يهن الغِنى يومَ الكَريهة والفَقْر
أيام بكر على تميم
يوم الوقيط

قال فراسُ بن خِنْدف: تجمَّعت اللهازُم لتُغير على تَميم وهم غارُّون، فرأى لك ناشب الأعور بن بَشامة العَنبري، وهو أسير في بني سَعد بن مالك ابن ضُبيعة بن قيسِ بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رسولاً أرسله إلى بني العَنبر أوصيهم بصاحبكم خيراً، ليولوه مثلَ الذي تولوني من البر به والإحسان إليه. وكان حَنظلة بن الطُّفيل المَرثدي أسيراً في بني العَنبر. فقالوا له: على أن تُوصيه ونحن حضُور. قال نعم. فأتوه بغلام لهم. فقال: لقد أتيتموني بأحمقَ وما أراه مُبلِّغاً عني. قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمَق، وقل ما ئشت فإني مُبلَغه. فملأ الأعورُ كفه من الرمل، فقال: كم هذا الذي في كفِّي من الرمل؟ قال الغلام: شيء لا يُحصى كَثرة، ثم أومأ إلي الشمس، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشمس. قال: فاذهب إلى قومي فابلغهم عني التحيةَ وقُل لهم يُحسنوا إلى أسيرهم وُيكْرموه، فإني عند قوم مُحسنين إلي مُكرمين لي، وقل لهم يَقْروا جمل الأحمر، ويَرْكبوا ناقتي العَيْساء، بآية أكلت معهم حَيْساً، وَيرْعوا حاجتي في أبيني مالك. وأخبرهم أنِّ العوسج قد أَوْرق، وأنّ النِّساء قد اشتكت. ولْيعصوا هَمَّام بن بَشَامة، فإنه مَشْئوم مَحدود، وُيطيعوا هُذَيل بن الأخْنس، فإنه حازم مَيمون. قال: فأتاهم الرسول فأبلغهم. فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعورُ بعدنا، فواللهّ ما نعرف له ناقةً عَيْساء، ولا جملاً أحمر. فشخص الرسولُ، ثم ناداهم هُذيل: يا بني العنبر، قد بَين لكم صاحبُكم: أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يُخبركم أنه أتاكم عددٌ لا يُحصى؟ وأما الشمس التي أومأ إليها، فإنه يقول: إن ذلك أوضحُ من الشَّمس؟ وأما جَمله الأحمر، فإنه هو الصَمَّان يأمركم أن تُعْروه؟ وأما ناقتهُ العَيساء، فهي الدَّهناء يأمركم أن تَحْترزوا فيها، وأما أبْناء مالك، فإنه يأمركم أن تنذروا بني مالك بن حنظلة ابن مالك بن زَيد مناة ما حَذركم وأن تُمسكوا الحِلْف بينكم وبينهم، وأما العَوْسج الذي أورق، فيُخبركم أنّ القوم قد لَبسوا السلاح؛ وأما تشكيَ النساء، فيُخبركم بأنهن قد عَمِلنَ شِكاءً يغزون به. قال: وقوله بآية ما أكلت معكم حَيساً، يريد أحلاطاً من الناس قد غزوكم. فتحرَّزت عمرو فركبتَ الدَهناء، وَأنذروا بني مالك، فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو ولسنا متحوِّلين لِمَا قال صاحبُكم: قال فصبّحتِ اللهازمُ بني حنظلة، فوجدوا بني عمرو قد أجلت، وإنما أرادوهم على الوَقيط، وعلى الجَيش أبجر بِن جابر العِجْليّ. وشهدها ناسٌ مع تيم اللات، وشهدها الفِزْر بن الأسود بن شريد، من بني سِنان. فاقتَتلوا، فأسر ضِرارُ بن القَعقاع بن مَعبد بن زُرارة، وتَنازع في أسره بِشرُ بن العوراء، من تيم اللات، والفِزْر بن الأسود، فجزّا ناصيتَه وخَليّا سربه من تحت الليل. وأسر عمرو بن قيس، من بني ربيعة، عَثْجَلَ بن المأموم بن شَيبان بن عَلقمة، من بني زُرارة، ومَنَ عليه. وأسرت غَمامةُ بنت طوق بن عُبيد بن زُرارة، واشترك في أسِرها الحَطيم بن هلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خالد. ورَدُوها إلى أهلها. وعَير جريرٌ الخَطفي بني دارم بأسْر ضِرارِ وعَثْجل وغَمامة، فقال:
أغَمام لو شَهد الوقيطَ فوارسي ... ما قِيد يقتل عَثجل وضِرَارُ
وأسر حنظلةُ بن المأمون بن شيبان بن عَلقمة، أسره طَيْسلة بن زِياد، أحد بني ربيعة. وأسر جُويرية بن بَدر، من بني عبد الله بن دارم، فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتاً يَمدح فيها بني عِجل، وأنشأ يتغنّى بها رافعاً عقيرته:
وقائلةٍ ما غالَه أن يَزُورها ... وقد كنتُ عن تلك الزَيارة في شُغل
وقد أدركتْني والحوادثُ جَمةٌ ... مَخالبُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْل
سِراع إلى الدّاعَي بِطاء عن الخَنَا ... رزانٍ لدى النّادي مِن غير ما جَهْل
لعلهُم أن يمَطروني بنعمية ... كما طاب ماءُ المُزن في البلَد المَحْل
فقد يُنعش الله الفتى بعد عسرة ... وقد يَبتدي الحُسنَى سَراةُ بني عِجْل

فلما سَمعوه أطلقوه. وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو ابن ناشب، وأسر سنان بن عمرو، أخو بني سلامة بن كِندة، من بني دارم، وأسر حاضر بن ضَمرة، وأسر الهيثم بن صَعصعة، وهَرب عوفُ بن القَعقاع عن إخوته، وقُتل حكيم النّهشلي، وذلك أنه لم يَزل يُقَاتل وَهو يَرتجز ويقول:
كُل امرئ مُصبَّح في أهله ... والموتُ أدنى مِن شِراكَ نَعْلِهِ
وفيه يقول عَنترة الفوارس:
وغادَرْنا حكيماً في مَجال ... صَريعاً قد سَلَبناه الإزارَا
يوم النِّباج وثَيْتل
لتميم على بكرالخُشنيّ قال: أخبرنا أبو غَسّان العَبْديّ - واسمه رفيع - عن أبي عُبيدة مَعمر بن المُثنى قال: غدا قيس بن عاصم في مُقاعس، وهو رئيس عليها - ومُقاعس هم: صُريم، ورَبيع، وعُبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زَيدَ مناة ابن تَميم - ومعه سَلاَمة بن ظرِب بن نَمِر الحَمّاني في الأجارب، وهم حِمّان، وربيعة. ومالك، والأعرج، بنو كعب بن سَعد بن زيد مناة بن تميم. فغَزوا بكر بن وائل. فوجدوا بني ذهل بن ثَعلبة بن عُكابة واللَّهازم - وهم قَيس وتيم اللتَ، ابنا ثَعلبة، وعِجْل بن لُجيم، وعَنَزة بن أسد بن ربيعة - بالنِّباج وثَيْتل، وبينهما رَوْحة. فتنازع قيسُ بن عاصم وسَلامة بن ظَرِب في الإغارة ثم اتفقا على أن يُغير قَيس على أهل النِّباج، ويُعير سلاَمة على أهل الثَيتل. قال: فبعث قيسُ بن عاصم سنانَ بنَ سُمَي، الأهتم شيِّفَةً له - والشَّيفة: الطَّليعة - فأتاه الخبرُ. فلما أصبح قيسُ سقى خَيله، ثم أطلق أَفواه الرَّوايا، وقال لقومه: قاتلوا فإن الموت بين أيديكم، والفلاةَ مِن ورائكم. فلما دنوا من القوم صُبحاً سمعوا ساقياً من بكر يقول لصاحبه: يا قيس، أَوْرد. فتفاءلوا به. فأغاروا على النِّباج قبل الصُبح، فقاتلوهم قتالاً شديداً. ثم إن بكر انهزمت وأَسر الأهتمُ حُمْرانَ بن بِشر بن عمرو بن مَرْثد، وأصابوا غنائم كثيرة. فقال قيس لأصحابه لا مُقام دون الثَّيتل، فالنجاء النجاء. فأبوا. ولم يُغِر سَلاَمة ولا أَصحابه بعد على من بثَيْتَل فأغار عليهم قيس بن عاصِم، فقاتلوه ثم انهزموا. فأصاب إبلاً كثيرة. فقال سلامة: إنكم أعرتُم على ما كان أمره إليّ. فتلاحَوْا في ذلك. ثم اتفقوا على أن سَلّموا إليه غنائم ثَيتل. ففي ذلك يقول ربيعة بن ظَرِيف:
فلا يُبعِدَنْك الله قيسَ بن عاصم ... فأنتَ لنا عِزٌّ عزيز وَمَوْئل
وأنت الذي حَرَّبْت بكر بنَ وائل ... وقد عَضَّلَتْ منها النِّباجُ وثَيتل
غداة دَعت يا آل شَيبان إذ رأت ... كراديس يَهْدِيهنّ وَرْد مُحجّل
وظَلّت عُقاب الموت تَهْفو عليهم ... وشُعثُ النواصي لجمهنّ تُصَلصل
فما منكُم أبناءَ بكر بن وائل ... لغارتِنا إلا رَكوبُ مُذلّل
وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قَيس بن عاصم أفواه المَزاد بقوله:
وفي يوم الكُلاب ويوم قَيْسٍ ... هَرَق على مُسلّحةَ المَزادَ
وقال قُرة بن قَيس بن عاصم:
أنا ابنُ الذي شَقَّ المَزاد وقد رَأى ... بثيتل أَحياء اللَهازم حُضَّرَا
وصَبَّحهم بالجيش قيسُ بن عاصم ... فلم يَجدُوا إلا الأسنة مَصدَرا
على الجُرد يَعَلُكْن الشكِيم عَوابساً ... إذا الماءُ من أعطافهنَ تَحذَرا
فلم يَرها الراءون إلا فُجاءةً ... يُثرنَ عَجاجاً بالسنابك أكْدرا
سَقاهم بها الذِّيفانَ قيسُ بن عاصم ... وكان إذا ما أوْردَ الأمرَ أصْدرا
وحُمران أدته إلينا رِماحُنا ... فنازَع غُلا مِن ذِرَاعيه أسمَرا
وجَشَامة الذُهلي قُدْناه عَنْوةً ... إلى الحيّ مَصْفود اليدَيْن مُفكِّرا
يوم زرود
لبني يربوع على بني تغلب

أغار خُزيمة بنِ طارق التغلبي على بني يَرْبوع، وهم يزَرود، فنَذِروا به فالتقَوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزِمت بنو تَغلب. وأسر خزٍيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبيّ، وهو فارس الشَيط، وكان يومئذٍ مُعتلاً في بني يربوع، وأسيدُ بن حِناءة السّليطي، فتنازعا فيه، فحَكما بينهما الحارث بن قُراد، وأم الحارث امرأة من بني سَعد بن ضَبّة، فحكم بناصية خزيمة لأنيف بن جَبله، على أنّ لأسيد على أنيف مائةً من الإبل. قال: ففدا خزيمةَ نفسَه بمائتي بعير وفَرِس. وقال أنيف:
أخذتُك قَسراً يا خُزَيمَ بنَ طارقٍ ... ولاقيت منِّي الموتَ يوم زَرُود
وعانقتُه والخيلُ تَدْمَى نُحُورُها ... فأنزلتُه بالقاع غيرَ حَميد
أيام يربوع على بكروهذه أيام كُلها لبني يربوع على بني بكر، من ذلك: يوم ذي طُلوح، وهو يوم أوْد، ويوم الحائِر، ويوم مَلْهَم، ويوم القُحْقُح، وهو يوم مالة، ويوم رأس عَين، ويوم طِخْفة. ويوم الغَبِيط، ويوم مُخطط، ويوم جَدُود، ويوم الْجِبايات ويوم زَرود الثاني.
يوم ذي طلوحلبني يَربوع على بكر
كان عَمِيرة بن طارق بن خصينة بن أرِيم بن عبيد بن ثَعلبة تَزوَّج مُرية بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العِجْليّ، فَخَرج حتى ابتنى بها في بني عِجْل. فأتى أبجرُ أختَه مُرَيّة، امرأة عَميرة يزورها، فقال لها: إني لا أرجو أنْ آتيك ببنت النَطِف امرأة عَميرة التي في قومها. فقال له عَميرة: أترضى أن تُحاربني وتَسْبيني؟ فَندِم أبجر، وقال لعَميرة: ما كنتُ لأغزو قومك. ثم غزا أبجر والحَوْفزان مُتساندين. هذا فيمن تَبعه من بني شَيبان، وهذا فيمن تَبعه من بني اللَّهازم، وساروا بعَميرة. معهم، قد وكّل به أبجرُ أخاه حُرْفصة بن جابر. فقال له عمَيرة: لو رجعْتُ إلى أهلي فاحتملتُهم؟ فقال حُرْفصة: افعل. فكرّ عَميرة على ناقته، ثم نكل عن الجَيش، فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع فأنذرهم الجيش. فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طُلوح. فأوِّل ما كان فارس طَلع عليهم عَمِيرة، فنادى: يا أبجر، هَلُم. فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عَميرة. فكذّبه، فسَفر عن وجهه، فعرفه فأقبل إليه. والتقت الخيلُ بالخيل. فأسر الجيشُ إلا أقلِّهم، وأسر حَنظلةُ بن بشر بنِ عمرو بن عدس بن زَيد بن عبد الله ابن دارمَ. وكان في بني يَربوع الحوفزانَ بنِ شريك، وأخذه معه مُكَبّلا. واخذ ابن طارِق سَوادَةَ بن يزيد بن بجير بن غنْم، عم أبجر وأخذ ابن عَنَمة الضِّبي الشاعر، وكان مع بني شيبان، فافتكه مُتمم بن نوبرة. فقال ابن عَنَمة يَمدح مُتمَم بن نُوبرة:
جَزى الله ربَ الناس عنّي مُتمَماً ... بخَير جزاء ما أعف وأمْجدَا
أجيرتْ به آباؤنا وبنَاتُنا ... وشَاركَ في إطلاقنا وتَفرَّدا
أبا نَهْشل إني لكم غيرُ كافرٍ ... ولا جاعلٌ من دونك المالَ مُؤصدا
وأسر سُويد بن الحَوفزان، وأسر أسود وفَلْحس، وهما من بني سَعد بن هَمّام. فقال جرير في ذلك يذكر يوم ذي طُلوح:
ولمّا لَقِيتا خيلَ أبجرَ يَدّعي ... بدَعْوى لُجيم غير مِيل العوَاتِقِ
صبَرنا وكان الصبر منّا سَجِيّةً ... بأسيافنا تحت الظِّلال الخَوافق
فلما رَأوا أن لا هوادةَ عِنْدنا ... دَعَوْا بعد كَربٍ يا عَمِيرَ بن طارق
يوم الحائروهو يوم مَلْهَم.
لبني يربوع على بكر

وذلك أن أبا مُليلِ عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حُميد وعَلْقمة أخاه، انطلقا يطلبان إبلاً لهما حتى وردا مَلهم، من أرض اليمامة. فخرج عليهما نَفر من بني يَشْكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل. فكان عندَهم ما شاء الله، ثم خلّوا سبيلَه وأخذوا عليه عهداً وميثاقاً أن لا يُخبر بأمر أخيه أحداً. فأتى قومَه فسألوه عن أمر أخيه فلم يخبرهم. فقال وَبَرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عَهد وميثاق. فخرجوا يَقُصّون أثرَه، ورئيسُهم شِهاب بن عبد القيس، حتى وردوا مَلْهم. فلما رآهم أهل مَلْهم تحصنوا. فحرقت بنو يَربوع بعضَ زرعهم وَعقروا بعضَ نَخلهم. فلما رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم، فهُزمت بنو يشكر، وقُتل عمرو بن صابر صَبْراً، ضَربوا عُنقه، وقَتل عُتَيبة بن الحارث بن شهاب مُثَلّم بن عبيد بن عمرو، رجلاً آخر منهم، وقتل مالكُ بن نويرة حُمرانَ بن عبد الله، وقال:
طَلبنا بيوم مثل يومك عَلْقمَا ... لَعمري لمَن يَسعى بها كان أَكرَما
قَتلنا بجَنْب اَلعِرْض عمرَو بن صابر ... وحُمْران أَقْصدناهما والمُثلَّما
فللّه عَيناً مَن رأى مثلَ خَيْلنا ... وما أدركت من خَيلهم يوم مَلهما
يوم القحقح
وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكرأغارت بنو أبي ربيعة بن ذُهل بن شَيبان على بني يربوع، ورئيسهم المَجَبَّةُ ابن أبي ربيعة بن ذُهل، فأخذوا إبلاً لعاصم بن قُرط، أحد بن عُبيد، وانطلقوا. فطلبهم بنو يربوع فناوشوهم، فكانت الدائرة على بني أبي ربيعة. وقَتل المِنْهالُ بن عِصْمة المَجَبّة بن أبن ربيعة. فقال في ذلك ابن نِمْران الرّياحيّ:
وإذا لقيتَ القومَ فاطعَن فيهم ... يومَ اللِّقاء كطَعنة المِنْهالِ
تَرك المَجَبَّةَ للضِّباع مُنكَّساً ... والقومُ بين سَوافلٍ وعَوالي
يوم رأس العين
لبني يربوع على بكرأغارت طوائفُ من بني يربوع على بني أبي رَبيعة برأس العَيْن، فاطردوا النَعم. فاتبعهم مُعاوية بنِ فِراس في بني أبي ربيعة فأدركوهم، فقُتل معاويةُ ابن فِرَاس وفاتوا بالإبل. وقال سحُيم في ذلك:
أليس الأكرمون بنو رِياحٍ ... نَمَوْني منهمُ عَمِّي وخالي
همُ قَتلوا المَجَبَّة وابنَ تَيم ... تَنوح عليهما سُود اللَّيالي
وهُم قَتلوا عَميد بني فِراس ... برأس العَين في الحِجَج الخَوالي
وذاد يومَ طِخْفة عن حِماهم ... ذِيادَ غَرائبِ الإبل النَهال
يوم العظالي
لبني يربوع على بكرقال أبو عُبيدة: وهو يوم أعشاش، ويوم الأفاقة، ويوم الإياد، ويوم مُليحة.

قال: وكانت بكر بن وائل تحت يدِ كسرى وفارس، وكانوا يُجيرونهم ويُجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عَين التَمر في ثلاثمائة فارس مُتساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحَزن، وكانوا يَشْتُون خُفافاً، فإذا انقَطع الشتاء انحدروا إلى الحَزْن. قال: فاحتمل بنو عُتيبَة وبنو عُبيد وبنو زُبيد، من بني سَليط، من أول الحيّ حتى أَسْهلوا ببطن مُليحة، فطَلعت بنو زُبيد في الحَزن حتى حَلّوا الحُدَيقة والأفاقة، وحلت بنو عُتيبة وبنو عُبيد بعَين بروضة الثّمَد. قال: وأقبل الجيشُ حتى نزلوا هَضْبة الخَصيّ، ثم بَعثوا رئيسَهم. فصادفوا غلاماً شاباً من بني عُبيد، يقال له: قُرط بن أَضبط، فعرفه بِسْطام، وقد كان عرف عامة غلمان بني ثَعلبة حين أسره عُتيبة - قال: وقال سَلِيط: بل هو المُطَوًح بن قِرواش - فقال له بسطام: أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحُديقة؟ قال: همٍ بنو زُبيد. قال: أفيهم أَسِيد بن حِنَاءة؟ قال: نعم، كم هُم؟ قال: خمسون بيتاً، قال: فأين بنو عتيبة وأين بنو أَزْنم؟ قال: نَزَلوا رَوْضة الثمَد. قال: فأين سائر الناس؟ قال: هم مُحتجزون بخُفاف. قال: فمن هُناك من بني عاصم؟ قال: الأحيمر، وقَعنب: ومَعْدان، ابنا عِصْمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم؟ قال: حُصَين ابن عبد اللهّ. فقال بِسطام لقومه: أَطيعوني تَقْبضوا على هذا الحيّ من بني زُبيد وتُصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يُغني عنا زُبيد، لا يَردون رِحْلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغَنيمتين. فقال له مفْروق: انتفخ سَحْرك يا أبا الصَهباء. وقال له هانئ: أَجُبْناً! فقال لهم: ويلكم، إن أَسيداً لم يُظِله بيت قطُّ شاتياً ولا قائِظاً، إنما بيته القفر، فإذا أحسَ بكم أحال على الشقراء فَركض حتى يُشرف على مليحة، فينادي: يا ليربوع، فتركب؟ فيلقاكم طَعن يُنسيكم الغنيمة، ولا يبصر أحدُكم مصرعَ صاحبه، وقد جَبّنْتُموني، وأنا أتابعكم، وقد أَخبرتُكم ما أنتم لاقون غداً. فقالوا: نَلتقط بني زُبيد ثم نَلتقط بني عُبيد وبني عُتيبة، كما تلتقط الكَمْأة، ونبعث فارسين فيكونان بطريقِ أَسيد فيحولان بينه وبين يَرْبوع، ففعلوا. فلما أحسّ بهم أَسيد رَكِب الشّقراء، ثم خرج نحو بني يَربوع. فابتدره الفارسان، فطعن أحدَهما، فألقى نفسه في شِق فأخطاه، ثم كَر راجعاً حتى أشرف على مُليحة، فنادى: يا صباحاه، ياليربوع، غُشِيتم. فتلاحقت الخَيلُ حتى توافوا بالعُظَالي، فاقتتلوِا، فكانت الدائرة على بنى بكر، قُتل منهم: مَفروق بن عمرو، فدُفن بثَنيّة يقال لها ثِنية مَفْروق، والمقاعس الشَيباني، وزُهير بن الحزوَر الشَيباني، وعمور بن الحَزَور الشيباني، والهَيْش بن المِقعاس، وعُمير بن الوَدّاك؟ والضريس. وأمّا بِسْطام، فألح عليه فارسان من بني يَربوع، وكان دارعاً على ذات النُّسوع، وكانتا إذا أَجدَت لم يتعلّق بها شيء من خيلهم، وإذا أَوعثت كادوا يَلْحقونها، فلما رأى ثِقل دِرْعة وَضعها بين يديه على القَربُوس وكَرِه أن يَرْمي بها، وخاف أن يُلحق في الوَعث، فلم يزل ديدَنُه وديدنُ طالبيه حتى حَمِيت الشمسُ وخاف اللِّحاق، فمرّ بو جار ضَبُع، فرمى الدِّرع فيه، فمدَّ بعضها بعضاً حتى غابت في الوِجار. فلمّا خفف عن الفرس نَشِطت ففاتت الطَّلب، وكان أخر مَن أتى قومَه، وكان قد رَجع إلى دِرعه لمَّا رجع عنه القومُ فأخذها. فقال العوَّام بن شَوْذب الشيباني في بِسْطام وأصحابه:
إنْ يك في يوم الغَبِيط مَلامَة ... فيومُ العُظالي كان أَخزَى وأَلْوما
أناخُوا يريدون الصَّباح فصَبَّحوا ... وكانوا على الغازين دَعْوة أَشْأَما
فررتُم ولم تُلووا على مُجْحِريكم ... لو الحارث الحَرّاب يدْعى لأَقْدَما
ولو أنّ بِسْطاماً أُطيع لأمره ... لأدّى إلى الأحياء بالحِنْو مَغْنما
ففرّ أبو الصهباء إذ حَمِى الوَغى ... وألقَى بأَبدان السِّلاح وسَلّما
وأَيقن أنَّ الخيلَ إنْ تَلْتبس به ... يَعُد غانماً أو يَملأ البيت مأتما
ولو أنها عُصفورة لحسبها ... مُسوَّمة تدعو عُبَيْداً وأَزْنَما

أبَى لك قَيد بالغِبِيط لقاءهم ... ويومُ العُظالي إن فخرِتَ مُكلَّما
فأفلتَ بسطام جَريضاً بنَفسه ... وغادَر في كَرْشاء لَدْناً مُقوَّما
وفاظ أسيراً هانئ وكأنّما ... مَفارِقُ مَفْروقِ تَغشَّين عَنْدَما
قال: ثم إن هانئاً فَدَى نفسَه وأَسرى قومِه، فقال العوًّام في ذلك:
إنِّ الفَتى هانئاً لاقَى يشكّته ... ولم يَخم عن قِتال القوم إذ نَزَلا
ثمت سارَع في الأَسْرى فَفكَّهُم ... حامِىَ الذّمار حقيق بالذي فَعلا
يوم الغبيط
لبني يربوع على بني بكرقال أبو عُبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثَّعالب. والثعالب: أسماء قبائل اجتمعت فيه، ويقال له يوم صَحْراء فَلْج، وقال أبو عُبيدة: حدَّثني سَليط بن سَعْد وزَبَّان الصُّبيري وجَهْم بن حسان السَلِيطيّ، قالوا: غزا بِسْطام بن قَيس، ومَفْروق بن عَمرو، والحارث بن شَريك، وهو الحَوفْزان، بلادَ بني تميم - وهذا اليومُ قبلَ يوم العُظالي - فأغاروا على بني ثَعلبة بن يَرْبوع، وثعلبة بن سَعد بن ضبة، وثعلبة بن عديّ بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذُبيان. فلذلك قيل له يوم الثَّعالب، وكان هؤلاء جميعاً مُتجاورين بصَحراء فَلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالبُ فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نَعمهم. ولم يَشهد عُتيبةُ بن الحارث بن شهاب هذه الوَقْعَة، لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حَنظلة، ثم امتَرُّوا على بني مالك، وهم بين صحراء فَلج وبين الغَبِيط، فاكتسحوا إبلَهم. فركبتْ عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث بن شِهاب ومعه فَرسان من بني يَربوع تَأثّفهُم - أي صاروا لهم مثل الأثافي للرَماد - وتألّف إليهم الأحيمر بن عَبد اللّه، والأسيد بن حِنَّاءةَ، وأبو مَرْحب، وجَزْء ابن سعد الرِّياحي، وهو رئيس بني يَربوع، وربيع والحلَيس وعُمارة، بنو عُتيبة ابن الحارث، ومَعْدان وعِصْمة، ابنا قعنب، ومالك بن نُويرة، والمِنْهال بن عِصْمة، أحد بني رِياح بن يَربوع، وهو الذي يقول فيه مُتمَم بن نويرة في شعره الذي يَرثي فيه مالكاً أخاه:
لقد غَيّب المنهالُ تحت لِوائه ... فتى غير مِبْطان العَشِيِّة أَرْوعَا
فأدركوهم بغَبيط المَدَرة، فقاتلوهم حتى هَزَموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم. وألحّ عُتيبة وأَسيد والأحيمر على بسطام. فلحقه عُتيبة، فقال: أَسْتَأَسِرْ لي يا أبا الصَهباء. فقال: ومَن، أنت؟ قال: أنا عُتيبة، وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. فأسره عُتيبة، ونادى القومُ بِجَادَا، أخا بسطام: كُرَّ على أخيك، وهم يرجون أنْ يأْسروه. فناداه بِسْطام: إن كَرَرت فأنا حَنيف وكان بِسْطام نَصْرانيَّاً، فلحق بِجَاد بقومه. فلم يزل بسطام عند عُتيبة حتى فادى نَفْسه.
قال أبو عُبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فَدى نَفسَه بِأربعمائة بَعير وثلاثين فرساً - ولم يكن عَرِبيُ عكاظي أعلى. فداءً منه - على أنْ جَزَ ناصيته وعاهده أنْ لا يَغْزو بني شِهاب أبداً. فقال عُتيبة بن الحارث بني شِهاب:
أبْلغ سَرِاة بني شَيْبان مالُكةً ... أَنَي أبأتُ بعبد الله بِسْطاما
قاظ الشَرَبَّة في قَيْد وسِلْسلة ... صوت الحديد يُغنِّيه إذا قاما
يوم مخطط
لبني يربوع على بكرقال أبو عُبيدة غزا بِسْطام بن قيس والحَوْفزان، وهو الحارث، مُتساندين يقودان بكر بن وائل حتى وَردوا على بني يَرْبوع بالفِردَوْس، وهو بَطْن لإياد، وبينه وبين مُخطّط ليلة، وقد نذرتْ بهم ينو يَربوع، فالتقوا بالمُخطّط فاقتتلوا. فانهزمت بكرُ بن وائل وهَربَ الحَوفزان وبِسطام ففاتا رَكْضاً. وقُتل شريكُ ابن الحوفزان، قَتله شِهابُ بن الحارث أخو عُتيبة، وأسر الأحيمرُ بن عبد الله ابن الضُّريس الشَيباني. فقال في ذلك مالكُ بن نويرة، ولم يَشهد هذا اليوم:
إلا أكُن لاقيتُ يومَ مخطّط ... فقد خبَر الرُّكبان ما أَتودّدُ
بأفناء حَيّ مِن قبائل مالك ... وعَمرو بن يَربوع أقاموا فأَخْلدوا
فقال الرئيسُ الحَوفزان تَبَينوا ... بني الحِصْن قد شارفتُم ثم حَردوا

فما فَتِئوا حتى رَأَوْنا كأنّنا ... مع الصُبح آذي من البَحر مُزيد
بمَلْمومة شَهْباء يُبرق جالُها ... ترى الشمس فيها حين دَارتْ تَوَقد
فما برحوا حتَى عَلَتْهم كتائب ... إذا طُعنت فرسانُها لا تُعَرد
فأقررت عيني يومَ ظلُوا كأنهم ... ببَطْن الغَبيط خُشْبُ أَثْل مُسند
صَريعٌ عليه الطير ُيَحْجِل فوقَه ... وآخرُ مَكبُول اليَدين مُقَيد
وكان لهم في أَهْلهم ونسائهم ... مبيت ولم يَدْرُوا بما يحدث الغَد
وقد كان لابن الحَوفزان لو انتهى ... شَريكٌ وبِسطام عن الشر مَقْعد
يوم جدودغزا الحوفزان، وهو الحارث بن شريك، فأغار على مَن بالقاعة من بني سَعد بن زَيد مناة، فأخذ نَعَماً كثيراً وسَبى فيهنّ الزَّرقاء، من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، وكانت خَرقاء، فلم يتَمالك أن وَقع بها. فلما انتهى إلى جَدود مَنعتهمّ بنو يربوع بن حَنظلة أن يَرِدُوا الماء، ورئيسُهم عُتيبة ابن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم. فلم يكن لبني بكر بهم يد، فصالحوهم على أن يُعطوا بني يربوع بعضَ غنائمهم، على أن يُخلوهم يَردوا الماء، فقَبِلوا ذلك وأجازوهم. فبلغ ذلك بني سَعد، فقال قيسُ بن عاصم في ذلك:
جَزَى الله يَرْبوعاً بأسوأ سَعْيها ... إذا ذُكرت في النّائبات أمورُها
ويوم حَدُود قد فَضَحتم أباكمُ ... وسالمتُم والخيلُ تَدْمى نُحورُها
فأجابه مالك:
سأسألُ مَن لاقى فوارسَ مُنْقذٍ ... رِقابَ إماء كيف كان نَكِيرُها
ولما أتى الصريخ بني سعد رَكب قيسُ بن عاصم في إثر القوم حتى أدْركهم بالأشْيمَينْ، فألحّ قيسٌ على الحَوْفزان، وقد حمل الزرقاء. وكان الحَوْفزان قد خرج في طَليعة، فلقيه قيس بنُ عاصم فسأله: مَن هو؟ فقال: لا تَكاتُم اليوم، أنا الحَوْفزان، فمن أنت؟ قال: أنا أبو عليّ، ومَضى. ورجع الحوفزان إلى أصحابه، فقال: لقيتُ رجلاً أزرق كأنّ لِحْيته ضرَيبة صُوف، فقال: أنا أبو عليّ. فقالت عجوز من السّبي: بِأَبي أبو عليّ، ومَن لنا بأبي عليّ؟ فقال لها: ومن أبو عليّ؟ قالت: قَيس بنُ عاصم. فقال لأصحابه: النَّجاء، وأردف الزَّرقاء خلفه وهو على فرسه الزبِد، وعَقد شَعرها إلى صَدره ونجا بها. وكانت فرسُ قيس إذا أوْعثت قَصرَّت وتَمطَّر عليها الزَّبد. فلما أجدَّت لحقت بحيث تكلّم الحوفزان. فقال قيس له: يا أبا حِمار، أنا خير لك من الفلاة والعَطَش. قالت له الحوفزان: ما شاءت الزَّبِد. فلما رأى قيس أنِّ فرسه لا تَلحقه نادي الزرقاء، فقال: مِيلي به يا جَعار. فلما سَمِعه الحوفزان دَفعها بِمرفقه وجَزَّ قُرونها بسيفه. فلما ألقاها عن عَجز فرسه. وخاف قيس ألاّ يَلحقَه، فنَجله بالرُّمح في خُرابة وَركه، فلم يُقْصِده وعرّج عنها. وردّ قيس الزرقاء إلى بنِي الرّبيعِ. فقال سَوَّار بن حَيّان اْلمِنقريّ:
ونحن حَفرنا الحَوفزانَ بطَعْنةٍ ... تَمجّ نَجيعاً من دم الجَوف أشكلاَ
يوم سفوانقال أبو عُبيدة: التقت بنو مازن وبنو شَيبان على ماء يقال له سَفَوَان، فزعمت بنو شَيبان أنه لهم، وأرادوا أن يُجْلوا تميَماً عنه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظهرتْ عليهم بنو تَميم وذادوهم حتى وردوا المُحْدَث، وكانوا يَتواعدون بني مازن قبلَ ذلك، فقال في ذلك وَدَّاك المازنِيّ:
رُوَيْداً بني شَيْبان بعض وَعيدكم ... تُلاقوا غداً خَيْلي على سَفَوَانِ
تُلاقُوا جِياداً تَحِيد عن الوَغَى ... إذا الخيلُ جالت في القَنا المُتداني
عَليها الكمِاة الغُرُّ من آل مازنٍ ... ليوث طِعان كلَّ يوم طِعان
تُلاقُوهمُ فَتعْرِفوا كيف صَيْرُهم ... على ما جَنت فِيهم يدُ الحَدَثان
مَقاديم وصّالون في الرَّوْع خَطْوَهم ... بكُل رَقِيق الشَّفْرتين يَمانِي
إذا استُنجدوا لم يَسألوا مَن دعاهم ... لأية حَرْب أم لأيّ مَكان
يوم السلي

قال أبو عُبيدة: كان من حديث يوم السليّ أن بني مازن أغارت على بني يَشكُر فأصابوا منهم، وشدّ زاهرُ بن عبد الله بن مالك على تيْم بن ثَعلبة اليَشْكري فقتله، فقال في ذلك:
للّهِ تَيم أيُّ رُمح طِرَادِ ... لاقَى الحِمَامَ وأي نَصْل جِلادِ
ومِحَشّ حَرْب مُقدم متعرض ... للموت غَير مُعرد حَياد
وقال حاجب بنَ ذُبْيان المازني:
سَلي يَشْكُراً عني وأبناء وائل ... لَهازِمَها طُرَأ وجَمْعَ الأراقم
ألم تَعلمي أنّا إذا الحربُ شمرت ... سِمَامُ على أعدائنا في الحَلاَقِم
عتاةٌ قُراةٌ في الشِّتاء مَساعِرٌ ... حُماةُ كماةٌ كالليوث الضَراغم
بأيديهُم سُمْرٌ من الخَطّ لَدْنةٌ ... وبيضٌ تُجَلَى عن فِراخ الجَماجم
أولئك قوْمٌ إن فخرتُ بعزهم ... فخرتُ بعزّ في اللَهى والغَلاصم
هُمُ أنزلوا يومَ السلي عزيزَها ... بسُمْر العَوالِي والسُيوف الصَوارم
يوم نقا الحسنوهو يوم السَّقيفة - لبني ضبة علي بني شيبان
قال أبو عُبيدة: غزا بسطامُ بن مَسعود بن قيس بن خالد، وقيسُ بن مسعود، وهو ذو الجدَين، وأخوه السليلُ بن قيس بن ضَبة بن أد ابن طابخة، فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتَفق فيها فَحْلُها قد فَقأ عينَه، وفي الإبل مالكُ بن المُنتفق. فركب فرساً له ونجا رَكْضاً، حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه. فركبتْ بنو ضبة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا. فقال عاصمُ بن خَليفة لرجل من فُرسان قومه: أيهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحبُ الفرس الأدهم - يعني بِسْطاماً - فعلا عاصمٌ عليه بالرمح، فعارضه، حتى إذا كان بحذائه رَمى بالقوس وجمعَ يَديه في رُمحه فطَعنه، فلم تخطئ صِماخَ أذنه، حتى خرج الرمحُ من الناحية الأخرى، وخَر على الألاءة - والألاءة: شجرة - فلما رأى ذلك بنو شَيبان خلُوا سبيل بن مَسعود، أخا بِسطام، في سِبعين من بني شَيبان. فقال ابنُ عَنَمة الضبي: وهو مجاور يومئذ في بني شَيبان، يرثي بسطاماً، وخاف أن يقتلوه، فقال:
لأمَ الأرْض ويلٌ ما أجنَتْ ... بحيثُ أضَرَ بالحَسَن السَّبيل
يقسِّم مالَه فينا ويَدْعو ... أبا الصَّهباء إذ جَنح الأصيل
كأنكِ لم تَرَيْه ولن نراه ... تَخب به عُذَافِرةٌ ذَمُول
حَقِيبة رَحْلها بَدنٌ وسَرْج ... تُعَارِضها مُرببة دَءُول
إلى مِيعادِ أرعنَ مُكفهر ... تُضمَر في جوانبه الخُيول
لكَ المِرْباع منها والصَّفَايا ... وحُكْمُك والنَشيطةُ والفُضول
لقد ضَمِنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يُوفِي ببسطام قَتِيل
فخر على الآلاءة لم يوسد ... كأن جَبينه سيفٌ صَقِيل
فإن تَجزع عليه بنو أبيه ... فقد فُجعوا وحل بهم جليل
بمِطْعام إذا الأشوالُ راحت ... إلى الحَجَرات ليس لها فَصيل
وقال شَمعلة بن الأخضر بن هُبيرة:
ويم شقائق الحَسَنَيْن لاقتْ ... بنو شَيبان آجالاً قِصارا
شَكَكْنا بالرِّماح وهُن زُور ... صِمَاخي كَبْشهم حتى استدارا
وأَوْجزناه أسمرَ ذا كُعوب ... يُشبّه طولُه مَسداً مُغَارا
وقال مُحرز بن المُكَعبر الضَّبي:
أطلقت من شَيبان سبعينَ راكباً ... فآبوا جميعاً كلّهم ليس يَشْكُر
إذا كنتَ في أَفْناء شَيبان مُنعِماً ... فجُزّ اللِّحى إنّ النّواصيَ تَكْفُر
فلا شُكرَهم أَبغِي إذا كنتُ مُنعِماً ... ولا وُدَّهم في آخر الدَّهر أُضْمِر
أيام بكر على تميميوم الزُّويرين

قال أبو عُبيدة: كانت بكر بن وائل تَنتجِع أرضَ تميم في الجاهليَّة تَرعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرُّجوع لم يَدعوا عورة يُصيبونها ولا شيئاً يَظفرون به إلا اكتسحوه. فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رَعْي أرضكم وما يأتون إليكِم. فَحُشدت تميم وحُشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلّف منهم إلاّ الحَوافزان ابن شريك في أناس من بني ذُهل بن شَيبان، وكان غازياً. فقدّمتْ بكرُ عليهم عَمراً الأصمّ أبا مَفْروق - قال: وهو عمرو بن قيس بن مَسعود، أبو عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان - فحسد سائرُ ربيعة الأصمّ على الرِّياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مَفْروق، إنا قد زَحفنا لتميم وزَحفوا لنا أكثرَ ما كنا وكانوا قطُّ. قالت: فما تريدون؟ قالوا: نُريد أن نجعل كُل حيّ على حَياله ونَجعل عليهم رجلاً منهم فَنعْرفَ غناء كل قبيلة، فإنه أشدُ لاجتهاد الناس. قال: والله إني لأبغض الخلافَ عليكم، ولكن يأتي مَفْروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مَفروق شاوره أبوه - وذلك أول يوم ذُكر فيه مَفروق بن عمرو - فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يَخْدعوك عن رأيك وحَسدوك على رِياستك، والله لئن لقيتَ القومَ فظفرتَ لا يزال الفضلُ لنا بذلك أبداً، ولئن ظُفِر بك لا تزال لنا رياسة نُعرف بها. فقال الأصم: يا قوم، قد استشرتُ مَفروقاً فرأيتُه مخالِفاً لكم، ولستُ مخالفاً رأيه وما أشار به. فأقبلتْ تميم بجمَلين مجللَين مقرونين مُقيَّدين وقالوا: لا نُولي حتى يُولّي هذان الجملان، وهما الرُّوَيْران. فأَخبرت بكر بقولهم الأصم. وأنا زُوَيركم، إن حَشُّوهما فحُشوني، وإن عقروهما فاعقِروني. قال: والتقى القومُ فاقتتلوا قتالاً شديداً. قال: وأَسرت بنو تميم حَرَّاث بن مالك، أخا مُرة بن هَمام، فركَض به رجل منهم وقد أردَفه، وأتبعه ابنُه قتادة بن حَرَّاث حتى لحق الفارسَ الذي أسر أباه، فطَعنه فأراده عن فرسه واستنقذ أباه. ثم استحرّ بين الفريقين القتالُ، فانهزمت بنو تميم، فقُتل مِنهم مَقتلة عظيمة، فممن قُتل قُتل منهم: أبو الرئيس النَّهشلي. وأخذت بكر الزّويرين، أخذتهما بنو سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة؟ فنحروا أحدَهما فأكلوه واقتحلوا الآخر، وكان نَجِيباً، فقال رجل من بني سَدوس:
يا سَلْم إن تَسْألي عنّا فلا كُشُفٌ ... عنا اللِّقاء ولسنا بالمَقارِيفِ
نحن الذين هَزَمْنا يوم صبَّحنا ... جيشَ الزُّوَيْرين في جَمع الأَحاليف
ظلُوا وظَلْنا نَكُرّ الخيلَ وَسْطَهمُ ... بالشِّيب منّا وبالمُرْد الغَطاريف
وقال الأغلب بن جُشَم العِجْليّ:
جاءوا بزويْرهم وجِئنا بالأصمَّ ... شَيخ لنا قد كان من عهد إرم
فكر بالسيف الرُّمح انحطم ... كهِمَّةَ اللَيث إذا ما الليثُ هَمّ
كانت تميمُ معشراً ذوي كَرَم ... مُخلِصة من الغَلاصم العظم
قد نَفخوا لو يَنفُخون في فَحَمْ ... وصَبروا لو صبروا على أمَمْ
إذ ركبتْ ضَبة أعجازَ النَّعم ... فلم تَدَع ساقاً لها ولا قَدَم
يوم الشَّيِّطين
لبكر على تميمقال أبو عُبيدة: لما ظَهر الإسلامُ، قبل أن يُسلم أهلُ نجد والعراق، سارت بكر بن وائل إلى السوِاد، وقالت: نغير على تميم بالشيطين، فإن في دِين ابن عبد المطلب إنه مَن قَتل نفساً قُتل بها. فنُغير هذا العام، ثم نُسلم عليها. فارتحلوا مِن لَعلع بالذّراري والأموال، فأتوا الشّيطين في أَربع، وبينهما مسيرةً ثمان أميال، فسَبقوا كُلّ خبر حتى صبَّحوهم وهم ولا يشعرون، ورئيسُهمٍ يومئذ بشرُ بن مَسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجَدّين، فقَتلوا بني تميم قتلاً ذريعاً وأخذوا أموالَهم. واستحرّ القتلُ في بني العَنبر وبني ضَبَّة وبني يَربوع، دون بني مالك بن حَنظلة.
قال أبو عُبيدة: حَدَّثنا أو الحَمناء العَنبريّ، قال: قُتل من بني تميم يوم الشَيطين ولعلع ستمُّائة رجل. قال: فوفد وفدُ بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل. فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال رُشيد بن رُمَيْض العنبريّ:
وما كان بين الشَّيِّطين ولَعْلع لِنسْوتنا ... إلا مراجِعُ أربُع

فجئْنا بجَمْع لم يرَ الناسُ مثلَه ... يكاد له ظَهْر الوريعة يَظْلَع
بِأَرعن دَهْم تُنْشَد البلقُ وَسْطَه ... له عارضٌ فيه الأسنةُ تَلمع
صَبحنا به سعداً وعَمراً ومالكاً ... فكان لهم يومٌ من الشرّ أشنع
فخلّوا لنا صَحْن العِراق فإنّه ... حَمِىً منهم لا يستطاع مُمنع
يوم صَعْفُوق
لبكر على تميمأغارت بنو أبي ربيعة على بني سَليط بن يَرْبوع يوم صَعْفوق فأصابوا منهم أَسرى. فأتى طريفُ بن تميم العَنبري فروةَ بن مَسعود، وهو يومئذ سيدُ بني أبي ربيعة، ففدَى منهم أَسرى بني سَليط ورَهنهم ابنه. فأبطأ عليهم، فقَتلوا ابنَه، فقال:
لا تَأْمننّ سُلَيمى أنْ أُفارقَها ... صرمى الظعائن بعد اليوم صَعْفوق
أعطيت أعداءه طوعاً برُمته ... ثم انصرفتُ وظنّي غير مَوْثوقِ
يوم مبايض
لبكر على تميمقال أبو عُبيدة: كانت الفُرسان إذا كانت أيامُ عُكاظ في الشهر الحرام وأَمن بعضهم بعضاً تقنّعوا كيلا يُعرفوا، وكان طَريف بن تميم العَنْبري لا يتقنع كما يتَقنِّعون، فوافى عُكاظَ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريفُ قد قتل شَراحيل الشَيباني، أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذُهل بن شيبان. فقال حَصِيصه: أروني طريفاً. فأروه إياه. فجعل كُلّما مرّ به تأمَله ونَظر إليه ففَطِن طَريف، فقال: مالك تنظر إليِّ؟ فقال: أتوسّمك لأعرفك. فلله علي إن لَقِيتُك أن أقتلكَ أو تَقْتلني. فقال طريف في ذلك:
أَوَ كُلما وردتْ عُكاظَ قَبيلةٌ ... بَعثوا إلي عريفَهم يتوسَّم
فتوسموني إنّني أنا ذلكم ... شاكِي سلاحي في الحوادث مُعْلَم
تحتي الأغر وفوق جِلْدي نَثْرةٌ ... زَغف تَردُ السيفَ وهو مُثَلّم
حولي أُسَيِّدُ والهجيم ومازنٌ ... وإذا حللتُ فحولَ بيتيَ خَضَم
قال: فمضى لذلك ما شاء الله. ثم إنّ بني عائذة، حُلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان. وهم يزعمون أنهم من قريش، وأن عائذة ابنُ لُؤي بن غالب - خرج منهم رجلان يَصِيدان فعَرض لهما رجل من بني شَيبان فذَعر عليهما صيدَهما، فوثبا عليه فقتلاه. فثارت بنو مُرّة بن ذهل بن شَيبان يريدون قَتلهما. فأبت بنو أبي ربيعة عليهم ذلك. فقال هانئ بن مَسعود: يا بني أبي ربيعة، إن إخوتَكم قد أرادوا ظُلمكم، فانمازوا عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نَزلوا بمُبايض ماء، - ومُبايض: عَلَم من وراء الدهناء - فأَبق عبدٌ لرجل من بني أبي، ربيعة فسار إلى بلاد تَميم، فأخبرهم أنّ حيَاً جديداً من بني بكر بن وائل نُزول على مُبايض، وهم بنو أبي ربيعة، أو الحيّ الجديد المُنتقى من قومه. فقال طَريف العَنبريّ: هؤلاء ثأرى يا آل تَميم، إنما هم أَكَلة رأس. وأقبلَ في بني عمرو بن تميم، وأقبل معه أبو الجَدْعاء، أحد بني طُهيَّة، وجاءَه فَدكيُّ بن أَعْبد المِنْقري في جَمْع من بني سعد بن زيد مَناة، فنَذِرت بهم بنو أبي ربيعة، فانحاز بهم هانئ بن مَسعود، وهو رئيسهم، إلى عَلَم مُبايض، فأقاموا عليه. وشرَّقوا بالأموال والسرح، وصَبّحتهم بنو تميم. فقال لهم طَريف: أطيعوني وافرغُوا من هؤلاء الأكلب يَصْفُ لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حَنظلة، وفدكيّ رئيسُ سعد بن زيد مناة: أُنُقاتل أكْلباً أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي، وأبوا عليه. فقال هانئ لأصحابه: لا يُقاتل رجل منكم. ولحقت تميم بالنَّعم والبغال، فأغاروا عليها. فلمّا ملئوا أيديهم منِ الغَنيمة، قال هانئ بن مسعود لأصحابه: احمِلوا عليهم. فهزموهم وقتلوهم طَريفاً العَنبري، قتله حَمصيصَة الشَّيباني، وقال:
ولقد دعوتُ طريف دعوةَ جاهل ... سَفَهاً وأنت بعَلم قد تَعلُم
وأتيتُ حيَّاً في الحُروب محلَّهمَ ... والجيشُ باسم أبيهم يستقدم
فوجدتُ قوماً يَمنعون ذِمارهم ... بُسْلاً إذا هاب الفوارسُ أَقْدموا
وإذا دُعُوا أبني رَبيعة شَمَّروا ... بكتائب دون السَّماء تُلَمْلم

حَشَدوا عليك وعَجلوا بِقراهمُ ... وحَمَوْا ذِمار أبيهم أنْ يُشْتموا
سَلبوك دِرْعك والأغرّ كليهما ... وبنو أُسيّد أَسْلموك وخَضَّم
يوم فيحان
لبكر على تميمقال أبو عُبيدة: لما فَدى نفسه بسْطامُ بن قَيس من عُتيبة بن الحارث، إذ أُسر يوم الغَبيط، بأربعمائة بعير، قال: قال: لأدركنّ عَقْل إبلي. فأغار بفيحان فأخذ الربيعَ بن عُتَيبة وأستاق مالَه. فلمّا سار يومين شُغل عن الربيع بالشراب، وقد مال الربيع على قدِّه حتى لان، ثم خَلعه وانحلّ منه، ثم جال في مَتن ذات النُّسوع - فرس بِسطام - وهرب. فركبوا في إثره، فلمّا يَئسوا منه ناداه بِسطام يا ربيع، هُلمّ طليقاً، فأبَى. قال: وأبوه في نادِي قومه يُحدثهم، فجعل يقول في أثناء. حديثه: إيهاً يا ربيع، أنجُ يا ربيعَ، وكان معه رَئِيِّ. قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يَربوع، فإذا هو براع، فاستسقاه، وضربت الفرس برأسها فماتت، فسمى ذلك المكان إلى اليوم: هَبِير الفرس. فقال له أبوه عُتَيبة: أمّا إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالَك.
يوم ذي قار الأول
لبكر على تميمقال أبو عبيدة: فخرج عتَيبة في نحو خمسةَ عشر فارساً من بني يربوع، فكمن في حِمى ذي قار حتى مَرت إبل بني الحُصين بالفَداوّية، اسم ماء لهم، فصاحوا بمن فيها من الحامية والرِّعاء، ثم استاقوها. فأخلف للرِبيع ما ذهب له، وقال:
ألم تَرني أفأتُ على رَبيعٍ ... جِلاداً في مَباركها وخُورَا
وأني قد تركتُ بني حُصين ... بذي قارٍ يَرِمُّون الأمورا
يوم الحاجر
بكر على تميمقال أبو عبيدة: خرج وائل بن صُريم اليَشكريّ من اليمامة، فلقيه بنو أُسيِّد ابن عمرو بن تميم فأخذوه أسيراً، فجعلوا يَغْمسونه في الركيَّة ويقولون:
يأيها الماتحُ دَلْوى دُونكما
حتى قتلوِه. فغزاهم أخوه باعث بن صُريم يوم حاجر، فأخذ ثُمامة بنِ باعث ابن صُريم رجلاً من بني أسيِّد، كان وجيهاً فيهم، فقتله وقتل على بَطنه مائةَ منهم. فقال باعثُ بن صُريم:
سائلْ أسَيِّد هل ثأرتُ بوائل ... أم هل شَفيتُ النفسَ من بَلبالها
إذ أرسلوني ماتحاً لدِلائهم ... فملأتُها عَلَقاً إلى أَسْبالها
إنّ الذي سَمك السماء مكانَها ... والبدرَ ليلةَ نِصْفها وهِلالِها
آليت أنقُف منهُم ذا لحْية ... أبداً فَتَنْظُر عينُه في مالِها
وقال:
سائل أسيّد هل ثأرتُ بوائل ... أم هل أتيتهمُ بأمرٍ مُبْرَم
إذ أرسلوني ماتحاً لِدلائهم ... فملأتهنّ إلى العَراقي بالدمِ
يوم الشِّقِيق
لبكر على تميمقال أبو عُبيدة: أغار أَبجر بن جابر العِجلْي على بني مالك بن حَنظلة، فسَبى سُلَيْمى بنت مِحْصَن، فولدت له أَبجرِ. ففي ذلك يقول أبو النَجم:
ولقد كررتُ على طُهية كَرَّةَ ... حتى طرقت نساءها بمَساء
حرب البسوس
وهي حرب بكر وتغلب، ابني وائلٍ
أبو المُنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تَجتمع مَعد كلها إلاّ على ثلاثة رَهط من رؤساء العرب، وهم: عامر وربيعة وكُليب.
فالأول: عامر بن الظَّرب بن عمرِو بن بكر بن يَشكر بن الحارث، وهو عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيلان، وهو النَاس بن مُضر. وعامر بن الظرب هو قائد معد يوم البَيداء، حين تَمَذْحجت مَذْحج، وسارت إلى تِهامه، وهي أول وَقْعة كانت بين تهامة واليمن.

والثاني: ربيعة بن الحارث بن مُرة بن زهير بن جُشم بن بكر بن حُبَيب ابن كعب، وهو قائد معدّ يوم السُّلان، وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كُليب بن ربيعة، وهو الذي يُقال فيه: أعزّ من كليب وائل. وقاد معدَاً كلها يوم خَزار، ففصّ جُموع اليمن، وهَزمهم. فاجتمعت عليه معدّ كُلها، وجعلوا له قسمِ الملك، وتاجَه وتحيّته وطاعته. فغَبر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهوٌ شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عِزّة وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بَغيه أنه كان يَحمي مواقع السحاب، فلا يُرعى حِماه، ويُجير على الدَهر فلا تُحفر ذمّته، ويقول: وَحش أرض كذا في جواري فلا يُهاج، ولا تورد إبلُ أحدٍ مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: أعزُّ من كليب وائل. وكانت بنو جُشم وبنو شَيبان في دار واحدة بتِهامة، وكان كُليب بن وائل قد تزوّج جَليلة بنت مُرة بن ذُهل بن شَيبان، وأخوها جَسّاس ابن مُرة. وكانت البَسوس بنت مُنقذ التميميّة خالةَ جساس بن مُرة، وكانت نازلةً في بني شَيبان مجاورةً لجسّاس، وكانت لها ناقة يقال لها سَراب، ولها تقول العرب: أشأم من سَراب، وأشأم من البَسوس فمرّت إبل لكُليب بسَراب، ناقة البسوس، وهي مَعقولة بفناء بيتها في جوار جَسَّاس بن مُرة. فلمّا رأت سرابُ الإبلَ نازعت عِقالَها حتى قطعتْه، وتَبعت الإبل واختلطت بها حتى اْنتهت إلى كُليب، وهو على الحَوض معه قوسٌ وكنانة. فلمّا رآها أنكرها، فانتزع لها سهماً، فخَرم ضَرعها، فنفرت الناقة وهي تَرْغو. فلما رأتها البسوس قَذفت خِمارَها عن رأسها وصاحت: واذُلاّه! واجاراه! وخرجت.
فأحمست جسّاساً. فركب فرساً له مُعْرَوريةً، فأخذ آلته، وتَبعه عمرو ابن الحارث بن ذُهل بن شَيبان على فرسه ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحِمَى، فقال له: أيا أبا الماجدة، عمدتَ إلى ناقة جارتي فعقرتها. فقال له: أتُراك ما نِعي إن أذُبّ عن حِماي؟ فأحمسه الغضبُ، فطَعنه جسَّاس فقَصم صُلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع بَطنه، فوقع كُليب وهو يَفْحص برجله، وقال لجساس: أغِثْنى بشربة من ماء. فقال: هيهات، تجاوزت شبَيثَاً والأحَصّ. ففي ذلك يقول عمرو بن الأهْتم:
وإنّ كُليباً كان يَظلم قومَه ... فأدركه مثلُ الذي تَريانِ
فلما حَشاه الرمحَكفُّ اْبن عمّه ... تذكّر ظُلم الأهل أيّ أوان
وقال لجسّاسٍ أَغِثْني بشرَبة ... وإلا فخَبِّر مَن رأيتَ مكاني
فقال تجاوزتَ الأحصَّ وماءه ... وبَطن شُبيثٍ وهو غير دِفَان
وقال نابغة بني جَعدة:
أَبْلغ عِقالاً أنّ خُطة داحس ... بكَفَيك فاستأخر لها أو تَقَدّم
كليب لعمري كان أكثَر ناصرأً ... وأيسرَ ذَنباً منك ضُرِّج بالدَّم
رَمى ضَرْع ناب فاستمرّ بطَعْنة ... كحاشية البُرد اليَماني المُسهًم
وقال لجسّاسً أغثْني بشَرْبةٍ ... تَداركْ بها مَنَّا عليّ وأَنعِم
فقال تجاوزتَ الأحصّ وماءَه ... وبطن شُبيث وهو ذو مترسّم

فلما قُتل كُليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النِهى. وتشمّر المُهلهل أخو كليب، واسمه عُدِيّ بن ربيعة، وإنما قيل له المُهلهل لأنه أول مَن هَلهل الشعر، أي أرقّة، واستعد لحرب بكر، وترك النِّساء والغَزل، وحَرّم القِمار والشَراب، وجَمع إليه قومَه، فأرسل رجالاً منهم إلى بني شَيبان يُعذر إليهم فيما وَقع من الأمر. فأتوا مُرة بن ذهل بن شَيبان، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيماً بقَتلكم كُليباً بناب من الإبل، فقطعتمِ الرحم، وانتهكتمِ الحُرمة، وإنا كرهنا العَجلة عليكم دون الإعذار إليكم. ونحن نعرض عليكمِ خِلالاً أربع لكم فيها مَخرج، ولنا مَقنع. فقال مرة: وما هي؟ قال له: تُحْي لنا كليباً، أو تدفع إلينا جَساساً قاتلَه فنقتله به، أو همّاماً فإنه كُفء له، أو تُمكننا من نفسك فإنّ فيك وفاءَ منِ دمه؟ فقال: أما إحيائي كُلَيباً فهذا ما لا يكون؟ وأمّا جَسّاس فإنه غلام طَعن طعنةَ على عَجَل ثم ركب فرسَه فلا أدري أيّ البلاد أحتوى عليه؛ وأمّا همّام فإنه أبو عَشرة وأخو عَشرة وعَمّ عشرة كُلهم فُرسان قومهم، فلن يُسلموه لي فأدفعه إلَيكم يُقتل بجرَيرة غيره، وأما أنا فهل هو إلاّ أنْ تَجول الخيلُ جولةً غداً فأكونَ أوّلَ قتيل بينها، فما أتعجَّل من الموت؟ ولكن لكم عندي خَصْلتان: أما إحداهما، فهؤلاء بنيّ الباقون فعلِّقوا في عُنق أيّهم شِئتم نِسْعة فانطلقوا به إلى رِحالكم فأذبحوه ذَبْح الجَزور، وإلا فأَلف ناقة سوداء المُقَل أقيمِ لكم بها كفيلاً من بني وائل. فغضب القومُ وقالوا: لقد أسأتَ، تُرْذل لنا ولدك وتسومنا اللبنَ من دم كُليب. ووقعت الحربُ بينهم.
ولحقت جليلةُ زوجةُ بأبيها وقومها. ودعت تغلب النمرَ بن قاسط فانضمّت إلى بني كُليب وصاروا يداً معهم على بكر، ولحقت بهم غُفَيلة ابن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائلِ وكَرِهوا مُجامعة بني شَيبان ومُساعدتهم على قتال إخوتهم، وأعظموا قتلَ جسّاس كُليباً رئيسهم بناب من الإبل. فظَعنت لجيم عنهم، وكفّت يَشْكر عن نُصرتهم، وأنقبض الحارث بن عُباد في أهل بيته. وهو أبو بُجير وفارس النَّعامة. وقال المُهلهل يرثي كُليباً:
بِت ليلي بالأنْعَمين طويلاً ... أرقب النجم سهراً أن يزولا
كيف أهَدَأ ولا يزال قَتيلٌ ... من بني وائل ينسي قتيلا
غَنِيت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معد حلولا
فتساقَوْا كأساً أمرت عليهم ... بينهم بقتل العزيز الذليلا
فَصَبحْنا بني لُجيم بضَرب ... يترك الهم وقعه مفلولا
لم يُطيقوا أن يَنْزلوا ونزَلناً ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
انتضَوْا مَعْجِس القسي وأبْرق ... نا كما توعد الفحولا
قَتلوا ربَّهم كُلباً سَفاهاً ... ثم قالوا ما نخاف عويلا
كَذبوا والحرام والحِلِّ حتى ... نسلب الخدر بيضة المحجولا
ويموت الجَنين في عاطفِ الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
وقال أيضاً يَرثيه:
كُليبُ لا خيرَ في الدنيا ومَن فيها ... إذ أنت خليتها فيمن يخلبها
كُليب أيّ فتَى عزٍّ ومَكْرُمة ... تحت السّقائف إذ يعلوك سافيها
نَعى النُعاةُ كُليباً لي فقلتُ لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحَزم والعَزْمُ كانا من صَنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائدُ الخَيْل تَرْدَى في أعنَتها ... زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها
مِن خيل تَغْلبَ ما تلقي أسنَّتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
يُهَزْهِزُون من الخَطّيّ مُدْمَجة ... كمتاً أنابيبها زرقاً عواليها
تَرى الرِّماحَ بأيدينا فنُوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
ليت السماء على مَن تّحتها وقعتْ ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منِّا من يُصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
يوم النهِّي

قال أبو المُنذر: أخبرني خِرَاش أن أوَل وَقعة كانت بينهم بالنهي يوم النهِّى.
فالتقوا بماء يقال له النَهي كانت بنو شَيبان نازله عليه. ورئيسُ تَغلب المهلهل، ورئيس شَيبان الحارثُ بن مُرًة. فكانت الدائرةُ لبني تَغلب، وكان الشَّوكة في شَيبان، واستحرّ القتل فيهم، إلا أنه لم يُقتل في ذلك اليوم أحد من بني مَرَة.
يوم الذنَّائب
ثم التقوا بالذنائاب، وهي أعظم وَقعة كانت لهم، فظفرت بنو تَغلب وقُتلت بكر مقتلة عظيمة. وفيها قُتل شرَاحيل بن مرة بن هَمام بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان وهو جدّ الحَوْفزان، وهو جد مَعْن بن زائدة. والحَوْفزان هو الحارث ابن شريك بن عمروِ بن قيس بن شَراحيل، قتله عتاب بن سَعد بن زُهير بن جُشَم. وقُتل الحارث بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان، قتله كعب بن ذُهل بن ثعلبة. وقُتل من بني ذهل ثَعلبة: عمرو بنُ سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة. وقتل مِن بني تَيم الله. جميلُ بن مالك بن تَيم اللّه، وعبد الله بن مالك بن تَيم اللّه. وقُتل من بني قيس ابن ثعلبة: سعدُ بن ضُبيعة بن قيس، وتميم بن قيس بن ثعلبة، وهو أحد الخَرِفين. وكان شيخاً كبيراً فحُمل في هودج، فلَحِقه عمرو بن مالك بن الفَدَوْكس بن جُشم، وهو جدّ الأخطل، فقَتله. هؤلاء مَن أصيب من رؤساء بكر
يوم الذنائب.
يوم وارداتثم التقوا بواردات، وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمَينا. فظفرت بنو تغلب وأستحر القتلُ في بني بكر، فيومئذ قتل الشعثمان، شَعثم وعبد شمس، ابنا معاوية بن عامر بن ذُهل بن ثعلبة؟ وسيار بن الحارث بن سيار. وفيه قُتل همام ابن مرة بن ذُهل بن شَيبان، أخو جساس لأمه وأبيه، فمرْ به مُهلهل مقتولاً، فقال: والله ما قُتل بعد كُليب قَتيل أعز علي فقداً منك، وقتله ناشرة. وكان همَام رَباه وكَفله، كما كان ربى حُذيفةُ بن بَدْر قِرْواشاً، فقتله يومَ الهَباءة.
يوم عُنيزة
ثم التقوا بعُنيزة، فظَفِرت بنو تَغلب. ثم كانت بينهم مُعاودة ووقائع كثيرة، كُل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تَغلب على بني بكر. فمنها: يوم الحِنو، ويوم عُويْرضات، ويوم أنيق، ويوم ضَرِيّة، ويوم القُصيبات. هذه الأيام لتغلب على بكر. أُصيبت فيها بكر حتى ظنّوا أن ليس يَسْتقبلون أمرهم. وقال مُهلهل يصف هذه الأيّام ويَنعاها على بكر في قَصيدة طويلة أولها:
أليلَتنا بذي حُسُم أَنِيري ... إذا أنت انقضَيت فلا تَحُورِي
فإن يكُ بالذّنائب طال ليلي ... فقد أَبكي من اللّيل القَصير
وفيها يقول:
فلا نُبش المَقابِرُ عن كُليب ... لأُخْبر بالذّنائب أيّ زِير
كأنّا غدوةً وبني أَبينا ... بجَنب عُنَيزة رَحَيا مُدِير
وإنّي قد تركتُ بوارداتٍ ... بجُيراً في دَم مِثل العَبير
هتكتُ به بيوتَ بني عُبَاد ... وبعضُ القتل أَشْفى للصدور
على أنْ ليس عَدْلاً من كُليب ... إذا بَرزت مُخبَّأة الخُدورِ
ولولا الريح اسْمع مَن بحَجْر ... صَليلَ البِيض تُقرع بالذكور
وقال مهلهل لما أسرف في الدماء:
أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم ... حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ
آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ ... حتى أبهرج بكراً أينما وُجدوا
قال أبو حاتم: أُبهرج: أدعهم بهرجاً لا يُقتل بهم قتيل ولا تُؤخذ لهم دية.
قال: والبَهْرج من الدراهم، مِن هذا. وقال المُهلهل:
يا لبَكر انشروا لي كُلَيباً ... يا لبَكر أينَ الفِرارُ؟
تلك شيبان تقول لبكر ... صرِّح الشرُّ وبان السِّرار
وبنو عِجْل تقول لقَيس ... ولتَيْم اللات سِيرُوا فسارُوا
وقال:
قَتلوا كليباً ثم قالوا ارْبعوا ... كَذبوا وربّ الحِلِّ والإحرْام
حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ... ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ
وتقومَ ربَّاتُ الخُدور حواسراً ... يَمْسحن عُرْض ذَوائب الأيتام
حتى يَعضّ الشيخُ بعدَ حَمِيمه ... مما يرَى نَدماً على الإيهام
يوم قِضَة

ثم إنّ مُهلهلاً، أسرف في القتل ولم يُبال بأيّ قبيلة من قبائل بكر أوقع، وكان أكثرُ بكر قعدت عن نُصرة بني شَيبان لقَتْلهم كُليب بن وائل، فكان الحارث بن عُباد قد اعتزل تلك الحُروب. حتى قُتل ابنُه بُجير بن الحارث. ويقال إنه كان ابنَ أخيه، فلما بلغ الحارثَ قتلُه، قال: نِعْم القتيلُ قتيلٌ اصلح بين ابني وائل، وظنّ أنّ المُهلهل قد أدرك به ثأر كُليب وجعله كُفئاً له. فقيل له: إنما قتله بشِسْع نَعْل كُليب. وذلك أن المهلهل لما قَتل بُجيراً قال: بُؤ بشِسْع كُليب. فغضب الحارثُ بن عُباد، وكان له فرس يقال لها النَّعامة، فَركبها وتولَّى أمرَ بكر، فقَتل تَغلب حتى هَرب المُهلهل وتفرقت قبائل تغلب، فقال في ذلك الحارث بن عُباد:
قربا مَرْبط النًّعامة مِنّي ... لَقحتْ حربُ وائل عَن حِيالي
لم أكُن من جُناتها علم اللهُ ... وإنّي بحِرّها اليومَ صَالي
وكان أول يوم شهده الحارث بن عُباد يوم قِضَة، وهو يوم تَحْلاق اللِّمم، وفيه يقول طَرفة بن العَبْد:
سائلوا عنّا الذي يَعْرفنا ... ما لَقُوا في يوم تَحْلاق اللِّممْ
يوم تُبْدي البيضُ عن أسْؤُقها ... وتَلُفّ الخيْلُ أفواجَ النَّعم
وفيه أسر الحارثُ بن عباد المهلهلَ وهو لا يَعرفه، واسمه عديّ بن ربيعة، فقال له: دُلّني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له عديّ: عليك العهود بذلك إن دللتُك عليه؟ قال: فأنا عديّ. فجزَّ ناصِيَتَه وتَركه، وقال فيه:
لَهْف نفسي على عَدِيّ ولم أعْرِف عَدِيّاً إذا أمْكَنتْني اليدان.
وفيه قُتل عمرو وعامر التَغلبيان. قتلهما جَحدر بن ضُبيعة. طَعن أحدهما بسنان رُمحه والآخر بزُجّه. ثم إنَ المُهلهل فارق قومَه ونزل في بني جَنْب، وجَنب في مَذحِج، فخطبوا إليه ابنته فمنعهم. فأخبروه على تَزْويجها وساقوا إليه في صداقها جُلوداً من أدَم، فقال في ذلك:
أعزز على تَغْلب بما لَقِيتْ ... أختُ بني الأكرمين من جُشَم
أنكحها فقدُها الأراقمَ في ... جَنْب وكان الحِباء من أدم
لو بأبانَينْ جاء يَخْطبها ... زمَل ما أنفُ خاطب بدَم
الكلاب الأولقال أبو عُبيدة: لما تَسافهت بكرُ بن وائل وغَلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامُها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سُفهاءنا قد غَلبوا على أمرنا فأكل القويُ الضعيفَ، ولا نَستطيع تغييرَ ذلك، فنرى أن نُملَك علينا ملكاً نُعطيه الشاةَ والبعير، فيأخذ للضّعيف من القوي، ويردُّ على المظلوم من الظالم، ولا يُمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، فتفسُد ذاتُ بيننا، ولكنّا نأتي تُبعَاً فنُملَكه علينا. فأتوه فذكروا له أمرهم، فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكِنديّ، فقَدِم فنزل عاقل، ثم غزَا ببكر بن وائل حتى أنتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللَّخميَين، وملوك الشام الغسانيين، وردّهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طُعن في نَيْطه، أي مات، فدُفن ببطن عاقل. واختلف أبناه شُرَحْبِيل وسَلَمة، في المُهلك، فتواعد الكُلاب. فأقبل شُرَحبيل في ضَبة والرباب كُلها، وبني يَربوع وبكر بن وائل. وأقبل سَلَمة في تَغلب والنمر وبَهراء، ومَن تَبعه مِن بني مالك بن حَنظلة، وعليهم سُفيان بن مُجاشع، وعلى تغلب السفَاح - إنما قيل له السفاح، لأنه سَفح أوعية قَومه - وقال لهم: أبدرُوا إلى ماء الكلاب، فسبقوا ونزلوا عليه. وإنما خرجتْ بكرُ بن وائل مع شُرحبيل لعداوتها لبني تغلب. فالتقوا على الكُلاب، واستحر القتلُ في بني يَربوع، وشد أبو حَنَش على شُرحبيل فقتله، وكان شرُحبيل قتل ابنه حَنَشاً، فأراد أبو حَنَش أن يأتي برأسه إلى سَلمة فخافه، فبعثه مع عَسيف له. فلما رآه سَلمة دَمعت عيناه، وقال له: أنت قتلتَه؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حَنش. فقال: إنما أدفع الثوابَ إلى قاتله. وهَرب أبو حَنش عنه. فقال سَلَمة:
ألا أبْلغ حَنَش رسولاً ... فما لك لا تجيء إلى الثوابِ
تعلم أن خير الناس مَيْتاً ... قَتِيلٌ بَين أحجار الكُلاب
تداعت حَوله جُشَمِ بن بَكر ... وأسلمه جَعاسيسُ الرباب
ومما يَدُل على أن بكراً كانت مع شرُحبيل قولُ الأخطل:

أبا غسان إنّك لم تُهني ... ولكن قد أهنتَ بني شِهاب
تَرقَّوا في النَخيل وأنسِئونا ... دِماءَ سرَاتكم يومُ الكُلاب
يوم الصفقة ويوم الكلاب الثانيقال أبو عُبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العَلاء قال: كان يوم الكُلاب مُتصِلاً بيوم الصَفْقة، وكان من حديث الصَفقة أن كِسرى الملك، كان قد أوقع ببني تميم، فأخذ الأموالَ وسَبى الذَّراري بمدينة هَجر، وذلك أنّهم أغاروا على لَطيمة له فيها مِسك وعَنبر وجَوهر كثير، فسُمِّيت تلك الوَقعة يوم الصَّفقة، ثم إنّ بني تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحِجا منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وَهنتم، وتسامعتْ بما لقيتُم القبائل فلا تَأْمنون دَوران العرب. فجَمعوا سَبعة رؤساء منهم وشاوروهمِ في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفيّ الأسيِّديّ، والأُعيمر بن يَزيد بن مُرة المازنيّ، وقيس بن عاصم المِنْقريّ، وأُبير بن عِصْمة التَّيميّ، والنُّعمان ابن الحَسْحاس التَّيمي، وأُبَيْر بن عمرو السَّعدي، والزِّبْرقان بن بَدر السعديّ. فقالوا لهم: ماذا تَروْن؟ فقال أكثم بن صَيفيّ، وكان يُكنى أبا حَنش: إنّ الناس قد بلغهم ما قد لقينا، ونحن نخاف أن يطمعوا فينا، ثم مَسح بيده على قَلبه، وقال: إنّي قد نَيّفت على التِّسعين، وإنما قلبي بَضْعة من جِسْمي، وقد نَحل كما نحل جِسْمي، وإنّي أخاف أن لا يُدرك ذهني الرأيَ لكم، وأنتم قومٌ قد شاع في النّاس أمرُكم، وإنما كان قوامكم أسيفاً وَعَسيفاً - يُريد العَبد والأجير - وصِرْتم اليوم إنما تَرعى لكم بناتكم، فليعرض عليّ كُل رجل منكم رأيَه وما يَحْضُره، فإني متى أسمع الحَزم أعرفه. فقال كُل رجل منهم ما رأى، وأكثمُ ساكتٌ لا يتكلَم حتى قام النعمان بن الحَسْحاس، فقال: يا قوم، انظُروا ماءَ يجمعكم، ولا يعلم الناس بأيّ ماء أنتم حتى تَنفرج الحَلْقة عنكم وقد جَممتم، وصلُحت أحوالُكم، وانجبر كسيركم، وقَوِي ضعيفُكم. ولا أعلمِ ماءً يَجمعكم إلا قِدّة، فارتحلوا ونزلوا قِدَة. وهو موضع يُقال له الكُلاب. فلما سمِع أكثم ابن صيفيّ كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي. فارتحلُوا حتى نزلوا الكُلاَب. وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأَسفله مما يلي العراق. فنزلت سعدُ والرَّباب بأعلى الوادي، ونزلتْ حَنظلة بأسفله.

قال أبو عُبيدة: وكانوا لا يخافون أن يُغْزَوا يفي القَيْظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يَستطيع أحدٌ أن يَقطع تلك الصَّحاري لبُعْد مَسافتها، وليس بها ماء، ولشدّة حرّها. فأقاموا بقيّة القَيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى إذا تَهوّر القيظ - أي ذ هب - بَعث الله ذا العَينين، وهو من أهل مدينة هَجَر، فمرَّ بقِدّة وصَحرائها، فرأى ما بها من النَّعم، فانطلق حتى أَتىَ أهل هَجر، فقال لهم: هل لكم في جارية عَذْراء، ومُهرة شَوهاء، وَبكْرة حَمْراء، ليس دونها نَكبة؟ فقالوا: ومَن لنا بذلك؟ قال: تلكم تَميم ألقاء مطروحون بقِدّة. قالوا: إي واللّه. فمشى بعضُهم إلى بعض، وقالوا: أغتنمُوها من بني تَميم. فأَخرَجوا منهم أربعةَ أملاك، يقال لهم اليَزيديّون: يزيد بن هَوْبر، ويزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن اَلمأمور، ويَزيد بن المُخَرِّم، وكلهم حارثيّون؟ ومعهم عبد يغوث الحارثيّ. فكان كُل واحد منهم على أَلفين، والجماعة ثمانية آلاف. فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبرَ منه، ومن جيش كَسْرى يومَ ذي قَار ويوم شِعْب جَبلة. فمضَوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلةَ، قال جَزْء بن جَزْء الباهليّ لابنه: يا بني، كل لك في أُكْرومة لا يُصاب أبداً مثلُها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحيّ من تميم قد وَلجوا هناك مخافةً، وقد قصصتُ أثرَ الجيش يريدونهم، فأركب جَملي الأرْحبيّ وسِرْ سيراً رُويداً، عُقْبةً من الليل - يعني ساعة - ثم حل عنه حَبْليه وأَنْخِه وتوسَّد ذراعه، فإذا سمعته قد أَفاض بجرّته وبال فاستنقعتْ ثَفِناته في بَوْله فشُدّ عليه حَبْله، ثم ضَعْ السوط عليه فإنك لا تَسأل جملَك شيئاً من السَّير إلا أعطاك، حتى تصبح القوم ففعل ما أمره به. قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجَيش وأنا أنظُر إلى ابن ذُكاء - يعني الصّبح - فناديتُ: يا صَباحاه! فإنهم لَيَثِبون إليّ ليسألوني مَن أنت، إذ أقبل رجل منهم من بني شَقيق على مُهر قد كان في النَّعم، فنادى؛ يا صباحاه! قد أُتي على النَّعم. ثم كَر راجعاً نحو الجيش. فلقيه عبد يغوث الحارثيّ، وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس مَعدته، فسبق اللبنَ الدمَ، وكان قد أصطبح. فقال عبد يغوث: أطيعوني وامضُوا بالنعم وخلوا العَجائز من تميم ساقطةً أفواهُها. قالوا: أما دون أن نَنكح بناتِهم فلا. وقال ضمرة بن لَبيد الحِماسي ثم المَذْحجي الكاهن: انظُروا إذا سُقْتم النعم، فإن أتتكم الخيلُ عُصَباً، العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضُهم بعضاً حتى يردوا وُجوه النعم، فإن أمرهم شديد. وتقدمت سعد والرباب في أوائلٍ الخَيل، فالتقَوْا بالقوم فلم يَلتفتوا إليهم. واستقبلوا النعم ولم يَنتظر بعضُهم بعضاً. ورئيس الرباب النعمان بن الحَسْحاس، ورئيس بني سعد قَيسُ بن عاصم. وأجمع العُلماء أن قيس بن عاصم كان رئيسَ بني تميم. فالتقى القوم، فكان أولَ صريع النعمانُ بن الحسحاس. واقتتل القومُ بقية يومهم وثبَت بعضُهم لبعض حتى حَجز الليلُ بينهم. ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيسُ بن عاصم: يالَسعد، ونادى عبدُ يغوث: يالَسعد. قيسٌ يدعو سعدَ بنَ زيدَ مناة، وعبدُ يغوث يدعو سعدَ العشيرة. فلما سمع ذلك قيسٌ نادى: يالكعب فنادى عبدُ يغوث يالكعب. قيس يدعو كعبَ بن سعد، وعبدُ يغوث يدعو كعبَ بن مالك. فلما رأى ذلك قيس نادى: يالكعب مُقاعس. فلما سمعه وَعْلة بن عبد الله الجَرْمي، وكان صاحبَ لواء أهل اليمن، نادى: ياَلمُقاعس، تفاءل به، فطَرح اللواء، وكان أول من أنهزم. فحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم. ونادى قيسُ بني عاصم: يالَتميم، لا تقتلوا إلا فارساً، فإن الرّجالة لكم. ثم جعل يرتجز ويقول:
لما تولَّوا عُصَباً هواربَاً ... أقسمتُ أطعن إلاٌ راكباً
إنْي وجدتُ الطعن فيهم صائباً
وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يَتبعوا المُنهزمة ويقطعوا عُرقوبَ مَن لَحِقوا، ولا يَشتغلوا بقَتلهم عن اتَباعهم. فجزُوا دوابرَهم. فذلك قولُ وَعْلة:
فدى لكمُ أهلي وأُميَ ووالدي ... غداةَ كُلاب إذ تُجز الدَوابرُ

-
وسنكتب هذه القصيدة على وَجهها - . وحَمى عبدُ يغوث أصحابه فلم يُوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظٌ به مَصاد بن ربيعة بن الحارث. فلما لحقَه مَصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره. وكان مَصاد قد أصابته طعنة في مَأْبِضه، وكان عِرْقُه يَهمي - أي يَسيل - فَعصبه، وكَتفه - يعني عبدَ يغوث - ثم أردفه خلفه فنزفه الدمُ، فمال عن فرسه مَقْلوباً. فلما رأى ذلك عبدُ يغوث قطع كِتافَه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أولَ النهار. ثم ظُفِر به بعد في آخره، ونادى مُنادٍ: قُتِل اليزيديّون. وشَدٌ قَبيصة بن ضرار الضَبي على ضمرة بن لَبيد الحِماسيّ الكاهن، فطَعنه فخر صريعاً. فقال له قَبيصةُ: ألا أخبرك تابعُك بمَصرعك اليوم؟ وأسر عبد يغوث، أسره عِصمة ابن أُبير التَّيمي.
قال أبو عُبيدة: انتهى عِصْمة بن أُبير إلى مَصَاد، وقد أمعنوا في الطلب، فوَجده صريعاً، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يَغوث أسيراً في يديه فعرف أنه هو الذي أجهز عليه، فاقتصّ أثرَه، فلما لحقه قال له: ويحك! إنّي رجل أُحب الِّلبن وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أُبير. قال عبد يغوث: أوَ عندك مَنَعة؟ قال: نعم. فألقى يدَه لا يده. فانطلق به عِصْمة حتى خَبأه عند الأهتم على أن جَعل له من فدائه جُعلا. فوَضعه الأهتم عند امرأته العَبْشمية. فأعجبها جمالُه وكمانُا خَلْقه. وكان عِصْمة الذي أسره غلاماً نحيفاً. فقالت لعبد يغوث: مَن أنت؟ قال: أنا سيد القوم. فضحكت وقالت: قَبَّحك الله سيّد قوم حينَ أسرك مثلُ هذا! ولذلك يقول عبد يغوث:
وتَضْحك مني شيخةٌ عَبْشميّة ... كأنْ لم تَريْ قَبْلي أسيراً يَمانيَا
فاجتمعت الرباب إلى الأهتم، فقالت: ثأرُنا عندك، وقد قُتل مَصاد والنُعمان، فأخرجه إلينا. فأبى الأهتم أن يُخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيين؟ الرباب وسعد، فِتْنة. حتِى أقبل قيسُ بن عاصم المِنْقري، فقال: أيؤتى قطع حِلف الرباب - مِن قِبَلنا؟ وضرب فمَه بقَوس فهَتمه، فَسُمَي الأهتم. فقال الأهتم: إنما دَفعه إليّ عِصْمة بن أبير ولا أدفعه إلاّ إلى مَن دَفعه إليّ، فليجئ فليأخذه، فأتوْا عِصْمة فقالوا: يا عصمة، قُتل سيدنا النعمان وفارسنا مَصاد، وثأرنا أسيرُك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تَسْتحييه. فقال: إني مُمْحل وقد أصبت الغِنى في نفسي، ولا تَطيب نفسي عن أسيري. فاشتراه بنو الحَسْحاس بمائة بعير - وقال رُؤبة بن العجَّاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النَّعم - فدفعه إليهم، فخَشُوا أن يهجوهم، فشدُّوا على لسانه نِسْعة. فقال: إنكم قاتلي ولابد، فَدعُوني أذُم أصحابي وأنوح على نفسي. فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تَهجوَنا. فعقد لهم ألا يفعل. فأطلقوا لسانَه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها:
أَلاَ لا تلوماني كَفى اللَّوم ما بِيا ... فما لكما في اللّوْم خيرٌ ولا ليَا
ألم تَعْلما أنّ الملامةَ نَفعها ... قليل وما لوْمِي أخِي مِن شِمَاليا
فيا راكباً إمَّا عَرضْتَ فبلَغنْ ... نَدامايَ من نَجْران أن لا تَلاقيا
أبا كَرب والأيْهمين كليهما ... وقيس بأعلى حَضرموتِ اليمانيا
جَزى الله قومي بالكُلاب مَلامة ... صَريحَهم والآخِرين المَواليا
ولو شئتُ بَحَّتنى من القوم نَهدة ... ترى خلفها الجُرد الجياد تَواليا
ولكنًني أحمِي ذِمارَ أبيكمِ ... وكاد الرِّماح يَخْتطفْن المُحاميا
أحقَّاً عبادَ الله أنْ لستُ سَامِعاً ... نَشيدَ الرِّعاء المُعزِبين المَتاليا
أقولُ وقد شَدُّوا لساني بنِسْعة ... أمَعشَر تَيْم أَطْلِقوا عَن لِسانيا
وتَضْحك منِّي شيخةٌ عبشمية ... كَأَنْ لم تَرَيْ قَبْلي أسيراً يمانياً
أمعشَر تَيْم قد مَلكتم فأَسْجِحوا ... فإنَّ أخاكم لم يكن من بَوائيا
وقد عَلمتْ عِرْسي مُليكةُ أنَّني ... أنا الليثُ مَعْدوَاً عليه وعاديا
وقد كنتُ نحّارَ الجَزور ومُعْمل اْلمط ... ي وأمضي حيث لا حي ماضيا

وأَعقِر للشَّرْب الكِرام مَطِيَّتي ... وأَصدَعِ بين القَيْنَتين رِدَائياً
وكُنتُ إذا ما الخَيل شَمَّصها القَنَا ... لَبِيقاً بتصْريفِ القَناة بَنانيا
وعاديةٍ سَوْم الجَرادِ وزعتها ... بِرُمْحي وقد أَنحَوْا إليَ العوالِيا
كأنِّيَ لم أرْكب جواداً ولم أقُلْ ... لِخَيْليَ كرّي قاتِليعن رِجالِيا
ولم أَسْبَأ الزِّقّ الرَّوِيّ ولم أقُلْ ... لأيْساَرِ صِدْقِ أَعْظِموا ضوْءَ نارِيا
قال أبو عُبيدة: فلِما ضُربِت عنقه قالت ابنةُ مَصاد: بؤ بمَصَاد. فقال بنو النعمان: يا لَكاع، نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمَصاد! فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغَناء كُله يوم الكُلاب من الرَّباب لتميم، ومن بني سَعد لِمُقاعس. وقال وَعْلة الجَرْميّ، وكان أول مُنهزم انهزم يوم الكُلاب، وكان بيده لِواء القَوم:
ومَنّ عليَ الله مَنَّاً شكرتُه ... غَدَاةَ الكُلاب إذ تُجز الدّوابر
ولمّا رأيتُ الخيلَ تَتْرَى أَثابجاً ... علمتُ بأن اليومَ أَحْمسُ فاجِر
نجوتُ نجاءً ليس فيه وَتيرَة ... كأني عُقابٌ عند تَيمن كاسر
خُدارية صَقْعاء لَبّد ريشَها ... بطَخْفة يوم ذو أَهاضيبَ ماطرُ
لها ناهض في الوَكْر قد مَهَدت له ... كما مَهدت للبَعْل حَسْناءُ عاقر
كأنا وقد حالت حذُنُة دوننا ... نَعامٌ تَلاه فارسٌ مُتواتر
فمَن يك يَرْجو في تَميم هوادة ... فليس لجَرْم في تميم أواصِر
ولما سمعتُ الخَيل تدعو مُقاعساً ... تَنازعني من ثُغرة النحر ناحِر
فإن أسْتطع لا تَبْتئس بي مُقاعس ... ولا تَرَني بيداؤُهمِ والمَحاضِر
ولا أكُ يا جَرَّارة مُضريةٍ ... إذا ما غدتْ قوت العِيال تُبادر
وقد قُلت للنهدي هل أنت مُرْدِفي ... وكيف رِدافُ الفَل أمُك عاثِر
يُذَكَرني بالآل بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونَهْد تَدَابُر
وقال محرز بن المُكعْبر الضبي، ولم يَشهدها، وكان مُجاوراً في بني بكر بن وائل لما بلغه الخبر:
فِدى لقومِيَ ما جمعت من نَشب ... إذ ساقت الحربُ أقواماً لأقوام
إذ حُدِّثت مَدْحجِ عنا وقد كُذبت ... أنْ لا يُذببعن أحسابنا حاَمي
دارت رحانا قليلاً ثم واجههم ... ضربٌ تَصدّع منه جِلْدة الهام
ظلّت ضباع مُجَيْراتٍ تجررهم ... وأَلْحُموهن منهم أيّ إلحام
حتى حُذُنة لم نَترك بها ضَبُعا ... إلا لها جزر من شِلْو مِقْدام
ظَلت تدوس بني كَعب بكَلْكَلها ... وَهمّ يومُ بني فَهْد بإظْلام
قال أبو عُبيدة: حدَّثني المُنتجع بن نَبهان قال: وَقف رُؤبة بن العجاج على التَّيم بمسجد الحروريَّة فقال: يا معشر تيم، إني سَمرت عند الأمير تلك الليلة فتذاكرنا يومَ الكُلاب فقال: يا معشرَ تَيم، إنّ الكُلاب ليس كما ذكرتم، فأعفُونا من قصيدَتيْ صاحبَيْنا - يعني عبد يغوث وَوعْلة الجَرميّ - ومن قصيدة ابنِ المُكعبر صاحبكم وهاتوِا غيرَ ذلك، فأنتم أكثر الناس كلاماً وهِجاء. قال رؤبة: فأنَشدناه في ذلك اليوم شعراً كثيراً. فجعل يقول: هذه إسلاميّة كُلّها،
يوم طِخَفَة

كانت الرِّدافة، رِدافة المَلِك، لعتّاب بن هَرْميّ بن رِياح، ثم كانت لقَيس بن عَتّاب، فسأل حاجب بن زُرَارة النُّعمان أن يجعلها للحارث بن قُرْط بن سفيان بن مُجاشع، فسأَلها النعمانُ بن يَربوع، وقال: أَعقبوِا إخوتكم في الرِّدافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وإنما سألها حاجبٌ حسداً لنا، وأَبَوْا عليه، فقال الحارث بن شِهاب، وهو عند النعمان: إنّ بنيِ يَربوع لا يُسلمون رِدافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشاً لم يمنعوه ولم يَمتنعوا، فبعث إليهم النعمانُ قابوسَ ابنَه، وحسَّانَ بن المنذر. فكان قابوس على الناس وكان حسان على المقدمة، وبَعث معهم الصَنائع والوَضائع - فالصنائع: مَن كان يأتيه من العرب، والوضائع: المُقيمون بالحِيرة - فالتقوا بطِخفة، فانهزم قابوسُ ومَن معه، وضَرب طارق بنُ عُميرة فرسَ قابوس فعقره، وأَخذه ليجزّ ناصيته. فقال قابوس: إنّ الملوك لا تُجز نواصيها، فجهّزه وأرسله إلى أبيه وأما حسان بن المُنذر، فأسره بشرُ بن عمرو الرياحيّ، ثم مَنّ عليه وأَرسله. فقال مالك بن نويرة:
ونحن عَقرنا مُهر قابوسَ بَعدما ... رَأْي القومُ منه الموتَ والخيل تُلْحَب
عليه دلاص ذاتُ نَسْج وسَيفُه ... جُراز من الْهندي أبيضُ مُقْضَب
طَلبْنا بها إنّا مَداريك قبلَها ... إذا طَلب الشِّأوَ البَعيد المُغَرّب
يوم فيف الريحقال أبو عُبيدة: تجمّعت قبائل مَذْحج، وأكثرُها بنو الحارث بن كعب شعب، وقبائلُ من مُراد وجُعْفِيّ وزَبِيد وخَثْعم، وعليهم أنسُ بنُ مُدْركة، وعلى بني الحارثُ الحُصين. فأغاروا على بني عامر بن صَعْصعة بفَيف الرِّيح، وعلى بني عامر عامرُ بن مالك مُلاعب الأسِنَّة. قال: فاقتَتل القومُ، فكَثروهم. وارفضّت قبائلُ من بني عامر. وصَبرت بنو نُمير، فما شُبِّهوا إلا بالكِلاب المُتعاظلة حوْلَ اللّواء. وأقبلِ عامر بن الطًّفيلِ، وخَلفه دعيُّ بن جعفر. فقال: يا معشر الفِتيان، مَن ضرَب ضربة أو طعن طعنةَ فلْيُشهدني. فكان الفارس إذا ضَرب ضربة أو طَعن طعنة قال عند ذلك: أبا عليّ. فبينما هو كذلك إذ أتاه مُسْهِر بن يزيد الحارثي، فقال له مِن ورائه: عندك يا عامر، والرمح عند أذنه. فوَهَصه - أي طعنه - فأصابَ عَينَه. فوثب عامرٌ عن فَرسه ونجا على رِجْليه، وأخذ مُسْهِر رمحَ عامر. ففي ذلك يقول عامرُ بن الطُفيل بن مالك بن جَعفر:
لعَمري وما عَمْري على بهين ... لقد شان حُر الوَجْه طَعنةُ مُسْهِرِ
أعاذل لو كان البِداد لقُوتلوا ... ولكن نَزَوْنا للعديد المُجمهَر
ولو كان جمع مثلُنا لم يَبَزّنا ... ولكنن أَتتنا أُسْرة ذاتُ مَفْخر
أتونا ببَهراء ومَذْحج كُلها ... وأكْلُب طُرَّاً في جِنَان السَّنَوَّرِ
وقال مُسْهِر، وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل:
رَهصتُ بخرْص الرُّمح مُقلة عامر ... فأضحَى بخَيصاً في الفَوارس أَعْورَا
وغادر فينا رُمحَه وسِلاحَه ... وأَدْبر يَدْعو في الهَوالك جَعْفرا
وكُنّا إِذا قَيسيَّة دُهيت بنا ... جَرى دَمعُها مِن عَينها فتحدَرا
مخافةَ ما لاقتْ حليلةُ عامر ... من الشرِّ إذ سِرْبالها قد تَعفرا
وقال: وامتنّت بنو نُمير على بني كلاب بصَبرهم يوم فَيف الريح، فقال عامر:
تَمُنُّون بالنُّعمى ولولا مَكَرُنا ... بمُنعرجِ الفَيفا لكنتُم مواليَا
ونحن تداركْنا فوارسَ وَحْوحٍ ... عشيّة لاقينَ الحُصين اليَمانيا
وحوح، من بني نُمير، وكان عامر أستنقذهم وأُسر حَنظلة بن الطفيل يومئذ.
قال أبو عُبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلمه بمكة، وأَدرك مُسهِرُ بن يزيد الإسلام فأسلم.
يوم تِيَاس
كانت أفناء قبائل من بني سَعد بن زَيد مَناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بِتَياس، فقطع غيلانُ بن مالك بن عمرو بن تميم رِجْلَ الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فطلبوا القِصاص، فأقسم غيلان أن لا يَعْقِلَها ولا يُقَص بها حتى تُحشى عيناه تُراباً، وقال:

لا نَعْقِل الرٌجلَ ولاَ نِديها ... حتى تَروْا داهيةً تنسيها
فالتقوا فاقتتلوا، فجرحوا غيلان حتى ظَنوا أنهم قد قتلوه. ورئيسُ عمرو كعب بن عمرو، ولواؤه معِ ابنه ذُؤيب، وهو القائل لأبيه:
يا كعبُ إنّ أخاك مُنْحَمِق ... إن لم يكن بكَ مرّةً كعب
جانِيكَ مَن يَجني عليك وقد ... تُعْدِي الصحاحَ مَبارك الجُربِ
والحربُ قد تضطر صاحبَها ... نحو المَضيق ودونه الرحْبُ
يوم زرود الأولغزا الحوفزان حتى انتهى إلى زَرود خلفَ جبل من جبالها، فأَغاروا على نَعم كثير صادر عن الماء لبني عَبْس فاحتازوه. وأتى الصريخُ بني عَبس فركبوا. ولحق عُمارة بن زِيَاد العَبْسيّ الحَوْفزان فعَرفه، وكانت أُمًّ عُمارة قد أرضعتْ مُضَرَ بنَ شَريك، وهو أخو الحَوفزان. وقالِ عُمارة: يا بني شَريك، قد علمتُم ما بيننا وبينكم. قال الحوفزان، وهو الحارث بن شريك: صدقتَ يا عمارة، فانظُر كُل شيء هو لك فخذْه. فقال عُمارة: لقد علمتْ نساءُ بني بكر بن وائل أنّي لم أَملأ أيدي أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقةً عليهن من المَوت. فحمل عُمارة ليُعارض النَّعم ليردَّه، وحال الحوفزانُ بينه وبين النَّعم، فعَثرت بعُمارة فرسُه، فطَعنه الحوفزان. ولحَق به نَعامةُ بنُ عبد الله بن شَريك فطعنه أيضاً. وقال نَعامة: ما كرهتُ الرُّمح في كَفل رجل قط أشدّ من كَفل عُمارة. وأُسِر ابنا عُمارة: سِنان وشَدّاد. وكان في بني عَبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة مُجاورَيْن لهم، وكان لهما أخ أسير في بني يَشْكر، فأصابا رجلاً من بني مُرّة يقال له: مَعْدان بن مِحْرب، فذَهبا به فدَفناه تحت شجرة، فلمّا فقدتْه بنو شَيبان نادَوْا: يا ثارات مَعدان فعند ذلك قَتلوا ابني عُمارة. وهَرب الطائيّان بأسيرهما. فلما بَرأ عُمارة من جِراحه أتى طيّئاً فقال: ادفعوا إليّ هذا الكَلب الذي قُتِلنا به. فقال الطائيّ لأوس: أدفَع إلى بني عَبس صاحبَهم. فقال لهم أوس: أتأمرُونني أُنْ أُعطِيَ بني عَبْس قطرةً من دمي، وإن اْبني أسيرٌ في بني يَشكر؟ فوالله ما أرجو فَكاكَه إلا بهذا. فلما قَفل الحَوفزانُ من غَزْوه بَعث إلى بني يَشْكر في ابن أوْس. فبعثوا به إليه، فافتكّ به مَعْدان. وقال نَعامة بن شَريك:
استَنْزلت رماحُنا سِنَانَا ... وشيخَه بطَخْفة عِيَانا
ثم أخوه قد رَأى هَوانا ... لما فَقدْنا بيننا مَعْدانا
يوم غول الثانيهو يوم كِنهل
قال أبو عُبيدة: أقبل ابنا هُجَيمة، وهما من بنى غَسّان، في جَيْش، فنَزلا في بني يَرْبوع فجاورا طارقَ بن عَوْف بن عاصم بن ثعلبة بن يَرْبوع، فنزلا معه على ماء يقال له كِنْهل، فأغار عليهما أناسٌ من ثَعلبة بن يَربوع، فاستاقوا نَعمَهما وأسروا مَن كان في النَعم، فركب قيسُ بن هُجيمة بخَيله حتى أدرك بني ثَعلبة، فكَر عليه عُتيبة بن الحارث. فقال له قَيس: هل لك يا عتيبة إلى البِرَاز؟ فقال: ما كنتُ لأسْألَه وادعه. فبارزه. قال عُتيبة: فما رأيتُ فارساً أملأ لعيني منه يومَ رأيتُه فَرَماني بقَوسه؟ فما رأيتُ شيئاً كان أكرهَ إليَ منه. فطَعنني. فأصاب قَرْبوس سَرْجي، حتى وجدت مَسّ السِنان في باطن فَخِذي، فتجنبتُ. قال: ثم أَرسل الرُّمح وقَبض بيدي، وهو يَرى أنْ قد أَثْبتني، وانصرف. فأتبعتهُ الفرس. فلما سَمع زَجلها رَجع جانحاً على قَرَبوس سَرْجه، وبدا لي فَرْج الدِّرع، ومَعي رمح مُعلَّب بالقِدّ والعَصَب كُنّا نَصطاد به الوَحش، فرميتُه بالقَوس وطعنتُه بالرمحٍ، فقتلتُه وانصرفت، فلحقتُ النَّعم. وأقبل الهِرْماس بن هُجيمة فوقف على أخيه قتيلاً ثم أتْبعني، وقال: هل لك في البِراز؟ فقلتُ لعلّ الرجعةَ لك خير. قال: أبعد قَيس؟ ثَم شدّ عليّ فضربني على البَيضة، فخَلَص السيفُ إلى رأسي. وضربتُه فقتلتُه. فقال سُحيم بن وثيل يعيّر طارداً بقتل جارَيْه:
لقد كنتَ جار ابْني هُجيمة قبلَها ... فلم تغْن شَيئاً غير قَتْل المُجاور
وقال جرير:
وساق ابني هجَيمة يومَ غَوْلٍ ... إلى أسْيافنا قَدَرُ الحِمام
يوم الجُبَّات

قال أبو عُبيدة: خَرج بنو ثَعلبة بن يِرْبوع فمرّوا بنَاسٍ من طوائف بني بَكْر بن وائل بالجُبَّات، خرجوا سِفاراً، فنزلوا وسرحوا إبلهم تَرْعى، وفيها نَفر منهم يَرْعونها، منهم سَوادة بن يَزيد بن بُجير العِجْليّ، ورجل من بني شَيبان، وكان مَحمُوماً، فمرَّت بنو ثَعلبة بن يَرْبوع بالإبل فأطْرَدوها، وأخذوا الرّجلين فسألوهما: مَن مَعكما؟ فقالا: معنا شيخُ بن يزيد بن بُجير العِجْليّ في عصابة من بني بَكْر بن وائل خَرجوا سِفاراً يُريدون البَحْرين. فقال الربيعُ ودُعْموص ابنا عُتيبة بن الحارث بن شِهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذِه الإبل ولم يَعلموا مَن أخذها، ارجعوا بنا حتى يَعلموا مَن أخذ إِبلهم وصاحَبيْهم ليعنِيَهم ذلك. فقال لهما عُميرة: ما وراءكما إلا شَيْخ ابن يَزيد قد أَخذتما أخاه وأَطْردتُما مالَه، دعاه. فأبَيا ورَجعا، فوقفا عليهم وأخبراهم وتسمَّيا لهم، فركب شيخُ بن يزيد فأتْبعهما وقد وَلّيا، فَلَحِق دُعموصاً فأسره. ومَضى ربيع حتى أتى عُميرة فأخبره أنّ أخاه قد قُتل. فرجع عُميرة على فرس يقال له الخنساء، حتى لَحِق القَوْم فافتكّ دُعْموصاً على أن يردَّ عليهم أخاهم وإبلهم. فردّها عليهم. فكفَر ابنا عُتيبة ولم يَشْكُرا عُميرة. فقال:
ألمن تَرَ دُعْموصاً يصُدّ بوَجهه ... إذا ما رآني مُقْبِلاً لم يُسَلِّم
ألم تَعْلما يا بني عُتَيبة مَقْدَمِي ... على ساقطٍ بين الأسنّة مُسْلم
فعارضتُ فيه القومَ حتى انتزعتُه ... جِهاراً ولم أنظُر له بالتلوُّم
يوم إرَاب
غزا الهُذيلِ بن هُبيرة بن حَسَّان التَّغلبيِّ فأغار على بني يَربوع بإراب، فقَتل فيهم قَتْيلاً ذَريعاً وأصاب نَعَماً كثيرة وسَبى سَبْياً كثيراً، فيهم زينب بنت حِمْير بن الحارث بن همَّام بن رِياح بن يَرْبوع وهي يومئذ عَقِيلة نساء بني تَميم. وكان الهُذيل يُسمَى مِجْدعا، وكان بنو تميم يُفزعون به أولادهم وسَبى أيضاً طابية بنت جَزْء بن سَعد الرِّياحي، ففَداها أبوها ورَكب عُتيبة بن الحارث في أسراهم ففكَّهم أجمعين.
يوم الشِّعْب
غزا قيسُ بن شَرْقَاء التَّغلبيّ، فأغار على بني يَرْبوع بالشِّعب فاقتتلوا، فانهزمت بنو يَربوع. فزَعم أبو هُدْبة أنها كانت اختطافا. فأُسر سُحيم لا ابن وثيل الرِّياحي، ففي ذلك يقول سُحيم:
أقول لهم بالشِّعْب إذ يأسرُونني ... ألم تَعْلموا أنِّي ابن فارس زَهْدَم
ففدا نَفسه، وأُسر يومئذ مُتمَم بن نُويرة. فوفد مالكُ بن نوبرة على قَيسَ ابن شرقاء في فِدائه، فقال:
هل أنت يا قيس بن شَرْقاء مُنْعِمٌ ... أو الجَهْد إن أَعطيْتهُ أنت قابله
فلما رأى وَسامته وحُسن شارته، قال: بل مُنعم. فأطلقه له.
يوم غول الأولفيه قُتل طَريف بن شَراحيل وعمرو بن مَرثد المحلَّيّ. غزا طَريف بن تميمِ في بني العَنبر وطوائف من بني عمرو بن تَميم، فأغار على بني بَكْر بن وائل بغول فاقتتلوا. ثم إن بكراً انهزمتْ، فقُتل طَريف بن شرَاحيل، أحدُ بني أبي رَبيعة، وقُتل أيضاً عمرو بن مَرْثد المُحلَّميِّ وقتل المُحسَّر. فقال في ذلك رَبيعة بن طَريف:
يا راكباً بَلِّغن عني مغَلْغلة ... بني الخَصِيب وشرُّ المَنْطق الفَنَدُ
هَلا شراحيل إذ مالَ الحِزامُ به ... وسْطَ العَجَاج فلم يَغْضب له أحد
أو المُحسَّر أو عمرو تَحيفَهم ... منّا فوارسُ هَيْجا نَصْرُهم حَشَدُ
إنْ يَلحظوني بزُرْق من أسنَّتنا ... يُشْفَي بهنَ الشَّنا والعُجب والكَمد
وقد قَتلناكُم صَبراً ونَأْسرِكم ... وقد طَرَدْناكم لو يَنْفع الطَّرد
حتى استغاث بنا أدنىَ شَريدكم ... مِن بَعد ما مَسَّه الضرَّاء والنَّكد
وقال نَضلة السُلميّ في يوم غَوْل، وكان حقيراً دَميماً، وكان ذا نَجدة وبأس:
ألم تَسَل الفَوارِسَ يوم غَوْلٍ ... بنَضْلة وهو مَوْتور مُشيح
رأوْه فازْدَروه وهو حُرٌّ ... ويَنفع أهله الرجلُ القَبِيح
فشدّ عليهم بالسيَّف صَلْتاً ... كما عَضَ الشِّبا الفرس الجَموح

فأطْلق غُلّ صاحبه وأردَى ... قَتيلاً منهمُ ونَجا جَرِيح
ولم يخشُوا مَصَالته عليهم ... وتحتَ الرّغْوة اللبن الصَّريح
يوم الخَندَمَة
كان رجلٌ من مُشركي قريش يَحدُ حَرْبةً يومَ فَتْح مكّة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتُها لمحمَّد وأصحابه. قالت: والله ما أرى يقوم لمُحمد وأصحابه شيء. قال: والله إنِّي لأرجو أن أخدِمَك بعضَ نسائهم. وأنشأ يقول:
إن تُقْبِلوا اليومَ فما بي عِلّة ... هذا سلاحٌ كامل وألّه
وذو غِرَارين سريعُ السَّلّه
فلما لَقيهم خالدُ بن الوليد يوم الخَندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء. فلامتْه امرأته، فقال:
إنك لو شَهدتِ يوم الخنْدمه ... إذ فَر صَفوانٌ وفَرّ عِكْرمه
ولقِيتْنا بالسُّيوف المُسْلمه ... يَفْلقن كُلّ ساعد وجُمْجمه
ضَرْباً فلا تَسمع إلا غَمْغمه ... لم تَنْطِقي في اللوم أدنى كَلِمه
يوم اللّهَيْماء
قال أبو عُبيدة: كان سبب الحرّب التي كانت بين عمرو بن الحارث ابن تميمِ بن سَعد بن هُذيل، وبين بني عَبْد بن عَديّ بن الدِّيل بن بَكْر بن عَبْد مَناة، أن قيْس بن عامر بن عَريب، أخا بني عبد بن عَديّ، وأخاه سالماً، خَرجا يُريدان بني عمرو بن الحارث على فَرسين، يقال لإحداهما الَّلعَّاب والأخرى عَفزر. فباتا عند رجل من بني نُفاثة. فقال النُّفاثيّ لقَيس وأخيه: أطيعاني وارجعا، لا أعرفنّ رماحَكما تكْسر في قَتال نُعمان. قالا: إنَّ رماحنا لا تُكسر إلا في صُدور الرِّجال. قال: لا يَضرّكما، وسَتَحْمدان أَمري. فأصبحا غاديَينْ، فلما شارفا مَتْن الّلهيماء منِ نَعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أًديمة، أغارا على غنَم لجُندب بن أبي عُمَيس، وفيها جُندب، فتقدَّم إليه قَيس، فرماه جُندب في حَلَمة ثَدْيه، وبَعجه قيس بالسيف، فأصابت ظُبَةُ السَّيف وجه جُندب، وخَرَّ قَيس. ونَفرت الغنم نحو الدار وأَتْبعها. وحَمل سالمُ على جُندب بفَرسه عَفْزر، فضربَ جُندب خَطْمَ عَفزر بالسَّيْف فقَطعه، وضَربه سالمٌ، فاتقاه بيده، فقَطع أحدَ زَنْديه، فخر جُندب وذَفّف عليه سالم. وأدرك العشيُّ سالماً فخرج وترك سيفَه في المَعركة وثوبهُ بحِقْويه لم يَنْج إلا بجفْن سيفه ومِئْزره، فقال في ذلك حَمَّاد بن عامر:
لعمرُك ما ونىَ ابنُ أبي عُميس ... وما خانَ القتال وما أضاعَا
سَمَا بقرانِه حتّى إذا ما ... أتاه قِرْنه بَذَل المِصَاعا
فإنْ أكُ نائياً عنه فإنّي ... سرُرت بأنّه غُبِن البِيَاعا
وأفلتَ سالمٌ منها جَرِيضاً ... وقد كُلِم الذُّبابة والذَّراعا
ولو سَلمت له يُمنى يدَيْه ... لَعَمْرُ أبيك أَطْعَمَك السِّباعا
وقال حُذيفة بن أُنس:
ألا بَلِّغَا جِلّ السًواري وجابراً ... وَبلِّغ بني ذِي السِّهم عَنا ويَعْمُرا
كَشفتُ غِطاء الحَرْب لما رأيتُها ... تَميل على صِغوٍ من الَّليل أكْدرا
أخو الحَرْب إن عَضت به الحرب عضها ... وإن شَمَرت عن ساقَها الحَربُ شَمَّرا
ويمْشي إذا ما الموتُ كان أمامَه ... كذي الشِّبْل يَحْمي الأنْف أن يَتأخرا
نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدْقه ... ولم يَنْج إلا جَفنَ سيف ومِئْزرا
وطاب عن الَّلعّاب نفساً ورَبه ... وغادر قيسا في المكر وعفزرا
يوم خزَاز

قال أبو عُبيدة: فنازع عامر ومِسْمع ابنا عبد الملك، وخالدُ بن جَبلة، وإبراهيم بنِ محّمد بن نُوح العُطارديّ، وغسان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سَلْم الباهليّ، ونفر من وجوه أهل البَصْرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويَتنازعون في الرِّياسة يومَ خَزاز، فقال خالد بن جَبلة: كان الأحوص بن جَعفر الرئيس. وقال عامر ومِسْمع: كان الرئيسَ كليبُ بن وائل. وقال ابن نُوح: كان الرئيسَ زرارةُ بن عُدَس. وهذا في مجلس أبي عمرو بن العَلاء. فتحاكَموا إلى أبي عَمرو، فقال: ما شَهدها عامرُ بن صَعْصعة، ولا دارمُ بن مالك، ولا جُشَم بن بكر، اليومُ أقدمُ من ذلك، ولقد سألت عنه منذ ستّين سنة فما وجدتُ أحداً من القوم يعلم مَن رئيسُهم ومَن المَلِك، غَير أنَّ أهل اليمن كان الرجلُ منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعُمّال صَدقاتهم اليومِ، وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن المُلوك ملوك حْمير، وكانت نِزَار لم تَكْثُر بعد، فأوقدوا ناراً على خَزَاز ثلاثَ ليال، ودخَّنوا ثلاثةَ أيام. فقيل له: وما خزَز؟ قال: هو جَبل قريب من إمْر على يَسار الطريق، خلفه صَحْراء مَنْعِج، يُناوحه كُور وكُوير إذا قطعتَ بطنَ عاقل. ففي ذلك اليوم امتنعت نِزار من أهل اليمن أنْ يأكلوهم، ولولا قولُ عمرو بن كًلثوم ما عُرف ذلك اليوم، حيث يقول:
ونحنُ غَدَاةَ أوقد في خَزَارِ ... رَفَدْنا فوق رِفْد الرافدينَا
فكُنّا الأيْمنين إذا التقينا ... وكانَ الأيْسرِينِ بنو أبينا
فصالُوا صَولةً فيمن يَليهم ... وصُلْنا صولةَ فيمن يَلينا
فأبوا بالنِّهاب وبالسَّبايا ... وأبْنا بالمُلوك مصفدينا
قال أبو عمر بن العلاء: ولو كان جدّه كُليب وائل قائدَهم ورئيسَهم ما ادَّعى الرّفادة وتَرك الرياسة، وما رأيتُ أحداً عرَف هذا اليومَ ولا ذكره في شِعْره قبله ولا بعده.
يوم المِعَا
قال أبو عُبيدة: أغار المُنبطح الأسديُّ على بني عُبَاد بن ضُبَيعة، فأخذ نَعَما لبني الحارث بن عُبَاد، وهي ألفُ بعير، فمر ببني سَعد بن مالك بن ضُبيعة، وبني عِجْل بن لُجيم، فتَبعوه حتى انتزعوها منه، ورئيسُ بني سعد حُمران ابن عَبد عمرو، فأسر اقْتلُ بن حَسان العِجْلي المُنبطحَ الأسديَ، ففَداه قومه، ولا أدري كم كان فداؤه، واستنقذوا السَّبي. فقال حُجر بن خالد بن مَحمود في يوم المِعَا:
ومُنْبَطح الفواضِر قد أذقْنا ... بنَا عجةِ المِعَا حَرَّ الجلاد
تَنقذنا أَخاذيذاً فرُدّت ... على سَكن وجَمْع بني عُبَاد
سكن، ابن باعث بن الحارث بن عُباد. والأخاذيذ. مَن أخذ من النساء.
وقال حُمران بن عبد عمرو:
إنَّ الفوارس يوم ناعجة المِعَا ... نِعْمَ الفوارسُ مِن بني سَيّار
لم يُلْهم عَقْد الأصِرّة خَلْفهم ... وَحنِينُ مُنْهَلة الضُّروع عِشَار
لَحِقوا على قُبِّ الأياطل كالقَنا ... شُعْث تُعدّ لكُلِّ يوم عَوَار
حتى حَبَوْن أخا الغَواضِر ظَعْنةً ... وفَكَكن منه القِدَّ بعدَ إسَار
سالتْ عليه من الشِّعاب خوانِف ... وِرْد الغَطَاط تبلُجَ الأسْحار
يوم النِّسَار
قال أبو عُبيدة: تحالفت أسدٌ وطيء وغَطفان ولَحقت بهم ضَبّة وعديّ، فغَزَوْا بني عامر، فقتلوهم قَتْلاً شديداً، فغَضبتْ بنو تميم لقَتل بني عامر، فتجمعوا حتى لحقوا طيِّئاً وغَطَفان وحلَفاءهم من بني ضَبّة وعَدِيّ يوم الجفَار، فقُتلت تميمُ أشدَّ ممّا قُتلت عامر يومَ النِّسار. فقال في ذلك بِشرْ بن أبي خاَزم:
غضبتْ تميم أن تقتَّلَ عامرٌ ... يوم النِّسار فأعْتِبوا بالصَّيْلَم
يوم ذات الشُّقوق
فحلف ضمرة بنِ ضَمْرة النَّهشليّ فقال: الخَمر علي حرام حتى يكونَ له يوم يُكافئه. فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشُّقوق فقَتلهم، وقال في ذلك:
الآنَ ساغَ الشَّرابُ ولم أَكُن ... آتي التِّجارولا أَشُدّ تَكلُّمي
حتى صَبحْت على الشقوق بغارة ... كالتَّمر ينْثر في حَرِير الحُرَّم

وأبأتُ يوماً بالجفَار بمثله ... وأجرت نِصفاً مِن حَديث المَوْسم
ومشتْ نساء كَالظباءَ عواطلاً ... من بين عارفة السباء وأيِّم
ذَهب الرِّماح بزَوْجها فتَرَكْنَه ... في صَدْر معتدل القَناة مُقَوّم
يوم خَوّ
قال أبو عُبيدة: أغارت بنو أَسد على بني يَرْبوع فاكتَسحوا إبِلهم، فأتى الصريخُ الحيَّ، فلم يَتلاحقوا إلا مساءً بمَوضع يُقال له خَوّ. وكان ذُؤاب بن ربيعة الأشتر على فرس أنثى، وحصان عُتَيبة بن الحارث بن شِهاب على حِصان، فجعل الحصان يستنشق ريح الأُنثى في سواد الليل ويَتبعها، فلم يعلم عُتَيبة إلا وقد أقحم فرسَه على ذُؤاب بن رَبيعة الأشتر، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة اللّيل، وكان عُتيبة قد لَبس دِرْعه وغَفل عن جُربَّانها حتى أتى الصَّريخ فلم يشُده، ورآه ذُؤاب، فأقبل بالرُّمح إلى ثُغرة نَحره. فخرّ صريعاً قتيلاً. ولحق الربيعُ بن عُتيبة فشدِّ على ذُؤاب فأَسره وهو لا يَعلم أنه قاتلُ أبيه، فكان عنده أسيراً حتى فاداه أبوه ربيعةُ بإيل مَعلومة قاطَعَه عليها، وتواعدا سُوقَ عُكاظ في الأشهر الحُرم أن يأتيَ هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير. وأقبلَ أبو ذُؤاب بالإبل، وشغل الربيعُ بن عتيبة فلم يحضر سُوقَ عُكاظ. فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشُك أن ذُؤابا قد قَتلوه بأبيهم عُتيبة، فرثاه وقال:
أبْلغ قبائلَ جَعْفر مخْصوصة ... ما إن أحاول جَعفرَ بنَ كِلابِ
إنّ المودة والهوادة بيننا ... خَلَق كسَحْق الرَّيْطة المِنْجاب
ولقد علمتُ على التجلّد والأسى ... أنّ الرزّية كان يومَ ذُؤاب
إنْ يَقتلوك فَقد هتكتَ بيوتَهم ... بعُتيبة بن الحارث بن شِهَاب
بأحبّهم فقداً إلى أعدائه ... وأشدِّهم فقداً على الأصحاب
فلما بلغهم الشعرُ قتلوا ذُؤاب بن ربيعة. وقالت آمنةُ بنتُ عتيبة تَرثي أباها:
على مِثْل ابن مَيّة فانْعَيَاه ... بشَقّ نَواعِم البَشَر الجُيوبَا
وكان أبي عتيبة سَمهريّاً ... فلا تَلْقَاه يدَخر النَّصيبا
ضَرُوباً للكَمِيّ إذا اشمعلّت ... عَوانُ الحَرْب لا وَرعاً هَيُوبا
أيام الفجار
الفجار الأولقال أبو عبيدة: أيّام الفِجار عدَّة وهذا أولها. وهو بين كِنَانة وهَوازن، وكان الذي هَاجَه أنّ بَدر بن مَعْشر، أحدَ بني غفار بن مُلَيْل بن ضمرِة بن بكر بن عَبد مَناة بن كِنانة. جُعل له مجلس بسوق عكاظ، وكان حَدَثاً مَنيعاً في نفسه، فقام في المجلس وقام على رأسه قائم، وأنشأ يقول:
نحن بنو مُدْرِكة بن خِنْدفْ ... مَن يَطْعنوا في عَيْنه لم يَطْوفْ
ومَن يكونوا قومَه يُغَطْرف ... كأنّهم لُجة بحر مسْدف
قال: ومدَّ رجلَه وقال: أنا أعزُّ العرب فمن زَعم أنه أعزُّ منّي فَلْيضربها. فضربها الأُحَيمر بن مازن، أحدُ بني دَهْمان بن نَصر بن مُعاوية، فأَنْدرها من الرُّكبة، وقال:
خُذْها إليك أيها المُخنْدف
وقال أبو عبيدة: إنما خَرصها خريصة يسبرة، وقال في ذلك:
نحن بنو دهْمان ذو التغِطْرُف ... بحر لبَحر زاخرِ لم يُنْزفِ
نَبنيْ على الأحياء بالمُعرَّفِ
قال أبو عُبيدة: فتجاور الحيّان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا، ورَأَوْا أنّ الخطبَ يسير.
الفجار الثانيكان الفجار الثاني بين قُريش وهوازن، وكان الذي هاجه أنَّ فِتْيةً من قُريش قَعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صَعصعة، وضيئةٍ حُسَّانة بسُوق عُكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شبابٌ من بني كنانة وعليها بُرقع وهي في دِرْع فُضُل، فأعجبهم ما رأوا من هَيئتها، فسألوها أن تُسفر عن وجهها. فأبت عليهم. فأتي أحدُهم من خَلفها فشدَّ دُبُر دِرْعها بشوكة إلى ظهرها، وهي لا تدري، فلما قامت تقلّص الدرعُ عن دُبرها. فضحكوا وقالوا: مَنعتْنا النظَر إلى وجهها فقد رأينا دُبرها. فنادت المرأة: يا لعامر. فتحاور الناسُ، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حربُ بن أُمية وأَصلح بينهم.
الفجار الثالث

وهو بين كنانة وهوازن. وكان الذي هاجه أنَّ رجلاً من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نَصر بن مُعاوية، فأَعدم الكِنانيّ. فوافى النصريُّ بسُوق عُكاظ بقِرْد فأَوقفه في سوق عُكاظ، وقال: مَن يَبيعني مثلَ هذا بمالي على فلان؟ حتى أَكثر في ذلك. وإنما فعل ذلك النَّصريُّ تعييراً للكنانيّ ولقومه. فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القِرْد بسَيفه فقتله. فهتَف النصريُّ: يا لَهوازن، وهتَف الكنانيّ: يا لكنانة. فتهايج الناسُ حتى كاد أن يكونَ بينهم قتال، ثم رأوا الخطبَ يسيراً فتراجعوا، ولم يَفقم الشر بينهم.
قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فِجاراً لأنها كانت في الأشهر الحُرم، وهي الشُّهور التي يُحرِّمونها، ففجروا فيها، فلذلك سُمِّيت فِجاراً. وهذه يقال لها: أيام الفجار الأول.
الفجار الآخروهو بين قُريش وكِنانة كلها وبين هوازن، وإنما هاجها البرّاض بقتله عُروة الرَّجال بن عُتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعُرْوةَ البرّاض، لأنَّ عروة سيّد هوازن والبرّاض خليع من بني كِنانة، أرادوا أن يَقتلوا به سيّداً من قُريش. وهذه الحروب كانت قبل مَبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بستٍّ وعِشرين سنة، وقد شَهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ أربعَ عشرةَ سنة مع أعمامه. وقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: كنت أنْبُل على أعمامي يومَ الفِجار وأنا ابنُ أربعَ عشرةِ سنة - يعني أناولهم النَّبل - وكان سببُ هذه الحرب أنَّ النعمان بن المُنذر ملك الحِيره كان يَبعث بسُوق عُكاظ في كُل عام لطيمةً في جِوار رجل شريف مِن أشراف العرب يُجيرها له حتى تُباع هناك، ويَشتري له بثَمنها من أدَم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القِعدة، فيتسوَّقون إلى حُضور الحج ثم يَحُجّون. وكانت الأشهر الحرم أربعةَ أشهر: ذا القعدة وذا الحجّة والمُحرم ورجب. وعكاظ: بين نخلة والطائف، وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال. وكانت العربُ تَجتمع فيها للتجارة والتهيء للحجّ من أول ذي القعدة إلى وقت الحج، ويأمن بعضُها بعضاً. فجهّز النُعمان عِير اللطيمة، ثم قال: من يُجيرها؟ فقال البرَّاض ابن قيس النمريُ: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النّعمان: ما أريد إلا رجلاً يُجيرها على أهل نجد وتِهامة. - فقال عُروة الرحّال، وهو يومئذ رجلُ هوازن: أكَلْب خليع يُجيرها لك؟ أبيتَ اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقَيْصوم من أهل نَجد وتهامة. فقال البرّاض: أعلى بني كِنانة تُجيرها يا عُروة؟ قال: وعلى الناسِ كلِّهم. فدفعها النُّعمان إلى عُروة. فخرج بها وتبعه البَرّاضُ، وعُروة لا يَخشى منه شيئاً، لأنه كان بين ظَهراني قومه من غَطَفان إلى جانب فَدك إلى أرض يقال لها أُوارة. فنزل بها عروةُ فشرب من الخمر وغنّته قَيْنة ثم قام فنام. فجاء البرَاض فدخل عليه، فناشده عُروة، وقال: كانت مني زلّة، وكانت الفعلة مني ضلّة. فقتله وخَرج يرتجز ويقول:
قد كانتا الفَعلة مني ضَلّة
هلا على غيري جعلتَ الزلّة
فسوف أَعْلو بالحُسام القُلّة.
وقال:
وداهية يُهال الناس منها ... شددتُ لها بني بَكْر ضُلوعِي
هَتكتُ بها بيوتَ بني كلاَبِ ... وأَرضعتُ الموالي بالضُّروع
جمعتُ له يديَّ بنَصَل سَيفَ ... أفلّ فخرّ كالجذْع الصرَّيعِ

واستاق اللَطيمة إلى خَيبر. وأتبعه المُساور بن مالك الغَطَفانَي وأسد بن خيْثم الغَنوى حتى دخل خَيبر. فكان البرّاض أولَ مَن لَقِيهما، فقال لهما، مَن الرجلان؟ قالا: من غَطفان وغَنيّ. قال البرّاض: ما شأن غَطَفان وغنىّ بهذه البلدة؟ قال: ومَن أنت؟ قال: من أهل خَيبر. قالا: ألك عِلْم بالبرّاض؟ قال: دَخل علينا طريداً خليعاً فلم يُؤْوِه أحد بخَيبر ولا أَدخله بيتاً. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما به طاقةٌ إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا. فنزلاً وعَقلاً راحلتَيْهما. قال: فأيّكما أجرأ عليه، وأمضى مَقْدماً، وأحدّ سيفاً؟ قال الغَطفاني: أنا. قال البرَّاض: فانطلقْ أدلُّك عليه، ويحفظ صاحبُك راحلتيكما. ففَعل. فانطلق البرَّاض يَمشي بين يدي الغَطفانيّ حتى انتهى إلى خَربة في جانب خَيبر خارجة عن البيُوت. فقال البرَّاض: هو في هذه الخَرِبة وإليها يَأْوي، فأَنظرني حتى أنظرُ أثمَّ هو أم لا. فوقف له ودخل البرّاض، ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البَيت الأقصى خلفَ هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيفٌ فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هاتِ سَيفك أنظرُ إليه أصارم هو؟ فأعطاه إياه. فهزِّه البرّاض ثم ضَربه بن حتى قَتله، ووضع السيفَ خلفَ الباب، وأقبل على الغنويّ، فقال: ما وراءك؟ قال: لم أَرَ أجبنَ من صاحبك، تركته قائماً في الباب الذي فيه الرجل، والرجلُ نائم لا يتقدم إليه ولا يتأخَر عنه. قال الغنويّ: يا لَهْفاه، لو كان أحد ينظرُ راحلتَينا؟ قال البراض: هما علي إن ذهبت. فانطلق الغنويُّ والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنويّ بابَ الخَرِبة أخذ البرَّاض السيفَ من خلف الباب، ثم ضرَبه حتى قتله وأخذ سِلاحَيهما وراحلتيهما ثم انطلق. وِبلغ قريشاً خبرُ البرَّاض بسُوق العكاظ، فخَلصوا نَجِيَّاً. وأتبعتهم قَيس لمّا بلغهم أن البرَّاص قتل عُروة الرحَّال، وعلى قيس أبو بَراء عامر بن مالك. فأدركوهم، وقد دخلوا الحرم، ونادَوْهم: يا معشر قريش، إنَّا نُعاهد الله أن لا نُبطل دم عُروة الرحَّال أبداً، ونقتل به عظيماً منكم، وميعادنا وإيّاكم هذه الليالي من العام المُقبل. فقال حرب بنُ أُمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: إنّ موعدكم قابِل في هذا اليوم. فقال خِداشُ بن زُهير، في هذا اليوم، وهو يوم نَخلة:
يا شدَةً ما شدَدْنا غَيرَ كاذبةٍ ... على سَخِينةً لولا البيت والحَرمُ
لما رأَوْا خيلَنا تُزْجَى أوائلُها ... اسادُ غِيل حَمى أشبالِها الأجَم
واستُقبلوا بضِراب لا كِفاءَ له ... يُبْدِي من العُزل الأكفال ما كَتموا
ولَوا شلالاً وعُظمُ الخيل لاحقة ... كما تَخُب إلى أوطانها النَّعَم
ولَت بهم كل مِحْضارٍ مُلَمْلمةٌ ... كأنَّها لِقْوة يَحْتثها ضَرَم
وكانت العرب تسمي قريشاً سَخِينة، لأكلها السُّخن.
يوم شمطَة
وهي من الفِجار الآخر، ويوم نخلة منه أيضاً.
قال: فجمعت كنانة قُريشها وعبد منافها والأحابيشومَن لحق بهم من بني أسد بن خُزيمة. وسلَّحَ يومئذ عبد الله بن جُدعان مائة كَمِيّ بأداة كاملة سِوى من سُلّح من قومه. والأحابيشُ بنو الحارث بن عبد مَناة بن كِنانة: قال: وجمعت سليم وهوازن جموعَها وأحلافها غير كِلاب وبني كعب، فإنهما لم يشهدا يوماً الفِجار غيرَ يوم نَخلة، فاجتمعوا بشْمطة من عُكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قَرن الحَول، وعلى كل قَبيلة من قريش وكِنانة سيِّدها، وكذلك على قبائل قيس، غير أن أمر كِنانة كلها إلى حَرْبِ بن أمية، وعلى إحدى مُجنَّبَتها عبد الله بن جُدعان. وعلى الأخرى كريز بن ربيعة وحَرب بن أمية في القلب، وأمرُ هوازن كُلها إلى مسعود بن معتب الثّقفي. فتناهض الناس وزَحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة في أول النهار لكِنانة على هَوازن، حتى إذا كان آخرُ النهار تداعت هَوازن، وصابرت وانقشعت كنانة، فاستحرَّ القتلُ فيهم، فقُتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، وقيل ثمانون. ولم يُقتل من قُريش يومئذ أحدٌ يذكر. فكان يوم شَمطة لهوازن على كنانة.
يوم العَبْلاء

ثم جَمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في اليوم الثالث من أيام عُكاظ والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شَمطة، وكذلك على المُجَنَبتين، فكان هذا اليوم أيضاً لهَوازن على كنانة، وفي ذلك يقول خِداش بن زُهير:
ألم يَبْلغك ما لقيتْ قُريش ... وحيّ بني كنانة إذ أُبِيروا
دَهمناهم بأرعَن مُكفهرّ ... فظلّ لنا بِعَقْوتهم زَئِير
وفي هذا اليوم قتل العوَامِ بن خُويلد، والد الزُّبير بن العوَّام، قتله مُرَّة ابن مُعتِّب الثقفيّ، فقال رجل من ثقيف:
منَا الذي ترك العوَّام مُنْجدلاً ... تَنتابه الطيرُ لحماً بين أَحجارِ
يوم شَرَب
ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قَرن الحَوْل في الثالث من أيام عُكاظ فالتقوا بشَرب، ولم يكن بينهم يومٌ أعظم منه. والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا، وكذلك على المُجنّبتين. وحَمل ابنُ جُدْعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير، ممَّن لم تكن له حَمولة، فالتقوا. وقد كان لهوازن على كِنانة يومان مُتواليان: يوم شمطة ويوم العَبْلاء. فحميت قُريش وكنانة. وصابرت بنو مَخزوم وبنو بكر، فانهزمت هوازن وقُتلت قتلاً ذريعاً. وقال عبد الله بن الزُّبَعْرى يمدح بنى المًغيرة.
ألا للهّ قومٌ و ... لدتْ أُختُ بني سَهْم
هشامٌ وأبو عَبد ... مَنافٍ مِدْره الخَصْم
وذو الرُّمحين أشبال ... مِن القُوَّة والحَزم
فهذان يذُودان ... وذا مِنْ كَثَب يَرْمي
وأبو عبد مناف: قُصي؛ وهشام: ابن المُغيرة؛ وذو الرُّمحين: أبو ربيعة بن المُغيرة، قاتل يوم شرَب برُمحين؟ وأمهم رَيطة بنت سَعيد بن لسَهْم. فقال في ذلك جَذْل الطعان:
جاءت هوازنُ أرسالاً وإخوتها ... بنو سلَيم فهابوا المَوتَ وانصرفوا
فاستُقبلوا بضرِابٍ فَضَّ جَمْعَهم ... مثلَ الحريق فما عاجُوا ولا عَطَفوا
يوم الحرَيرة
قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك، ثم التقَوْا على رأس الحَوْل بالحُريرة وهي حَرَّة إلى جَنب عُكاظ. والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام، وكذلك على المُجنَّبتين، إلا أنّ أبا مُساحق بَلْعاء بن قَيس اليَعْمُري قد كان مات. فكان من بعده على بكر بن عبد مَناة بن كِنانة أخوه حُثامة بن قَيس. فكان يوم الحُريرة لَهوازن على كِنانة، وكان آخر الأيام الخَمسة التي تزاحفوا فيها. قال: فقُتل يومئذ أبو سفيان بن أُمية، أخو حَرْب بن أمية. وقُتل من كِنانة ثمانيةُ نَفر، قتلهم عثمانُ بن أُسيد بن مالك، صت بني عامر ابن صَعْصعة. وقُتل أبو كَنَف وابنا إياس وعمرو بن أيوب. فقال خِدَاشُ بن زهير:
إنّي مِن النَّفر المُحْمَر أَعْينهمِ ... أهل السوام وأهل الصَخر واللُّوبِ
الطاعِنين نُحورَ الخَيل مُقْبِلةَ ... بكل سَمْراء لم تُعْلب ومَعْلوب
وقد بلوتُم فأبلوكم بلاءَهم ... يوم الحُريرة ضرباً غير مَكذوب
لاقتْهمُ منهمُ اسادُ مَلْحمة ... ليسوا بزارعة عُوج العَراقيب
فالآن إن تُقْبلوا نأخذ نحورَكم ... كان تباهوا فإني غيرُ مَغلوب
وقال الحارث بن كَلَدة الثَّقفيّ:
تركتُ الفارسَ البَذّاخ منهم ... تَمُجّ عروقُه عَلقاً غبيطا
دعستُ لبانَه بالرُّمح حتى ... سمعتُ لِمَتْنه فيه أطيطا
لقد أرديتَ قومَك يا بنَ صَخْر ... وقد جَشًمتهم أمراً سَلِيطاً
وكم أسلمتُ منكم من كميِّ ... جريحاً قد سمعت له غَطِيطاً
مضت أيام الفجار الأخر، وهي خمسةُ أيام في أربعة سنين، أولها يوم نَخلة، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه؛ ثم يوم شَمطة، لهوازن على كنانة، وهو أعظم أيامهم؟ ثم يوم العَبْلاء؛ ثم يوم شَرب، وكان لكنانة على هوازن؛ ثم يوم الحُريرة، لهوازن على كنانة.
قال أبو عُبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يَذروا الفضلَ ويَتعاهدوا ويتواثقوا.
يوم عين أباغ
وبعده يوم ذي قار

قال أبو عُبيدة: كان ملكَ العرب المُنذر الأكبر بنُ ماء السماء، ثم مات. فملك ابنهُ عمرو بن المُنذر، وأُمّه هند وإليه يُنسب. ثم هلك فَمَلك أخوه قابوس. وأمه هِنْد أيضاً، فكان مُلكه أربعَ سنين. وذلك في مَملكة كِسْرى ابن هُرمز. ثم مات فملك بعده أخوه المُنذر بن المنذر بن ماء السماء، وذلك في مَملكة كِسرى بن هُرمز. فغزاه الحارث الغساني، وكان بالشامِ من تحت يد قَيصر، فالتقوا بعَينْ أَباغ، فقُتل المنذر. فطلب كسرى رجلاً يجعله مكانه. فأشار إليه عديّ بن زيد - وكان من تَراجمة كِسْرى - بالنّعان بن المنذر، وكان صديقاً له، فأَحبّ أنْ يَنفعه وهو أصغر بني المنذر بن ماء السماء، فولاّه كِسْرى على ما كان عليه أبوه. وأتاه عديّ بن زيد، فمكّنه النعمان. ثم سَعى بينهما فَحبسه حتى أتى على نَفسه، وهو القائل:
أبلغ النعمان عني مَالُكا ... أنّه قد طال حَبَسي وانتظاري
لو يغير الماء حَلْقي شَرِق ... كنتَ كالغصّان بالماء اعتصاري
وعِداتي شُمَّت أَعْجبهمِ ... أنّني غُيِّبت عنهم في إسارِي
لامرئ لم يَبْل مني سَقْطةَ ... إن أصابَتْه مُلِمّات العِثارِ
فلئن دَهْرٌ تولّى خَيرُه ... وجَرت بالنَّحس لي منه الجَواري
لَبِما مِنه قَضَينا حاجةً ... وحياةُ المَرء كالشيء المُعار
فلما قَتل النعمانُ عديّ بن زَيد العبَاديّ، وهو من بني امرئ القيس بن سَعد بن زيد مَناة بن تميم، سار ابنُه زيد بن عديّ إلى كسرى، فكان من تَراجمته. فكاد النعمانُ عند كِسرى حتى حمله عليه. فهرب النعمانُ حتى لحق ببني رَواحة من عَبْس، واستعمل كِسرى على العرب إياسَ بنَ قَبيصة الطائي. ثم إنّ النعمان تجوَّل حِيناً في أحياء العرب، ثم أشارت عليه امرأتُه المُتجرّدة أنْ يأتي كسرى ويعتذرَ إليه، ففعل. فَحبسه بساباط حتى هلك، ويقال: أوْطأه الفيلة. وكان النعمانُ إذا شَخِص إلى كسرى أودع حَلْقته، وهي ثمانمائة دِرْع وسلاحاً كثيراً، هانئ بنَ مسعود الشّيباني، وجعل عنده ابنته هندَ التي تُسمّى حُرَقة. فلما قُتل النعمان قالت فيه الشعراء. فقال فيه زُهير بن أبي سُلْمى المزنيّ:
ألم تَر للنُّعمان كان بنَجْوةٍ ... من الشرِّ لو أَنّ امرأَ كان باقيَا
فلم أرَ مَخذولاً له مثلُ مُلْكه ... أقلَّ صديقاً أو خليلا مُوافيا
خلا أنَّ حيا من رَوَاحة حافظوا ... وكانوا أُناساً يَتَّقون المَخازيا
فقال لهم خيراً وأَثنى عليهمُ ... ووَدّعهم تَوديع أنْ لا تَلاقيا
يوم ذي قارقال أبو عُبيدة: يوم ذي قار هو يوم الحِنْو، ويوم قُراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذات العَجرم، ويوم بَطحاء ذي قار، وكُلّهن حَوْل ذي قار وقد ذكرتْهن الشعراء.

قال أبو عُبيدة: لم يكن هانئ بن مَسعود المُستودع حلقة النًّعمان، وإنما هو ابنُ ابنه، واسمه هانئ بن قَبيصة بن هانئ بن مَسعود، لأن وَقعة ذي قار كانت وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وخبّر أصحابَه بها، فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا. فكتب كسرى إلى إياس بنِ قَبيصة بأمره أن يَضُم ما كان للنُّعمان. فأَبى هانئ بن قَبيصة أن يُسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بَكْر بن وائل. وقَدِم عليه النَّعمانُ بن زُرْعة التَّغلبيّ، وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلّك على غِرَّة بكر؟ قالَ: بلى. قال أقِرَّها وأظْهر الإضراب عنها حتى يُجْليها القَيظ ويُدنيها منك، فإنهم لو قاظُوا تساقطوا بماء لهم، يقال له ذو قار، تساقطَ الفَراش في النار، فأقرَّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكرُ بن وائل حتى نزلوا الحِنْو حِنْو ذي قار، فأرسل إليهم كِسْرى النعمانَ بن زُرعة يُخيّرهم بين ثلاث خصال: إما أن يُسلموا الحَلْقة، وإما أن يُعرو الدِّيار. وإما أن يَأْذنوا بحَرب. فتنازعتْ بكرُ بينها. فهَمَّ هانئ بن قَبيصة برُكوب الفلاة، وأشار به على بَكْر، وقال: لا طاقَة لكم بجمُوع الملك. فلم تُرَ من هانئ سقطةٌ قبلها. وقال حِنظلةُ ابن ثَعلبة بن سيّار العِجْليّ: لا أرى غير القتال، فإنّا إن رَكبنا الفلاة مِتْنا عَطشا، وإن أعطينا بأيدينا تقتل مُقاتلتُنا وتُسبى ذرارينا. فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار، ولم يَشْهدها أحد من بني حَنيفة. ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قَبيصة، ويزيد بن مُسْهر الشَّيباني، وَحنظلة بن ثَعلبة العِجْتي - وقال مِسْمع بن عبد الملك العِجْلي بن لُجيم بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس وإنما غُزوا في ديارهم - فثار الناسُ إليهم من بيوتهم. وقال حَنظلة بن ثعلبة في هانئ بن قَبيصمة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتنا عامّة، وإنه لن يُوصل إليك حتى تفَنى أرواحنا، فأخْرج هذه الحلقة ففرِّقها في قومك، فإن تَظفر فستردّ عليك، وإن تَهْلِك فأهونُ مَفقود. فأمر بها فأُخرجت وفُرِّفت بينهم، وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أُبتَ إلى قومك سالماً.

قال أبو المُنذر: فعقد كِسْرى للنعمان بن زُرعة على تَغلب والنّمِر، وعقد لخالد بن يزيد البَهرانيّ على قُضاعة وإياد، وعَقد لإياس بن قَبيصة على جَميع العَرب، ومعه كَتيبتاه الشَّهباء والدَّوْسر، وعقد للهامَرْز التُّسْتَريّ، وكان على مسلّحة كِسرى بالسواد، على ألف من الأساورة. وكتب إلى قَيس بنِ مَسعود ابن قَيس بنِ خالد ذي الجَدّين، وكان عاملَه على الطَّف طفّ سَفَوان. وأمره أن يُوافيَ إياس بن قَبيصة، ففعل. وسار إياس بمَن معه من جُنده من طيىء، ومعه الهامَرْز والنّعمان بن زُرعة وخالد بن يَزيد وقَيْس بن مَسْعود، كُل واحد منهم على قومه. فلما دنا من بَكر انسل قيسٌ إلى قومه ليلاً، فأتى هانئاً فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع. قلما التقى الزَّحْفان وتقارب القومُ قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العِجْلي، فقال: يا معشر بكر، إنّ النّشّاب التي مع هؤلاء الأعاجم تُفرقكُم، فعاجلوا اللقاء وابدءوا بالشدَّة. وقال هانئ بن مَسعود: يا قوم، مَهلك مَعْذور، خير من مَنْجى مَغرور. إن الجَزع لا يردّ القَدر، وإن الصبر من أسباب الظّفر. المنيّة خير من الدنيّة، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجِدّ الجِد فما من الموت بُد. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقَطع وُضُن النِّساء فسقطْنَ إلى الأرض، وقال: ليقاتل كُل رجل منكم عن حَليلته، فسُمَي مُقَطّع الوُضُن. قال: وقَطع يومئذ سبعُمائة رجل من بني شَيبان أيديَ أَقْبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضَرب السُّيوف. وعلى ميمنتهم بكرُ ابن يزيد بن مُسهر الشّيباني، وعلى مَيْسرتهم حَنظَلة بن ثعلبة العِجْلي وهانئ بن قَبيصة. ويقال: ابنُ مَسعود في القَلب. فتجالد القومُ، وقَتل يزيدُ بن حارثة اليشكري الهَامَرز مُبارِزه، ثم قُتل يزيد بعد ذلك. ويقال إنَّ الحَوفزان بن شريك شد على الهامَرْز فقَتله. وقال بعضُهم: لم يُدرك الحَوفزان يوم ذي قار وإنما قتله يزيدُ بن حارثة. وضرب الله وُجوهي الفُرس فانهزموا، فأَتبعهم بكر حتى دخلوا السّواد في طلبهم يَقْتلونهم. وأُسر النّعمان بن زُرعة التّغلَبي، ونجا إياسُ بن قبيصة على فرسِه الحَمامة، فكان أولَ من انصرِف إلى كسرى بالهزيمة إياسُ بن قَبيصة، وكان كِسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتِفه. فلما أتاه ابن قَبيصة سأله عن الجيش. فقال: هَزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب بذلك كِسْرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس، وقال: إن أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر، فأردتُ أن آتيَه. فأذن له. ثم أَتى كِسْرى رجل من أهل الحِيرة وهو بالخَوَرْنق، فسأل: هل دَخل على الملك أحدٌ ؟ فقالوا: إياس، فظَنّ أنه حدّثه الخَبر، فدَخل عليه وأَخبره بهزيمة القوم وقَتْلهم. فأَمر به فنُزعت كَتِفاه.
قال أبو عُبيدة: لما كان يوم ذي قار كان في بَكْر أسرى من تَميم قريباً من مائتي أَسِير، أكثرهم من بني رِيَاح بن يَرْبوع. فقالوا: خَلُّوا عنّا نُقاتلْ معكم فإنما نَذُب عن أَنفسنا. قالوا: فإنا نخاف ألا تناصحونا. قالوا: فدعونا نُعلم حتى تروا مكاننا وغَناءنا فذلك قولُ جرير:
منّا فوارسُ ذي بهْدِي وذي نَجَب ... والمُعْلَمِون صباحاً يوم ذِي قار
قال أبو عُبيدة: سُئل عمرو بن العلاء، وتَنافر إليهِ عِجْليّ ويَشكري، فزعم العِجْليّ أنه لم يَشهد يومَ ذي قار غيرُ شيبانيّ وعِجْلي. وقال اليَشكريّ: بل شهدتْها قبائلُ بكر وحُلفاؤهم. فقال عمرو: قد فَصل بينكماَ التّغلَبيّ حيث يقول:
ولقد أمرتُ أخاك عمراً أَمْرةً ... فعصى وضَيعها بذات العُجْرُم
في غَمرة الموتِ التي لا تَشتَكي ... غمراتِها الأبطالُ غير تَغَمْغم
وكأنما أقدامهم وأكفُّهم ... سِرْب تَساقَط في خَليج مُفْعم
لمَّا سمعتُ دُعاء مُرَّة قد عَلا ... وابني رَبيعة في العَجاج الأَقتم
ومحلم يَمْشون تحت لوِائهم ... والموتُ تحت لواء آل مُحلِّم
لا يَصْدفون عن الوغى بوجوههم ... في كُل سابغةٍ كلون العِظْلم
ودَعَت بنو أُم الرِّقاع فأقبلوا ... عند الِّلقاء بحَل شاكٍ مُعْلم
وسمعتُ يَشْكر تدّعي بخُبَيِّب ... تحت العجَاجة وهي تَقْطُر بالدّم

يَمْشون في حَلق الحديد كما مَشت ... أُسْد العَرين بيوم نَحْس مُظْلم
والجَمع من ذُهل كأنّ زُهاءهمِ ... جُرد الجمال يَقودها ابنا قَشْعم
والخَيل من تحت العجاج عوابساً ... وعلى سنَابكها مناسج من دَم
وقال العُديل بن الفُرْخ العِجْليّ:
ما أَوقد الناس من نار لمَكْرُمة ... إلا اصطَلينا وكُنّا موقدي النّارِ
وما يَعدُّون من يوم سمعتُ بهِ ... للناس أفضلَ من يوم بذي قار
جِئْنا بأسلابهم والخيلُ عابسةٌ ... لما استلبنا لكِسرى كل إسوار
قال: وقالت عِجْل: لنا يوم ذي قار. فقبل لهم: فمن المستودع ومن المَطلوب؟ ومن نائب الملك ومن الرئيس؟ فهو إذا كان لهم كانت الرياسة لهانئ، وكان حَنظلة يُشير بالرأي. وقال شاعرهم:
إنْ كُنت ساقيةً يوماً ذوي كَرم ... فاسقي الفوارِسَ من ذُهلِ بنِ شَيبانَا
واسقي فوارسَ حامُوا عن ذِمارهم ... واعلي مفارقَهم منسْكاً ورَيْحانا
وقال أعشي بكر:
أمّا تميمٌ فقد ذاقتْ عداوتَنا ... وقيسَ عَيلان مَسَّ الخِزْيُ والأسَفُ
وجُند كِسْرى غداة الحِنْو صَبَّحهم ... منّا غَطاريف تُزجي الموتَ فانْصرفوا
لَقُوا مُلَمْلَمةَ شَهْبَاء يَقْدمها ... للموتِ لا عاجزٌ فيها ولا خَرِف
فَرْعٌ نَمَتْهُ فُروع غيرُ ناقصةٍ ... مُوفَّق حازمٌ في أمره أُنف
فيها فوارسُ محمود لقاؤهمُ ... مِثْل الَأسنَّة لا مِيل ولا كُشف
بِيضُ الوُجوهِ غداةَ الروع تَحْسَبهم ... جِنَّان عَبْس عليها البَيْض والزَّغَف
لما التقينا كَشَفْنا عن جَماجمنا ... لِيَعْلَموا أننا بَكْرٌ فينْصَرفوا
قالوا البقيَّةَ والهِنْديُ يحْصدهم ... ولا بقيَّةَ إلا السيف فانكَشفوا
لو أَنَ كلَّ معدِّ كان شارَكَنَا ... في يوْم ذي قار ما أَخطاهُمُ الشَّرَف
لما أَمالوا إلى النّشّاب أيديَهم ... مِلْنا بِبيض فَظل الهام يُخْتَطف
إذا عَطْفنا عليهم عَطْفَةً صَبَرتْ ... حتى تولَّت وكاد اليومُ يَنْتَصف
بطارق وبنو مُلْك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النَّطف
مِنْ كل مَرْجانة في البحر أحرَزها ... تيارُها ووقاها طينَها الصّدَف
كأنما الآلُ في حافاتِ جَمْعهم ... والبِيض بَرْق بدا في عارضٍ يَكِف
ما في الخُدود صدود عن سيُوفهم ... ولا عن الطَّعْنِ في الَّلبَّات مُنْحَرف
وقال الأعشىَ يلوم قَيسَ بن مسعود:
أقَيسَ بنَ مَسْعود بنِ قيس بنِ خالد ... وأنت أمرؤٌ تَرْجو شبابك وائلُ
أَطوْرَيْن في عام: غزَاة ورحلة ... ألا ليت قيْساً غَرَّفَتْه القوابل
لقد كان في شَيبان لو كنتَ راضياً ... قِبابٌ وحيٌّ حِلَّة وقَنابل
ورَجْراجة تُعْشي النواظرَ فَحْمةٌ ... وجُرْد على أكتافهنَّ الرَّواحل
رحلتَ و تَنْظُر وأنت عميدُهم ... فلا يَبْلغنَي عنك ما أنت فاعل
وعُرِّيت من أهل ومالٍ جمعتَه ... كما عُرِّيَتْ مما تُمِرُّ المَغازل
شَفى النفسَ قَتْلى لم تُوسَّد خُدُودُها ... وِساداً ولم تُعْضَض عليها الأنامل
بعيْنيكَ يومَ الحِنْو إذ صَبَّحْتُهمُ ... كتائبُ موتٍ لم تُعُقْها العواذل
ولما بلغ كسرى خبرُ قيس بن مَسعود إذ انسل إلى قومه، حَبسه حتى مات في حَبْسه. وفيه يقول الأعشى:
وعُرِّيت من أهل ومال جَمعتَه ... كما عُرِّيت مما تُمِرّ المغازلُ
وكتب لَقيطٌ الإياديّ إلى بني شَيبان في يوم ذي قار شعراً يقول في بَعضه:
قُوموا قياماً على أمشاط أرجلِكم ... ثم أفزعوا قد يَنالُ الأمنَ من فَزِعا

وقَلِّدوا أمرَكم للّه دَرُّكم ... رَحْبَ الذِّراع بأمر الحرب مُضطلعا
لا مُترَفاً إنْ رخاءُ العيش ساعدَه ... ولا إذا عَض مكروهٌ به خَشَعا
ما زال يَحْلُب هذا الدهرَ أشْطُرَه ... يكون مُتَبَعاً طوراً ومُتَبِعا
حتى اْستمرّت على شَزْر مَريرتُه ... لا مُسْتحكمَ الرأي لا قَحْماً ولا ضَرعا
وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زُرَارة:
قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طُرق ... شتى فصادفت منه اللينَ والفَظَعا
كُلاَّ بلوتُ فلا النعماءً تُبطرني ... ولا تَخشّعت من لأوائه جَزعا
لا يملأ الأمرُ صدري قبلَ موقعه ... ولا أضيق به ذرْعاً إذا وَقعا
كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعرقال الفتيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه، رحمه اللّه: قد مَضى قولُنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومَقاطعه ومَخارجه، إذ كان الشعر ديوانَ العرب خاصة والمنظومَ من كلامها، والمقيِّدَ لأيامها، والشاهد على أحكامها. حتى لقد بلغ من كَلَف العرب به وتَفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تَخيَّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القبَاطيّ المُدرجة، وعَلِّقتها بين أستار الكعبة. فمنه يقال: مذهَّبة امرئ القيس، ومُذَهَّبة زُهير. والمذَهبات سبع، وقد يقال لها المُعَلقات. قال بعضُ المحدثين يصف قصيدةً له ويُشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:
بَرْزة تُذكر في الحُس ... ن من الشعر المعلق
كل حَرْف نادرٍ من ... ها له وجهٌ معشق
المعلقاتلامرئ القَيس:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل.
ولزهير:
أمن أم أوفى دِمْنة لم تكلم
ولطَرَفة:
لِخَوْلة أطلالٌ ببرقة ثَهمد
ولعَنترة:
يا دارَ عَبلة بالجواء تكلمي
ولعمرو بن كُلْثوم
ألا هُبِّي بصحنك فاصْبحينا
وللَبيد:
عفَت الدِّيار محلها فمقامها
وللحارث بن حِلَّزة:
آذَنَتْنا ببَيْنها أسماء
اختلاف الناس في أشعر الشعراءقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذُكر عنه امرؤ القيس بن حُجْر: هو قائد الشعراء وصاحبُ لوائهم. وقال عمرُ بن الخطّاب للوَفد الذين قَدموا عليه من غَطفان: من الذي يقول:
حلفتُ فلم اتركْ لنَفْسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ
قالوا: نابغة بني ذُبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي ... على وَجَل تُطَنُّ بيَ الظُنونُ
فألفيت الأَمانةَ لم نَخنها ... كذلك كَان نُوح لا يَخون
قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعرُ شُعرائكم. وما أحسب عُمر ذهب إلا إلى أنه أشعرُ شُعراء غَطفان: ويَدُل على ذلك قوله: هو أشعرُ شُعرائكم.
وقد قال عمر لابن عَباس: أنشدني لأشعر الناس، الذي لا يُعاظِل بين القوافي ولا يَتَتَبَّع حُوشيّ الكلام. قال: مَن ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: زُهير بن أبي سُلْمى. فلم يَزل يُنشده من شعره حتى أصبح. وكان زُهير لا يَمدح إلا مُستحقّاً، كمدحه لِسنان بن أبي حارثة وهَرِم بن سِنان، وهو القائِل:
وانّ أشعر بيتِ أنتَ قائلُه ... بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صَدَقا
وكذلك أحسنُ القول ما صدّقه الفعل قالت بنو تَميمٍِ لسَلامة بن جَندَل: مجدْنا بشعرك قال: افعلوا حتى أقول. وقيل للبيد: مَن أشعر الشعراء؟ قال: صاحبُ القُروح - يريد امرأ القيس - قيل له: فبعده مَن؟ قال: ابن العِشْرين - يعني طَرفة - قيل له: فبعده من؟ قال: أنا.
وقيل للحُطيئة: من أشعَر الناس؟ قال: النابغة إذا رَهب، وزُهير إذا رَغب، وجَرير إذا غَضِب. وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرُهم واحدةً، يعني قصيدته:
لِخولة أطلالٌ بِبُرقة ثَهْمد
وفيها يقول: ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويَأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّدِ وانشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيتَ، فقال: هذا من كلام النُّبوة. وسمع عبد الله بن عمر رجلاً ينشد بيت الحُطيئة:

مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوء نارِه ... تَجدْ خَيْرَ نارٍ عندها خيرُ موقِدِ
فقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إعجاباً بَالبيت. يعني أنّ مثل هذا المَدح لا يَستحقّه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئل الأصمعيّ عن شعر النابغة، فقال: إنْ قلت ألينُ من الحرير صدقتَ، وإن قلتَ أشدّ من الحديد صدقت. وسُئل عن شعر الجَعديّ، فقال: مُطْرف بآلاف. وخِمار بواف. وسُئل حمَّاد الراوية عن شعر ابن أبي رَبيعة، فقال: ذلك الفسِتق المُقشرّ الذي لا يُشبع منه. وقالوا في عمرو بن الأهتم: كان شعره حللاً مًنَشرَة. وسُئل عمرو بن العلاء عن جَرير والفَرزدق، فقال: هما بازيان يَصيدان ما بين الفِيل والعَنْدبيل. وقال جرير: أنا مدينةُ الشعر والفَرزدقُ نَبْعته. وقال بلالُ بن جرير: قلت لأبي: يا أبت، إنك لم تَهْج قوماً قطُّ إلا وضعتَهم إلا بني لَجأ. قال: إنّي لم أجد شرفاً فأضعَه ولا بناء فأهدمه.
واختلف الناس في أَشعر نصف بَيت قالته العربُ. فقال بعضهم: قولُ أبي ذُؤيب الهُذلي:
والدهرُ ليس بمُعتب من يَجْزَع
وقال بعضهُم: قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ:
نوكّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي
وقال بعضهُم قول زُميل:
ومَن يَكُ رهناً للحوادث يَغلق
وهذا ما لا تُدرك غايته، ولا يُوقف على حده. والشعر لا يفوت به أحد، ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدعُ منه، وللّه دَرّ القائل: أشعر الناس مَن أبدع في شعره. إلا ترى مَروان بن أبي حَفصة، على موضعه من الشعر وبُعد صِيته فيه، ومَعرفته بغَثِّه وسَمِينه، انشدوه لامرئ القَيس فقال: هذا أشعرُ الناس.
وقد قالوا: إنَّ لحسَّان بن ثابت أفخِرَ بيت قالته العرب، وأحكمَ بيت قالته العرب. فأما أفخر بيت قالته العرب، فقوله:
وبيوم بَدْرٍ إذ يرد وجوهَهم ... جِبريل تحت لِوائنا ومحمدُ
وأما أحكم بيت قالته العرب، فقوله:
وإنَ امرأً أَمسى وأصبح سالماً ... من النَّاس إلا ما جَنى لسعيدُ
وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير:
والتَّغْلبيّ إذا تَنَحْنح للقِرَى ... حكَّ آسْتَه وتمثَّلَ الأمْثَالاَ
ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوتُ بني تَغلب ببيت لو طُعنوا في أستاههم بالرِّماحِ ما حكّوها.
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها ... وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ
ويقال: إنَّ أصدق بيت قالته العرب قولُ لَبيد:
ألاَ كُل شيءٍ ما خلا الله باطلُ ... وكُل نَعيم لا محالةَ زائلُ
وذُكر الشعر عند عبد الملك بن مَروان فقال: إذا أردتُم الشعر الجيِّد فعليكم بالزُّرق من بني قيس بن ثَعلبة، وهم رهط أعشى بَكْر، وبأصحاب النِّخل من يَثرب، يريد الأوس والخَزْرج، وأصحاب الشَّعف من هُذيل، والشَّعف: رءوس الجبال.
فضائل الشعرومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب، وجليل خَطْبهِ في قلوبهم، أنَّه لما بُعث النبيُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن المُعجِز نظمه، المُحكم تأليفه، وأعجب قريشاً ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سِحْر. وقالوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم: " شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون " . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه: إنَّ مِنِ البيان لَسِحْراً.
لقد خشيت أن تَكون ساحرَاً ... روايةً مَرّاً ومراً شاعرَاً
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ من الشعر لحِكْمة. وقال كعبُ الأحبار: إنّا نَجد قوماً في التوراة أناجيلُهم في صُدورهم، تَنطق ألسنتهم بالحِكْمة، وأظنّهم الشُّعراء. وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر، يُقدِّمها في حاجاته، يَستعطف بها قلبَ الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.

وقال الحجَّاج للمُساور بن هند: ما لك تقول الشعرَ وقد بلغتَ من العُمر ما بلغتَ؟ قال. أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضي لي به الحاجة، فإن كفيتَني ذلك تركتهُ. وقال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: روَهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا. وقالت عائشة: روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون منِ العِلم، فوجده عالماً بكل ما سأله عنه. ثم أستنشده الشعر، فقال: لم أَرْوِ منه شيئاً. فكتب معاويةُ إلى زياد: ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ، وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو، وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل.
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ ... يومَ لا يُقدر أم يوم قَدِرْ
يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبه ... ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِر
وقال المقداد بن الأسود: ما كنتُ أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشِعر ولا فَريضة من عائشة رضي الله عنها. وفي رواية الخُشَنِيّ عن أبي عاصمٍ عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مُليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لَبيداً كان يقول:
قَضِّ اللُبانةَ لا أبالك وأذهبِ ... والحق بأسرتك الكِرام الغُيَّبِ
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلف كجِلْدِ الأجرب
فكيف لو أدرك زَماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألفَ بيت له، وإنه أقلُّ ما أروي لغيره.
وقال الشَعبيّ: ما أنا لشيء من العِلم أقلّ مني روايةً للشِّعر، ولو شئتُ أن أنشد شعراً شهراً لا أعيد بيتاً لفعلت. وسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي تُنشد شعر زُهير بن جَناب:
أرفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ ... يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى
يَجزيك أو يثني عليك فإنّ مَن ... أثنى عليك بما فعلتَ كمن جَزَى
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صدق يا عائشة، لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس.
يزيد بن عمرو بنِ مسلم الخُزاعي، عن أبيه عن جَدّه قال: دخلتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومُنشد يُنشده قول سُويد بن عامر المصطلق:
لا تأمنَن وإن أمسيتَ في حَرَمٍ ... إنَّ المَنايا بجَنْبي كُل إِنْسانِ
فاسلُك طريقَك تَمْشي غير مُخْتَشع ... حتى تلاقِي الذي مَنَّى لك الماني
فكل ذي صاحب يوماً مُفارقهُ ... وكُلّ زادٍ وإنّ أبقيته فاني
والخيرُ والشرُّ مَقْرونان في قَرَن ... بكُل ذلك يأتيك الجَدِيدان
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أَدرك هذا الإسلام لأسلم.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: جاء رجُل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك يا رسول اللّه؟ قال: نعم. فأنشده:
تركتُ القِيان وَعزْف القِيان ... وأدمنتُ تَصليةً وابتهالا
وكَرِّي المُشقَّر في حَوْمة ... وشَنِّي على المُشْركين القِتالا
فيا ربّ لا أغبننْ صفقتيَ ... فقد بِعْت مالي وأهلي بدالا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: رَبح البَيع، ربح البيع. قدم أبو ليلى النابغة الجَعديّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانشده شعرَه الذي يقول فيه:
بَلَغنا السماءَ مجدنا وسناؤنا ... وإِنا لَنرجو فوق ذلك مَظْهَرَا
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى الجنة إن شاء اللّه: فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حِلم إذا لم تَكُن له ... بوادرُ تَحْمِي صَفْوه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جَهل إن لم يكُن له ... حَلِيم إذا ما أورد الأمرُ اصدرَا
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يفْضض الله فاك. فعاش مائةً وثلاثين سنة لم تَنْغُض له ثنية.
سفيان الثّوري عن لَيث عن طاووس عن ابن عباس قال: إنها لكَلمة نبيّ.
يَعني قولَ طرفة:
ستُبدي لك الأيامً ما كنت جاهلاً ... وَيأتيك بالأحبار مَن لم تُزودِ
وسمع كعب قولَ الحُطيئة:

مَن يفعل الخير لا يَعْدَم جَوازيه ... لا يذْهبُ العُرف بين الله والناس
قال: إنه في التّوْراة حَرْفاً بحَرف: يقول اللّه تعالى: " مَن يفعل الخير يَجدْه عندي، لا يذهب الخيرُ بيني وبينَ عبدي " .
وقال عبد الله بن عبّاس: أنشدت النبيّ صلى الله عليه وسلم أبياتاً لأًمية بن أبي الصَّلت يذكر فيها حَملة العرش، وهي:
رَجُلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْل يَمينه ... والنّسرِ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ
والشمسُ تَطْلُع كُل آخر ليلةٍ ... فجراً ويُصبح لونُها يتوقد
تبدو فما تبدو لهم في وَقْتها ... إلا مُعذِّبة وإلا تُجْلَد
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم كالمُصدِّق له.
ومن حديث ابن أبي شَيْبة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردف الشريد، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: تَرْوي من شِعر أُمية بن أبي الصَّلت شيئاً؟ قلتُ: نعم. قالت: فأنشِدني. فأنشدته. فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه، حتى أنشدتُه مائة قافية. فقال: هذا رجل آمن لسانه وكَفر قلبُه.
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جُند يجنّده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُشركين، يدُل على ذلك قولُه لحَسان: شُنَ الغَطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام: وتَحفظْ ببَيْتي فيهم. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيَّاً لأسُلّنّك منهم سَلّ الشّعرة من العجين. ثم أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه، وقال: والله يا رسولَ الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلقه، أو على شَعَر لحَلقه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيد الله حسّاناً في هَجْوه برُوح القُدس. وقال ابن سيرين: بلغني أنّ دَوْساً إنما أسلمتْ فَرقاً من كعب بن مالك صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
قَضينا من تِهامة كُلّ نحب ... وخَيْبر ثم أَغْمدنا السيوفَا
نُخبِّرها ولو نَطقت لقالت ... قواضبُهنَّ دَوْساً أو ثَقِيفاً
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لقد شكر الله لك قولَك حيثُ تقول:
زعمتْ سَخينةُ أنْ ستغلب رَبَّها ... ولَيُغْلبنّ مُغالب الغَلاّبِ
ولو لم يكن من فضائل الشّعر إلا أنّه أعظمُ الوسائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رَواحة: أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله؟ قال: شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني. قال: فأَنْشِدني فأَنشده شعره الذي يقول فيه:
فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ ... فَفَوْتَ عيسى بإذْن الله والقَدَرِ
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وإياك ثَبَّت الله، وإياك ثَبت الله ومِن ذلك ما رواه ابنُ إسحاق صاحب المَغازي وابنُ هشام. قال ابن إسحاق: لما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفراء - قال ابنُ هشام: الاثيلِ - أمر عليَّاً فضرَب عنق النَضر بن الحارث بن كَلدة بن عَلْقمة بن عبد مناف، صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أُختُه قُتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكباً إنّ الأثيل مَظنّة ... من صُبحِ خامسة وأنت مُوفقُ
أَبْلِغ بها مَيْتاً بأنَّ تحيةً ... ما إن تزال بها النجائبُ تخفق
مني عليك وعَبرة مَسْفوحة ... جادت بواكِفها وأًخرى تَخنُق
هل يَسمعني النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يَسمع مَيت لا ينطق
أمحمد يا خيرَ ضِنْء كَريمة ... في قَومنها والفحلُ فحلٌ مُعرق
ما كان ضرك لو مَننت وربما ... مَنّ الفتى وهو المَغيظ المُحنق
فالنضر أقربُ من أَسرت قرابةً ... وأحقُّهم إن كان عِتْق يُعتق
ظَلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشه ... للهّ أرحام هناك تمزق
صبراً يُقاد إلى المنيّة مُتعباً ... رَسْفَ المُقيّد وهو عانٍ مُوثَق
قال ابن هشام: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، لمّا بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبلَ قتله ما قتلْتهُ.

من حديث زياد بن طارق الجشميّ قال: حدّثني أبو جَرْول الجُشمي، وكان رئيس قومه، قال: أَسَرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فبينما هو يُميز الرجال من النساء إذ وثبتُ فوقفتُ بين يديه وأنشدته:
امنُن علينا رسولَ الله في حُرَم ... فإنك المرءُ نرجوه ونَنتظر
امنُن على نِشوة قد كنتَ تَرْضعها ... يا أَرجح الناس حِلْماً حين يُخْتبر
إنّا لَنْشكر للنُّعمى إذا كُفِرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخر
فذكَّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه. فقال عليه الصلاةُ والسلام: أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو للّه ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو للّه ولرسوله. فردّت الأنصار ما كان في أيهديها من الذَّراري والأموال.
فإذا كان هذا مَقامِ الشعر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأي وسيلة تَبلغه أو تعْشره.
وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ، أحدَ بني كَعب، خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت خُزاعة في حِلْف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعَقْده، فلمّا انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها. فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدَاً ... حِلْفَ أَبينا وأَبيه الأتْلدَا
قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك الموكدا
وجعلوا لي في كَداء رَصداً ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذلّ وأقل عدداً ... هُم بيّتونا بالوتير هُجَّدا
وقَتّلونا رُكعّا وسُجّدا ... فانصرُ هَداك الله نَصْراً أَيِّدا
وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدا ... فيهِم رسولُ الله قد تجرّدا
إنْ سِيم خَسْفاً وجهُه تَربّدا ... في فَيْلق كالبَحر يَجْري مُزْبدا
قال ابن هشام: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، نُصرت يا عمرو بن مالك. ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب. وقال عمر بن الخطّاب: الشعر جَزل من كلام العرب، يُسكَّن به الغَيظ، وتُطفأ به الثائرة، ويتبلَّغ به القومُ في ناديهم، وُيعطى به السائل. وقال ابنِ عبّاس: الشعر عِلْم العرب وديوانها فتعلَّموه، وعليكم بشعر الحِجاز. فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز، وحَضَّ عليه، إذ لغتهم أَوسط اللّغات.
وقال معاويةُ لعبد الرحمن بن الحكم: يا بن أخي، إنك شُهرت بالشعر، فإياك والتشبيبَ بالنّساء، فإنك تغرّ الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها؛ والهجاء، فإنك لا تَعْدو أن تُعادي كريماً أَو تَستثير به لئيماً. ولكن افخر بمآثر قَومك، وقُل من الأمثال ما تُوَقّر به نفسك، وتؤدِّب به غيرك. وسُئل مالك ابن أنس: منِ أين شاطر عمرُ بن الخطاب عُمّاله؟ فقال أموال كثيرة ظهرت عليهم، وإنّ شاعراً كتب إليه يقول:
نَحجُّ إذا حَجُّوا ونَغْزو إذا غَزَوْا ... فأنيَّ لهم وَفْر وَلَسنا بذي وَفْر
إذا التاجرُ الهِنْدي جاء بفَارة ... من المسك راحت من مَفارقهم تَجْري
فدونك مالَ الله حيثُ وجدتَه ... سَيرضَون إن شاطرتهم منك بالشَّطْر
قال: فشاطرهم عُمر أموالهم.
وأنشد عمر بن الخطّاب قولَ زُهير:
فإن الحق مَقْطعه ثلاثٌ ... يَمين أو نَفارٌ أو جَلاءُ
فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحُقوق وتَفصيلها وإنما أراد: مَقطع الحقوق يَمين أو حكومة أو بيِّنة. وأُنشد عُمر قول عَبَدة بن الطَّبيب:
والعيشُ شح وإشفاقٌ وتَأميلُ
فقال: على هذا بُنيت الدنيا.
ولمّا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر أصحابُه، مستهم وباء المدينة فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلتُ عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تَجدك؟ ويا بِلال، كيف تَجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:
كُلّ امرئ مُصَبّح في أهله ... والموتُ أَدْنى من شرِاك نَعْلِهِ

وقالت: وكان بلال إذا أَقلعت عنه يَرفع عقيرته ويقول:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً ... بوادٍ وحَوْلي إذْخر وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ ... وهل يبدوَن لي شَامَة وطَفِيل
قالت عائشة: وكان عامر بن فُهيرة يقول:
وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه ... إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه
كالثَور يَحْمي جِلده برَوْقِه قالت عائشة: فجئتُ رسوله الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه. فقال: اللَّهم حبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة وأشد، وصَحّحها وبارك لنا في صاعها ومُدها، وأنقُل حماها فاجعلها بالجُحفة.
ومن حديث البَراء بن عازب، قال: لما كان يوم حُنين رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعبّاس وأبا سُفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهما آخذان بِلجام بغلته، وهو يقول:
أنا النبيّ لا كَذِب، ... أنا ابنُ عبد المُطّلبْ
ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة عن سُفيان بن عُيينة يَرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه لما دخل الغار نُكِبَ، فقال.
هل أنتِ إلا إصْبع دَمِيت، ... في سَبيل الله ما لقيت
فهذا من المَنثور الذي يُوافِق المنظوم، وإن لَم يتعمد به قائله المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوَزن، مثلُ قول عبد مملوك لمواليه: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا قد اكتوى. ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يُراد به الشعر. ولا يُسمَّى قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان موزوناً، شعراً، لأنه لا يراد به الشّعر. ومثلُه قي أي الكتاب: " ومِن اللَّيْل فَسَبّحه وإدْبَار النُّجوم " ومنه: " وجِفَان كالجَوَاب وقُدُور راسيات " ومثله " ويُخزْهم ويَنْصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مُؤمنين " ومنه: " فَذَلكَ الَّذي يَدُعِّ اليَتيم " . ولو تطلّبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يَحتمل الوزن كثيراً ولا يُسمّى شعراً. من ذلك قولُ القائل: مَن يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات. وهذا كثير.
مَن قال الشعر من الصحابة والتابعين
والعلماء المشهورينكان شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم: حسّان بن ثابت، وكَعب بن مالك، وعبدَ الله بن رواحة. وقال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعراً، وعُمر شاعراً، وعليُّ أشعرَ الثلاثة. ومن قول عليّ كرّم الله وجهه بصِفين:
لمَن رايةٌ سَوداء يخْفِق ظلُّها ... إذا قِيل قَدِّمها حُضين تَقدَّما
يُقدِّمها في الصَّف حتى يزِيرها ... حِياضَ المَنايا تَقْطُر السّمّ والدَما
جَزى الله عنِّي والجَزاء بكَفِّه ... رَبيعة خيراً ما أَعف وأكَرما
وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَدِم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول الشعر. قيل له: وأنتَ أبا حمزة؟ قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفين:
شَبّت الحربُ فأعددتُ لها ... مُفْرع الحارِك مَحْبوك الثَّبَجْ
يَصِل الشدَّ بشِدٍّ فإذا ... وَنت الخيلُ عن الشدَ مَعَج
جُرْشُع أعظَمُه جُفْرَته ... فإذا أبتلّ من الماء خَرَج
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
فلو شَهدتْ جُمل مُقامي ومَشْهدي ... بصفِّين يوماً شاب منها الذوائب
عشيّةً جا أهلُ العِراق كأنهم ... سَحاب ربيع زعْزعتها الجَنائب
وجِئْناهُم نَرْدِي كأنّ صُفوفنا ... من البحر مدٌّ موجُه مُتراكب
إذا قلت قد ولَّوا سرِاعاً بدت لنا ... كتائبُ مِنهم وأرجحنّت كَتائب
فدارتْ رَحانا واستدارت رَحاهُم ... سراة النّهارِ ما تَوالى المناكب
وقالوا لنا إنا نَرى أنْ تبايعوا ... علياً فقُلنا بل نَرى أن نُضارب
من شعراء التابعين

عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مَسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد السَّبعة من فُقهاء المدينة، وله يقول سَعيد بن المُسيّب: أنت الفقيه الشاعر. فقال: لا بُد للمصدور أن يَنْفث. يعني أنه مَن كان في صَدره زُكام فلا بد من أن يَنفث زَكمة صدره. يريد أن كل من أختلج في صَدره شيء من شعر أو غيره، ظهر على لسانه.
وقال عُمر بن عبد العزيز: وَدِدْت لو أنّ لي مجلساً من عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة بن مَسعود بدينار. قال عبيد الله بن عَبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في إثْر السيآت، وأقبحَ السيآت في إثر الحَسنات، وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في إثر الحسنات، والسيآت في إثر السيآت.
ومن شعراء التابعينعروة بن أذينة، وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَروي عنه مالك. وقال ابن شُبرمة: أن عُروة بن أذينة يَخرج في الثُّلث الأخير من الليلِ إلى سِكك البصرة فينادي: يأهل البصرة، " أَفأمِنْ أَهْلُ القُرَى أنْ لأْتِيَهم بَأْسُنا بَيَاتاً وهُم نائِمُون. أَوَ أَمِن أهْل القُرى أن يأتيَهم بأْسنا ضُحى وهُم يَلعَبونّ " . الصلاة الصلاة.
من شعراء الفقهاء المبرزينعبد الله بن المًبارك صاحب الرقائق. وقال حِبان: خرجنا مع ابن المُبارك مُرابطين إلى الشام، فلما نَظر إلى ما فيه القومُ من التعبّد والغَزو والسرايا كل يَوم التفت إليّ وقال: إنّا للهّ وإنّا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وليال وأيام قطعناها في عِلْم الخليَّة والبَرِيّة، وتركناها هنا أبوابَ الجَنَّة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المَصِّيصة إذ لقي سَكرانَ قد رفع عَقيرته يتغنّى ويقول:
أذلني الهوى فأنا الذليلُ ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج برنامجاً من كُمه، فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت. شعر سمعتَه من سكران؟ قال: أما سمعتم المَثل: رُب جوهرة في مَزْبلة؟ قالوا: نعم. فهذه جَوْهرة في مَزبلة. وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعضُ ما يكره فكتب إليه:
أتاني عنك هذا اليومَ قولٌ ... فضِقْت به وضاق به جَوابي
أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي
فإن تك عاتباً تُعْتَب وإلا ... فما عودي إذاً بيَراع غاب
وقد فارقتُ أعظَم منك رُزءَاً ... وواريتُ الأحِبَّة في التُّراب
وقد عَزّوا علي إذ اسْلموني ... معاً فلبستُ بعدهُم ثِيابي
وقد ذكرنا شعر عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة وعُروة بن أُذينة في الباب الذي يتلو هذا الباب، وهو: قولهم في الغزل .
حدّث فرج بن سلام قال: حدِّثنا عبد الله بن الحَكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام قال: استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حَرب على نجران. فولاّه الصلاة والحرب. ووجّه راشدَ بن عبد ربِّه السلمي أميراً على القضاء والمظالم. فقال راشدُ بن عبد ربّه:
صحا القلبُ عن سَلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما بَعَتْه تُماضر
وحكّمه شيبُ القَذال عن الصبا ... وللشّيب عن بعض الغَواية زاجر
فاقصر جَهْلِي اليومَ وأرتد باطلي ... عن الَّلهو لما ابيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحْوه ... بمَعْرض ذي الاجام عيسٌ بواكر
ولما دنت من جانب الغُوط أخصبت ... وحلّت ولاقاها سُلَيم وعامر
وخبّرها الركبان أنْ ليس بَيْنها ... وبين قُرى بُصرى ونَجران كافر
فألقت عَصاها واستقرت بها النَّوى ... كما قَر عيناً بالإياب المُسافر
وكان عبد الله بن عمر يُحب ولده سالماً حبّاً مُفرطا، فلامه الناس في ذلك فقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجِلْدَةُ بين العَين والأنْف سالم
وقال: إنّ ابني سالما ليُحب الله حبّاً لو لم يخَفه ما عصاه.
وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إذا برز إلى القتال أنشد:
أيّ يومي من الموتِ أفر ... يومَ لا يُقدر أم يوم قُدر ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...