ج1.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
بدائع الصنائع ( ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) )
كِتَابُ
الطَّهَارَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ الطَّهَارَةِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ أَنْوَاعِهَا أَمَّا تَفْسِيرُهَا فَالطَّهَارَةُ لُغَةً
وَشَرْعًا هِيَ النَّظَافَةُ
وَالتَّطْهِيرُ التنظيف ( ( ( والتنظيف ) ) ) وهو إثْبَاتُ النَّظَافَةِ في
الْمَحَلِّ وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ
حُدُوثُهَا بِوُجُودِ ضِدِّهَا وهو الْقَذَرُ فإذا زَالَ الْقَذَرُ وَامْتَنَعَ
حُدُوثُهُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ الْقَذِرَةِ تَحْدُثُ النَّظَافَةُ فَكَانَ
زَوَالُ الْقَذَرِ من بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ من حُدُوثِ الطَّهَارَةِ لَا أَنْ
يَكُونَ طَهَارَةً وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَهَارَةً تَوَسُّعًا لِحُدُوثِ
الطَّهَارَةِ عِنْدَ زَوَالِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا فَالطَّهَارَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ
طَهَارَةٌ عن الْحَدَثِ وَتُسَمَّى طَهَارَةً حُكْمِيَّةً وَطَهَارَةٌ عن (
الْخَبَثِ ) وَتُسَمَّى طَهَارَةً حَقِيقِيَّةً
أَمَّا الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ
وَالتَّيَمُّمُ
أَمَّا الْوُضُوءُ فَالْكَلَامُ في الْوُضُوءِ في مَوَاضِعِ في تَفْسِيرِهِ وفي
بَيَانِ أَرْكَانِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ وفي بَيَانِ سُنَنِهِ وفي
بَيَانِ آدَابِهِ وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْغَسْلِ وَالْمَسْحِ لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ
مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه ما
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ فَلَا بُدَّ من
مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَالْغَسْلُ هو إسَالَةُ الْمَائِعِ على
الْمَحَلِّ وَالْمَسْحُ هو الْإِصَابَةُ حتى لو غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ ولم
يُسِلْ الْمَاءَ بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ الدُّهْنِ لم يَجُزْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هذا قالوا لو تَوَضَّأَ
بِالثَّلْجِ ولم يَقْطُرْ منه شَيْءٌ لَا يَجُوزُ وَلَوْ قَطَرَ قَطْرَتَانِ أو
ثَلَاثٌ جَازَ لِوُجُودِ الْإِسَالَةِ
وَسُئِلَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عن التَّوَضُّؤِ بِالثَّلْجِ
فقال ذلك مَسْحٌ وَلَيْسَ بِغَسْلٍ فَإِنْ عَالَجَهُ حتى يَسِيلَ يَجُوزُ
وَعَنْ خَلَفِ بن أَيُّوبَ أَنَّهُ قال يَنْبَغِي للمتوضىء ( ( ( للمتوضئ ) ) ) في
الشِّتَاءِ أَنْ يَبُلَّ أَعْضَاءَهُ ( بالماء ) شِبْهَ الدُّهْنِ ثُمَّ يُسِيلَ
الْمَاءَ عليها لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عن الْأَعْضَاءِ في الشِّتَاءِ
وأما أركان الوضوء فأربعة مبحث غَسْلِ الْوَجْهِ أَحَدُهَا غَسْلُ الْوَجْهِ
مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وَالْأَمْرُ
الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدَّ
الْوَجْهِ وَذَكَرَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ من قِصَاصِ الشَّعْرِ
إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ وَهَذَا تَحْدِيدٌ
صَحِيحٌ لِأَنَّهُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا ينبىء عنه اللَّفْظُ لُغَةً لِأَنَّ
الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ أو ما يُوَاجَهُ إلَيْهِ في
الْعَادَةِ وَالْمُوَاجَهَةُ تَقَعُ بهذا الْمَحْدُودِ فَوَجَبَ غَسْلُهُ قبل
نَبَاتِ الشَّعْرِ فإذا نَبَتَ الشَّعْرُ يَسْقُطُ غَسْلُ ما تَحْتَهُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أبو عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ أنه لَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وقال الشَّافِعِيُّ
إنْ كان الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْقُطُ وَإِنْ كان خَفِيفًا لَا يَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي عبد اللَّهِ أَنَّ ما تَحْتَ الشَّعْرِ بَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ
الْحَدِّ بَعْدَ نَبَاتِ الشَّعْرِ فَلَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ في
الْكَثِيفِ لَا في الْخَفِيفِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَمَّا نَبَتَ الشَّعْرُ خَرَجَ ما
تَحْتَهُ من أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ
غُسْلُهُ وَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أبو عبد اللَّهِ وَعَمَّا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ أَيْضًا لِأَنَّ السُّقُوطَ في الْكَثِيفِ ليس لِمَكَانِ الْحَرَجِ
بَلْ لِخُرُوجِهِ من أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ وقد وُجِدَ
ذلك في الْخَفِيفِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ غَسْلُ ما تَحْتَ الشَّارِبِ
وَالْحَاجِبَيْنِ
وَأَمَّا الشَّعْرُ الذي يُلَاقِي الْخَدَّيْنِ وَظَاهِرَ الذَّقَنِ فَقَدْ رَوَى
ابن شُجَاعٍ عن الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ أَنَّهُ إذَا مَسَحَ من لِحْيَتِهِ
ثُلُثًا منها أو رُبُعًا جَازَ وَإِنْ مَسَحَ أَقَلَّ من ذلك لم يَجُزْ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ لم
____________________
(1/3)
يَمْسَحْ
شيئا منها جَازَ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عنها وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
يَجِبُ غَسْلُهُ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ وَجْهًا لِعَدَمِ
مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ فَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ
الْمُلَاقِي إياها ( ( ( لها ) ) ) هو الْوَجْهُ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ
إلَيْهِ وَإِلَى هذا أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ فقال وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ
ما ظَهَرَ منها وَالظَّاهِرُ هو الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهُ
وَلَا يَجِبُ غَسْلُ ما اسْتَرْسَلَ من اللِّحْيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يَجِبُ
له أَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ تَابِعٌ لِمَا اتَّصَلَ وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ
ولنا أَنَّهُ إنَّمَا يُوَاجِهُ إلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً لَا إلَى
الْمُسْتَرْسِلِ فلم يَكُنْ الْمُسْتَرْسِلُ وَجْهًا فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ
وَيَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الذي بين الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَبِي
يُوسُفَ أَنَّ ما تَحْتَ الْعِذَارِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مع أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى
الْوَجْهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْبَيَاضِ أَوْلَى وَلَهُمَا أَنَّ
الْبَيَاضَ دَاخِلٌ في حَدِّ الْوَجْهِ ولم يُسْتَرْ بِالشَّعْرِ فَبَقِيَ وَاجِبَ
الْغَسْلِ كما كان بِخِلَافِ الْعِذَارِ وَإِدْخَالُ الْمَاءِ في دَاخِلِ
الْعَيْنَيْنِ ليس بِوَاجِبٍ لِأَنَّ دَاخِلَ العينين ( ( ( العين ) ) ) ليس
بِوَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ فيه حَرَجًا وَقِيلَ أن من
تَكَلَّفَ لِذَلِكَ من الصَّحَابَةِ كُفَّ بَصَرُهُ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
مبحث غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَالثَّانِي غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَيْدِيَكُمْ } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ وَالْمِرْفَقَانِ يَدْخُلَانِ في الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ من
الْمِرْفَقِ يَجِبُ عليه غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً فَلَا
يَدْخُلُ تَحْتَ ما جُعِلَتْ له الْغَايَةُ كما لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ
الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ في قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى
اللَّيْلِ } وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِغَسْلِ الْيَدِ وَالْيَدُ اسْمٌ
لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ من رؤوس الْأَصَابِعِ إلَى الْإِبِطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ
الْمِرْفَقِ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ كُلِّهَا فَكَانَ ذِكْرُ الْمِرْفَقِ
لِإِسْقَاطِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَهُ لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ
لِدُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِاللَّفْظِ
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَصْلُحُ غَايَةً
لِحُكْمٍ ثَبَتَ في الْيَدِ لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْيَدِ بِخِلَافِ اللَّيْلِ في
بَابِ الصَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ اللَّيْلُ لَمَا اقْتَضَى
الْأَمْرُ إلَّا وُجُوبَ صَوْمِ سَاعَةٍ فَكَانَ ذِكْرُ اللَّيْلِ لِمَدِّ
الْحُكْمِ إلَيْهِ على أَنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ منها ما لَا يَدْخُلُ
تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ وَمِنْهَا ما يَدْخُلُ كَمَنْ قال رأيت فُلَانًا
من رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ وَأَكَلْتُ السَّمَكَةَ من رَأْسِهَا إلَى ذَنَبِهَا
دخل الْقَدَمُ وَالذَّنَبُ
فَإِنْ كانت هذه الْغَايَةُ من الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا
وَإِنْ كانت من الْقِسْمِ الثَّانِي يَجِبُ فَيُحْمَلُ على الثَّانِي احْتِيَاطًا
على أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ في الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ
وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا عنه صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ
وقد رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ في
الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ
الْكِتَابِ وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ الْبَيَانُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا من
الْأَصْلِ
مبحث مَسْحِ الرَّأْسِ وَالثَّالِثُ مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَامْسَحُوا برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) } وَالْأَمْرُ
الْمُطْلَقُ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَاخْتُلِفَ في الْمِقْدَارِ
الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ وَقَدَّرَهُ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ
الْيَدِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبْعِ وهو
قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عن أَصْحَابِنَا مِقْدَارَ
النَّاصِيَةِ
وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ حتى يَمْسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ أو أَكَثْرَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا مَسَحَ ما يُسَمَّى مَسْحًا يَجُوزُ وَإِنْ كان ثَلَاثَ
شَعَرَاتٍ
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّأْسَ وَالرَّأْسُ اسْمٌ
لِلْجُمْلَةِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَحَرْفُ الْبَاءِ لَا
يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لُغَةً بَلْ هو حَرْفُ إلْصَاقٍ فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ وهو الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّهِ
فَيَجِبُ مَسْحُ كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِقِيَامِ
الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ
وَالْمَسْحُ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُ في الْعُرْفِ يُقَالُ
مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ وَإِنْ لم يَمْسَحْ بِكُلِّهِ وَيُقَالُ كَتَبْتُ
بِالْقَلَمِ وَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ وَإِنْ لم يَكْتُبْ بِكُلِّ الْقَلَمِ ولم
يَضْرِبْ بِكُلِّ السَّيْفِ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً المسح إذْ الْمَسْحُ لَا
يَكُونُ إلَّا بِآلَةٍ وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً
وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ
الْكُلِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ على الثَّلَاثِ وقال { وَامْسَحُوا برؤوسكم ( (
( برءوسكم ) ) ) } بِثَلَاثِ أَصَابِعِ أَيْدِيكُمْ
وَأَمَّا وَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ فَلِأَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ
ليس بِمُرَادٍ من الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى أن عِنْدَ مَالِكٍ إن
مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا قَلِيلًا منه جَائِزٌ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ
الْآيَةِ على جَمِيعِ الرَّأْسِ وَلَا على بَعْضٍ مُطْلَقٍ وهو أَدْنَى ما
يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ مَاسِحَ
____________________
(1/4)
شَعْرَةٍ
أو ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا في الْعُرْفِ فَلَا بُدَّ من
الْحَمْلِ على مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عليه مَسْحًا في الْمُتَعَارَفِ
وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ
وقد رَوَى الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ أن النبي أَنَّهُ بَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ
على نَاصِيَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا
لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ
أُخْرَى كَفِعْلِهِ في هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا وَفِعْلِهِ في
مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك فَكَانَ الْمُرَادُ من الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ
مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النبي
وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قد ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ في
كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ كما في حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ
الْمُحْرِمُ وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ في
إحْرَامِهِ وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ وَكَمَا في انْكِشَافِ الرُّبْعِ من
الْعَوْرَةِ في بَابِ الصَّلَاةِ إنه يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وما دُونَهُ لَا
يَمْنَعُ كَذَا هَهُنَا وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا ولم يَمُدَّهَا
جَازَ على قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
لِأَنَّهُ أتى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ
وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ما اسْتَوْفَى في ذلك الْقَدْرَ وَلَوْ مَسَحَ
بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ وَلَوْ مَدَّهَا حتى بَلَغَ
الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لم يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ
زُفَرَ يَجُوزُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أو بِأُصْبُعَيْنِ
وَمَدَّهُمَا حتى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ
كما لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ فإذا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ
بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فَجَازَ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ سُنَّةَ
الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ وَلَوْ كان مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا
حَصَلَتْ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ
مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ أو قَصْدِ الْقُرْبَةِ إلَّا
أَنَّ في بَابِ الْغَسْلِ لم يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ في تِلْكَ
الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّهُ لو أَعْطَى له حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ في
تلك الحالة لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ من الْعُضْوِ مَاءً
جَدِيدًا وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى فلم يَظْهَرْ حُكْمُ
الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْمَسْحِ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ
لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ
فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فيه وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ
الِاسْتِيعَابِ فلم يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فيه كما في الْغَسْلِ وَلَوْ
مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ في كل
مَرَّةٍ جَازَ
هَكَذَا رَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هو
الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ وقد وُجِدَ
وَإِنْ لم يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَصَابَ رَأْسَهُ هذا الْقَدْرُ من مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ
عنه فَرْضُ الْمَسْحِ وَإِنْ لم يُوجَدْ منه فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا
وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا وَبِظَهْرِهَا وبجانبيها ( ( (
وبجانبها ) ) ) لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ ليس بِفَرْضٍ لِأَنَّ فيه حَرَجًا
فَأُقِيمَ الْمَسْحُ على الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ على أُصُولِهِ وَلَوْ مَسَحَ
على شَعْرِهِ وكان شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ على ما تَحْتَ أُذُنِهِ لم
يَجُزْ وَإِنْ مَسَحَ على ما فَوْقَهَا جَازَ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الشَّعْرِ
كَالْمَسْحِ على ما تَحْتَهُ وما تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ وما فَوْقَهُ رَأْسٌ
وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ لِأَنَّهُمَا
يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ على
خِمَارِهَا لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها أَدْخَلَتْ يَدَهَا
تَحْتَ الْخِمَارِ وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ بهذا أَمَرَنِي رسول اللَّهِ
إلَّا إذَا كان الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا فَيَجُوزُ
لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ
وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ
بيده أو لم يَمْسَحْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ ليس بِمَقْصُودٍ في الْمَسْحِ وَإِنَّمَا
الْمَقْصُودُ هو وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ وقد وُجِدَ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
مبحث غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّابِعُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } بِنَصْبِ اللَّامِ من
الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } كَأَنَّهُ قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ
وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هو الْمَسْحُ لَا غَيْرُ
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بين الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وقال
بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هذا الِاخْتِلَافِ أَنَّ
الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَمَنْ قال
بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ
الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً على
الرَّأْسِ وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عليه في الْحُكْمِ ثُمَّ
وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ فَكَذَا وَظِيفَةُ الرِّجْلِ
وَمِصْدَاقُ هذه الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْكَلَامِ عَامِلَانِ
أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تعالى { فَاغْسِلُوا } وَالثَّانِي حَرْفُ الْجَرِّ وهو
الْبَاءُ في قَوْلِهِ تعالى ( ( ( برءوسكم ) ) ) { برؤوسكم }
____________________
(1/5)
وَالْبَاءُ
أَقْرَبُ فَكَانَ الْخَفْضُ أَوْلَى
وَمَنْ قال بِالتَّخْيِيرِ يقول إنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ قد ثَبَتَ كَوْنُ كل
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرْآنًا وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بين مُوجِبَيْهِمَا وهو
وُجُوبُ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ إذْ لَا قَائِلَ بِهِ في السَّلَفِ فَيُخَيَّرُ
الْمُكَلَّفُ إنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ وَإِنْ شَاءَ
بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ إتْيَانًا
بِالْمَفْرُوضِ كما في الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَمَنْ قال بِالْجَمْعِ يقول الْقِرَاءَتَانِ في آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ
آيَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جميعا ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ هَهُنَا
لِعَدَمِ التَّنَافِي إذْ لَا تَنَافِيَ بين الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في مَحَلٍّ
وَاحِدٍ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
وَلَنَا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ وَظِيفَةِ الْأَرْجُلِ
الْغَسْلَ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً على الْمَغْسُولَاتِ وَهِيَ الْوَجْهُ
وَالْيَدَانِ وَالْمَعْطُوفُ على الْمَغْسُولِ يَكُونُ مَغْسُولًا تَحْقِيقًا
لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ
وَحُجَّةُ هذه الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا ما قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا
أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ في الدَّلَالَةِ على كَوْنِ الْأَرْجُلِ
مَعْطُوفَةً على الْمَغْسُولَاتِ وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ لِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أنها مَعْطُوفَةٌ على الرؤوس حَقِيقَةً وَمَحَلُّهَا من الْإِعْرَابِ
الْخَفْضُ وَيُحْتَمَلُ أنها مَعْطُوفَةٌ على الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ حَقِيقَةً
وَمَحَلُّهَا من الْإِعْرَابِ النَّصْبُ إلَّا أَنَّ خَفْضَهَا لِلْمُجَاوَرَةِ وَإِعْطَاءُ
الْإِعْرَابِ بِالْمُجَاوَرَةِ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ في اللُّغَةِ بِغَيْرِ حَائِلٍ
وَبِحَائِلٍ أَمَّا بِغَيْرِ الْحَائِلِ فَكَقَوْلِهِمْ جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ
وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ وَالْخَرِبُ نَعْتُ الْجُحْرِ لَا نَعْتُ الضَّبِّ
وَالْبُرُودَةُ نَعْتُ الْمَاءِ لَا نَعْتُ الشَّنِّ ثُمَّ خُفِضَ لِمَكَانِ
الْمُجَاوَرَةِ وَأَمَّا مع الْحَائِلِ فَكَمَا قال تَعَالَى { يَطُوفُ عليهم
وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } إلَى قَوْلِهِ تعالى { وَحُورٌ عِينٌ } لِأَنَّهُنَّ لَا
يُطَافُ بِهِنَّ وَكَمَا قال الْفَرَزْدَقُ فَهَلْ أنت إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ
رَاكِبٌ إلَى آلِ بِسْطَامٍ بن قَيْسٍ فَخَاطِبُ فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ
الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ فَكَانَ الْعَمَلُ
بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ في هذا إشْكَالًا وهو أَنَّ هذا
الْكَلَامَ في حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْتَمَلَةٌ
أَيْضًا في الدَّلَالَةِ على كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً على الْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أنها مَعْطُوفَةٌ على الرَّأْسِ
وَالْمُرَادُ بها الْمَسْحُ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا نُصِبَتْ على الْمَعْنَى لَا على
اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال
تَعَالَى { وَامْسَحُوا برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) }
وَالْإِعْرَابُ قد يَتْبَعُ اللَّفْظَ وقد يَتْبَعُ الْمَعْنَى كما قال الشَّاعِرُ
معاوي ( ( ( معاوية ) ) ) إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا
الْحَدِيدَا نَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا على الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى لَا
بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ فَلَسْنَا الْجِبَالَ وَلَا الْحَدِيدَ
فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ من الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَةً في الدَّلَالَةِ من
الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ من
جَانِبٍ آخَرَ وَذَلِكَ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّ
الْحُكْمَ في الْأَرْجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ لَا يَمْتَدُّ
إلَيْهِمَا
وَالثَّانِي أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ إذْ الْغَسْلُ إسَالَةٌ
وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ وفي الْإِسَالَةِ إصَابَةٌ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ
عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قد رَوَى جَابِرٌ وأبو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ
اللَّهِ بن عمرو ( ( ( عمر ) ) ) وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى
قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لم يُصِبْهَا الْمَاءُ فقال وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ
من النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وقال هذا وُضُوءٌ لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ وَعِيدٌ لَا
يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْمَفْرُوضِ وَكَذَا نَفْيُ قَبُولِ صَلَاةِ من لَا
يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ في وُضُوئِهِ فَدَلَّ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ من
فَرَائِضِ الْوُضُوءِ
وقد ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النبي غَسَلَ رِجْلَيْهِ في الْوُضُوءِ لَا
يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ
فَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْأَرْجُلَ في
الْآيَةِ مَعْطُوفَةٌ على الْمَغْسُولِ لَا على الْمَمْسُوحِ فَكَانَ وَظِيفَتُهَا
الْغَسْلَ لَا الْمَسْحَ
على أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْحُكْمُ في
تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْحُكْمِ في تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وهو أَنَّهُ
إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُطْلَقًا يُعْمَلُ وَإِنْ لم يُمْكِنْ
لِلتَّنَافِي يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بين الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في عُضْوٍ وَاحِدٍ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ
لِأَنَّهُ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من السَّلَفِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى
تَكْرَارِ الْمَسْحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيُعْمَلُ بِهِمَا في
الْحَالَتَيْنِ فَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ على ما إذَا كانت الرِّجْلَانِ
بَادِيَتَيْنِ وَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ على ما إذَا كَانَتَا
مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفَّيْنِ تَوْفِيقًا بين الْقِرَاءَتَيْنِ وَعَمَلًا
بِهِمَا
____________________
(1/6)
بِالْقَدْرِ
الْمُمْكِنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ
إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا في الْجُمْلَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا
وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا بَلْ يَتَوَقَّفُ على ما عُرِفَ في أُصُولِ
الْفِقْهِ
ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ في الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ وَالْكَلَامُ في الْكَعْبَيْنِ على نَحْوِ
الْكَلَامِ في الْمِرْفَقَيْنِ وقد ذَكَرْنَاهُ وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ
النَّاتِئَانِ في أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بين أصحابنا ( ( ( الأصحاب ) )
) كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا
وَارْتَفَعَ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً وَأَصْلُهُ من كَعْبِ
الْقَنَاةِ وهو أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ
النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا وَكَذَا في
الْعُرْفِ يُفْهَمُ منه الناتىء ( ( ( الناتئ ) ) )
يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ
وفي الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ في
الصَّلَاةِ الصقوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ ولم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ
إلَّا في الناتىء ( ( ( الناتئ ) ) )
وما رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الذي مَعْقِدِ الشِّرَاكِ على
ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ وإنما ( ( ( إنما ) ) ) قال مُحَمَّدٌ في
مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ
أَسْفَلَ الْكَعْبِ فقال إنَّ الْكَعْبَ هَهُنَا الذي في مِفْصَلِ الْقَدَمِ
فَنَقَلَ هِشَامٌ ذلك إلَى الطَّهَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا من وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا
بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ
بِالْخُفِّ أو كان بِهِمَا عُذْرٌ من كَسْرٍ أو جُرْحٍ أو قُرْحٍ فَوَظِيفَتُهُمَا
الْمَسْحُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ
وَالثَّانِي في الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ
مبحث المسح على الخفين فَصْلٌ أَمَّا الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ فَالْكَلَامُ فيه
في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مُدَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِهِ وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ وفي بَيَانِ
حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ
الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا شيئا ( قَلِيلًا
) رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ
الرَّافِضَةِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ وَاحْتَجَّ من
أَنْكَرَ الْمَسْحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو
على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ منه ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ } فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ
مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةً على
الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَهِيَ مَغْسُولَةٌ فَكَذَا الْأَرْجُلُ وَقِرَاءَةُ
الْخَفْضِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ على الرِّجْلَيْنِ لَا على الْخُفَّيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما هل مَسَحَ رسول اللَّهِ على
الْخُفَّيْنِ فقال وَاَللَّهِ ما مَسَحَ رسول اللَّهِ على الْخُفَّيْنِ بَعْدَ
نُزُولِ الْمَائِدَةِ
وَلَأَنْ أَمْسَحَ على ظَهْرِ عِيرٍ في الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ من أَنْ
أَمْسَحَ على الْخُفَّيْنِ
وفي رِوَايَةٍ قال لَأَنْ أَمْسَحَ على جِلْدِ حِمَارٍ إلَيَّ من أَنْ أَمْسَحَ
على الْخُفَّيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال يَمْسَحُ الْمُقِيمُ على
الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهَا وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ
مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَخُزَيْمَةَ بن ثَابِتٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَصَفْوَانَ بن عَسَّالٍ وَعَوْفِ بن مَالِكٍ وَأَبِي بن عُمَارَةَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حتى قال أبو يُوسُفَ خَبَرُ مَسْحِ
الْخُفَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بمثله وَرُوِيَ أَنَّهُ قال إنَّمَا
يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا على جَوَازِ
الْمَسْحِ قَوْلًا وَفِعْلًا حتى رُوِيَ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قال
أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا من الصَّحَابَةِ كلهم كَانُوا يَرَوْنَ الْمَسْحَ
على الْخُفَّيْنِ وَلِهَذَا رَآهُ أبو حَنِيفَةَ من شَرَائِطِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ فقال فيها أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ وَتُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ
وَأَنْ تَرَى الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ وَأَنْ لَا تُحَرِّمَ نَبِيذَ التَّمْرِ
يَعْنِي الْمُثَلَّثَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال ما قلت بِالْمَسْحِ حتى جَاءَنِي فيه مِثْلُ ضَوْءِ
النَّهَارِ فَكَانَ الْجُحُودُ رَدًّا على كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَنِسْبَةَ
إيَّاهُمْ إلَى الْخَطَأِ فَكَانَ بِدْعَةً فَلِهَذَا قال الْكَرْخِيُّ أَخَافُ
الْكُفْرَ على من لَا يَرَى الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا خُلْفَ فيه ما مَسَحْنَا
وَدَلَّ قَوْلُهُ هذا أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ وَلِأَنَّ
الْأُمَّةَ لم تَخْتَلِفْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَحَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا
أَنَّهُ مَسَحَ قبل نُزُولِ الْمَائِدَةِ أو بَعْدَهَا وَلَنَا في رسول اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حتى قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حدثني سَبْعُونَ رَجُلًا من
أَصْحَابِ رسول اللَّهِ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ على الْخُفَّيْنِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ وَالْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي
____________________
(1/7)
مَسَحَ
بَعْدَ الْمَائِدَةِ
وَرُوِيَ عن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على
الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ له في ذلك فقال رأيت رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ ومسح على
الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ له أَكَانَ ذلك بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ فقال وَهَلْ
أَسْلَمْتُ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ فَنَعْمَلُ بِهِمَا في حالتين
( ( ( حالين ) ) ) فَنَقُولُ وَظِيفَتُهُمَا الْغَسْلُ إذَا كَانَتَا
بَادِيَتَيْنِ وَالْمَسْحُ إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ عَمَلًا
بِالْقِرَاءَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَسَحَ
على خُفِّهِ أنه مَسَحَ على رِجْلِهِ كما يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ضَرَبَ على
رِجْلِهِ وَإِنْ ضَرَبَ على خُفِّهِ وَالرِّوَايَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ لم تَصِحَّ
لِمَا رَوَيْنَا عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ على عِكْرِمَةَ وَرُوِيَ
أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْ رِوَايَتُهُ عَطَاءً قال كَذَبَ عِكْرِمَةُ وَرَوَى عنه
عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ مَسَحَ على خُفَّيْهِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لم يَثْبُتْ وَرُوِيَ عن عَطَاءٍ أَنَّهُ قال كان ابن عَبَّاسٍ
يُخَالِفُ الناس في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فلم يَمُتْ حتى تَابَعَهُمْ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ
تَرَفُّهًا وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ فَيَخْتَصُّ شَرْعِيَّتُهُ بِمَكَانِ
الْمَشَقَّةِ وهو السَّفَرُ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وهو قَوْلُهُ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ
على الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهَا وما ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ غَيْرُ ديد ( ( ( سديد ) ) ) لِأَنَّ
الْمُقِيمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَفُّهِ وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ إلَّا أن حَاجَةَ
الْمُسَافِرِ إلَى ذلك أَشَدُّ فَزِيدَتْ مُدَّتُهُ لِزِيَادَةِ التَّرْفِيهِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
مبحث بَيَانِ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَأَمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في أَنَّ الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ هل هو مُقَدَّرٌ
بِمُدَّةٍ قال عَامَّتُهُمْ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ في حَقِّ الْمُقِيمِ
يَوْمًا وَلَيْلَةً وفي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا
وقال مَالِكٌ أنه غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كما ( ( ( كم ) ) ) شَاءَ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن
عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ بن
أبي وَقَّاصٍ وَجَابِرِ بن سَمُرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُغِيرَةِ
بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ
وَعَنْ أبي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدٍ بن ثَابِتٍ وَسَعِيدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ
بَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ وقد قَدِمَ من
الشَّامِ مَتَى عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ قال سَبْعًا فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه
أَصَبْتَ السُّنَّةَ
ولنا الحديث المشهور وما روي أنه مسح وَبَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا فَهُوَ غَرِيبٌ
فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمَشْهُورُ مع أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عليها
أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى
الْمَسْحِ سَبْعًا في مُدَّةِ الْمَسْحِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَقَدْ رَوَى جَابِرُ الْجُعْفِيُّ عن عُمَرَ رضي
الله عنه أَنَّهُ قال لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ
وَلَيْلَةٌ وهو مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من قَوْلِهِ مَتَى عَهْدُكَ بِلُبْسِ
الْخُفِّ ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ أَيْ مَتَى عَهْدُكَ بِابْتِدَاءِ اللُّبْسِ وَإِنْ
كان تَخَلَّلَ بين ذلك نَزْعُ الْخُفِّ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ من أَيِّ وَقْتٍ
يُعْتَبَرُ فقال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ
اللُّبْسِ فَيَمْسَحُ من وَقْتِ الْحَدَثِ إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ
وقال بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ اللُّبْسِ فَيَمْسَحُ من وَقْتِ اللُّبْسِ
إلَى وَقْتِ اللُّبْسِ وقال بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ الْمَسْحِ فَيَمْسَحُ
من وَقْتِ الْمَسْحِ إلَى وَقْتِ الْمَسْحِ حتى ولو تَوَضَّأَ بعدما انْفَجَرَ الصُّبْحُ
وَلَبِسَ خُفَّيْهِ وَصَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على خُفَّيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَعَلَى قَوْلِ
الْعَامَّةِ يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ من الْيَوْمِ الثَّانِي
إنْ كان مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ طُلُوعِ
الشَّمْسِ من الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَعَلَى قَوْلِ من اعْتَبَرَ وَقْتَ اللُّبْسِ
يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ من الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كان
مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا إلَى ما بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ من الْيَوْمِ
الرَّابِعِ وَعَلَى قَوْلِ من اعْتَبَرَ وَقْتَ الْمَسْحِ يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ
زَوَالِ الشَّمْسِ من الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كان مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا
يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ من الْيَوْمِ الرَّابِعِ
وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ لِأَنَّ الْخُفَّ
جُعِلَ مَانِعًا من سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ وَمَعْنَى الْمَنْعِ
إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَدَثِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ من هذا
الْوَقْتِ لِأَنَّ هذه الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ تَوْسِعَةً وتيسير ( ( ( وتيسيرا ) ) )
لِتَعَذُّرِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ في كل زَمَانٍ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ
عِنْدَ الْحَدَثِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّزْعِ عِنْدَهُ
وَلَوْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ وهو مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فَإِنْ سَافَرَ
بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ لَا تَتَحَوَّلُ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ
مَسْحِ السَّفَرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لَمَّا تَمَّتْ سَرَى الْحَدَثُ
السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ صَارَ الْخُفُّ رَافِعًا
لِلْحَدَثِ لَا مَانِعًا وَلَيْسَ هذا عَمَلَ الْخُفِّ في الشَّرْعِ وَإِنْ
سَافَرَ قبل أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ سَافَرَ قبل الْحَدَثِ
أو بَعْدَ
____________________
(1/8)
الْحَدَثِ
قبل الْمَسْحِ تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهُ مُدَّةِ السَّفَرِ من وَقْتِ الْحَدَثِ
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ الْمَسْحِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَوَّلُ وَلَكِنَّهُ يَمْسَحُ تَمَامَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ
وَيَنْزِعُ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ثُمَّ يبتدىء مُدَّةَ السَّفَرِ وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ولم يُفَصِّلْ
وَلَنَا قَوْلُهُ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَهَذَا
مُسَافِرٌ وَلَا حُجَّةَ له في صَدْرِ الحديث لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُقِيمَ
وقد بَطَلَتْ الْإِقَامَةُ بِالسَّفَرِ هذا إذَا كان مُقِيمًا فَسَافَرَ
وَأَمَّا إذَا كان مُسَافِرًا فَأَقَامَ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ
مُدَّةِ السَّفَرِ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ
أَقَامَ قبل أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ السَّفَرِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ تَمَامِ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أو أَكْثَرَ فَكَذَلِكَ يَنْزِعُ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلُ
رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ لو مَسَحَ لَمَسَحَ وهو مُقِيمٌ أَكْثَرَ من يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَقَامَ قبل تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
أَتَمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّ أَكْثَرَ ما في الْبَابِ أَنَّهُ مُقِيمٌ
فَيُتِمُّ مُدَّةَ الْمُقِيمِ
ما ذَكَرْنَا من تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ في حَقِّ
الْمُقِيمِ وَبِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا في حَقِّ الْمُسَافِرِ في حَقِّ
الْأَصِحَّاءِ
فَأَمَّا في حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ
وَالِاسْتِحَاضَةِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ
زُفَرَ
أما عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ إلَّا في حَالَةٍ
وَاحِدَةٍ وَبَيَانُ ذلك أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ إذَا تَوَضَّأَ وَلَبِسَ
خُفَّيْهِ فَهَذَا على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ
أَمَّا إنْ كان الدَّمُ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ وَاللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ
كان سَائِلًا في الْحَالَيْنِ جميعا وَأَمَّا إنْ كان مُنْقَطِعًا وَقْتَ
الْوُضُوءِ سَائِلًا وَقْتَ اللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ كان سَائِلًا وَقْتَ
الْوُضُوءِ مُنْقَطِعًا وَقْتَ اللُّبْسِ فَإِنْ كان مُنْقَطِعًا في الْحَالَيْنِ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ لِأَنَّ السَّيَلَانَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ
فَكَانَ اللُّبْسُ على طَهَارَةٍ املة ( ( ( كاملة ) ) ) فَمَنَعَ الْخُفُّ
سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمَيْنِ ما دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً
وَأَمَّا في الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ فإنه يَمْسَحُ ما دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا
فإذا خَرَجَ الْوَقْتُ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْتَكْمِلُ مُدَّةَ الْمَسْحِ كَالصَّحِيحِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ طَهَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا
لِأَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ
الصَّلَاةِ بها فَحَصَلَ اللُّبْسُ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَأُلْحِقَتْ
بِطَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ
وَلَنَا أَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ في الْوَقْتِ بِدَلِيلِ أَنَّ
طَهَارَتَهُ تُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَإِنْ لم يُوجَدْ
الْحَدَثُ فإذا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ مُحْدِثًا من وَقْتِ السَّيَلَانِ
وَالسَّيَلَانُ كان سَابِقًا على لُبْسِ الْخُفِّ وَمُقَارِنًا له فَتَبَيَّنَ
أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا على الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ السَّيَلَانَ ثَمَّةَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ
فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عن طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْمَسْحِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمَاسِحِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى
الْمَاسِحِ أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ لَابِسُ لخفين ( ( ( الخفين ) ) )
على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ وَلَا أَنْ يَكُونَ على
طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ
اللُّبْسِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا وَلَبِسَ
خُفَّيْهِ ثُمَّ أَتَمَّ الْوُضُوءَ قبل أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ له
أَنْ يَمْسَحَ على الْخُفَّيْنِ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ هو لُبْسُ
الْخُفَّيْنِ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ اللُّبْسِ
لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَانَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مُقَدَّمًا
على الْأَعْضَاءِ الْأُخَرِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فلم تُوجَدْ الطَّهَارَةُ
وَقْتَ اللُّبْسِ
وَكَذَلِكَ لو تَوَضَّأَ فَرَتَّبَ لَكِنَّهُ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ
الْخُفَّ ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ الْخُفَّ قِيلَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ
وَإِنْ وُجِدَ التَّرْتِيبُ في هذه الصُّورَةِ لَكِنَّهُ لم يُوجَدْ لُبْسُ
الْخُفَّيْنِ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ لُبْسِهِمَا حتى لو نَزَعَ الْخُفَّ
الْأَوَّلَ ثُمَّ لَبِسَهُ جَازَ الْمَسْحُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ على طَهَارَةٍ
كَامِلَةٍ
وَلَنَا أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْمَسْحِ
إنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَقْتَ لحدث ( ( ( الحدث ) ) ) بَعْدَ اللُّبْسِ
أما عِنْدَ الْحَدَثِ قبل اللُّبْسِ فَلَا حَاجَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْغَسْلُ
وَكَذَا لَا حَاجَةَ عد اللُّبْسِ قبل الْحَدَثِ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فَكَانَ
الشَّرْطُ كَمَالَ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وقد وُجِدَ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَخَاضَ الْمَاءَ حتى
أَصَابَ الْمَاءُ رِجْلَيْهِ في دَاخِلِ الْخُفِّ ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ له
الْمَسْحُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ
الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وهو كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ
اللُّبْسِ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ أَحْدَثَ قبل أَنْ يُتِمَّ الْوُضُوءَ
ثُمَّ أَتَمَّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ اللُّبْسِ
وَلَوْ أَرَادَ
____________________
(1/9)
الطَّاهِرُ
أَنْ يَبُولَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ بَالَ جَازَ له الْمَسْحُ لِأَنَّهُ على
طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَسُئِلَ أبو حَنِيفَةَ عن هذا
فقال لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَقِيهٌ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ على طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ نَزَعَ
خُفَّيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ على التَّيَمُّمِ
إذْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُعْقَلُ حَدَثًا إلا أنه امْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ
إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فَعِنْدَ وُجُودِهِ ظَهَرَ حُكْمُهُ في
الْقَدَمَيْنِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ لَجَعَلْنَا الْخُفَّ رَافِعًا
لِلْحَدَثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ على طَهَارَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَإِنْ
لم يَجِدْ مَاءً مُطْلَقًا تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَمَسَحَ على خُفَّيْهِ
لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَإِنْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا نَزَعَ خُفَّيْهِ وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ
لِأَنَّهُ ليس بِطَهُورٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَكَذَلِكَ لو
تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَتَيَمَّمَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ
وَلَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ولم يَتَيَمَّمْ حتى
أَحْدَثَ جَازَ له أَنْ يَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَيَمْسَحُ على خُفَّيْهِ
ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ إنْ كان طَهُورًا
فَالتَّيَمُّمُ فضل ( ( ( أفضل ) ) ) وَإِنْ كان الطَّهُورُ هو التُّرَابُ
فَالْقَدَمُ لَا حَظَّ لها من التَّيَمُّمِ
وَلَوْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على جَبَائِرِ قَدَمَيْهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ
أَحْدَثَ أو كانت إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحِيحَةً فَغَسَلَهَا وَمَسَحَ على جَبَائِرِ
الْأُخْرَى وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَإِنْ لم يَكُنْ بَرَأَ الْجُرْحُ
مَسَحَ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا
تَحْتَهَا فَحَصَلَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ كما لو
أَدْخَلَهُمَا مَغْسُولَتَيْنِ حَقِيقَةً في الْخُفِّ وَإِنْ كان بَرَأَ الْجُرْحُ
نَزَعَ خُفَّيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَظَهَرَ
أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا على طَهَارَةٍ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ في الزِّيَادَاتِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ
الْحَدَثُ خَفِيفًا فَإِنْ كان غَلِيظًا وهو الْجَنَابَةُ فَلَا يَجُوزُ فيها
الْمَسْحُ لِمَا رُوِيَ عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قال كان
يَأْمُرُنَا رسول اللَّهِ إذَا كنا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا لَا عن جَنَابَةٍ لَكِنْ من غَائِطٍ أو بَوْلٍ
أو نَوْمٍ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ في الْحَدَثِ الْخَفِيفِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ
لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ
وَالْمَشَقَّةُ في نَزْعِ الْخُفِّ وَالْجَنَابَةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَا
يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ في النَّزْعِ
وأما الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ
فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خُفًّا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ
بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ وما يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ
الْخُفِّ وَكَذَا ما يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ من الْجِلْدِ مِمَّا سِوَى الْخُفِّ
كَالْمُكَعَّبِ الْكَبِيرِ وَالْمِيثَمِ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْخُفِّ
مبحث الْمَسْحِ على الْجَوَارِبِ وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجَوْرَبَيْنِ فَإِنْ
كَانَا مُجَلَّدَيْنِ أو مُنَعَّلَيْنِ يُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَإِنْ لم يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ وَلَا مُنَعَّلَيْنِ فَإِنْ كَانَا
رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْمَاءَ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَا ثَخِينَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا في آخِرِ عُمُرِهِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسَحَ على جَوْرَبَيْهِ في مَرَضِهِ ثُمَّ قال لِعُوَّادِهِ
فَعَلْتُ ما كُنْت أَمْنَعُ الناس عنه فَاسْتَدَلُّوا بِهِ على رُجُوعِهِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْجَوَارِبِ وَإِنْ كانت
مُنَعَّلَةً إلَّا إذَا كانت مُجَلَّدَةً إلَى الْكَعْبَيْنِ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ أَنَّ النبي
تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على الْجَوْرَبَيْنِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ في الْخُفِّ
لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِمَا يَلْحَقُهُ من الْمَشَقَّةِ بِالنَّزْعِ وَهَذَا
الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْجَوْرَبِ بِخِلَافِ اللِّفَافَةِ وَالْمُكَعَّبِ
لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ في نَزْعِهِمَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ نَصًّا
بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَكُلُّ ما كان في مَعْنَى الْخُفِّ في إدْمَانِ الْمَشْيِ
عليه وَإِمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ يَلْحَقُ بِهِ وما لَا فَلَا وَمَعْلُومٌ
أَنَّ غير الْمُجَلَّدِ وَالْمُنَعَّلِ من الْجَوَارِبِ لَا يُشَارِكُ الْخُفَّ في
هذا الْمَعْنَى فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ على أَنَّ شَرْعَ الْمَسْحِ أن ثَبَتَ
لِلتَّرْفِيهِ لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْفِيهِ فِيمَا يَغْلِبُ لُبْسُهُ
وَلُبْسُ الْجَوَارِبِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ فَلَا حَاجَةَ فيها إلَى التَّرْفِيهِ
فَبَقِيَ أَصْلُ الْوَاجِبِ بِالْكِتَابِ وهو غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ أو
مُنَعَّلَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ وَلَا عُمُومَ له لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ أَلَا
يُرَى أَنَّهُ لم يَتَنَاوَلْ الرَّقِيقَ من الْجَوَارِبِ
وَأَمَّا الْخُفُّ الْمُتَّخَذُ من اللَّبَدِ فلم يَذْكُرُهُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَقِيلَ إنَّهُ على التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَقِيلَ إنْ كان يُطِيقُ السَّفَرَ جَازَ الْمَسْحُ عليه وَإِلَّا فَلَا
وَهَذَا هو الْأَصَحُّ
وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجُرْمُوقَيْنِ من الْجِلْدِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا فَوْقَ
الْخُفَّيْنِ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَبِسَ
الْجُرْمُوقَ وَحْدَهُ قِيلَ إنَّهُ على هذا الْخِلَافِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَسْحَ على الْخُفِّ بَدَلٌ عن الْغَسْلِ فَلَوْ جَوَّزْنَا
الْمَسْحَ على الجرموقن ( ( ( الجرموقين ) ) ) لَجَعَلْنَا لِلْبَدَلِ بَدَلًا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رَأَيْت النبي مَسَحَ
على الْجُرْمُوقَيْنِ
____________________
(1/10)
وَلِأَنَّ
الْجُرْمُوقَ يُشَارِكُ الْخُفَّ في إمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ فَيُشَارِكُهُ
في جَوَازِ الْمَسْحِ عليه وَلِهَذَا شَارَكَهُ في حَالَةِ الِانْفِرَادِ
وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ بِمَنْزِلَةِ خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ وَذَا
يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه فَكَذَا هذا
وَقَوْلُهُ الْمَسْحُ عليه بَدَلٌ عن الْمَسْحِ على الْخُفِّ مَمْنُوعٌ بَلْ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عن الْغَسْلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ إلَّا أنه إذَا نَزَعَ
الجرموقي ( ( ( الجرموق ) ) ) لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ لِوُجُودِ شَيْءٍ
آخَرَ هو بَدَلٌ عن الْغَسْلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ وهو الْخُفُّ
ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْجُرْمُوقَيْنِ عِنْدَنَا إذَا لَبِسَهُمَا
على الْخُفَّيْنِ قبل أَنْ يُحْدِثَ فَإِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ
الْجُرْمُوقَيْنِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ مَسَحَ على
الْخُفَّيْنِ أو لَا
أَمَّا إذَا مَسَحَ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّ على الْخُفِّ فَلَا
يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ
وَأَمَّا إذَا لم يَمْسَحْ فَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمَسْحِ من وَقْتِ
الْحَدَثِ وقد انْعَقَدَ في الْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجُرْمُوقِ بَعْدَ
ذلك
وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ على الْجُرْمُوقِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ لِتَعَذُّرِ
النَّزْعِ وَهُنَا لَا حَاجَةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عليه الْمَسْحُ على
الْخُفَّيْنِ ثُمَّ لُبْسُ الْجُرْمُوقِ فلم يَجُزْ
وَلِهَذَا لم يَجُزْ الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا على الْحَدَثِ
كَذَا هذا
وَلَوْ مَسَحَ على الْجُرْمُوقَيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا مَسَحَ على الْخُفِّ
الْبَادِي وَأَعَادَ الْمَسْحَ على الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ وَزُفَرُ يَمْسَحُ على الْخُفِّ الْبَادِي وَلَا
يُعِيدُ الْمَسْحَ على الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِعُ الْجُرْمُوقَ الْبَاقِي وَيَمْسَحُ على
الْخُفَّيْنِ أبو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْجُرْمُوقَ بِالْخُفِّ وَلَوْ نَزَعَ أَحَدَ
الْخُفَّيْنِ يَنْزِعُ الْآخَرَ وَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ وَزُفَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْمَسْحِ على
الْجُرْمُوقِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ على الْخُفِّ ابْتِدَاءً بِأَنْ كان على أَحَدِ
الْخُفَّيْنِ جُرْمُوقٌ دُونَ الْآخَرِ فَكَذَا بَقَاءٌ
وإذا بَقِيَ الْمَسْحُ على الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ في حُكْمِ الطَّهَارَةِ
بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ التجزىء ( ( ( التجزيء ) ) ) فإذا
اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ في إحْدَاهُمَا بِنَزْعِ الْجُرْمُوقِ تُنْتَقَضُ في
الْأُخْرَى ضَرُورَةً كما إذَا نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ
وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْقُفَّازَيْنِ وَهُمَا لِبَاسَا الْكَفَّيْنِ
لِأَنَّهُ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ وَلَا حَرَجَ في
نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بِالْخُفِّ خَرْقٌ كَثِيرٌ فَأَمَّا الْيَسِيرُ فَلَا
يَمْنَعُ الْمَسْحَ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وهو اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ
وقال مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْخَرْقُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ
قَلَّ أو كَثُرَ بَعْدَ أَنْ كان يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الْخُفِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فما
دَامَ اسْمُ الْخُفِّ له بَاقِيًا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه وَجْهُ الْقِيَاسِ
أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ شَيْءٌ من الْقَدَمِ وَإِنْ قَلَّ وَجَبَ غَسْلُهُ
لِحُلُولِ الْحَدَثِ بِهِ لِعَدَمِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفِّ وَالرِّجْلُ في حَقِّ
الْغَسْلِ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ فإذا وَجَبَ غَسْلُ بَعْضِهَا وَجَبَ غَسْلُ
كُلِّهَا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ بِالْمَسْحِ مع عِلْمِهِ بِأَنَّ خِفَافَهُمْ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ
الْخُرُوقِ فَكَانَ هذا منه بَيَانًا أَنَّ الْقَلِيلَ من الْخُرُوقِ لَا يَمْنَعُ
الْمَسْحَ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ تَرَفُّهًا فَلَوْ
مَنَعَ قَلِيلَ الِانْكِشَافِ لم يَحْصُلْ التَّرْفِيهُ لِوُجُودِهِ في أَغْلَبِ
الْخِفَافِ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ هو قَدْرُ ثَلَاثِ
أَصَابِعَ فَإِنْ كان الْخَرْقُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنَعَ وَإِلَّا فَلَا
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَصَابِعُ الْيَدِ أو ( ( ( وأصابع ) ) ) أصابع الرِّجْلِ
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ من أَصْغَرِ
أَصَابِعِ الرِّجْلِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ من أَصَابِعِ الْيَدِ
وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالثَّلَاثِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذا الْقَدْرَ
إذَا انْكَشَفَ مَنَعَ من قَطْعِ الْأَسْفَارِ وَالثَّانِي أَنَّ الثَّلَاثَ أَصَابِعَ
أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ ثُمَّ الْخَرْقُ الْمَانِعُ
أَنْ يَكُونَ مُنْفَتِحًا بِحَيْثُ يَظْهَرُ ما تَحْتَهُ من الْقَدَمِ مِقْدَارَ
ثَلَاثِ أَصَابِعَ أو يَكُونَ مُنْضَمًّا لَكِنَّهُ يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ
فَأَمَّا إذَا كان مُنْضَمًّا لَا يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ فإنه لَا يَمْنَعُ
وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ثَلَاثِ أَصَابِعَ
كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
لِأَنَّهُ إذَا كان مُنْفَتِحًا أو يَنْفَتِحُ عِنْدَ الْمَشْيِ لَا يُمْكِنُ
قَطْعُ السَّفَرِ بِهِ وإذا لم يُمْكِنْ يَمْنَعُ وَسَوَاءٌ كان الْخَرْقُ في
ظَاهِرِ الْخُفِّ أو في بَاطِنِهِ أو من نَاحِيَةِ الْعَقِبِ بَعْدَ أَنْ كان
أَسْفَلَ من الْكَعْبَيْنِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَدَا ثَلَاثٌ من أَنَامِلِهِ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَمْنَعُ وقال بَعْضُهُمْ يَمْنَعُ
وهو الصَّحِيحُ
وَلَوْ انكشف ( ( ( انكشفت ) ) ) الظِّهَارَةُ وفي دَاخِلِهِ بِطَانَةٌ من جِلْدٍ
ولم يَظْهَرْ الْقَدَمُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه هذا إذَا كان الْخَرْقُ في
مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كان في مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ يُنْظَرُ إنْ كان في
خُفٍّ وَاحِدٍ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَإِنْ بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ
أَصَابِعَ يَمْنَعُ وَإِلَّا فَلَا
وَإِنْ كان في خُفَّيْنِ لَا يُجْمَعُ
وَقَالُوا في النَّجَاسَةِ إنْ كانت على الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَعْضَهَا
إلَى بَعْضٍ فإذا زَادَتْ على قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَتْ جَوَازَ
____________________
(1/11)
الصَّلَاةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرْقَ إنَّمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحَ لِظُهُورِ
مِقْدَارِ فَرْضِ الْمَسْحِ فإذا كان مُتَفَرِّقًا فلم يَظْهَرْ مِقْدَارُ فَرْضِ
الْمَسْحِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْمَانِعُ من جَوَازِ الصَّلَاةِ في
النَّجَاسَةِ هو كَوْنُهُ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ وَمَعْنَى الْحَمْلِ مُتَحَقِّقٌ
سَوَاءٌ كان في خُفٍّ وَاحِدٍ أو في خُفَّيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ على ظَاهِرِ الْخُفِّ حتى لو مَسَحَ على بَاطِنِهِ لَا
يَجُوزُ وهو قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَنَسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو ظَاهِرُ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَعَنْهُ أَنَّهُ لو اقْتَصَرَ على الْبَاطِنِ لَا يَجُوزُ وَالْمُسْتَحَبُّ
عِنْدَنَا الْجَمْعُ بين الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ في الْمَسْحِ إلَّا إذَا كان على
بَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ
وَحَكَى إبْرَاهِيمُ بن جَابِرٍ في كِتَابِ الِاخْتِلَافِ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ
الِاقْتِصَارَ على أَسْفَلِ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لو مَسَحَ على الْعَقِبِ
أو على جَانِبِيِّ الْخُفِّ أو على السَّاقِ لَا يَجُوزُ وَالْأَصْلُ فيه ما
رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُ
بِالْمَسْحِ على ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو كان الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ
بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ من ظَاهِرِهِ وَلَكِنِّي رأيت رَسُولَ
اللَّهِ يَمْسَحُ على ظَاهِرِ خُفَّيْهِ دُونَ بَاطِنِهِمَا
وَلِأَنَّ بَاطِنَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو عن لَوْثٍ عَادَةً فَالْمَسْحُ عليه
يَكُونُ تَلْوِيثًا لِلْيَدِ وَلِأَنَّ فيه بَعْضَ الْحَرَجِ وما شُرِعَ الْمَسْحُ
إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ في الْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ كما لَا تُشْتَرَطُ في مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس بِبَدَلٍ عن الْغَسْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مع
الْقُدْرَةِ على الْغَسْلِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ
وَكَذَا فِعْلُ الْمَسْحِ ليس بِشَرْطٍ أيضا لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَيْضًا بَلْ
الشَّرْطُ إصَابَةُ الْمَاءِ حتى لو خَاضَ الْمَاءَ أو أَصَابَهُ الْمَطَرُ جَازَ
عن الْمَسْحِ وَلَوْ مَرَّ بِحَشِيشٍ مُبْتَلٍّ فَأَصَابَ الْبَلَلُ ظَاهِرَ
خُفَّيْهِ إنْ كان بَلَلَ الْمَاءِ أو الْمَطَرِ جَازَ وَإِنْ كان بَلَلَ الطَّلِّ
قِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الطَّلَّ ليس بِمَاءٍ
مبحث مقدار المسح فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسْحِ فَالْمِقْدَارُ
الْمَفْرُوضُ هو مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ طُولًا وَعَرْضًا مَمْدُودًا أو
مَوْضُوعًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَفْرُوضُ هو أَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ
الْمَسْحِ كما قال في مَسْحِ الرَّأْسِ وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أو أُصْبُعَيْنِ
وَمَدَّهُمَا حتى بَلَغَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِزُفَرَ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا
وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَعَادَهَا في كل مَرَّةٍ
إلَى الْمَاءِ يَجُوزُ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ
ثُمَّ الْكَرْخِيُّ اعْتَبَرَ التَّقْدِيرَ فيه بِأَصَابِعِ الرِّجْلِ فإنه ذَكَرَ
في مُخْتَصَرِهِ إذَا مَسَحَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ من أَصَابِعِ الرِّجْلِ
أَجْزَأَهُ فَاعْتُبِرَ الْمَمْسُوحُ لِأَنَّ الْمَسْحَ يَقَعُ عليه
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لو وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ
وَضْعًا أَجْزَأَهُ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ التَّقْدِيرَ فيه بِأَصَابِعِ الْيَدِ وهو الصَّحِيحُ
لِمَا رُوِيَ في حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في آخِرِهِ لَكِنِّي
رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَمْسَحُ على ظَاهِرِ خُفَّيْهِ
خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمَسْحِ أَنَّهُ
الْخُطُوطُ بِالْأَصَابِعِ وَالْأَصَابِعُ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ
الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَكَانَ هذا تَقْدِيرًا لِلْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ
الْيَدِ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِهِ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ
مَحْسُوسٌ فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَمُسْتَتِرَةٌ بِالْخُفِّ فَلَا يُعْلَمُ
مِقْدَارُهَا إلَّا بالحزر ( ( ( بالحرز ) ) ) وَالظَّنِّ فَكَانَ التَّقْدِيرُ
بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْلَى
مبحث نَوَاقِضِ الْمَسْحِ فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ الْمَسْحَ
وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَالْمَسْحُ يُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ منها
انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ في حَقِّ الْمُقِيمِ وفي
حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ
الْمُوَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فإذا انْقَضَتْ
الْمُدَّةُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي إنْ كان مُحْدِثًا وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا
يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ وَيُصَلِّي
وَمِنْهَا نَزْعُ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ إذَا نَزَعَهُمَا فَقَدْ سَرَى الْحَدَثُ
السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ ثُمَّ إنْ كان مُحْدِثًا يَتَوَضَّأُ بِكَمَالِهِ
وَيُصَلِّي وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ وَلَا
يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ
الْوُضُوءَ وَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ قد حَلَّ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ وَالْحَدَثُ
لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي
وَلَنَا أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ هو الذي حَلَّ بِقَدَمَيْهِ وقد غَسَلَ
بَعْدَهُ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ وَبَقِيَتْ الْقَدَمَانِ فَقَطْ فَلَا يَجِبُ عليه
إلَّا غَسْلُهُمَا وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ
أَحَدَهُمَا أَنَّهُ يُنْتَقَضُ مَسْحُهُ في الْخُفَّيْنِ وَعَلَيْهِ نَزْعُ
الْبَاقِي وَغَسْلُهُمَا لَا غَيْرُ إنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا وَالْوُضُوءُ
بِكَمَالِهِ إنْ كان مُحْدِثًا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فيه ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ في قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ لَا شَيْءَ عليه إذْ لَا
يُعْقَلُ حَدَثًا وفي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ فَحُلُولُهُ بِالْبَعْضِ
كَحُلُولِهِ
____________________
(1/12)
بِالْكُلِّ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا تَمَّتْ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا
بِالْحَدَثِ وَنَزْعُ الْخُفِّ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا
وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ من سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ اسْتِتَارُهَا
بِالْخُفِّ وقد زَالَ بِالنَّزْعِ فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى
الْقَدَمَيْنِ جميعا لِأَنَّهُمَا في حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فإذا
وَجَبَ غَسْلُ إحْدَاهُمَا وَجَبَ الْأُخْرَى
وَلَوْ أَخْرَجَ الْقَدَمَ إلَى السَّاقِ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ لِأَنَّ إخْرَاجَ
الْقَدَمِ إلَى السَّاقِ إخْرَاجٌ لها من الْخُفِّ وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ
قَدَمِهِ أو خَرَجَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْعَقِبِ من الْخُفِّ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ وَإِلَّا فَلَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ من الْخُفِّ
اُنْتُقِضَ وَإِلَّا فَلَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ في الْخُفِّ مِقْدَارُ ما يَجُوزُ عليه
الْمَسْحُ بَقِيَ الْمَسْحُ وَإِلَّا اُنْتُقِضَ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهُ
يَسْتَمْشِي فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ بَقِيَ الْمَسْحُ وَإِلَّا
فَيُنْتَقَضُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقَدَمِ
لِأَنَّ الْمَشْيَ يَتَعَذَّرُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ وَلَا بَأْسَ
بِالِاعْتِمَادِ عليه لِأَنَّ الْمَقْصِدَ من لُبْسِ الْخُفِّ هو الْمَشْيُ فإذا
تَعَذَّرَ الْمَشْيُ انْعَدَمَ اللُّبْسُ فِيمَا قُصِدَ له وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ
حُكْمَ الْكُلِّ
مبحث الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ
فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
جَوَازِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ هذا الْمَسْحِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ
ما يَنْقُضُهُ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا اُنْتُقِضَ وفي بَيَانِ ما يُفَارِقُ فيه
الْمَسْحُ على الجبائر المسح على الْخُفَّيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ جَائِزٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِهِ
ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُسِرَ زَنْدِي يوم أُحُدٍ
فَسَقَطَ اللِّوَاءُ من يَدِي فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اجْعَلُوهَا في
يَسَارِهِ فإنه صَاحِبُ لِوَائِي في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فقلت يا رَسُولَ
اللَّهِ ما أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ فقال امْسَحْ عليها شُرِعَ الْمَسْحُ على
الْجَبَائِرِ عِنْدَ كَسْرِ الزَّنْدِ فَيَلْحَقُ بِهِ ما كان في مَعْنَاهُ من
الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا شُجَّ في وَجْهِهِ
يوم أُحُدٍ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ وَعَصَبَ عليه وكان يَمْسَحُ على الْعِصَابَةِ
وَلَنَا في رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إسوة حَسَنَةٌ وَلِأَنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِأَنَّ في نَزْعِهَا حَرَجًا
وَضَرَرًا
مبحث شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
الْغَسْلُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ وَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ أو
لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ لَكِنَّهُ يُخَافُ الضَّرَرَ من جِهَةٍ أُخْرَى بِنَزْعِ
الْجَبَائِرِ فَإِنْ كان لَا يضر ( ( ( يضره ) ) ) به وَلَا يُخَافُ لَا يَجُوزُ
وَلَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ لِأَنَّ الْمَسْحَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ
ثُمَّ إذَا مَسَحَ على الْجَبَائِرِ وَالْخِرَقِ التي فَوْقَ الْجِرَاحَةِ جَازَ
لِمَا قُلْنَا
وأما إذَا مَسَحَ على الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ عن رَأْسِ الْجِرَاحَةِ ولم
يَغْسِلْ ما تَحْتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ لم يذكر هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان حَلَّ الْخِرْقَةَ
وَغَسَلَ ما تَحْتَهَا من حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ
يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ وَيَقُومُ الْمَسْحُ عليها
مَقَامَ غَسْلِ ما تَحْتَهَا كَالْمَسْحِ على الْخِرْقَةِ التي تُلَاصِقُ
الْجِرَاحَةَ وَإِنْ كان ذلك لَا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ عليه أَنْ يَحِلَّ
وَيَغْسِلَ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليها لِأَنَّ
الْجَوَازَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ
وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ على الْجَبِيرَةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ
على عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بها فَإِنْ كان لَا يَضُرُّ بها لَا
يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا على نَفْسِ الْجِرَاحَةِ وَلَا يَجُوزُ على الْجَبِيرَةِ
كَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لِأَنَّ الْجَوَازَ على الْجَبِيرَةِ
لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ
وَلَوْ كانت الْجِرَاحَةُ على رَأْسِهِ وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ فَإِنْ كان الصَّحِيحُ
قَدْرَ ما يَجُوزُ عليه الْمَسْحُ وهو قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ إلَّا
أَنْ يَمْسَحَ عليه لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ من مَسْحِ الرَّأْسِ هو هذا الْقَدْرُ
وَهَذَا الْقَدْرُ من الرَّأْسِ صَحِيحٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ على
الْجَبَائِرِ
وَعِبَارَةُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ في مِثْلِ هذا أنه إنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ
في الرِّبَاطِ
وَإِنْ كان أَقَلَّ من ذلك لم يَمْسَحْ عليه لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَمْسَحُ على الْجَبَائِرِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ هل هو وَاجِبٌ أَمْ لَا
فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الصَّلَاةِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا
تَرَكَ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَذَلِكَ يَضُرُّهُ أَجْزَأَهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كان ذلك لَا يَضُرُّهُ لم يَجُزْ فَخَرَجَ
جَوَابُ أبي حَنِيفَةَ في صُورَةٍ وَخَرَجَ جَوَابُهُمَا في صُورَةٍ أُخْرَى فلم
يَتَبَيَّنْ الْخِلَافُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا كان الْمَسْحُ على
الْجَبَائِرِ يَضُرُّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه الْمَسْحُ لِأَنَّ الْغَسْلَ
يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فَالْمَسْحُ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا كان لَا يَضُرُّهُ فَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا
الِاخْتِلَافَ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ
مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَهَكَذَا ذَكَرَ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ في اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ
وَعِنْدَهُمَا وَاجِبٌ
وَحُجَّتُهُمَا ما رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا
____________________
(1/13)
رضي
اللَّهُ عنه بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ بِقَوْلِهِ امْسَحْ عليها وَمُطْلَقُ
الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ
إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه من أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تَثْبُتُ
الْفَرْضِيَّةُ بِهِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إن كان الْمَسْحُ لَا يَضُرُّهُ يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ
وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بين حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ وهو أَنَّ من قال إنَّ
الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ ليس بِوَاجِبٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عَنَى بِهِ
أَنَّهُ ليس بِفَرْضٍ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ اسْمٌ لِمَا
ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ
ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَأَنَّهُ من الأحاد فَيُوجِبُ
الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وَمَنْ قال إنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَاجِبٌ
عِنْدَهُمَا فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ وُجُوبَ الْعَمَلِ لَا الْفَرْضِيَّةَ وَعَلَى
هذا لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّهُمَا لا يَقُولَانِ بِفَرْضِيَّةِ
الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ بَلْ بِوُجُوبِهِ
من حَيْثُ الْعَمَلُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ على الْوُجُوب في حَقِّ
الْعَمَلِ وَإِنَّمَا الْفَرْضِيَّةُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وأبو حَنِيفَةَ
رضي اللَّهُ عنه يقول بِوُجُوبِهِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَالْجَوَازُ وَعَدَمُ
الْجَوَازِ يَكُونُ مَبْنِيًّا على الْوُجُوبِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ في حَقِّ
الْعَمَلِ
لو تَرَكَ الْمَسْحَ على بَعْضِ الْجَبَائِرِ وَمَسَحَ على الْبَعْضِ لم يذكر هذا
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال إنْ مَسَحَ على الْأَكْثَرِ جَازَ
وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ
لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْأَكْثَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ وَرَدَ الشَّرْعُ
بِالتَّقْدِيرِ فَلَا تُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ على الْمُقَدَّرِ وَهَهُنَا لَا
تَقْدِيرَ من الشَّرْعِ بَلْ وَرَدَ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ فَظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ إلَّا أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن ضَرْبِ حَرَجٍ فَأُقِيمَ
الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مبحث نَوَاقِضِ الْمَسْحِ على الجبيرة ( ( ( الجبائر ) ) ) وَأَمَّا بَيَانُ ما
يَنْقُضُ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَسُقُوطُ
الْجَبَائِرِ عن بُرْءٍ يَنْقُضُ الْمَسْحَ
جملة ( ( ( وجملة ) ) ) الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجَبَائِرَ إذَا سَقَطَتْ فَإِمَّا
أَنْ تَسْقُطَ لَا عن بُرْءٍ أو عن بُرْءٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من أَنْ
يَكُونَ في الصَّلَاةِ أو خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ سَقَطَتْ لَا عن بُرْءٍ في
الصَّلَاةِ مَضَى عليها وَلَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ يُعِيدُ
الْجَبَائِرَ إلَى مَوْضِعِهَا وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ الْمَسْحِ وَكَذَلِكَ
إذَا شَدَّهَا بِجَبَائِرَ أُخْرَى غير الْأُولَى بِخِلَافِ الْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ أنه إذَا سَقَطَ الْخُفُّ في حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ
سَقَطَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَجِبُ الْغَسْلُ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ سُقُوطَ
الْغَسْلِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ كما في النَّزْعِ فإذا سَقَطَ فَقَدْ زَالَ
الْحَرَجُ وَهَهُنَا السُّقُوطُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ وإنه قَائِمٌ فَكَانَ
الْغَسْلُ سَاقِطًا وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ قَائِمٌ وَإِنَّمَا
زَالَ الْمَمْسُوحُ كما إذَا مَسَحَ على رَأْسِهِ ثُمَّ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنَّهُ
لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْمَسْحِ وَإِنْ زَالَ الْمَمْسُوحُ كَذَلِكَ هَهُنَا
وَإِنْ سَقَطَتْ عن بُرْءٍ فَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ وهو مُحْدِثٌ فإذا
أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ إنْ كانت
الْجِرَاحَةُ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَإِنْ لم كن ( ( ( يكن ) ) ) مُحْدِثًا
غَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ قَدَرَ على الْأَصْلِ فَبَطَلَ
حُكْمُ الْبَدَلِ فيه فَوَجَبَ غَسْلُهُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَسْلِ وهو
الطَّهَارَةُ في سَائِرِ الْأَعْضَاءِ قَائِمٌ لِانْعِدَامِ ما يَرْفَعُهَا وهو
الْحَدَثُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا وَإِنْ كان في حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ
لِقُدْرَتِهِ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ
وَلَوْ مَسَحَ على الْجَبَائِرِ وَصَلَّى أَيَّامًا ثُمَّ بَرَأَتْ جِرَاحَتُهُ
لَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ ما صلى بِالْمَسْحِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان الْجَبْرُ على الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُعِيدُ قَوْلًا
وَاحِدًا وَإِنْ كان على الْكَسْرِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا عُذْرٌ نَادِرٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ
زَوَالِهِ كَالْمَحْبُوسِ في السِّجْنِ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا
نَظِيفًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ من السِّجْنِ
كَذَلِكَ هَهُنَا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ ولم يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ
الصَّلَاةِ مع حَاجَتِهِ إلَى الْبَيَانِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَارِقُ فيه الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ الْمَسْحَ على
الْخُفَّيْنِ
فَمِنْهَا أَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْأَيَّامِ بَلْ
هو موقت بِالْبُرْءِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ موقت بِالْأَيَّامِ لِلْمُقِيمِ
يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ
التَّوْقِيتَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَقَّتَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ يَمْسَحُ
الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا
ولم يوقت هَهُنَا بَلْ أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ امْسَحْ عليها
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِوَضْعِ الْجَبَائِرِ حتى لو وَضَعَهَا
وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ جَازَ له أَنْ يَمْسَحَ عليها وَتُشْتَرَطُ
الطَّهَارَةُ لِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ حتى لو لَبِسَهُمَا وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ
تَوَضَّأَ لَا يَجُوزُ له الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ على
الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا فإذا مَسَحَ عليها فَكَأَنَّهُ غَسَلَ
ما تَحْتَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ وَالْخُفُّ جُعِلَ مَانِعًا من
نُزُولِ الْحَدَثِ بِالْقَدَمَيْنِ لَا رَافِعًا له
____________________
(1/14)
وَلَا
يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا أن ( ( ( وأن ) ) ) يَكُونَ لَابِسُ الْخُفِّ على طَهَارَةٍ
وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ لَا عن بُرْءٍ لَا يُنْتَقَضُ
الْمَسْحُ وَسُقُوطُ الْخُفَّيْنِ أو سُقُوطُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ
الْمَسْحِ لِمَا بَيَّنَّا
مبحث شرائط أركان الوضوء فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ
فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ حتى لَا يَجُوزَ التوضأ بِمَا سِوَى
الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ وَالْعَصِيرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذلك
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَالْمُرَادُ
منه الْغَسْلُ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قال في آخِرِ الْآيَةِ { وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو
لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }
نَقَلَ الْحُكْمَ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَدَلَّ على أَنَّ
الْمَنْقُولَ منه هو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وَكَذَا الْغَسْلُ الْمُطْلَقُ
يَنْصَرِفُ إلَى الْغَسْلِ الْمُعْتَادِ وهو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ
وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ هو الذي تَتَسَارَعُ أَفْهَامُ الناس إلَيْهِ عِنْدَ
إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ كَمَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَمَاءِ
السَّمَاءِ وَمَاءِ الْغُدْرَانِ وَالْحِيَاضِ وَالْبِحَارِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ
بِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ كان في مَعْدِنِهِ أو في الْأَوَانِي لِأَنَّ نَقْلَهُ
من مَكَان إلَى مَكَان لَا يَسْلُبُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عنه وَسَوَاءٌ كان
عَذْبًا أو مِلْحًا لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ يُسَمَّى مَاءً على الْإِطْلَاقِ
وقال النبي خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ
لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ وَالطَّهُورُ هو الطَّاهِرُ في نَفْسِهِ
الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ
مَاءً طَهُورًا }
وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّمَاءِ مَاءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن الْبَحْرِ فقال هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الحلج ( ( ( الحل ) ) ) مَيْتَتُهُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عن الْمِيَاهِ التي تَكُونُ في الْفَلَوَاتِ وما
يَنُوبُهَا من السباع ( ( ( الدواب ) ) ) والدواب ( ( ( والسباع ) ) ) فقال لها ما
أَخَذَتْ في بُطُونِهَا وما أَبْقَتْ فَهُوَ لنا شَرَابٌ وَطَهُورٌ
وكان النبي يَتَوَضَّأُ من آبَارِ الْمَدِينَةِ
مبحث الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ ما لَا تَتَسَارَعُ
إلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ وهو الْمَاءُ الذي
يُسْتَخْرَجُ من الْأَشْيَاءِ بِالْعِلَاجِ كَمَاءِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ
وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِشَيْءٍ من ذلك
وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ إذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ من الْمَائِعَاتِ
الطَّاهِرَةِ كَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِ ذلك على
وَجْهٍ زَالَ عنه اسْمُ الْمَاءِ بِأَنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى
الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الذي خَالَطَهُ مِمَّا يُخَالِفُ
لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَاءِ كَاللَّبَنِ وَمَاءِ الْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَنَحْوِ ذلك تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في اللَّوْنِ وَإِنْ كان لَا يُخَالِفُ
الْمَاءَ في اللَّوْنِ وَيُخَالِفُهُ في الطَّعْمِ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ
الْأَبْيَضِ وَخَلِّهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في الطَّعْمِ وَإِنْ كان لَا
يُخَالِفُهُ فِيهِمَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في الْأَجْزَاءِ فَإِنْ اسْتَوَيَا
في الْأَجْزَاءِ لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالُوا حُكْمُهُ
حُكْمُ الْمَاءِ الْمَغْلُوبِ احْتِيَاطًا
هذا إذَا لم يَكُنْ الذي خَالَطَهُ مِمَّا يُقْصَدُ منه زِيَادَةُ نَظَافَةٍ
فَإِنْ كان مِمَّا يُقْصَدُ منه ذلك وَيُطْبَخُ بِهِ أو يُخَالِطُ بِهِ كَمَاءِ
الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ
أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ وَازْدَادَ مَعْنَاهُ وهو
التَّطْهِيرُ
وَكَذَلِكَ جَرَتْ السُّنَّةُ في غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ
بِالسِّدْرِ وَالْحُرُضِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا
كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَزُولُ عنه اسْمُ الْمَاءِ
وَمَعْنَاهُ أَيْضًا وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بِالطِّينِ أو
بِالتُّرَابِ أو بِالْجِصِّ أو بِالنُّورَةِ أو بِوُقُوعِ الْأَوْرَاقِ أو
الثِّمَارِ فيه أو بِطُولِ الْمُكْثِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَزُلْ عنه
اسْمُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مع ما فيه من الضَّرُورَةِ
الظَّاهِرَةِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عن ذلك
وَقِيَاسُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ
لِتَغَيُّرِ طَعْمِ الْمَاءِ وَصَيْرُورَتِهِ مَغْلُوبًا بِطَعْمِ التَّمْرِ
فَكَانَ في مَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وقال
لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تَرَكَ الْقِيَاسَ
بِالنَّصِّ وهو حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَجَوَّزَ
التوضأ بِهِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَوَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ تَوَضَّأَ بِهِ ولم يَتَيَمَّمْ وَذُكِرَ في كِتَابِ
الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَإِنْ تَيَمَّمَ معه أَحَبُّ إلَيَّ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَرَوَى نُوحٌ في الْجَامِعِ الْمَرْوَزِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عن
ذلك وقال لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وهو الذي اسْتَقَرَّ عليه
قَوْلُهُ كَذَا قال نُوحٌ وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا } نَقَلَ الْحُكْمَ من الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَى التُّرَابِ
فَمَنْ نَقَلَهُ إلَى النَّبِيذِ ثُمَّ من
____________________
(1/15)
النَّبِيذِ
إلَى التُّرَابِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا في حديث عبد
اللَّهِ بن مَسْعُودٍ من وُجُوهٍ
أَحَدُهَا أَنَّهُمْ قالوا رَوَاهُ أبو فَزَارَةَ عن أبي زَيْدٍ عن ابْنِ
مَسْعُودٍ وأبو فَزَارَةَ هذا كان نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ وأبو زَيْدٍ مَجْهُولٌ
وَمِنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ هل كُنْتَ مع النبي
لَيْلَةَ الْجِنِّ فقال لَيْتَنِي كنت وَسُئِلَ تِلْمِيذُهُ عَلْقَمَةُ هل كان
صَاحِبُكُمْ مع النبي لَيْلَةَ الْجِنِّ
فقال وَدِدْنَا أَنَّهُ كان
وَمِنْهَا أَنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ على مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ
وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْكِتَابَ فإذا
خَالَفَ لم يَثْبُتْ أو ثَبَتَ لَكِنَّهُ نُسِخَ بِهِ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ
كانت بِمَكَّةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قام هَهُنَا دَلِيلَانِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وهو
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وَالْآخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ
التَّيَمُّمِ وهو قَوْله تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا } وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا
وَهَهُنَا أَمْكَنَ إذْ لَا تَنَافِيَ بين وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ
فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كما في سُؤْرِ الْحِمَارِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ
عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كنا أَصْحَابَ رسول
اللَّهِ جُلُوسًا في بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رسول اللَّهِ فقال لِيَقُمْ
مِنْكُمْ من ليس في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ من كِبْرٍ فَقُمْتُ
وفي رِوَايَةٍ فلم يَقُمْ مِنَّا أَحَدٌ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقِيَامِ فَقُمْتُ
وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَتَزَوَّدْتُ بِإِدَاوَةٍ من نَبِيذٍ فَخَرَجْتُ معه
فَخَطَّ لي خَطًّا وقال إنْ خَرَجْتَ من هذا لم تَرَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَقُمْتُ قَائِمًا حتى انْفَجَرَ الصُّبْحُ فإذا أنا بِرَسُولِ اللَّهِ وقد عَرِقَ
جَبِينُهُ كَأَنَّهُ حَارَبَ جِنًّا فقال لي يا ابْنَ مَسْعُودٍ هل مَعَكَ مَاءٌ
أَتَوَضَّأُ بِهِ فقلت لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ في إدَاوَةٍ
فقال ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ فَأَخَذَ ذلك وَتَوَضَّأ بِهِ وَصَلَّى
الْفَجْرَ وَكَذَا جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ منهم عَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن
عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ التوضأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال نَبِيذُ التَّمْرِ
وُضُوءُ من لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَرَوَى ابن عَبَّاسٍ عن النبي أَنَّهُ قال توضؤوا ( ( ( توضئوا ) ) ) بِنَبِيذِ
التَّمْرِ وَلَا تتوضؤوا ( ( ( تتوضئوا ) ) ) بِاللَّبَنِ
وَرُوِيَ عن أبي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قال كنت في جَمَاعَةٍ من
أَصْحَابِ رسول اللَّهِ في سَفِينَةٍ في الْبَحْرِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَفَنِيَ
مَاؤُهُمْ وَمَعَهُمْ نَبِيذُ التَّمْرِ فَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِنَبِيذِ
التَّمْرِ وَكَرِهَ التوضأ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِمَاءِ
الْبَحْرِ وَكَرِهَ التوضأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهَذَا حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ
فإن من كان يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كان يَعْتَقِدُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ
بِمَاءِ الْبَحْرِ فلم يَتَوَضَّأْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ وَاجِدًا
لِلْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَمَنْ كان يَتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ كان لَا يَرَى مَاءَ
الْبَحْرَ طَهُورًا أو كان يقول هو مَاءُ سَخْطَةٍ وَنِقْمَةٍ كَأَنَّهُ لم
يَبْلُغْهُ قَوْلُهُ في صِفَةِ الْبَحْرِ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ
مَيْتَتُهُ فَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ عَادِمًا لِلْمَاءِ
الطَّاهِرِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الحديث وَرَدَ مَوْرِدَ الشُّهْرَةِ
وَالِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُوجِبًا عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا كَخَبَرِ
الْمِعْرَاجِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ من اللَّهِ وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ
وَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا كان الرَّاوِي في الْأَصْلِ وَاحِدًا ثُمَّ
اشْتَهَرَ وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَمِثْلُهُ مِمَّا يُنْسَخُ
بِهِ الْكِتَابُ مع ما أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم في الْكِتَابِ لِأَنَّ عَدَمَ
نَبِيذِ التَّمْرِ في الْأَسْفَارِ يَسْبِقُ عَدَمَ الْمَاءِ عَادَةً لِأَنَّهُ
أَعْسَرُ وُجُودًا وَأَعَزُّ إصَابَةً من الْمَاءِ فَكَانَ تَعْلِيقُ جَوَازِ
التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ تَعْلِيقًا بِعَدَمِ النَّبِيذِ دَلَالَةً
فَكَأَنَّهُ قال فلم تَجِدُوا مَاءً وَلَا نَبِيذَ تَمْرٍ فَتَيَمَّمُوا إلَّا
أَنَّهُ لم يَنُصَّ عليه لِثُبُوتِهِ عَادَةً ويؤيد ( ( ( يؤيد ) ) ) هذا ما
ذَكَرْنَا من فَتَاوَى نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في زَمَانٍ
انْسَدَّ فيه بَابُ الْوَحْيِ مع أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ الناس بِالنَّاسِخِ
وَالْمَنْسُوخِ فَبَطَلَ دَعْوَى النَّسْخِ
وما ذَكَرُوا من الطَّعْنِ في الرَّاوِي أَمَّا أبو فَزَارَةَ فَقَدْ ذَكَرَهُ
مُسْلِمٌ في الصَّحِيحِ فَلَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فيه وَأَمَّا أبو زَيْدٍ فَقَدْ
قال صَاعِدٌ وهو من زُهَّادِ التَّابِعِينَ وَأَمَّا أبو زَيْدٍ فَهُوَ مولى
عَمْرِو بن حُرَيْثٍ فَكَانَ مَعْرُوفًا في نَفْسِهِ وَبِمَوْلَاهُ فَالْجَهْلُ
بِعَدَالَتِهِ لَا يَقْدَحُ في رِوَايَتِهِ على أَنَّهُ قد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ
من طُرُقٍ أُخَرَ غَيْرِ هذا الطَّرِيقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا طَعْنٌ
وَقَوْلُهُمْ أن ابْنَ مَسْعُودٍ لم يَكُنْ مع رسول اللَّهِ لَيْلَةَ الْجِنِّ
دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ تَرَكَهُ في الْخَطِّ وَكَذَا رُوِيَ
كَوْنُهُ مع رسول اللَّهِ في خَبَرٍ آخَرَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ على الْعَمَلِ
بِهِ وهو أَنَّهُ طَلَبَ منه أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ
وَرَوْثَةٍ فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وقال إنَّهَا
____________________
(1/16)
رِجْسٌ
أو رِكْسٌ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَقْوَامًا من الزُّطِّ
بِالْعِرَاقِ قال ما أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ وفي
رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالْكُوفَةِ فقال ما رأيت أَحَدًا
أَشْبَهَ بِهَؤُلَاءِ من الْجِنِّ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مع النبي لَيْلَةَ
الْجِنِّ
وما رُوِيَ أَنَّهُ قال لَيْتَنِي كنت معه فإن ( ( ( وأن ) ) ) عَلْقَمَةَ قال
وَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ معه محمول ( ( ( فمحمول ) ) ) على الْحَالِ التي خَاطَبَ
فيها الْجِنَّ أَيْ لَيْتَنِي كنت معه وَقْتَ خِطَابِهِ الْجِنَّ
وددنا ( ( ( ووددنا ) ) ) أَنْ يَكُونَ معه وَقْتَ ما خَاطَبَ الْجِنَّ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في جَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ على قول (
( ( أصل ) ) ) أبي حَنِيفَةَ
فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ
وَرَدَ في الْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى
ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الذي فيه الْخِلَافُ
وهو أَنْ يُلْقَى شَيْءٌ من التَّمْرِ في الْمَاءِ فَتَخْرُجُ حَلَاوَتُهُ إلَى
الْمَاءِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه في تَفْسِيرِ نَبِيذِ
التَّمْرِ الذي تَوَضَّأَ بِهِ رسول اللَّهِ فقال تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا في
الْمَاءِ لِأَنَّ من عَادَةِ الْعَرَبِ أنها تَطْرَحُ التَّمْرَ في الْمَاءِ
الْمِلْحِ لِيَحْلُوَ فما دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا أو قَارِصًا يُتَوَضَّأُ بِهِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان غليط ( ( ( غليظا ) ) ) كالمرب ( ( ( كالرب ) ) )
لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ بِلَا خِلَافٍ
وَكَذَا إنْ كان رَقِيقًا لَكِنَّهُ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ
لِأَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا وَالْمُسْكِرُ حَرَامٌ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ
وَلِأَنَّ النَّبِيذَ الذي تَوَضَّأَ بِهِ رسول اللَّهِ كان رَقِيقًا حُلْوًا
فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْغَلِيظُ وَالْمُرُّ هذا إذَا كان نيأ ( ( ( نيئا ) ) )
فَإِنْ كان مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ فما دَامَ حُلْوًا أو قَارِصًا فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وَإِنْ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
في شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ فيه بين الْكَرْخِيِّ
وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ على قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ أبي
طَاهِرٍ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ اسْمَ النَّبِيذِ كما يَقَعُ على النِّيءِ منه
يَقَعُ على الْمَطْبُوخِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمَاءَ
الْمُطْلَقَ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ الْمَائِعَاتُ الطَّاهِرَةُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِهِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إذَا كان الْمَاءُ غَالِبًا وَهَهُنَا
أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةٌ على أَجْزَاءِ التَّمْرِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي طَاهِرٍ أَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالْحَدِيثِ وَالْحَدِيثُ
وَرَدَ في النِّيءِ فإنه رُوِيَ عن عبد اللَّه بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك النَّبِيذِ فقال تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا في الْمَاءِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمَائِعَ الطَّاهِرَ إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ لَا
يَمْنَعُ التوضأ بِهِ فَنَعَمْ إذَا لم يَغْلِبْ على الْمَاءِ أَصْلًا فَأَمَّا
إذَا غَلَبَ عليه بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا وَهَهُنَا غَلَبَ عليه من حَيْثُ
الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَإِنْ لم يَغْلِبْ من حَيْثُ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَجُوزُ
التوضأ بِهِ
وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الاسبيجابي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ
على الِاخْتِلَافِ في شُرْبِهِ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِهِ كما يَجُوزُ شُرْبُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كما لَا
يَجُوزُ شُرْبُهُ وأبو يُوسُفَ فَرَقَّ بين الْوُضُوءِ وَالشُّرْبِ فقال يَجُوزُ
شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّوَضُّؤَ
بِالنِّيءِ الْحُلْوِ منه فَبِالْمَطْبُوخِ الْمُرِّ أَوْلَى
وَأَمَّا نَبِيذُ الزَّبِيبِ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بها عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا نيأ ( ( (
نيئا ) ) ) كان النَّبِيذُ أو مَطْبُوخًا حُلْوًا كان أو مُرًّا قِيَاسًا على
نَبِيذِ التَّمْرِ
وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ في نَبِيذِ التَّمْرِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن
الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ
وَهَذَا ليس بِمَاءٍ مُطْلَقٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ مع
الْقُدْرَةِ على الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْجَوَازَ
بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في نَبِيذِ التَّمْرِ خَاصَّةً فَيَبْقَى ما عَدَاهُ
على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ
النَّجِسِ لِأَنَّ النبي سَمَّى الْوُضُوءَ طَهُورًا وَطَهَارَةً بِقَوْلِهِ لَا
صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ
وَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ
بِالْمَاءِ النَّجِسِ
وَالْمَاءُ النَّجِسُ ما خَالَطَهُ النَّجَاسَةُ وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ الْقَدْرِ
الذي يُخَالِطُ الْمَاءَ من النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ
منها ( ( ( ومنها ) ) ) أَنْ يَكُونَ طَهُورًا لِقَوْلِ النبي لَا يَقْبَلُ
اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ
ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ
وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ في ذَاتِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ على ما نَذْكُرُ
وَيَجُوزُ بِالْمَاءِ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّهُ ليس بِنَجِسٍ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى
أَنْ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ بِسُؤْرِ
الْحِمَارِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ في طَهُورِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ في طَهَارَتِهِ وَسَنُفَسِّرُهُ وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فيه
إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَسْآرِ عِنْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ
الإنجاس إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَيْسَتْ من الشَّرَائِطِ وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ
فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ
____________________
(1/17)
بِدُونِ
النِّيَّةِ وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من
الشَّرَائِطِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِمَا وَكَذَلِكَ إيمَانُ المتوضىء ( ( ( المتوضئ
) ) ) ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وُضُوئِهِ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَكَذَلِكَ
الْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَعِنْدَ مَالِكٍ
شَرْطٌ وَسَنَذْكُرُ هذه الْمَسَائِلَ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ
لِأَنَّهَا من السُّنَنِ عِنْدَنَا لَا من الْفَرَائِضِ فَكَانَ إلْحَاقُهَا
بِفَصْلِ السُّنَنِ أَوْلَى
مبحث الكلام في الاستخارة في مواضع فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَكَثِيرَةٌ
بَعْضُهَا قبل الْوُضُوءِ وَبَعْضُهَا في ابْتِدَائِهِ وَبَعْضُهَا في أَثْنَائِهِ
أَمَّا الذي هو قبل الْوُضُوءِ فَمِنْهَا الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ أو ما
يَقُومُ مَقَامَهَا وَسَمَّى الْكَرْخِيُّ الِاسْتِنْجَاءَ استجمار ( ( ( استجمارا
) ) ) إذْ هو طَلَبُ الْجَمْرَةِ وَهِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ وَالطَّحَاوِيُّ
سَمَّاهُ اسْتِطَابَةً وَهِيَ طَلَبُ الطِّيبِ وهو الطَّهَارَةُ وَالِاسْتِنْجَاءُ
هو طَلَبُ طَهَارَةِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ من النَّجْوِ وهو ما يَخْرُجُ من
الْبَطْنِ أو ما يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ من النَّجْوَةِ وَهِيَ الْمَكَانُ
الْمُرْتَفِعُ
وَالْكَلَامُ في الِاسْتِنْجَاءِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ
وفي بَيَانِ ما يُسْتَنْجَى بِهِ وفي بَيَان ما يُسْتَنْجَى منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
فَرْضٌ حتى لو تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا
وَلَكِنْ مع الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى
أَصْلٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ سنذكره وهو أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
في الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَفْوٌ في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ ليس بِعَفْوٍ ثُمَّ نَاقَضَ في الِاسْتِنْجَاءِ فقال إذَا اسْتَنْجَى
بِالْأَحْجَارِ ولم يَغْسِلْ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ
تقينا ( ( ( تيقنا ) ) ) بِبَقَاءِ شَيْءٍ من النَّجَاسَةِ إذْ الْحَجَرُ لَا
يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ
ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ على أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ ليس بِفَرْضٍ ما رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال من اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ من فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ
لَا فَلَا حَرَجَ عليه وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
نَفَى الْحَرَجَ في تَرْكِهِ وَلَوْ كان فَرْضًا لَكَانَ في تَرْكِهِ حَرَجٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال من فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ
وَمِثْلُ هذا لَا يُقَالُ في الْمَفْرُوضِ وَإِنَّمَا يُقَالُ في الْمَنْدُوبِ
إلَيْهِ وَالْمُسْتَحَبِّ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا
وَصَلَّى يُكْرَهُ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ جُعِلَ عَفْوًا في حَقِّ جَوَازِ
الصَّلَاةِ دُونَ الْكَرَاهَةِ وإذا اسْتَنْجَى زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ
الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ شَرْعًا
لِلضَّرُورَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قد لَا يَجِدُ سُتْرَةً أو مَكَانًا خَالِيًا
لِلْغَسْلِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَأُقِيمَ الِاسْتِنْجَاءُ مَقَامَ
الْغَسْلِ فَتَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ كما تَزُولُ بِالْغَسْلِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي كان يَسْتَنْجِي
بِالْأَحْجَارِ وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مع الْكَرَاهَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يستنجي بِهِ فَالسُّنَّةُ هو الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَشْيَاءِ
الطَّاهِرَةِ من الْأَحْجَارِ وَالْأَمْدَارِ وَالتُّرَابِ وَالْخِرَقِ
الْبَوَالِي وَيُكْرَهُ بِالرَّوْثِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْجَاسِ لِأَنَّ النبي
لَمَّا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ أَتَاهُ
بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَعَلَّلَ
بِكَوْنِهَا نَجَسًا فقال إنَّهَا رِجْسٌ أو رِكْسٌ أَيْ نَجَسٌ وَيُكْرَهُ
بِالْعَظْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي نهى عن الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ
وَالرِّمَّةِ وقال من اسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أو رِمَّةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا
أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَلَا بِالرَّوْثِ
فإن الْعَظْمَ زَادُ إخْوَانِكُمْ الْجِنِّ وَالرَّوْثُ عَلَفُ دَوَابِّهِمْ فإن
فِعْلَ ذلك يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً وَمُرْتَكِبًا
كَرَاهَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ
فَيَكُونُ بِجِهَةِ كَذَا وَبِجِهَةِ كَذَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حتى لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ إذَا لم
يَسْتَنْجِ بِالْأَحْجَارِ بَعْدَ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أن النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَحْجَارِ فَيُرَاعَى عَيْنُ
الْمَنْصُوصِ عليه وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجَسٌ في نَفْسِهِ وَالنَّجَسُ كَيْفَ
يُزِيلُ النَّجَاسَةَ
وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ وقد حَصَلَتْ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ كما تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ بِالرَّوْثِ لِمَا
فيه من اسْتِعْمَالِ النَّجَسِ وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ
وَكُرِهَ بِالْعَظْمِ لِمَا فيه من إفْسَادِ زَادِهِمْ على ما نَطَقَ بِهِ
الْحَدِيثُ فَكَانَ النَّهْيُ عن الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ لَا
في عَيْنِهِ فَلَا يُمْنَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ
وَقَوْلُهُ الرَّوْثُ نَجَسٌ في نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ يَابِسٌ لَا
يَنْفَصِلُ منه شَيْءٌ إلَى الْبَدَنِ فَيَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ نَوْعُ
طَهَارَةٍ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ
وَيُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ وَمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ من
الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِمَا فيه من إفْسَادِ الْمَالِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَكَذَا بِعَلَفِ الْبَهَائِمِ وهو الْحَشِيشُ لِأَنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلطَّاهِرِ من
غَيْرِ ضَرُورَةٍ
____________________
(1/18)
وَالْمُعْتَبَرُ
في إقَامَةِ هذه السُّنَّةِ عِنْدَنَا هو الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ فَإِنْ
حَصَلَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ كَفَاهُ وَإِنْ لم يَحْصُلْ بِالثَّلَاثِ زَادَ عليه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَدَدُ مع الْإِنْقَاءِ شَرْطٌ حتى لو حَصَلَ
الْإِنْقَاءُ بِمَا دُونِ الثَّلَاثِ كَمَّلَ الثَّلَاثَ وَلَوْ تَرَكَ لم
يُجْزِهِ وَاحْتَجَّ ( الشَّافِعِيُّ ) بِمَا رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال من
اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ أَمْرٌ بِالْإِيتَارِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي
سَأَلَهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى
الرَّوْثَةَ ولم يَسْأَلْهُ حَجَرًا ثَالِثًا وَلَوْ كان الْعَدَدُ فيه شَرْطًا
لَسَأَلَهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ منه هو
التَّطْهِيرُ وقد حَصَلَ بِالْوَاحِدِ وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ من
غَيْرِ ضَرُورَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَحُجَّةٌ عليه لِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيتَارِ مَرَّةً
وَاحِدَةً على أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَارِ ليس لِعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ
الطَّهَارَةِ فإذا حَصَلَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ
فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمْرِ
وَكَذَا لو اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ له ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ في تَحْصِيلِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ
وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ
وَيَسْتَجْمِرُ بِيَسَارِهِ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي كان
يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ ويستنج ( ( ( ويستنجي ) ) ) بِيَسَارِهِ وَلِأَنَّ
الْيَسَارَ لِلْأَقْذَارِ وَهَذَا إذَا كانت النَّجَاسَةُ التي على الْمَخْرَجِ
قَدْرَ الدِّرْهَمِ أو أَقَلَّ منه فَإِنْ كانت أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لم
يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه فقال بَعْضُهُمْ
لَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ
وقال بَعْضُهُمْ يَزُولُ بِالْأَحْجَارِ
وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ
بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم يَتَعَدَّ النَّجَسُ الْمَخْرَجَ فَإِنْ تَعَدَّاهُ
يُنْظَرُ إنْ كان الْمُتَعَدِّي أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ إن النَّجَاسَةَ إذَا
تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا وَجَبَ غَسْلُهَا ولم يذكر خِلَافَ أَصْحَابِنَا
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ من النَّجَاسَةِ ليس بِعَفْوٍ وَهَذَا كَثِيرٌ
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَدْرَ الذي على الْمَخْرَجِ قَلِيلٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ
كَثِيرًا بِضَمِّ الْمُتَعَدِّي إلَيْهِ وَهُمَا نَجَاسَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ في
الْحُكْمِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَلَا يُرَى أَنَّ إحْدَاهُمَا تَزُولُ
بِالْأَحْجَارِ وَالْأُخْرَى لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ وإذا اخْتَلَفَتَا في
الْحُكْمِ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا وَهِيَ في
نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ فَكَانَتْ عَفْوًا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يستنجي منه فَالِاسْتِنْجَاءُ مَسْنُونٌ من كل نَجَسٍ
يَخْرُجُ من السَّبِيلَيْنِ له عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
وَالْمَنِيِّ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالدَّمِ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ
لِلتَّطْهِيرِ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ وإذا كان النَّجِسُ الْخَارِجُ من
السَّبِيلَيْنِ عَيْنًا مَرْئِيَّةً تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّطْهِيرِ
بِالتَّقْلِيلِ وَلَا اسْتِنْجَاءَ في الرِّيحِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ
مَرْئِيَّةٍ
مبحث في السِّوَاكِ وَمِنْهَا السِّوَاكُ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال
لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كل صَلَاةٍ
وفي رِوَايَةٍ عِنْدَ كل وُضُوءٍ وَلِأَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ على ما نَطَقَ
بِهِ الْحَدِيثُ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حتى خَشِيتُ
أَنْ يُدْرِدَنِيَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ بِالسِّوَاكِ وَلَهُ أَنْ
يَسْتَاكَ بِأَيِّ سِوَاكٍ كان رَطْبًا أو يَابِسًا مَبْلُولًا أو غير مَبْلُولٍ
صَائِمًا كان أو غير صَائِمٍ قبل الزَّوَالِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ نُصُوصَ
السِّوَاكِ مُطْلَقَةٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ لِمَا
يُذْكَرُ في كِتَابِ الصَّوْمِ
وَأَمَّا الذي هو في ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ
فَمِنْهَا النِّيَّةُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ فَرِيضَةٌ
وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ
وَالْعِبَادَةِ غَيْرُ لَازِمٍ في الْوُضُوءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَازِمٌ
وَلِهَذَا صَحَّ من الْكَافِرِ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ فَكَذَا
شَطْرُهُ وَلِهَذَا كان التَّيَمُّمُ عِبَادَةً حتى لَا يَصِحَّ بِدُونِ
النِّيَّةِ وَأَنَّهُ خَلَفٌ عن الْوُضُوءِ وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } أَمْرٌ
بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ
الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ
وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي
سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } نهى الْجُنُبَ عن قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا لم يَكُنْ
عَابِرَ سَبِيلٍ إلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ
فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْي عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ
وَعِنْدَهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا عِنْدَ اغْتِسَالٍ مَقْرُونٍ بِالنِّيَّةِ وَهَذَا
خِلَافُ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ { وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ } وَحُصُولُ
____________________
(1/19)
الطَّهَارَةِ
لَا يَقِفُ على النِّيَّةِ بَلْ على اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ
لِلطَّهَارَةِ وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال خُلِقَ
الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أو رِيحَهُ
أولونه
وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }
وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ في نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وَالْمَحَلُّ
قَابِلٌ على ما عُرِفَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ
خِلْقَةً وَفِعْلُ ( العبد ( ( ( اللسان ) ) ) ) فَضْلٌ في الْبَابِ حتى لو سَالَ
عليه الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عن الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا
النِّيَّةُ إذْ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ
فيه من الزَّوَائِدِ فَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً وَإِنْ
لم تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعُ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى إقَامَةِ
الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِإِجْمَاعِنَا على
أَنَّهُ ليس بِشَرْطِ الْإِيمَان لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ وَلَا شَطْرِهِ
لِأَنَّ الْإِيمَانَ هو التَّصْدِيقُ والوضؤ ( ( ( والوضوء ) ) ) ليس من
التَّصْدِيقِ في شَيْءٍ فَكَانَ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ
الْإِيمَانَ يُذْكَرُ على إرَادَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قَبُولَهَا من لَوَازِمِ
الْإِيمَانِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وما كان اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } أَيْ صَلَاتَكُمْ
إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَهَكَذَا نَقُولُ في التَّيَمُّمِ إنه ليس بِعِبَادَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ
إذَا لم تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ لَا
لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَلْ لِانْعِدَامِ حُصُولِ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ
ضَرُورِيَّةٌ جُعِلَتْ طَهَارَةً عِنْدَ مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ لَا صِحَّةَ له
بِدُونِ الطَّهَارَةِ فإذا عَرِيَ عن النِّيَّةِ لم يَقَعْ طَهَارَةً بِخِلَافِ
الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يَقِفُ على النِّيَّةِ
مبحث التَّسْمِيَةِ في الْوُضُوءِ وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ
وقال مَالِكٌ إنَّهَا فَرْضٌ إلَّا إذَا كان نَاسِيًا فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ
بِالْقَلْبِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ دَفْعًا لِلْحَرِجِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا وُضُوءَ لِمَنْ لم يُسَمِّ
وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تُقَيَّدُ
إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلتَّقْيِيدِ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من التوضىء ( ( (
المتوضئ ) ) ) هو الطَّهَارَةُ وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فيها لِأَنَّ
الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا في الْأَصْلِ فَلَا تَقِفُ طَهُورِيَّتُهُ على صُنْعِ
الْعَبْدِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ قال من تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عليه كان طَهُورًا لِجَمِيعِ
بَدَنِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ ولم يذكر اسْمَ اللَّهِ كان طَهُورًا لِمَا أَصَابَ
الْمَاءَ من بَدَنِهِ وَالْحَدِيثُ من جُمْلَةِ الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ
مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ هو مَحْمُولٌ على نَفْيِ
الْكَمَالِ وهو مَعْنَى السُّنَّةِ كَقَوْلِ النبي لَا صَلَاةَ لِجَارِ
الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَبِهِ نَقُولُ أنه سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَةِ النبي
عليها عِنْدَ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وَذَلِكَ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لم يُبْدَأْ فيه
بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في أَنَّ
التَّسْمِيَةَ يؤتي بها قبل الِاسْتِنْجَاءِ أو بَعْدَهُ قال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ
لِأَنَّهَا سُنَّةُ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ
وقال بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ
فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى في تِلْكَ الْحَالَةِ من بَابِ
التَّعْظِيمِ
مبحث غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَمِنْهَا غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قبل
إدْخَالِهِمَا في الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ من مَنَامِهِ وقال قَوْمٌ أنه
فَرْضٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ منهم من قال أنه فَرْضٌ من نَوْمِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْهُمْ من قال أنه فَرْضٌ من نَوْمِ اللَّيْلِ
خَاصَّةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم
من مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا
فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالنَّهْيُ عن الْغَمْسِ يَدُلُّ على
كَوْنِ الْغَسْلِ فَرْضًا
وَلَنَا أَنَّ الْغَسْلَ لو وَجَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ من الْحَدَثِ أو
من النَّجَسِ لا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَسْلُ من
الْحَدَثِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليه غَسْلَ الْعُضْوِ
عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ من مَنَامِهِ مَرَّةً وَمَرَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ
لَأَوْجَبْنَا عليه الْغَسْلَ عِنْدَ الْحَدَثِ مَرَّتَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي لِأَنَّ النَّجَسَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هو مَوْهُومٌ وَإِلَيْهِ
أَشَارَ في الحديث حَيْثُ قال فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ وَاحْتِمَالِهَا فَيُنَاسِبُهُ النَّدْبُ
إلَى الْغُسْلِ وَاسْتِحْبَابُهُ لَا الْإِيجَابُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو
الطَّهَارَةُ فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَكَانَ
الْحَدِيثُ مَحْمُولًا على نَهْيِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في وَقْتِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَنَّهُ قبل
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أو بَعْدَهُ على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قال بَعْضُهُمْ
قَبْلَهُ
وقال بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ
وقال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ
وَمِنْهَا
____________________
(1/20)
الِاسْتِنْجَاءُ
بِالْمَاءِ لِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ منهم عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ
وابن عُمَرَ وَحُذَيْفَةُ بن الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ حتى قال ابن
عُمَرَ فَعَلْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ دَوَاءً وَطَهُورًا
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كان يَأْمُرُ الناس بِالِاسْتِنْجَاءِ
بالماء بعد الاستنجاء بِالْأَحْجَارِ وَيَقُولُ إنَّ من كان قَبْلَكُمْ كان
يَبْعَرُ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فاتبعوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ
وهو كان من الْآدَابِ في عَصْرِ رسول اللَّهِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ
مَقْعَدَهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } في أَهْلِ قباء ( ( ( قبا ) ) ) سَأَلَهُمْ
رسول اللَّهِ عن شَأْنِهِمْ فَقَالُوا إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ ثُمَّ
صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ من السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ
وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يَغْسِلَ بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال
الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ ثُمَّ الْعَدَدُ في
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ ليس بِلَازِمٍ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هو
الْإِنْقَاءُ فَإِنْ لم يَكْفِهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا يَزِيدُ عليه وَإِنْ كان
الرَّجُلُ مُوَسْوَسًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ على السَّبْعِ لِأَنَّ قَطْعَ
الْوَسْوَسَةِ وَاجِبٌ وَالسَّبْعُ هو نِهَايَةُ الْعَدَدِ الذي وَرَدَ الشَّرْعُ
بِهِ في الْغَسْلِ في الْجُمْلَةِ كما في حديث وُلُوغِ الْكَلْبِ
مبحث في كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ نَفْسَهُ إرْخَاءً تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يبتدىء بِأُصْبُعٍ ثُمَّ بِأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ بِثَلَاثٍ
أَصَابِعَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ
الطَّاهِرِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِبُطُونِ
الْأَصَابِعِ لَا برؤوسها ( ( ( برءوسها ) ) ) كَيْلَا يُشْبِهَ إدْخَالَ الْأُصْبُعِ
في الْعَوْرَةِ وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فقال بَعْضُهُمْ تَفْعَلُ مِثْلَ ما يَفْعَلُ الرَّجُلُ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْجِيَ برؤوس ( ( ( برءوس ) ) )
الْأَصَابِعِ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَرْجِ الْخَارِجِ في بَابِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَاجِبٌ وفي بَابِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ وَلَا يَحْصُلُ
ذلك إلَّا برؤوس ( ( ( برءوس ) ) ) الْأَصَابِعِ
وَأَمَّا الذي هو في أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا الْمَضْمَضَةُ
وَالِاسْتِنْشَاقُ
وقال أَصْحَابُ الحديث منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ هما ( ( ( وهما ) ) ) فَرْضَانِ
في الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ جميعا
وقال الشَّافِعِيُّ سُنَّتَانِ فِيهِمَا جميعا فَأَصْحَابُ الحديث احْتَجُّوا
بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِمَا في الْوُضُوءِ
وَالشَّافِعِيُّ يقول الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ عن الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ
بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ من الْبَوَاطِنِ
فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ في بَابِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ ليس من جُمْلَتِهَا أَمَّا ما
سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا الْوَجْهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ
إلَيْهِ عَادَةً وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ
حَالٍ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ بِخِلَافِ بَابِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا } أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْلُ ما يُمْكِن
غَسْلُهُ من غَيْرِ حَرَجٍ ظَاهِرًا كان أو بَاطِنًا وَمُوَاظَبَةُ النبي
عَلَيْهِمَا في الْوُضُوءِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ فإنه كان
يُوَاظِبُ على سُنَنِ الْعِبَادَاتِ
وَمِنْهَا التَّرْتِيبُ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وهو تَقْدِيمُ
الْمَضْمَضَةِ على الِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ النبي كان يُوَاظِبُ على التَّقْدِيمِ
وَمِنْهَا إفْرَادُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ على حِدَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ السُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَأْخُذَ
الْمَاءَ بِكَفِّهِ فَيَتَمَضْمَضُ بِبَعْضِهِ وَيَسْتَنْشِقُ بِبَعْضِهِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ
وَاحِدٍ
وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رسول اللَّهِ أَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرَدُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ على حِدَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وما رَوَاهُ
مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ بِمَاءٍ
وَاحِدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذلك بِمَاءٍ على حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ
حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو يُرَدُّ الْمُحْتَمَلُ إلَى الْمُحْكَمِ وهو ما
ذَكَرْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ
وَمِنْهَا الْمَضْمَضَةُ ( باليمين ) وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ وقال
بَعْضُهُمْ الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ لِأَنَّ
الْفَمَ مَطْهَرَةٌ وَالْأَنْفَ مَقْذَرَةٌ وَالْيَمِينُ للأطهار وَالْيَسَارُ
لِلْأَقْذَارِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن الْحَسَن بن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ
بِيَمِينِهِ فقال له مُعَاوِيَةُ جَهِلْتَ السُّنَّةَ فقال الْحَسَنُ رضي اللَّهُ
عنه كَيْفَ أَجْهَلُ وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ من بُيُوتِنَا أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
النبي قال الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ
وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا في حَالِ
الصَّوْمِ فَيُرْفَقُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي قال لِلَقِيطِ بن صَبِرَةَ بَالِغْ
في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فأرفق وَلِأَنَّ
الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا من بَابِ التَّكْمِيلِ في التَّطْهِيرِ فَكَانَتْ
مَسْنُونَةً إلَّا في حَالِ الصَّوْمِ لِمَا فيها من تَعْرِيضِ الصَّوْمِ
لِلْفَسَادِ
مبحث في التَّرْتِيبِ
____________________
(1/21)
في
الْوُضُوءِ وَمِنْهَا التَّرْتِيبُ في الْوُضُوءِ لِأَنَّ النبي وَاظَبَ عليه
وَمُوَاظَبَتُهُ عليه دَلِيلُ السُّنَّةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ هو فَرْضٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في
آيَةِ الْوُضُوءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وإنها لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ
الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ فَيُحْمَلُ على التَّرْتِيبِ
بِفِعْلِ رسول اللَّهِ ( حَيْثُ غَسَلَ ) مُرَتِّبًا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا
لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالْجُمَعُ بِصِفَةِ
التَّرْتِيبِ جَمْعٌ مُقَيَّدٌ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا
بِدَلِيلٍ وَفِعْلُ النبي يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ على مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وهو
أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنْ ( لا
من حَيْثُ أنه جَمْعٌ بَلْ ) من حَيْثُ أنه مُرَتَّبٌ وَعَلَى هذا الْوَجْهِ
يَكُونُ عَمَلًا بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً في
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أو الظِّهَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَذَا لَا
يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ مُرَادَةً من النَّصِّ لِأَنَّ
جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ من حَيْثُ هِيَ رَقَبَةٌ لَا من حَيْثُ هِيَ مُؤْمِنَةٌ
كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّطْهِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا في
الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقِفُ على التَّرْتِيبِ لِمَا
مَرَّ
مبحث الْمُوَالَاةِ في الْوُضُوءُ وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ وَهِيَ أَنْ لَا
يَشْتَغِلُ المتوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) ) بين أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِعَمَلٍ ليس
منه لِأَنَّ النبي هَكَذَا كان يَفْعَلُ وَقِيلَ في تَفْسِيرِ الْمُوَالَاةِ أَنْ
لَا يَمْكُثَ في أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ مِقْدَارَ ما يَجِفُّ فيه الْعُضْوُ
الْمَغْسُولُ فَإِنْ مَكَثَ تَنْقَطِعُ الْمُوَالَاةُ
وَعِنْدَ مَالِكٍ هِيَ فَرْضٌ
وَقِيلَ إنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامُ في الطَّرَفَيْنِ على
نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ
مبحث التَّثْلِيثِ في الْغَسْلِ وَمِنْهَا التَّثْلِيثُ في الْغَسْلِ وهو أَنْ
يَغْسِلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وقال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وقال هذا وُضُوءُ من
يُضَاعِفُ اللَّهُ له الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وقال
هذا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ من قَبْلِي فَمَنْ زَادَ على هذا أو نَقَصَ
فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ وفي رِوَايَةٍ فَمَنْ زَادَ أو نَقَصَ فَهُوَ من
الْمُعْتَدِينَ وَاخْتُلِفَ في تَأْوِيلِهِ قال بَعْضُهُمْ زَادَ على مَوَاضِعِ
الْوُضُوءِ وَنَقَصَ عن مَوَاضِعِهِ
وقال بَعْضُهُمْ زَادَ على ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ولم يَنْوِ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ
وَنَقَصَ عن الْوَاحِدَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ على الِاعْتِقَادِ دُونَ
نَفْسِ الْفِعْلِ مَعْنَاهُ فَمَنْ زَادَ على الثَّلَاثِ أو نَقَصَ عن الثَّلَاثِ
بِأَنْ لم يَرَ الثَّلَاثَ سُنَّةً لِأَنَّ من لم يَرَ سُنَّةَ رسول اللَّهِ
سُنَّةً فَقَدْ ابْتَدَعَ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ حتى لو زَادَ على الثَّلَاثِ أو
نَقَصَ وَرَأَى الثَّلَاثَ سُنَّةً لَا يَلْحَقُهُ هذا الْوَعِيدُ لِأَنَّ
الزِّيَادَةَ على الثَّلَاثِ من بَابِ الْوُضُوءِ على الْوُضُوءِ إذ نَوَى بِهِ
وإنه نُورٌ على نُورٍ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَكَذَا جَعَلَ رسول اللَّهِ الْوُضُوءَ
مَرَّتَيْنِ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه الِاعْتِقَادَ
لَا نَفْسَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
مبحث الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ في ( غسل )
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُوَاظِبُ على ذلك
وَهِيَ سُنَّةٌ في الْوُضُوءِ وفي غَيْرِهِ من الْأَعْمَالِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النبي كان يُحِبُّ التَّيَامُنَ في كل شَيْءٍ حتى التَّنَعُّلَ وَالتَّرَجُّلَ
وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ فيه من رؤوس الْأَصَابِعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَفْعَلُ
ذلك
وَمِنْهَا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى منابتها لِقَوْلِ
النبي خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قبل أَنْ تُخَلِّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ
( وفي رِوَايَةٍ خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا تُخَلِّلُهَا نَارُ جَهَنَّمَ )
وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ من بَابِ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَكَانَ مَسْنُونًا وَلَوْ
كان في أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ فَإِنْ كان وَاسِعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيكِ
وَإِنْ كان ضَيِّقًا فَلَا بُدَّ من التَّحْرِيكِ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى ما
تَحْتَهُ
مبحث الِاسْتِيعَابِ في مَسْحِ الرَّأْسِ وَمِنْهَا الِاسْتِيعَابُ في مَسْحِ
الرَّأْسِ وهو أَنْ يَمْسَحَ كُلَّهُ لِمَا رَوَى عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ أَنَّ
النبي مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ
وَعِنْدَ مَالِكٍ فَرْضٌ
وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه
وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْمَسْحِ من مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وقال الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ السُّنَّةُ الْبُدَاءَةُ من الْهَامَةِ فَيَضَعُ يَدَيْهِ عليها
فَيَمُدُّهُمَا إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ ثُمَّ يُعِيدُهُمَا إلَى الْقَفَا
وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النبي كان يبتدىء بِالْمَسْحِ من مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَلِأَنَّ
السُّنَّةَ في الْمَغْسُولَاتِ الْبُدَاءَةُ بِالْغَسْلِ من أَوَّلِ الْعُضْوِ
فَكَذَا في الْمَمْسُوحَاتِ
وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّثْلِيثُ مَكْرُوهٌ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ هِيَ التَّثْلِيثُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ وَعَلِيًّا رضي
اللَّهُ عنهما حَكَيَا وُضُوءَ رسول اللَّهِ فَغَسَلَا ثَلَاثًا وَمَسَحَا
بِالرَّأْسِ ثَلَاثًا وَلِأَنَّ هذا رُكْنٌ أَصْلِيٌّ في الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فيه
التَّثْلِيثُ قِيَاسًا على الرُّكْنِ الْآخَرَ وهو الْغَسْلُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ
على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ ليس
____________________
(1/22)
بِرُكْنٍ
أَصْلِيٍّ بَلْ ثَبَتَ رُخْصَةً وَمَبْنَى الرُّخْصَةِ على الْخِفَّةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ
تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا وما رَأَيْتُهُ مَسَحَ على رَأْسِهِ إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
عَلَّمَ الناس وُضُوءَ رسول اللَّهِ وَمَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَأَمَّا حِكَايَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ منهما فَالْمَشْهُورُ منهما
أَنَّهُمَا مَسَحَا مَرَّةً وَاحِدَةً كَذَا ذَكَرَ أبو دَاوُد في سُنَنِهِ أَنَّ
الصَّحِيحَ من حديث عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ
وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَا رَوَى عبد خَيْرٍ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ تَوَضَّأَ في رَحْبَةِ الْكُوفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَمَسَحَ
رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ قال من سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ رسول
اللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى وُضُوئِي هذا وَلَوْ ثَبَتَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ
مَحْمُولٌ على أَنَّهُ فَعَلَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ
وَذَلِكَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا في رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ
التَّثْلِيثَ بِالْمِيَاهِ الْجَدِيدَةِ تَقْرِيبٌ إلَى الْغَسْلِ فَكَانَ
مُخِلًّا بِاسْمِ الْمَسْحِ وَاعْتِبَارُهُ بِالْغَسْلِ فَاسِدٌ من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْحَ بُنِيَ على التَّخْفِيفِ
وَالتَّكْرَارُ من بَابِ التَّغْلِيظِ فَلَا يَلِيقُ بِالْمَسْحِ بِخِلَافِ
الْغَسْلِ
وَالثَّانِي أَنَّ التَّكْرَارَ في الْغَسْلِ مُفِيدٌ لِحُصُولِ زِيَادَةِ
نَظَافَةٍ وَوَضَاءَةٍ لَا تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك
بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ
مبحث الْأُذُنَيْنِ وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرَهُمَا
وَبَاطِنَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ
وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً
جَدِيدًا
وَجْهُ قَوْلِهِ إنهما عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ وَلَيْسَا من الرَّأْسِ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فإن الرَّأْسَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ وَلَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا لَا يَنُوبُ عن مَسْحِ
الرَّأْسِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَحَ
أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ وَرُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي
اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال الْأُذُنَانِ من الرَّأْسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
ما أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْخِلْقَةِ بَلْ بَيَانَ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهُ لَا
يَنُوبُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عن مَسْحِ الرَّأْسِ لِأَنَّ وُجُوبَ مَسْحِ
الرَّأْسِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَوْنُ الْأُذُنَيْنِ من الرَّأْسِ
ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَلَوْ
نَابَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عن مَسْحِ الرَّأْسِ لَجَعَلْنَاهُمَا من الرَّأْسِ
قَطْعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَصَارَ هذا كَقَوْلِ النبي الْحَطِيمُ من الْبَيْتِ
فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ كَوْنَ الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ حتى يُطَافَ بِهِ كما
يُطَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ إلَيْهِ لِأَنَّ
وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَوْنُ
الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لم يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ
مَقْطُوعٍ بِهِ وأما إذَا تَضَمَّنَ فَلَا كَذَلِكَ هَهُنَا
وَأَمَّا تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ من الْآدَابِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ سُنَّةٌ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْآثَارِ
لِأَبِي يُوسُفَ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ
في لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمِشْطِ وَلَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا
وُضُوءَ رسول اللَّهِ ما خَلَّلُوا لِحَاهُمْ
وما رَوَاهُ أبو يُوسُفَ فَهُوَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ ذلك اتِّفَاقًا لَا بِطَرِيقِ
الْمُوَاظَبَةِ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على السُّنَّةِ
مبحث مَسْحِ الرَّقَبَةِ وَأَمَّا مَسْحُ الرَّقَبَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ أنه سُنَّةٌ
وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ أنه أَدَبٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا آدَابُ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْتَعِينَ المتوضىء ( ( (
المتوضئ ) ) ) على وُضُوئِهِ بِأَحَدٍ لِمَا رُوِيَ عن أبي الْجَنُوبِ أَنَّهُ قال
رأيت عَلِيًّا يَسْتَقِي ماءا ( ( ( ماء ) ) ) لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي
له فقال مَهْ يا أَبَا الْجَنُوبِ فَإِنِّي رأيت عُمَرَ يَسْتَقِي مَاءً
لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي له فقال مَهْ يا أَبَا الْحَسَنِ فَإِنِّي رأيت
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي
له فقال مَهْ يا عُمَرُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينَنِي على صَلَاتِي أَحَدٌ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُسْرِفَ في الْوُضُوءِ وَلَا يُقَتِّرَ وَالْأَدَبُ فِيمَا
بين الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ إذْ الْحَقُّ بين الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا
وَمِنْهَا دَلْكُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ خُصُوصًا في الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ
يَتَجَافَى عن الْأَعْضَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كل فِعْلٍ من أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِالدَّعَوَاتِ
الْمَأْثُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا إذَا لم
يَكُنْ صَائِمًا ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَيَمْلَأَ
الْآنِيَةَ عِدَّةً لِوُضُوءٍ آخَرَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك
مِمَّا وَرَدَ في الْأَخْبَارِ أَنَّهُ فَعَلَهُ صلى
____________________
(1/23)
اللَّهُ
عليه وسلم وَلَكِنْ لم يُوَاظِبْ عليه
وَهَذَا هو الْفَرْقُ بين السُّنَّةِ وَالْأَدَبِ أَنَّ السُّنَّةَ ما وَاظَبَ
عليه رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أو
مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى من الْمَعَانِي
وَالْأَدَبُ ما فَعَلَهُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ ولم يُوَاظِبْ عليه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ الْحَدَثُ
وَالْكَلَامُ في الْحَدَثِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ
مَاهِيَّتِه
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَدَثُ نَوْعَانِ حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ
أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ هو خُرُوجُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ
سَوَاءٌ كان من السَّبِيلَيْنِ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أو فَرْجِ الْمَرْأَةِ أو من
غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالْأَنْفِ والفم من الدَّمِ
وَالْقَيْحِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ
وَسَوَاءٌ كان الْخَارِجُ من السَّبِيلَيْنِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ
وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أو غير
مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ
وقال زُفَرُ ظُهُورُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ
وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ هو خُرُوجُ النَّجَسِ الْمُعْتَادِ من السَّبِيلِ
الْمُعْتَادِ فلم يَجْعَلْ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ حَدَثًا لِكَوْنِهِ غير مُعْتَادٍ
وقال الشَّافِعِيُّ هو خُرُوجُ شَيْءٍ من السَّبِيلَيْنِ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ وهو
أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ
أما قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وهو قَوْلُهُ الْمُسْتَحَاضَةُ
تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ
وَقَوْلُهُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَوَضَّئِي وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ على
الْحَصِيرِ قَطْرًا
وَقَوْلُهُ تَوَضَّئِي فإنه دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الذي
يَقْتَضِي كَوْنَ الْخُرُوجِ من السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين
الْمُعْتَادِ وَغَيْرِ الْمُعْتَادِ لِمَا يُذْكَرُ فَالْفَصْلُ يَكُونُ
تَحَكُّمًا على الدَّلِيلِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أَنَّهُ قَاءَ فَغَسَلَ فَمَهُ فَقِيلَ له أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَكَ
لِلصَّلَاةِ فقال هَكَذَا الْوُضُوءُ من الْقَيْءِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ حين طُعِنَ كان يُصَلِّي وَالدَّمُ يَسِيلُ
منه وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ من الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ
وَزَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ كَيْفَ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبَدَنِ مع أَنَّهُ
لَا نَجَسَ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في
السَّبِيلَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ عُرِفَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولٍ
فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
دَخَلْتُ على رسول اللَّهِ فَغَرَفْتُ له غَرْفَةً فَأَكَلَهَا فَجَاءَ
الْمُؤَذِّنُ فقلت الْوُضُوءَ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال إنَّمَا عَلَيْنَا
الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ ليس مِمَّا يَدْخُلُ علق ( ( ( وعلق ) ) ) الْحُكْمَ
بِكُلِّ ما يَخْرُجُ أو بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ
إلَّا أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجَسِ
مُرَادًا
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من قَاءَ أو
رَعَفَ في صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ على صَلَاتِهِ ما
لم يَتَكَلَّمْ
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الشَّافِعِيِّ في فَصْلَيْنِ في وُجُوبِ الْوُضُوءِ
بِخُرُوجِ النَّجَسِ من غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وفي جَوَازِ الْبِنَاءِ عِنْدَ
سَبْقِ الْحَدَثِ في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ توضيء ( ( ( توضئي ) ) ) فإنه
دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ وَعَلَّلَ بِانْفِجَارِ دَمِ
الْعِرْقِ لَا بِالْمُرُورِ على الْمَخْرَجِ
وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ من كل دَمٍ
سَائِلٍ
وَالْأَخْبَارُ في هذا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِفَاضَةِ حتى رُوِيَ عن
عَشَرَةٍ من الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قالوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَهُمْ عُمَرُ
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ وَثَوْبَانُ وأبو
الدَّرْدَاءِ وَقِيلَ في التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ أنهما زَيْدُ بن ثَابِتٍ وأبو
مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ مُتَّبِعٌ لهم في
فَتْوَاهُمْ فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ وَقِيلَ أنه مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ
الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ من السَّبِيلَيْنِ إنَّمَا كان
حَدَثًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَنْجِيسَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ لِضَرُورَةِ تَنَجُّسِ
مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ فنزول ( ( ( فتزول ) ) ) الطَّهَارَةُ ضَرُورَةً إذْ
النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ في
زَمَانٍ وَاحِدٍ وَمَتَى زَالَتْ الطَّهَارَةُ عن ظَاهِرِ الْبَدَنِ خَرَجَ من
أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ التي هِيَ مُنَاجَاةٌ مع اللَّهِ تَعَالَى
فَيَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لها
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ محمول ( ( ( محتمل ) ) ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَاءَ
أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ وَكَذَا اسْمُ الْوُضُوءِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْفَمِ
فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو نحمله ( ( ( محمله ) ) ) على ما
قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ فيه أَنَّهُ كان يُصَلِّي بَعْدَ الطَّعْنِ من
غَيْرِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ الطَّعْنِ
مع سَيَلَانِ الدَّمِ وَصَلَّى وَبِهِ نَقُولُ كما في الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَوْلُهُ
أن خُرُوجَ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ فَكَيْفَ
يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ شَيْءٌ من نَجَاسَةِ
الْبَاطِنِ لَكِنْ يَتَنَجَّسُ بِهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْقَدْرَ الذي زَالَ
إلَيْهِ أَوْجَبَ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عنه وَالْبَدَنُ في حُكْمِ الطَّهَارَةِ
وَالنَّجَاسَةِ لَا يتجرأ ( ( ( يتجزأ ) ) ) وَالْعَزِيمَةُ هِيَ غَسْلُ كل
الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَقَامَ غَسْلِ كل
____________________
(1/24)
الْبَدَنُ
رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ في
الْأَصْلِ مَعْقُولٌ فَيَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَقَوْلُهُ لَا نَجَاسَةَ على
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حقيقية ( ( ( حقيقة ) ) ) مَمْنُوعٌ بَلْ عليها نَجَاسَةٌ
حَقِيقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَإِنْ كان الْحِسُّ لَا يُدْرِكُهَا وَهِيَ نَجَاسَةُ
الْحَدَثِ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وإذا عرف ( ( ( عرفنا ) ) ) مَاهِيَّةَ الْحَدَثِ نُخَرِّجُ عليه الْمَسَائِلَ
فَنَقُولُ إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ من الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ على رَأْسِ الْمَخْرَجِ
انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو خُرُوجُ النَّجَسُ وهو
انْتِقَالُهُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَخْرَجِ عُضْوٌ
ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ من مَوْضِعٍ آخَرَ فإن
مَوْضِعَ الْبَوْلِ الْمَثَانَةُ وَمَوْضِعَ الْغَائِطِ مَوْضِعٌ في الْبَطْنِ
يُقَالُ له قُولُونٌ وَسَوَاءٌ كان الْخَارِجُ قَلِيلًا أو كَثِيرًا سَالَ عن
رَأْسِ الْمَخْرَجِ أو لم يَسِلْ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ
وَالْوَدْيُ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّهَا
كُلَّهَا أَنْجَاسٌ لِمَا يُذْكَر في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وقد
انْتَقَلَتْ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ فَوَجَدَ خُرُوجَ النَّجَسِ من
الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا يُوجِبُ الْغُسْلَ
وهو الْمَنِيُّ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ وَبَعْضُهَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وهو
الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِمَا يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّه
تَعَالَى
وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْوَلَدِ وَالدُّودَةِ وَالْحَصَا وَاللَّحْمِ وَعُودِ
الْحُقْنَةِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ وَإِنْ كانت
طَاهِرَةٌ في أَنْفُسِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ نَجَسٍ يَخْرُجُ
مَعَهَا وَالْقَلِيلُ من السَّبِيلَيْنِ خَارِجٌ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَا الرِّيحُ
الْخَارِجَةُ من الدُّبُرِ لِأَنَّ الرِّيحَ وَإِنْ كانت جِسْمًا طَاهِرًا في
نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عن قَلِيلِ نَجَسٍ يَقُومُ بِهِ لِانْبِعَاثِهِ من
مَحَلِّ الْأَنْجَاسِ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا وُضُوءَ إلَّا من صَوْتٍ أو رِيحٍ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بين
إليتيه فيقول أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو
يَجِدَ رِيحًا
وَأَمَّا الرِّيحُ الْخَارِجَةُ من قُبُلِ الْمَرْأَةِ أو ذَكَرِ الرَّجُلِ فلم
يذكر حُكْمَهَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال فيها الْوُضُوءُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فيها إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ
مُفْضَاةً فَيَخْرُجُ منها رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لها الْوُضُوءُ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلَكُ النَّجَاسَةِ
كَالدُّبُرِ فَكَانَتْ الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْهُمَا كَالْخَارِجَةِ من
الدُّبُرِ فَيَكُونُ حَدَثًا
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الرِّيحَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ في نَفْسِهَا
لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَخُرُوجُ الطَّاهِرِ لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ
وَإِنَّمَا انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ بِمَا يَخْرُجُ بِخُرُوجِهَا من أَجْزَاءِ
النَّجَسِ وَمَوْضِعُ الْوَطْءِ من فَرْجِ الْمَرْأَةِ ليس بِمَسْلَكِ الْبَوْلِ
فَالْخَارِجُ منه من الرِّيحِ لَا يُجَاوِرُهُ النَّجَسُ وإذا كانت مُفْضَاةً
فَقَدْ صَارَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ وَمَسْلَكُ الْوَطْءِ مَسْلَكًا وَاحِدًا فَيُحْتَمَلُ
أَنَّ الرِّيحَ خَرَجَتْ من مَسْلَكِ الْبَوْلِ فَيُسْتَحَبُّ لها الْوُضُوءُ
وَلَا يَجِبُ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ
بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ وَقِيلَ إنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ من الذَّكَرِ لَا
يُتَصَوَّرُ وَإِنَّمَا هو اخْتِلَاجٌ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ رِيحًا هذا حُكْمُ
السَّبِيلَيْنِ
فَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ من الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ فَإِنْ سَالَ
الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ عن رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ
الْوُضُوءُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو خُرُوجُ النَّجَسِ وهو انْتِقَالُ
النَّجَسِ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْتَقَضُ لِانْعِدَامِ الْخُرُوجِ من السَّبِيلَيْنِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ سَوَاءٌ سَالَ أو لم يَسِلْ بِنَاءً على ما ذَكَرَ
فَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْجُرْحِ ولم يَسِلْ لم يَكُنْ حَدَثًا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا سَالَ أو لم يَسِلْ
بِنَاءً على ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هو ظُهُورُ
النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وقد ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ أن ظُهُورَ
النَّجَسِ اُعْتُبِرَ حَدَثًا في السَّبِيلَيْنِ سَالَ عن رَأْسِ الْمَخْرَجِ أو
لم يَسِلْ فَكَذَا في غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الظُّهُورَ ما اُعْتُبِرَ حَدَثًا في مَوْضِعٍ ما وَإِنَّمَا
اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ في السَّبِيلَيْنِ إذَا طهر ( ( ( ظهر ) ) ) النَّجَسُ
على رَأْسِ الْمَخْرَجِ لَا بِالظُّهُورِ بَلْ بِالْخُرُوجِ وهو الِانْتِقَالُ من
الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ على ما بَيَّنَّا كَذَا هَهُنَا وَهَذَا لِأَنَّ
الدَّمَ إذَا لم يَسِلْ كان في مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْبَدَنَ مَحَلُّ الدَّمِ
وَالرُّطُوبَاتِ إلَّا أَنَّهُ كان مُسْتَتِرًا بِالْجَلْدَةِ وَانْشِقَاقُهَا
يُوجِبُ زَوَالَ السُّتْرَةِ لَا زَوَالَ الدَّمِ عن مَحَلِّهِ وَلَا حُكْمَ
لِلنَّجَسِ ما دَامَ في مَحَلِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مع ما
في الْبَطْنِ من الْأَنْجَاسِ فإذا سَالَ عن رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدْ انْتَقَلَ عن
مَحَلِّهِ فيعطى له حُكْمَ النَّجَاسَةِ وفي السَّبِيلَيْنِ وُجِدَ الِانْتِقَالُ
لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى هذا خُرُوجُ الْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ أَنَّهُ يَكُونُ
حَدَثًا وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَعِنْدَ
زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا قَلَّ أو كَثُرَ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْفَمَ له حُكْمُ الظَّاهِرِ
عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَمَضْمَضَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فإذا
وَصَلَ الْقَيْءُ إلَيْهِ فَقَدْ
____________________
(1/25)
طهر
( ( ( ظهر ) ) ) النَّجَسُ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا وَإِنَّا
نَقُولُ له مع الظَّاهِرِ حُكْمُ الظَّاهِرِ كما ذَكَرَهُ زُفَرُ وَلَهُ مع
الْبَاطِنِ حُكْمُ الْبَاطِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ
لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إلَى الْفَمِ حَدَثًا لِأَنَّهُ
انْتِقَالٌ من بَعْضِ الْبَاطِنِ إلَى بَعْضٍ وَإِنَّمَا الْحَدَثُ هو الْخُرُوجُ
من الْفَمِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَالْخُرُوجُ لَا
يَتَحَقَّقُ في الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ فَلَا
يَخْرُجُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ فَلَا يُوجَدُ السَّيَلَانُ
وَيَتَحَقَّقُ في الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ
فَكَانَ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِالْإِخْرَاجِ فَيُوجَدُ السَّيَلَانُ
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ زُفَرَ ما رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال الْقَلْسُ حَدَثٌ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَلِأَنَّ الْحَدَثَ ( إن كان ) اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ
الْقَلِيلَ خَارِجٌ نَجِسٌ كَالْكَثِيرِ فَيَسْتَوِي فيه الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ
كَالْخَارِجِ من السَّبِيلَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى
رسول اللَّهِ أَنَّهُ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً وقال فيها أو ( ( ( أود ) ) )
دسعة ( ( ( سعة ) ) ) تَمْلَأُ الْفَمَ وَلَوْ كان الْقَلِيلُ حَدَثًا لعده عِنْدَ
عَدِّ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ لِأَنَّ
الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وهو الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ أو
يُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن
التَّنَاقُضِ وَقَوْلُهُ وُجِدَ خُرُوجُ النَّجَسِ في الْقَلِيلِ قُلْنَا إنْ
سَلَّمْنَا ذلك فَفِي قَلِيلِ الْقَيْءُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا
يَخْلُو منه خُصُوصًا حَالَ الِامْتِلَاءِ وَمِنْ صَاحِبِ السُّعَالِ وَلَوْ
جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ما جَعَلَ
عَلَيْنَا في الدِّينِ من حَرَجٍ وَلَا ضَرُورَةَ في الْقَلِيلِ من السَّبِيلَيْنِ
وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ الْقَيْءُ مَرَّةً صَفْرَاءَ أو سَوْدَاءَ وَبَيْنَ
أَنْ يَكُونَ طَعَامًا أو مَاءً صَافِيًا لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ
النَّجَسِ وَالطَّعَامِ أو الْمَاءِ صار نَجَسًا لِاخْتِلَاطِهِ بِنَجَاسَاتِ
الْمِعْدَةِ ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ مِلْءِ الْفَمِ
وقال أبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ هو أَنْ يَمْنَعَهُ من الْكَلَامِ
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ هو أَنْ يَعْجَزَ عن إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ وَعَلَيْهِ
اعْتَمَدَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ما قَدَرَ على
إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ لَا يَكُون بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ
بِالْإِخْرَاجِ فَلَا يَكُونُ سَائِلًا وما عَجَزَ عن إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ
فَخُرُوجُهُ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا وَالْحُكْمُ
مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ وَلَوْ قَاءَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ مِرَارًا هل
يُجْمَعُ وَيُعْتَبَرُ حَدَثًا
لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَإِلَّا
فَلَا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان بِسَبَبِ غَثَيَانٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ
وَإِلَّا فَلَا
وقال أبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ يُجْمَعُ كَيْفَمَا كان
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ في الشَّرْعِ جَامِعًا
لِأَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ كما في بَاب الْبَيْعِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَنَحْوِ ذلك
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارُ
الْمَكَانِ وَاعْتِبَارَ الْغَثَيَانِ اعْتِبَارُ السَّبَبِ وَالْوُجُودُ يُضَافُ
إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الْمَكَانِ وَلَوْ سَالَ الدَّمُ إلَى ما لَانَ من
الْأَنْفِ أو إلَى صِمَاخِ الْأُذُنِ يَكُونُ حَدَثًا لِوُجُودِ خُرُوجِ النَّجَسِ
وهو انْتِقَالُ الدَّمِ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَقْلَفَ خَرَجَ الْبَوْلُ أو الْمَذْيُ من
ذَكَرِهِ حتى صَارَ في قُلْفَتِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ
وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ الْمَذْي أو الْبَوْلُ من فَرْجِهَا
ولم يَظْهَرْ
وَلَوْ حَشَا الرَّجُلُ إحْلِيلَهُ بِقُطْنَةٍ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ
منها لم يُنْتَقَضْ وضوؤه لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبَلَّةُ إلَى
الْجَانِبِ الْخَارِجِ يُنْظَرَ إنْ كانت الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أو مُحَاذِيَةً
لِرَأْسِ الْإِحْلِيلِ يُنْتَقَضُ وضوؤه لِتَحَقُّقِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كانت (
مستفلة ( ( ( متسفلة ) ) ) ) لم يُنْتَقَضْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لم يَتَحَقَّقْ
وَلَوْ حَشَتْ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا بِقُطْنَةٍ فَإِنْ وَضَعَتْهَا في الْفَرْجِ
الْخَارِجِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ من الْقُطْنَةِ كان حَدَثًا وَإِنْ
لم يَنْفُذْ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْفَرْجَ
الْخَارِجَ منها بِمَنْزِلَةِ الإليتين من الدُّبُرِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ وَإِنْ
وَضَعَتْهَا في الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ من
الْقُطْنَةِ لم يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ
وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ فَإِنْ كانت الْقُطْنَةُ
عَالِيَةً أو مُحَاذِيَةً ( لجوف ( ( ( لجانب ) ) ) ) الْفَرْجِ كان حَدَثًا
لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كانت مستفلة ( ( ( متسفلة ) ) ) لم يَكُنْ حَدَثًا
لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم تَسْقُطْ الْقُطْنَةُ فَإِنْ
سَقَطَتْ الْقُطْنَةُ فَهُوَ حَدَثٌ وَحَيْضٌ في الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ ابْتَلَّ
الْجَانِبُ الْخَارِجُ أو الدَّاخِلُ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ
وَلَوْ كان في أَنْفِهِ قُرْحٌ فَسَالَ الدَّمُ عن رَأْسِ الْقُرْحِ يَكُونُ
حَدَثًا وَإِنْ لم يَخْرُجُ من الْمَنْخَرِ لِوُجُودِ السَّيَلَانِ عن مَحَلِّهِ
وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ معه الدَّمُ إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ لَا يَكُونُ
حَدَثًا لِأَنَّهُ ما خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ
يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْغَالِبَ إذَا كان هو الْبُزَاقُ لم يَكُنْ خَارِجًا
بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فلم يَكُنْ سَائِلًا وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الدَّمُ كان
خُرُوجُهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ سَائِلًا
وَإِنْ كَانَا سَوَاءً
____________________
(1/26)
فَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا يَكُونُ حَدَثًا وفي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ حَدَثًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا احْتَمَلَ أَنَّ الدَّمَ خَرَجَ
بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ فَلَا
يُجْعَلُ حَدَثًا بِالشَّكِّ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا
إذَا اسْتَوَيَا تَعَارَضَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا تَبَعًا
لِلْآخَرِ فيعطي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ خَارِجًا
بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ
وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْجُرْحِ فَمَسَحَهُ
مِرَارًا فَإِنْ كان بِحَالٍ لو تَرَكَهُ لَسَالَ يَكُونُ حَدَثًا وَإِلَّا فَلَا
لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ وَلَوْ أَلْقَى عليه الرَّمَادَ أو
التُّرَابَ فَتَشَرَّبَ فيه أو رَبَطَ عليه رِبَاطًا فَابْتَلَّ الرِّبَاطُ
وَنَفَذَ قالوا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ سَائِلُ وَكَذَا لو كان الرِّبَاطُ ذَا
طَاقَيْنِ فَنَفَذَ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ سَقَطَتْ الدُّودَةُ أو اللَّحْمُ من ( القرح ( ( ( الفرج ) ) ) ) لم
يَكُنْ حَدَثًا وَلَوْ سَقَطَتْ من السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا وَالْفَرْقُ
أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ من السَّبِيلِ نَجِسَةٌ في نَفْسِهَا
لِتَوَلُّدِهَا من الْأَنْجَاسِ وقد خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا
وَخُرُوجُ النَّجِسِ بِنَفْسِهِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْخَارِجَةِ من الْقُرْحِ
لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ في نَفْسُهَا لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ من اللَّحْمِ
وَاللَّحْمُ طَاهِرٌ وَإِنَّمَا النَّجَسُ ما عليها من الرُّطُوبَاتِ وَتِلْكَ
الرُّطُوبَاتُ خَرَجَتْ بِالدَّابَّةِ لَا بِنَفْسِهَا فلم يُوجَدْ خُرُوجُ
النَّجَسِ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا
وَلَوْ خَلَّلَ أَسْنَانَهُ فَظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْخِلَالِ لَا يَكُونُ
حَدَثًا لِأَنَّهُ ما خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا لو عَضَّ على شَيْءٍ فَظَهَرَ
الدَّمُ على أَسْنَانِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ سَعَطَ في أَنْفِهِ وَوَصَلَ
السَّعُوطُ إلَى رَأْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَنْفِ أو إلَى الْأُذُنِ لَا
يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الرَّأْسَ ليس مَوْضِعَ الْأَنْجَاسِ وَلَوْ عَادَ إلَى
الْفَمِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا قُلْنَا
وَرَوَى عَلِيُّ بن الْجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَيْءِ
لِأَنَّ ما وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ لَا يَخْرُجُ من الْفَمِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ
في الْجَوْفِ
وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا لم يَكُنْ حَدَثًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا فَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا خِلَافَ في
الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ وهو
حَدَثٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَوَابُهُمَا في الْمُنْحَدِرِ من الرَّأْسِ وهو ليس
بِحَدَثٍ عِنْدَ الْكُلِّ وَمِنْهُمْ من قال في الْمُنْحَدَرِ من الرَّأْسِ
اتِّفَاقٌ أَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ وفي الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ اخْتِلَافٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجَسٌ لِاخْتِلَاطَهِ بِالْأَنْجَاسِ لِأَنَّ
الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَيَكُونُ حَدَثًا كما لو قَاءَ طَعَامًا أو
مَاءً وَلَهُمَا أَنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ من
الْأَنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا على أَنَّ الناس من لَدُنْ رسول اللَّهِ اعْتَادُوا
أَخْذَ الْبَلْغَمِ بِأَطْرَافِ أَرْدِيَتِهِمْ وَأَكْمَامِهِمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ
فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على طَهَارَتِهِ
وَذَكَرَ أبو مَنْصُورٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ في الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ وَأَنَّهُ حَدَثٌ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَجَوَابُهُمَا في الصَّاعِدِ من حَوَاشِي
الْحَلْقِ وَأَطْرَافِ الرِّئَةِ وَأَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ
طاهر فَيُنْظَرُ إنْ كان صَافِيًا غير مَخْلُوطٍ بِشَيْءٍ من الطَّعَامِ
وَغَيْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَصْعَدْ من الْمَعِدَةِ فَلَا يَكُونُ نَجَسًا
فَلَا يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ من ذلك تَبَيَّنَ أَنَّهُ
صَعِدَ منها فَكَانَ نَجِسًا فَيَكُونُ حَدَثًا وَهَذَا هو الْأَصَحُّ
وَأَمَّا إذَا قَاءَ دَمًا فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا
وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا
قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا جَامِدًا كان أو مَائِعًا وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن
زِيَادٍ عنهما أَنَّهُ إنْ كان مَائِعًا يَنْقُضُ قَلَّ أو كَثُرَ وَإِنْ كان
جَامِدًا لَا يَنْقُضُ ما لم يَمْلَأْ الْفَمَ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا ما لم يَمْلَأْ
الْفَمَ كَيْفَمَا كان وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا صَحَّحُوا رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ
وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ وَالْمُعَلَّى في الْقَلِيلِ من الْمَائِعِ على
الرُّجُوعِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ
أَصْحَابِنَا في اعْتِبَارِ خُرُوجِ النَّجَسِ لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ له
وَالْقَلِيلُ ليس بِخَارِجٍ لِمَا مَرَّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ من غَيْرِ خِلَافٍ فإنه قال وإذا قَلَسَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لم
يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الدَّمِ وَغَيْرِهِ وَعَامَّةُ
مَشَايِخِنَا حَقَّقُوا الِاخْتِلَافَ وَصَحَّحُوا قَوْلَهُمَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ
في الْقَلِيلِ من سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِوُجُودِ
الْخُرُوجِ حَقِيقَةً وهو الِانْتِقَالُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ
الْفَمَ له حُكْمُ الظَّاهِرِ على الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ
الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَلَا حَرَجَ في
اعْتِبَارِ الْقَلِيلِ من الدَّمِ
لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ
السَّائِلِ وَالْمَبْطُونِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ
دَائِمٌ أو رِيحٌ وَنَحْوُ ذلك مِمَّنْ لَا يَمْضِي عليه وَقْتُ
____________________
(1/27)
صَلَاةٍ
إلَّا وَيُوجَدُ ما اُبْتُلِيَ بِهِ من الْحَدَثِ فيه فَخُرُوجُ النَّجَسِ من
هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُ حَدَثًا في الْحَالِ ما دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا حتى
أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لو تَوَضَّأَتْ في أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَهَا أَنْ
تُصَلِّيَ ما شَاءَتْ من الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ما لم يَخْرُجْ الْوَقْتُ
وَإِنْ دَامَ السَّيَلَانِ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان الْعُذْرُ من أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ كَالِاسْتِحَاضَةِ
وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَخُرُوجِ الرِّيحِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَيُصَلِّي ما
شَاءَ من النَّوَافِلِ
وقال مَالِكٌ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أن الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ
لِكُلِّ صَلَاةٍ فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ وَالشَّافِعِيُّ
قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةَ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ
الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِأَنَّهُ قَارَنَهَا ما يُنَافِيهَا أو
طَرَأَ عليها وَالشَّيْءُ لَا يُوجَدُ وَلَا يَبْقَى مع الْمُنَافِي إلَّا أَنَّهُ
لم يَظْهَرْ حُكْمُ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ
وَالضَّرُورَةِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فإذا فَرَغَ من الْأَدَاءِ
ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْمُنَافِي وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ
الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ
للتمكن ( ( ( المتمكن ) ) ) فيها فَكَانَتْ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَائِهَا
وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ وَاقِعَةٌ لها بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ
فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّهُ ليس بِتَبَعٍ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عن النبي أَنَّهُ قال
الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ هذا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ الْعَزِيمَةَ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ شُكْرًا
لِلنِّعْمَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِحْرَازًا لِلثَّوَابِ على الْكَمَالِ
إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ تَرْكَ شَغْلِ بَعْضِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ رُخْصَةً
وَتَيْسِيرًا فَضْلًا من اللَّهِ وَرَحْمَةً تَمْكِينًا من اسْتِدْرَاكِ
الْفَائِتِ بِالْقَضَاءِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْقِوَامِ وَجُعِلَ ذلك
شَغْلًا لِجَمِيعِ الْوَقْتِ حُكْمًا فَصَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ شَرْعًا
بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا ثُمَّ قِيَامُ الْأَدَاءِ مُبْقٍ
لِلطَّهَارَةِ فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّلَاةِ
يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ كما في قَوْلِهِ الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ وما
رُوِيَ أَنَّهُ صلى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَنَحْوُ ذلك والصلوات ( ( (
والصلاة ) ) ) الْمَعْهُودَةُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ في الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ فَكَأَنَّهُ قال الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ في الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليها الْوُضُوءَ لِكُلِّ
صَلَاةٍ أو لِكُلِّ فَرْضٍ تَقْضِي لَزَادَ على الْخَمْسِ بِكَثِيرٍ وَهَذَا
خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ على إرَادَةِ وَقْتِهَا
قال النبي في حديث التَّيَمُّمِ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمَتْ
وَصَلَّيْت وَالْمُدْرَكُ هو الْوَقْتُ دُونَ الصَّلَاةِ التي هِيَ فِعْلُهُ
وقال إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا أَيْ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَيُقَالُ
آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَيْ لِوَقْتِهَا فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ
وَيُرَادُ بها وَقْتُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْوَقْتُ وَيُرَادُ بِهِ
الصَّلَاةُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلَ على الْمُحْكَمِ تَوْفِيقًا بين
الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ
وَإِنَّمَا تَبْقَى طَهَارَةُ صَاحِبِ الْعُذْرِ في الْوَقْتِ إذَا لم يُحْدِثْ
حَدَثًا آخَرَ أَمَّا إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ فَلَا تَبْقَى لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ في الدَّمِ السَّائِلِ لَا في غَيْرِهِ فَكَانَ هو في غَيْرِهِ
كَالصَّحِيحِ قبل الْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ إذَا تَوَضَّأَ لِلْحَدَثِ أولا ثُمَّ
سَالَ الدَّمُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّ ذلك الْوُضُوءَ لم يَقَعْ لدم ( ( ( لعدم
) ) ) الْعُذْرِ فَكَانَ عَدَمًا في حَقِّهِ وَكَذَا إذَا سَالَ الدَّمُ من أَحَدِ
مَنْخَرَيْهِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَالَ من الْمَنْخَرِ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ
الْوُضُوءُ لِأَنَّ هذا حَدَثٌ جَدِيدٌ لم يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الطَّهَارَةِ
فلم تَقَعُ الطَّهَارَةُ له فَكَانَ هو وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ سَوَاءً فَأَمَّا
إذَا سَالَ مِنْهُمَا جميعا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ انْقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ على
وُضُوءٍ ما بَقِيَ الْوَقْتُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ حَصَلَتْ لَهُمَا جميعا
وَالطَّهَارَةُ مَتَى وَقَعَتْ لِعُذْرٍ لَا يَضُرُّهَا السَّيَلَانُ ما بَقِيَ
الْوَقْتُ فَبَقِيَ هو صَاحِبَ عُذْرٍ بِالْمَنْخَرِ الْآخَرِ وَعَلَى هذا حُكْمُ
صَاحِبُ الْقُرُوحِ إذَا كان الْبَعْضُ سَائِلًا ثُمَّ سَالَ الْآخَرُ أو كان
الْكُلُّ سَائِلًا فَانْقَطَعَ السَّيَلَانُ عن الْبَعْضِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أنها تُنْتَقَضُ
عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمْ عند أَيَّهُمَا كان
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ
وقال زُفَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وقال أبو يُوسُفَ عِنْدَ
أَيِّهِمَا كان وَثَمَرَةُ هذا الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ كما إذَا تَوَضَّأَتْ في
وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فإن طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا
تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ
وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ كما إذَا تَوَضَّأَتْ قبل
الزَّوَالِ ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فإن
____________________
(1/28)
طَهَارَتَهَا
لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي لِمَكَانِ
الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ وَبِهِ
يَحْتَجُّ أبو يُوسُفَ في جَانِبِ الدُّخُولِ وفي جَانِبِ الْخُرُوجِ بقول ( ( (
يقول ) ) ) كما لَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي قبل
الدُّخُولِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْمُنَافِي
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ شَرْعًا
أُقِيمَ مَقَامَ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا لِمَا بَيَّنَّا من الْمَعْنَى ثُمَّ
لَا بُدَّ من تَقْدِيمِ وَقْتِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً
فَكَذَا لَا بُدَّ من تَقْدِيمِهَا على وَقْتِ الْأَدَاءِ شَرْعًا حتى يُمْكِنُهُ
شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ انْعَدَمَتْ بِخُرُوجِ
الْوَقْتِ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ
وَمَشَايِخُنَا أَدَارُوا الْخِلَافَ على الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ فَقَالُوا
تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أو بِدُخُولِهِ لِتَيْسِيرِ
الْحِفْظِ على الْمُتَعَلِّمِينَ لَا لِأَنَّ لِلْخُرُوجِ أو الدُّخُولِ
تَأْثِيرًا في انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا الْمَدَارُ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ تَوَضَّأَ صَاحِبُ الْعُذْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ
أو لِصَلَاةِ الضُّحَى وَصَلَّى هل يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ
الطَّهَارَةِ
أَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذه طَهَارَةً وَقَعَتْ لِصَلَاةٍ مَقْصُودَةٍ
فَتُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ هذه الطَّهَارَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِلظُّهْرِ
لِحَاجَتِهِ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ الظُّهْرِ على ما مَرَّ
فَيَصِحُّ بها أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالضُّحَى وَالنَّفَلُ كما إذَا
تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قبل الْوَقْتِ ثُمَّ دخل الْوَقْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ
يُؤَدِّيَ بها الظُّهْرَ وَصَلَاةً أُخْرَى في الْوَقْتِ كَذَا هذا
وَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا آخَرَ في
وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْعَصْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ هل يَجُوزُ له أَنْ
يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ على قَوْلِهِمَا اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ قد صَحَّتْ لِجَمِيعِ وَقْتِ
الظُّهْرِ فَتَبْقَى ما بَقِيَ الْوَقْتُ فَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ
مع قِيَامِ الْأُولَى بَلْ كانت تَكْرَارًا لِلْأُولَى فَالْتَحَقَتْ الثَّانِيَةُ
بِالْعَدَمِ فَتُنْتَقَضُ الْأَوْلَى بِخُرُوجِ الْوَقْتِ
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ على
وَقْتِ الْعَصْرِ حتى يَشْتَغِلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَالطَّهَارَةُ
الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَدَمٌ في حَقِّ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا
تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ طَهَارَةُ الظُّهْرِ لَا طَهَارَةُ
الْعَصْرِ
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مُسْتَحَاضَةٌ وَدَمُهَا سَائِلٌ أو سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ
قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ في الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا
أَنْ تَسْتَقْبِلَ لِأَنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا
بَيَّنَّا فإذا خَرَجَ الْوَقْتُ قبل فراغها ( ( ( الخروج ) ) ) من الصَّلَاةِ
انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا فَتُنْتَقَضُ صَلَاتُهَا وَلَا تَبْنِي لِأَنَّهَا
صَارَتْ مُحْدِثَةً عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ من حِينِ دُرُورِ الدَّمِّ
كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ وَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ في خِلَالِ
الصَّلَاةِ قبل سَيَلَانِ الدَّمِ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ تَوَضَّأَتْ وَبَنَتْ
لِأَنَّ هذا حَدَثٌ لَاحِقٌ وَلَيْسَ بِسَابِقٍ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كانت
صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ ما يُنَافِيهَا وَقْتَ حُصُولِهَا وقد حَصَلَ الْحَدَثُ
لِلْحَالِ مُقْتَصِرًا غير مُوجِبٍ ارْتِفَاعَ الطَّهَارَةِ من الْأَصْلِ
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ سَائِلٌ ثُمَّ انْقَطَعَ ثُمَّ صَلَّتْ وهو
مُنْقَطِعٌ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ وَدَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ أُخْرَى ثُمَّ سَالَ
الدَّمُ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى لِأَنَّ الدَّمَ لَمَّا انْقَطَعَ ولم
يَسِلْ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ لم تَكُنْ تِلْكَ الطَّهَارَةُ طَهَارَةَ عُذْرٍ في
حَقِّهَا لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فَتَبَيَّنَ أنها صَلَّتْ بِلَا طَهَارَةٍ
وَأَصْلُ هذه الْمَسَائِلِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وهذا الذي ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ
صَاحِبِ الْعُذْرِ
وَأَمَّا حُكْمُ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَنَقُولُ إذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ من ذلك
أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا كان الْغَسْلُ مُفِيدًا
بِأَنْ كان لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حتى لو لم يَغْسِلْ وَصَلَّى لم
يجزئه ( ( ( يجوز ) ) ) وَإِنْ لم يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ ما دَامَ الْعُذْرُ
قَائِمًا وهو اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا وكان محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يقول
يَجِبُ غَسْلُهُ في وَقْتِ كل صَلَاةٍ قِيَاسًا على الْوُضُوءِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ
بِالنَّصِّ وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ ليس في مَعْنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَلِيلَ
منها عَفْوٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
وَأَمَّا الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ
أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ
السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا
وَالثَّانِي أَنْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ من ذلك لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا
تَعَبُّدًا مَحْضًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ وهو أَنْ
يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لها وَلَيْسَ
بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ ولم يَرَ بَلَلًا فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَثًا وهو قَوْلُ
مُحَمَّدٍ وَهَلْ
____________________
(1/29)
تُشْتَرَطُ
مُلَاقَاةُ الْفَرْجَيْنِ وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا على قَوْلِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ
ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنهما وَشَرَطَهُ في النَّوَادِرِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلَاقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في
مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ على الْمُسَبِّبِ من غَيْرِ حَرَجٍ وَالْوُقُوفُ
على الْمُسَبَّبِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ يَقِظَةٍ
فَيُمْكِنُ الْوُقُوفُ على الْحَقِيقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ السَّبَبِ
مَقَامَهَا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيُسْرِ بَائِعُ الْعَسَلِ سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ فقال إنِّي أَصَبْت من امْرَأَتِي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ
فقال تَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ على الصِّفَةِ التي
ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عن خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إلَّا أنه يُحْتَمَلُ أَنَّهُ
جَفَّ لِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فلم يَقِفْ عليه أو غَفَلَ عن نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ
الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْخُرُوجِ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ
مَقَامَ الْمُسَبِّبِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ في الشَّرِيعَةِ خُصُوصًا في أَمْرٍ
يُحْتَاطُ فيه كما يُقَامُ الْمَسُّ مَقَامَ الْوَطْءِ في حَقِّ ثُبُوتِ حُرْمَةِ
الْمُصَاهَرَةِ بَلْ يُقَامُ نَفْسُ النِّكَاحِ مَقَامَهُ وَيُقَامُ نَوْمُ
الْمُضْطَجِعِ مَقَامَ الْحَدَثِ وَنَحْوَ ذلك كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ أو غَيْرِ شَهْوَةِ فَرْجِهَا أو سَائِرِ
أَعْضَائِهَا من غَيْرِ حَائِلٍ ولم يُنْشَرْ لها لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إنْ كان الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان بِغَيْرِ
شَهْوَةٍ بِأَنْ كانت صَغِيرَةً أو كانت ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لَا يَكُونُ
حَدَثًا وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وفي قَوْلٍ يَكُونُ حَدَثًا كَيْفَمَا كان بِشَهْوَةٍ أو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَهَلْ
تُنْتَقَضُ طَهَارَةُ الْمَلْمُوسَةِ لَا شَكَّ أنها لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَنَا
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ احتجاجا ( ( ( احتجا ) ) ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَالْمُلَامَسَةُ مُفَاعَلَةٌ من اللَّمْسِ
وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَاحِدٌ لُغَةً قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاءَ } حقيقة ( ( ( وحقيقة ) ) ) المس ( ( ( اللمس ) ) ) بِالْيَدِ
وَلِلْجِمَاعِ مَجَازٌ أو هو حَقِيقَةٌ لَهُمَا جميعا لِوُجُودِ الْمَسِّ فِيهِمَا
جميعا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ آلَةُ الْمَسِّ فَكَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لَهُمَا
لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِمَا وقد جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّمْسَ
حَدَثًا حَيْثُ أَوْجَبَ بِهِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ التَّيَمُّمُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن هذه
الْحَادِثَةِ فقالت كان رسول اللَّهِ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ
إلَى الصَّلَاةِ وَلَا يَتَوَضَّأُ
وَلِأَنَّ الْمَسَّ ليس بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ
غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ
وَلِأَنَّ مَسَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَلَوْ
جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ
الْمُرَادَ من اللَّمْسِ الْجِمَاعُ
وهو تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ
وَذَكَرَ ابن السِّكِّيتِ في إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اللَّمْسَ إذَا قُرِنَ
بِالنِّسَاءِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ
تَقُولُ الْعَرَبُ لَمَسْت الْمَرْأَةَ أَيْ جَامَعْتهَا على أَنَّ اللَّمْسَ
يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ إمَّا حَقِيقَةً وإما مَجَازًا فَيُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا
بين الدَّلَائِلِ
وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ من غَيْرِ حَائِلٍ لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُنْتَقَضُ
احْتَجَّ بِمَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ عن النبي أَنَّهُ قال من مَسَّ
ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ وَحُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لم يَجْعَلُوا
مَسَّ الذَّكَرِ حَدَثًا حتى قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا أُبَالِي مَسِسْته
أو أَرْنَبَةَ أَنْفِي
وقال بَعْضُهُمْ لِلرَّاوِي إنْ كان نَجَسًا فَاقْطَعْهُ وَلِأَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ
بِنَفْسِهِ وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الْأَنْفِ
وَلِأَنَّ مَسَّ الْإِنْسَانِ ذَكَرَهُ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ
حَدَثًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ
وما رَوَاهُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ ليس بِثَابِتٍ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ
مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو ما ذَكَرْنَا
وَالثَّانِي أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ هذه الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ في زَمَنِ مَرْوَانَ
بن الْحَكَمِ فَشَاوَرَ من بَقِيَ من الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَا نَدَعُ كِتَابَ
رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ
أَمْ كَذَبَتْ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ
ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ وَلَوْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ على غَسْلِ الْيَدَيْنِ
لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ دُونَ الْمَاءِ فإذا
مَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ كانت تَتَلَوَّثُ خُصُوصًا في أَيَّامِ الصَّيْفِ فَأَمَرَ
بِالْغَسْلِ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ الذي يَسْتُرُ الْعَقْلَ أَمَّا
الْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُ في اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَاسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ
فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا وَذَلِكَ حَدَثٌ فَهَذَا أَوْلَى وَأَمَّا
الْجُنُونُ فَلِأَنَّ الْمُبْتَلَى بِهِ يُحْدِثُ حَدَثًا وَلَا يَشْعُرُ بِهِ
فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَالسُّكْرُ الذي يَسْتُرُ الْعَقْلَ في
مَعْنَى الْجُنُونِ في عَدَمِ التَّمْيِيزِ وقد انْضَافَ إلَيْهِ اسْتِرْخَاءُ
الْمَفَاصِلِ وَلَا فَرْقَ في حَقِّ هَؤُلَاءِ بين الِاضْطِّجَاعِ وَالْقِيَامِ
لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين حَالٍ وَحَالٍ
وَمِنْهَا النَّوْمُ مُضْطَجِعًا في الصَّلَاةِ أو في غَيْرِهَا بِلَا
____________________
(1/30)
خِلَافٍ
بين الْفُقَهَاءِ
وَحُكِيَ عن النَّظَّامُ أَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِ
لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ وَخُرُوجِهِ عن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالدَّلِيلُ
عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي نَامَ في
صَلَاتِهِ حتى غَطَّ وَنَفَخَ ثُمَّ قال لَا وُضُوءَ على من نَامَ قَائِمًا أو
قَاعِدًا أو رَاكِعًا أو سَاجِدًا إنَّمَا الْوُضُوءُ على من نَامَ مُضْطَجِعًا
فإنه إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ نَصَّ على الْحُكْمِ
وَعَلَّلَ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَكَذَا النَّوْمُ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ
نَامَ على أَحَدِ وِرْكَيْهِ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عن
الْأَرْضِ فَكَانَ في مَعْنَى النَّوْمِ مُضْطَجِعًا في كَوْنِهِ سَبَبًا
لِوُجُودِ الْحَدَثِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالُ مَسْكَةُ
الْيَقَظَةِ
فَأَمَّا النَّوْمُ في غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فإما إنْ كان في
الصَّلَاةِ وإما إنْ كان في غَيْرِهَا فَإِنْ كان في الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ
حَدَثًا سَوَاءٌ غَلَبَهُ النَّوْمُ أو تَعَمَّدَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عن النَّوْمِ في
الصَّلَاةِ فقال لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَا أَدْرِي سألته ( ( ( أسألته ) ) )
عن الْعَمْدِ أو الْغَلَبَةِ وَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ نَامَ مُتَعَمِّدًا يُنْتَقَضُ
وضوؤه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ على كل حَالٍ إلَّا إذَا كان
قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ
عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قال كان النبي يَأْمُرُنَا أَنْ
لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا إذَا كنا سَفْرًا
إلَّا من جَنَابَةٍ لَكِنْ من نَوْمٍ أو بَوْلٍ أو غَائِطٍ فَقَدْ جُعِلَ
النَّوْمُ حَدَثًا على الْإِطْلَاقِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال الْعَيْنَانِ
وِكَاءُ السه ( ( ( الاست ) ) ) فإذا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءَ
أَشَارَ إلَى كَوْنِ النَّوْمِ حَدَثًا حَيْثُ جَعَلَهُ عِلَّةَ اسْتِطْلَاقِ
الْوِكَاءِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي حَيْثُ نَفَى الْوُضُوءَ في النَّوْمِ
في غَيْرِ حَالِ الِاضْطِجَاعِ وَأَثْبَتَهُ فيها بِعِلَّةِ اسْتِرْخَاءِ
الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ مَسْكَةِ الْيَقَظَةِ ولم يُوجَدْ في هذه الْأَحْوَالِ
لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فيها بَاقٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَسْقُطْ وفي
الْمَشْهُورِ من الْأَخْبَارِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا نَامَ الْعَبْدُ
في سُجُودِهِ يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فيقول اُنْظُرُوا إلَى
عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ في طَاعَتِي وَلَوْ كان النَّوْمُ في
الصَّلَاةِ حَدَثًا لِمَا كان جَسَدُهُ في طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا روى لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى
النَّوْمِ الْمُتَعَارَفِ وهو نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ وَكَذَا اسْتِطْلَاقُ
الْوِكَاءِ يَتَحَقَّقُ بِهِ لَا بِكُلِّ نَوْمٍ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ إن الْقِيَاسَ في النَّوْمِ حَالَة الْقِيَامِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ
الْحَدَثِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ حَالَةَ الْغَلَبَةِ لِضَرُورَةِ
التَّهَجُّدِ نظرا ( ( ( نظر ) ) ) لِلْمُتَهَجِّدِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ
الْغَلَبَةِ دُونَ التَّعَمُّدِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ
الِاسْتِمْسَاكَ في هذه الْأَحْوَالِ بَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كان قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ
غير مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ ليس بِسَبَبٍ لِوُجُودِ
الْحَدَثِ غَالِبًا وَإِنْ كان قَائِمًا أو على هَيْئَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
غير مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَالْعَامَّةُ على أَنَّهُ
لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا رَوَيْنَا من الحديث من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالَةِ
الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فيها بَاقٍ على ما مَرَّ
وَالْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ في النَّوْمِ على هَيْئَةِ السُّجُودِ خَارِجَ
الصَّلَاةِ ما ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ أَنَّهُ لَا نَصَّ فيه وَلَكِنْ يُنْظَرُ فيه
إنْ سَجَدَ على الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ بِأَنْ كان رَافِعًا بَطْنَهُ عن
فَخْذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عن جَنْبَيْهِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ
سَجَدَ لَا على وَجْهِ السُّنَّةِ بِأَنْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ
وَاعْتَمَدَ على ذِرَاعَيْهِ على الْأَرْضِ يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ في الْوَجْهِ
الْأَوَّلِ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ وَالِاسْتِطْلَاقَ مُنْعَدِمٌ وفي الْوَجْهِ
الثَّانِي بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هذا الْقِيَاسَ في حَالَةِ
الصَّلَاةِ بِالنَّصِّ
وَلَوْ نَامَ مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ أو سَارِيَةٍ أو رَجُلٍ مُتَّكِئًا على
يَدَيْهِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إنْ كان بِحَالٍ لو زايل ( ( ( أزيل ) ) )
السَّنَدُ لَسَقَطَ يَكُونُ حَدَثًا وَإِلَّا فَلَا وَبِهِ أَخَذَ كَثِيرٌ من
مَشَايِخِنَا
وَرَوَى خَلَفُ بن أَيُّوبَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ
عَمَّنْ اسْتَنَدَ إلَى سَارِيَةٍ أو رَجُلٍ فَنَامَ
وَلَوْلَا السَّارِيَةُ وَالرَّجُلُ لم يَسْتَمْسِكْ قال إذَا كانت إليته
مُسْتَوْثِقَةً من الْأَرْضِ فَلَا وُضُوءَ عليه وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ
مَشَايِخِنَا وهو الْأَصَحُّ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى
وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ فَسَقَطَ وَانْتَبَهَ فَإِنْ
انْتَبَهَ بَعْدَمَا سَقَطَ على الْأَرْضِ وهو نَائِمٌ انْتَقَضَ وضوؤه
بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ انْتَبَهَ
قبل أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا
يُنْتَقَضُ وضوؤه لِانْعِدَامِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا
ووعن ( ( ( وعن ) ) ) أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ وضوؤه لِزَوَالِ
الِاسْتِمْسَاكِ بِالنَّوْمِ حَيْثُ سَقَطَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ انْتَبَهَ
قبل أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لم يُنْتَقَضُ وضوؤه وَإِنْ زَايَلَ
مَقْعَدُهُ قبل
____________________
(1/31)
أَنْ
يَنْتَبِهَ اُنْتُقِضَ وضوؤه
مبحث القهقهة في الصلاة وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْقَهْقَهَةُ في صَلَاةٍ
مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ التي لها رُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا
خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ حَدَثًا وهو قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَلَا خِلَافَ في التَّبَسُّمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عن النبي أَنَّهُ قال الضَّحِكُ
يَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْحَدَثُ
حَقِيقَةً وَلَا ما هو سَبَبُ وُجُودِهِ وَالْوُضُوءُ لَا يُنْتَقَضُ إلَّا
بِأَحَدِ هَذَيْنِ وَلِهَذَا لم يُنْتَقَضْ بِالْقَهْقَهَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ
وفي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا يُنْقَضُ بِالتَّبَسُّمِ
وَلَنَا ما رُوِيَ في الْمَشَاهِيرِ عن النبي أَنَّهُ كان يُصَلِّي فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ في عَيْنَيْهِ سَوْءٌ فَوَقَعَ في بِئْرٍ عليها خُصْفَةٌ فَضَحِكَ
بَعْضُ من خَلْفِهِ فلما قَضَى النبي الصَّلَاةَ قال من قَهْقَهَ مِنْكُمْ
فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَمِنْ تَبَسَّمَ فَلَا شَيْءَ عليه طَعَنَ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ في الْحَدِيث من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ليس في
مَسْجِدِ رسول اللَّهِ بِئْرٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الضَّحِكُ في الصلاة خُصُوصًا
خَلْفَ رسول اللَّهِ وَهَذَا الطَّعْنُ فَاسِدٌ لِأَنَّا ما رَوَيْنَا أن
الصَّلَاةَ كانت في الْمَسْجِدِ على أَنَّهُ كانت في الْمَسْجِدِ حَفِيرَةٌ
يُجْمَعُ فيها مَاءُ الْمَطَرِ وَمِثْلُهَا يُسَمَّى بِئْرًا وَكَذَا ما رَوَيْنَا
أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أو الْعَشَرَةَ الْمُبَشِّرِينَ أو
الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أو فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ وَكِبَارَ الْأَنْصَارِ
هُمْ الَّذِينَ ضَحِكُوا بَلْ كان الضَّاحِكُ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ أو الْأَعْرَابِ
أو بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عليهم حتى رُوِيَ أَنَّ
أَعْرَابِيًّا بَالَ في مَسْجِدِ رسول اللَّهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ مَحْمُولٌ على ما
دُونِ الْقَهْقَهَةِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ مع أَنَّهُ قِيلَ إنَّ الضَّحِكَ
ما يُسْمِعُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ ( وَالْقَهْقَهَةُ ما
يُسْمِعُ جِيرَانَهُ ) وَالتَّبَسُّمُ ما لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا جِيرَانَهُ
وَقَوْلُهُ لم يُوجَدْ الْحَدَثُ وَلَا سَبَبُ وُجُودِهِ
مُسَلَّمٌ لَكِنْ هذا حُكْمُ عُرْفٍ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ
وَرَدَ بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ في صَلَاةٍ مُسْتَتِمَّةِ
الْأَرْكَانِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَرُوِيَ عن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ قال ما رَآنِي رسول
اللَّهِ إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ تَبَسَّمَ في صَلَاتِهِ فلما فَرَغَ سُئِلَ عن ذلك فقال أَتَانِي
جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول من صلى
عَلَيْك مَرَّةً صلى اللَّهُ عليه عَشْرًا
وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جميعا فَإِنْ قهقهة ( ( ( قهقه ) ) )
الإمام أَوَّلًا انْتَقَضَ وضوؤه ( ( ( وضؤه ) ) ) دُونَ الْقَوْمِ لِأَنَّ
قَهْقَهَتَهُمْ لم تُصَادِفْ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ لِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ
بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَجَعَلْت قهقهتهم ( ( ( قهقهتم ) ) ) خَارِجَ
الصَّلَاةِ وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ انْتَقَضَ
طَهَارَةُ الْكُلِّ لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ حَصَلَتْ في الصَّلَاةِ أَمَّا
الْقَوْمُ فَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا
من الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْقَوْمِ وَكَذَلِكَ إنْ قَهْقَهُوا مَعًا لِأَنَّ
قَهْقَهَةَ الْكُلِّ حَصَلَتْ في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ وَغَسْلِهِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ وَأَكْلُ ما
مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْكَلَامُ الْفَاحِشِ فَلَيْسَ شَيْءٌ من ذلك حَدَثًا
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ كُلُّ ذلك حَدَثٌ وَرَوَوْا في ذلك
عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ وَمَنْ غَسَّلَ
مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لِلْمُتَسَابَّيْنِ إنَّ بَعْضَ ما
أَنْتُمَا فيه لَشَرٌّ من الْحَدَثِ فَجَدِّدَا الْوُضُوءَ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي أَنَّهُ قال توضؤوا ( ( ( توضئوا ) )
) مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ
وَمِنْهُمْ من أَوْجَبَ من لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصَّةً وَرُوِيَ توضؤوا ( ( (
توضئوا ) ) ) من لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تتوضؤوا ( ( ( تتوضئوا ) ) ) من لُحُومِ
الْغَنَمِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا
يَخْرُجُ ليس مِمَّا يَدْخُلُ
وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ يَعْنِي
الْخَارِجَ النَّجِسَ ولم يُوجَدْ وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ إن الْحَدَثَ هو
خُرُوجُ النَّجَسِ حَقِيقَةً أو ما هو سَبَبُ الْخُرُوجِ ولم يُوجَدْ وَإِلَيْهِ
أَشَارَ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما حين بَلَغَهُ حَدِيثُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ
فقال أَنَتَوَضَّأُ من مَسِّ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ وَلِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ
مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ من ذلك حَدَثًا لَوَقَعَ الناس
في الْحَرَجِ وما رَوَوْا أَخْبَارَ آحَادٍ وَرَدَتْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى
وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في مِثْلِهِ لِأَنَّهُ
دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لو ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ بِخِلَافِ خَبَرِ
الْقَهْقَهَةِ فإنه من الْمَشَاهِيرِ مع ما أنه وَرَدَ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ في الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ
وَلَوْ ثَبَتَ ما رَوَوْا فَالْمُرَادُ من الْوُضُوءِ بِتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ
غَسْلُ الْيَدِ لِأَنَّ ذلك الْمَوْضِعَ لَا يَخْلُو عن قَذَارَةٍ عَادَةً وَكَذَا
بِأَكْلِ ما مَسَّتْهُ النَّارُ وَلِهَذَا خَصَّ لَحْمَ الْإِبِلِ في رِوَايَةٍ
لِأَنَّ له
____________________
(1/32)
من
اللُّزُوجَةِ ما ليس لِغَيْرِهِ
وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامًا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وقال هَكَذَا
الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْمُرَادُ من حديث الْغُسْلِ فَلْيَغْتَسِلْ
إذَا أَصَابَتْهُ الْغَسَّالَاتُ النَّجِسَةُ وَقَوْلُهُ فَلْيَتَوَضَّأْ في
حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِلْمُحْدِثِ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّلَاةِ عليه وَعَائِشَةُ
رضي اللَّهُ عنها إنَّمَا نَدَبَتْ الْمُتَسَابَّيْنِ إلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ
تَكْفِيرًا لِذَنْبِ سَبِّهِمَا
وَمَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ أو قَلَّمَ ظُفْرَهُ أو قَصَّ شَارِبَهُ أو
نَتَفَ إبِطَيْهِ لم يَجِبْ عليه إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذلك الْمَوْضِعِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَجِبُ عليه في قَلْمِ الظُّفْرِ وَجَزِّ
الشَّعْرِ وَقَصِّ الشَّارِبِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما حَصَلَ فيه التَّطْهِيرُ قد زَالَ وما ظَهَرَ لم
يَحْصُلْ فيه التَّطْهِيرُ فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الْوُضُوءَ قد تَمَّ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ ولم
يُوجَدْ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ على ( ( ( يحل ) ) ) ظَاهِرَ الْبَدَنِ وقد
زَالَ الْحَدَثُ عن الظَّاهِرِ إمَّا بِالْغَسْلِ أو بِالْمَسْحِ وما بَدَا لم
يَحِلَّهُ الْحَدَثُ السَّابِقُ وَبَعْدَ بُدُوِّهِ لم يُوجَدْ حَدَثٌ آخَرُ فَلَا
تُعْقَلُ إزَالَتُهُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الوضوء
لم يَتِمَّ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِغَسْلِ لقدمين ( ( ( القدمين ) ) ) ولم يُوجَدْ
إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ مَقَامَ غَسْلِ
الْقَدَمَيْنِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ النَّزْعِ في كل زَمَانٍ فإذا نَزَعَ زَالَتْ
الضَّرُورَةُ فَوَجَبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ تَتْمِيمًا لِلْوُضُوءِ
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ نَتْفَ الْإِبِطِ وَإِنْ لم يَكُنْ ما يَظْهَرُ بِالنَّتْفِ
مَحَلًّا لِحُلُولِ الْحَدَثِ فيه بِخِلَافِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ لِأَنَّهُ رُوِيَ
عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من مَسَحَ إبِطَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ
وَتَأْوِيلُهُ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ لِتَلَوُّثِهِمَا بِعَرَقِهِ
وَلَوْ مَسَّ كَلْبًا أو خِنْزِيرًا أو وطىء نَجَاسَةً لَا وُضُوءَ عليه
لِانْعِدَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا إلَّا أَنَّهُ إذَا الْتَزَقَ بيده
شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُ ذلك الْمَوْضِعِ وَإِلَّا فَلَا
وَمَنْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ وَشَكَّ في الْحَدَثِ فَهُوَ على الطَّهَارَةِ
وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ في الطَّهَارَةِ فَهُوَ على الْحَدَثِ
لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال
المتوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) ) إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ دخل الْخَلَاءَ لِقَضَاءِ
الْحَاجَةِ وَشَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ قبل أَنْ يَقْضِيَهَا أو بَعْدَ ما قَضَاهَا
فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ما خَرَجَ إلَّا بَعْدَ
قَضَائِهَا وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ
وَمَعَهُ الْمَاءُ وَشَكَّ في أَنَّهُ تَوَضَّأَ أو قام قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ
فَلَا وُضُوءَ عليه لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ ما لم يَتَوَضَّأْ وَلَوْ
شَكَّ في بَعْضِ وُضُوئِهِ وهو أَوَّلُ ما شَكَّ غَسَلَ الْمَوْضِعَ الذي شَكَّ
فيه لِأَنَّهُ على يَقِينٍ من الْحَدَثِ في ذلك الْمَوْضِعِ وفي شَكِّ من غَسَلَهُ
وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ أَوَّلَ ما شَكَّ أَنَّ الشَّكَّ في مِثْلِهِ يَصِرْ
عَادَةً له لَا أَنَّهُ لم يَبْتَلَّ بِهِ قَطُّ وَإِنْ كان يَعْرِضُ له ذلك
كَثِيرًا لم يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك وَسْوَسَةٌ وَالسَّبِيلُ في
الْوَسْوَسَةِ قَطْعُهَا لِأَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنْ لا (
( ( يتفرع ) ) ) يتفرغ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ تَوَضَّأَ ثُمَّ رَأَى الْبَلَلَ سَائِلًا من ذَكَرِهِ أَعَادَ الْوُضُوءَ
لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو سَيَلَانُ الْبَوْلِ وَإِنَّمَا قال رَآهُ سَائِلًا
لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَلَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من مَاءِ الطَّهَارَةِ
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَوْلٌ ظَهَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لم يَكُنْ
سَائِلًا وَإِنْ كان الشَّيْطَانُ يُرِيه ذلك كَثِيرًا ولا ( ( ( ولم ) ) )
يَعْلَمْ أَنَّهُ بَوْلٌ أو مَاءٌ مَضَى على صَلَاتِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ذلك
لِأَنَّهُ من بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا
وقال النبي إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بين إليتيه فيقول
أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفْ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو يَجِدَ رِيحًا
وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ أو إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ
قَطْعًا لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ حتى إذَا أَحَسَّ شيئا من ذلك أَحَالَهُ إلَى ذلك
الْمَاءِ
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ كان يَنْضَحُ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ وفي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ عليه وَأَمَرَنِي
بِذَلِكَ
مبحث مَسِّ الْمُصْحَفِ وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ
فَلِلْحَدَثِ أَحْكَامٌ وَهِيَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ
لِفَقْدِ شَرْطِ جَوَازِهَا وهو الْوُضُوءُ
قال لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءٍ وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ غُلَافٍ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ له مَسُّ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ غُلَافٍ
وَقَاسَ الْمَسَّ على الْقِرَاءَةِ فقال يَجُوزُ له الْقِرَاءَةُ فَيَجُوزُ له
الْمَسُّ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وَقَوْلُ النبي
لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ
وَلَيْسَ مَسُّ التعظيم من الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا حَدَثٌ واعتباره ( ( (
واعتبار ) ) ) الْمَسِّ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ
لم يَظْهَرْ في الْفَمِ وَظَهَرَ في الْيَدِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ افْتَرَضَ غَسْلَ
الْيَدِ ولم يَفْتَرِضْ غَسْلَ الْفَمِ في الْحَدَثِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَلَا
مَسُّ الدَّرَاهِمِ التي عليها الْقُرْآنُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ
كَحُرْمَةِ ما كُتِبَ منه فَيَسْتَوِي فيه الْكِتَابَةُ في الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ
وَلَا مَسُّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا
لِلْقُرْآنِ
وَأَمَّا مَسُّ كِتَابِ الْفِقْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ
____________________
(1/33)
وَالْمُسْتَحَبُّ
له أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ طَافَ جَازَ مع
النُّقْصَانِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ قال النبي
الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ليس بِصَلَاةٍ حقيقة ( ( ( حقيقية ) ) ) فَلِكَوْنِهِ
طَوَافًا حَقِيقَةً يَحْكُمُ بِالْجَوَازِ وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ
يُحْكَمَ بِالْكَرَاهَةِ
ثُمَّ ذَكَرَ الْغِلَافَ ولم يذكر تَفْسِيرَهُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في
تَفْسِيرِهِ فقال بَعْضُهُمْ هو الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْمُصْحَفِ
وقال بَعْضُهُمْ هو الْكُمُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْغِلَافُ الْمُنْفَصِلُ عن
الْمُصْحَفِ وهو الذي يُجْعَلُ فيه الْمُصْحَفُ وقد يَكُونُ من الْجِلْدِ وقد
يَكُونُ من الثَّوْبِ وهو الْخَرِيطَةُ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِهِ تَبَعٌ له
فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ وَلِهَذَا لو بيع ( ( ( لبيع ) ) )
الْمُصْحَفُ دخل الْمُتَّصِلُ بِهِ في الْبَيْعِ وَالْكُمُّ تَبَعٌ لِلْحَامِلِ
فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَيْسَ بِتَبَعٍ حتى لَا يَدْخُلَ في بَيْعِ الْمُصْحَفِ
من غَيْرِ شَرْطٍ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُكْرَهُ مَسُّ الْمَوْضِعِ
الْمَكْتُوبِ دُونَ الْحَوَاشِي لِأَنَّهُ لم يَمَسَّ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُلِّهِ لِأَنَّ الْحَوَاشِيَ تَابِعَةٌ
لِلْمَكْتُوبِ فَكَانَ مَسُّهَا مَسًّا لِلْمَكْتُوبِ
وَيُبَاحُ له قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان لَا
يَحْجِزُهُ عن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا الْجَنَابَةُ وَيُبَاحُ له
دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ وُفُودَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ
اللَّهِ وهو في الْمَسْجِدِ فَيَدْخُلُونَ عليه ولم يَمْنَعْهُمْ من ذلك وَيَجِبُ
عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ حتى يَجِبَ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْحَدَثَ
لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِهِ
وَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا وَإِنْ كان يُنَافِي
أَهْلِيَّةَ أَدَائِهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ
الْغُسْلِ وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ
سُنَنِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ آدَابِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يغتسل
( ( ( يغسل ) ) ) بِهِ وفي بَيَانِ صِفَة الْغُسْلِ
أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَالْغُسْلُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الذي يُغْتَسَلُ
بِهِ لَكِنْ في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْبَدَنِ وقد مَرَّ
تَفْسِيرُ الْغَسْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْإِسَالَةُ حتى لَا يَجُوزُ
بِدُونِهَا
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ على جَمِيعِ ما يُمْكِنُ إسَالَتُهُ
عليه من الْبَدَنِ من غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حتى لو بَقِيَتْ لُمْعَةٌ
لم يُصِبْهَا الْمَاءُ لم يَجُزْ الْغُسْلُ وَإِنْ كانت يَسِيرَةً لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ
وَاسْمُ الْبَدَنِ يَقَعُ على الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ ما
يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ منه بِلَا حَرَجٍ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَضْمَضَةُ
وَالِاسْتِنْشَاقُ في الْغُسْلِ لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ
وَالْأَنْفِ مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ وَإِنَّمَا لَا يَجِبَانِ في الْوُضُوءِ لَا
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بَلْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ
غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَا تَقَعُ الْمُوَاجِهَةُ إلَى ذلك رَأْسًا
وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كما يَجِبُ إلَى أُصُولِهَا
وَكَذَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ شَعْرِهَا إذَا
كان مَنْقُوضًا كَذَا ذكره الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذلك من غَيْرِ حَرَجٍ وَأَمَّا إذَا كان شَعْرُهَا
ضَفِيرًا فَهَلْ يَجِبُ عليها إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهِ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجِبُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
تَحْتَ كل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أبي بَكْرٍ
مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وهو الْأَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت
إنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْت فقال صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَفِيضِي الْمَاءَ على رَأْسِك وَسَائِرِ جَسَدِك وَيَكْفِيك إذَا
بَلَغَ الْمَاءُ أصولع ( ( ( أصول ) ) ) شَعْرِك وَلِأَنَّ ضَفِيرَتَهَا إذَا كانت
مَشْدُودَةً فَتَكْلِيفُهَا نَقْضُهَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ حَالَ
كَوْنِهَا مَنْقُوضَةٌ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على هذه الْحَالَةِ
وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ السُّرَّةِ لِإِمْكَانِ الْإِيصَالِ
إلَيْهَا بِلَا حَرَجٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فيها المبالغة ( ( (
للمبالغة ) ) ) وَيَجِبُ على الْمَرْأَةِ غَسْلُ الْفَرْجِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا حَرَجٍ وَكَذَا الْأَقْلَفُ يحب ( ( ( يجب ) ) ) عليه
إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْقُلْفَةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِإِمْكَانِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ
من غَيْرِ حَرَجٍ
وَأَمَّا شُرُوطُهُ فما ذَكَرْنَا في الْوُضُوءِ
وَأَمَّا سُنَنُهُ فَهِيَ أَنْ يَبْدَأَ فَيَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ
وَيَكْفِيهِ على يَمِينِهِ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ
يُفْرِغُ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ على شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ حتى يُنَقِّيَهُ
ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا أَنَّهُ لَا
يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ حتى يُفِيضَ الْمَاءَ على رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ
ثَلَاثًا ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أنها قالت وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَغْتَسِلَ
من الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ وَأَكْفَأَهُ على يَمِينِهِ
فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَنْقَى فَرْجَهُ
____________________
(1/34)
بِالْمَاءِ
ثُمَّ مَالَ بيده إلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ
وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غير غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ على
رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ
فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ على بَيَانِ السُّنَّةِ وَالْفَرِيضَةِ جميعا وَهَلْ
يَمْسَحُ رَأْسَهُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْغُسْلِ ذُكِرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْسَحُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّ تَسْيِيلَ
الْمَاءِ عليه بَعْدَ ذلك يُبْطِلُ مَعْنَى الْمَسْحِ فلم يَكُنْ فيه فَائِدَةٌ
بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ من بَعْدُ لَا يُبْطِلُ
التَّسْيِيلَ من قَبْلُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ
وَرَدَتْ بِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْإِفَاضَةِ على جَمِيعِ الْبَدَنِ على ما
رَوَيْنَا وَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْمَسْحِ وَالْغُسْلِ جميعا إلَّا أَنَّهُ
يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا
لِأَنَّهُمَا يَتَلَوَّثَانِ بِالْغُسَالَاتِ من بَعْدُ حتى لو اغْتَسَلَ على
مَوْضِعٍ لَا يَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ لَا
يُؤَخِّرُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّلَوُّثِ وَلِهَذَا قالوا في غُسْلِ
الْمَيِّتِ إنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ وَلَا يُؤَخِّرُ
غَسْلَهُمَا لِأَنَّ الْغُسَالَةَ لَا تَجْتَمِعُ على التَّخْتِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اسْتَدَلَّ بِتَأْخِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْإِفَاضَةِ على أَنَّ
الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ إذْ لو لم يَكُنْ نَجَسًا لم يَكُنْ
لِلتَّحَرُّجِ عن الظاهر ( ( ( الطاهر ) ) ) مَعْنَى فَجَعَلُوهُ حُجَّةَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ على مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ فيه كَبِيرُ حُجَّةٍ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ كما يَتَحَرَّجُ عن النَّجَسِ يَتَحَرَّجُ عن الْقَذَرِ خُصُوصًا
الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ
قد أُزِيلَ إلَيْهِ قَذَرُ الْحَدَثِ حتى تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مبحث آداب الوضوء وَأَمَّا آدَابُهُ فما ذَكَرْنَا في الْوُضُوءِ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يَغْتَسِلُ بِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فيظاهر
الرِّوَايَةِ وقال أَدْنَى ما يَكْفِي في الْغُسْلِ من الْمَاءِ صَاعٌ وفي
الْوُضُوءِ مُدٌّ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم كان يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ له
إنْ لم يَكْفِنَا فَغَضِبَ وقال لقد كَفَى من هو خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَكْثَرُ
شَعْرًا
ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الصَّاعَ في الْغُسْلِ وَالْمُدَّ
في الْوُضُوءِ مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ ولم يُفَسِّرْهُ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هذا التَّقْدِيرُ في الْغُسْلِ إذَا لم يَجْمَعْ بين
الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ
أَرْطَالٍ رَطْلَانِ لِلْوُضُوءِ وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِلْغُسْلِ وقال
عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الصَّاعَ كَافٍ لَهُمَا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في الْوُضُوءِ إنْ كان المتوضىء (
( ( المتوضئ ) ) ) مُتَخَفِّفًا وَلَا يَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلٌ وَاحِدٌ
لِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَإِنْ كان مُتَخَفِّفًا
وَيَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلَانِ رَطْلٌ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَرَطْلٌ لِلْبَاقِي
ثُمَّ هذا التَّقْدِيرُ الذي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ من الصَّاعِ وَالْمُدِّ في
الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ
النُّقْصَانُ عنه أو الزِّيَادَةُ عليه بَلْ هو بَيَانُ مِقْدَارِ أَدْنَى
الْكِفَايَةِ عَادَةً حتى إنَّ من أسبع ( ( ( أسبغ ) ) ) الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ
بِدُونِ ذلك أَجْزَأَهُ وَإِنْ لم يَكْفِهِ زَادَ عليه لِأَنَّ طِبَاعَ الناس
وَأَحْوَالَهُمْ تَخْتَلِفُ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عليه بِقَدْرِ ما لَا
إسْرَافَ فيه لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ على سَعْدِ بن
أبي وَقَّاصٍ وهو يَتَوَضَّأُ وَيَصُبُّ صَبًّا فَاحِشًا فقال إيَّاكَ وَالسَّرَفَ
فقال أو في الْوُضُوءِ سَرَفٌ قال نعم لو كُنْت على ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ وفي
رِوَايَةٍ وَلَوْ كُنْت على شَطِّ بَحْرٍ
وَأَمَّا صِفَةُ الْغُسْلِ فَالْغُسْلُ قد يَكُونُ فَرْضًا وقد يَكُونُ وَاجِبًا
وقد يَكُونُ سُنَّةٌ وقد يَكُونُ مُسْتَحَبًّا
أَمَّا الْغُسْلُ الْوَاجِبُ فَهُوَ غُسْلُ الْمَوْتَى والسنة فَهُوَ غُسْلُ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ
وَسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَهُنَا نَذْكُرُ
الْمُسْتَحَبَّ وَالْفَرْضَ
أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ من جَاءَهُ
يُرِيدُ الْإِسْلَامَ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ وَالِاسْتِحْبَابُ
هذا إذَا لم يَعْرِفْ أَنَّهُ جُنُبٌ فَأَسْلَمَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَوْنَهُ
جُنُبًا فَأَسْلَمَ قبل الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ
مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ من الْقُرُبَاتِ وَالْغُسْلُ يَصِيرُ قُرْبَةً
بِالنِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ
وقال بَعْضُهُمْ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ
الْجَنَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَدَثِ حتى يَلْزَمَهُ
الْوُضُوءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَذَا الْجَنَابَةُ وَعَلَى هذا غُسْلُ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ
وَأَمَّا الْغُسْلُ الْمَفْرُوضُ فَثَلَاثَةٌ الْغُسْلُ من الْجَنَابَةِ
وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
أَمَّا الْجَنَابَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا } أَيْ اغْتَسِلُوا وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } فالكلام ( (
( والكلام ) ) ) في الْجَنَابَةِ
____________________
(1/35)
في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما تَثْبُتُ بِهِ الْجَنَابَةُ وَيَصِيرُ
الشَّخْصُ بِهِ جُنُبًا
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَنَابَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِأُمُورٍ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عليه
وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فيه
أَمَّا الْمُجْمَعُ عليه فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ عن شَهْوَةٍ
دَفْقًا من غَيْرِ إيلَاجٍ بِأَيِّ سَبَبٍ حَصَلَ الْخُرُوجُ كَاللَّمْسِ
وَالنَّظَرِ وَالِاحْتِلَامِ حتى يَجِبَ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم الْمَاءُ من الْمَاءِ أَيْ الِاغْتِسَالُ من الْمَنِيِّ ثُمَّ
إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ ولم يَجِبْ
بِخُرُوجِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ
الْمَخْصُوصَةِ لَا غير لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا إن قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِإِنْزَالِ
الْمَنِيِّ اسْتِمْتَاعٌ بِنِعْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا في جَمِيعِ الْبَدَنِ وهو
اللَّذَّةُ فَأَمَرَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ
وَهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ في الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ
وَالثَّانِي إن الْجَنَابَةَ تَأْخُذُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ
لِأَنَّ الْوَطْءَ الذي هو سَبَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِعْمَالٍ لِجَمِيعِ
ما في الْبَدَنِ من الْقُوَّةِ حتى يَضْعُفُ الْإِنْسَانُ بِالْإِكْثَارِ منه
وَيَقْوَى بِالِامْتِنَاعِ فإذا أَخَذَتْ الْجَنَابَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ
الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَدَثُ فإنه لَا يَأْخُذُ إلَّا
الظَّاهِرَ من الْأَطْرَافِ لِأَنَّ سَبَبَهُ يَكُونُ بِظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ من
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا يَكُونَانِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ
فَأَوْجَبَ غَسْلَ ظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ لَا جَمِيعَ الْبَدَنِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ غَسْلَ الْكُلِّ أو الْبَعْضِ وَجَبَ وَسِيلَةً إلَى
الصَّلَاةِ التي هِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْقِيَامُ بين
يَدَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي على أَطْهُرْ
الْأَحْوَالِ وَأَنْظَفِهَا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ في
الْخِدْمَةِ وَكَمَالُ النَّظَافَةِ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهَذَا
هو الْعَزِيمَةُ في الْحَدَثِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذلك مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ
فَاكْتَفَى فيه بِأَيْسَرِ النَّظَافَةِ وَهِيَ تَنْقِيَةُ الْأَطْرَافِ التي
تَنْكَشِفُ كَثِيرًا وَتَقَعُ عليها الْأَبْصَارُ أَبَدًا وَأُقِيمَ ذلك مَقَامَ
غَسْلِ كل الْبَدَنِ رخصة دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَتَيْسِيرًا فَضْلًا من اللَّهِ
وَنِعْمَةً وَلَا حَرَجَ في الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ فَبَقِيَ
الْأَمْرُ فيها على الْعَزِيمَةِ
وَالْمَرْأَةُ في الِاحْتِلَامِ كالرجل لِمَا رُوِيَ عن أُمِّ سُلَيْمٍ أنها سَأَلَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْمَرْأَةِ تَرَى في مَنَامِهَا مِثْلَ
ما يَرَى الرَّجُلُ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنْ كان منها مِثْلُ ما
يَكُونُ من الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ
وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كانت مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ
عنها وَكَانَتْ تَدْخُلُ عليها فَدَخَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَأُمُّ سُلَيْمٍ عِنْدَهَا فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ إذَا رَأَتْ
أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا في الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فقالت أُمُّ سَلَمَةَ
لِأُمِّ سُلَيْمٍ تَرِبَتْ يَدَاك يا أُمَّ سُلَيْمٍ فضحت ( ( ( فضحكت ) ) )
النِّسَاءُ عِنْدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت أُمُّ سُلَيْمٍ إنَّ
اللَّهَ لَا ليستحي ( ( ( يستحي ) ) ) من الْحَقِّ وَإِنَّا إنْ نَسْأَلْ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْنَا خَيْرٌ من أَنْ نَكُونَ
فيه على عَمًى فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَلْ أَنْتِ يا أُمَّ
سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاك يا أُمَّ سُلَيْمٍ عليها الْغُسْلُ إذَا وَجَدَتْ
الْمَاءَ
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ في نَوَادِرِهِ إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ ولم يَخْرُجْ
الْمَاءُ من إحْلِيلِهِ لَا غُسْلَ عليه وَالْمَرْأَةُ إذَا احْتَلَمَتْ ولم
يَخْرُجْ الْمَاءُ إلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا اغْتَسَلَتْ لِأَنَّ لها فَرْجَيْنِ
وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا له حُكْمُ الظَّاهِرِ حتى يُفْتَرَضَ إيصَالُ الْمَاءِ
إلَيْهِ في الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ بَلَغَ ذلك
الْمَوْضِعَ ولم يَخْرُجْ حتى لو كان الرَّجُلُ أَقْلَفَ فَبَلَغَ الْمَاءُ
قُلْفَتَهُ وَجَبَ عليه الْغُسْلُ
وَالثَّانِي إيلَاجُ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ في السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ أَنْزَلَ
أو لم يُنْزِلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا
اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بَعْدَ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم وكان الْمُهَاجِرُونَ يُوجِبُونَ الْغُسْلَ وَالْأَنْصَارُ لَا
بَعَثُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فقالت
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ
وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ فَعَلْت أنا
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاغْتَسَلْنَا فَقَدْ رَوَتْ قَوْلًا
وَفِعْلًا
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه ( ( ( عنها ) ) ) أَنَّهُ قال في
الْإِكْسَالِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا من مَاءٍ وَلِأَنَّ
إدْخَالَ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ الْمُعْتَادِ من الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِنُزُولِ
الْمَنِيِّ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا
وَكَذَا الْإِيلَاجُ في السَّبِيلِ الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاجِ في
السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ في وُجُوبِ الْغُسْلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ
أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا من مَاءٍ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا لم
يُوجِبْ الْحَدَّ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ في وُجُوبِ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ
الْإِيلَاجَ فيه سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً مِثْلَ الْإِيلَاجِ في السَّبِيلِ
الْمُعْتَادِ وَالسَّبَبُ
____________________
(1/36)
يَقُومُ
مَقَامَ الْمُسَبِّبِ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ
وَلَا غُسْلَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ وَكَذَا الْإِيلَاجُ في
الْبَهَائِمِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ما لم يُنْزِلْ وَكَذَا الِاحْتِلَامُ لِأَنَّ
الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وفي الْبَهِيمَةِ ليس نَظِيرَ الْفِعْلِ في
فَرْجِ الْإِنْسَانِ في السَّبَبِيَّةِ
وَكَذَا الِاحْتِلَامُ فَيُعْتَبَرُ في ذلك كُلِّهِ حَقِيقَةُ الْإِنْزَالِ
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَمِنْهَا أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ لَا عن شَهْوَةٍ
وَيَخْرُجُ لَا عن شَهْوَةٍ بِأَنْ ضَرَبَ على ظَهْرِهِ ضَرْبًا قَوِيًّا أو
حَمَلَ حَمْلًا ثَقِيلًا فَلَا غُسْلَ فيه عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فيه
الْغُسْلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال الْمَاءُ من الْمَاءِ أَيْ الِاغْتِسَالُ من الْمَنِيِّ من غَيْرِ
فَصْلٍ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن
الْمَرْأَةِ تَرَى في الْمَنَامِ يُجَامِعُهَا زَوْجُهَا فقال صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَتَجِدُ لَذَّةً
فَقِيلَ نعم فقال عليها الِاغْتِسَالُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ وَلَوْ لم
يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِالشَّهْوَةِ وَعَدَمِهَا لم يَكُنْ لِلسُّؤَالِ عن
اللَّذَّةِ مَعْنًى وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ مُعَلَّقٌ بِنُزُولِ
الْمَنِيِّ وَأَنَّهُ في اللُّغَةِ اسْمٌ المنزل ( ( ( للمنزل ) ) ) عن شَهْوَةٍ
لِمَا نَذْكُرُ في تَفْسِيرِ الْمَنِيِّ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ من
الْمَاءِ الْمَاءُ الْمُتَعَارَفُ وهو الْمُنْزَلُ عن شَهْوَةٍ لِانْصِرَافِ
مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَمِنْهَا أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ عن شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عن شَهْوَةٍ
وإنه يُوجِبُ الْغُسْلَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
لَا يُوجِبُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الِانْفِصَالُ عن شَهْوَةٍ وَعِنْدَهُ
الْمُعْتَبَرُ هو الِانْفِصَالُ مع الْخُرُوجِ عن شَهْوَةٍ وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ
في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ فَانْتَبَهَ وَقَبَضَ على
عَوْرَتِهِ حتى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ
وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ فَاغْتَسَلَ قبل أَنْ يَبُولَ ثُمَّ خَرَجَ منه
بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن جَانِبَ الِانْفِصَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَجَانِبَ
الْخُرُوجِ يَنْفِيهِ فَلَا يَجِبُ مع الشَّكِّ وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ
الْوُجُوبَ وَالْعَدَمَ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَوْلَى احْتِيَاطًا
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ على فَخِذِهِ أو على فِرَاشِهِ
بَلَلًا على صُورَةِ الْمَذْيِ ولم يَتَذَكَّرْ الِاحْتِلَامَ فَعَلَيْهِ
الْغُسْلُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجِبُ
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لو كان مَنِيًّا أَنَّ عليه الْغُسْلُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّهُ عن احْتِلَامٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إنْ كان وَدْيًا لَا غُسْلَ عليه
لِأَنَّهُ بَوْلٌ غَلِيظٌ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ
أَنَّهُ إذَا وَجَدَ على فرشه ( ( ( فراشه ) ) ) مَنِيًّا فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وكان يَقِيسُهُ على ما ذَكَرْنَا من الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَذْيَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ
الِاغْتِسَالِ وَلَهُمَا ما رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ
الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا رَأَى الرَّجُلُ بَعْدَ
ما يَنْتَبِهُ من نَوْمِهِ بَلَّةً ولم يذكر احْتِلَامًا اغْتَسَلَ وَإِنْ رَأَى
احْتِلَامًا ولم يَرَ بَلَّةً فَلَا غُسْلَ عليه وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ قد يَرِقُّ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ في صُورَةِ
الْمَذْيِ وقد يَخْرُجُ ذَائِبًا لِفَرْطِ حَرَارَةِ الرَّجُلِ أو ضَعْفِهِ
فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في الْإِيجَابِ
ثُمَّ الْمَنِيُّ خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ منه الذَّكَرُ وقال الشَّافِعِيُّ
في كِتَابِهِ أن له رَائِحَةَ الطَّلْعِ وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى
الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ
يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَكَذَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها
فَسَرَّتْ هذه الْمِيَاهَ بِمَا ذَكَرْنَا
وَلَا غُسْلَ في الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ أَمَّا الْوَدْيُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَّةُ
الْبَوْلِ وَأَمَّا الْمَذْيُ فَلِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
قال كُنْت رجلا ( ( ( فحلا ) ) ) مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت
الْمِقْدَادَ بن الْأَسْوَدِ رضي اللَّهُ عنه فَسَأَلَهُ فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ الْوُضُوءُ نَصَّ على الْوُضُوءِ
وَأَشَارَ إلَى نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ بِعِلَّةِ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ
بِقَوْلِهِ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَنَابَةِ فما لَا يُبَاحُ
لِلْمُحْدِثِ فِعْلُهُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ بِدُونِ غِلَافِهِ وَمَسِّ
الدَّرَاهِمِ التي عليها الْقُرْآنُ وَنَحْوِ ذلك لَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ من
طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ وَلَوْ كانت
الصَّحِيفَةُ على الْأَرْضِ فَأَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ عليها
رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِأَنَّهُ ليس بِحَامِلٍ لِلصَّحِيفَةِ
وَالْكِتَابَةُ تُوجَدُ حَرْفًا حَرْفًا وَهَذَا ليس بِقُرْآنٍ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ
تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْكَافِرَ أَنْ يَمَسَّ
الْمُصْحَفَ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجَسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عن مَسِّهِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا اغْتَسَلَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْحَدَثُ
وقد زَالَ بِالْغُسْلِ وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ في
قَلْبِهِ لَا في يَدِهِ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يُبَاحُ له ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجَنَابَةَ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْحَدَثِ
الْآخَرِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ من الْقِرَاءَةِ
كَذَا
____________________
(1/37)
الْجَنَابَةُ
وَلَنَا ما روين ( ( ( روي ) ) ) إن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان لَا
يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَنَابَةُ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شيئا من الْقُرْآنِ وما
ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ فَاسِدٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ حَلَّ الْفَمَ ولم
يَحِلَّ الْآخَرَ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَيَسْتَوِي في
الْكَرَاهَةِ الْآيَةُ التَّامَّةُ وما دُونَ الْآيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْمَشَايِخِ
وقال الطَّحَاوِيُّ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ ما دُونَ الْآيَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ
الْعَامَّةِ لِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ من الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ
وَمُحَافَظَةً حُرْمَتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ فيلزم ( ( ( فيكره ) ) ) ذلك كُلُّهُ لَكِنْ إذَا قَصَدَ
التِّلَاوَةَ فَأَمَّا إذَا لم يَقْصِدْ بِأَنْ قال بِاسْمِ اللَّهِ لِافْتِتَاحِ
الْأَعْمَالِ تَبَرُّكًا أو قال الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلشُّكْرِ لَا بَأْسَ بِهِ
لِأَنَّهُ من بَابِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجُنُبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ
عن ذلك
وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ في الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ لِأَنَّ ذلك
مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عن ذلك
وَأَمَّا في الْحَمَّامِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ فَلَا تُكْرَهُ
وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذلك
يَتَيَمَّمُ وَيَدْخُلُ سَوَاءٌ كان الدُّخُولُ لِقَصْدِ الْمُكْثِ أو
لِلِاجْتِيَازِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُبَاحُ له الدُّخُولُ بِدُونِ التَّيَمُّمِ إذَا كان
مُجْتَازًا
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا
عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا }
قِيلَ الْمُرَادُ من الصَّلَاةِ مَكَانُهَا وهو الْمَسْجِدُ كَذَا ورد ( ( ( روي )
) ) عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَابِرُ سَبِيلٍ هو الْمَارُّ يُقَالُ عَبَرَ أَيْ مَرَّ
نهى الْجُنُبِ عن دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ وَاسْتَثْنَى
عَابِرِي السَّبِيلِ وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى منه
فَيُبَاحُ له الدُّخُولُ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي ( ( ( رسول ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
سُدُّوا الْأَبْوَابَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ
وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عن الْمَسَاجِدِ نفي الْحِلَّ من غَيْرِ فَصْلٍ بين
الْمُجْتَازِ وَغَيْرِهِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم
أَنَّ الْمُرَادَ هو حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وإن عَابِرَ السَّبِيلِ هو الْمُسَافِرُ
الْجُنُبُ الذي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَانَ هذا إبَاحَةَ
الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُسَافِرِ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَبِهِ نَقُولُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فيه بَقَاءَ اسْمِ
الصَّلَاةِ على حَالِهَا فَكَانَ أَوْلَى أو يَقَعُ التَّعَارُضُ بين
التَّأْوِيلَيْنِ فَلَا تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً له
وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ طَافَ جَازَ مع النُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا في
الْمُحْدِثِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ مع الْجَنَابَةِ أَفْحَشُ لِأَنَّهَا
أَغْلَظُ وَيَصِحُّ من الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ
الطَّهَارَةَ شَرْطُ جِوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ وَيَجِبُ عليه كِلَاهُمَا
حتى يَجِبَ عليه قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ من
وُجُوبِ الصَّوْمِ بِلَا شَكٍّ وَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ مع الْجَنَابَةِ وَلَا
يُمْنَعُ من وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مع قِيَامِ
الْجَنَابَةِ لِأَنَّ في وُسْعِهِ رَفْعَهَا بِالْغُسْلِ ( قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ )
وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ لِمَا رُوِيَ عن
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وهو
جُنُبٌ قال نعم وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قبل أَنْ
يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أنها قالت كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنَامُ وهو جُنُبٌ من غَيْرِ أَنْ
يَمَسَّ مَاءً وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ ليس بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هو
لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ في النَّوْمِ ذلك وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أو
يَشْرَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلَ
وَيَشْرَبَ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ حَلَّتْ الْفَمَ فَلَوْ شَرِبَ قبل أَنْ
يَتَمَضْمَضَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَيَصِيرُ شَارِبًا الماء ( ( ( بالماء
) ) ) الْمُسْتَعْمَلِ وَيَدُهُ لَا تَخْلُو عن نَجَاسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَغْسِلَهَا ثُمَّ يَأْكُلَ
وَهَلْ يَجِبُ على الزَّوْجِ ثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ سَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ غَنِيَّةً أو فَقِيرَةً غير
أنها إنْ كانت فَقِيرَةً يُقَالُ لِلزَّوْجِ إمَّا أَنْ تَدَعَهَا حتى تَنْتَقِلَ
إلَى الْمَاءِ أو تَنْقُلَ الْمَاءَ إلَيْهَا
وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ وهو قَوْلُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لها منه فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الذي لِلشُّرْبِ
وَذَلِكَ ( يجب ) عليه
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ
} أَيْ يَغْتَسِلْنَ وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ
دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك أَيْ أَيَّامَ حَيْضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي
وَصَلِّي وَلَا نَصَّ في وُجُوبِ الْغُسْلِ من النِّفَاسِ وَإِنَّمَا عُرِفَ
بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ثُمَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً
على خَبَرٍ في الْبَابِ لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا نَقْلَهُ اكْتِفَاءً بِالْإِجْمَاعِ
عن نَقْلِهِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَقْوَى وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ قَاسُوا على دَمِ
الْحَيْضِ لِكَوْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمًا خَارِجًا من الرَّحِمِ فَبَنَوْا
الْإِجْمَاعَ على الْقِيَاسِ إذْ الْإِجْمَاعُ
____________________
(1/38)
يَنْعَقِدُ
عن الْخَبَرِ وَعَنْ الْقِيَاسِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
فَصْلٌ ثُمَّ الْكَلَامُ يَقَعُ في تَفْسِيرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
وَالِاسْتِحَاضَةِ وَأَحْكَامِهَا أَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ في عُرْفِ الشَّرْعِ
اسْمٌ لِدَمٍ خَارِجٍ من الرَّحِمِ لَا يَعْقُبُ الْوِلَادَةَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ
مَعْلُومٍ في وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ لَوْنِ الدَّمِ
وَحَالِهِ وَمَعْرِفَةِ خُرُوجِهِ وَمِقْدَارِهِ وَوَقْتِهِ
أَمَّا لَوْنُهُ فَالسَّوَادُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ الْحُمْرَةُ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ دَمُ الْحَيْضِ هو الْأَسْوَدُ فَقَطْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ
عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حين كانت
مُسْتَحَاضَةً إذَا كان الْحَيْضُ فإنه دَمٌ أَسْوَدُ فَأَمْسِكِي عن الصَّلَاةِ
وإذا كان الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى } جَعَلَ
الْحَيْضَ أَذًى وَاسْمُ الْأَذَى لَا يَقْتَصِرُ على الْأَسْوَدِ وَرُوِيَ أَنَّ
النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكُرْسُفِ إلَى عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
فَكَانَتْ تَقُولُ لَا حتى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ أَيْ الْبَيَاضَ
الْخَالِصَ كَالْجِصِّ فَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّ ما سِوَى الْبَيَاضِ حَيْضٌ
وَالظَّاهِرُ أنها إنَّمَا قالت ذلك سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ لَوْنَ الدَّمِ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَصْرِ على لَوْنٍ
وَاحِدٍ وما رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمَشْهُورِ مع ما
أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم عَلِمَ من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَيَّامَ حَيْضِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ
فَبَنَى الْحُكْمَ في حَقِّهَا على اللَّوْنِ لَا في حَقِّ غَيْرِهَا وَغَيْرُ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَعْلَمُ أَيَّامَ الْحَيْضِ بِلَوْنِ الدَّمِ
وَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَفِي آخِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ حيض بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا
وَكَذَا في أَوَّلِ الْأَيَّامِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو
يُوسُفَ لَا يَكُونُ حَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحَيْضَ هو الدَّمُ الْخَارِجُ من الرَّحِمِ لَا من
الْعِرْقِ وَدَمُ الرَّحِمِ يَجْتَمِعُ فيه في زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ
الصَّافِي منه ثُمَّ الْكَدِرُ وَدَمُ الْعِرْقِ يَخْرُجُ الْكَدِرُ منه أَوَّلًا
ثُمَّ الصَّافِي فَيُنْظَرُ إنْ خَرَجَ الصَّافِي أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ من
الرَّحِمِ فَيَكُونُ حَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ الْكَدِرُ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ من
( الْعِرْقِ ) فَلَا يَكُونُ حَيْضًا
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَقَوْلُهُ
إنَّ كُدْرَةَ دَمِ الرَّحِمِ تَتْبَعُ صافية مَمْنُوعٌ وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ
مَعْلُومٍ وقد ( ( ( بل ) ) ) يَتْبَعُ الصَّافِي الْكَدِرَ خُصُوصًا فِيمَا ( إذا
) كان الثُّقْبُ من الْأَسْفَلِ وَأَمَّا التُّرْبَةُ فَهِيَ كَالْكُدْرَةِ
وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيها فَقَدْ كان الشَّيْخُ
أبو مَنْصُورٍ يقول إذَا رَأَتْ في أَوَّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ ابْتِدَاءً كان حَيْضًا
أَمَّا إذَا رَأَتْ في آخِرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ وَاتَّصَلَ بِهِ أَيَّامَ
الْحَيْضِ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَالْعَامَّةُ على أنها حَيْضٌ كَيْفَمَا كانت
وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَقَدْ قال بَعْضُهُمْ هِيَ مِثْلُ الْكُدْرَةِ فَكَانَتْ
على الْخِلَافِ وقال بَعْضُهُمْ الْكَدِرَةُ وَالتُّرْبَةُ وَالصُّفْرَةُ
وَالْخُضْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَيْضًا على الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ الْعَجَائِزِ
فَأَمَّا في الْعَجَائِزُ فَيُنْظَرُ إنْ وَجَدْتَهَا على الْكُرْسُفِ وَمُدَّةُ
الْوَضْعِ قَرِيبَةٌ فَهِيَ حَيْضٌ وَإِنْ كانت مُدَّةُ الْوَضْعِ طَوِيلَةً لم
يَكُنْ حَيْضًا لِأَنَّ رَحِمَ الْعَجُوزِ يَكُونُ مُنْتِنًا فَيَتَغَيَّرُ
الْمَاءُ لِطُولِ الْمُكْثِ وما عَرَفْت من الْجَوَابِ في هذه الْأَبْوَابِ في
الْحَيْضِ فَهُوَ الْجَوَابُ فيها في النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْحَيْضِ
وَأَمَّا خُرُوجُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ من بَاطِنِ الْفَرْجِ إلَى ظَاهِرِهِ
إذْ لَا يَثْبُتُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالِاسْتِحَاضَةُ إلَّا بِهِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ في
الِاسْتِحَاضَةِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا
يَثْبُتَانِ إذَا أَحَسَّتْ بِبُرُوزِ الدَّمِ وَإِنْ لم يَبْرُزْ وَجْهُ
الْفَرْقِ بين الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ على هذه الرِّوَايَةِ
أَنَّ لَهُمَا أَعْنِي الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَقْتًا مَعْلُومًا فَتَحْصُلُ
بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ بِالْإِحْسَاسِ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ لِأَنَّهُ
لَا وَقْتَ لها تُعْلَمُ بِهِ فَلَا بُدَّ من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِيُعْلَمَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قالت لِعَائِشَةَ رضي
اللَّهُ عنها أَنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا فَتَنْظُرُ إلَيْهَا
فقالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كنا في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَا نَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْمَسِّ وَالْمَسُّ لَا يَكُونُ إلَّا
بَعْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ
وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في أَصْلِ
التَّقْدِيرِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما هو مُقَدَّرٌ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال
عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أنه مُقَدَّرٌ وقال مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَيْسَ
لِأَقَلِّهِ حَدٌّ وَلَا لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ وَاحْتَجَّ قَوْله تَعَالَى {
وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى } جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى من غَيْرِ
تَقْدِيرٍ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ من الرَّحِمِ
وَالْقَلِيلُ خَارِجٌ من الرَّحِمِ كَالْكَثِيرِ وَلِهَذَا لم يُقَدِّرْ دَمَ
النِّفَاسِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَقَلُّ ما يَكُونُ الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ
الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ جميعا
____________________
(1/39)
ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ ما يَكُونُ من الْحَيْضِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ وما زَادَ على
الْعَشَرَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَرُوِيَ عن جَمَاعَةٍ
من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَأَنَسُ بن
مَالِكٍ وَعِمْرَانُ بن حُصَيْنٍ وَعُثْمَانُ بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ إنهم قالوا الْحَيْضُ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ سِتٌّ سبع ثَمَانٌ
تِسْعٌ عَشْرٌ
ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالتَّقْدِيرُ
الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ المقدر ( ( (
المقدور ) ) ) وبه ( ( ( به ) ) ) تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ
وَالْإِجْمَاعَ خَرَجَا بَيَانًا لِلْمَذْكُورِ في الْكِتَابِ وَالِاعْتِبَارُ
بِالنِّفَاسِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ هُنَاكَ عُرِفَ خَارِجًا من
الرَّحِمِ بِقَرِينَةِ الْوَلَدِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا
وَأَمَّا الثَّانِي فذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَحُكِيَ عن أبي يُوسُفَ في النَّوَادِرِ يَوْمَانِ
وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيْلَتَيْهِمَا
الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ قال لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ
الْقَلِيلِ حَيْضًا لِأَنَّ أَقْبَالَ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ لَوَثٍ
عَادَةً فَيُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ أو بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ
مِقْدَارٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَحُجَّتُنَا ما ذَكَرْنَا مع مَالِكٍ وَحُجَّةُ
ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ
وَهَذَا على الْإِطْلَاقِ غَيْرُ سَدِيدٍ فإنه لو جَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ
وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لَجَازَ إقَامَةُ
يَوْمَيْنِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي ضَرُورَةُ دُخُولِ
الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ في الحديث لَا مَقْصُودًا وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ
بِاللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي
تَحْتَ اسْمِ الْأَيَّامِ ليس من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَقْصُودًا
لِأَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَتَنَاوَلُ ما
بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي لُغَةً فَكَانَ دُخُولًا مَقْصُودًا لَا ضَرُورَةً
وَأَمَّا أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَعَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ خَمْسَةَ عشر وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا
تُصَلِّي ثُمَّ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ الذي تُصَلِّي فيه وهو الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ
كَذَا الشَّطْرُ الْآخَرُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الشَّهْرَ مَقَامَ حَيْضٍ
وَطُهْرٍ في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ
الشَّهْرِ على الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وهو أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ طُهْرًا
وَنِصْفُهُ حَيْضًا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وإجماع الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ
الْمُرَادُ من الشَّطْرِ الْمَذْكُورِ النِّصْفَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أنها
لَا تَقْعُدُ نِصْفَ عُمْرِهَا ألا تَرَى أنها لَا تَقْعُدُ حَالَ صِغَرِهَا
وَإِيَاسِهَا وَكَذَا زَمَانُ الطُّهْرَ يَزِيدُ على زَمَانِ الْحَيْضِ عَادَةً
فَكَانَ الْمُرَادُ ما يُقَرِّبُ من النِّصْفِ وهو عَشْرَةٌ وَكَذَا ليس من
ضَرُورَةِ انْقِسَامِ الشَّهْرِ على الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ أَنْ تَكُونَ
مُنَاصَفَةً إذْ قد تَكُونُ الْقِسْمَةُ مُثَالَثَةً فَيَكُونُ ثُلُثُ الشَّهْرِ
لِلْحَيْضِ وَثُلُثَاهُ لِلطُّهْرِ والله أعلم
وإذا عرف ( ( ( عرفت ) ) ) مِقْدَارَ الْحَيْضِ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ
الطُّهْرِ الصَّحِيحِ الذي يُقَابِلُ الْحَيْضَ وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشْرَ
يَوْمًا عِنْدَنَا إلَّا ما رُوِيَ عن أبي حَازِمٍ الْقَاضِي وَأَبِي عبد اللَّهِ
الْبَلْخِيّ أَنَّهُ تِسْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِنَا
وقال مَالِكٌ عَشْرَةُ أَيَّامِ
وَجْهُ قَوْلٍ أبي حَازِمٍ وَأَبِي عبد اللَّهِ إن الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ على
الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَادَةً وقد قام الدَّلِيلُ على أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ
عَشْرَةً فَيَبْقَى من الشَّهْرِ عِشْرُونَ إلَّا أَنَّا نَقَصْنَا يَوْمًا
لِأَنَّ الشَّهْرَ قد يَنْقُصُ بِيَوْمٍ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ على ما قُلْنَا وَنَوْعٌ من الِاعْتِبَارِ
بِأَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ لِمُدَّةِ الطُّهْرِ شَبَهًا بِمُدَّةِ
الْإِقَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطُّهْرِ تَعُودُ إلَى ما سَقَطَ
عنها بِالْحَيْضِ كما أَنَّ الْمُسَافِرَ بِالْإِقَامَةِ يَعُودُ إلَى ما سَقَطَ
عنه بِالسَّفَرِ ثُمَّ أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
كَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ وما قَالَاهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا
تَحِيضُ في الشَّهْرِ عَشَرَةً لَا مَحَالَةَ وَلَوْ حَاضَتْ عَشَرَةً لَا
تَطْهُرُ عِشْرِينَ لَا مَحَالَةَ بَلْ قد تَحِيضُ ثَلَاثَةً وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ
وقد تَحِيضُ عَشَرَةً وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ
وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ فَلَا غَايَةَ له حتى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا
طَهُرَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ ما تَعْمَلُ الطَّاهِرَاتُ بِلَا
خِلَافٍ بين الْأَئِمَّةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ في بَنَاتِ آدَمَ أَصْلٌ وَالْحَيْضُ
عَارِضٌ فإذا لم يَظْهَرْ الْعَارِضُ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ على الْأَصْلِ
وَإِنْ طَالَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وَرَاءَ ذلك وهو أَنَّ أَكْثَرَ
الطُّهْرِ الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ كَمْ هو
قال أبو عِصْمَةَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ وأبو حَازِمٍ الْقَاضِي أن
الطُّهْرَ وَإِنْ طَالَ يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ حتى أن الْمَرْأَةَ إذَا
حَاضَتْ خَمْسَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ بها الدَّمُ يُبْنَى
الِاسْتِمْرَارُ عليه فَتَقْعُدُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي سِتَّةً وَكَذَا لو رَأَتْ
أَكْثَرَ من سِتَّةٍ وقال محمد بن إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ من
أَهْلِ بُخَارَى أن أَكْثَرَ الطُّهْرِ
____________________
(1/40)
الذي
يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَقَلُّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ وإذا كان سِتَّةَ أَشْهُرٍ
فَصَاعِدًا لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ وإذا لم يَصْلُحُ له تَرُدُّ
أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ فَتَقْعُدُ ما كانت رَأَتْ فيه من خَمْسَةٍ أو سِتَّةٍ
أو نَحْوِ ذلك وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ هَكَذَا دَأْبُهَا
وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وأبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ
الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وإذا زَادَ عليه
تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ وقال بَعْضُهُمْ أَكْثَرُهُ شَهْرٌ وإذا زَادَ
عليه تَرُدُّ إلَى الشَّهْرِ
وقال بَعْضُهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَدَلَائِلُ هذه الْأَقَاوِيلِ
تُذْكَرُ في كِتَابِ الْحَيْضِ
وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ حين تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا
عليه أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ فَلَا يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا
وإذا بَلَغَتْ تِسْعًا كان حَيْضًا إلَى أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ على
اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ في حَدِّهِ وَلَوْ بَلَغَتْ ذلك وقد انْقَطَعَ عنها
الدَّمُ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذلك لَا يَكُونُ حَيْضًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ
حَيْضًا وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ ذلك كُلِّهِ كِتَابِ الْحَيْضِ
وَأَمَّا النِّفَاسُ فَهُوَ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ من
الرَّحِمِ عَقِيبِ الْوِلَادَةِ
وَسُمِّيَ نِفَاسًا إمَّا لِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ أو لخروج ( ( ( بخروج
) ) ) النَّفْسِ وهو الْوَلَدُ أو الدَّمُ وَالْكَلَامُ في لَوْنِهِ وَخُرُوجِهِ
كَالْكَلَامِ في دَمِ الْحَيْضِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في مِقْدَارِهِ فَأَقَلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِلَا خِلَافٍ
حتى إنها إذَا وَلَدَتْ وَنَفِسَتْ وَقْتَ صَلَاةٍ لَا تَجِبُ عليها تِلْكَ
الصَّلَاةُ لِأَنَّ النِّفَاسَ دَمُ الرَّحِمِ وقد قام الدَّلِيلُ على كَوْنِ
الْقَلِيلُ منه خَارِجًا من الرَّحِمِ وهو شَهَادَةُ الْوِلَادَةِ وَمِثْلُ هذه
الدَّلَالَةِ لم يُوجَدْ في بَابِ الْحَيْضِ فلم يُعْرَفْ الْقَلِيلُ منه أَنَّهُ
من الرَّحِمِ فلم يَكُنْ حَيْضًا على أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا
يَتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ أَيْضًا كما قال مَالِكٌ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا
التَّقْدِيرَ ثَمَّ بِالتَّوْقِيفِ وَلَا تَوْقِيفَ هَهُنَا فَلَا يَتَقَدَّرُ
فإذا طَهُرَتْ قبل الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ بِنَاءً على الظَّاهِرِ
لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ
بِالْمَوْهُومِ وما ذُكِرَ من الِاخْتِلَافِ بين أَصْحَابِنَا في أَقَلِّ
النِّفَاسِ فَذَاكَ في مَوْضِعٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلُقَتْ بَعْدَ
ما وَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَتْ وَقَالَتْ نَفِسْت ثُمَّ طَهُرْت ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ
وَثَلَاثَ حِيَضٍ فَبِكَمْ تُصَدَّقُ في النِّفَاسِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا
تُصَدَّقُ إلا إذَا ادَّعَتْ في أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَحَدَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ وَإِنْ كان قَلِيلًا على ما يُذْكَرُ في كِتَابِ
الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ سِتُّونَ يَوْمًا وَلَا دَلِيلَ لَهُمَا سِوَى
ما حُكِيَ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كان يقول سِتُّونَ يَوْمًا وَلَا حُجَّةَ في
قَوْلِ الشَّعْبِيِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا
وَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَهِيَ ما انْتَقَصَ عن أَقَلِّ الْحَيْضِ وما زَادَ على
أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ الْمُسْتَحَاضَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ
وَصَاحِبَةُ عَادَةٍ وَالْمُبْتَدَأَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ بِالْحَيْضِ
وَمُبْتَدَأَةٌ بِالْحَبَلِ وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ نَوْعَانِ صَاحِبَةُ
الْعَادَةِ في الْحَيْضِ وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ في النِّفَاسِ
أَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ وَهِيَ التي اُبْتُدِئَتْ بِالدَّمِ
وَاسْتَمَرَّ بها فَالْعَشَرَةُ من أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ لِأَنَّ هذا دَمٌ في
أَيَّامِ الْحَيْضِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَلُ حَيْضًا وما زَادَ على
الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ على
الْعَشَرَةِ وَهَكَذَا في كل شَهْرٍ
وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَّةِ في الْحَيْض إذَا كانت عَادَتُهَا عَشْرَةً
فَزَادَ الدَّمُ عليها فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ وَإِنْ كانت عَادَتُهَا
خَمْسَةً فَالزِّيَادَةُ عليها حَيْضٌ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا في الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ
فَعَادَتُهَا حَيْضٌ وما زَادَ عليها اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا أَيْ
أَيَّامُ حَيْضِهَا وَلِأَنَّ ما رَأَتْ في أَيَّامِهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ وما
زَادَ على الْعَشَرَةِ اسْتِحَاضَةٌ بِيَقِينٍ وما بين ذلك مُتَرَدِّدٌ بين أَنْ
يُلْحَقَ بِمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ حَيْضًا فَلَا تُصَلِّي وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ
بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَتُصَلِّي فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ
بِالشَّكِّ وَإِنْ لم يَكُنْ لها عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنْ كانت تَرَى شَهْرًا
سِتًّا وَشَهْرًا سَبْعًا فَاسْتَمَرَّ بها الدَّمُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ في حَقِّ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالرَّجْعَةِ بِالْأَقَلِّ وفي حَقِّ انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ وَالْغَشَيَانِ بِالْأَكْثَرِ فَعَلَيْهَا إذَا رَأَتْ سِتَّةَ
أَيَّامٍ في الِاسْتِمْرَارِ أَنْ تَغْتَسِلَ في الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ
السَّادِسِ وَتُصَلِّيَ فيه وَتَصُومَ إنْ كان دخل عليها شَهْرُ رَمَضَانَ
لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّابِعُ حَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا
يَكُونُ فَدَارَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بين الْجَوَازِ منها وَالْوُجُوبِ عليها
في الْوَقْتِ فَيَجِبُ
وَتَصُومُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا إنْ فَعَلَتْ وَلَيْسَ عليها أَوْلَى
إن تَتْرُكَ وَعَلَيْهَا ذلك وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ تَرْكَ
الرَّجْعَةِ مع
____________________
(1/41)
ثُبُوتِ
حَقِّ الرَّجْعَةِ أَوْلَى من إثْبَاتِهَا من غَيْرِ حَقِّ الرَّجْعَةِ
وَأَمَّا في انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ( وَالْغَشَيَانِ ) فَتَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ
لِأَنَّهَا إنْ تَرَكَتْ التَّزَوُّجَ مع جَوَازِ التَّزَوُّجِ أَوْلَى من أَنْ
تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ وَكَذَا تَرْكُ الْغَشَيَانِ مع الْحِلِّ
أَوْلَى من الْغَشَيَانِ مع الْحُرْمَةِ فإذا جاء الْيَوْمُ الثَّامِنُ
فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثَانِيًا وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ الذي صَامَتْ في
الْيَوْمِ السَّابِعِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كان وَاجِبًا وَوَقَعَ الشَّكُّ في
السُّقُوطِ إنْ لم تَكُنْ حَائِضًا فيه صَحَّ صَوْمُهَا وَلَا قَضَاءَ عليها
وَإِنْ كانت حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ فَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ
بِالشَّكِّ وَلَيْسَ عليها قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا إنْ كانت طَاهِرَةً في
هذا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ وَإِنْ كانت حَائِضًا فيه فَلَا صَلَاةَ عليها
لِلْحَالِّ وَلَا الْقَضَاءِ في الثَّانِي وَلَوْ كانت عَادَتُهَا خَمْسَةً
فَحَاضَتْ سِتَّةً ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً ثُمَّ حَاضَتْ
حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ حتى يبني
الِاسْتِمْرَارُ عليها أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ
بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّمَا يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ على الْمَرَّةِ
الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعَادَةَ وَإِنْ
كانت لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ
فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَيْهَا هذا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا
عَاوَدَهَا الدَّمُ في يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذلك
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ في شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ
مُسْتَحَاضَةٌ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ في شَهْرٍ وَاحِدٍ
حَيْضَتَانِ وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ
خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وقد ذَكَرَ في الْأَصْلِ سُؤَالًا وقال أَرَأَيْت لو
رَأَتْ في أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشْرَ ثُمَّ
رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قد حَاضَتْ في شهر ( ( ( شهرين ) ) )
مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَجَابَ فقال إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ طُهْرًا آخَرَ كان
أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ على ذلك
وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَقَالَتْ إنِّي
حِضْت في شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لِشُرَيْحٍ مَاذَا
تَقُولُ في ذلك فقال إنْ أَقَامَتْ على ذلك بَيِّنَةً من بِطَانَتِهَا مِمَّنْ
يُرْضَى بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ منها فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه قالون
وَهِيَ بِالرُّومِيَّةِ حَسَنٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِذَلِكَ تَحْقِيقَ
النَّفْيِ أنها لَا تَجِدُ ذلك وَإِنَّ هذا لَا يَكُونُ كما قال اللَّهُ تَعَالَى
{ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ } أَيْ
لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا
وَدَمُ الْحَامِلِ ليس بِحَيْضٍ وَإِنْ كان مُمْتَدًّا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ هو حَيْضٌ في حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ
الْقُرْبَانِ لَا في حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ إذا أَقْبَلَ
قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالٍ وَحَالٍ وَلِأَنَّ
الْحَامِلَ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ
صَغِيرَةً أو آيِسَةً أو من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ
بِصَغِيرَةٍ وَلَا آيِسَةٍ فَكَانَتْ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّ
حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ في حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من
أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ على ذلك
وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ
وَمِثْلُ هذا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَالظَّاهِرُ أنها قَالَتْهُ سَمَاعًا من
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ
الْخَارِجِ من الرَّحِمِ وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَخْرُجُ من الرَّحِمِ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ
الرَّحِمِ فَلَا يَخْرُجُ منه شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن دَمَ
الْحَامِلِ قُرْءٌ وَالْكَلَامُ فيه وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِقُرْءٍ ما
ذَكَرْنَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الحديث لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْحَبْلِ
وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَبَلِ وَهِيَ التي حَبِلَتْ من زَوْجِهَا قبل أَنْ
تَحِيضَ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً على أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ
اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ
الزِّيَادَةُ على الْعَشَرَةِ في الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ على
الْأَرْبَعِينَ في النِّفَاسِ
وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَةِ في النِّفَاسِ إذَا رَأَتْ زيادة ( ( ( زيادتها ) )
) على عَادَتِهَا فَإِنْ كانت عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ
لِمَا مَرَّ وَإِنْ كانت دُونَ الْأَرْبَعِينَ فما زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إلَى
الْأَرْبَعِينَ
فَإِنْ زَادَ علي الْأَرْبَعِينَ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا
نِفَاسًا وما زَادَ عليها يَكُونُ اسْتِحَاضَةً ثُمَّ يَسْتَوِي الْجَوَابُ فِيمَا
إذَا كان خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ أو بِالطُّهْرِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كان خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا
كان بِالطُّهْرِ فَلَا لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
بِالطُّهْرِ إذَا كان بَعْدَهُ دَمٌ وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى ذلك وَبَيَانُهُ ما
ذُكِرَ في الْأَصْلِ إذَا كانت عَادَتُهَا في النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا
فَانْقَطَعَ دَمُهَا على رَأْسِ عِشْرِينَ يَوْمًا وَطَهُرَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ
تَمَامَ عَادَتِهَا فَصَلَّتْ وَصَامَتْ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ
بها حتى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ ذَكَرَ أنها مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ على
الثَّلَاثِينَ وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا في الْعَشَرَةِ التي صَامَتْ
فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ
قال الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ هذا على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ يَسْتَقِيمُ فَأَمَّا على
مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ
____________________
(1/42)
يَرَى
خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كان بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ
الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لها عِنْدَهُ وَإِنْ كان خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ
وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا في
هذا الْفَصْلِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ ما صَامَتْ
في الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وما تَرَاهُ النُّفَسَاءُ من الدَّمِ بين الْوِلَادَتَيْنِ فَهُوَ دَمٌ صَحِيحٌ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَاسِدٌ
بِنَاءً على أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ وفي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ
فَالنِّفَاسُ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ من الْوَلَدِ الثَّانِي وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ
الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ ما في
الْبَطْنِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فتعلق ( ( ( فيتعلق ) ) ) بِالْوَلَدِ
الْأَخِيرِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهَذَا لِأَنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى وَكَمَا
لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الجمع ( ( ( الحمل ) ) ) بِدُونِ وَضْعِ
الْحَمْلِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ من الْحُبْلَى لِأَنَّ النِّفَاسَ
بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَلِأَنَّ النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ من تَنَفُّسِ الرَّحِمِ
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك على الْكَمَالِ إلَّا بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَكَانَ
الْمَوْجُودُ قبل وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عنها بِالشَّكِّ كما إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا
وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّفَاسَ إنْ كان دَمًا يَخْرُجُ
عَقِيبَ النَّفْسِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كان دَمًا
يَخْرُجُ بَعْدَ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ فَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا بِخِلَافِ انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ لِأَنَّ ذلك يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ ولم يُوجَدْ وَالنِّفَاسُ
يَتَعَلَّقُ بِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ أو بِخُرُوجِ النَّفْسِ وقد وُجِدَ أو يقول
بَقَاءُ الْوَلَدِ في الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ لِانْفِتَاحِ الرَّحِمِ
وأما الْحَيْضُ من الْحُبْلَى فَمُمْتَنِعٌ لِانْسِدَادِ الرَّحِمِ وَالْحَيْضُ
اسْمٌ لِدَمٍ يَخْرُجُ من الرَّحِمِ فَكَانَ الْخَارِجُ دَمَ عِرْقٍ لَا دَمَ
رَحِمٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا وُجِدَ تَنَفُّسُ الرَّحِمِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
فَمَمْنُوعٌ بَلْ وُجِدَ على سَبِيلِ الْكَمَالِ لِوُجُودِ خُرُوجِ الْوَلَدِ
بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ منه
إنْ كان أَقَلُّهُ لم تَصِرْ نُفَسَاءَ حتى قالوا يَجِبُ عليها أَنْ تُصَلِّيَ
وَتَحْفِرَ لها حَفِيرَةً لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ ولم
يُوجَدْ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ
فَأَمَّا إذَا كان الْخَارِجُ أَكْثَرَهُ فَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ أو هِيَ على
هذا الِاخْتِلَافِ وأما فِيمَا نَحْنُ فيه فَقَدْ وُجِدَتْ الْوِلَادَةُ على
طَرِيقِ الْكَمَالِ فَالدَّمُ الذي يَعْقُبُهُ يَكُونُ نِفَاسًا ضَرُورَةً
وَالسِّقْطُ إذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ التَّامِّ
يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ من انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَصَيْرُورَةِ
الْمَرْأَةِ نُفَسَاءَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مَخْلُوقًا عن
الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ اسْتَبَانَ من خَلْقِهِ
شَيْءٌ لِأَنَّا لَا نَدْرِي ذَاكَ هو الْمَخْلُوقُ من مَائِهِمَا أو دَمٍ جَامِدٍ
أو شَيْءٍ من الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ اسْتَحَالَ إلَى صُورَةِ لَحْمٍ فَلَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ
وَأَمَّا أَحْوَالُ الدَّمِ فَنَقُولُ الدَّمُ قد يُدَرُّ دُرُورًا مُتَّصِلًا وقد
يُدَرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ اسْتِمْرَارًا
مُتَّصِلًا وَالثَّانِي مُنْفَصِلًا
أَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ وهو أَنْ يُنْظَرَ إنْ
كانت الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةٌ فَالْعَشَرَةُ من أَوَّلِ ما رَأَتْ حَيْضٌ
وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ ذلك طُهْرُهَا هَكَذَا إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ عنها
وَإِنْ كانت صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَعَادَتُهَا في الْحَيْضِ حَيْضُهَا وَعَادَتُهَا
في الطُّهْرِ طُهْرُهَا وَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً في أَيَّامِ طُهْرِهَا
وَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْفَصِلُ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ مَرَّةً
دَمًا وَمَرَّةً طُهْرًا هَكَذَا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الطُّهْرَ
الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا
يَكُونُ فَاصِلًا بَيْن الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ
أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُ أَنْ
يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا وَكَذَا لَا
خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا
كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَإِنْ
كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بين ذلك
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ قال
الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلُ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشْرَ
يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ بَلْ
يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ ثُمَّ يُقَدَّرُ ما يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ
حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كان في طَرَفَيْ
الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ فَاصِلًا
وَيُجْعَلُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ وَإِنْ لم يَكُنْ الدَّمُ في طَرَفَيْ
الْعَشَرَةِ كان الطُّهْرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَ
أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ
أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا
وهو أَوَّلُهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ جَعْلُ أَحَدِهِمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ
شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا
وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كان في
طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ وكان بِحَالٍ لو جُمِعَتْ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ
تَبْلُغُ
____________________
(1/43)
حَيْضًا
لَا يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا وَإِنْ
كان بِحَالٍ لو جُمِعَ لَا يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ
ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ
أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لم يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لا
يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين
الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بين
الدَّمَيْنِ وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي وإذا كان ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
كان فَاصِلًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ
الدَّمَيْنِ حَيْضًا جُعِلَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ
شَيْءٍ من ذلك حَيْضًا لَا يُجْعَلُ حَيْضًا
وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ لِنَفْسِهِ في كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فقال الطُّهْرُ
الْمُتَخَلِّلُ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا
يُعْتَبَرُ فَاصِلًا وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
الدَّمِ الْمُتَوَالِي وإذا كان ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ
كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذلك إنْ كان الطُّهْرُ مِثْلَ
الدَّمَيْنِ أو أَقَلَّ من الدَّمَيْنِ في الْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ فَاصِلًا
وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ
أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا جُعِلَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لم يُمْكِنْ
أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا
وَتَقْرِيرُ هذه الْأَقْوَالِ وَتَفْسِيرُهَا يُذْكَرُ في كِتَابِ الْحَيْضِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَنْعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافٍ وَدُخُولِ
الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجُنُبِ إلَّا أَنَّ
الْجُنُبَ يَجُوزَ له أَدَاءُ الصَّوْمِ مع الْجَنَابَةِ وَلَا يَجُوزُ
لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ أَغْلَظُ من الْحَدَثِ
أو بِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه
وسلم تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي
أو ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ يُضْعِفُهُنَّ
مع أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ضَعِيفَاتٍ في الْجِبِلَّةِ فَلَوْ كُلِّفْنَ بِالصَّوْمِ
لَا يَقْدِرْنَ على الْقِيَامِ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في
الْجَنَابَةِ وَلِهَذَا الْجُنُبُ يَقْضِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَهُنَّ لَا
يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ في كل شَهْرٍ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَجْتَمِعُ عليها صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتُحْرَجُ في
قَضَائِهَا وَلَا حَرَجَ في قَضَاءِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو عَشْرَةِ
أَيَّامٍ في السَّنَةِ
وَكَذَا يَحْرُمُ الْقُرْبَانُ في حَالَتَيْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلَا
يَحْرُمُ قُرْبَانُ الْمَرْأَةِ التي أَجْنَبَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ }
وَمِثْلُ هذا لم يَرِدْ في الْجَنَابَةِ بَلْ وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أَيْ
الْوَلَدَ فَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَذَلِكَ
بِالْجِمَاعِ مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ فالاستحاضة ( ( ( فالمستحاضة ) ) ) حُكْمُهَا
حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ غير أنها تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ على ما بَيَّنَّا
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَالْكَلَامُ في التَّيَمُّمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ رُكْنِهِ
وفي كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُتَيَمَّمُ
بِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِ التَّيَمُّمِ وفي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ وفي
بَيَانِ ما يُتَيَمَّمُ منه وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ التَّيَمُّمَ من الْحَدَثِ جَائِزٌ
عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ
مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا }
وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَلَ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلتَّعْرِيسِ فَسَقَطَ من عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءِ رضي اللَّهُ عنها فلما ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ في طَلَبِهَا فَأَقَامَ
يَنْتَظِرُهُمَا فَعَدِمَ الناس الْمَاءَ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَغْلَظَ
أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه على عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وقال لها حَبَسْت
الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ الْآيَةَ فقال أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ يَرْحَمُك اللَّهُ
يا عَائِشَةُ ما نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ فيه فَرَجًا
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما ( ( ( فلما ) ) ) رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم
يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا
أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ في جَوَازِهِ من الْجَنَابَةِ فقال عَلِيٌّ وَعَبْدُ
اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم جَائِزٌ
وقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنهما لَا
يَجُوزُ
وقال الضَّحَّاكُ رَجَعَ ابن مَسْعُودٍ عن هذا وَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ
إلَى تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى في آيَةِ التَّيَمُّمِ { أو لَامَسْتُمْ
النِّسَاءَ }
____________________
(1/44)
أو
لَمَسْتُمْ فَعَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ أَوَّلَا ذلك بِالْجِمَاعِ وَقَالَا كَنَّى
اللَّهُ تَعَالَى عن الْوَطْءِ بِالْمَسِيسِ وَالْغَشَيَانِ وَالْمُبَاشَرَةِ
وَالْإِفْضَاءِ وَالرَّفَثِ وَعُمَرُ وابن مَسْعُودٍ أَوَّلَاهُ بِالْمَسِّ
بِالْيَدِ فلم يَكُنْ الْجُنُبُ دَاخِلًا في هذه الْآيَةِ فَبَقِيَ الْغُسْلُ
وَاجِبًا عليه بِقَوْلِهِ { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا }
وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ على وَابْنِ عَبَّاسٍ لِمُوَافَقَةِ
الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِلْجُنُبِ من الْجِمَاعِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال
يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ
شَهْرًا أو شَهْرَيْنِ وَفِينَا الْجُنُبُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ فَكَيْفَ
نَصْنَعُ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ وفي رِوَايَةٍ
عَلَيْكُمْ بِالصَّعِيدِ وَكَذَا حَدِيثُ عَمَّارٍ رضي اللَّهُ عنه وَغَيْرِهِ على
ما نَذْكُرُهُ
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِمَا رُوِينَا من حديث أبي
هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجَنَابَةِ فَكَانَ
وُرُودُ النَّصِّ في الْجَنَابَةِ وُرُودًا فِيهِمَا دَلَالَةٌ
وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ وان كان لَا يَجِدُ الْمَاءَ وقال
مَالِكٌ يُكْرَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ اخْتَلَفَ فيه كِبَارُ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ الْجِمَاعُ اكْتِسَابًا لِسَبَبِ
وُقُوعِ الشَّكِّ في جَوَازِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
قُلْت لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَأُجَامِعُ امْرَأَتِي وأنا لَا أَجِدُ
الْمَاءَ فقال جَامِعْ إمرأتك وَإِنْ كُنْت لَا تَجِدُ الْمَاءَ إلَى عَشْرِ
حِجَجٍ فإن التُّرَابَ كَافِيك
وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَاهُ فَالتَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ الْقَصْدُ يُقَالُ
تَيَمَّمَ وَيَمَّمَ إذَا قَصَدَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وما أَدْرِي إذَا
يَمَّمْت أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي ألخير ( ( ( أألخير ) ) )
الذي أنا أَبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الذي هو يَبْتَغِينِي قَوْلُهُ يَمَّمْت أَيْ
قَصَدْت
وفي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ في عُضْوَيْنِ
مَخْصُوصَيْنِ على قَصْدِ التَّطْهِيرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا في
مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا هو ضَرْبَتَانِ
ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وهو أَحَدُ
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ ضَرْبَةٌ
لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ
وقال الزُّهْرِيُّ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ
وقال ابن أبي لَيْلَى ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْوَجْهَ
وَالذِّرَاعَيْنِ جميعا
وقال ابْنَ سِيرِينَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ
لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ أُخْرَى لَهُمَا جميعا
وقال بَعْضُ الناس هو ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا في وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ
وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه } أَمْرٌ بِالتَّيَمُّمِ وَفَسَّرَهُ
بِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الضَّرْبَةِ
وَالضَّرْبَتَيْنِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَبِهِ يَحْتَجُّ الزُّهْرِيُّ فيقول
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ
الْجَارِحَةِ من رؤس الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمَرَافِقِ غَايَةً
لِلْأَمْرِ بِالْغَسْلِ في بَابِ الْوُضُوءِ لَوَجَبَ غَسْلُ هذا الْمَحْدُودِ
وَالْغَايَةُ ذُكِرَتْ في الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ رضي
اللَّهُ عنه أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ في التُّرَابِ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَكْفِيك الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه } وَالْآيَةُ
حُجَّةٌ على مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ
الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِالرُّسْغِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقد قام دَلِيلُ
التَّقْيِيدِ بِالْمِرْفَقِ وهو أَنَّ الْمِرْفَقَ جُعِلَ غَايَةً لِلْأَمْرِ
بِالْغُسْلِ وهو الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ وَالْبَدَلُ لَا
يُخَالِفُ الْمُبْدَلَ فَذِكْرُ الْغَايَةِ هُنَاكَ يَكُونُ ذِكْرًا هَهُنَا
دَلَالَةً وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِ من يقول أن التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ
لِأَنَّ النَّصَّ لم يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ لِأَنَّ النَّصَّ إنْ كان لم
يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ أَصْلًا نَصًّا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ له دَلَالَةً
لِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عن الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ
وَاحِدٍ في عُضْوَيْنِ في الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ تُرَابٍ وَاحِدٍ
في عُضْوَيْنِ في التَّيَمُّمِ لِأَنَّ الْخَلْفَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَكَذَا
هِيَ حُجَّةٌ على ابْنِ أبي لَيْلَى وَابْنِ سِيرِينَ لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى
أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلِ الْمَسْحِ
على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا
يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَفِيمَا قَالَاهُ تَكْرَارٌ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ
على الْكِتَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلزِّيَادَةِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما
____________________
(1/45)
رُوِيَ
عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى
الْمِرْفَقَيْنِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الْكُلِّ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَفِيهِ تَعَارُضٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ في رِوَايَةٍ
أُخْرَى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ
لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَالْمُتَعَارِضُ لَا
يَصْلُحُ حُجَّةً
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فذكر أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي فقال (
( ( قال ) ) ) سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن التَّيَمُّمِ فقال التَّيَمُّمُ
ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ
فَقُلْت له كَيْفَ هو فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا
وَأَدْبَرَ ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَ
كَفَّيْهِ إلى الصَّعِيدِ ثَانِيًا فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ
نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ الذِّرَاعَيْنِ وَبَاطِنَهُمَا إلَى
الْمِرْفَقَيْنِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِبَاطِنِ أَرْبَعِ أَصَابِعِ
يَدِهِ الْيُسْرَى ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى من رؤوس الْأَصَابِعِ إلَى
الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِكَفِّهِ الْيُسْرَى دُونَ الْأَصَابِعِ بَاطِنَ
يَدِهِ الْيُمْنَى من الْمِرْفَقِ إلَى الرُّسْغِ ثُمَّ يُمِرُّ بِبَاطِنِ إبْهَامِهِ
الْيُسْرَى على ظَاهِرِ ابهامه الْيُمْنَى ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى
كَذَلِكَ
وقال بَعْضُهُمْ يَمْسَحُ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ
الْيُسْرَى مع الْأَصَابِعِ ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ
يَمْسَحُ بِهِ أَيْضًا بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى أَصْلِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ
يَفْعَلُ بيده الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَتَكَلَّفُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى
الِاحْتِيَاطِ لِمَا فيه من الِاحْتِرَازِ عن اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ
الْمُسْتَعْمَلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لِأَنَّ التُّرَابَ الذي على الْيَدِ
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَسْحِ حتى لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ
ثُمَّ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَةً روي ( ( (
وروي ) ) ) عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّ هذا
لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من النَّفْضِ تَنَاثُرُ التُّرَابِ
صِيَانَةً عن التَّلَوُّثِ الذي يُشْبِهُ الْمُثْلَةَ إذْ التَّعَبُّدُ وَرَدَ بمس
( ( ( بمسح ) ) ) كفيه ( ( ( كف ) ) ) التُّرَابُ على الْعُضْوَيْنِ لَا
تَلْوِيثُهُمَا بِهِ فَلِذَلِكَ يَنْفُضُهُمَا وَهَذَا الْغَرَضُ قد يَحْصُلُ
بِالنَّفْضِ مَرَّةً واحدة وقد لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّفْضِ مَرَّتَيْنِ على
قَدْرٍ ما يَلْتَصِقُ بِالْيَدَيْنِ من التُّرَابِ فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ
بِنَفْضَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتَفَى بها وان لم يَحْصُلْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ
وَأَمَّا اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَهَلْ هو من تَمَامِ
الرُّكْنِ لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ نَصًّا لَكِنَّهُ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عليه
فإنه قال إذَا تَرَكَ ظَاهِرَ كَفَّيْهِ لم يُجْزِهِ وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ إنه
إذَا تَرَكَ شيئا من مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ قَلِيلًا أو كَثِيرًا لَا يَجُوزُ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا يَمَّمَ
الْأَكْثَرَ جَازَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هذا مَسْحٌ فَلَا يَجِبُ فيه الِاسْتِيعَابُ
كَمَسْحِ الرَّأْسِ
وجه ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ في بَابِ التَّيَمُّمِ
تَعَلَّقَ بِاسْمِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وإنه يَعُمُّ الْكُلَّ وَلِأَنَّ
التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ وَالِاسْتِيعَابُ في الْأَصْلِ من تَمَامِ
الرُّكْنِ فَكَذَا في الْبَدَلِ وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ تَخْلِيلُ
الْأَصَابِعِ وَنَزْعُ الْخَاتَمِ وَلَوْ تُرِكَ لم يَجُزْ وَعَلَى رِوَايَةِ
الْحَسَنِ لَا يَلْزَمُ وَيَجُوزُ وَيَمْسَحُ الْمِرْفَقَيْنِ مع الذِّرَاعَيْنِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حتى أَنَّهُ لو كان مَقْطُوعَ
الْيَدَيْنِ من الْمِرْفَقِ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في الْوُضُوءِ وقد مَرَّ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِدًا
لِلْمَاءِ قَدْرَ ما يَكْفِي الْوُضُوءَ أو الْغُسْلَ في الصَّلَاةِ التي تَفُوتُ
إلَى خَلْفٍ وما هو من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ
لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّيَمُّمُ
وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ
جَعَلَهُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ أو الْحَدَثِ وَالْمَمْدُودُ
إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع
وُجُودِ ما يَنْتَهِي وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ
أو يُحْدِثْ وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ وَوُجُودُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى
الْبَدَلِ
ثُمَّ عَدَمُ الْمَاءِ نَوْعَانِ عَدَمٌ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى
وَعَدَمٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ
أَمَّا الْعَدَمُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ
بَعِيدًا عنه ولم يُذْكَرْ حَدُّ الْبُعْدِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالْمِيلِ وهو أَنْ يَكُونَ مِيلًا
فَصَاعِدًا فَإِنْ كان أَقَلَّ من مِيلٍ لم يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَالْمِيلُ ثُلُثُ
فَرْسَخٍ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إنْ كان الْمَاءُ أَمَامَهُ
يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ وَإِنْ كان يَمْنَةً أو يَسْرَةً يُعْتَبَرُ مِيلًا وَاحِدًا
وَبَعْضُهُمْ فَصَلَ بين الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِر فَقَالُوا إنْ كان مُقِيمًا
يَعْتَبِرُ قَدْرَ مِيلٍ كَيْفَمَا كان وَإِنْ كان مُسَافِرًا وَالْمَاءُ على
يَمِينِهِ أو يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ
وَرُوِيَ عن
____________________
(1/46)
أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان الْمَاءُ بِحَيْثُ لو ذَهَبَ إلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ عنه
جَلَبَةُ الْعِيرِ وَيُحِسُّ أَصْوَاتَهُمْ أو أَصْوَاتَ الدَّوَابِّ فَهُوَ
قَرِيبٌ وَإِنْ كان يَغِيبُ عنه ذلك فَهُوَ بَعِيدٌ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَاءِ فَهُوَ
قَرِيبٌ وَإِنْ كان لَا يَسْمَعُ فَهُوَ بَعِيدٌ
وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وقال بَعْضُهُمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ
وقال بَعْضُهُمْ مِقْدَارَ ما لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ وقال بَعْضُهُمْ إذَا
خَرَجَ من الْمِصْرِ مِقْدَارَ ما لَا يَسْمَعُ لو نُودِيَ من أَقْصَى الْمِصْرِ
فَهُوَ بَعِيدٌ وَأَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ اعْتِبَارُ الْمِيلِ لِأَنَّ الْجَوَازَ
لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في آيَةِ التَّيَمُّمِ وهو
قَوْله تَعَالَى على أَثَرِ الْآيَةِ { ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ
من حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وَلَا حَرَجَ فِيمَا دُونَ الْمِيلِ
فَأَمَّا الْمِيلُ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو عن حَرَجٍ وَسَوَاءٌ خَرَجَ من
الْمِصْرِ لِلسَّفَرِ أو لِأَمْرٍ آخَرَ
وقال بعضهم ( ( ( بعض ) ) ) لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ سَفَرًا
وإنه ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ ما له ثَبَتَ الْجَوَازُ وهو دَفْعُ الْحَرَجِ لَا
يُفْصَلُ بين الْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ
هذا إذَا كان عَلِمَ بِبُعْدِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ أو بِغَلَبَةِ الرَّأْي أو
أَكْبَرِ الظَّنِّ أو أخبره بِذَلِكَ رَجُلٌ عَدْلٌ وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ
الْمَاءَ قَرِيبٌ منه أما قَطْعًا أو ظَاهِرًا أو أخبره عَدْلٌ بِذَلِكَ لَا
يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لم يُوجَدْ وهو
عَدَمُ الْمَاءِ وَلَكِنْ يَجِبُ عليه الطَّلَبُ هَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ
أَنَّهُ قال إذَا كان الْمَاءُ على مِيلٍ فَصَاعِدًا لم يَلْزَمْهُ طَلَبُهُ
وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِيلٍ أَتَيْتَ الْمَاءَ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ
هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَلَا يَبْلُغُ بِالطَّلَبِ مِيلًا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ مِيلًا فَإِنْ طَلَبَ أَقَلَّ من ذلك
لم يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ وهو رِوَايَةٌ عن أبي
حَنِيفَةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْلُبُ قَدْرَ ما لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ
وَرُفْقَتِهِ بِالِانْتِظَارِ وَكَذَلِكَ إذَا كان بِقُرْبٍ من الْعُمْرَانِ
يَجِبُ عليه الطَّلَبُ حتى لو تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ظَهَرَ الْمَاءُ لم تَجُزْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَانَ لَا يَخْلُو عن الْمَاءِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا
وَالظَّاهِرُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ في الْأَحْكَامِ
وَلَوْ كان بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عن قُرْبِ الْمَاءِ فلم يَسْأَلْهُ حتى
تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ سَأَلَهُ فَإِنْ لم يُخْبِرْهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ
فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ وَإِنْ أخبره بِقُرْبِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ وَأَعَادَ
الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ منه وَلَوْ سَأَلَهُ
لَأَخْبَرَهُ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ وهو عَدَمُ الْمَاءِ وَإِنْ سَأَلَهُ في
الِابْتِدَاءِ فلم يُخْبِرْهُ حتى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أخبره بِقُرْبِ
الْمَاءِ لَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ لَا قَوْلَ
له فَإِنْ لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ وَلَا
غَلَبَ على ظَنِّهِ أَيْضًا قُرْبُ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عليه أَنْ يَطْلُبَ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ
قَدْرَ غَلْوَةٍ حتى لو تَيَمَّمَ وَصَلَّى قبل الطَّلَبِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ
الْمَاءَ قَرِيبٌ منه فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لم تَجُزْ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً } وَهَذَا يَقْتَضِي
سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ فَكَانَ الطَّلَبُ شَرْطًا وَصَارَ كما لو كان في
الْعُمْرَانِ
وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْمَاءِ وقد تَحَقَّقَ من حَيْثُ الظَّاهِرِ إذْ
الْمَفَازَةُ مَكَانُ عَدَمِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ
وَقَوْلُهُ الْوُجُودُ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ من الْوَاجِدِ مَمْنُوعٌ
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من وَجَدَ لُقَطَةً
فَلْيُعَرِّفْهَا وَلَا طَلَبَ من الْمُلْتَقِطِ وَلِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يُفِيدُ
إذَا لم يَكُنْ على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ وَالْكَلَامُ فيه وَرُبَّمَا
يَنْقَطِعُ عن أَصْحَابِهِ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فَلَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ
وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ له ذلك إذَا كان على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ فإن أَبَا
يُوسُفَ قال في الْأَمَالِي سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ
الْمَاءَ أَيَطْلُبُ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ قال إنْ طَمِعَ في ذلك
فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَبْعُدُ فَيَضُرُّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أو
بِنَفْسِهِ إنْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من اعْتِبَارِ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ زُفَرَ فَلَا عِبْرَةَ لِلْبُعْدِ وَالْقُرْبِ في هذا
الْبَابِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ بَقَاءً وَخُرُوجًا فَإِنْ كان يَصِلُ
الْمَاءِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ وَإِنْ كان الْمَاءُ
بَعِيدًا وَإِنْ كان لَا يَصِلُ إلَيْهِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ
التَّيَمُّمُ وَإِنْ كان الْمَاءُ قَرِيبًا
وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا بَعْدُ إن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْعَدَمُ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ فَهُوَ أَنْ
يَعْجِزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَانِعٍ مع قُرْبِ الْمَاءِ منه نحو ما إذَا
كان على رَأْسِ الْبِئْرِ ولم يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ فَيُبَاحُ له
التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لم يَكُنْ وَاجِدًا
له من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَكَذَا إذَا كان بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أو لُصُوصٌ أو سَبْعٌ أو حَيَّةٌ يَخَافُ على نَفْسِهِ
الْهَلَاكَ إذَا أَتَاهُ لِأَنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ
فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ
وَكَذَا إذَا كان معه مَاءٌ وهو يَخَافُ على نَفْسِهِ الْعَطَشَ لِأَنَّهُ
مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى الْعَطَشِ وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ
عَادِمًا لِلْمَاءِ مَعْنًى
وَسُئِلَ نَصْرُ
____________________
(1/47)
بن
يحيى عن مَاءٍ مَوْضُوعٍ في الْفَلَاةِ في الحب ( ( ( الجب ) ) ) أو نَحْوِ ذلك
أَيَكُونُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ أو يَتَوَضَّأَ بِهِ قال يَتَيَمَّمُ
وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا وُضِعَ
لِلشُّرْبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِكَثْرَتِهِ على أَنَّهُ
وُضِعَ لِلشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ جميعا فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ
وَكَذَا إذَا كان بِهِ جِرَاحَةٌ أو جُدَرِيٌّ أو مَرَضٌ يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ
الْمَاءِ فَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ حتى يَخَافَ التَّلَفَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْطُ جَوَازِ
التَّيَمُّمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ } إلَى قَوْلِهِ
{ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا
من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَرَضٍ وَمَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمَرَضَ الذي لَا يَضُرُّ معه
اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْمَرَضُ الذي يَضُرُّ معه
اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُرَادًا بِالنَّصِّ وَرُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْنَبَ وَبِهِ جُدَرِيٌّ فَاسْتَفْتَى
أَصْحَابَهُ فَأَفْتَوْهُ بِالِاغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَبَلَغَ ذلك
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا
سَأَلُوا إذْ لم يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ كان يَكْفِيهِ
التَّيَمُّمُ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ سَبَبُ الْمَوْتِ
وَخَوْفُ الْمَوْتِ مُبِيحٌ فَكَذَا خَوْفُ سَبَبِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ خَوْفُ
الْمَوْتِ بِوَاسِطَةٍ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ أَثَّرَ في إبَاحَةِ
الْإِفْطَارِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ فَهَهُنَا أَوْلَى لِأَنَّ
الْقِيَامَ رُكْنٌ في بَابِ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ فَخَوْفُ زِيَادَةِ
الْمَرَضِ لَمَّا أَثَّرَ في إسْقَاطِ الرُّكْنِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ في إسْقَاطِ
الشَّرْطِ أَوْلَى
وَلَوْ كان مَرِيضًا لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عن
الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ له خَادِمٌ وَلَا مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ
أَجِيرًا فَيُعِينُهُ على الْوُضُوءِ أَجْزَأْهُ التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ كان في
الْمَفَازَةِ أو في الْمِصْرِ وهو ( مذهب أصحابنا ( ( ( المذهب ) ) ) ) لِأَنَّ
الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الْجَوَازِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان في الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ أَحَدًا من قَرِيبٍ
أو بَعِيدٍ يُعِينُهُ وَكَذَا الْعَجْزُ لِعَارِضٍ على شَرَفِ الزَّوَالِ
بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ
وَلَوْ أَجْنَبَ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ يَخَافُ على نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لو
اغْتَسَلَ ولم يَقْدِرْ على تَسْخِينِ الْمَاءِ وَلَا على أُجْرَةِ الْحَمَّامِ في
الْمِصْرِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كان في الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ في الْمِصْرِ وُجُودُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ
وَالدِّفْءِ فَكَانَ الْعَجْزُ نَادِرًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عليهم عَمْرَو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه وكان ذلك
في غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فلما رَجَعُوا شَكَوْا منه أَشْيَاءَ من
جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ قالوا صلى بِنَا وهو جُنُبٌ فذكر النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم ذلك له فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَجْنَبْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ وخفت ( ( (
فخفت ) ) ) على نَفْسِي الْهَلَاكَ لو اغْتَسَلْتُ فَذَكَرْتُ ما قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كان بِكُمْ رَحِيمًا }
فَتَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ بِهِمْ فقال لهم رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَلَا تَرَوْنَ صَاحِبَكُمْ كَيْفَ نَظَرَ لِنَفْسِهِ وَلَكُمْ ولم يَأْمُرْهُ
بِالْإِعَادَةِ ولم يَسْتَفْسِرْهُ إنَّهُ كان في مَفَازَةٍ أو مِصْرٍ وَلِأَنَّهُ
عَلَّلَ فِعْلَهُ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ خَوْفُ الْهَلَاكِ
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَصْوَبَ ذلك منه وَالْحُكْمُ
يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ
وَقَوْلُهُمَا إنَّ الْعَجْزَ في الْمِصْرِ نَادِرٌ فَالْجَوَابُ عنه إنه في حَقِّ
الْفُقَرَاءِ الْغُرَبَاءِ ليس بِنَادِرٍ على أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ
الْعَجْزُ من كل وَجْهٍ حتى لو قَدَرَ على الِاغْتِسَالِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ
لَا يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ وَلَوْ كان مع رَفِيقِهِ مَاءٌ فَإِنْ لم يَعْلَمْ
بِهِ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ على ما
ذَكَرْنَا وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَلَكِنْ لَا ثَمَنَ له فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ عليه السُّؤَالُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ في الْعَادَةِ لِقِلَّةِ خَطَرِهِ فلم
يَعْجِزْ عن الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ
وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ لِأَنَّ الْمَاءَ من أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ في السَّفَرِ
فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبَذْلِ فَإِنْ سَأَلَهُ فلم يُعْطِهِ أَصْلًا أَجْزَأَهُ
التَّيَمُّمُ لِأَنَّ الْعَجْزَ قد تَقَرَّرَ وَكَذَا إنْ كان يُعْطِيهِ
بِالثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ له لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان له ثَمَنٌ وَلَكِنْ لَا
يَبِيعُهُ إلَّا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ وَلَوْ
بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّ هذه تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ
وَلَنَا أَنَّهُ عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إلَّا باتلاف شَيْءٍ من مَالِهِ
لِأَنَّ ما زَادَ على ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَحُرْمَةُ مَالِ
الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ
وَلِهَذَا أُبِيحَ له الْقِتَالُ دُونَ مَالِهِ كما أُبِيحَ له دُونَ نَفْسِهِ
ثُمَّ خَوْفُ فَوَاتِ بَعْضِ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلتَّيَمُّمِ فَكَذَا فَوَاتُ
بَعْضِ الْمَالِ
____________________
(1/48)
بِخِلَافِ
الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فإن تِلْكَ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا يُذْكَرُ
ثُمَّ قَدْرُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ في هذا الْبَابِ بِتَضْعِيفِ الثَّمَنِ
وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ فقال إنْ كان الْمَاءُ يُشْتَرَى في ذلك الْمَوْضِعِ
بِدِرْهَمٍ وهو لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ
وَإِنْ كان لَا يَبِيعُ إلَّا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ وَإِنْ كان يَبِيعُهُ
بِثَمَنِ الْمِثْلِ في ذلك الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ لِأَنَّهُ قَدَرَ
على اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ على بَدَلِهِ من غَيْرِ إتْلَافٍ فَلَا
يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ كَمَنْ قَدَرَ على ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَا يَجُوزُ له
التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ وَإِنْ كان لَا يَبِيعُ إلَّا بِغَبْنٍ يَسِيرٍ
فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ اعْتِبَارًا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ
وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه
فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَيَقَّنٌ بها لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِ
الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً وما يَتَغَابَنُ الناس فيه يَدْخُلُ
تَحْتَ اخْتِلَافِهِمْ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هو زِيَادَةٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ ليس
بِزِيَادَةٍ فلم تَكُنْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً فَلَا تُعْتَبَرُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ إن الْمُصَلِّيَ إذَا رَأَى مع رَفِيقِهِ ماءا
( ( ( ماء ) ) ) كَثِيرًا وَلَا يَدْرِي أَيُعْطِيهِ أَمْ لَا إنه يَمْضِي على
صَلَاتِهِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ قد صَحَّ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ فإذا فَرَغَ
من صَلَاتِهِ سَأَلَهُ فَإِنْ أَعْطَاهُ تَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ
لِأَنَّ الْبَذْلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ دَلِيلُ الْبَذْلِ قَبْلَهُ وَإِنْ أَبَى
فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ لِأَنَّ الْعَجْزَ قد تَقَرَّرَ فَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْدَ
ذلك لم يُنْتَقَضْ ما مَضَى لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ اسْتَحْكَمَ بِالْإِبَاءِ
وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى لِأَنَّ حُكْمَ الْإِبَاءِ ارْتَفَضَ
بِالْبَذْلِ
وقال مُحَمَّدٌ في رَجُلَيْنِ مع أَحَدِهِمَا إنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ من الْبِئْرِ
وَوَعَدَ صَاحِبَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِنَاءَ قال يَنْتَظِرُ وان خَرَجَ
الْوَقْتُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هو الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ ( فَكَانَ قَادِرًا على
اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْوَعْدِ ) وكان قَادِرًا على اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ
ظَاهِرًا فَيُمْنَعُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ وَكَذَا إذَا وَعَدَ الْكَاسِي
الْعَارِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إذَا فَرَغَ من صَلَاتِهِ لم تُجْزِهِ
الصَّلَاةُ عُرْيَانًا لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ المسافر ( (
( مسافر ) ) ) يتيمم ( ( ( تيمم ) ) ) وفي رَحْلِهِ مَاءٌ لم يَعْلَمْ بِهِ حتى
صلى ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَجْزَأَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا
يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وقال أبو يُوسُفَ لم يجزئه ( ( ( يجزه ) ) ) وَيَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو صلى في ثَوْبٍ نَجِسٍ نَاسِيًا أو تَوَضَّأَ بِمَاءٍ
نَجِسٍ نَاسِيًا ثُمَّ تذكر ( ( ( تذكره ) ) ) لَا يُجْزِئُهُ وَتَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ
لِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَسِيَ ما لَا يُنْسَى عَادَةً
لِأَنَّ الْمَاءَ من أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ في السَّفَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا
لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عن الْهَلَاكِ فَكَانَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ
فَالْتَحَقَ النِّسْيَانُ فيه بِالْعَدَمِ
وَالثَّانِي أَنَّ الرَّحْلَ مَوْضِعُ الْمَاءِ عَادَةً غَالِبًا لِحَاجَةِ
الْمُسَافِرِ إلَيْهِ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا فإذا تَيَمَّمَ قبل الطَّلَبِ
لَا يُجْزِئُهُ كما في الْعُمْرَانِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قد تَحَقَّقَ بِسَبَبِ
الْجَهَالَةِ وَالنِّسْيَانِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كما لو حَصَلَ الْعَجْزُ
بِسَبَبِ الْبُعْدِ أو الْمَرَضِ أو عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرَّشَا
وَقَوْلُهُ نَسِيَ ما لَا يُنْسَى عَادَةً ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ
جِبِلَّةٌ في الْبَشَرِ خُصُوصًا إذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَمَّا
وَرَاءَهُ وَالسَّفَرُ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ
وَمَكَانُ الْمَخَاوِفِ فَنِسْيَانُ الْأَشْيَاءِ فيه غَيْرُ نَادِرٍ وَأَمَّا
قَوْلُهُ الرَّحْلُ مَعْدِنُ الْمَاءِ وَمَكَانُهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن
الْغَالِبَ في الْمَاءِ الْمَوْضُوعِ في الرَّحْلِ هو النفاد ( ( ( النفاذ ) ) ) لِقِلَّتِهِ
فَلَا يَكُونُ بَقَاؤُهُ غَالِبًا فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ظَاهِرًا بِخِلَافِ
الْعُمْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن الْمَاءِ غَالِبًا
وَلَوْ صلى عُرْيَانًا أو مع ثَوْبٍ نَجِسٍ وفي رَحْلِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ لم
يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ
بِالْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ وهو الْأَصَحُّ
وَلَوْ كان عليه كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَهُ رَقَبَةٌ قد نَسِيَهَا وَصَامَ
قِيلَ أنه على الِاخْتِلَافِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثَمَّةَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَرَضَ
عليه رَقَبَةً كان له أَنْ لَا يَقْبَلَ وَيُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ وَبِالنِّسْيَانِ
لَا يَنْعَدِمُ الْمِلْكُ وَهَهُنَا الْمُعْتَبَرُ هو الْقُدْرَةُ على
الِاسْتِعْمَالِ وَبِالنِّسْيَانِ زَالَتْ الْقُدْرَةُ أَلَا تَرَى لو عُرِضَ عليه
الْمَاءُ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ في هذا الْبَابِ في
غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَلَوْ وَضَعَ غَيْرُهُ في رَحْلِهِ مَاءً وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ فَتَيَمَّمَ
وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا أَيْضًا
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
يَدُلُّ على أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فإنه قال في الرَّجُلِ يَكُونُ في
رَحْلِهِ مَاءٌ فَيَنْسَى وَالنِّسْيَانُ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ ثُمَّ
مع ذلك جُعِلَ عُذْرًا عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ مَوْضِعٌ لَا عِلْمَ فيه أَصْلًا
يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا عِنْدَ الْكُلِّ
وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ في كِتَابِ الصَّلَاةِ يَدُلُّ على أَنَّهُ على
الِاخْتِلَافِ فإنه قال مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ في رَحْلِهِ وهو لَا
يَعْلَمُ بِهِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَغَيْرَهَا وَلَوْ ظَنَّ
أَنَّ مَاءَهُ قد فَنِيَ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ له أَنَّهُ قد
بَقِيَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَبْطُلُ بِالظَّنِّ
فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا بِخِلَافِ النِّسْيَانِ لِأَنَّهُ من أَضْدَادِ
الْعِلْمِ
وَلَوْ كان على رَأْسِهِ أو ظَهْرِهِ مَاءٌ أو كان مُعَلَّقًا في عُنُقِهِ
فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
____________________
(1/49)
النِّسْيَانَ
في مِثْلِ هذه الْحَالَةِ نَادِرٌ وَلَوْ كان الْمَاءُ مُعَلَّقًا على الْإِكَافِ
فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان رَاكِبًا أو سَائِقًا فَإِنْ كان رَاكِبًا فَإِنْ كان
الْمَاءُ في مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان في
مُقَدَّمِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ
وَإِنْ كان سَائِقًا فَالْجَوَابُ على الْعَكْسِ وهو أَنَّهُ إنْ كان في مُؤَخَّرِ
الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ فَكَانَ النِّسْيَانُ
نَادِرًا وَإِنْ كان في مُقَدَّمِ الرَّحْلِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ والله أعلم
الْمَحْبُوسُ في الْمِصْرِ في مَكَان طَاهِرٍ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي ثُمَّ
يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي وهو
قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَقِيقَةً
بِسَبَبِ الْحَبْسِ فَأَشْبَهُ الْعَجْزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَصَارَ
الْمَاءُ عَدَمًا مَعْنًى في حَقِّهِ فَصَارَ مُخَاطَبًا بِالصَّلَاةِ
بِالتَّيَمُّمِ فَالْقُدْرَةُ بَعْدَ ذلك لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ
كما في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ( وَكَمَا في الْمَحْبُوسِ في السَّفَرِ )
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ ليس بِعَادِمٍ لِلْمَاءِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ إنْ كان
بِحَقٍّ فَهُوَ قَادِرٌ على إزَالَتِهِ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ
وَإِنْ كان بِغَيْرِ حَقٍّ فَالظُّلْمُ لَا يَدُومُ في دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ
يُرْفَعُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا في
حَقِّهِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَجْزَ لِلْحَالِ قد تَحَقَّقَ إلَّا
أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ فإنه قَادِرٌ على رَفْعِهِ إذَا كان بِحَقٍّ
وَإِنْ كان بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُدْفَعُ وَلَهُ
وِلَايَةُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى من له الْوِلَايَةُ فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ
احْتِيَاطًا لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ( لِأَنَّ
احْتِمَالَ الْجَوَازِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ إن هذا الْقَدْرَ من الْعَجْزِ
يَكْفِي لِتَوْجِيهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ) وَأُمِرَ
بِالْقَضَاءِ في الثَّانِي لِأَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْجَوَازِ ثابت لاحتمال (
أن هذا القدر من العجز يكفي لتوجيه الأمر بالصلاة وأمر بالقضاء في الثاني لأن
احتمال عدم لجواز ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ ) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةً
الْقُدْرَةُ دُونَ الْعَجْزِ الْحَالِي فَيُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ عَمَلًا
بِالشَّبَهَيْنِ وَأَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَصَارَ كَالْمُقَيَّدِ
أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا ثُمَّ يُعِيدُ إذَا أُطْلِقَ كَذَا هذا بِخِلَافِ
الْمَحْبُوسِ في السَّفَرِ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ من كل وَجْهٍ
لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى الْمَنْعِ الْحَقِيقِيِّ السَّفَرُ وَالْغَالِبُ في
السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاء
وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ في مَكَان نَجِسٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا
فإنه لَا يُصَلِّي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وهو قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ وَذُكِرَ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ
مع أبي حَنِيفَةَ وفي نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ مع أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عن حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فلم
يَعْجَزْ عن التَّشَبُّهِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّشَبُّهِ كما في بَابِ الصَّوْمِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ على مَذْهَبِهِ إذَا كان
الْمَكَانُ رَطْبًا أَمَّا إذَا كان يَابِسًا فإنه يُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يومىء كَيْفَمَا كان لِأَنَّهُ لو سَجَدَ لَصَارَ
مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ
أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فإن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ مُنَاجَاتِهِ
الطَّاهِرَ لَا الْمُحْدِثَ وَالتَّشَبُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ من الْأَهْلِ أَلَا
تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَلْزَمُهَا التَّشَبُّهُ في بَابِ الصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ من وَجْهٍ فَكَانَ
أَهْلًا من وَجْهٍ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ ثُمَّ يَقْضِيهَا احْتِيَاطًا
مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فيه عَيْنُ مَاءٍ وهو جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ
جَازَ له التَّيَمُّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ مَانِعَةٌ من
دُخُولِ الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا على كل حَالٍ سَوَاءٌ كان الدُّخُولُ على قَصْدِ
الْمُكْثِ أو الِاجْتِيَازِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ عَاجِزًا
عن اسْتِعْمَالِ هذا الْمَاءِ فَكَانَ هذا الْمَاءُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ في
حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ وُجُودُ
الْمَاءِ إنَّمَا يَمْنَعُ من جَوَازِ التَّيَمُّمِ إذَا كان الْقَدْرُ
الْمَوْجُودُ يَكْفِي لَلْوُضُوءِ إنْ كان مُحْدِثًا وَلِلِاغْتِسَالِ إنْ كان
جُنُبًا فَإِنْ كان لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَوُجُودُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ
التَّيَمُّمِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُمْنَعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حتى إنَّ الْمُحْدِثَ إذَا
وَجَدَ من الْمَاءِ قَدْرَ ما يَغْسِلُ بَعْضَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جَازَ له أَنْ
يَتَيَمَّمَ عِنْدَنَا مع قِيَامِ ذلك الْمَاءِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ مع
قِيَامِهِ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَجَدَ من الْمَاءِ قَدْرَ ما يَتَوَضَّأُ
بِهِ لَا غَيْرُ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِئُهُ
إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ حتى يَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى في آيَةِ التَّيَمُّمِ { فلم تَجِدُوا مَاءً } ذَكَرَ الْمَاءَ نَكِرَةً
في مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ كل جُزْءٍ من
أَجْزَاءِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ وَهِيَ الْحَدَثُ
تُعْتَبَرُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ثُمَّ لو كان معه من الْمَاءِ ما
يُزِيلُ بِهِ بَعْضَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ كَذَا
ههنا ( ( ( هنا ) ) )
وَلَنَا أن الْمَأْمُورَ بِهِ الْغُسْلُ الْمُبِيحُ لِلصَّلَاةِ وَالْغُسْلُ الذي
لَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كما لو كان
الْمَاءُ نَجِسًا وَلِأَنَّ الْغُسْلَ إذَا لم يُفِدْ الْجَوَازَ كان
الِاشْتِغَالُ بِهِ سَفَهًا مع أَنَّ فيه تَضْيِيعَ
____________________
(1/50)
الْمَاءِ
وإنه حَرَامٌ فَصَارَ كَمَنْ وَجَدَ ما يُطْعِمُ بِهِ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فكفر (
( ( فنكفر ) ) ) بِالصَّوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِطْعَامِ
الْخَمْسَةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَكَذَا هذا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ لَا
يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ وَمَعَ ذلك
لم يُؤْمَرْ بِهِ لِمَا قُلْنَا فَهَهُنَا أَوْلَى
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْمَاءِ الْمُطْلَقِ في الْآيَةِ هو
الْمُقَيَّدُ وهو الْمَاءُ الْمُفِيدُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْغُسْلِ
بِهِ كما يُقَيَّدُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الكلام ( ( ( الماء
) ) ) يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُتَعَارَفُ من الْمَاءِ في بَابِ
الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ هو الْمَاءُ الذي يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ
فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ وَاعْتِبَارُهُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ في الْأَحْكَامِ فإن قَلِيلَ الْحَدَثِ
كَكَثِيرِهِ في الْمَنْعِ من الْجَوَازِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
فَيَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ
وَلَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ ذلك وَمَعَهُ من الْمَاءِ
قَدْرُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ فإنه يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّ
التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ من الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ من الْمَاءِ
ما يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ فَهَذَا مُحْدِثٌ وَلَيْسَ بِجُنُبٍ وَمَعَهُ من
الْمَاءِ قَدْرُ ما يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنْ تَوَضَّأَ
وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ مَرَّ على الْمَاءِ فلم يَغْتَسِلْ ثُمَّ حَضَرَتْهُ
الصَّلَاةُ وَمَعَهُ من الْمَاءِ قَدْرُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ فإنه لا يَتَوَضَّأُ
بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ على الْمَاءِ عَادَ جُنُبًا
كما كان فَعَادَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
وَلَا يَنْزِعُ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْقَدَمَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ التيمم ( ( (
للتيمم ) ) ) فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَحْدَثَ وقد حَضَرَتْهُ صَلَاةٌ أُخْرَى
وَعِنْدَهُ من الْمَاءِ قَدْرُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا
يَتَيَمَّمُ لِمَا مَرَّ وَنَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ
بِمُرُورِهِ بِالْمَاءِ عَادَ جُنُبًا فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى
الْقَدَمَيْنِ فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَمْسَحَ بَعْدَ ذلك
وَلَوْ كان بِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ جِرَاحَةٌ أو جُدَرِيٌّ فَإِنْ كان
الْغَالِبُ هو الصَّحِيحُ غَسَلَ الصَّحِيحَ وَرَبَطَ على السَّقِيمِ الْجَبَائِرَ
وَمَسَحَ عليها وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو السَّقِيمَ تَيَمَّمَ لِأَنَّ
الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بين الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ
مُمْتَنِعٌ إلَّا في حَالِ وُقُوعِ الشَّكِّ في طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ ولم يُوجَدْ
وَعَلَى هذا لو كان مُحْدِثًا أو ( ( ( وببعض ) ) ) ببعض أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جِرَاحَةٌ
أو جُدَرِيٌّ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ اسْتَوَى الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ لم يُذْكَرْ فيظاهر الرِّوَايَةِ
وَذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَرْبِطُ الْجَبَائِرَ
على السَّقِيمِ وَيَمْسَحُ عليها وَلَيْسَ في هذا جَمْعٌ بين الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ
لِأَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا
وَهَذَا الشَّرْطُ الذي ذَكَرْنَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وهو عَدَمُ الْمَاءِ
فِيمَا وَرَاءَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَأَمَّا في
هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِمَا خَوْفُ
الْفَوْتِ لو اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ حتى لو حَضَرَتْهُ الْجِنَازَةُ وَخَافَ
فَوْتَ الصَّلَاةِ لو اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَهَذَا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَتَيَمَّمُ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا فَجَأَتْكَ
جِنَازَةٌ تَخْشَى فَوْتَهَا وَأَنْت على غَيْرِ وُضُوءٍ فَتَيَمَّمَ لها
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُهُ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّيَمُّمِ
في الْأَصْلِ لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَدَاءِ وقد وُجِدَ هَهُنَا بَلْ أَوْلَى
لِأَنَّ هُنَاكَ تَفُوتُ فَضِيلَةُ الْأَدَاءِ فَقَطْ فَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ
بِالْقَضَاءِ فَمُمْكِنٌ وَهَهُنَا تَفُوتُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَصْلًا فَكَانَ
أَوْلَى بِالْجَوَازِ حتى لو كان وَلِيُّ الْمَيِّتِ لَا يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ
كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ له وِلَايَةَ الْإِعَادَةِ فَلَا
يَخَافُ الْفَوْتَ
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فيه رَاجِعٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تُقْضَى على ما نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ قَائِمٌ وهو الظُّهْرُ
وَبِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وهو الْقَضَاءُ
وَالْفَائِتُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ لَا يُخَافُ
فَوْتُهَا رَأْسًا لِأَنَّهُ ليس لِأَدَائِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ لِأَنَّهَا
وَجَبَتْ مُطْلَقَةً عن الْوَقْتِ
وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ
لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ
يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ هذا إذَا خَافَ فَوْتَ الْكُلِّ فَإِنْ
كان يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ الْبَعْضَ لَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ
الْفَوْتَ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْبَاقِي
وَحْدَهُ وَلَوْ شَرَعَ في صَلَاةِ الْعِيدِ مُتَيَمِّمًا ثُمَّ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ جَازَ له أَنْ يَبْنِيَ عليها بِالتَّيَمُّمِ بِإِجْمَاعٍ من
أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ لو ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ من الْأَصْلِ
لَبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فيها
مُتَوَضِّئًا ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ كان يَخَافُ أَنَّهُ لو اشْتَغَلَ
بِالْوُضُوءِ زَالَتْ الشَّمْسُ تَيَمَّمَ وَبَنَى وَإِنْ كان لَا يَخَافُ زَوَالَ
الشَّمْسِ فَإِنْ كان يَرْجُو أَنَّهُ لو تَوَضَّأَ يُدْرِكُ شيئا من الصَّلَاةِ
مع الْإِمَامِ تَوَضَّأَ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ لِأَنَّهُ إذَا
أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُتِمُّ الْبَاقِي وَحْدَهُ وَإِنْ كان لَا يَرْجُوَ إدْرَاكَ
الْإِمَامِ يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا
____________________
(1/51)
يُبَاحُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لو ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ
لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْبَقِيَّةِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لا حق وَلَا
عِبْرَةَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كان لَا يَخَافُ الْفَوْتَ من هذا الْوَجْهِ يَخَافُ
الْفَوْتَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ لِازْدِحَامِ الناس فَقَلَّمَا يَسْلَمُ عن عَارِضٍ
يُفْسِدُ عليه صَلَاتَهُ فَكَانَ في الِانْصِرَافِ لِلْوُضُوءِ تَعْرِيضُ
صَلَاتِهِ لِلْفَسَادِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيَتَيَمَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
بَيَانِ أنها شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن التَّيَمُّمَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ في
الشُّرُوطِ ثُمَّ الْوُضُوءُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَذَا التَّيَمُّمُ
وَلَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ ليس بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ
طَهَارَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ
بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْحَاجَةُ
لَيَصِيرَ طَهَارَةً فَلَا يُشْتَرَطُ له النِّيَّةُ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ
دَلِيلُ كَوْنِهَا شَرْطًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ينبىء عن الْقَصْدِ
وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا فَأَمَّا الْوُضُوءُ
فإنه مَأْخُوذٌ من الْوَضَاءَةِ وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ في التَّيَمُّمِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
أَنَّ الصَّحِيحَ من الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ أو نَوَى
اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ في
التَّيَمُّمِ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ وهو
أَنْ يَنْوِيَ الْحَدَثَ أو الْجَنَابَةَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا يَقَعُ على
صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ من التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ كما في صَلَاةِ الْفَرْضِ
أَنَّهُ لَا بُدَّ فيها من نِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ
يَتَأَدَّيَانِ على هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ فإن
ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ
الْوُضُوءَ أَجْزَأَهُ عن الْجَنَابَةِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ افْتِقَارَ
التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ طَهَارَةً إذْ هو ليس بِتَطْهِيرٍ
حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ تَطْهِيرًا شَرْعًا لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ
تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ تَكْفِي دَلَالَةً على الْحَاجَةِ
وَكَذَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ
الطَّهَارَةِ فَكَانَتْ دَلِيلًا على الْحَاجَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةِ
التَّمْيِيزِ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ أو لِلْجَنَابَةِ
وَلَوْ تَيَمَّمَ وَنَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أو نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ
فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ ما لَا يَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ كَصَلَاةِ
الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ
لَمَّا أُبِيحَ له أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُبَاحَ له ما دُونَهَا أو ما هو
جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا أَوْلَى وَكَذَا لو تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أو
لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أو لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَنْ كان جُنُبًا جَازَ له
أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من ذلك عِبَادَةٌ
مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا وهو من جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَ نِيَّتُهَا
عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَ لِدُخُولِ
الْمَسْجِدِ أو لَمْسِ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ لِأَنَّ
دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ ليس بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهِ
وَلَا هو من جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيَقَعُ طَهُورًا لِمَا أَوْقَعَهُ له
لَا غَيْرُ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فإنه شَرَطَ وُقُوعَهُ صَحِيحًا عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ حتى لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُ الْكَافِرِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ
الْإِسْلَامَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إذَا تَيَمَّمَ يَنْوِي الْإِسْلَامَ جَازَ
حتى لو أَسْلَمَ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ
الْعَامَّةِ وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ
وَجْهُ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْكَافِرَ من أَهْلِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ
وَالْإِسْلَامُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ فَيَصِحُّ تَيَمُّمُهُ له بِخِلَافِ ما إذَا
تَيَمَّمَ لصلاة ( ( ( للصلاة ) ) ) لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ
تَيَمُّمُهُ لِلصَّلَاةِ سَفَهًا فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ ليس بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا
لِلْحَاجَةِ إلَى فِعْلٍ لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الطَّهَارَةِ وَالْإِسْلَامُ
يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ طَهُورًا في
حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ أنه يَصِحُّ من الْكَافِرِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ
طَهُورٌ حَقِيقَةً فَلَا نشترط ( ( ( تشترط ) ) ) له الْحَاجَةُ لِيَصِيرَ
طَهُورًا وَلِهَذَا لو تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لم يَصِحَّ وَإِنْ
كان الصَّوْمُ عِبَادَةً فَكَذَا هَهُنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ بِاشْتِغَالِهِ
بِالتَّيَمُّمِ لم يَرْتَكِبْ نَهْيًا وَهَهُنَا ارْتَكَبَ أَعْظَمَ نَهْيٍ
لِأَنَّهُ بِقَدْرِ ما اشْتَغَلَ صَارَ بَاقِيًا على الْكُفْرِ لتأخير ( ( ( مؤخرا
) ) ) الإسلام ( ( ( للإسلام ) ) ) وَتَأْخِيرُ الْإِسْلَامِ من أَعْظَمِ
الْعِصْيَانِ ثُمَّ لَمَّا لم يَصِحَّ ذَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هذا أَوْلَى
مُسْلِمٌ تَيَمَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لم
يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ حتى لو رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ له أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ
التَّيَمُّمِ وَعِنْدَ زُفَرَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ حتى لَا يَجُوزَ له أَنْ
يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ عِنْدَنَا
شَرْطُ وُقُوعِ التَّيَمُّمِ صَحِيحًا لَا شَرْطُ بَقَائِهِ على الصِّحَّةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ هو شَرْطُ بَقَائِهِ على الصِّحَّةِ أَيْضًا فَزُفَرُ يَجْمَعُ
بين حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا وَهِيَ
ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ طَهُورًا مع أَنَّهُ ليس بِطَهُورٍ حَقِيقَةً
لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى ما لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الطَّهَارَةِ من الصَّلَاةِ
____________________
(1/52)
وَغَيْرِهَا
وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ من الْكَافِرِ فَلَا يَبْقَى طَهَارَةً في حَقِّهِ
وَلِهَذَا لم تَنْعَقِدْ طَهَارَةٌ مع الْكُفْرِ فَلَا تَبْقَى طَهَارَةٌ معه
وَلَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ وَقَعَ طَهَارَةً صَحِيحَةً فَلَا يَبْطُلُ
بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّدَّةِ في إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّيَمُّمُ
ليس بِعِبَادَةٍ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ طَهُورٌ وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُ صِفَةَ
الطَّهُورِيَّةِ كما لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الْوُضُوءِ وَاحْتِمَالُ الْحَاجَةِ
بَاقٍ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ على الْإِسْلَامِ وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ يَبْقَى
لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ في أُصُولِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ لم يَنْعَقِدْ
طَهَارَةً مع الْكُفْرِ لِأَنَّ جَعْلَهُ طَهَارَةً لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ
زَائِلَةٌ لِلْحَالِ بِيَقِينٍ وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ
لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ مع ما أَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ منه على مُوجِبِ
دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ مُنْقَطِعٌ وَالْجَبْرُ على الْإِسْلَامِ مُنْعَدِمٌ
وهو الْفَرْقُ بين الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ
النَّجِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَلَا طِيبَ
مع النَّجَاسَةِ وَلَوْ تَيَمَّمَ بِأَرْضِ قد أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ
وَذَهَبَ أَثَرُهَا لم يَجُزْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى ابن الْكَاسِّ النَّخَعِيّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ هذه
الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قد اسْتَحَالَتْ أَرْضًا بِذَهَابِ أَثَرِهَا
وَلِهَذَا جَازَتْ الصَّلَاةُ عليها فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بها أَيْضًا
وَلَنَا أَنَّ إحْرَاقَ الشَّمْسِ ونسف الرياح وَنَسْفَ الْأَرْضِ أَثَرُهَا في
تَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ دُونَ اسْتِئْصَالِهَا
وَالنَّجَاسَةُ وَإِنْ قَلَّتْ تُنَافِي وَصْفَ الطَّهَارَةِ فلم يَكُنْ إتْيَانًا
بِالْمَأْمُورِ بِهِ فلم يَجُزْ فَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَلَا
تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ
يُعْتَبَرَ الْقَلِيلُ من النَّجَاسَةِ في بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ لو وَقَعَتْ في الْإِنَاءِ تَمْنَعُ
جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ وَلَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
وَلَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ أو مُحْدِثٌ من مَكَان ثُمَّ تَيَمَّمَ غَيْرُهُ من ذلك
الْمَكَانِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ التُّرَابَ الْمُسْتَعْمَلَ ما الْتَزَقَ بِيَدِ
الْمُتَيَمِّمِ الْأَوَّلِ لَا ما بَقِيَ على الْأَرْضِ فَنُزِّلَ ذلك مَنْزِلَةَ
مَاءٍ فَضَلَ في الْإِنَاءِ بَعْدَ وُضُوءِ الْأَوَّلِ أو اغْتِسَالِهِ بِهِ
وَذَلِكَ طَهُورٌ في حَقِّ الثَّانِي كَذَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُتَيَمَّمُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ ما هو من جِنْسِ الْأَرْضِ وَعَنْ
أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ وفي رِوَايَةٍ
لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وهو قَوْلُهُ الْآخَرُ ذَكَرَهُ
الْقُدُورِيُّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى أَنَّ
الصَّعِيدَ الْمَذْكُورَ في الْآيَةِ ما هو
فقال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ هو وَجْهُ الْأَرْضِ
وقال أبو يُوسُفَ هو التُّرَابُ الْمُنْبِتُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ فَسَّرَ الصَّعِيدَ بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ وهو
مُقَلِّدٌ في هذا الْبَابِ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَالصَّعِيدُ
الطَّيِّبُ هو الذي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ وَذَلِكَ هو التُّرَابُ دُونَ
السَّبِخَةِ وَنَحْوِهَا
وَلَهُمَا أَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ من الصُّعُودِ وهو الْعُلُوُّ
قال الْأَصْمَعِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وهو الصَّاعِدُ وَكَذَا قال ابن
الْأَعْرَابِيِّ أنه اسْمٌ لِمَا تَصَاعَدَ حتى قِيلَ لِلْقَبْرِ صَعِيدٌ
لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ بَلْ
يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ فَكَانَ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ
تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
فَكَيْفَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّعِيدَ لَا يَخْتَصُّ
بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ من غَيْرِ فَصْلٍ وقال جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا ثُمَّ قال
أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ وَرُبَّمَا
تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ في الرَّمْلِ وما لَا يَصْلُحُ لِلْإِنْبَاتِ فَلَا بُدَّ
وَأَنْ يَكُونَ بِسَبِيلٍ من التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ معه بِظَاهِرِ الحديث
وَأَمَّا قَوْلُهُ سَمَّاهُ طَيِّبًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّيِّبَ يُسْتَعْمَلُ
بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وهو الْأَلْيَقُ هَهُنَا لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا
وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ مع أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ
صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ حتى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ
النَّجِسِ فَخَرَجَ غَيْرُهُ من أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إذ الْمُشْتَرَكُ لَا
عُمُومَ له
ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ جِنْسِ الْأَرْضِ فَكُلُّ ما يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ
فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا أو ما يَنْطَبِعُ
وبلين ( ( ( ويلين ) ) ) كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ
وَعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ من جِنْسِ الْأَرْضِ وما
كان بِخِلَافِ ذلك فَهُوَ من جِنْسِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ
فِيمَا بَيْنَهُمَا فقال أبو حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ ما هو من
جِنْسِ الْأَرْضِ الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ أو لَا وقال مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ إلَّا
إذَا الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ من أَجْزَائِهِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا
بُدَّ من اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ من الصَّعِيدِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِأَنْ
يَلْتَزِقَ بيده شَيْءٌ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هذا ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مَسُّ وَجْهِ
الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ وَإِمْرَارُهُمَا على الْعُضْوَيْنِ وإذا عُرِفَ هذا
فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ
____________________
(1/53)
وَالزِّرْنِيخِ
وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالْكُحْلِ وَالْحَجَرِ
الْأَمْلَسِ وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ وَالْمُجَصَّصِ وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ
دُونَ الْمَائِيِّ وَالْمَرْدَاسِنْجِ الْمَعْدِنِيِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ
الْمُتَّخَذِ من طِينٍ خَالِصٍ وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ
وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَالطِّينِ الرَّطْبِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ منها بِأَنْ كان عليها غُبَارٌ أو
كان مَدْقُوقًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ
وَذَلِكَ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بيده شَيْءٌ منه فَأَمَّا ضَرْبُ الْيَدِ على ما له
صَلَابَةٌ وَمَلَاسَةٌ من غَيْرِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ منه فَضَرْبٌ من السَّفَهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ
مُطْلَقًا من غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ
إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ الِاسْتِعْمَالُ شَرْطٌ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ ذلك
يُؤَدِّي إلَى التَّغْيِيرِ الذي هو شَبِيهُ الْمُثْلَةِ وَعَلَامَةِ أَهْلِ
النَّارِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِنَفْضِ الْيَدَيْنِ بَلْ الشَّرْطُ إمْسَاسُ الْيَدِ
الْمَضْرُوبَةِ على وَجْهِ الْأَرْضِ على الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ تَعَبُّدًا غير
مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا
وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ من أَجْزَاءِ
الْخَشَبِ وَكَذَا باللآلىء ( ( ( باللآلئ ) ) ) سَوَاءٌ كانت مَدْقُوقَةً أو لَا
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ من
الْحَيَوَانِ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ على
ثَوْبٍ أو لِبَدٍ أو صُفَّةِ سَرْجٍ فَارْتَفَعَ غُبَارًا وكان على الذَّهَبِ أو
الْفِضَّةِ أو على الْحِنْطَةِ أو الشَّعِيرِ أو نَحْوِهَا غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ
بِهِ أَجْزَأَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا
يُجْزِيهِ وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قالوا إذَا لم يَقْدِرْ على الصَّعِيدِ يَجُوزُ
عِنْدَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في الْحَالَيْنِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ
قال وَلَيْسَ عِنْدِي من الصَّعِيدِ وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَأْمُورَ
بِهِ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ وهو اسْمُ لِلتُّرَابِ الْخَالِصِ وَالْغُبَارُ
ليس بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَلْ هو تُرَابٌ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ بِهِ
التَّيَمُّمُ
وَلَهُمَا أَنَّهُ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَطِيفٌ فَيَجُوزُ
التَّيَمُّمُ بِهِ كما يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى وقد رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فلم يَجِدُوا
مَاءً يتوضؤون ( ( ( يتوضئون ) ) ) بِهِ وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ فقال
ابن عُمَرَ لِيَنْفُضْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ أو صُفَّةَ سَرْجِهِ
وَلْيَتَيَمَّمْ وَلْيُصَلِّ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَلَوْ كان الْمُسَافِرُ في طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا
وَلَيْسَ في ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أو بَعْضَ جَسَدِهِ
بِالطِّينِ فإذا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ
بِالطِّينِ ما لم يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ لِأَنَّ فيه تَلْطِيخَ الْوَجْهِ من
غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ وَإِنْ كان لو تَيَمَّمَ بِهِ
أَجْزَأَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الطِّينَ من أَجْزَاءِ
الْأَرْضِ وما فيه من الْمَاءِ مُسْتَهْلَكٌ وهو يَلْتَزِقُ بِالْيَدِ فَإِنْ
خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ بِالْإِيمَاءِ
ثُمَّ يُعِيدُ إذَا قَدَرَ على الْمَاءِ أو التُّرَابِ كالمحبوس ( ( ( كما ) ) )
في الْمَخْرَجِ إذَا لم يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا على ما ذَكَرْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُتَيَمَّمُ منه فَهُوَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ
وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وقد ذَكَرْنَا دَلَائِلَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ من
الْحَدَثِ في صَدْرِ فَصْلِ التَّيَمُّمِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ في جَوَازِ التَّيَمُّمِ من الْجَنَابَةِ وَتَرْجِيحَ قَوْلِ
الْمُجَوِّزِينَ لِمُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ إيَّاهُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ
مُلْحَقَانِ بِالْجَنَابَةِ لِأَنَّهُمَا في مَعْنَاهَا مع ما أَنَّهُ ثَبَتَ
جَوَازُ التَّيَمُّمِ مِنْهُمَا لِعُمُومِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ التي رَوَيْنَاهَا
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَوْقَاتُ كُلُّهَا وَقْتٌ لِلتَّيَمُّمِ حتى يَجُوزَ
التَّيَمُّمُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ دُخُولِهِ وَهَذَا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ
أَمْ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ
فَعِنْدَنَا بَدَلٌ مُطْلَقٌ وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وَسَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ
الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ وَالضَّرُورِيِّ وَدَلِيلَهُ في بَيَانِ صِفَةِ
التَّيَمُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلتَّيَمُّمِ فَقَدْ
قال أَصْحَابُنَا أن الْمُسَافِرَ إن كان على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ في آخِرِ
الْوَقْتِ يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَإِنْ لم يَكُنْ على
طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ في آخِرِ الْوَقْتِ لَا يُؤَخَّرُ وَهَكَذَا رَوَى
الْمُعَلَّى عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان على طَمَعٍ من
وُجُودِ الْمَاءِ في آخِرِ الْوَقْتِ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ ما
لو لم يَجِدُ الْمَاءَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ في الْوَقْتِ
وَإِنْ لم يَكُنْ على طَمَعٍ لَا يُؤَخِّرُ وَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي في الْوَقْتِ
الْمُسْتَحَبِّ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ
الْوَقْتِ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا
____________________
(1/54)
كان
يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ في آخِرِهِ أو لَا يَرْجُو
وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ بَلْ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْمُعَلَّى
تَفْسِيرًا لِمَا أَطْلَقَهُ في الْأَصْلِ وهو قَوْلُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ
مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فَإِنَّهُمْ قالوا يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كان يَرْجُو
وُجُودَ الْمَاءِ
وقال جَمَاعَةٌ لَا يُؤَخِّرُ ما لم يَسْتَيْقِنْ بِوُجُودِ الْمَاءِ في آخِرَ
الْوَقْتِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وقال مَالِكٌ الْمُسْتَحَبُّ له أَنْ يَتَيَمَّمَ في وَسَطِ الْوَقْتِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في
مُسَافِرٍ أَجْنَبَ يَتَلَوَّمُ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِ من
الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ أَدَاءَ
الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ
بَدَلٌ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ
حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فإذا كان يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ في آخِرَ الْوَقْتِ كان
في التَّأْخِيرِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ فَكَانَ
التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا فَأَمَّا إذَا لم يُرْجَ لَا يُسْتَحَبُّ إذْ لَا
فَائِدَةَ في التَّأْخِيرِ
وَلَوْ تَيَمَّمَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى فَإِنْ كان عَالِمًا أَنَّ
الْمَاءَ قَرِيبٌ بِأَنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ من مِيلٍ لم
تَجُزْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ وَإِنْ كان مِيلًا
فَصَاعِدًا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ
وَيُصَلِّيَ في الْوَقْتِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِمَا يُذْكَرُ
وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِقُرْبِ الْمَاءِ أو بُعْدِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ
سَوَاءٌ كان يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ في آخِرَ الْوَقْتِ أو لَا سَوَاءٌ كان
بَعْدَ الطَّلَبِ أو قَبْلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ
أَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُ الْوُجُودِ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ
عليه فَلَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ وَلَوْ أَخْبَرَ في آخِرِ الْوَقْتِ أَنَّ
الْمَاءَ بِقُرْبٍ منه بِأَنْ كان بَيْنَهُ والماء ( ( ( وبين ) ) ) أَقَلُّ من مِيلٍ
لَكِنَّهُ يَخَافُ لو ذَهَبَ إلَيْهِ وَتَوَضَّأَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عن
وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ
بَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْوَقْتِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْقُرْبُ
وَالْبَعْدُ لَا الْوَقْتُ وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ هو الْوَقْتُ لَا قُرْبُ
الْمَاءِ وَبُعْدُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ
في الْوَقْتِ فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هو الْوَقْتُ فَيَتَيَمَّمُ كيلا
تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عن الْوَقْتِ كما في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ هذه الصَّلَاةَ لَا تَفُوتُهُ أَصْلًا بَلْ إلَى خَلْفٍ وهو
الْقَضَاءُ
وَالْفَائِتُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَالْعِيدَيْنِ لِأَنَّهَا تَفُوتُ أَصْلًا لِمَا يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ فَجَازَ
التَّيَمُّمُ فيها لِخَوْفِ الْفَوَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ التَّيَمُّمِ فَهِيَ إنه بَدَلٌ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ
جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِحَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في
كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخِلَافُ فيه مع غَيْرِ
أَصْحَابِنَا
وَالثَّانِي مع أَصْحَابِنَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ
وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ وَعَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ
بِالتَّيَمُّمِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ في حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ
إلَّا أَنَّهُ يُبَاحُ له الصَّلَاةُ مع قِيَامِ الْحَدَثِ
وقال الشَّافِعِيُّ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وعني بِهِ أَنَّهُ يُبَاحُ له
الصَّلَاةُ مع قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ
الْمُسْتَحَاضَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ لِتَصْحِيحِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُزِيلُ هذا
الْحَدَثَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو رَأَى الْمَاءَ تَعُودُ الْجَنَابَةُ وَالْحَدَثُ
مع أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ
فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ لم يَرْتَفِعْ لَكِنْ أُبِيحَ له أَدَاءُ الصَّلَاةِ مع
قِيَامِ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كما في الْمُسْتَحَاضَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ
وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ
فَقَدْ سمي التَّيَمُّمَ وُضُوءًا وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ فَدَلَّ على أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ
بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ
فإذا وُجِدَ الْمَاءُ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ لَكِنْ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا
في الْمَاضِي فلم يَظْهَرْ في حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى التَّيَمُّمُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ أَنَّهُ
جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ
عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ وَعِنْدَهُ
بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ فَتَتَقَدَّرُ بَدَلِيَّتُهُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَلَا
ضَرُورَةَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ
وَعَلَى هذا يبني أَيْضًا أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ في الْوَقْتِ يَجُوزُ له أَنْ
يُؤَدِّيَ ما شَاءَ من الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو
يُحْدِثْ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ
غير ما تَيَمَّمَ لِأَجْلِهِ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ لِكَوْنِهَا
تَابِعَةً لِلْفَرَائِضِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ في التَّبَعِ لَا يَقِفُ على وُجُودِ
عِلَّةٍ على حِدَةٍ أو شَرْطٍ على حِدَةٍ فيه بَلْ وُجُودُ ذلك في الْأَصْلِ
يَكْفِي لِثُبُوتِهِ في التَّبَعِ كما هو مَذْهَبُهُ في طَهَارَةِ
الْمُسْتَحَاضَةِ وَعَلَى هذا يبنى أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِلنَّفْلِ
____________________
(1/55)
يَجُوزُ
له أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ
له أَدَاءُ الْفَرْضِ لِأَنَّ التَّبَعَ لَا يَسْتَتْبِعُ الْأَصْلَ وَعَلَى هذا
قال الزُّهْرِيُّ أنه لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ رَأْسًا
لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالضَّرُورَةُ في الْفَرَائِضِ لَا في
النَّوَافِلِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَالَ عَدَمِ
الْمَاءِ وَلِأَنَّهُ إن كان لَا يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عن نَفْسِهِ
بِهِ يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ وَالْحَاجَةُ إلَى إحْرَازِ
الثَّوَابِ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الطَّهَارَةُ
لِأَجْلِهِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ في حَقِّ
النَّوَافِلِ بِلَا خِلَافٍ كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا الْخِلَافُ الذي مع أَصْحَابِنَا في كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ فَهُوَ
أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عن الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ
وَالْبَدَلِيَّةُ بين التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ أو التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن
الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْبَدَلِيَّةُ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ
الْوُضُوءِ فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ إنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عن الْمَاءِ
عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْبَدَلِيَّةُ بين التُّرَابِ وَالْمَاءِ
وقال مُحَمَّدٌ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ
وَالْبَدَلِيَّةُ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِتَصْحِيحِ أَصْلِهِ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ
عليه وسلم التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ الْحَدِيثُ
سمي التَّيَمُّمَ وُضُوءًا دُونَ التُّرَابِ وَهُمَا احْتَجَّا بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أَقَامَ الصَّعِيدَ مَقَامَ الْمَاءِ عِنْدَ
عَدَمِهِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وقال جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
وَيَتَفَرَّعُ عن هذا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا أَمَّ
الْمُتَوَضِّئِينَ جَازَتْ إمَامَتُهُ إيَّاهُمْ وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ إذَا لم
يَكُنْ مع الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَإِنْ كان مَعَهُمْ مَاءٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ سَوَاءٌ كان مَعَهُمْ مَاءٌ
أو لم يَكُنْ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ كان مَعَهُمْ مَاءٌ أو لم يَكُنْ
وَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا كانت
الْبَدَلِيَّةُ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَالْمُقْتَدِي إذَا كان على
وُضُوءٍ لم يَكُنْ تَيَمُّمُ الْإِمَامِ طَهَارَةً في حَقِّهِ لِوُجُودِ الْأَصْلِ
في حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ له في حَقِّهِ فَلَا يَجُوزُ
اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَالصَّحِيحِ إذَا اقْتَدَى بِصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ إنه
لَا يَجُوزُ له لِأَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ في حَقِّ
الْمُقْتَدِي فلم تُعْتَبَرْ طَهَارَتُهُ في حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ
لَا طَهَارَةَ له في حَقِّهِ فلم يَجُزْ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هذا وَلَمَّا
كانت الْبَدَلِيَّةُ بين التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ عِنْدَهُمَا فإذا لم يَكُنْ
مع الْمُقْتَدِينَ مَاءٌ كان التُّرَابُ طَهَارَةً مُطْلَقَةً في حَالِ عَدَمِ
الْمَاءِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ
بِالْمَاسِحِ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ
ضَرُورِيَّةٌ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُقَارِنُهَا أو يَطْرَأُ عليها فَلَا تُعْتَبَرُ
في حَقِّ الصَّحِيحِ
وإذا كان مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ في حَقِّ الْمُقْتَدِينَ فَلَا
يَبْقَى التُّرَابُ طَهُورًا في حَقِّهِمْ فلم تَبْقَ طَهَارَةُ الْإِمَامِ
طَهَارَةً في حَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ الْمُتَيَمِّمُ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ ولم يَكُنْ
مَعَهُمْ مَاءٌ ثُمَّ رَأَى وَاحِدٌ منهم الْمَاءَ ولم يَعْلَمْ بِهِ الْإِمَامُ
وَالْآخَرُونَ حتى فَرَغُوا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ
وقال زُفَرُ لَا تَفْسُدُ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ متوضىء ( ( (
متوضئ ) ) ) في نَفْسِهِ فَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تَكُونُ مُفْسِدَةً في حَقِّهِ
وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ
وَلَنَا أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ جُعِلَتْ عَدَمًا في حَقِّهِ لِقُدْرَتِهِ على
الْمَاءِ الذي هو أَصْلٌ إذْ لَا يَبْقَى الْخَلْفُ مع وُجُودِ الْأَصْلِ فَصَارَ
مُعْتَقِدًا فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي إذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ
صَلَاةِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كما لو اشْتَبَهَتْ عليهم الْقِبْلَةُ
فَتَحَرَّى الْإِمَامُ إلَى جِهَةٍ وَالْمُقْتَدِي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى وهو
يَعْلَمُ أَنَّ إمَامَهُ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ
بِهِ كَذَا هذا
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ ما رُوِيَ عن
عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ
الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ
وَهَذَا نَصٌّ الْبَابِ
وَحُجَّتُهُمَا ما رَوَيْنَا من حديث عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه حين
أَمَّرَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على سَرِيَّةٍ
وما رُوِيَ عن عَلِيٍّ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وقد خَالَفَهُ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنه
وَالْمَسْأَلَةُ إذَا كانت مُخْتَلِفَةً بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
لَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً على الْبَعْضِ على أَنَّ فيه أَنَّهُ لَا
يَؤُمُّ وَلَيْسَ فيه أَنَّهُ لو أَمَّ لَا يَجُوزُ وَهَذَا كما رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في
سُلْطَانِهِ ثُمَّ لو أَمَّ جَازَ
كَذَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ
نَوْعَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ
أَمَّا الْعَامُّ فَكُلُّ ما يَنْقُضُ الْوُضُوءَ من الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ
وَالْحُكْمِيِّ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ
وقد مَرَّ بَيَانُ ذلك كُلِّهِ في مَوْضِعِهِ
وَأَمَّا الْخَاصُّ وهو ما يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ على الْخُصُوصِ
____________________
(1/56)
فَوُجُودُ
الْمَاءِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ
لَا يَخْلُو أما إنْ وَجَدَهُ قبل الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وأما إنْ وَجَدَهُ في
الصَّلَاةِ وأما إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ منها فَإِنْ وَجَدَهُ قبل
الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعَنْ أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ
الْمَاءِ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ بَعْدَ صِحَّتِهَا لَا تُنْقَضُ إلَّا
بِالْحَدَثِ وَوُجُودُ الْمَاءِ ليس بِحَدَثٍ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ
وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ
جَعَلَ التَّيَمُّمَ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ
وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلِأَنَّ
التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عن الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلْفِ مع
وُجُودِ الْأَصْلِ كما في سَائِرِ الْأَخْلَافِ مع أُصُولِهَا
وَقَوْلُهُ وُجُودُ الْمَاءِ ليس بِحَدَثٍ مُسَلَّمٌ وَعِنْدَنَا أَنَّ
الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِوُجُودِ الْمَاءِ بَلْ الْحَدَثُ
السَّابِقُ يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ
حُكْمُ ذلك الْحَدَثِ في حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ
ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ نَوْعَانِ وُجُودُهُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى
وهو أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِعْمَالِ له وَأَنَّهُ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ
وَوُجُودُهُ من حَيْثُ الصُّورَةُ دُونَ الْمَعْنَى وهو أَنْ لَا يَقْدِرَ على
اسْتِعْمَالِهِ وَهَذَا لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ حتى لو مَرَّ الْمُتَيَمِّمُ
على الْمَاءِ الْكَثِيرِ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ أو كان غَافِلًا أو نَائِمًا لَا
يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَكَذَا لو مَرَّ على مَاءٍ في مَوْضِعٍ لَا
يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ إلَيْهِ لِخَوْفِ عَدُوٍّ أو سَبُعٍ لَا يُنْتَقَضُ
تَيَمُّمُهُ
كَذَا ذَكَرَ محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ
وقال هذا قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَكَانَ
مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَكَذَا إذَا أتى بِئْرًا وَلَيْسَ معه دَلْوٌ أو رشا ( ( (
رشاء ) ) ) أو وَجَدَ مَاءً وهو يَخَافُ على نَفْسِهِ الْعَطَشَ لَا يُنْتَقَضُ
تَيَمُّمُهُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو وَجَدَ مَاءً مَوْضُوعًا في الْفَلَاةِ في
حب ( ( ( جب ) ) ) أو نَحْوِهِ على قِيَاسِ ما حُكِيَ عن أبي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بن
سَلَّامٍ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلسُّقْيَا دُونَ الْوُضُوءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِالْكَثْرَةِ على أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ
وَالْوُضُوءِ جميعا فَيُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ ما مَنَعَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ نَقَضَ وُجُودُهُ
التَّيَمُّمَ وما لَا فَلَا ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ
إذَا كان الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لِلْوُضُوءِ أو الِاغْتِسَالِ فَإِنْ كان
لَا يَكْفِي لَا يُنْقَضُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَنْقُضُ وَالْخِلَافُ في
الْبَقَاءِ كَالْخِلَافِ في الِابْتِدَاءِ وقد مَرَّ ذِكْرُهُ في بَيَانِ
الشَّرَائِطِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ لو
أَنَّ خَمْسَةً من الْمُتَيَمِّمِينَ وَجَدُوا من الْمَاءِ مِقْدَارَ ما
يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدُهُمْ اُنْتُقِضَ تَيَمُّمُهُمْ جميعا لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ منهم قَدَرَ على اسْتِعْمَالِهِ على سَبِيلِ الْبَدَلِ فَكَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ منهم وَاجِدًا لِلْمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ
جميعا وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم قَدَرَ على اسْتِعْمَالِهِ بِيَقِينٍ وَلَيْسَ
الْبَعْضُ أَوْلَى من الْبَعْضِ فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ احْتِيَاطًا
وَلَوْ كان لِرَجُلٍ مَاءٌ فقال أَبَحْتُ لَكُمْ هذا الْمَاءَ يَتَوَضَّأُ بِهِ
أَيُّكُمْ شَاءَ وهو قَدْرُ ما يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمْ انْتَقَضَ
تَيَمُّمُهُمْ جميعا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قال هذا الْمَاءُ لَكُمْ لَا يَنْتَقِضُ
تَيَمُّمُهُمْ بِإِجْمَاعٍ بين أَصْحَابِنَا أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
فَلِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ فلم
يَثْبُتْ الْمِلْكُ رَأْسًا
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَالْهِبَةُ وَإِنْ صَحَّتْ وَأَفَادَتْ الْمِلْكَ
لَكِنْ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم ما يَكْفِي لِوُضُوئِهِ فَكَانَ مُلْحَقًا
بِالْعَدَمِ حتى أَنَّهُمْ لو أَذِنُوا لِوَاحِدٍ منهم بِالْوُضُوءِ انْتَقَضَ
تَيَمُّمُهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ قَدَرَ على ما يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَعِنْدَهُ
الْهِبَةُ فَاسِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ في الزِّيَادَاتِ مُسَافِرٌ مُحْدِثٌ على
ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَمَعَهُ ما يَكْفِي
لِأَحَدِهِمَا غَسَلَ بِهِ الثَّوْبَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وهو قَوْلُ حَمَّادٍ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ أَغْلَظُ النَّجَاسَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ
مع الثَّوْبِ النَّجِسِ جَائِزَةٌ في الْجُمْلَةِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا جَوَازَ لها
مع الْحَدَثِ بِحَالٍ
وَلَنَا أَنَّ الصَّرْفَ إلَى النَّجَاسَةِ يَجْعَلُهُ مُصَلِّيًا بِطَهَارَتَيْنِ
حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ فَكَانَ أَوْلَى من الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ
وَيَجِبُ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ من النَّجَاسَةِ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَلَوْ بَدَأَ
بِالتَّيَمُّمِ لَا يَجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ قَدَرَ على
مَاءٍ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ تَجُوزُ بِهِ صَلَاتُهُ وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ في
الصَّلَاةِ فَإِنْ وَجَدَهُ قبل أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ
انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ وَتَوَضَّأَ بِهِ وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا
وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ في قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ
يَقْرُبُ الْمَاءُ منه حتى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ وفي قَوْلٍ يَمْضِي على
صَلَاتِهِ وهو أَظْهَرُ أَقْوَالِهِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ قد صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ
الْمَاءِ كما إذَا رَأَى بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَهَذَا لِأَنَّ
رُؤْيَةَ الْمَاءِ ليس بِحَدَثٍ وَالْمَوْجُودُ ليس إلَّا الرُّؤْيَةُ فَلَا
تَبْطُلُ
____________________
(1/57)
الصَّلَاةُ
وإذا لم تَبْطُلْ الصَّلَاةُ فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تُعْجِزُهُ عن اسْتِعْمَالِ
الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ مَعْنًى كما إذَا كان على رَأْسِ
الْبِئْرِ ولم يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ
وَلَنَا أَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ انْعَقَدَتْ مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ
وُجُودِ الْمَاءِ بِالْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا فَتَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ
الْمَاءِ فَلَوْ أَتَمَّهَا لَأَتَمَّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم تَبْقَ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ
وَقَوْلُهُ إنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فَلَا تُبْطِلُ الطَّهَارَةَ
قُلْنَا بَلَى وَعِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ بَلْ تَنْتَهِي لِكَوْنِهَا مُؤَقَّتَةً
إلَى غَايَةِ الرُّؤْيَةِ وَلِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا
بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ عِنْدَنَا بَلْ بِالْحَدَثِ السَّابِقُ على الشُّرُوعِ في
الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ أَثَرُهُ في حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ
لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَة في الصَّلَاةِ التي لم تُؤَدَّ فَظَهَرَ أَثَرُ
الْحَدَثِ السَّابِقِ وَصَارَ كَخُرُوجِ الْوَقْتِ في حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ
وَلِأَنَّهُ قَدَرَ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَذَلِكَ
يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ
وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ أو بَعْدَ ما
سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَهَذِهِ من الْمَسَائِلِ
الْمَعْرُوفَةِ بالاثني ( ( ( بالاثنا ) ) ) عَشْرِيَّةَ وَالْأَصْلُ فيها أَنَّ
ما كان من أَفْعَالِ الْمُصَلِّي ما يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لو وُجِدَ في
أَثْنَائِهَا لَا يُفْسِدُهَا إنْ وُجِدَ في هذه الْحَالَةِ بِإِجْمَاعٍ بين
أَصْحَابِنَا مِثْلُ الْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَنَحْوِ
ذلك وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَفْسُدُ بِنَاءً على أَنَّ الْخُرُوجَ من الصَّلَاةِ
بِالسَّلَامِ ليس بِفَرْضٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ فَرْضٌ على ما يُذْكَرُ
وَأَمَّا ما ليس من فِعْلِ الْمُصَلِّي بَلْ هو مَعْنًى سَمَاوِيٌّ لَكِنَّهُ لو
اعْتَرَضَ في أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فإذا وُجِدَ في هذه
الْحَالَةِ هل يُفْسِدُهَا
قال أبو حَنِيفَةَ يُفْسِدُهَا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُفْسِدُهَا وَذَلِكَ كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ
مَاءً وَالْمَاسِحِ على الْخُفَّيْنِ إذَا انْقَضَى وَقْتُ مَسْحِهِ وَالْعَارِي
يَجِدُ ثَوْبًا وَالْأُمِّيِّ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ
السَّائِلِ يَنْقَطِعُ عنه السَّيَلَانُ وَصَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ
فَائِتَةً وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ يوم الْجُمُعَةِ وهو في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَسُقُوطِ الْخُفِّ عن الْمَاسِحِ عليه إذَا كان وَاسِعًا بِدُونِ فِعْلِهِ
وَطُلُوعِ الشَّمْسِ في هذه الْحَالَةِ لِمُصَلِّي الْفَجْرِ والمومي ( ( (
والمومئ ) ) ) إذَا قَدَرَ على الْقِيَامِ والقارىء ( ( ( والقارئ ) ) ) إذَا
اسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا وَالْمُصَلِّي بِثَوْبٍ فيه نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ من قَدْرِ
الدِّرْهَمِ ولم يَجِدْ مَاءً لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ في هذه الْحَالَةِ
وَقَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ
وَالْمُصَلِّي إذَا سَقَطَ الْجَبَائِرُ عنه عن بُرْءٍ وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ
ذِكْرُ كل وَاحِدَةٍ من هذه الْمَسَائِلِ في مَوْضِعِهَا وَإِنَّمَا جَمَعْنَاهَا
اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَتَيْسِيرًا لِلْحِفْظِ على الْمُتَعَلِّمِينَ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال إنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ
خُرُوجَ الْمُصَلِّي من الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَرْضٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا ليس بِفَرْضٍ وَمِنْهُمْ من تَكَلَّمَ في الْمَسْأَلَةِ من وَجْهٍ
آخَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الصَّلَاةَ قد انْتَهَتْ بِالْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ
لِانْتِهَاءِ أَرْكَانِهَا
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
حين عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ تَمَّتْ
صَلَاتُكَ وَالصَّلَاةُ بَعْدَ تَمَامِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسَادَ وَلِهَذَا
لَا تَفْسُدُ بِالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ
وَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّ الْخُرُوجَ بِفِعْلِهِ ليس بِفَرْضٍ لِأَنَّهُ
وَصَفَ الصَّلَاةَ بِالتَّمَامِ وَلَا تَمَامَ يَتَحَقَّقُ مع بَقَاءِ رُكْنٍ من
أَرْكَانِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الصَّلَاةَ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
في الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَكَذَا إصَابَةُ لَفْظِ السَّلَامِ لِأَنَّ
تَمَامَ الشَّيْءِ وَانْتِهَاءَهُ مع بَقَاءِ شَيْءٍ منه مُحَالٌ إلَّا أَنَّهُ لو
قَهْقَهَ في هذه الْحَالَةِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ لِأَنَّ انْتِقَاضَهَا
يَعْتَمِدُ قِيَامَ التَّحْرِيمَةِ وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ
فَأَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَيَسْتَدْعِي بَقَاءَ التَّحْرِيمَةِ مع بَقَاءِ
الرُّكْنِ ولم يَبْقَ عليه رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ من الصَّلَاةِ ضِدُّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا وَضِدُّ
الشَّيْءِ كَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا له وَلِأَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَحْصُلُ
الْخُرُوجُ بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْكَلَامِ وَهَذِهِ
الْأَشْيَاءُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا وَالْوَجْهُ
لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ في عِدَّةٍ من هذه الْمَسَائِلِ من غَيْرِ
الْبِنَاءِ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ ليس لِوُجُودِ
هذه الْعَوَارِضِ بَلْ بِوُجُودِهَا يَظْهَرُ أنها كانت فَاسِدَةً
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ صَارَ مُحْدِثًا
بِالْحَدَثِ السَّابِقِ في حَقِّ الصَّلَاةِ التي لم تُؤَدَّ لِأَنَّهُ وُجِدَ منه
الْحَدَثُ ولم يُوجَدْ منه ما يُزِيلُهُ حَقِيقَةً لِأَنَّ التُّرَابَ ليس
بِطَهُورٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ حُكْمُ الْحَدَثِ في حَقِّ
الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلْحَرَجِ كيلا تَجْتَمِعَ عليه الصَّلَوَاتُ فيحرج ( (
( فيخرج ) ) ) في قَضَائِهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَدَثِ السَّابِقِ دَفْعًا
لِلْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ في الصَّلَاةِ التي لم تُؤَدَّ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ
غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فإن تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ بِلَا خِلَافٍ وكذاالركن
الْأَخِيرُ بَاقٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ في حُكْمِ الرُّكْنِ
كَالْقِرَاءَةِ إذَا طَالَتْ فَظَهَرَ
____________________
(1/58)
فيها
حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشُّرُوعَ فيها لم يَصِحَّ كما لو
اعْتَرَضَ هذا الْمَعْنَى في وَسَطِ الصَّلَاةِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ انْقِضَاءُ
مُدَّةِ الْمَسْحِ لِأَنَّهُ إذَا انْقَضَى وَقْتُ الْمَسْحِ صَارَ مُحْدِثًا
بِالْحَدَثِ السَّابِقِ لِأَنَّ الْحَدَثَ قد وُجِدَ ولم يُوجَدْ ما يُزِيلُهُ عن
الْقِدَمِ حَقِيقَةً لَكِنْ الشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ فِيمَا
أَدَّى من الصَّلَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالْتَحَقَ الْمَانِعُ بِالْعَدَمِ في
حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ وَلَا حَرَجَ فِيمَا لم يُؤَدَّ فَظَهَرَ حُكْمُ
الْحَدَثِ السَّابِقِ فيه
وَعَلَى هذا إذا سَقَطَ خُفُّهُ من غَيْرِ صُنْعِهِ وَكَذَا صَاحِبُ الْجُرْحِ
السَّائِلِ وَمَنْ هو بِمِثْلِ حَالِهِ وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا كان على ثَوْبِهِ
نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ ولم يَجِدْ الْمَاءَ لِيَغْسِلَهُ
فَوُجِدَ في هذه الْحَالَةِ لِأَنَّ هذه النَّجَاسَةَ إنَّمَا سَقَطَ
اعْتِبَارُهَا لِمَا قُلْنَا من الحرج ( ( ( الجرح ) ) ) وَلَا حَرَجَ في هذه
الصَّلَاةِ وَكَذَا الْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا والمومي ( ( ( والمومئ ) ) )
إذَا قَدَرَ على الْقِيَامِ وَالْأُمِّيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّ
السَّتْرَ وَالْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ فَرْضٌ على الْقَادِرِ عليها وَالسُّقُوطُ
عن هَؤُلَاءِ لِلْعَجْزِ وقد زَالَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ
الْكُلِّ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عن الصَّوْمِ وَالْمُغْمَى عليه يَجِبُ
عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ سَقَطَ لِأَجْلِ
الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ في حَقِّ هذه الصَّلَاةِ وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ نَظِيرَ
تِلْكَ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ ثَمَّةَ أَصْلًا وَهَهُنَا حَصَلَتْ
الْقُدْرَةُ في جُزْءٍ منها
وَعَلَى هذا صَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً لِأَنَّهُ ظَهَرَ
أَنَّهُ أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ قبل وَقْتِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ
قَضَاءُ الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِمَّا
يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَلَا حَرَجَ في حَقِّ هذه الصَّلَاةِ وَعَلَى هذا الْمُصَلِّي
إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ عن يَدِهِ عن بُرْءٍ لِأَنَّ الْغَسْلَ وَاجِبٌ على
الْقَادِرِ وَإِنْ سَقَطَ عنه لِلْعَجْزِ فإذا زَالَ الْعَجْزُ كان يَنْبَغِي أَنْ
يَقْضِيَ ما مَضَى بَعْدَ الْبُرْءِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ وفي ( ( (
وفيه ) ) ) هذه الصَّلَاة لَا حَرَجَ
وَأَمَّا قَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَهُوَ في هذه الْحَالَةِ
يَخْرُجُ على وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْوَاجِبَ في ذِمَّتِهِ كَامِلٌ والمؤدي في
هذا الْوَقْتِ نَاقِصٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ
وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ فَلَا يَقَعُ قَضَاءً وَلَكِنَّهُ
يَقَعُ تَطَوُّعًا لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فيه جَائِزٌ فَيَنْقَلِبُ تَطَوُّعًا
وَعَلَى هذا مُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه
الْأَدَاءُ كَامِلًا لِأَنَّ الْوَقْتَ النَّاقِصَ قَلِيلٌ لَا يَتَّسِعُ
لِلْأَدَاءِ فَلَا يَجِبُ نَاقِصًا بَلْ كَامِلًا في غَيْرِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ
فإذا أتى بِهِ فيه صَارَ نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ بِخِلَافِ
صَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْوَقْتَ النَّاقِصَ مِمَّا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ
الصَّلَاةِ فيه فَيَجِبُ نَاقِصًا وقد أَدَّاهُ نَاقِصًا فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا دُخُولُ وَقْتِ الْعَصْرِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ في هذه الْحَالَةِ
فَيَخْرُجُ على وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الظُّهْرَ هو الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ في
كل يَوْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ
إلَى الرَّكْعَتَيْنِ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ عَرَفْنَاهَا
بِالنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى وَالْوَقْتُ من
شَرَائِطِهِ فَمَتَى لم يُوجَدْ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ لم يَكُنْ هذا نَظِيرَ
الْمَخْصُوصِ عن الْأَصْلِ فلم يَجُزْ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ هو الظُّهْرُ
فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْحَدَثِ
الْعَمْدِ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْفَسَادَ لِوُجُودِ هذه الْعَوَارِضِ لِأَنَّهَا نَوَاقِضُ
الصَّلَاةِ وقد صَادَفَتْ جزأ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَأَوْجَبَ فَسَادَ ذلك
الْجُزْءِ غير أَنَّ ذلك زِيَادَةٌ تَسْتَغْنِي الصَّلَاةُ عنها فَكَانَ
وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ عليها بِخِلَافِ ما
إذَا اعْتَرَضَتْ في أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ فَسَادَ ذلك
الْجُزْءِ الْأَصْلِيِّ وَلَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ
الْبِنَاءُ بَعْدَ ذلك
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَكَمَ بِتَمَامِ
الصَّلَاةِ
وَبِوُجُودِ هذه الْعَوَارِضِ تَبَيَّنَ أنها ما كانت صَلَاةً إذْ لَا وُجُودَ
لِلصَّلَاةِ مع الْحَدَثِ وَمَعَ فَقْدِ شَرْطٍ من شَرَائِطِهَا وقد مَرَّ بَيَانُ
ذلك وَكَذَا الصَّلَاةُ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ مَخْصُوصَةٌ عن هذا
النَّصِّ بِالنَّهْيِ عن الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عن النُّقْصَانِ
وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَخْصُوصَةٌ عن هذا النَّصِّ بِالدَّلَائِلِ
الْمُطْلَقَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ في كل يَوْمٍ على ما مَرَّ هذا
إذَا وَجَدَ في الصَّلَاةِ مَاءً مُطْلَقًا فَإِنْ وَجَدَ سُؤْرَ حِمَارٍ مَضَى على
صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فيه وَشُرُوعُهُ في الصَّلَاةِ قد صَحَّ فَلَا
يَقْطَعُ بِالشَّكِّ بَلْ يَمْضِي على صَلَاتِهِ فإذا فَرَغَ منها تَوَضَّأَ بِهِ
وَأَعَادَ لِأَنَّهُ إنْ كان مُطَهَّرًا في نَفْسِهِ ما جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ
كان غَيْرُ مُطَهَّرٍ في نَفْسِهِ جَازَتْ بِهِ صَلَاتُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ في
الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ احْتِيَاطًا
وَإِنْ وَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَنْتَقِضُ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ طَهُورًا أَصْلًا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَمْضِي على صَلَاتِهِ ثُمَّ يُعِيدُهَا كما في سُؤْرِ
الْحِمَارِ هذا كُلُّهُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ في الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا
وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ فَإِنْ كان بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ
فَلَيْسَ عليه إعَادَةُ ما صلى بِالتَّيَمُّمِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان في
____________________
(1/59)
الْوَقْتِ
فَكَذَلِكَ عِنْد عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ يُعِيدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَقْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ شَرْعًا كما في
الْمُسْتَحَاضَةِ فَكَانَ الْوُجُودُ في الْوَقْتِ كَالْوُجُودِ في أَثْنَاءِ
الْأَدَاءِ حَقِيقَةً وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ فإذا قَدَرَ على الْأَصْلِ
بَطَلَ الْبَدَلُ كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى أو أَحَجَّ ثُمَّ قَدَرَ على
الصَّوْمِ وَالْحَجِّ بِنَفْسِهِ
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ
فإذا صلى حَالَةَ الْعَدَمِ فَقَدْ أَدَّى الصَّلَاةَ بِطَهَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ
شَرْعًا فَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقد
تَيَمَّمَا من جَنَابَةٍ وَصَلَّيَا وَأَدْرَكَا الْمَاءَ في الْوَقْتِ فَأَعَادَ
أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ ولم يُعِدْ الْآخَرُ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلَّذِي
أَعَادَ أَمَّا أنت فَقَدْ أُوتِيتَ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ
وقال لِلْآخَرِ أَمَّا أنت فَقَدْ أَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ عَنْكَ أَيْ كَفَتْكَ
جَزَى وَأَجْزَأَ مَهْمُوزًا بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ وَهَذَا يَنْفِي وُجُوبَ
الْإِعَادَةِ وما ذُكِرَ من اعْتِبَارِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
الصَّلَاةِ بِالْوُجُودِ في الصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ
لِلْحَقِيقَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ في خِلَالِ
الصَّلَاةِ كَذَا هذا
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنه قَدَرَ على الْأَصْلِ فَنَعَمْ لَكِنْ بَعْدَ حُصُولِ
الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ
الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ
بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ بِخِلَافِ
الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ وَفَدَى عن صَوْمِهِ ثُمَّ
قَدَرَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِحْجَاجِ وَالْفِدْيَةِ مُعَلَّقٌ
بِالْيَأْسِ عن الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَالصَّوْمِ بِنَفْسِهِ فإذا قَدَرَ بِنَفْسِهِ
ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَأْسَ فَأَمَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ فَمُعَلَّقٌ بِالْعَجْزِ
عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالْعَجْزُ كان مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الصَّلَاةِ
وَبِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ ذلك لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا عَجْزَ فَهُوَ
الْفَرْقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ الطَّهَارَةُ عن النَّجِسِ
فَالْكَلَامُ فيها في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ
أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْمِقْدَارِ الذي يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِهِ نَجِسًا
شَرْعًا
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ النَّجِسِ
أما أَنْوَاعُ الْأَنْجَاسِ فَمِنْهَا ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ
أَنْ كُلَّ ما يَخْرُجُ من بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ
الْوُضُوءُ أو الْغُسْلُ فَهُوَ نَجِسٌ من الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ
وَالْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ
وَالدَّمِ السَّائِلِ من الْجُرْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِ ذلك مُسَمًّى بِالتَّطْهِيرِ قال اللَّهُ تَعَالَى
في آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وقال في
الْغُسْلِ من الْجَنَابَةِ { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وقال في
الْغُسْلِ من الْحَيْضِ { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } وَالطَّهَارَةُ
لَا تَكُونُ إلَّا عن نَجَاسَةٍ وقال تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ }
وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُ هذه الْأَشْيَاءَ وَالتَّحْرِيمُ لَا
لِلِاحْتِرَامِ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ في
ذلك كُلِّهِ إذْ النَّجِسُ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ وَكُلُّ ذلك مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ
الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ وَلَا
خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ إلَّا في الْمَنِيِّ فإن الشَّافِعِيَّ زَعَمَ أَنَّهُ
طَاهِرٌ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كنت أَفْرُكُ
الْمَنِيَّ من ثَوْبِ رسول اللَّهِ فَرْكًا وهو يُصَلِّي فيه وَالْوَاوُ وَاوُ
الْحَالِ أَيْ في حَالِ صَلَاتِهِ وَلَوْ كان نَجِسًا لَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ في
الصَّلَاةِ معه فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ ولم يُنْقَلْ إلَيْنَا الْإِعَادَةُ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْمَنِيُّ كَالْمُخَاطِ
فَأَمِطْهُ عَنْكَ وَلَوْ بِالْإِذْخِرِ
شَبَّهَهُ بِالْمُخَاطِ وَالْمُخَاطُ ليس بِنَجِسٍ كَذَا الْمَنِيُّ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِإِمَاطَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِقَذَارَتِهِ
وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ رضي اللَّهُ عنه كان يَغْسِلُ
ثَوْبَهُ من النُّخَامَةِ فَمَرَّ عليه رسول اللَّهِ فقال له ما تَصْنَعُ يا
عَمَّارُ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فقال ما نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ
وَالْمَاءُ الذي في رِكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءٌ إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ من
خَمْسٍ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَقَيْءٍ وَمَنِيٍّ وَدَمٍ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّوْبَ
يُغْسَلُ من هذه الْجُمْلَةِ لَا مَحَالَةَ وما يُغْسَلُ الثَّوْبُ منه لَا مَحَالَةَ
يَكُونُ نَجِسًا فَدَلَّ أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لها إذَا
رَأَيْتِ الْمَنِيَّ في ثَوْبِك فَإِنْ كان رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ وَإِنْ كان
يَابِسًا فَحُتِّيهِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ على الْوُجُوبِ وَلَا يَجِبُ
إلَّا إذَا كان نَجِسًا وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بخروج ( ( ( بخروجه ) ) ) أَغْلَظُ
الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ الِاغْتِسَالُ وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عن
نَجَاسَةٍ وَغِلَظُ الطَّهَارَةِ يَدُلَّ على غِلَظِ النَّجَاسَةِ كَدَمِ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلِأَنَّهُ يَمُرُّ بِمِيزَابِ النَّجَسِ فَيَنْجَسُ
____________________
(1/60)
بِمُجَاوَرَتِهِ
وَإِنْ لم يَكُنْ نَجِسًا بِنَفْسِهِ وَكَوْنُهُ أَصْلَ الأدمي لَا يَنْفِي أَنْ
يَكُونَ نَجِسًا كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وما رُوِيَ من الحديث يُحْتَمَلُ
أَنَّهُ كان قَلِيلًا وَلَا عُمُومَ له لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ أو نَحْمِلُهُ
على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَتَشْبِيهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما إيَّاهُ بِالْمُخَاطِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في الصُّورَةِ لَا في
الْحُكْمِ لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْمُخَاطِ وَالْأَمْرُ بِالْإِمَاطَةِ
بِالْإِذْخِرِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ فَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْإِمَاطَةِ كيلا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ في
الثَّوْبِ فَيَتَعَسَّرُ غَسْلُهُ
وَأَمَّا الدَّمُ الذي يَكُونُ على رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقَيْءُ إذَا كان أَقَلَّ
من مِلْءِ الْفَمِ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ ليس بِنَجِسٍ وهو قِيَاسُ
ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ نَجِسٌ هو يقول أنه جُزْءٌ من الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالدَّمُ
الْمَسْفُوحُ نَجِسٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وأبو يُوسُفَ يقول إنَّهُ ليس
بِمَسْفُوحٍ بِنَفْسِهِ وَالنَّجِسُ هو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنه رِجْسٌ }
وَالرِّجْسُ هو النَّجِسُ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ
سِوَاهَا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا نَجِسَ سِوَاهَا إذْ لو كان لَكَانَ مُحَرَّمًا إذْ
النَّجَسُ مُحَرَّمٌ وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ
وَوَجْهٌ آخَرَ من الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ نَفَى حُرْمَةَ
غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَأَثْبَتَ حُرْمَةَ الْمَذْكُورِ وَعَلَّلَ لِتَحْرِيمِهِ
بِأَنَّهُ رِجْسٌ أَيْ نَجِسٌ وَلَوْ كان غَيْرُ الْمَذْكُورِ نَجِسًا لَكَانَ
مُحَرَّمًا لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ لِأَنَّهُ
يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فيه
وَدَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ ليس بِنَجِسٍ عِنْدَنَا حتى لو وَقَعَ في
الْمَاءِ الْقَلِيل لَا يُنَجِّسُهُ وَلَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ أَكْثَرُ من قَدْرِ
الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
وقال الشَّافِعِيُّ هو نَجِسٌ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عنه في الثَّوْبِ لِلضَّرُورَةِ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ }
من غَيْرِ فَصْلٍ بين السَّائِلِ وَغَيْرِهِ وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ
دَلِيلُ النَّجَاسَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا }
الْآيَةَ وَالِاسْتِدْلَالُ بها من الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا
وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عنها مُتَعَذِّرَةٌ فَلَوْ أعطى لها
حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا
بِالنَّصِّ وَبِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من
الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدِ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَدَمُ الْأَوْزَاغِ نَجِسٌ
لِأَنَّهُ سَائِلٌ وَكَذَا الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ من سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ
لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَمَّا كان نَجِسًا من الْآدَمِيِّ
الْمُكَرَّمِ فَمِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى
وَأَمَّا دَمُ السَّمَكِ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ
أَخَذَ الشَّافِعِيُّ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدِّمَاءِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على إبَاحَةِ تَنَاوُلِهِ مع دَمِهِ
وَلَوْ كان نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ ولأنه ليس بِدَمٍ حَقِيقَةً بَلْ هو مَاءٌ تَلَوَّنَ
بِلَوْنِ الدَّمِ لِأَنَّ الدَّمَوِيَّ لَا يَعِيشُ في الْمَاءِ وَالدَّمُ الذي
يَبْقَى في الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ ليس
بِمَسْفُوحٍ وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مع اللَّحْمِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ في الْأَكْلِ غَيْرُ مَعْفُوٍّ في
الثِّيَابِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عنه في الْأَكْلِ وَإِمْكَانِهِ في
الثَّوْبِ
وَمِنْهَا ما يَخْرُجُ من أَبْدَانِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ من الْبَهَائِمِ من
الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
أَمَّا الْأَبْوَالُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ بَوْلَ كل ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
نَجِسٌ وَاخْتُلِفَ في بَوْلِ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ نَجِسٌ
وقال مُحَمَّدٌ طَاهِرٌ حتى لو وَقَعَ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ
وَيُتَوَضَّأُ منه ما لم يَغْلِبْ عليه وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ
أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا مع
قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَقَوْلِهِ ليس في الرِّجْسِ شِفَاءٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ
وَلَهُمَا حَدِيثُ عَمَّارٍ إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ من خَمْسٍ وَذَكَرَ من
جُمْلَتِهَا الْبَوْلَ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ وما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ
قال اسْتَنْزِهُوا من الْبَوْلِ فإن عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ منه من غَيْرِ فَصْلٍ
وقَوْله تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهُ وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ لَا لِاحْتِرَامِهِ
وَكَرَامَتِهِ تَنْجِيسٌ له شَرْعًا وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فيه مَوْجُودٌ
وهو الِاسْتِقْذَارُ الطَّبِيعِيُّ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى فَسَادٍ وَهِيَ
الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ
فَصَارَ كَرَوْثَةِ وَكَبَوْلِ ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةَ أَنَّ النبي أَمَرَ بِشُرْبِ
أَلْبَانِهَا دُونَ أَبْوَالِهَا فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ على أَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ شِفَاءَهُمْ فيه
وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ عِنْدَ التَّيَقُّنِ لِحُصُولِ الشِّفَاءِ
فيه كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَالْخَمْرِ عِنْد الْعَطَشِ
وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ وَإِنَّمَا لَا يُبَاحُ بِمَا لَا يُسْتَيْقَنُ حُصُولُ
الشِّفَاءِ بِهِ ثُمَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي
لِحَدِيثِ
____________________
(1/61)
الْعُرَنِيِّينَ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يُبَاحُ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الذي
لَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ حَرَامٌ وَكَذَا بِمَا لَا يُعْقَلُ فيه
الشِّفَاءُ وَلَا شِفَاءَ فيه عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على
أَنَّهُ عَرَفَ شِفَاءَ أُولَئِكَ فيه على الْخُصُوصِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَرْوَاثُ فَكُلُّهَا نَجِسَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال زُفَرُ رَوْثُ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ وهو قَوْلُ مَالِكٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ الشُّبَّانَ من الصَّحَابَةِ في مَنَازِلِهِمْ وفي
السَّفَرِ كَانُوا يَتَرَامَوْنَ بِالْجِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ
وَلَوْ كانت نَجِسَةً لَمَا مَسُّوهَا وَعَلَّلَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ وَقُودُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ يَسْتَعْمِلُونَهُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي
طَلَبَ منه أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فأتى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ
الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى الرَّوْثَةَ وقال إنَّهَا رِكْسٌ أَيْ نَجَسٌ وَلِأَنَّ
مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فيها وهو الِاسْتِقْذَارُ في الطِّبَاعِ
السَّلِيمَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى نَتِنٍ وَخُبْثِ رَائِحَةٍ مع إمْكَانِ
التَّحَرُّزِ عنه فَكَانَتْ نَجِسَةً
وَمِنْهَا خُرْءُ بَعْضِ الطُّيُورِ من الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَجُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّ الطُّيُورَ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَذْرِقُ في الْهَوَاءِ
وَنَوْعٌ يَذْرِقُ في الْهَوَاءِ أَمَّا ما لَا يَذْرِقُ في الْهَوَاءِ
كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ فَخُرْؤُهُمَا نَجِسٌ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فيه
وهو كَوْنُهُ مُسْتَقْذَرًا لِتَغَيُّرِهِ إلَى نَتْنٍ وَفَسَادِ رَائِحَةٍ
فَأَشْبَهَ الْعَذِرَةَ
وفي الأوز عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ ليس
بِنَجِسٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّهُ نَجِسٌ
وما يَذْرِقُ في الْهَوَاءِ نَوْعَانِ أَيْضًا ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْحَمَامِ
وَالْعُصْفُورِ وَالْعَقْعَقِ وَنَحْوِهَا وَخُرْؤُهَا طَاهِرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّبْعَ قد أَحَالَهُ إلَى فَسَاد فَوُجِدَ مَعْنَى
النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ وَالْعَذِرَةَ
وَلَنَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ اعْتَادُوا اقْتِنَاءَ الْحَمَامَاتِ في
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ مع عِلْمِهِمْ أنها تَذْرِقُ
فيها وَلَوْ كان نَجِسًا لَمَا فَعَلُوا ذلك مع الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ
وهو قَوْله تَعَالَى { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ }
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ حَمَامَةً ذَرَقَتْ عليه
فَمَسَحَهُ وَصَلَّى وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ ذلك في
الْعُصْفُورِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ إحَالَةِ الطَّبْعِ لَا يَكْفِي
لِلنَّجَاسَةِ ما لم يَكُنْ لِلْمُسْتَحِيلِ نَتْنٌ وَخُبْثُ رَائِحَةٍ
تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هَهُنَا على أَنَّا
إنْ سَلَّمْنَا ذلك لَكَانَ التَّحَرُّزُ عنه غير مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ في
الْهَوَاءِ فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عنه فَسَقَطَ
اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ كَدَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ
وَحَكَى مَالِكٌ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ على الطَّهَارَةِ وَمِثْلُهُ
لَا يَكْذِبُ فَلَئِنْ لم يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ من حَيْثُ الْقَوْلُ يَثْبُتُ من
حَيْثُ الْفِعْلُ وهو ما بَيَّنَّا وما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالصَّقْرِ
وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَأَشْبَاهِ ذلك خَرْؤُهَا طَاهِرٌ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فيه لِإِحَالَةِ الطَّبْعِ
إيَّاهُ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ فَأَشْبَهَ غير الْمَأْكُولِ من الْبَهَائِمِ
وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ
لِأَنَّهَا تَسْكُنُ الْمُرُوجَ وَالْمَفَاوِزَ بِخِلَافِ الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ في الْهَوَاءِ
فَيَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عنها وَكَذَا الْمُخَالَطَةُ
ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَذْرِقَانِ في
الْهَوَاءِ فَكَانَتْ الصِّيَانَةُ مُمْكِنَةً
وَخُرْءُ الْفَأْرَةِ نَجِسٌ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ وَاخْتَلَفُوا
في الثَّوْبِ الذي أَصَابَهُ بَوْلُهَا حُكِيَ عن بَعْضِ مَشَايِخِ بَلْخٍ أَنَّهُ
قال لو اُبْتُلِيتُ بِهِ لَغَسَلْتُهُ فَقِيلَ له من لم يَغْسِلْهُ وَصَلَّى فيه
فقال لَا آمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ وَبَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخُرْؤُهَا ليس بِنَجِسٍ
لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عنه لِأَنَّهَا تَبُولُ في
الْهَوَاءِ وَهِيَ فَأْرَةٌ طَيَّارَةُ فَلِهَذَا تَبُولُ
وَمِنْهَا الْمَيْتَةُ التي لها دَمٌ سَائِلٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في
الْمَيْتَاتِ أنها نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ما ليس له دَمٌ سَائِلٌ
وَالثَّانِي ما له دَمٌ سَائِلٌ أَمَّا الذي ليس له دَمٌ سَائِلٌ فَالذُّبَابُ
وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَالسَّرَطَانُ وَنَحْوُهَا وَأَنَّهُ ليس بِنَجِسٍ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ إلَّا الذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ فَلَهُ فِيهِمَا
قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ }
وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال مَوْتُ كل حَيَوَانٍ ليس له نَفْسٌ سَائِلَةٌ في الْمَاءِ لَا يفسد (
( ( يفسده ) ) ) وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَرَوَى أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا وَقَعَ
الذُّبَابُ في إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ ثُمَّ اُنْقُلُوهُ فإن في أَحَدِ
جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وفي الْآخَرِ دَوَاءٌ وهو يُقَدِّمُ الدَّاءَ على الدَّوَاءِ
وَلَا شَكَّ أَنَّ
____________________
(1/62)
الذُّبَابَ
مع ضَعْفِ بِنْيَتِهِ إذَا مَقَلَ في الطَّعَامِ الْحَارِّ يَمُوتُ فَلَوْ
أَوْجَبَ التَّنْجِيسُ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْمَقْلِ أَمْرًا بِإِفْسَادِ
الْمَالِ وَإِضَاعَتِهِ مع نَهْيِ النبي عن إضَاعَةِ الْمَالِ وَأَنَّهُ
مُتَنَاقِضٌ وَحَاشَا أَنْ يَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَلِأَنَّا لو حَكَمْنَا
بِنَجَاسَتِهَا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ
الْأَوَانِي عنها فَأَشْبَهَ مَوْتَ الدُّودَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ عن الْخَلِّ فيه
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ لم يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ
مع ما أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مَخْصُوصَانِ عن النَّصِّ إذْ هُمَا
مَيْتَتَانِ بِنَصِّ النبي وَالْمُخَصِّصُ انْعِدَامُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ
وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ هَهُنَا مُنْعَدِمٌ
وَأَمَّا الذي له دَمٌ سَائِلٌ فَلَا خِلَافَ في الْأَجْزَاءِ التي فيها دَمٌ من
اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ وَنَحْوِهَا أنها نَجِسَةٌ لِاحْتِبَاسِ
الدَّمِ النَّجِسِ فيها وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ
وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ التي لَا دَمَ فيها فَإِنْ كانت صُلْبَةً كَالْقَرْنِ
وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ
وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ والأنفحة الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْمَيْتَاتُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ لِظَاهِرِ قَوْله
تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ
دَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَلِأَصْحَابِنَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذه
الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ من الْحَيَوَانِ في عُرْفِ
الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ من الْعِبَادِ أو
بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلَا حَيَاةَ في هذه الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ
مَيْتَةً
وَالثَّانِي أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِمَا
فيها من الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ ولم تُوجَدْ في هذه
الْأَشْيَاءِ وَعَلَى هذا ما أُبِينَ من الْحَيِّ من هذه الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كان
الْمُبَانُ جزأ فيه دَمٌ كَالْيَدِ وَالْأُذُنِ وَالْأَنْفِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ
نَجِسٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه دَمٌ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ
وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَأَمَّا الأنفحة الْمَائِعَةُ وَاللَّبَنُ فَطَاهِرَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجِسَانِ
لَهُمَا أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كان طَاهِرًا في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَارَ نَجِسًا
لِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّ لَكُمْ في
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ من بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَصَفَ اللَّبَنَ مُطْلَقًا
بِالْخُلُوصِ وَالسُّيُوغِ مع خُرُوجِهِ من بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَذَا آيَةُ
الطَّهَارَةِ وَكَذَا الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْمِنَّةِ في
مَوْضِعِ النِّعْمَةِ تَدُلُّ على الطَّهَارَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم
يُخَالِطْهُ النَّجِسُ إذْ لَا خُلُوصَ مع النَّجَاسَةِ
ثُمَّ ما ذَكَرنَا من الْحُكْمِ في أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ التي لَا دَمَ فيها من
غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ فَأَمَّا حُكْمُهَا فِيهِمَا فَأَمَّا الأدمي
فَعَنْ أَصْحَابِنَا فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ نَجِسَةٌ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهَا وَالصَّلَاةُ مَعَهَا إذَا كان أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَزْنًا
أو عَرَضًا على حَسَبِ ما يَلِيقُ بِهِ وَلَوْ وَقَعَ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ
يُفْسِدُهُ
وفي رِوَايَةٍ طَاهِرٌ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فيها وَالنَّجِسُ
هو الدَّمُ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً من الْكَلْبِ نَجِسَةً
من الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَحْرُمُ
الِانْتِفَاعُ بها احْتِرَامًا لِلْآدَمِيِّ كما إذَا طُحِنَ سِنُّ الْآدَمِيِّ مع
الْحِنْطَةِ أو عَظْمُهُ لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْخُبْزِ الْمُتَّخَذِ من
دَقِيقِهَا لَا لِكَوْنِهِ نَجِسًا بَلْ تَعْظِيمًا له كيلا يَصِيرَ مُتَنَاوَلًا
من أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ رِجْسًا فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ
شَعْرِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ في شَعْرِهِ
لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ كَرِهَ ذلك
أَيْضًا نَصًّا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا في الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا
وَلَوْ وَقَعَ شَعْرُهُ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ
يُنَجِّسُ الْمَاءَ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ ما لم يَغْلِبْ على الْمَاءِ كَشَعْرِ
غَيْرِهِ
وَرُوِيَ عن أَصْحَابِنَا في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ هذه الْأَجْزَاءَ
منه طَاهِرَةٌ لِانْعِدَامِ الدَّمِ فيها وَالصَّحِيحُ أنها نَجِسَةٌ لِأَنَّ
نَجَاسَةَ الْخِنْزِيرِ لَيْسَتْ لِمَا فيه من الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ
لَعَيْنِهِ
وَأَمَّا الْكَلْبُ فَالْكَلَامُ فيه بِنَاءً على أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ أَمْ
لَا وقد اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فيه فَمَنْ قال أنه نَجِسُ الْعَيْنِ فَقَدْ
أَلْحَقَهُ بِالْخَنَازِيرِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخِنْزِيرِ
وَمَنْ قال إنَّهُ ليس بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَقَدْ جَعَلَهُ مِثْلَ سَائِرِ
الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْخِنْزِيرِ
وَهَذَا هو الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ
وَمِنْهَا سُؤْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الآسار أنها أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ طَاهِرٌ
مُتَّفَقٌ على طَهَارَتِهِ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَنَوْعٌ مُخْتَلَفٌ في طَهَارَتِهِ
وَنَجَاسَتِهِ وَنَوْعٌ مَكْرُوهٌ وَنَوْعٌ مَشْكُوكٌ فيه
أَمَّا السُّؤْرُ الطَّاهِرُ الْمُتَّفَقُ على طَهَارَتِهِ فَسُؤْرُ الْآدَمِيِّ
بِكُلِّ حَالٍ مُسْلِمًا كان أو مُشْرِكًا صَغِيرًا أو كَبِيرًا ذَكَرًا أو
أُنْثَى طَاهِرًا أو نَجِسًا حَائِضًا أو جُنُبًا إلَّا في حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ
لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ أُتِيَ بِعُسٍّ من لَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ
وَنَاوَلَ الْبَاقِيَ أَعْرَابِيًّا كان على
____________________
(1/63)
يَمِينِهِ
فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ فَشَرِبَ
وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها شَرِبَتْ من إنَاءٍ في حَالِ حَيْضِهَا
فَوَضَعَ رسول اللَّهِ فَمَهُ على مَوْضِعِ فَمِهَا حُبًّا لها فَشَرِبَ وَلِأَنَّ
سُؤْرَهُ مُتَحَلِّبٌ من لَحْمِهِ وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا
إلَّا في حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ
وَقِيلَ هذا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ من سَاعَتِهِ
فَأَمَّا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ابْتَلَعَ بُزَاقَهُ
فيها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكُونُ طَاهِرًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا
بناءا ( ( ( بناء ) ) ) على مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِمَا سِوَى الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ
الطَّاهِرَةِ
وَالثَّانِيَةُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْغَسْلِ في الْأَوَانِي
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
وأبو يُوسُفَ مع أبي حَنِيفَةَ في الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى وَمَعَ مُحَمَّدٍ في
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَكِنْ اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا في هذه الْمَسْأَلَةِ
لِأَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّبَّ شَرْطٌ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ ولم يُوجَدْ
وَالثَّانِي أَنَّ ما سِوَى الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ ليس بِطَهُورٍ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ كَرِهُوا سُؤْرَ الْمُشْرِكِ لِظَاهِرِ
قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَعِنْدَنَا هو مَحْمُولٌ على
نَجَاسَةِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ أَنْزَلَ
وَفْدَ ثَقِيفٍ في الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ وَلَوْ كان عَيْنُهُمْ
نَجِسًا لَمَا فَعَلَ مع أَمْرِهِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ وَإِخْبَارِهِ عن
انْزِوَاءِ الْمَسْجِدِ من النُّخَامَةِ مع طَهَارَتِهَا وَكَذَا سُؤْرُ ما يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ من الْأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ إلَّا الْإِبِلَ الْجَلَّالَةَ
وَالْبَقَرَةَ الْجَلَّالَةَ وَالدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ لِأَنَّ سُؤْرَهُ
مُتَوَلِّدٌ من لَحْمِهِ وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ وَرُوِيَ أَنَّ النبي تَوَضَّأَ
بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أو شَاةٍ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ
وَالْبَقَرَةِ الْجَلَّالَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ
فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا لِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ حتى لو كانت مَحْبُوسَةً
لَا يُكْرَهُ
وَصِفَةُ الدَّجَاجَةِ الْمَحْبُوسَةِ أَنْ لَا يَصِلَ مِنْقَارُهَا إلَى ما
تَحْتَ قَدَمَيْهَا فَإِنْ كان يَصِلُ فَهِيَ مُخَلَّاةٌ لِأَنَّ احْتِمَالَ
بَحْثِ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ
وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ
لِطَهَارَةِ لَحْمِهِ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ كما في لَحْمِهِ في رِوَايَةِ الْحَسَنِ نَجِسٌ
كَلَحْمِهِ
وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ طَاهِرٌ كَلَحْمِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ أبي يُوسُفَ عنه
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِتَقْلِيلِ
إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَآلَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ
وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ في السُّؤْرِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا السُّؤْرُ الْمُخْتَلَفُ في طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَهُوَ سُؤْرُ
الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ فإنه نَجِسٌ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ طَاهِرٌ وقال الشَّافِعِيُّ سُؤْرُ السِّبَاعِ كُلِّهَا طَاهِرٌ
سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ
أَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ فَهُوَ يحتج ( ( ( يحج ) ) ) بِظَاهِرِ قَوْله
تَعَالَى { هو الذي خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جميعا } أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ
بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ إلَّا
أَنَّهُ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ لَا تَدُلُّ
على النَّجَاسَةِ كَالْآدَمِيِّ وَكَذَا الذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ
وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ وَلَا يُبَاحُ أَكْلُهَا إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ
الْإِنَاءِ من وُلُوغِ الْكَلْبِ مع طَهَارَتِهِ تَعَبُّدًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إنَاءِ
أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ ثَلَاثًا وفي رِوَايَةٍ خَمْسًا وفي رِوَايَةٍ سَبْعًا
وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ لم يَكُنْ تَعَبُّدًا إذْ لَا قُرْبَةَ تَحْصُلُ بِغَسْلِ
الْأَوَانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يَقْصِدْ صَبَّ الْمَاءِ فيه في
الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ الْغَسْلُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لِنَجَاسَتِهِ
وَلِأَنَّ سُؤْرَ هذه الْحَيَوَانَاتِ مُتَحَلِّبٌ من لُحُومِهَا وَلُحُومُهَا
نَجِسَةٌ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عن سُؤْرِهَا وَصِيَانَةِ الْأَوَانِي عنها
فَيَكُونُ نَجِسًا ضَرُورَةً
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي سُئِلَ فَقِيلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا
أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ فقال نعم وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا
وَعَنْ جَابِرِ بن عبد اللَّهِ أَنَّ النبي سُئِلَ عن الْمِيَاهِ التي بين مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وما يَرِدُهَا من السِّبَاعِ فقال لها ما حَمَلَتْ في بُطُونِهَا
وما بَقِيَ فَهُوَ لنا شَرَابٌ وَطَهُورٌ وَهَذَا نَصٌّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَمْرِو بن الْعَاصِ أَنَّهُمَا وَرَدَا حَوْضًا
فقال عَمْرُو بن الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ أَتَرِدُ السِّبَاعُ حَوْضَكُمْ
فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه يا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرُنَا وَلَوْ لم
يَتَنَجَّسْ الْمَاءُ الْقَلِيلُ بِشُرْبِهَا منه لم يَكُنْ لِلسُّؤَالِ وَلَا
لِلنَّهْيِ مَعْنًى وَلِأَنَّ هذا حَيَوَانٌ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ
وَيُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عنها وَيَخْتَلِطُ بِشُرْبِهَا لُعَابُهَا بِالْمَاءِ
وَلُعَابُهَا نَجِسٌ لِتَحَلُّبِهِ من لَحْمِهَا وهو نَجِسٌ فَكَانَ سُؤْرُهَا
نَجِسًا كَسُؤْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْهِرَّةِ لِأَنَّ
صِيَانَةَ الْأَوَانِي عنها غَيْرُ مُمْكِنٍ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ
كان قبل تَحْرِيمِ لَحْمِ السِّبَاعِ أو السُّؤَالُ وَقَعَ عن الْمِيَاهِ
الْكَثِيرَةِ وَبِهِ نَقُولُ أن مِثْلَهَا لَا يَنْجَسُ
وَأَمَّا السُّؤْرُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي
وَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا
____________________
(1/64)
اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا اعْتِبَارًا بِلَحْمِهَا كَسُؤْرِ سِبَاعِ
الْوَحْشِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أنها تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا وهو عَظْمٌ جَافٌّ فلم
يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا بِخِلَافِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَلِأَنَّ
صِيَانَةَ الْأَوَانِي عنها مُتَعَذِّرَةٌ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ من الْهَوَاءِ
فَتَشْرَبُ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ
الْغَالِبَ أنها تَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَكَانَ مِنْقَارُهَا في
مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ وَكَذَا سُؤْرُ سَوَاكِنِ
الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا
وَكَذَا سُؤْرُ الْهِرَّةِ في رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ في
كِتَابِ الصَّلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ ولم يذكر
الْكَرَاهَةَ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ
النبي كان يُصْغِي لها الْإِنَاءَ فَتَشْرَبَ منه ثُمَّ يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ
بِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا
عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْهِرَّةُ سَبُعٌ وَهَذَا
بَيَانُ حُكْمِهَا
وقال النبي يُغْسَلُ الْإِنَاءُ من وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا وَمِنْ وُلُوغِ
الْهِرَّةِ مَرَّةً وَالْمَعْنَى في كَرَاهَتِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا ما
ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وهو أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا
لَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ فَبَقِيَتْ
الْكَرَاهَةُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ في الْجُمْلَةِ
وَالثَّانِي ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وهو أنها لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ لِأَنَّ النبي
نَفَى عنها النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ وَلَكِنَّ
الْكَرَاهَةَ لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ
الْمُسْتَيْقِظِ من نَوْمِهِ وما رُوِيَ من الحديث يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قبل
تَحْرِيمِ السِّبَاعِ ثُمَّ نُسِخَ على مَذْهَبِ الطَّحَاوِيِّ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النبي عَلِمَ من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ تِلْكَ الْهِرَّةَ لم
يَكُنْ على فَمِهَا نَجَاسَةٌ على مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ أو يُحْمَلُ فِعْلُهُ على
بَيَانِ الْجَوَازِ وَعَلَى هذا تَنَاوُلُ بَقِيَّةِ طَعَامٍ أَكَلَتْهُ
وَتَرَكَهَا لِتَلْحَسَ الْقِدْرَ أن ذلك مَحْمُولٌ على تَعْلِيمِ الْجَوَازِ
وَلَوْ أَكَلَتْ الْفَأْرَةَ ثُمَّ شَرِبَتْ الْمَاءَ قال أبو حَنِيفَةَ إنْ
شَرِبَتْهُ على الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَإِنْ مَكَثَتْ ثُمَّ شَرِبَتْ لَا
يَتَنَجَّسُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَتَنَجَّسُ بِنَاءً على ما ذَكَرْنَا من
الْأَصْلَيْنِ في سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا السُّؤْرُ الْمَشْكُوكُ فيه فَهُوَ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ في
جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّ سؤرها (
( ( سؤرهما ) ) ) نَجِسٌ وقال الشَّافِعِيُّ طاهر
وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان يَرْكَبُ
الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ
الثَّوْبُ من عَرَقِهِ وكان يُصَلِّي فيه فإذا كان الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ
أَوْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ في سُؤْرِهِ النَّجَاسَةُ لِأَنَّ
سُؤْرَهُ لَا يَخْلُو عن لُعَابِهِ وَلُعَابُهُ مُتَحَلِّبٌ من لَحْمِهِ
وَلَحْمُهُ نَجِسٌ فَلَوْ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ إنَّمَا يَسْقُطُ
لِضَرُورَةِ الْمُخَالَطَةِ وَالضَّرُورَةُ مُتَعَارِضَةٌ لِأَنَّهُ ليس في
الْمُخَالِطَةِ كَالْهِرَّةِ وَلَا في الْمُجَانِبَةِ كَالْكَلْبِ فَوَقَعَ
الشَّكُّ في سُقُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآثَارَ تَعَارَضَتْ في طَهَارَةِ سُؤْرِهِ
وَنَجَاسَتِهِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يقول الْحِمَارُ
يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يقول أنه رِجْسٌ وَكَذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ في
أَكْلِ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ روى في بَعْضِهَا النَّهْيُ وفي بَعْضِهَا
الْإِطْلَاقُ وَكَذَا اعْتِبَارُ عَرَقِهِ يُوجِبُ طَهَارَةَ سُؤْرِهِ
وَاعْتِبَارُ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ وَكَذَا تَحَقَّقَ أَصْلُ
الضَّرُورَةِ لِدَوَرَانِهِ في صَحْنِ الدَّارِ وَشُرْبُهُ في الْإِنَاءِ يُوجِبُ
طَهَارَتَهُ وَتَقَاعُدُهَا عن ضَرُورَةِ الْهِرَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا
يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُلُ الْمَضَايِقَ يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ
وَالتَّوَقُّفُ في الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ فَلِذَلِكَ
كان مَشْكُوكًا فيه فَأَوْجَبْنَا الْجَمْعَ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ
التَّوَضُّؤِ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ لو جَازَ لَا يَضُرُّهُ
التَّيَمُّمُ وَلَوْ لم يَجُزْ التَّوَضُّؤُ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ
بِالتَّيَمُّمِ فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَازُ بِيَقِينٍ إلَّا بِالْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ حتى يُقَدَّمَ الْوُضُوءُ على التَّيَمُّمِ لِيَصِيرَ
عَادِمًا لِلْمَاءِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كان طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ أو أَخَّرَ
وَإِنْ كان نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ وقد أتى بِهِ
فَإِنْ قِيلَ في هذا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ من وَجْهٍ آخَرَ لِأَنَّ على تَقْدِيرِ
كَوْنِهِ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَثِيَابُهُ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدَثَ كان ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ
بِالشَّكِّ وَالْعُضْوُ وَالثَّوْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كان طَاهِرًا
بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ
وقال بَعْضُهُمْ الشَّكُّ في طَهُورِيَّتِهِ ثُمَّ من مَشَايِخِنَا من جَعَلَ هذا
الْجَوَابَ في سُؤْرِ الْأَتَانِ وقال في سُؤْرِ الْفَحْلِ أنه نَجِسٌ لِأَنَّهُ
يَشُمُّ الْبَوْلَ فَتَتَنَجَّسُ شَفَتَاهُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ
____________________
(1/65)
أَمْرٌ
مَوْهُومٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَثِّرُ في إزَالَةِ الثَّابِتِ وَمِنْ
مَشَايِخِنَا من جَعَلَ الْأَسْآرَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٌ منها ما
ذَكَرْنَا وَجُعِلَ الْخَامِسُ منها السُّؤْرَ النَّجِسَ الْمُتَّفَقَ على
نَجَاسَتِهِ وهو سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ في الْخِنْزِيرِ
خِلَافَ مَالِكٍ كما في الْكَلْبِ فَانْحَصَرَتْ الْقِسْمَةُ على أَرْبَعَةٍ والله
أعلم
وَمِنْهَا الْخَمْرُ وَالسَّكْرُ أَمَّا الْخَمْرُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
سَمَّاهُ رِجْسًا في آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فقال { رِجْسٌ من عَمَلِ
الشَّيْطَانِ } وَالرِّجْسُ هو النَّجِسُ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
حَرَامٌ وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ
وَمِنْهَا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ
غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ نَوْعَانِ غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْحَدَثُ
أَمَّا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهِيَ ما إذَا غُسِلَتْ
النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَالْمِيَاهُ الثَّلَاثُ نَجِسَةٌ
لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا إذْ لَا يَخْلُو كُلُّ مَاءٍ عن
نَجَاسَةٍ فَأَوْجَبَ تَنْجِيسَهَا وَحُكْمُ الْمِيَاهِ الثَّلَاثِ في حَقِّ
الْمَنْعِ من جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بها وَالْمَنْعُ من جَوَازِ الصَّلَاةِ
بِالثَّوْبِ الذي أَصَابَتْهُ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا في حَقِّ تَطْهِيرِ
الْمَحَلِّ الذي أَصَابَتْهُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا حتى قال مَشَايِخُنَا إنَّ
الْمَاءَ الْأَوَّلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْعَصْرِ
وَالْغَسْلِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْمَاءُ الثَّانِي يَطْهُرُ
بِالْغَسْلِ مَرَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَطْهُرُ بِالْعَصْرِ
لَا غَيْرُ لِأَنَّ حُكْمَ كل مَاءٍ حين كان في الثَّوْبِ الْأَوَّلِ كان هَكَذَا
فَكَذَا في الثَّوْبِ الذي أَصَابَهُ وَاعْتَبَرُوا ذلك بِالدَّلْوِ الْمَنْزُوحِ
من الْبِئْرِ النَّجِسَةِ إذَا صُبَّ في بِئْرٍ طَاهِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ
تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى كَذَا هذا
وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْغُسَالَةِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ
وَالتَّطْهِيرِ من بَلِّ الطِّينِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذلك فَإِنْ كان
قد تَغَيَّرَ طَعْمُهَا أو لَوْنُهَا أو رِيحُهَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ
لِأَنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ غَالِبٌ فَالْتَحَقَ
بِالْبَوْلِ وَإِنْ لم يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ من ذلك يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم
يَتَغَيَّرْ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ لم يَغْلِبْ على الطَّاهِرِ وَالِانْتِفَاعُ
بِمَا ليس بِنَجِسِ الْعَيْنِ مُبَاحٌ في الْجُمْلَةِ
وَعَلَى هذا إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ في السَّمْنِ فَمَاتَتْ فيه أَنَّهُ إنْ
كان جَامِدًا تُلْقَى الْفَأْرَةُ وما حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي وَإِنْ كان
ذَائِبًا لَا يُؤْكَلُ وَلَكِنْ يُسْتَصْبَحُ بِهِ وَيُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يُبَيِّنَ عَيْبَهُ فَإِنْ لم
يُبَيِّنْ وَبَاعَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ
بِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ
النبي سُئِلَ عن فَأْرَةٍ مَاتَتْ في سَمْنٍ فقال إنْ كان جَامِدًا فَأَلْقُوهَا
وما حَوْلَهَا وَكُلُوا الْبَاقِيَ وَإِنْ كان ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ وَلَوْ جَازَ
الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ
الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَا بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ
وَلَنَا ما رَوَى ابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي سُئِلَ عن فَأْرَةٍ
مَاتَتْ في سَمْنٍ فقال تُلْقَى الْفَأْرَةُ وما حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي
فَقِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لو كان السَّمْنُ ذَائِبًا فقال لَا
تَأْكُلُوا لكن ( ( ( ولكن ) ) ) انْتَفِعُوا بِهِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّهَا في الْجَامِدِ لَا تُجَاوِرُ إلَّا ما حَوْلَهَا وفي الذَّائِبِ
تُجَاوِرُ الْكُلَّ فَصَارَ الْكُلُّ نَجِسًا وَأَكْلُ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ
فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَا ليس بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَمُبَاحٌ كَالثَّوْبِ
النَّجِسِ وَأَمْرُ النبي بِإِلْقَاءِ ما حَوْلَهَا في الْجَامِدِ وَإِرَاقَةُ
الذَّائِبِ في حديث أبي مُوسَى لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ لِأَنَّ مُعْظَمَ
الِانْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ هو الْأَكْلُ
وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بين الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ أَنَّهُ إنْ كان بِحَالٍ لو
قور ذلك الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَوِي من سَاعَتِهِ فَهُوَ جَامِدٌ وَإِنْ كان
يَسْتَوِي من سَاعَتِهِ فَهُوَ ذَائِبٌ وإذا دُبِغَ بِهِ الْجِلْدُ يُؤْمَرُ
بِالْغَسْلِ ثُمَّ إنْ كان يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ يُغْسَلُ وَيُعْصَرُ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ وَإِنْ كان لَا يَنْعَصِرُ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَأَمَّا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ
فَالْكَلَامُ في الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ يَقَعُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في صِفَتِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ
وَالثَّانِي في أَنَّهُ في أَيِّ حَالٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا
وَالثَّالِثُ في أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ في ظَاهِر الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِهِ ولم يذكر أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وهو أَظْهَرُ
أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بن زِيَادٍ عنه أَنَّهُ نَجِسٌ غير أَنَّ
الْحَسَنَ رَوَى عنه أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً يُقَدَّرُ فيه
بِالدِّرْهَمِ وَبِهِ أَخَذَ وأبو يُوسُفَ روى عنه أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً
خَفِيفَةً يُقَدَّرُ فيه بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَبِهِ أَخَذَ
وقال زُفَرُ إنْ كان الْمُسْتَعْمِلُ متوضأ ( ( ( متوضئا ) ) ) فَالْمَاءُ
الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ وَإِنْ كان مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ
طَهُورٍ وهو أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ وفي
____________________
(1/66)
قَوْلٍ
له أَنَّهُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ بِكُلِّ حَالٍ وهو قَوْلُ مَالِكٍ
ثُمَّ مَشَايِخُ بَلْخٍ حَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ
نَجِسٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ غَيْرُ
طَهُورٍ وَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ لم يُحَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا إنَّهُ
طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حتى رُوِيَ عن الْقَاضِي أبي حَازِمٍ
الْعِرَاقِيِّ أَنَّهُ كان يقول إنَّا نَرْجُو أَنْ لَا تَثْبُتَ رِوَايَةُ
نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عن أبي حَنِيفَةَ وهو اخْتِيَارُ
الْمُحَقِّقِينَ من مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ
وَجْهُ قَوْلِ من قال أنه طَهُورٌ ما ( ( ( وما ) ) ) رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال
الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ
أو رِيحَهُ ولم يُوجَدْ التَّغَيُّرُ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَنَّ هذا مَاءٌ
طَاهِرٌ لَاقَى عُضْوًا طَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ نَجِسًا كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ
إذَا غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا
طَاهِرًا إن أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِانْعِدَامِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَمُرُّ في بَعْضِ
سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَهُ حُذَيْفَةُ بن الْيَمَانِ فأراد النبي أَنْ
يُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ وقال إنِّي جُنُبٌ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال النبي إنَّ
الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ فقالت إنِّي حَائِضٌ فقال لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ في يَدِكِ
وَلِهَذَا جَازَ صَلَاةُ حَامِلِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَحَامِلُ النَّجَاسَةِ
لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ
وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ طَاهِرٌ وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وإذا كانت أَعْضَاءُ الْمُحْدِثِ
طَاهِرَةً كان الْمَاءُ الذي لَاقَاهَا طَاهِرًا ضَرُورَةً لِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا
يَتَغَيَّرُ عَمَّا كان عليه إلَّا بِانْتِقَالِ شَيْءٍ من النَّجَاسَةِ إلَيْهِ
وَلَا نَجَاسَةَ في الْمَحَلِّ على ما مَرَّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِقَالُ
فَبَقِيَ طَاهِرًا وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى لِإِثْبَاتِ
الطَّهَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ لِأَنَّا تَعَبَّدْنَا
بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ شَرْعًا غير مَعْقُولِ
التَّطْهِيرِ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الطَّاهِرِ مُحَالٌ وَالشَّرْعُ وَرَدَ
بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وهو الذي لَا يَقُومُ بِهِ خَبَثٌ وَلَا
مَعْنَى يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وقد قام بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَحَدُ
هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَمَّا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ أُقِيمَ بِهِ
قُرْبَةٌ إذَا تَوَضَّأَ به لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ عِنْدَهُ وقد ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ
أَنَّ الْوُضُوءَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ الْآثَامِ عن المتوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) )
لِلصَّلَاةِ فَيَنْتَقِلُ ذلك إلَى الْمَاءِ فَيَتَمَكَّنُ فيه نَوْعُ خُبْثٍ
كَالْمَالِ الذي تَصَدَّقَ بِهِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الصَّدَقَةُ غُسَالَةَ الناس
وَأَمَّا على قَوْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّهُ قام بِهِ مَعْنًى مَانِعٌ من جَوَازِ
الصَّلَاةِ وهو الْحَدَثُ لِأَنَّ الْمَاءَ عِنْدَهُ إنَّمَا يَصِيرُ
مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ
وقد انْتَقَلَ الْحَدَثُ من الْبَدَنِ إلَى الْمَاءِ
ثُمَّ الجنابة ( ( ( الخبث ) ) ) وَالْحَدَثُ وَإِنْ كَانَا من صِفَاتِ الْمَحَلِّ
وَالصِّفَاتُ لَا تَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ لَكِنْ أُلْحِقَ ذلك بِالْعَيْنِ
النَّجِسَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَحَلِّ حُكْمًا وَالْأَعْيَانُ الْحَقِيقِيَّةُ
قليلة ( ( ( قابلة ) ) ) لِلِانْتِقَالِ فَكَذَا ما هو مُلْحَقٌ بها شَرْعًا وإذا
قام بهذا الْمَاءِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَكُونُ في مَعْنَى
الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عليه على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ
أَنَّ ما لَا يُعْقَلُ من الْأَحْكَامِ يَقْتَصِرُ على الْمَنْصُوصِ عليه وَلَا
يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا كان في مَعْنَاهُ من كل وَجْهٍ ولم يُوجَدْ
وجه ( ( ( أوجه ) ) ) رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ
قال لَا يَبُولَنَّ أحدكم في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فيه من
جَنَابَةٍ حَرُمَ الِاغْتِسَالُ في الْمَاءِ الْقَلِيل لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ
الِاغْتِسَالَ في الْمَاءِ الْكَثِير ليس بِحَرَامٍ فَلَوْلَا أَنَّ الْقَلِيلَ من
الْمَاءِ يَنْجَسُ بِالِاغْتِسَالِ بِنَجَاسَةِ الْغُسَالَةِ لم يَكُنْ لِلنَّهْيِ
مَعْنًى لِأَنَّ إلْقَاءَ الطَّاهِرِ في الطَّاهِرِ ليس بِحَرَامٍ أَمَّا
تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ فَحَرَامٌ فَكَانَ هذا نَهْيًا عن تَنْجِيسِ الْمَاءِ
الطَّاهِرِ بِالِاغْتِسَالِ وَذَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ بِهِ وَلَا يُقَالُ أنه
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَا فيه من إخْرَاجِ الْمَاءِ عن أَنْ يَكُونَ
مُطَهِّرًا من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَاءُ
الْقَلِيلُ إنَّمَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بِاخْتِلَاطِ غَيْرِ
الْمُطَهَّرِ بِهِ إذَا كان الْغَيْرُ غَالِبًا عليه كَمَاءِ الْوَرْدِ
وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذلك فَأَمَّا إذَا كان مَغْلُوبًا فَلَا
وَهَهُنَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ ما يُلَاقِي الْبَدَنَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك
أَقَلُّ من غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِهِ من أَنْ يَكُونَ
مُطَهِّرًا فَأَمَّا مُلَاقَاةُ النَّجَسِ الطَّاهِرِ فَتُوجِبُ تَنْجِيسَ
الطَّاهِرِ وَإِنْ لم يَغْلِبْ على الطَّاهِرِ لِاخْتِلَاطِهِ بِالطَّاهِرِ على
وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ
فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا قُلْنَا
وَلَا يُقَالُ إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِأَنَّ أَعْضَاءَ الْجُنُبِ لَا
تَخْلُوَ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَذَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَاءِ
الْقَلِيلِ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ
بِإِطْلَاقِهِ وَلِأَنَّ النَّهْيَ عن الِاغْتِسَالِ يَنْصَرِفُ إلَى
الِاغْتِسَالِ الْمَسْنُونِ لِأَنَّهُ هو الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بين
الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسْنُونُ منه هو إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عن
الْبَدَنِ قبل الِاغْتِسَالِ على أَنَّ النَّهْيَ عن إزَالَةِ النَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ التي على الْبَدَنِ اُسْتُفِيدَ بِالنَّهْيِ عن الْبَوْلِ فيه
____________________
(1/67)
فَوَجَبَ
حَمْلُ النَّهْيِ عن الِاغْتِسَالِ فيه على ما ذَكَرْنَا صِيَانَةً لِكَلَامِ
صَاحِبِ الشَّرْعِ عن الْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عن الْإِفَادَة وَلِأَنَّ هذا
الماء مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَ مُحَرَّمًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } وَالْحُرْمَةُ لَا
لِلِاحْتِرَامِ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أَنَّ
من كان في السَّفَرِ وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ وهو بِحَالٍ يَخَافُ
على نَفْسِهِ الْعَطَشَ يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ وَلَوْ بَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا
بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَمَا أُبِيحَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ
وَيَأْخُذَ الْغُسَالَةَ في إنَاءٍ نَظِيفٍ وَيُمْسِكُهَا لِلشُّرْبِ
وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا في الْمُحْدِثِ خَاصَّةً
وَالثَّانِي يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْحَدَثَ هو خُرُوجُ شَيْءٍ نَجِسٍ من الْبَدَنِ
وَبِهِ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْبَدَنِ حَقِيقَةً فَيَتَنَجَّسُ الْبَاقِي
تَقْدِيرًا وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَسُمِّيَ تَطْهِيرًا
وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ فَدَلَّ تَسْمِيَتُهَا تَطْهِيرًا على
النَّجَاسَةِ تَقْدِيرًا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ له أَدَاءُ الصَّلَاةِ التي هِيَ
من بَابِ التَّعْظِيمِ وَلَوْلَا النَّجَاسَةُ الْمَانِعَةُ من التَّعْظِيمِ
لَجَازَتْ فَثَبَتَ أَنَّ على أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ نَجَاسَةً تَقْدِيرِيَّةً
فإذا تَوَضَّأَ انْتَقَلَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ إلَى الْمَاءِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ
نَجِسًا تَقْدِيرًا وَحُكْمًا وَالنَّجَسُ قد يَكُونُ حَقِيقِيًّا وقد يَكُونُ
حُكْمِيًّا كَالْخَمْرِ
وَالثَّانِي ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُزِيلُ نَجَاسَةَ الْآثَامِ وَخُبْثِهَا فَنَزَلَ
ذلك مَنْزِلَةَ خُبْثِ الْخَمْرِ إذَا أَصَابَ الْمَاءَ يُنَجِّسُهُ
كَذَا هذا
ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ خَفِيفَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى فيه
لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ عنه وَلِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ
فَأَوْجَبَ ذلك خِفَّةً في حُكْمِهِ وَالْحَسَنُ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ غَلِيظَةً
لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ من الحقيقية ( ( ( الحقيقة
) ) ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ عُفِيَ عن الْقَلِيلِ من الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ
الْحُكْمِيَّةِ بِأَنْ بَقِيَ على جَسَدِهِ لَمْعَةٌ يَسِيرَةٌ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّ التوضأ في الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ عند ( ( (
وعند ) ) ) أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لم يَكُنْ عليه قَذَرٌ فَمُحَمَّدٌ مَرَّ على
أَصْلِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ وأبو يُوسُفَ مَرَّ على أَصْلِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ لَا يُشْكِلُ
وَأَمَّا على رِوَايَةِ الطَّهَارَةِ فَلِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَيَجِبُ
تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عنه كما يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عن الْمُخَاطِ وَالْبَلْغَمِ
وَلَوْ اخْتَلَطَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ قال بَعْضُهُمْ
لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ وَإِنْ قَلَّ
وَهَذَا فَاسِدٌ
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لم يَغْلِبْ على الْمَاءِ
الْمُطْلَقِ فَلَا يُغَيِّرُهُ عن صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ كَاللَّبَنِ وَأَمَّا
عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه يُجْعَلُ
عَفْوًا وَلِهَذَا قال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه حين سُئِلَ عن الْقَلِيلِ منه
لَا بَأْسَ بِهِ وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عن الْقَلِيلِ فقال وَمَنْ
يَمْلِكُ نَشْرَ الْمَاءِ وهو ما تَطَايَرَ منه عِنْدَ الْوُضُوءِ وَانْتَشَرَ
أَشَارَ إلَى تَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ عن الْقَلِيلِ فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا
وَلَا تَعَذُّرَ في الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا
ثُمَّ الْكَثِيرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ما يَغْلِبُ على الْمَاءِ الْمُطْلَقِ
وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَتَبَيَّنَ مَوَاقِعَ الْقَطْرَةِ في الْإِنَاءِ
وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَفْسِيرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
فقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ ما زَايَلَ الْبَدَنَ
وَاسْتَقَرَّ في مَكَان
وَذَكَرَ في الْفَتَاوَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا زَالَ عن الْبَدَنِ لَا يَنْجَسُ ما
لم يَسْتَقِرَّ على الْأَرْضِ أو في الْإِنَاءِ وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وأما عِنْدَنَا فما دَامَ على الْعُضْوِ الذي اسْتَعْمَلَهُ فيه لَا
يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا وإذا زَايَلَهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ
على الْأَرْضِ أو في الْإِنَاءِ فإنه ذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ
بِمَاءٍ أَخَذَهُ من لِحْيَتِهِ لم يُجْزِهِ وَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ على الْأَرْضِ
وَذَكَرَ في بَابِ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ أَنَّ من مَسَحَ على خُفَّيْهِ
وَبَقِيَ في كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ لَا يُجْزِيهِ وَعَلَّلَ
بِأَنَّ هذا مَاءٌ قد مَسَحَ بِهِ مَرَّةً أَشَارَ إلَى صَيْرُورَتِهِ
مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ على الْأَرْضِ أو في الْإِنَاءِ وَقَالُوا
فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَبَقِيَ على رِجْلِهِ لَمْعَةٌ فَغَسَلَهَا بِبَلَلٍ أَخَذَهُ
من عُضْوٍ آخَرَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لم يُوجَدْ الِاسْتِقْرَارُ على الْمَكَانِ
فَدَلَّ على أَنَّ الْمَذْهَبَ ما قُلْنَا
أَمَّا سُفْيَانُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَسَائِلَ زَعَمَ أنها تَدُلُّ على صِحَّةِ
ما ذَهَبَ إلَيْهِ
منها إذَا تَوَضَّأَ أو اغْتَسَلَ وَبَقِيَ على يَدِهِ لَمْعَةٌ فَأَخَذَ
الْبَلَلَ منها في الْوُضُوءِ أو من أَيِّ عُضْوٍ كان في الْغُسْلِ وَغَسَلَ
اللَّمْعَةَ يَجُوزُ
وَمِنْهَا إذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَ في كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ
يَجُوزُ وَإِنْ زَايَلَ الْعُضْوَ الذي اسْتَعْمَلَهُ فيه لِعَدَمِ
الِاسْتِقْرَارِ في مَكَان
وَمِنْهَا إذَا مَسَحَ أَعْضَاءَهُ بِالْمِنْدِيلِ وَابْتَلَّ حتى صَارَ كَثِيرًا
فَاحِشًا أو تَقَاطَرَ الْمَاءُ على ثَوْبٍ مِقْدَارَ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ
جَازَتْ الصَّلَاةُ معه وَلَوْ أعطى له حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ
الْمُزَايَلَةِ لَمَا جَازَتْ
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِنَفْسِ
الْمُلَاقَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ صَيْرُورَتِهِ
مُسْتَعْمَلًا وهو إزَالَةُ الْحَدَثِ أو اسْتِعْمَالُهُ على وَجْهِ الْقُرْبَةِ
وقد حَصَلَ ذلك بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ
لِكُلِّ جُزْءٍ من الْعُضْوِ جُزْءٌ من الْمَاءِ إلَّا أَنَّ في ذلك حَرَجًا
فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ
____________________
(1/68)
اعْتِبَارَ
حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ في عُضْوٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً أو في عُضْوٍ وَاحِدٍ
حُكْمًا كما في الْجَنَابَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ فإذا زَايَلَ الْعُضْوَ
زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ بِقَضِيَّةِ الْقِيَاسِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ أنها
على التَّفْصِيلِ إنْ لم يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ في شَيْءٍ من أَعْضَائِهِ يَجُوزُ
أَمَّا إذَا كان اسْتَعْمَلَهُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ
اسْتَعْمَلَهُ في الْمَغْسُولَاتِ لِأَنَّ فَرْضَ الْغُسْلِ إنَّمَا تَأَدَّى
بِمَاءٍ جَرَى على عُضْوِهِ لَا بِالْبِلَّةِ الْبَاقِيَةِ فلم تَكُنْ هذه
الْبِلَّةُ مُسْتَعْمَلَةً بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَعْمَلَهُ في الْمَسْحِ على
الْخُفِّ ثُمَّ مَسَحَ بِهِ رأسا ( ( ( رأسه ) ) ) حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ
فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِالْبِلَّةِ وَتَفْصِيلُ الْحَاكِم مَحْمُولٌ على
هذا وما مُسِحَ بِالْمِنْدِيلِ أو تَقَاطَرَ على الثَّوْبِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ
إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ
طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وهو الْمُخْتَارُ وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كان نَجِسًا
لَكِنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا فَعِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْمَاءُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ
أَمْرَيْنِ إمَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ أو بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ وَهَذَا
الِاخْتِلَافُ لم يُنْقَلْ عَنْهُمْ نَصًّا لَكِنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عليه
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا من زَوَالِ
الْمَانِعِ من الصَّلَاةِ إلَى الْمَاءِ وَاسْتِخْبَاثِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ في
الْفَصْلَيْنِ جميعا
إذَا عَرَفْنَا هذا فَنَقُولُ إذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ
نَحْوُ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ
وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كان مُحْدِثًا
صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ وهو إزَالَةُ
الْحَدَثِ وإقامة الْقُرْبَةِ جميعا وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا يَصِيرُ
مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ
لِكَوْنِ الْوُضُوءِ على الْوُضُوءِ نُورًا على نُورٍ وَعِنْدَ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ
وَلَوْ تَوَضَّأَ أو اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ فَإِنْ كان مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ
مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ
لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَإِنْ
لم يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ على اخْتِلَافِ
الْأُصُولِ
وَلَوْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التوضأ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ فلم
يُوجَدْ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ وَكَذَا إذَا غَسَلَ
الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ من النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي
وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهَا أو ( غَسَلَ يَدَهُ من الطِّينِ وَالْوَسَخِ
وَغَسَلَتْ الْمَرْأَةُ يَدَهَا من الْعَجِينِ أو الْحِنَّاءِ وَنَحْوُ ذلك ) لَا
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ غَسَلَ يَدَهُ لِلطَّعَامِ أو من
الطَّعَامِ لِقَصْدِ إقَامَةِ السُّنَّةِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ
إقَامَةَ السُّنَّةِ قُرْبَةٌ لِقَوْلِ النبي الْوُضُوءُ قبل الطَّعَامِ بَرَكَةٌ
وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ
وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ زَادَ على ذلك فَإِنْ أَرَادَ
بِالزِّيَادَةِ ابْتِدَاءً الْوُضُوءَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ على الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه فقال بَعْضُهُمْ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على
الثَّلَاثِ من بَابِ التَّعَدِّي بِالنَّصِّ وقال بَعْضُهُمْ يَصِيرُ
مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في مَعْنَى الْوُضُوءِ على الْوُضُوءِ
فَكَانَتْ قُرْبَةٌ
وَلَوْ أَدْخَلَ جُنُبٌ أو حَائِضٌ أو مُحْدِثٌ يَدَهُ في الْإِنَاءِ قبل أَنْ
يَغْسِلَهَا وَلَيْسَ عليها قَذَرٌ أو شَرِبَ الْمَاءَ منه فَقِيَاسُ أَصْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَفْسُدَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَدَثَ زَالَ عن يَدِهِ بِإِدْخَالِهَا في الْمَاءِ
وَكَذَا عن شَفَتِهِ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كنت
أنا وَرَسُولُ اللَّهِ نَغْتَسِلُ من إنَاءٍ وَاحِدٍ وَرُبَّمَا كانت تَتَنَازَعُ
فيه الْأَيْدِي
وَرَوَيْنَا أَيْضًا عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها كانت تَشْرَبُ من إنَاءٍ
وَهِيَ حَائِضٌ وكان رسول اللَّهِ يَشْرَبُ من ذلك الْإِنَاءِ وكان يَتَتَبَّعُ
مَوَاضِعَ فَمِهَا حُبًّا لها وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عن إصَابَةِ الْحَدَثِ
وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْوُضُوءِ
وَالِاغْتِسَالِ وَالشُّرْبِ وَكُلُّ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ الْإِنَاءَ
لِيَغْتَرِفَ الْمَاءَ من الْإِنَاءِ الْعَظِيمِ وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ أَنْ
يَتَّخِذَ آنِيَةً على حِدَةٍ لِلشُّرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِرَافِ
بِالْيَدِ وَالشُّرْبِ من كل آنِيَةٍ فَلَوْ لم يَسْقُطْ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ
الْيَدِ وَالشَّفَةِ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ حتى لو أَدْخَلَ رِجْلَهُ فيه
يَفْسُدُ الْمَاءُ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ في الْإِنَاءِ وَلَوْ
أَدْخَلَهَا في الْبِئْرِ لم يُفْسِدْهُ كَذَا ذَكَرَ أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي
لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى ذلك في الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَجُعِلَ عَفْوًا
وَلَوْ أَدْخَلَ في الْإِنَاءِ أو الْبِئْرِ بَعْضَ جَسَدِهِ سِوَى الْيَدِ
وَالرِّجْلِ أَفْسَدَهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ
فيها لِطَلَبِ الدَّلْوِ لَا بِنِيَّةِ الِاغْتِسَالِ وَلَيْسَ على
____________________
(1/69)
بَدَنِهِ
نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الرَّجُلَ الْمُنْغَمِسَ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا أو لم يَكُنْ بِأَنْ كان على بَدَنِهِ
نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أو حُكْمِيَّةٌ كَالْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ وَكُلُّ وَجْهٍ
على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَنْغَمِسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أو لِلتَّبَرُّدِ أو
لِلِاغْتِسَالِ وفي الْمَسْأَلَةِ حُكْمَانِ حُكْمُ الْمَاءِ الذي في الْبِئْرِ
وَحُكْمُ الدَّاخِلِ فيها فَإِنْ كان طَاهِرًا وَانْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أو
لِلتَّبَرُّدِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ إزَالَةِ
الْحَدَثِ وَإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَإِنْ انْغَمَسَ فيها لِلِاغْتِسَالِ صَارَ
الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ إقَامَةِ
الْقُرْبَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِانْعِدَامِ إزَالَةِ
الْحَدَثِ وَالرَّجُلُ طَاهِرٌ في الْوَجْهَيْنِ جميعا وَإِنْ لم يَكُنْ طَاهِرًا
فَإِنْ كان على بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وهو جُنُبٌ أولا فَانْغَمَسَ في
ثَلَاثَةِ آبَارٍ أو أَكْثَرَ من ذلك لَا يَخْرُجُ من الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
طَاهِرًا بِالْإِجْمَاعِ وَيَخْرُجُ من الثَّالِثَةِ طَاهِرًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمِيَاهُ الثَّلَاثَةُ نَجِسَةٌ لَكِنَّ نَجَاسَتَهَا
على التَّفَاوُتِ على ما ذَكَرْنَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الرجل ( ( ( المياه ) ) ) نجس والمياه كُلُّهَا نَجِسَةٌ
سَوَاءٌ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أو التَّبَرُّدِ أو الِاغْتِسَالِ
وَعِنْدَهُمَا إنْ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أو التَّبَرُّدِ فَالْمِيَاهُ
بَاقِيَةٌ على حَالِهَا وَإِنْ كان الِانْغِمَاسُ لِلِاغْتِسَالِ فَالْمَاءُ
الرَّابِعُ فَصَاعِدًا مُسْتَعْمَلٌ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَإِنْ كان
على يَدِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَقَطْ فَإِنْ أَدْخَلَهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ
أو التَّبَرُّدِ يَخْرُجُ من الْأُولَى طَاهِرًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
هو الصَّحِيحُ لِزَوَالِ الْجَنَابَةِ بِالِانْغِمَاسِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ هو نَجِسٌ وَلَا يَخْرُجُ طَاهِرًا أَبَدًا
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيَاهِ فَالْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَالْبَوَاقِي على حَالِهَا لِانْعِدَامِ
ما يُوجِبُ الِاسْتِعْمَالَ أَصْلًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمِيَاهُ
كُلُّهَا على حَالِهَا أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لم يُوجِدْ
إقَامَةُ الْقُرْبَةِ بِشَيْءٍ منها وَأَمَّا أبو يُوسُفَ فَقَدْ تَرَكَ أَصْلَهُ
عِنْدَ الضَّرُورَةِ على ما يَذْكُرُ وَرَوَى بِشْرٌ عنه أَنَّ الْمِيَاهَ
كُلَّهَا نَجِسَةٌ وهو قِيَاسُ مَذْهَبِهِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَطْهُرُ النَّجَسُ
بِوُرُودِهِ على الْمَاءِ الْقَلِيلِ كما يَطْهُرُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عليه
بِالصَّبِّ سَوَاءٌ كان حَقِيقِيًّا أو حُكْمِيًّا على الْبَدَنِ أو على غَيْرِهِ
غير أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمُلَاقَاةِ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْحُكْمِيَّةُ تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَطْهُرُ النَّجَسُ عن الْبَدَنِ بِوُرُودِهِ على
الْمَاءِ الْقَلِيلِ الرَّاكِدِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في الثَّوْبِ قَوْلَانِ
أَمَّا الْكَلَامُ في النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ في الطَّرَفَيْنِ فَسَيَأْتِي
في بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ
وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَالْكَلَامُ فيها على نَحْوِ الْكَلَامِ في
الحقيقية ( ( ( الحقيقة ) ) ) فَأَبُو يُوسُفَ يقول الْأَصْلُ أَنَّ مُلَاقَاةَ
أَوَّلِ عُضْوِ الْمُحْدِثِ الْمَاءَ يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَعْمَلًا فَكَذَا
مُلَاقَاةُ أَوَّلِ عُضْوِ الطَّاهِرِ الْمَاءَ على قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ
وإذا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَا تَتَحَقَّقُ
طَهَارَةُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ
بهذا الْأَصْلِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ إذَا
أَدْخَلَ يَدَهُ في الْإِنَاءِ لِاغْتِرَافِ الْمَاءِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا
وَلَا يَزُولُ الْحَدَثُ إلَى الْمَاءِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
وَهَهُنَا ضَرُورَةٌ لِحَاجَةِ الناس إلَى إخْرَاجِ الدلو ( ( ( الدلاء ) ) ) من
الْآبَارِ فَتُرِكَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ هذا الْمَاءَ لو
صَارَ مُسْتَعْمَلًا إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ وَلَوْ
أَزَالَ الْحَدَثَ لَتَنَجَّسَ وَلَوْ تَنَجَّسَ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ وإذا لم
يَزُلْ الْحَدَثُ بَقِيَ طَاهِرًا وإذا بَقِيَ طَاهِرًا يُزِيلُ الْحَدَثَ
فَيَقَعُ الدَّوْرُ فَقَطَعْنَا الدَّوْرَ من الِابْتِدَاءِ فَقُلْنَا إنَّهُ لَا
يُزِيلُ الْحَدَثَ عنه فَبَقِيَ هو بحالة وَالْمَاءُ على حالة
وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ إنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِوُرُودِ
الْمَاءِ عليها فَكَذَا بِوُرُودِهَا على الْمَاءِ لِأَنَّ زَوَالَ النَّجَاسَةِ
بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَالِ وَالْمُلَاقَاةِ بين الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ مَوْجُودَةٌ
في الْحَالَيْنِ وَلِهَذَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ في
الْحَالَيْنِ جميعا في النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ إلَّا أَنَّ حَالَةَ
الِاتِّصَالِ لَا يُعْطَى لها حُكْمُ النَّجَاسَةِ وَالِاسْتِعْمَالُ لِضَرُورَةِ
إمْكَانِ التَّطْهِيرِ وَالضَّرُورَةُ مُتَحَقِّقَةٌ في الصَّبِّ إذْ كُلُّ
وَاحِدٍ لَا يَقْدِرُ عليه على كل حَالٍ فَامْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ في هذه
الْحَالَةِ وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَظْهَرُ حُكْمُهُ
وَعَلَى هذا إذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ أو خُفَّهُ أو جَبِيرَتَهُ في الْإِنَاءِ وهو
مُحْدِثٌ
قال أبو يُوسُفُ يُجْزِئُهُ في الْمَسْحِ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا
سَوَاءٌ نَوَى أو لم يَنْوِ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنَّمَا
كان لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِإِصَابَةِ الْبَلَّةِ إذْ هو اسْمٌ
لِلْإِصَابَةِ دُونَ الْإِسَالَةِ فلم يَزُلْ شَيْءٌ من الْحَدَثِ إلَى الْمَاءِ
الْبَاقِي في الْإِنَاءِ وَإِنَّمَا زَالَ إلَى الْبَلَّةِ وَكَذَا إقَامَةُ
الْقُرْبَةِ تَحْصُلُ بها فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عليها وقال
مُحَمَّدٌ إنْ لم يَنْوِ الْمَسْحَ يُجْزِئُهُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ
مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ
غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فأجزأه
وَإِنْ نَوَى الْمَسْحَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على قَوْلِهِ قال بَعْضُهُمْ
____________________
(1/70)
لَا
يُجْزِئُهُ وَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّهُ لَمَّا لَاقَى رَأْسُهُ
الْمَاءَ على قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ صَيَّرَهُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا يَجُوزُ
الْمَسْحُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَصِيرُ
الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمُلَاقَاةِ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ
الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فلم يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَهُ
فَيُجْزِئُهُ الْمَسْحُ بِهِ
جُنُبٌ على يَدِهِ قَذَرٌ فَأَخَذَ الْمَاءَ بِفَمِهِ وَصَبَّهُ عليه رَوَى
الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا
بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ عن الْفَمِ وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُزِيلُ
النَّجَاسَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْآثَارِ إنه يَطْهُرُ
لِأَنَّهُ لم يَقُمْ بِهِ قُرْبَةٌ فلم يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْمِقْدَارِ الذي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا
شَرْعًا فَالنَّجَسُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقَعَ في الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ
وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَمَكَانَ
الصَّلَاةِ فَإِنْ وَقَعَ في الْمَاءِ فَإِنْ كان جَارِيًا فَإِنْ كان النَّجَسُ
غير مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَنْجَسُ ما لم
يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ وَيَتَوَضَّأُ منه من أَيِّ مَوْضِعٍ
كان من الْجَانِبِ الذي وَقَعَ فيه النَّجَسُ أو من جَانِبٍ آخَرَ كَذَا ذَكَرَهُ
مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لو أَنَّ رجل ( ( ( رجلا ) ) ) صَبَّ
خَابِيَةً من الْخَمْرِ في الْفُرَاتِ وَرَجُلٌ آخَرَ أَسْفَلَ منه يَتَوَضَّأُ به
إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لم يَتَغَيَّرْ
يَجُوزُ وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ في الْجَاهِلِ بَالَ في الْمَاءِ الْجَارِي وَرَجُلٌ
أَسْفَلَ منه يَتَوَضَّأُ بِهِ قال لَا بَأْسَ بِهِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ
فَالْمَاءُ الذي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ
طَاهِرٌ
وَالْمَاءُ طَاهِرٌ في الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ
وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كان
جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي على الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ من أَسْفَلِ
الْجِيفَةِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ وَالنَّجَسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ
وَإِنْ كان أَكْثَرُهُ يَجْرِي على الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ
لِلْغَالِبِ وَإِنْ كان أَقَلُّهُ يَجْرِي على الْجِيفَةِ وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي
على الطَّاهِرِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ من أَسْفَلِ الْجِيفَةِ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ
مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ كان يَجْرِي عليها النِّصْفُ
أو دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِهِ لِأَنَّ الْمَاءَ
كان طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ وفي
الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا
وَعَلَى هذا إذَا كان النَّجَسُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَالْمَاءُ يَجْرِي عليه
فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنْ كانت الْأَنْجَاسُ مُتَفَرِّقَةً
على السَّطْحِ ولم تَكُنْ عِنْدَ الْمِيزَابِ ذَكَرَ عِيسَى بن أَبَانَ أَنَّهُ
لَا يَصِيرُ نَجِسًا ما لم يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ
وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كانت النَّجَاسَةُ في جَانِبٍ من السَّطْحِ أو جَانِبَيْنِ منه
لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَإِنْ كانت في ثَلَاثَةِ
جَوَانِبَ يَنْجَسُ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ في مَاءِ الْمَطَرِ
إذَا مَرَّ بِعَذِرَاتٍ ثُمَّ اسْتَنْقَعَ في مَوْضِعٍ فَخَاضَ فيه إنْسَانٌ ثُمَّ
دخل الْمَسْجِدَ فَصَلَّى لَا بَأْسَ بِهِ وهو مَحْمُولٌ على ما إذَا مَرَّ
أَكْثَرُهُ على الطَّاهِرِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في حَدِّ الْجَرَيَانِ
قال بَعْضُهُمْ هو أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان بِحَيْثُ لو وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ في الْمَاءِ عَرْضًا لم
يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إن كان بِحَالٍ لو اغْتَرَفَ إنْسَانٌ الْمَاءَ
بِكَفَّيْهِ لم يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ
وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ ما يَعُدُّهُ الناس جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ وما لَا فَلَا
وهو أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ
وَإِنْ كان رَاكِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ
فيه أَصْلًا سَوَاءٌ كان جَارِيًا أو رَاكِدًا وَسَوَاءٌ كان قَلِيلًا أو كَثِيرًا
تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ أو لم يَتَغَيَّرْ
وقال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنْ كان قَلِيلًا يَنْجَسُ وَإِنْ كان كَثِيرًا لَا
يَنْجَسُ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ
قال مَالِكٌ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ وَإِنْ
لم يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ
وَالْقُلَّتَانِ عِنْدَهُ خَمْسُ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا
فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَنًّا
وقال أَصْحَابُنَا إنْ كان بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ
وَإِنْ كان لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ
فَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النبي الْمَاءُ
طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
إلَّا ما غَيَّرَ لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ وهو تَمَامُ الحديث أو بَنَى
الْعَامَّ على الْخَاصِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النبي إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا
يَحْمِلُ خَبَثًا أَيْ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عن نَفْسِهِ
قال الشَّافِعِيُّ قال ابن جُرَيْجٍ أَرَادَ بِالْقُلَّتَيْنِ قِلَالَ هَجَرَ
كُلُّ قربه ( ( ( قلة ) ) ) يَسَعُ فيها قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ
قال الشَّافِعِيُّ وهو شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَقَدَّرْتُهُ بِالنِّصْفِ احْتِيَاطًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم من مَنَامِهِ فَلَا
يَغْمِسَنَّ
____________________
(1/71)
يَدَهُ
في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ
وَلَوْ كان الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ بِالْغَمْسِ لم يَكُنْ لِلنَّهْيِ
وَالِاحْتِيَاطِ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى وَكَذَا الْأَخْبَارُ
مُسْتَفِيضَةٌ بِالْأَمْرِ يغسل ( ( ( بغسل ) ) ) الْإِنَاءِ من وُلُوغِ الْكَلْبِ
مع أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا يَبُولَنَّ أحدكم في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا
يَغْتَسِلَنَّ فيه من جَنَابَةٍ من غَيْرِ فَصْلٍ بين دَائِمٍ وَدَائِمٍ
وَهَذَا نَهْيٌ عن تَنْجِيسِ الْمَاءِ لِأَنَّ الْبَوْلَ وَالِاغْتِسَالَ فِيمَا
لَا يَتَنَجَّسُ لِكَثْرَتِهِ ليس بِمَنْهِيٍّ فَدَلَّ على كَوْنِ الْمَاءِ
الدَّائِمِ مُطْلَقًا مُحْتَمِلًا لِلنَّجَاسَةِ إذْ النَّهْيُ عن تَنْجِيسِ ما
لَا يَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ ضَرْبٌ من السَّفَهِ وَكَذَا الْمَاءُ الذي يُمْكِنُ
الِاغْتِسَالُ فيه يَكُونُ أَكْثَرَ من قُلَّتَيْنِ وَالْبَوْلُ وَالِاغْتِسَالُ
فيه لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وعن ( ( ( وابن ) ) ) ابن الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَمَرَا
في زِنْجِيٍّ وَقَعَ في بِئْرِ زَمْزَمَ بِنَزْحِ مَاءِ الْبِئْرِ كُلِّهِ ولم
يَظْهَرْ أَثَرُهُ في الْمَاءِ وكان الْمَاءُ أَكْثَرَ من قُلَّتَيْنِ وَذَلِكَ
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عنهم ولم يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ
فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ من الصَّحَابَةِ على ما قُلْنَا وَعُرِفَ بهذا
الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ هو الْمَاءُ الْكَثِيرُ
الْجَارِي وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ ثَابِتٍ
لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَخَبَرُ
الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ يُرَدُّ يَدُلُّ عليه أَنَّ
عَلِيَّ بن الْمَدِينِيِّ قال لَا يَثْبُتُ هذا الْحَدِيثُ عن النبي وَذَكَرَ أبو
دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ وقال لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِوَاحِدٍ من الْفَرِيقَيْنِ
حَدِيثٌ عن النبي في تَقْدِيرِ الْمَاءِ
وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابُنَا في التَّقْدِيرِ إلَى الدَّلَائِلِ الْحِسِّيَّةِ
دُونَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الْخُلُوصِ
فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْخُلُوصُ
بِالتَّحْرِيكِ وهو إنه إنْ كان بِحَالٍ لو حُرِّكَ طَرَفٌ منه يَتَحَرَّكُ
الطَّرْفُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ وَإِنْ كان لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ
مِمَّا لَا يَخْلُصُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في جِهَةِ التَّحْرِيكِ فَرَوَى أبو
يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ من
غَيْرِ عُنْفٍ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عنه أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ وفي
رِوَايَةٍ بِالْيَدِ من غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءَ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ والشيخ ( ( ( فالشيخ ) ) ) أبو حَفْصٍ الْكَبِيرُ
الْبُخَارِيُّ اعْتَبَرَ الْخُلُوصَ بِالصَّبْغِ وأبو نَصْرٍ محمد بن مُحَمَّدِ بن
سَلَّامٍ اعْتَبَرَهُ بِالتَّكْدِيرِ وأبو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ
اعْتَبَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ فقال إنْ كان عَشْرًا في عَشْرٍ فَهُوَ مِمَّا لَا
يَخْلُصُ وأن كان دُونَهُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ
وَعَبْدُ اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ اعْتَبَرَهُ بِالْعَشَرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ
بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ فقال إنْ كان
خَمْسَةَ عَشَرَ في خَمْسَةَ عَشَرَ أَرْجُو أَنْ يَجُوزَ وَإِنْ كان عِشْرِينَ في
عِشْرِينَ لَا أَجِدُ في قَلْبِي شيئا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَسْجِدِهِ فَكَانَ مَسْجِدُهُ
ثَمَانِيًا في ثَمَانٍ وَبِهِ أَخَذَ محمد بن سَلَمَةَ
وَقِيلَ كان مَسْجِدُهُ عَشْرًا في عَشْرٍ وَقِيلَ مَسَحَ مَسْجِدَهُ فَوَجَدَ
دَاخِلَهُ ثَمَانِيًا في ثَمَانٍ وَخَارِجَهُ عَشْرًا في عَشْرٍ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وقال لَا عِبْرَةَ لِلتَّقْدِيرِ في الْبَابِ وَإِنَّمَا
الْمُعْتَبَرُ هو التَّحَرِّي فَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ
خَلَصَتْ إلَى هذا الْمَوْضِعِ الذي يَتَوَضَّأُ منه لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان
أَكْبَرُ رَأْيِهِ أنها لم تَصِلْ إلَيْهِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ
الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ في الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ
أَلَا يُرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ في نَجَاسَةِ الْمَاءِ
وَطَهَارَتِهِ وَإِنْ كان لَا يُفِيدُ بِرَدِّ الْيَقِينِ وَكَذَلِكَ قال
أَصْحَابُنَا في الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الذي لو حُرِّكَ طَرَفٌ منه لَا
يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ إذَا وَقَعَتْ فيه النَّجَاسَةُ أنه إنْ كان في
غَالِبِ الرَّأْيِ أنها وَصَلَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الذي يَتَوَضَّأُ منه لَا
يَجُوزُ وَإِنْ كان فيه أنها لم تَصِلْ يَجُوزُ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ في الْمِيزَابِ إذَا سَالَ على إنْسَانٍ إنه إنْ
كان غَالِبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ
قَلْبُهُ على شَيْءٍ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ في الْحُكْمِ وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ
أَنْ يَغْسِلَ
وَأَمَّا حَوْضُ الْحَمَّامِ الذي يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ إذَا وَقَعَتْ
فيه النَّجَاسَةُ أو تَوَضَّأَ إنْسَانٌ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان
الْمَاءُ يَجْرِي من الْمِيزَابِ وَالنَّاسُ يَغْتَرِفُونَ منه لَا يَصِيرُ
نَجِسًا
وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ
الْجَارِي وَلَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فيه
ثُمَّ بُسِطَ مَاؤُهُ حتى صَارَ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ نَجِسٌ
لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ هو الْمَاءُ النَّجَسُ وَقِيلَ في الْحَوْضِ الْكَبِيرِ
وَقَعَتْ فيه النَّجَاسَةُ ثُمَّ قَلَّ مَاؤُهُ حتى صَارَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى
بَعْضٍ أنه طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ هو الْمَاءُ الطَّاهِرُ
هَكَذَا ذَكَرَهُ أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَاعْتَبَرَ حَالَةَ الْوُقُوعِ
وَلَوْ وَقَعَ في هذا الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ عَاوَدَهُ الْمَاءُ حتى
امْتَلَأَ الْحَوْضُ ولم يَخْرُجْ منه شَيْءٌ
قال أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا
دخل الْمَاءُ فيه صَارَ نَجِسًا وَلَوْ أَنَّ حَوْضَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَخْرُجُ
الْمَاءُ من
____________________
(1/72)
أَحَدِهِمَا
وَيَدْخُلُ في الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ منه إنْسَانٌ في خِلَالِ ذلك جَازَ لِأَنَّهُ
مَاءٌ جَارٍ
حَوْضٌ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ ثُمَّ نَضَبَ مَاؤُهُ وَجَفَّ أَسْفَلُهُ حتى حُكِمَ
بِطَهَارَتِهِ ثُمَّ دخل فيه الْمَاءُ ثَانِيًا هل يَعُودُ نَجِسًا فيه
رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ
فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ
وَكَذَا الْمَنِيُّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَجَفَّ وَفُرِكَ ثُمَّ أَصَابَهُ
بَلَلٌ وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ دِبَاغَةً حُكْمِيَّةً
بِالتَّشْمِيسِ والتتريب ( ( ( والترتيب ) ) ) ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَفِي هذه
الْمَسَائِلِ كُلِّهَا رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ
وَأَمَّا الْبِئْرُ إذَا تَنَجَّسَتْ فَغَارَ مَاؤُهَا وَجَفَّ أَسْفَلُهَا ثُمَّ
عَاوَدَهَا الْمَاءُ فقال نُصَيْرُ بن يحيى هو طَاهِرٌ وقال محمد بن سَلَمَةَ هو
نَجِسٌ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ نُصَيْرٍ أَنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ مَاءٌ جَارٍ فَيَخْتَلِطُ
الْغَائِرُ بِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِ الغائر ( ( ( العائد ) ) ) نَجِسًا
بِالشَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّ ما نَبَعَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاءٌ
جَدِيدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمَاءُ النَّجَسُ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ
بِالشَّكِّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْوَطُ وَالْأَوَّلُ أَوْسَع هذا إذَا كان
الْمَاءُ الرَّاكِدُ له طُولٌ وَعَرْضٌ فَإِنْ كان له طُولٌ بِلَا عَرْضٍ
كَالْأَنْهَارِ التي فيها مِيَاهٌ رَاكِدَةٌ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أبي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدِ بن سَلَّامٍ أَنَّهُ قال إنْ كان طُولُ
الْمَاءِ مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ
وكان يَتَوَضَّأُ في نَهْرِ بَلْخٍ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ بيده وَيَقُولُ لَا
فَرْقَ بين إجْرَائِي إيَّاهُ وَبَيْنَ جَرَيَانِهِ بِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ
لو وَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ لَا يَنْجَسُ ما لم يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ
أو رِيحُهُ
وَعَنْ أبي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ أَنَّهُ قال لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
فيه
وَعَلَى قَوْلِهِ لو وَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ أو بَالَ فيه إنْسَانٌ أو تَوَضَّأَ
إنْ كان في أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَنْجَسُ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَإِنْ كان
في وَسَطِهِ يَنْجَسُ من كل جَانِبٍ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فما ذَهَبَ
إلَيْهِ أبو نَصْرٍ أَقْرَبُ إلَى الْحُكْمِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَرْضِ يُوجِبُ
التَّنْجِيسَ وَاعْتِبَارُ الطُّولِ لَا يُوجِبُ فَلَا يَنْجَسُ بِالشَّكِّ وما
قَالَهُ أبو سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الطُّولِ
إنْ كان لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ فَاعْتِبَارُ الْعَرْضِ يُوجِبُ فَيُحْكَمُ
بِالنَّجَاسَةِ احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الْعُمْقُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ مع الطُّولِ وَالْعَرْضِ عن أبي سُلَيْمَانَ
الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قال إنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَبَرُوا الْبَسْطَ دُونَ
الْعُمْقِ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إنْ كان بِحَالٍ لو رَفَعَ
إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ انْحَسَرَ أَسْفَلُهُ ثُمَّ اتَّصَلَ لَا
يَتَوَضَّأُ بِهِ وَإِنْ كان بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ ما ( ( ( أسفله ) ) ) تحته
لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ منه
وَقِيلَ مِقْدَارُ الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً على عَرْضِ الدِّرْهَمِ
الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ شِبْرٍ وَقِيلَ قَدْرُ
ذِرَاعٍ
ثُمَّ النَّجَاسَةُ إذَا وَقَعَتْ في الْحَوْضِ الْكَبِيرِ كَيْف يُتَوَضَّأُ منه
فَنَقُولُ النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً أو غير
مَرْئِيَّةٍ فَإِنْ كانت مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا ذَكَرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ من الْجَانِبِ الذي وَقَعَتْ فيه
النَّجَاسَةُ وَلَكِنْ يَتَوَضَّأَ من الْجَانِبِ الْآخَرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ
يَتْرُكُ من مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَدْرَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ
كَذَا فَسَّرَهُ في الْإِمْلَاءِ عن أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالنَّجَاسَةِ في ذلك الْجَانِبِ وَشَكَكْنَا فِيمَا
وَرَاءَهُ
وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ اسْتَنْجَى في مَوْضِعٍ من حَوْضِ الْحَمَّامِ لَا
يُجْزِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ من ذلك الْمَوْضِعِ قبل تَحْرِيكِ الْمَاءِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ من أَيِّ جَانِبٍ كان إلَّا
إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَاءِ
الْجَارِي
وَلَوْ وَقَعَتْ الْجِيفَةُ في وَسَطِ الْحَوْضِ على قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
إنْ كان بين الْجِيفَةِ وَبَيْنَ كل جَانِبٍ من الْحَوْضِ مِقْدَارَ ما لَا
يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَجُوزُ التوضأ فيه وَإِلَّا فَلَا لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ كانت غير مَرْئِيَّةٍ بِأَنْ بَالَ فيه إنْسَانٌ أو اغْتَسَلَ جُنُبٌ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْئِيَّةِ حتى لَا
يَتَوَضَّأَ من ذلك الْجَانِبِ وَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ من الْجَانِبِ الْآخَرِ
لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَرْئِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي لِأَنَّهُ
يَنْقُلُ النَّجَاسَةَ من مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فلم يُسْتَيْقَنْ بِالنَّجَاسَةِ
في مَوْضِعِ الْوُضُوءِ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَصَلُوا
بَيْنَهُمَا فَفِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ من أَيِّ جَانِبٍ
كان كما قالوا جميعا في الْمَاءِ الْجَارِي وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّ غير
الْمَرْئِيَّةِ لَا يَسْتَقِرُّ في مَكَان وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ لِكَوْنِهِ
مَائِعًا سَيَّالًا بِطَبْعِهِ فلم نَسْتَيْقِنْ بِالنَّجَاسَةِ في الْجَانِبِ
الذي يَتَوَضَّأُ منه فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ على الْأَصْلِ
الْمَعْهُودِ أن الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ الْمَرْئِيَّةِ
وَهَذَا إذَا كان الْمَاءُ في الْحَوْضِ غير جَامِدٍ فَإِنْ كان جَامِدًا وَثُقِبَ
في مَوْضِعٍ منه
فَإِنْ كان الْمَاءُ غير مُتَّصِلٍ بِالْجَمْدِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ منه بِلَا
خِلَافٍ وَإِنْ كان مُتَّصِلًا بِهِ فَإِنْ كان الثَّقْبُ وَاسِعًا بِحَيْثُ لَا
يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْضِ
الْكَبِيرِ وَإِنْ كان الثَّقْبُ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال نُصَيْرُ بن يحيى وأبو بَكْرٍ
____________________
(1/73)
الْإِسْكَافُ
لَا خَيْرَ فيه وَسُئِلَ ابن الْمُبَارَكِ فقال لَا بَأْسَ بِهِ وقال أَلَيْسَ
الْمَاءُ يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ وهو قَوْلُ الشَّيْخِ أبي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَهَذَا
أَوْسَعُ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَقَالُوا إذَا حُرِّكَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ
تَحْرِيكًا بَلِيغًا يُعْلَمُ منه ( ( ( عنده ) ) ) أَنَّ ما كان رَاكِدًا ذَهَبَ
عن هذا الْمَكَانِ وَهَذَا مَاءٌ جَدِيدٌ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ
وَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ فَالْمَاءُ الْقَلِيلُ لَا
يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ في الْأَوَانِي أو في الْبِئْرِ أو في الْحَوْضِ
الصَّغِيرِ فَإِنْ كان في الْأَوَانِي فَهُوَ نَجِسٌ كَيْفَمَا كانت النَّجَاسَةُ
مُتَجَسِّدَةً أو مَائِعَةً لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ في الْأَوَانِي لِإِمْكَانِ
صَوْنِهَا عن النَّجَاسَاتِ حتى لو وَقَعَتْ بَعْرَةٌ أو بَعْرَتَانِ في
الْمَحْلَبِ عِنْدَ الْحَلْبِ ثُمَّ رُمِيَتْ من سَاعَتِهَا لم يَنْجَسْ اللَّبَنُ
كَذَا رَوَى عنه خَلَفُ بن أَيُّوبَ وَنُصَيْرُ بن يحيى وَمُحَمَّدُ بن مُقَاتِلٍ
الرَّازِيّ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَإِنْ كان في الْبِئْرِ فَالْوَاقِعُ فيه لَا
يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أو غَيْرَهُ من النَّجَاسَاتِ فَإِنْ كان
حَيَوَانًا فَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ حَيًّا وأما إنْ أُخْرِجَ مَيِّتًا فَإِنْ
أُخْرِجَ حَيًّا فَإِنْ كان نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ يُنَجِّسُ جَمِيعَ
الْمَاءِ وفي الْكَلْبِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ في كَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ
فَمَنْ جَعَلَهُ نَجِسَ الْعَيْنِ اسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ من الْعُيُونِ
عن أبي يُوسُفِ أَنَّ الْكَلْبَ إذَا وَقَعَ في الْمَاءِ ثُمَّ خَرَجَ منه
فَانْتَفَضَ فَأَصَابَ إنْسَانًا منه أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ
صَلَاتُهُ وَذَكَرَ في الْعُيُونِ أَيْضًا أَنَّ كَلْبًا لو أَصَابَهُ الْمَطَرُ
فَانْتَفَضَ فَأَصَابَ إنْسَانًا منه أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ إنْ كان
الْمَطَرُ الذي أَصَابَهُ وَصَلَ إلَى جِلْدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ
الْمَوْضِعَ الذي أَصَابَهُ وَإِلَّا فَلَا وَنَصَّ مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ قال
وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ من الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَدَلَّ أَنَّهُ
نَجِسُ الْعَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ من قال أنه ليس نَجِسَ الْعَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُضْمَنُ
مُتْلَفُهُ وَنَجِسُ الْعَيْنِ ليس مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَلَا مَضْمُونًا
بِالْإِتْلَافِ كَالْخِنْزِيرِ دَلَّ عليه أَنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ
وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ وَكَذَا
رَوَى ابن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ في الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ وَقَعَا في
الْمَاءِ الْقَلِيلِ ثُمَّ خَرَجَا أَنَّهُ يُعْجَنُ بِذَلِكَ وَلِذَلِكَ قال
مَشَايِخُنَا فِيمَنْ صلى وفي كُمِّهِ جَرْوُ كَلْبٍ أنه تَجُوزُ صَلَاتُهُ
وَقَيَّدَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ
مَسْدُودَ الْفَمِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِنَجِسِ الْعَيْنِ وَهَذَا أَقْرَبُ
الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابَ
وَإِنْ لم يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ فَإِنْ كان آدَمِيًّا ليس على بَدَنِهِ
نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا حُكْمِيَّةٌ وقد اسْتَنْجَى لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا
بِزَوَالِ الْحَدَثِ أو بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك وَإِنْ
كان على بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أو لم يَكُنْ مُسْتَنْجِيًا يُنْزَحُ
جَمِيعُ الْمَاءِ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِالْمَاءِ وَإِنْ كان على بَدَنِهِ
نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ كان مُحْدِثًا أو جُنُبًا أو حَائِضًا أو نُفَسَاءَ
فَعَلَى قَوْلِ من لَا يَجْعَلُ هذا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ
لِأَنَّهُ طَهُورٌ وَكَذَا على قَوْلُ من جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ
الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرًا لِأَنَّ غير الْمُسْتَعْمَلِ أَكْثَرُ فَلَا
يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ طَهُورًا ما لم يَكُنْ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا عليه كما لو
صَبَّ اللَّبَنَ في الْبِئْرِ بِالْإِجْمَاعِ أو بَالَتْ شَاةٌ فيها عِنْدَ
مُحَمَّدٍ
وَأَمَّا على قَوْلِ من جَعَلَ هذا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ
الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسًا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ كما لو وَقَعَتْ فيها
قَطْرَةٌ من دَمٍ أو خَمْرٍ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كان مُحْدِثًا يُنْزَحُ
أَرْبَعُونَ وَإِنْ كان جُنُبًا يُنْزَحُ كُلُّهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ
مُشْكِلَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن صَارَ هذا الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أو
لَا فَإِنْ لم يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا لَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ لِأَنَّهُ بَقِيَ
طَهُورًا كما كان وَإِنْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ
الْحَسَنِ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ نَزْحُ جَمِيعِ
الْمَاءِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في الْكَافِرِ إذَا وَقَعَ في الْبِئْرِ
يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ لِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَخْلُو عن نَجَاسَةٍ
حَقِيقِيَّةٍ أو حُكْمِيَّةٍ حتى لو تَيَقَّنَّا بِطَهَارَتِهِ بِأَنْ اغْتَسَلَ
ثُمَّ وَقَعَ في الْبِئْرِ من سَاعَتِهِ لَا يُنْزَحُ منها شَيْءٌ
وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنْ عُلِمَ بِيَقِينٍ إن على بَدَنِهَا
نَجَاسَةً أو على مَخْرَجِهَا نَجَاسَةً تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِاخْتِلَاطِ
النَّجَسِ بِهِ سَوَاءٌ وَصَلَ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ أو لَا وَإِنْ لم يُعْلَمْ ذلك
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ الْعِبْرَةُ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ إنْ كان مَأْكُولَ
اللَّحْمِ لَا يَنْجَسُ وَلَا يُنْزَحُ شَيْءٌ سَوَاءٌ وَصَلَ لُعَابُهُ إلَى
الْمَاءِ أو لَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ يَنْجَسُ سَوَاءٌ كان على
بَدَنِهِ أو مَخْرَجِهِ نَجَاسَةٌ أو لَا
وقال بَعْضُهُمْ الْمُعْتَبَرَ هو السُّؤْرُ فَإِنْ كان لم يَصِلْ فَمُهُ إلَى
الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ وَإِنْ وَصَلَ فَإِنْ كان سُؤْرُهُ طَاهِرًا
فَالْمَاءُ طَاهِرٌ وَلَا يُنْزَحُ منه شَيْءٌ وَإِنْ كان نَجِسًا فَالْمَاءُ
نَجِسٌ وَيُنْزَحُ كُلُّهُ وَإِنْ كان مَكْرُوهًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْزَحَ
عَشْرُ دِلَاءٍ وَإِنْ كان مَشْكُوكًا فيه فَالْمَاءُ
____________________
(1/74)
كَذَلِكَ
وَيُنْزَحُ كُلّه كَذَا ذُكِرَ في الْفَتَاوَى عن أبي يُوسُفَ
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ في نَوَادِرِهِ إن الْمُسْتَحَبَّ في الْفَأْرَةِ نَزْحُ
عِشْرِينَ وفي الْهِرَّةِ نَزْحُ أَرْبَعِينَ لِأَنَّ ما كان أَعْظَمَ جُثَّةً كان
أَوْسَعَ فَمًا وَأَكْثَرَ لُعَابًا وَذَكَرَ في فتاوي أَهْلِ بَلْخٍ إذَا
وَقَعَتْ وَزَغَةٌ في بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ حَيَّةً يُسْتَحَبُّ نَزْحُ أربعة ( ( (
أربع ) ) ) دِلَاءٍ إلَى خَمْسٍ أو سِتٍّ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ في الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ
يُنَجِّسُ الْمَاءَ لِأَنَّهَا تَبُولُ بين أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُوَ عن
الْبَوْلِ غير أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا لِأَنَّ
بَوْلَ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً وقد ازْدَادَ خِفَّةً
بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيُنْزَحُ أَدْنَى ما يُنْزَحُ من الْبِئْرِ وَذَلِكَ
عِشْرُونَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ لِاسْتِوَاءِ
النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ في حُكْمِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ
هذا كُلُّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَإِنْ كان مُنْتَفِخًا أو
مُتَفَسِّخًا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُنْتَفِخًا وَلَا
مُتَفَسِّخًا ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ في
الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا أو ثَلَاثُونَ وفي الدَّجَاجِ
وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ أو خَمْسُونَ وفي الْآدَمِيِّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ
كُلُّهُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَجَعَلَهُ خَمْسَ مَرَاتِبَ في الجلبة ( ( (
الحمامة ) ) ) وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عَشْرُ دِلَاءٍ وفي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا
عِشْرُونَ وفي الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ ثَلَاثُونَ وفي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ
أَرْبَعُونَ وفي الْآدَمِيّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ
وَقَوْلُهُ في الْكِتَابِ يُنْزَحُ في الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ أو ثَلَاثُونَ وفي
الْهِرَّةِ أَرْبَعُونَ أو خَمْسُونَ لم يُرِدْ بِهِ التَّخْيِيرَ بَلْ أَرَادَ
بِهِ عِشْرِينَ وُجُوبًا وَثَلَاثِينَ اسْتِحْبَابًا وَكَذَا في الْأَرْبَعِينَ
وَالْخَمْسِينَ وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا قال ذلك لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ في
الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فَفِي الصَّغِيرِ منها يُنْزَحُ الْأَقَلُّ وفي الْكَبِيرِ
يُنْزَحُ الْأَكْثَرُ
وَالْأَصْلُ في الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فيها قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا ما قَالَهُ
بِشْرُ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ يُطَمُّ وَيُحْفَرُ في مَوْضِعٍ آخَرَ
لِأَنَّ غَايَةَ ما يُمْكِنُ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْقَى
الطِّينُ وَالْحِجَارَةُ نَجِسًا وَلَا يُمْكِنُ كَبُّهُ لِيُغْسَلَ
وَالثَّانِي ما نُقِلَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أبي
يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ في حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي لِأَنَّهُ يَنْبُعُ
من أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ من أَعْلَاهُ فَلَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فيه
كَحَوْضِ الْحَمَّامِ إذَا كان يُصَبُّ الْمَاءُ فيه من جَانِبٍ وَيُغْتَرَفُ من
جَانِبٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ النَّجِسَةِ فيه
ثُمَّ قُلْنَا وما عَلَيْنَا لو أَمَرْنَا بِنَزْحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ وَلَا
نُخَالِفُ السَّلَفَ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ
بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَضَرْبٍ من الْفِقْهِ الْخَفِيِّ
أَمَّا الْخَبَرُ فما رَوَى الْقَاضِي أبو جَعْفَرٍ الاستر ( ( ( الأسروشني ) ) )
وشني باسناده عن النبي أَنَّهُ قال في الْفَأْرَةِ تَمُوتُ في الْبِئْرِ يُنْزَحُ
منها عِشْرُونَ وفي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ ثَلَاثُونَ دَلْوًا
وَأَمَّا الْأَثَرُ فما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يُنْزَحُ
عِشْرُونَ وفي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ وَعَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال
في دَجَاجَةٍ مَاتَتْ في الْبِئْرِ يُنْزَحُ منها أَرْبَعُونَ دَلْوًا
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا أَمَرَا
بِنَزْحِ جَمِيعِ مَاءِ زَمْزَمَ حِين مَاتَ فيها زِنْجِيٌّ وكان بِمَحْضَرٍ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ
الْإِجْمَاعُ عليه
وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ في هذه الْأَشْيَاءِ دَمًا مَسْفُوحًا
وقد تَشَرَّبَ في أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا وقد جَاوَرَتْ هذه
الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ وَالْمَاءُ يَتَنَجَّسُ أو يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ
النَّجَسِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ما جَاوَرَ النَّجَسَ نَجِسٌ بِالشَّرْعِ قال
في الْفَأْرَةِ تَمُوتُ في السَّمْنِ الْجَامِدِ يُقَوَّرُ ما حَوْلَهَا وَيُلْقَى
وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي فَقَدْ حَكَمَ النبي بِنَجَاسَةِ جَارِ النَّجَسِ وفي
الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا ما يُجَاوِرُهَا من الْمَاءِ مِقْدَارُ ما قَدَّرَهُ
أَصْحَابُنَا وهو عِشْرُونَ دَلْوًا أو ثَلَاثُونَ لِصِغَرِ جُثَّتِهَا فَحُكِمَ
بِنَجَاسَةِ هذا الْقَدْرِ من الْمَاءِ لِأَنَّ ما وَرَاءَ هذا الْقَدْرِ لم
يُجَاوِرْ الْفَأْرَةَ بَلْ جَاوَرَ ما جَاوَرَ الْفَأْرَةَ وَالشَّرْعُ وَرَدَ
بِتَنْجِيسِ جَارِ النَّجَسِ لَا بِتَنْجِيسِ جَارِ جَارِ النَّجِسِ
أَلَا تَرَى أَنَّ النبي حَكَمَ بِطَهَارَةِ ما جَاوَرَ السَّمْنَ الذي جَاوَرَ
الْفَأْرَةَ وَحَكَمَ بِنَجَاسَةِ ما جَاوَرَ الْفَأْرَةَ
وَهَذَا لِأَنَّ جَارَ جَارِ النَّجَسِ لو حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ لَحُكِمَ أَيْضًا
بِنَجَاسَةِ ما جَاوَرَ جَارَ جَارِ النَّجَسِ ثُمَّ هَكَذَا إلَى ما لَا
نِهَايَةَ له فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ قَطْرَةً من بَوْلٍ أو فَأْرَةٍ لو وَقَعَتْ
في بَحْرٍ عَظِيمٍ أَنْ يَتَنَجَّسَ جَمِيعُ مَائِهِ للاتصال ( ( ( لاتصال ) ) )
بين أَجْزَائِهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ
وفي الدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ وَأَشْبَاهِ ذلك الْمُجَاوَرَةُ أَكْثَرُ
لِزِيَادَةِ ضَخَامَةٍ في جُثَّتِهَا فَقُدِّرَ بِنَجَاسَةِ ذلك الْقَدْرِ
وَالْآدَمِيُّ وما كان جُثَّتُهُ مِثْلَ جُثَّتِهِ كَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا
يُجَاوِرُ جَمِيعَ الْمَاءِ في الْعَادَةِ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ فَيُوجِبُ تَنْجِيسَ
جَمِيعِ الْمَاءِ وَكَذَا إذَا تَفَسَّخَ شَيْءٌ من هذه الْوَاقِعَاتِ أو
انْتَفَخَ لِأَنَّ عِنْدَ ذلك تَخْرُجُ الْبِلَّةُ منها لِرَخَاوَةٍ فيها
فَتُجَاوِرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَاءِ
وَقِيلَ ذلك لَا يُجَاوِرُ إلَّا قَدْرَ ما ذَكَرْنَا لِصَلَابَةٍ فيها وَلِهَذَا
قال مُحَمَّدٌ إذَا وَقَعَ في
____________________
(1/75)
الْبِئْرِ
ذَنَبُ فَأْرَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا
يَنْفَكُّ عن بِلَّةٍ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا
هذا إذَا كان الْوَاقِعُ وَاحِدًا فَإِنْ كان أَكْثَرَ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أَنَّهُ قال في الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ إلَى الْأَرْبَعِ فإذا
بَلَغَتْ خَمْسًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ إلَى التِّسْعِ
فإذا بَلَغَتْ عَشْرًا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال في الْفَأْرَتَيْنِ يُنْزَحُ عِشْرُونَ وفي
الثَّلَاثِ أَرْبَعُونَ وإذا كانت الْفَأْرَتَانِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجِ يُنْزَحُ
أَرْبَعُونَ هذا إذَا كان الْوَاقِعُ في الْبِئْرِ حَيَوَانًا فَإِنْ كان غَيْرَهُ
من الْأَنْجَاسِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تكون ( ( ( يكون ) ) ) مُسْتَجْسِدًا أو
غير مُسْتَجْسِدٍ فَإِنْ كان غير مُسْتَجْسِدٍ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ
يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى جَمِيعِ
الْمَاءِ
وَإِنْ كان مُسْتَجْسِدًا فَإِنْ كان رَخْوًا مُتَخَلْخِلَ الْأَجْزَاءِ
كَالْعَذِرَةِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِمَا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ
كُلُّهُ قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا رَطْبًا كان أو يَابِسًا لِأَنَّهُ
لِرَخَاوَتِهِ يَتَفَتَّتُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ
بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهُ وَإِنْ كان صُلْبًا نحو بَعْرِ الْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَنْجَسَ الْمَاءُ قَلَّ
الْوَاقِعُ فيه أو كَثُرَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كان قَلِيلًا لَا يَنْجَسُ وَإِنْ كان كَثِيرًا يَنْجَسُ
ولم يَفْصِلْ بين الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قال بَعْضُهُمْ إنْ كان رَطْبًا يَنْجَسُ قَلِيلًا كان
أو كَثِيرًا وَإِنْ كان يَابِسًا فَإِنْ كان مُنْكَسِرًا يَنْجَسُ قَلَّ أو كَثُرَ
وَإِنْ لم يَكُنْ مُنْكَسِرًا لَا يَنْجَسُ ما لم يَكُنْ كَثِيرًا وَتَكَلَّمُوا
في الْكَثِيرِ
قال بَعْضُهُمْ أَنْ يُغَطِّيَ جَمِيعَ وَجْهِ الْمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ رُبْعُ
وَجْهِ الْمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ الثَّلَاثُ كَثِيرٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ في
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في بَعْرَةٍ أو بَعْرَتَيْنِ وَقَعَتَا في الْمَاءِ لَا
يَفْسُدُ الْمَاءُ ولم يذكر الثَّلَاثَ فَدَلَّ على أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرٌ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ بن سَلَمَةَ إنْ كان لَا يَسْلَمُ كُلُّ دَلْوٍ عن بَعْرَةٍ أو
بَعْرَتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ وقال بَعْضُهُمْ الْكَثِيرُ ما اسْتَكْثَرَهُ النَّاظِرُ
وهو الصَّحِيحُ
وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال إنْ كان يَابِسًا لَا يَنْجَسُ
صَحِيحًا كان أو مُنْكَسِرًا قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا وَإِنْ كان رَطْبًا وهو
قَلِيلٌ لَا يَمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ في الرَّوْثِ الْيَابِسِ إذَا
وَقَعَ في الْبِئْرِ ثُمَّ أُخْرِجَ من سَاعَتِهِ لَا يَنْجَسُ وَالْأَصْلُ في هذا
أَنَّ لِلْمَشَايِخِ في الْقَلِيلِ من الْبَعْرِ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ
طَرِيقَتَيْنِ
إحْدَاهُمَا أَنَّ لِلْيَابِسِ صَلَابَةً فَلَا يَخْتَلِطُ شَيْءٌ من أَجْزَائِهِ
بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّطْبَ يَنْجَسُ بِاخْتِلَاطِ
رُطُوبَتِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ في النَّوَادِرِ وَالْحَاكِمِ
في الْإِشَارَاتِ وَكَذَا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا
الرَّوْثُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ رَخْوٌ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ لِتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ
فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ
الْكَثِيرَ من الْيَابِسِ الصَّحِيحِ لَا يَنْجَسُ وَكَذَلِكَ قال الْحَسَنُ بن
زِيَادٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ لِأَنَّهَا إذَا كَثُرَتْ تَقَعُ
الْمُمَاسَّةُ بَيْنَهُمَا فَيَصْطَكُّ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَتَتَفَتَّتُ
أَجْزَاؤُهَا فَتَنْجَسُ
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ إن آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَا حَاجِزَ لها على رؤوسها (
( ( رءوسها ) ) ) وَيَأْتِيهَا الْأَنْعَامُ فتسقي فَتَبْعَرُ فإذا يَبِسَتْ
الْأَبْعَارُ عَمِلَتْ فيها الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا في الْبِئْرِ فَلَوْ حُكِمَ
بِفَسَادِ الْمِيَاهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ على سُكَّانِ الْبَوَادِي وما ضَاقَ
أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ فَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ الْكَثِيرُ منه يُفْسِدُ
الْمِيَاهَ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ في الْكَثِيرِ وَكَذَا الرَّطْبُ لِأَنَّ
الرِّيحَ تَعْمَلُ في الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ لِثِقَلِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ
الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ
وَعَنْ الشَّيْخِ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ أَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ
سَوَاءٌ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ في الْجُمْلَةِ فَأَمَّا الْيَابِسُ
الْمُنْكَسِرُ فَلَا يَفْسُدُ إذَا كان قَلِيلًا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ في
الْمُنْكَسِرِ أَشَدُّ
وَالرَّوْثُ إنْ كان في مَوْضِعٍ يَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَالْجَوَابُ
فيه كَالْجَوَابِ في الْبَعْرِ
هذا في آبَارِ الْفَلَوَاتِ
وَأَمَّا الْآبَارُ التي في الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ فيها الْمَشَايِخُ فَمَنْ
اعْتَمَدَ مَعْنَى الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةَ لَا يُفَرِّقُ لِأَنَّ ذلك
الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَمَنْ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ لها رؤوس حَاجِزَةٌ فَيَقَعُ الْأَمْنُ عن الْوُقُوعِ
فيها وَلَوْ انْفَصَلَتْ بَيْضَةٌ من دَجَاجَةٍ فَوَقَعَتْ في الْبِئْرِ من
سَاعَتِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال نُصَيْرُ بن يحيى يُنْتَفَعُ بِالْمَاءِ ما لم يُعْلَمْ أَنَّ عليها قَذَرًا
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كانت رَطْبَةً أَفْسَدَتْ وَإِنْ كانت يَابِسَةً فَوَقَعَتْ
في الْمَاءِ أو في الْمَرَقَةِ لَا تُفْسِدُهُمَا وَهِيَ حَلَالٌ اشْتَدَّ
قِشْرُهَا أو لم يَشْتَدَّ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ
سَقَطَتْ السَّخْلَةُ من أُمِّهَا وَهِيَ مُبْتَلَّةٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ حتى لو
حَمَلَهَا الرَّاعِي فَأَصَابَ بَلَلُهَا الثَّوْبَ أَكْثَرَ من قَدْرِ
الدِّرْهَمِ مَنَعَ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَلَوْ وَقَعَتْ في الْمَاءِ في ذلك
الْوَقْتِ أَفْسَدَتْ الْمَاءَ وإذا يَبِسَتْ فَقَدْ طَهُرَتْ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ أَنَّ هذا الْجَوَابَ مُوَافِقُ قَوْلِهِمَا
فَأَمَّا في قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْبَيْضَةُ طَاهِرَةٌ رَطْبَةً كانت
أو يَابِسَةً وَكَذَا السَّخْلَةُ لِأَنَّهَا كانت في مَكَانِهَا وَمَعْدِنِهَا
كما قال في
____________________
(1/76)
الأنفحة
إذَا خَرَجَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ أنها طَاهِرَةٌ جَامِدَةً كانت أو مَائِعَةً
وَعِنْدَهُمَا إنْ كانت مَائِعَةً فَنَجِسَةٌ وَإِنْ كانت جَامِدَةً تَطْهُرُ
بِالْغَسْلِ
وَلَوْ وَقَعَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ في الْبِئْرِ فَإِنْ كان عَظْمُ الْخِنْزِيرِ
أَفْسَدَهُ كَيْفَمَا كان وَأَمَّا عَظْمُ غَيْرِهِ فَإِنْ كان عليه لَحْمٌ أو
دَسَمٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَشِيعُ في الْمَاءِ وَإِنْ لم
يَكُنْ عليه شَيْءٌ لم يُفْسِدْ لِأَنَّ الْعَظْمَ طَاهِرٌ
بِئْرٌ وَجَبَ منها نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا فَنُزِحَ الدَّلْوُ الْأَوَّلُ
وَصُبَّ في بِئْرٍ طَاهِرَةٍ يُنْزَحُ منها عِشْرُونَ دَلْوًا وَالْأَصْلُ في هذا
أَنَّ الْبِئْرَ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى حين كان
الدَّلْوُ الْمَصْبُوبُ فيها وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الثَّانِي يُنْزَحُ تِسْعَةَ
عَشْرَ دَلْوًا وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْعَاشِرُ في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ
يُنْزَحُ عَشَرَةُ دِلَاءٍ وفي رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَحَدَ عَشْرَ دَلْوًا وهو
الْأَصَحُّ وَالتَّوْفِيقُ بين الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ من الْأُولَى
سِوَى الْمَصْبُوبِ وَمِنْ الثَّانِيَةِ مع الْمَصْبُوبِ وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ
الْأَخِيرُ يَنْزَحُ دَلْوًا وَاحِدًا لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ وَلَوْ
أُخْرِجَتْ الْفَأْرَةُ وَأُلْقِيَتْ في بِئْرٍ طَاهِرَةٍ وَصُبَّ فيها أَيْضًا
عِشْرُونَ دَلْوًا من مَاءِ الْأُولَى تُطْرَحُ الْفَأْرَةُ وينزح ( ( ( وينزع ) )
) عِشْرُونَ دَلْوًا لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ فَكَذَا الثَّانِيَةُ
بِئْرَانِ وَجَبَ من كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ فَنُزِحَ عِشْرُونَ
من أَحَدِهِمَا وَصُبَّ في الْأُخْرَى يُنْزَحُ عِشْرُونَ وَلَوْ وَجَبَ من
إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى نَزْحُ أَرْبَعِينَ فَنُزِحَ ما
وَجَبَ من إحْدَاهُمَا وَصُبَّ في الْأُخْرَى يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وَالْأَصْلُ
فيه أَنْ يُنْظَرَ إلَى ما وَجَبَ من النَّزَحِ منها وَإِلَى ما صُبَّ فيها فَإِنْ
كَانَا سَوَاءً تَدَاخَلَا وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ دخل الْقَلِيلُ في
الْكَثِيرِ
وَعَلَى هذا ثَلَاثَةُ آبَارٍ وَجَبَ من كل وَاحِدَةٍ نَزْحُ عِشْرِينَ فَنُزِحَ
الْوَاجِبُ من الْبِئْرَيْنِ وَصُبَّ في الثَّالِثَةِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ فَلَوْ
وَجَبَ من إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى نَزْحُ أَرْبَعِينَ
فَصُبَّ الْوَاجِبَانِ في بِئْرٍ طَاهِرَةٍ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ لِمَا قُلْنَا من
الْأَصْلِ وَلَوْ نُزِحَ دَلْوٌ من الْأَرْبَعِينَ وَصُبَّ في الْعِشْرِينَ
يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ لِأَنَّهُ لو صُبَّ في بِئْرٍ طَاهِرَةٍ نُزِحَ كَذَلِكَ
فَكَذَا هذا وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ
وفي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ الْوَاجِب وَالْمَصْبُوبُ جميعا فَقِيلَ له إنَّ
مُحَمَّدًا رَوَى عَنْكَ الْأَكْثَرَ فَأَنْكَرَ
فَأْرَةً وَقَعَتْ في حب ( ( ( جب ) ) ) مَاءٍ وَمَاتَتْ فيها يُهْرَاقُ كُلُّهُ
وَلَوْ صُبَّ مَاؤُهُ في بِئْرٍ طَاهِرَةٍ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُنْزَحُ
الْمَصْبُوبُ وَعِشْرُونَ دَلْوًا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى مَاءِ الحب ( ( ( الجب ) ) ) فَإِنْ كان
عِشْرِينَ دَلْوًا أو أَكْثَرَ نُزِحَ ذلك الْقَدْرُ وَإِنْ كان أَقَلَّ من
عِشْرِينَ نُزِحَ عِشْرُونَ لِأَنَّ الْحَاصِلَ في الْبِئْرِ نَجَاسَةُ
الْفَأْرَةِ
فَأْرَةٌ مَاتَتْ في الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ فجاؤوا ( ( ( فجاءوا ) ) ) بِدَلْوٍ
عَظِيمٍ يَسَعُ عِشْرِينَ دَلْوًا بِدَلْوِهِمْ فَاسْتَقَوْا منها دَلْوًا
وَاحِدًا أَجْزَأَهُمْ وَطَهُرَتْ الْبِئْرُ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ قَدْرُ ما
جَاوَرَ الْفَأْرَةَ فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يُنْزَحَ ذلك بِدَلْوٍ وَاحِدٍ
وَبَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ بِعِشْرِينَ دَلْوًا وكان الْحَسَنُ بن زِيَادٍ يقول لَا
يَطْهُرُ إلَّا بِنَزْحِ عِشْرِينَ دَلْوًا لِأَنَّ عِنْدَ تَكْرَارِ النَّزْحِ
يَنْبُعُ الْمَاءُ من أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ من أَعْلَاهُ فَيَكُونُ في حُكْمِ
الْمَاءِ الْجَارِي وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كان عَظِيمًا
وَلَوْ صُبَّ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ في الْبِئْرِ يُنْزَحُ كُلُّهُ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ
لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالطَّاهِرُ إذَا
اخْتَلَطَ بِالطَّهُورِ لَا يُغَيِّرُهُ عن صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ إلَّا إذَا
غَلَبَ عليه كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ
طَهَارَتَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بها لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَاد بِخِلَافِ
الْمَائِعَاتِ فَيُنْزَحُ أَدْنَى ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ
وَذَلِكَ عِشْرُونَ احْتِيَاطًا
وَلَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَهَذَا على ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ إمَّا إن لم يَنْفَصِلْ عن وَجْهِ الْمَاءِ أو انْفَصَلَ وَنُحِّيَ عن
رَأْسِ الْبِئْرِ أو انْفَصَلَ ولم يُنَحَّ عن رَأْسِ الْبِئْرِ فَإِنْ لم
يَنْفَصِلْ عن وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ حتى لَا
يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ منه لِأَنَّ النَّجَسَ لم يَتَمَيَّزْ من الطَّاهِرِ
وَإِنْ انْفَصَلَ عن وَجْهِ الْمَاءِ وَنُحِّيَ عن رَأْسِ الْبِئْرِ طَهُرَ
لِأَنَّ النَّجَسَ قد تَمَيَّزَ من الطَّاهِرِ
وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ عن وَجْهِ الْمَاءِ ولم يُنَحَّ عن رَأْسِ الْبِئْرِ
وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فيه لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ
ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ
قَوْلَهُ مع قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَسَ انْفَصَلَ من الطَّاهِرِ
فإن الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا
نحى عن رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا وما ( ( ( والماء ) ) )
يَتَقَاطَرُ فيها من الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا
لِلْحَرَجِ إذْ لو أَعْطَى لِلْقَطَرَاتِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ لم يَطْهُرْ بِئْرٌ
أَبَدًا وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْآبَارِ بَعْدَ
وُقُوعِ النَّجَاسَاتِ فيها
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ إلَّا
بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجَسِ عنها وهو مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ وَلَا
يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إلَّا بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عن الْبِئْرِ
لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ ولم
____________________
(1/77)
يُوجَدْ
فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ وَلِأَنَّهُ لو جُعِلَ مُنْفَصِلًا لَا
يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ لِأَنَّ الْقَطَرَاتِ تَقْطُرُ في
الْبِئْرِ فإذا كان مُنْفَصِلًا كان له حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَتَنَجَّسَ الْبِئْرُ
ثَانِيًا لِأَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ قَلِيلٌ وَالنَّجَاسَةُ وَإِنْ قَلَّتْ مَتَى
لَاقَتْ مَاءً قَلِيلًا تُنَجِّسُهُ فَكَانَ هذا تَطْهِيرًا لِلْبِئْرِ أَوَّلًا
ثُمَّ تَنْجِيسًا له ثَانِيًا وَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ وَسُقُوطُ
اعْتِبَارِ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَالضَّرُورَةُ
تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ
انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ بِالتَّنْحِيَةِ عن رَأْسِ الْبِئْرِ فَلَا ضَرُورَةَ
إلَى تَنْجِيسِ الْبِئْرِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا
ولو تَوَضَّأَ من بِئْرٍ وَصَلَّى أَيَّامًا ثُمَّ وَجَدَ فيها فَأْرَةً فَإِنْ
عَلِمَ وَقْتَ وُقُوعِهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ من ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّهُ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَإِنْ لم يَعْلَمْ فَالْقِيَاسُ أَنْ
لَا يُعِيدَ شيئا من الصَّلَوَاتِ ما لم يَسْتَيْقِنْ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وفي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كانت مُنْتَفِخَةً أو
منفسخة ( ( ( متفسخة ) ) ) أَعَادَ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا
وَإِنْ كانت غير مُنْتَفِخَةٍ وَلَا منفسخة ( ( ( متفسخة ) ) ) لم يُذْكَرْ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
وَلَوْ اطَّلَعَ على نَجَاسَةٍ في ثَوْبِهِ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ ولم
يَتَيَقَّنْ وَقْتَ إصَابَتِهَا لَا يُعِيدُ شيئا من الصَّلَاةِ كَذَا ذَكَرَ
الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وهو رِوَايَةُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أنها إنْ كانت طَرِيَّةً يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ وَإِنْ كانت يَابِسَةً يُعِيدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيِهَا
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ في نَوَادِرِهِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كان دَمًا لَا
يُعِيدُ وَإِنْ كان مَنِيًّا يُعِيدُ من آخِرِ ما احْتَلَمَ لِأَنَّ دَمَ غَيْرِهِ
قد يُصِيبُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِصَابَةَ لم تَتَقَدَّمْ زَمَانَ وُجُودِهِ
فَأَمَّا مَنِيُّ غَيْرِهِ فَلَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنِيُّهُ
فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ من وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِ خُرُوجِهِ حتى أَنَّ الثَّوْبَ
لو كان مِمَّا يَلْبِسُهُ هو وَغَيْرُهُ يَسْتَوِي فيه حُكْمُ الدَّمِ
وَالْمَنِيِّ وَمَشَايِخُنَا قالوا في الْبَوْلِ يُعْتَبَرُ من آخَرِ ما بَالَ وفي
الدَّمِ من آخِرِ ما رَعَفَ وفي الْمَنِيّ من آخِرِ ما احْتَلَمَ أو جَامَعَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ في الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ الْمَاءِ فِيمَا
مَضَى وَشَكَّ في نَجَاسَتِهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أنها وَقَعَتْ في الْمَاءِ
وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ فيه وَيُحْتَمَلُ أنها وَقَعَتْ مَيِّتَةً بِأَنْ
مَاتَتْ في مَكَان آخَرَ ثُمَّ أَلْقَاهَا بَعْضُ الطُّيُورِ في الْبِئْرِ على ما
حُكِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال كان قَوْلِي مِثْلَ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إلَى
أَنْ كنت يَوْمًا جَالِسًا في بُسْتَانِي فَرَأَيْتُ حِدَأَةً في مِنْقَارِهَا
جِيفَةٌ فَطَرَحَتْهَا في بِئْرٍ فَرَجَعْتُ عن قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فوقع
الشَّكُّ في نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ
بِالشَّكِّ وَصَارَ كما إذَا رَأَى في ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ
إصَابَتِهَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ شيئا من الصَّلَوَاتِ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وُقُوعَ الْفَأْرَةِ في الْبِئْرِ سَبَبٌ
لِمَوْتِهَا وَالْمَوْتُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ صَالِحٍ يُحَالُ بِهِ عليه
كَمَوْتِ الْمَجْرُوحِ فإنه يُحَالُ بِهِ إلَى الْجَرْحِ وَإِنْ كان يُتَوَهَّمُ
مَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ وإذا حِيلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ في الْمَاءِ
فَأَدْنَى ما يَتَفَسَّخُ فيه الْمَيِّتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلِهَذَا يُصَلِّي
على قَبْرِ مَيِّتٍ لم يُصَلَّ عليه إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَتَوَهَّمَ
الْوُقُوعَ بَعْدَ الْمَوْتِ إحَالَةً بِالْمَوْتِ إلَى سَبَبٍ لم يَظْهَرْ
وَتَعْطِيلٌ لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ
الْوَهْمِ وَالْتَحَقَ الْمَوْتُ في الْمَاءِ بِالْمُتَحَقِّقِ إلَّا إذَا قام
دَلِيلُ الْمُعَايَنَةِ بِالْوُقُوعِ في الْمَاءِ مَيِّتًا
فَحِينَئِذٍ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ حَاصِلٍ بهذا
السَّبَبِ وَلَا كَلَامَ فيه
وَأَمَّا إذَا لم تَكُنْ مُنْتَفِخَةً فَلِأَنَّا إذَا أَحَلْنَا بِالْمَوْتِ إلَى
الْوُقُوعِ في الْمَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ زَمَانَ الْمَوْتِ سَابِقٌ على زَمَانِ
الْوُجُودِ خُصُوصًا في الْآبَارِ الْمُظْلِمَةِ الْعَمِيقَةِ التي لَا يُعَايَنُ
ما فيها وَلِذَا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَخْرُجُ بِأَوَّلِ
دَلْوٍ فَقُدِّرَ ذلك بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ أَدْنَى
الْمَقَادِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ
وَالْفَرْقُ بين الْبِئْرِ وَالثَّوْبِ على رِوَايَةِ الْحَاكِمِ أَنَّ الثَّوْبَ
شَيْءٌ ظَاهِرٌ
فَلَوْ كان ما أَصَابَهُ سَابِقًا على زَمَانِ الْوُجُودِ لَعُلِمَ بِهِ في ذلك
الزَّمَانَ فَكَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ قبل ذلك دَلِيلُ عَدَمِ الْإِصَابَةِ
بِخِلَافِ الْبِئْرِ على ما مَرَّ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا عَجَنَ بِذَلِكَ
الْمَاءِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ خُبْزُهُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا
يُؤْكَلُ وإذا لم يُؤْكَلْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ قال مَشَايِخُنَا يُطْعَمُ
لِلْكِلَابِ لِأَنَّ ما تَنَجَّسَ بِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِهِ وَالنَّجَاسَةُ
مَعْلُومَةٌ لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ
الْأَكْلِ كَالدُّهْنِ النَّجَسِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ اسْتِصْبَاحًا إذَا كان
الطَّاهِرُ غَالِبًا فَكَذَا هذا
وَبِئْرُ الْمَاءِ إذَا كانت بِقُرْبٍ من الْبَالُوعَةِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ ما
لم يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ
وَقَدَّرَ أبو حَفْصٍ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمَا بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ وأبو
سُلَيْمَانَ بِخَمْسَةٍ
وَذَا ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ لِتَفَاوُتِ الْأَرَاضِي في الصَّلَابَةِ
وَالرَّخَاوَةِ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ على الْأَغْلَبِ وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ
بَعْدَ هذا التَّقْدِيرِ لو كان بَيْنَهُمَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَلَكِنْ يُوجَدَ
طَعْمُهُ أو رِيحُهُ لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ فَدَلَّ على أَنَّ الْعِبْرَةَ
بِالْخُلُوصِ وَعَدَمِ الْخُلُوصِ وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِظُهُورِ ما ذُكِرَ من
الْآثَارِ وَعَدَمِهِ
ثُمَّ الْحَيَوَانُ إذَا مَاتَ في الْمَائِعِ الْقَلِيلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ
كان له
____________________
(1/78)
دَمٌ
سَائِلٌ أو لم يَكُنْ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِّيًّا أو مَائِيًّا
وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ في الْمَاءِ أو في غَيْرِ الْمَاءِ فَإِنْ لم
يَكُنْ له دَمٌ سَائِلٌ كَالذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ وَالسَّمَكِ
وَالْجَرَادِ وَنَحْوِهَا لَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُنَجِّسُ ما يَمُوتُ
فيه من الْمَائِعِ سَوَاءٌ كان مَاءً أو غَيْرَهُ من الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ
وَاللَّبَنِ وَالْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِ ذلك وَسَوَاءٌ كان بَرِّيًّا أو مَائِيًّا
كَالْعَقْرَبِ الْمَائِيِّ وَنَحْوِهِ وَسَوَاءٌ كان السَّمَكُ طَافِيًا أو غير
طَافٍ
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان شيئا يَتَوَلَّدُ من الْمَائِعِ كَدُودِ الْخَلِّ أو
ما يُبَاحُ أَكْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لَا يَنْجَسُ
قَوْلًا وَاحِدًا
وَلَهُ في الذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ قَوْلَانِ وَيَحْتَجُّ بِظَاهِرِ قَوْله
تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } ثُمَّ خَصَّ منه السَّمَكَ
وَالْجَرَادَ بِالْحَدِيثِ وَالذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ بِالضَّرُورَةِ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِعَيْنِ الْمَوْتِ
فإن الْمَوْتَ مَوْجُودٌ في السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَلَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ
وَلَكِنْ لِمَا فيها من الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَا دَمَ في هذه الْأَشْيَاءِ
وَإِنْ كان له دَمٌ سَائِلٌ فَإِنْ كان بَرِّيًّا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ
وَيُنَجِّسُ الْمَائِعَ الذي يَمُوتُ فيه سَوَاءٌ كان مَاءً أو غَيْرَهُ وَسَوَاءٌ
مَاتَ في الْمَائِعِ أو في غَيْرِهِ ثُمَّ وَقَعَ فيه كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ
الدَّمَوِيَّةِ لِأَنَّ الدَّمَ السَّائِلَ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُ ما يُجَاوِرُهُ
إلَّا الْآدَمِيَّ إذَا كان مَغْسُولًا لِأَنَّهُ طَاهِرٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ
تَجُوزُ الصَّلَاةُ عليه وَإِنْ كان مَائِيًّا كَالضُّفْدَعِ الْمَائِيِّ
وَالسَّرَطَانِ وَنَحْوِ ذلك فَإِنْ مَاتَ في الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قال لو أَنَّ
حَيَّةً من حَيَّاتِ الْمَاءِ مَاتَتْ في الْمَاءِ إنْ كانت بِحَالٍ لو جُرِحَتْ
لم يَسِلْ منها الدَّمُ لَا تُوجِبُ التَّنْجِيسَ وَإِنْ كانت لو جُرِحَتْ لَسَالَ
منها الدَّمُ تُوجِبُ التَّنْجِيسَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما عَلَّلَ بِهِ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الصَّلَاةِ
فقال لِأَنَّ هذا مِمَّا يَعِيشُ في الْمَاءِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ
وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخٍ فَهِمُوا من تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
صِيَانَةُ الْمِيَاهِ عن مَوْتِ هذه الْحَيَوَانَاتِ فيها لِأَنَّ مَعْدِنَهَا
الْمَاءُ فَلَوْ أَوْجَبَ مَوْتُهَا فيها التَّنْجِيسَ لَوَقَعَ الناس في
الْحَرَجِ وَبَعْضُهُمْ وَهُمْ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ فَهِمُوا من تَعْلِيلِهِ أنها
إذَا كانت تَعِيشُ في الْمَاءِ لَا يَكُونُ لها دَمٌ إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ
في الْمَاءِ لِمُخَالَفَةٍ بين طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ الدَّمِ فلم
تَتَنَجَّسْ في نَفْسِهَا لِعَدَمِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فَلَا تُوجِبُ تَنْجِيسَ
ما جَاوَرَهَا ضَرُورَةً وما يُرَى في بَعْضِهَا من صُورَةِ الدَّمِ فَلَيْسَ
بِدَمٍ حَقِيقَةً
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّمَكَ يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ مع أَنَّ الذَّكَاةَ
شُرِعَتْ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلِذَا إذَا شَمَسَ دَمُهُ يَبْيَضُّ
وَمِنْ طَبْعِ الدَّمِ أَنَّهُ إذَا شَمَسَ اسْوَدَّ
وَإِنْ مَاتَ في غَيْرِ الْمَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الْأُولَى يُوجِبُ
التَّنْجِيسَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صِيَانَةُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ عن مَوْتِهَا
فيها وَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ
لِانْعِدَامِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فيها
وَرُوِيَ عن نُصَيْرِ بن يحيى أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ
وَأَبَا مُعَاذٍ عن الضُّفْدَعِ يَمُوتُ في الْعَصِيرِ فَقَالَا يُصَبُّ
وَسَأَلْتُ أَبَا عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدَ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ
فَقَالَا لَا يُصَبُّ
وَعَنْ أبي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدِ بن سَلَّامٍ أَنَّهُ كان يقول يَفْسُدُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ ما لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ لَا
يُفْسِدُ غير الْمَاءِ وَهَكَذَا رَوَى هِشَامُ عَنْهُمْ وَهَذَا أَشْبَهُ
بِالْفِقْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بين الْمُتَفَسِّخِ وَغَيْرِهِ في طَهَارَةِ الْمَاءِ
وَنَجَاسَتِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ شُرْبُ الْمَائِعِ الذي تَفَسَّخَ فيه
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن أَجْزَاءِ ما يَحْرُمُ أَكْلُهُ ثُمَّ الْحَدُّ
الْفَاصِلُ بين الْمَائِيِّ وَالْبَرِّيِّ أَنَّ الْمَائِيَّ هو الذي لَا يَعِيشُ
إلَّا في الْمَاءِ وَالْبَرِّيَّ هو الذي لَا يَعِيشُ إلَّا في الْبَرِّ
وَأَمَّا الذي يَعِيشُ فِيهِمَا جميعا كَالْبَطِّ والأوز وَنَحْوِ ذلك فَلَا
خِلَافَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ في غَيْرِ الْمَاءِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ لأنه له
دَمًا سَائِلًا وَالشَّرْعُ لم يُسْقِطْ اعْتِبَارَهُ حتى لَا يُبَاحَ أَكْلُهُ
بِدُونِ الزكاة ( ( ( الذكاة ) ) ) بِخِلَافِ السَّمَكِ وَإِنْ مَاتَ في الْمَاءِ
رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَفْسُدُ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ في الْمَائِعِ فَأَمَّا إذَا
أَصَابَ الثَّوْبَ أو الْبَدَنَ أو مَكَانَ الصَّلَاةِ أَمَّا حُكْمُ الثَّوْبِ
وَالْبَدَنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كانت غَلِيظَةً أو خَفِيفَةً قَلِيلَةً أو
كَثِيرَةً أَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ جَوَازَ
الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كانت خَفِيفَةً أو غَلِيظَةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ
تَمْنَعَ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ إلَّا إذَا كانت لَا تَأْخُذُهَا
الْعَيْنُ أو ما لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عن النَّجَاسَةِ الحقيقية ( ( ( الحقيقة ) )
) شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ كما أَنَّ الطَّهَارَةَ عن النَّجَاسَةِ
الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْحَدَثُ شَرْطٌ ثُمَّ هذا الشَّرْطُ يَنْعَدِم
بِالْقَلِيلِ من الْحَدَثِ بِأَنْ بَقِيَ على جَسَدِهِ لُمْعَةٌ فَكَذَا
بِالْقَلِيلِ من النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن الْقَلِيلِ من
النَّجَاسَةِ في الثَّوْبِ فقال إذَا كان مِثْلَ ظُفْرِي هذا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ
الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ من النَّجَاسَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ
الِاحْتِرَازُ عنه فإن
____________________
(1/79)
الذُّبَابَ
يَقَعْنَ على النَّجَاسَةِ ثُمَّ يَقَعْنَ على ثِيَابِ الْمُصَلِّي وَلَا بُدَّ
وَأَنْ يَكُونَ على أَجْنِحَتِهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ فَلَوْ
لم يُجْعَلْ عَفْوًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَمِثْلُ هذه الْبَلْوَى في
الْحَدَثِ مُنْعَدِمَةٌ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا على جَوَازِ الصَّلَاةِ بِدُونِ
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ لَا
يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ حتى لو جَلَسَ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ
فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ على أَنَّ الْقَلِيلَ من النَّجَاسَةِ عَفْوٌ وَلِهَذَا
قَدَّرْنَا بِالدِّرْهَمِ على سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عن مَوْضِعِ خُرُوجِ الْحَدَثِ
كَذَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ إنَّهُمْ اسْتَقْبَحُوا ذِكْرَ
الْمَقَاعِدِ في مَجَالِسِهِمْ فَكَنَّوْا عنه بِالدِّرْهَمِ تَحْسِينًا
لِلْعِبَارَةِ وَأَخْذًا بِصَالِحِ الْأَدَبِ وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْكَثِيرَةُ
فَتَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
وَاخْتَلَفُوا في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ من
النَّجَاسَةِ
قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ إذَا بَلَغَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَهُوَ كَثِيرٌ
وقال الشَّعْبِيُّ لَا يَمْنَعُ حتى يَكُونَ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ
الْكَبِيرِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وهو الصَّحِيحُ لِمَا رَوَيْنَا عن
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَدَّ مِقْدَارَ ظفره ( ( ( ظفر ) ) ) من
النَّجَاسَةِ قَلِيلًا حَيْثُ لم يَجْعَلْهُ مَانِعًا من جَوَازِ الصَّلَاةِ
وَظُفْرُهُ كان قَرِيبًا من كَفِّنَا فَعُلِمَ أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ
وَلِأَنَّ أَثَرَ النَّجَاسَةِ في مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عَفْوٌ وَذَلِكَ
يَبْلُغُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ خُصُوصًا في حَقِّ الْمَبْطُونِ وَلِأَنَّ في
دِينِنَا سَعَةً وما قُلْنَاهُ أَوْسَعُ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَنِيفِيَّةِ
السَّمْحَةِ
ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ من الدِّرْهَمِ
الْكَبِيرِ من حَيْثُ الْعَرْضِ وَالْمِسَاحَةِ أو من حَيْثُ الْوَزْنِ وَذَكَرَ
في النَّوَادِرِ الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ ما يَكُونُ عَرْضَ الْكَفِّ وَهَذَا
مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ ظُفْرَهُ كان
كَعَرْضِ كَفِّ أَحَدِنَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الدِّرْهَمِ
الْكَبِيرِ وَذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ الْمِثْقَالَ
فَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْوَزْنِ
وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَر الْهِنْدُوَانِيُّ لَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ
مُحَمَّدٍ في هذا فَنُوَفِّقُ وَنَقُولُ أَرَادَ بِذِكْرِ الْعَرْضِ تَقْدِيرَ
الْمَائِعِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ تَقْدِيرُ
الْمُسْتَجْسِدِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كانت أَكْثَرَ من مِثْقَالِ
ذَهَبٍ وَزْنًا تُمْنَعُ وَإِلَّا فَلَا وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا
بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ
وَأَمَّا حَدُّ الْكَثِيرِ من النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ فَهُوَ الْكَثِيرُ
الْفَاحِشُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن الْكَثِيرِ
الْفَاحِشِ فَكَرِهَ أَنْ يَحِدَّ له حَدًّا وقال الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ ما
يَسْتَفْحِشُهُ الناس وَيَسْتَكْثِرُونَهُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّهُ قال شِبْرٌ في شِبْرٍ وهو الْمَرْوِيُّ عن أبي
يُوسُفَ أَيْضًا وَرُوِيَ عنه ذِرَاعٌ في ذِرَاعٍ
وروى أَكْثَرُ من نِصْفِ الثَّوْبِ وَرُوِيَ نِصْفُ الثَّوْبِ ثُمَّ في رِوَايَةٍ
نِصْفُ كل الثَّوْبِ
وفي رِوَايَةٍ نِصْفُ طَرَفٍ منه
أَمَّا التَّقْدِيرُ بِأَكْثَرَ من النِّصْفِ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ
من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ لَا يَكُونُ الشَّيْءُ قَلِيلًا إلَّا أَنْ
يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ كَثِيرٌ وَكَذَا لَا يَكُونُ كَثِيرًا إلَّا وَأَنْ
يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ قَلِيلٌ وَالنِّصْفُ ليس بِكَثِيرٍ لِأَنَّهُ ليس في
مُقَابِلَتِهِ قَلِيلٌ فَكَانَ الْكَثِيرُ أَكْثَرَ من النِّصْفِ لِأَنَّ
بِمُقَابَلَتِهِ ما هو أَقَلُّ منه
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالنِّصْفِ فَلِأَنَّ الْعَفْوَ هو الْقَلِيلُ وَالنِّصْفُ
ليس بِقَلِيلٍ إذْ ليس بِمُقَابَلَتِهِ ما هو أَقَلُّ منه وَأَمَّا التَّقْدِيرُ
بِالشِّبْرِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الضَّرُورَةِ تَقَعُ لِبَاطِنِ الْخِفَافِ
وَبَاطِنُ الْخُفَّيْنِ شِبْرٌ في شِبْرٍ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ
فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ في ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ وَبَاطِنِهِمَا وَذَلِكَ ذِرَاعٌ
في ذِرَاعٍ
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ في مُخْتَصَرِهِ عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الرُّبُعَ وهو
الْأَصَحُّ لِأَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمُ الْكُلِّ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ في
مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ حَقِيقَةً
أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّرْهَمَ جُعِلَ حَدًّا فَاصِلًا بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ شَرْعًا مع انْعِدَامِ ما ذَكَرَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
التَّقْدِيرُ بِالدِّرْهَمِ في بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عن
الْمَنْصُوصِ عليها فَقُدِّرَ بِمَا هو كَثِيرٌ في الشَّرْعِ في مَوْضِعِ
الِاحْتِيَاطِ وهو الرُّبْعُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في تَفْسِيرِ الرُّبْعِ
قِيلَ رُبْعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُمَا قَدَّرَاهُ بِرُبْعِ الثَّوْبِ
وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْكُلِّ وَقِيلَ رُبْعُ كل عُضْوٍ وَطَرَفٍ إصابته
النَّجَاسَةُ من الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالذَّيْلِ وَالْكُمِّ وَالدِّخْرِيصِ
لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ منها قبل الْخِيَاطَةِ كان ثَوْبًا على حِدَةٍ فَكَذَا
بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وهو الْأَصَحُّ
ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ
وَالْخَفِيفَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ ما وَرَدَ نَصٌّ على نَجَاسَتِهِ ولم يَرِدْ نَصٌّ على طَهَارَتِهِ
مُعَارِضًا له وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه وَالْخَفِيفَةُ ما تَعَارَضَ
نَصَّانِ في طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ ما وَقَعَ الِاتِّفَاقُ على
نَجَاسَتِهِ وَالْخَفِيفَةُ ما اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في نَجَاسَتِهِ
وَطَهَارَتِهِ
إذَا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ على نَجَاسَتِهَا وهو ما
رَوَيْنَا عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي طَلَبَ منه لَيْلَةَ
الْجِنِّ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ
____________________
(1/80)
فَأُتِيَ
بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وقال
إنَّهَا رِجْسٌ أو رِكْسٌ أَيْ نَجِسٌ وَلَيْسَ له نَصٌّ مُعَارِضٌ وَإِنَّمَا قال
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ
لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً وَعَلَى قَوْلِهِمَا
نَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فيها وَبَوْلُ ما لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَافِ
الْأَصْلَيْنِ أَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِ نَصٍّ مُعَارِضٍ لِنَصِّ
النَّجَاسَةِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ على نَجَاسَتِهِ
وَبَوْلُ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا
عِنْدَهُ فَلِتَعَارُضِ النَّصَّيْنِ وَهُمَا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ مع حديث
عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ في الْبَوْلِ مُطْلَقًا
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فيه
وَأَمَّا الْعَذِرَاتُ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ فَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ هذا على وَجْهِ الْبِنَاءِ على
الْأَصْلِ الذي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْأَرْوَاثِ على طَرِيقَةِ الِابْتِدَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا
أَنَّ في الْأَرْوَاثِ ضَرُورَةً وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا في
الطُّرُقَاتِ فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ عنها وما عَمَّتْ
بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ بِخِلَافِ خُرْءِ الدَّجَاجِ وَالْعَذِرَةِ
لِأَنَّ ذلك قَلَّمَا يَكُونُ في الطُّرُقِ فَلَا تَعُمُّ الْبَلْوَى
بِإِصَابَتِهِ وَبِخِلَافِ بَوْلِ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّ ذلك تُنَشِّفُهُ
الْأَرْضُ وَيَجِفُّ بها فَلَا تَكْثُرُ إصَابَتُهُ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في الرَّوْثِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
وَإِنْ كان كَثِيرًا فَاحِشًا
وَقِيلَ إنَّ هذا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حين كان بِالرَّيِّ وكان الْخَلِيفَةُ بها
فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً من الْأَرْوَاثِ وَلِلنَّاسِ فيها
بَلْوَى عَظِيمَةٌ فَعَلَى هذا الْقِيَاسِ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ إنَّ طِينَ بُخَارَى إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ
الصَّلَاةِ وَإِنْ كان كَثِيرًا فَاحِشًا لِبَلْوَى الناس فيه لِكَثْرَةِ
الْعَذِرَاتِ في الطُّرُقِ
وأبو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { من بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا
خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } جَمَعَ بين الْفَرْثِ وَالدَّمِ لِكَوْنِهِمَا
نَجِسَيْنِ ثُمَّ بين الْأُعْجُوبَةِ لِلْخَلْقِ في إخْرَاجِ ما هو نِهَايَةٌ في
الطَّهَارَةِ وهو اللَّبَنُ من بَيْنِ شَيْئَيْنِ نَجِسَيْنِ مع كَوْنِ الْكُلِّ
مَائِعًا في نَفْسِهِ لِيُعْرَفَ بِهِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ
وَالْحَكِيمُ إنَّمَا يَذْكُرُ ما هو النِّهَايَةُ في النَّجَاسَةِ لِيَكُونَ
إخْرَاجُهُ ما هو النِّهَايَةُ في الطَّهَارَةِ من بَيْنِ ما هو النِّهَايَةُ في
النَّجَاسَةِ نِهَايَةٌ في الْأُعْجُوبَةِ وَآيَةٌ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ
وَلِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا وَلَا ضَرُورَةَ في إسْقَاطِ اعْتِبَارِ
نَجَاسَتِهَا لِأَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ في الطُّرُقَاتِ فَالْعُيُونُ
تُدْرِكُهَا فَيُمْكِنُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ كما في بَوْلِ ما لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْأَرْضُ وَإِنْ كانت تُنَشِّفُ الْأَبْوَالَ فَالْهَوَاءُ
يُجَفِّفُ الْأَرْوَاثَ فَلَا تَلْتَزِقُ بِالْمَكَاعِبِ وَالْخِفَافِ على أَنَّا
اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الضَّرُورَةِ بِالْعَفْوِ عن الْقَلِيلِ منها وهو
الدِّرْهَمُ فما دُونَهُ فَلَا ضَرُورَةَ في التَّرْقِيَةِ بِالتَّقْدِيرِ
بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَجَفَّتْ
وَذَهَبَ أَثَرُهَا وَخَفِيَ مَكَانُهَا غُسِلَ جَمِيعُ الثَّوْبِ وَكَذَا لو
أَصَابَتْ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا هو غَسَلَهُمَا جميعا
وَكَذَا إذَا رَاثَتْ الْبَقَرَةُ أو بَالَتْ في الْكَدِيسِ وَلَا يدري مَكَانَهُ
غَسَلَ الْكُلَّ احْتِيَاطًا
وَقِيلَ إذَا غَسَلَ مَوْضِعًا من الثَّوْبِ كَالدِّخْرِيصِ وَنَحْوِهِ وَأَحَدِ
الْكُمَّيْنِ وَبَعْضًا من الْكَدِيسِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي وَهَذَا
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَيْسَ
الْبَعْضُ أَوْلَى من الْبَعْضِ
وَلَوْ كان الثَّوْبُ طَاهِرًا فَشَكَّ في نَجَاسَتِهِ جَازَ له أَنْ يُصَلِّيَ
فيه لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَرْفَعُ الْيَقِينَ وَكَذَا إذَا كان عِنْدَهُ مَاءٌ
طَاهِرٌ فَشَكَّ في وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فيه وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ ثِيَابِ
أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصَّلَاةِ فيها إلَّا الْإِزَارُ وَالسَّرَاوِيلُ فإنه
تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَتَجُوزُ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الثِّيَابِ هو الطَّهَارَةَ فَلَا
تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ
وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ جَارٍ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ في
الثِّيَابِ الْمَغْنُومَةِ من الْكَفَرَةِ قبل الْغَسْلِ
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ في الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ فَلِقُرْبِهِمَا من مَوْضِعِ
الْحَدَثِ
وَعَسَى لَا يَسْتَنْزِهُونَ من الْبَوْلِ فَصَارَ شَبِيهَ يَدِ الْمُسْتَيْقِظِ
وَمِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ
وَذَكَرَ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ في الْكَرَاهَةِ خِلَافًا على قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكْرَهُ
وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عن الشَّرَابِ في أَوَانِي الْمَجُوسِ
فقال إنْ لم تَجِدُوا منها بُدًّا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ اشْرَبُوا فيها وَإِنَّمَا
أَمَرَ بِالْغَسْلِ لِأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ وَأَوَانِيهِمْ قَلَّمَا تخلوا
( ( ( تخلو ) ) ) عن دُسُومَةٍ منها
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في ثِيَابِ الْفَسَقَةِ من
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ إصَابَةَ
الْخَمْرِ ثِيَابَهُمْ في حَالِ الشُّرْبِ
وَقَالُوا في الدِّيبَاجِ الذي يَنْسِجُهُ أَهْلُ فَارِسٍ أنه لَا تَجُوزُ
الصَّلَاةُ فيه لِأَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فيه الْبَوْلَ عِنْدَ النَّسْجِ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَزِيدُ في بِرِيقِهِ ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَهُ لِأَنَّ
الْغَسْلَ يُفْسِدُهُ فَإِنْ صَحَّ إنهم يَفْعَلُونَ ذلك فَلَا شَكَّ إنه لَا
تَجُوزُ
____________________
(1/81)
الصَّلَاةُ
معه
وَأَمَّا حُكْمُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان
يُصَلِّي على الْأَرْضِ أو على غَيْرِهَا من الْبِسَاطِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَخْلُو
إمَّا إنْ كانت النَّجَاسَةُ في مَكَانِ الصَّلَاةِ أو في غَيْرِهِ بِقُرْبٍ منه
وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كانت قَلِيلَةً أو كَثِيرَةً فَإِنْ كان يُصَلِّي على
الْأَرْضِ وَالنَّجَاسَةُ بِقُرْبٍ من مَكَانِ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ
قَلِيلَةً كانت أو كَثِيرَةً لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ طَهَارَةُ مَكَانِ
الصَّلَاةِ وقد وُجِدَ لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَبْعُدَ عن مَوْضِعِ
النَّجَاسَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ
وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ في مَكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كانت قَلِيلَةً تَجُوزُ
على أَيِّ مَوْضِعٍ كانت لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ في حَقِّ جَوَازِ
الصَّلَاةِ عِنْدَنَا على ما مَرَّ وَإِنْ كانت كَثِيرَةً فَإِنْ كانت في مَوْضِعِ
الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ
زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى رُكْنًا من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مع
النَّجَاسَةِ فَلَا يَجُوزُ كما لو كانت النَّجَاسَةُ على الثَّوْبِ أو الْبَدَنِ
أو في مَوْضِعِ الْقِيَامِ
وَلَنَا أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ ليس بِرُكْنٍ وَلِهَذَا لو
أَمْكَنَهُ السُّجُودُ بِدُونِ الْوَضْعِ يُجْزِئُهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم
يَضَعْ أَصْلًا وَلَوْ تَرَكَ الْوَضْعَ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَا إذَا كانت النَّجَاسَةُ على مَوْضِعِ الْقِيَامِ أن ذلك
مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ غير أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا
يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّ لَابِسَ الثَّوْبِ
صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لها لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ
بِتَحَرُّكِهِ وَتَمْشِي بِمَشْيِهِ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لِلثَّوْبِ
أَمَّا هَهُنَا بِخِلَافِهِ وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ في مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ
فَإِنْ قام عليها وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ لم تَجُزْ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ
فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ كما لو افْتَتَحَهَا مع الثَّوْبِ النَّجَسِ
أو الْبَدَنِ النَّجِسِ
وَإِنْ قام على مَكَان طَاهِرٍ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى
مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَقَامَ عليها أو قَعَدَ فَإِنْ مَكَثَ قَلِيلًا لَا
تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فَسَدَتْ لِأَنَّ الْقِيَامَ من
أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا لِأَنَّهُ رُكْنٌ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ
الطَّهَارَةِ فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ فَعَلَ الصَّلَاةَ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ
وما ليس من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ إذَا دخل في الصَّلَاةِ إنْ كان قَلِيلًا يَكُونُ
عَفْوًا وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ ما إذَا كانت النَّجَاسَةُ على مَوْضِعِ
الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ حَيْثُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وان أَطَالَ
الْوَضْعَ لِأَنَّ الْوَضْعَ ليس من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا بَلْ من
تَوَابِعِهَا فَلَا يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ تَبَعًا لِعَدَمِ
الطَّهَارَةِ لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ في الْأَصْلِ
وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ في مَوْضِعِ السُّجُودِ لم يَجُزْ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى عنه مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو
الظَّاهِرُ من مَذْهَبِهِ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَرْضَ هو السُّجُودُ على الْجَبْهَةِ وَقَدْرُ
الْجَبْهَةِ أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ
يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ أَرْنَبَةِ الْأَنْفِ عِنْدَهُ وَذَلِكَ أَقَلُّ من قَدْرِ
الدِّرْهَمِ فَيَجُوزُ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَإِنْ
كان يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ الْأَرْنَبَةِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ إذَا وَضَعَ
الْجَبْهَةَ مع الْأَرْنَبَةِ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا كما إذَا طَوَّلَ
الْقِرَاءَةَ زِيَادَةً على ما يَتَعَلَّقُ بِهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَمِقْدَارُ
الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ يَزِيدُ على قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا
ثُمَّ قَوْلُهُ إذَا سَجَدَ على مَوْضِعٍ نَجِسٍ لم تَجُزْ أَيْ صَلَاتُهُ كَذَا
ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لم يُجِزْ سُجُودَهُ
فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَفْسُدُ حتى لو أَعَادَ السُّجُودَ على مَوْضِعٍ
طَاهِرٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّجُودَ على مَوْضِعٍ نَجِسٍ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ وهو الطَّهَارَةُ فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَسْجُدْ
عليه وَسَجَدَ على مَكَان ظاهر ( ( ( طاهر ) ) )
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ أو ركن ( ( ( ركنا ) ) ) آخَرَ
لَمَّا لم يَجُزْ على مَوْضِعٍ نَجِسٍ صَارَ فِعْلًا كَثِيرًا ليس من أَفْعَالِ
الصَّلَاةِ وَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
وَلَوْ كانت النَّجَاسَةُ في مَوْضِعِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ على قِيَاسِ رِوَايَةِ
أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ يَجُوزُ لِأَنَّ أَدْنَى الْقِيَامِ هو الْقِيَامُ
بِإِحْدَى الْقَدَمَيْنِ وَإِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ فَيَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ
فَكَانَ وَضْعُ الْأُخْرَى فَضْلًا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ
وَالرُّكْبَتَيْنِ
وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عنه لَا يَجُوزُ وهو الصَّحِيحُ
لِأَنَّهُ إذَا وَضَعَهُمَا جميعا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِهِمَا كما في
الْقِرَاءَةِ على ما مَرَّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان يُصَلِّي على الْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا كان يُصَلِّي على بِسَاطٍ
فَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ في مَكَانِ الصَّلَاةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَحُكْمُهُ
حُكْمُ الْأَرْضِ على ما مَرَّ وَإِنْ كانت على طَرَفٍ من أَطْرَافِهِ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ إنْ كان الْبِسَاطُ كَبِيرًا بِحَيْثُ لو رُفِعَ طَرَفٌ منه لَا
يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا
كما إذَا تَعَمَّمَ بِثَوْبٍ وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ مُلْقًى على الْأَرْضِ وهو
نَجِسٌ أَنَّهُ إنْ كان بِحَالٍ لَا يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ جَازَ
____________________
(1/82)
وَإِنْ
كان يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَغِيرًا
كان أو كَبِيرًا بِخِلَافِ الْعِمَامَةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّرَفَ النَّجِسَ من الْعِمَامَةِ إذَا كان يَتَحَرَّكُ
بِتَحَرُّكِهِ صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لها
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ في الْبِسَاطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو وَضَعَ يَدَيْهِ أو
رُكْبَتَيْهِ على الْمَوْضِعِ النَّجِسِ منه يَجُوزُ وَلَوْ صَارَ حَامِلًا لَمَا
جَازَ وَلَوْ صلى على ثَوْبٍ مُبَطَّنٍ ظِهَارَتُهُ طَاهِرَةٌ وَبِطَانَتُهُ
نَجِسَةٌ
رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَذَا ذَكَرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من وَفَّقَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فقال جَوَابُ مُحَمَّدٍ
فِيمَا إذَا كان مَخِيطًا غير مُضَرَّبٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبَيْنِ
وَالْأَعْلَى مِنْهُمَا طَاهِرٌ
وَجَوَابُ أبي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كان مَخِيطًا مُضَرَّبًا فَيَكُونُ
بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ
وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ فيه الِاخْتِلَافَ فقال على قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ
كَيْفَمَا ما كان وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ كَيْفَمَا ما كان
وَعَلَى هذا إذَا صلى على حَجَرِ الرَّحَا أو على بَابٍ أو بِسَاطٍ غَلِيظٍ أو على
مُكَعَّبٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبِهِ
كان يُفْتِي الشَّيْخُ أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ
وَبِهِ كان يُفْتِي الشَّيْخُ أبو حَفْصٍ الْكَبِيرُ
فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فقال الْمَحَلُّ مَحَلٌّ
وَاحِدٌ فَاسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ كَالثَّوْبِ الصَّفِيقِ وَمُحَمَّدٌ
اعْتَبَرَ الْوَجْهَ الذي يصلي عليه فقال إنَّهُ صلى في مَوْضِعٍ طَاهِرٍ وَلَيْسَ
هو حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ فَتَجُوزُ كما إذَا صلى على ثَوْبٍ تَحْتَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ
بِخِلَافِ الثَّوْبِ الصَّفِيقِ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كان صَفِيقًا
فَالظَّاهِرُ نَفَاذُ الرُّطُوبَاتِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ
رُبَّمَا لَا تُدْرِكُهُ الْعَيْنُ لِتَسَارُعِ الْجَفَافِ إلَيْهِ
وَلَوْ أَنَّ بِسَاطًا غَلِيظًا أو ثَوْبًا مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَعَلَى كلي ( (
( كلا ) ) ) وَجْهَيْهِ نَجَاسَةٌ أَقَلُّ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ في مَوْضِعَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ لَكِنَّهُمَا لو جُمِعَا يَزِيدُ على قَدْرِ الدِّرْهَمِ على
قِيَاسِ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ يُجْمَعُ وَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ ثَوْبٌ
وَاحِدٌ وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ لَا يُجْمَعُ
وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ في الْوَجْهِ الذي يُصَلِّي فيه أَقَلُّ
من قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَوْ كان ثَوْبًا صَفِيقًا
وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الظَّاهِرَ هو النَّفَاذُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَإِنْ كان لَا يُدْرِكُهُ
الْحِسُّ فَاجْتَمَعَ في وَجْهٍ وَاحِدٍ نَجَاسَتَانِ لو جمعنا ( ( ( جمعتا ) ) )
يَزِيدُ على قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا أو
بِسَاطًا أصابه ( ( ( أصابته ) ) ) النَّجَاسَةُ وَنَفَذَتْ إلَى الْوَجْهِ
الْآخَرِ وإذا جُمِعَا يَزِيدُ على قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يُجْمَعُ
بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا على قِيَاسِ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَنَجَاسَةٌ
وَاحِدَةٌ وَأَمَّا على قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ في
الْوَجْهِ الذي يصلي عليه أَقَلُّ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَكَذَا إذَا كان
الثَّوْبُ مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يُجْمَعُ
بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ فَالْكَلَامُ في هذا
الْفَصْلِ يَقَعُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ
التَّطْهِيرُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ طَرِيقِ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ شَرَائِطِ التَّطْهِيرِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَنْوَاعٌ منها الْمَاءُ
الْمُطْلَقُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ
وَالْحُكْمِيَّةُ جميعا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَاءَ طَهُورًا
بِقَوْلِهِ { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَكَذَا النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما
غَيَّرَ لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ
وَالطَّهُورُ هو الطَّاهِرُ في نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ
وَكَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ طَهُورًا
بِقَوْلِهِ في آخَرِ آيَةِ الْوُضُوءِ { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ }
وَقَوْلِهِ { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَيَسْتَوِي الْعَذْبُ
وَالْمِلْحُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ
وَأَمَّا ما سِوَى الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا خِلَافَ في
أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ بها الطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَهِيَ زَوَالُ الْحَدَثِ
وَهَلْ تَحْصُلُ بها الطَّهَارَةُ الحقيقة ( ( ( الحقيقية ) ) ) وَهِيَ زَوَالُ
النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ
اُخْتُلِفَ فيه فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ تَحْصُلُ
وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَا تَحْصُلُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فقال في
الثَّوْبِ تَحْصُلُ وفي الْبَدَنِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْمَاءِ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إن طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ عُرِفَتْ شَرْعًا بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ النَّجَسَ صَارَ نَجِسًا
وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجَسِ لَا يَتَحَقَّقُ كما إذَا غُسِلَ بِمَاءٍ نَجِسٍ أو
بِالْخَمْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ نَجَاسَةِ الْمَاءِ
حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَبَقَاؤُهُ طَهُورًا على خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا
يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ وَلِهَذَا لم يَلْحَقْ بِهِ في إزَالَةِ الْحَدَثِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هو التَّطْهِيرُ وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ تُشَارِكُ
الْمَاءَ في التَّطْهِيرِ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا كان مُطَهِّرًا لِكَوْنِهِ
مَائِعًا رَقِيقًا يُدَاخَلُ أَثْنَاءَ الثَّوْبِ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ
النَّجَاسَةِ فَيُرَقِّقُهَا إنْ كانت كَثِيفَةً فَيَسْتَخْرِجُهَا
____________________
(1/83)
بِوَاسِطَةِ
الْعَصْرِ وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ في الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ
وَالتَّرْقِيقِ مِثْلُ الْمَاءِ فَكَانَتْ مثله في إفَادَةِ الطَّهَارَةِ بَلْ
أَوْلَى فإن الْخَلَّ يَعْمَلُ في إزَالَةِ بَعْضِ أَلْوَانٍ لَا تَزُولُ
بِالْمَاءِ فَكَانَ في مَعْنَى التَّطْهِيرِ أَبْلَغُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن الْمَاءَ بِأَوَّلِ مُلَاقَاةِ النَّجَسِ صَارَ نَجِسًا
مَمْنُوعٌ وَالْمَاءُ قَطُّ لَا يَصِيرُ نَجِسًا وَإِنَّمَا يُجَاوِرُ النَّجَسَ
فَكَانَ طَاهِرًا في ذَاتِهِ فَصَلُحَ مُطَهِّرًا وَلَوْ تُصُوِّرَ تَنَجُّسُ
الْمَاءِ فَذَلِكَ بَعْدَ مُزَايَلَتِهِ الْمَحَلَّ النَّجِسَ لِأَنَّ الشَّرْعَ
أَمَرَنَا بِالتَّطْهِيرِ وَلَوْ تَنَجَّسَ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَمَا
تُصُوِّرَ التَّطْهِيرُ فَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالتَّطْهِيرِ عَبَثًا تَعَالَى
اللَّهُ عن ذلك
فَهَكَذَا نَقُولُ في الْحَدَثِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّطْهِيرِ
بِالْمَاءِ هُنَاكَ تَعَبُّدًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ على
مَوْرِدِ التَّعَبُّدِ
وَهَذَا إذَا كان مَائِعًا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ فَإِنْ كان لَا يَنْعَصِرُ
مِثْلُ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَالدُّهْنِ وَنَحْوِهَا لَا تَحْصُلُ بِهِ
الطَّهَارَةُ أَصْلًا لِانْعِدَامِ الْمَعَانِي التي يَقِفُ عليها زَوَالُ
النَّجَاسَةِ على ما بَيَّنَّا
وَمِنْهَا الْفَرْكُ وَالْحَتُّ بَعْدَ الْجَفَافِ في بَعْضِ الْأَنْجَاسِ في
بَعْضِ الْمَحَالِّ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أَصَابَ الْمَنِيُّ الثَّوْبَ وَجَفَّ وَفُرِكَ
طَهُرَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَطْهُرَ إلَّا بِالْغَسْلِ وَإِنْ
كان رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إذَا رَأَيْتِ
الْمَنِيَّ في ثَوْبِكِ إنْ كان رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ وَإِنْ كان يَابِسًا
فَافْرُكِيهِ
وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ لَا يَتَشَرَّبُ في الثَّوْبِ إلَّا
رُطُوبَتُهُ ثُمَّ تَنْجَذِبُ تِلْكَ الرُّطُوبَةُ بَعْدَ الْجَفَافِ فَلَا يَبْقَى
إلَّا عَيْنُهُ وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالْفَرْكِ بِخِلَافِ الرَّطْبِ لِأَنَّ
الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ بِالْحَتِّ فَأَجْزَاؤُهَا الْمُتَشَرِّبَةُ في
الثَّوْبِ قَائِمَةٌ فَبَقِيَتْ النَّجَاسَةُ وَإِنْ أَصَابَ الْبَدَنَ فَإِنْ كان
رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ جَفَّ فَهَلْ
يَطْهُرُ بِالْحَتِّ
رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
أَنَّهُ يَطْهُرُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَطْهُرَ
في الثَّوْبِ إلَّا بِالْغَسْلِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ وَأَنَّهُ
وَرَدَ في الثَّوْبِ بِالْفَرْكِ فَبَقِيَ الْبَدَنُ مع أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَرْكَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّصَّ
الْوَارِدَ في الثَّوْبِ يَكُونُ وَارِدًا في الْبَدَنِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
لِأَنَّ الْبَدَنَ أَقَلُّ تَشَرُّبًا من الثَّوْبِ وَالْحَتُّ في الْبَدَنِ
يَعْمَلُ عَمَلَ الْفَرْكِ في الثَّوْبِ في إزَالَةِ الْعَيْنِ
وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ إذَا أَصَابَتْ الثَّوْبَ أو الْبَدَنَ
وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ سَوَاءٌ كانت رَطْبَةً أو
يَابِسَةً وَسَوَاءٌ كانت سَائِلَةً أو لها جُرْمٌ وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ خَمْرٌ
فألقي عليها الْمِلْحَ وَمَضَى عليه من الْمُدَّةِ مِقْدَارُ ما يَتَخَلَّلُ فيها
لم يُحْكَمْ بِطَهَارَتِهِ حتى يَغْسِلَهُ وَلَوْ أَصَابَهُ عَصِيرٌ فَمَضَى عليه
من الْمُدَّةِ مِقْدَارُ ما يَتَخَمَّرُ الْعَصِيرُ فيها لَا يُحْكَمُ
بِنَجَاسَتِهِ وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أو النَّعْلَ وَنَحْوَهُمَا فَإِنْ كانت
رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ كَيْفَمَا كانت
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ على التُّرَابِ كَيْفَمَا
كانت مُسْتَجْسِدَةً أو مَائِعَةً وَإِنْ كانت يَابِسَةً فَإِنْ لم يَكُنْ لها
جُرْمٌ كَثِيفٌ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ إلَّا
بِالْغَسْلِ وَإِنْ كان لها جُرْمٌ كَثِيفٌ فَإِنْ كان مَنِيًّا فإنه يَطْهُرُ
بِالْحَتِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان غَيْرُهُ كَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ
الْغَلِيظِ وَالرَّوْثِ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وما قَالَاهُ اسْتِحْسَانٌ وما قَالَهُ قِيَاسٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ غير الْمَاءِ لَا أَثَرَ له في الْإِزَالَةِ وَكَذَا
الْقِيَاسُ في الْمَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ
طَهُورًا لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَاءِ فَلَا ضَرُورَةَ في
غَيْرِهِ وَلِهَذَا لم يُؤَثِّرْ في إزَالَةِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالسَّائِلِ
وفي الثَّوْبِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في الْمَنِيِّ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ
بِالنَّصِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ في الصَّلَاةِ خَلَعَ
الناس نِعَالَهُمْ فلما فَرَغَ من الصَّلَاةِ قال ما بَالُكُمْ خَلَعْتُمْ
نِعَالَكُمْ فَقَالُوا خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ فَخَلَعْنَا نِعَالَنَا فقال أَتَانِي
جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا أَذًى ثُمَّ قال إذَا أتى أحدكم
الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ فَإِنْ كان بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا
بِالْأَرْضِ فإن الْأَرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ وَهَذَا نَصٌّ وَالْفِقْهُ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَحَلَّ إذَا كان فيه صَلَابَةٌ نَحْوُ الْخُفِّ
وَالنَّعْلِ لَا تَتَخَلَّلُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فيه لِصَلَابَتِهِ وَإِنَّمَا
تَتَشَرَّبُ منه بَعْضَ الرُّطُوبَاتِ فإذا أَخَذَ الْمُسْتَجْسِدَ في الْجَفَافِ
جُذِبَتْ تِلْكَ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهِ شيئا فَشَيْئًا فَكُلَّمَا ازْدَادَ
يُبْسًا ازْدَادَ جَذْبًا إلَى أَنْ يَتِمَّ الْجَفَافُ
فَعِنْدَ ذلك لَا يَبْقَى منها شَيْءٌ أو يَبْقَى شَيْءٌ يَسِيرٌ
فإذا جَفَّ الْخُفُّ أو مَسَحَهُ على الْأَرْضِ تَزُولُ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ
بِخِلَافِ حَالَةِ الرُّطُوبَةِ
لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ فَالرُّطُوبَاتُ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ خُرُوجُهَا
بِالْجَذْبِ بِسَبَبِ الْيُبْسِ ولم يُوجَدْ
وَبِخِلَافِ السَّائِلِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْجَاذِبُ
وهو الْعَيْنُ الْمُسْتَجْسِدَةُ فَبَقِيَتْ الرُّطُوبَةُ الْمُتَشَرِّبَةُ فيه
فَلَا يَطْهُرُ بِدُونِ الْغَسْلِ
وَبِخِلَافِ
____________________
(1/84)
الثَّوْبِ
فإن أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَتَخَلَّلُ في الثَّوْبِ كما تَتَخَلَّلُ رطوبتها ( (
( رطوباتها ) ) ) لِتَخَلْخُلِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَبِالْجَفَافِ انْجَذَبَتْ
الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهَا فَتَبْقَى أَجْزَاؤُهَا فيه
فَلَا تَزُولُ بِإِزَالَةِ الْجُرْمِ الظَّاهِرِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ
وَصَارَ كَالْمَنِيِّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ عِنْدَ
الْجَفَافِ لِأَنَّ الْمَنِيَّ شَيْءٌ لَزِجٌ لَا يدال ( ( ( يداخل ) ) )
أَجْزَاءَ الثَّوْبِ وَإِنَّمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهُ فَقَطْ
ثُمَّ يَجْذِبُهَا الْمُسْتَجْسِدُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَيَطْهُرُ فَكَذَلِكَ هذا
وَالثَّانِي أَنَّ إصَابَةَ هذه الْأَنْجَاسِ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ مِمَّا
يَكْثُرُ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِالْمَسْحِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ بِخِلَافِ
الثَّوْبِ وَالْحَرَجُ في الْأَرْوَاثِ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا سَوَّى في رِوَايَةٍ
عن أبي يُوسُفَ بين الْكُلِّ لِإِطْلَاقِ ما رَوَيْنَا من الحديث وَكَذَا مَعْنَى
الْحَرَجِ لَا يَفْصِلُ بين الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ
بَعْدَ الْحَتِّ وَالْمَسْحِ يَعُودُ نَجِسًا هو الصَّحِيحُ من الرِّوَايَةِ
لِأَنَّ شيئا من النَّجَاسَةِ قَائِمٌ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إذَا تَشَرَّبَ فيه
النَّجَسُ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
أَبَدًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُنْقَعُ في الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل
مَرَّةٍ إلَّا أَنَّ مُعْظَمَ النَّجَاسَةِ قد زَالَ فَجُعِلَ الْقَلِيلُ عَفْوًا
في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ لَا أَنْ يَطْهُرَ الْمَحَلُّ
حَقِيقَةً فإذا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ فَهَذَا مَاءٌ قَلِيلٌ جَاوَرَهُ قَلِيلُ
نَجَاسَةٍ فَيُنَجِّسُهُ
وَأَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا حُتَّ طَهُرَ وَتَأْوِيلُهُ في حَقِّ
جَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ شيئا صُلْبًا صَقِيلًا
كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا يَطْهُرُ بِالْحَتِّ رَطْبَةً كانت أو
يَابِسَةً لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ في أَجْزَائِهِ شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ
وَظَاهِرُهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ والحت ( ( ( والحث ) ) )
وَقِيلَ إنْ كانت رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَلَوْ أَصَابَتْ
النَّجَاسَةُ الْأَرْضَ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عليها
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ تَيَمَّمَ بهذا
التُّرَابِ لَا يَجُوزُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا
تَقَدَّمَ
وَلَنَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ لم تَطْهُرْ حَقِيقَةً لَكِنْ
زَالَ مُعْظَمُ النَّجَاسَةِ عنها وَبَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَيُجْعَلُ عَفْوًا
لِلضَّرُورَةِ فَعَلَى هذا إذَا أَصَابَهَا الْمَاءُ تَعُودُ نَجِسَةً لِمَا
بَيَّنَّا
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَرْضَ طَهُرَتْ حَقِيقَةً لِأَنَّ من طَبْعِ الْأَرْضِ أنها
تُحِيلُ الْأَشْيَاءَ وَتُغَيِّرُهَا إلَى طَبْعِهَا فَصَارَتْ تُرَابًا بِمُرُورِ
الزَّمَانِ ولم يَبْقَ نَجِسٌ أَصْلًا فَعَلَى هذا إنْ أَصَابَهَا لَا تَعُودُ
نَجِسَةً
وَقِيلَ إنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ لِأَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِي لِمُحَمَّدٍ
بِنَاءً على أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ
وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا تَصِيرُ شيئا آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَكُونُ
طَاهِرًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شيئا آخَرَ فَيَكُونُ نَجِسًا وَعَلَى هذا
الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَهُمَا
منها الْكَلْبُ إذَا وَقَعَ في الْمَلَّاحَةِ وَالْجَمْدِ وَالْعَذِرَةُ إذَا
أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ وَصَارَتْ رَمَادًا وَطِينُ الْبَالُوعَةِ إذَا جَفَّ
وَذَهَبَ أَثَرُهُ وَالنَّجَاسَةُ إذَا دُفِنَتْ في الْأَرْضِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا
بِمُرُورِ الزَّمَانِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ فَلَا تَثْبُتُ
الطَّهَارَةُ مع بَقَاءِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ وَالْقِيَاسُ في الْخَمْرِ إذَا
تَخَلَّلَ أَنْ لَا يَطْهُرَ لَكِنْ عَرَفْنَاهُ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فإن عَيْنَ الْجِلْدِ طَاهِرَةٌ وَإِنَّمَا
النَّجَسُ ما عليه من الرُّطُوبَاتِ وإنها تَزُولُ بِالدِّبَاغِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا اسْتَحَالَتْ وَتَبَدَّلَتْ
أَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا خَرَجَتْ عن كَوْنِهَا نَجَاسَةً لِأَنَّهَا اسْمٌ
لِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ فَتَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ الْوَصْفِ وَصَارَتْ كَالْخَمْرِ
إذَا تَخَلَّلَتْ
وَمِنْهَا الدِّبَاغُ لِلْجُلُودِ النَّجِسَةِ فَالدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ
كُلِّهَا إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وقال مَالِكٌ إنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَكِنْ يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ في الْجَامِدِ لَا في الْمَائِعِ بِأَنْ يُجْعَلَ جِرَابًا
لِلْحُبُوبِ دُونَ الزِّقِّ لِلْمَاءِ وَالسَّمْنِ وَالدِّبْسِ
وقال عَامَّةُ أَصْحَابِ الحديث لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدُ ما
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
وقال الشَّافِعِيُّ كما قُلْنَا إلَّا في جِلْدِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ نَجِسُ
الْعَيْنِ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ
وَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أن قال لَا تَنْتَفِعُوا من الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ
وَاسْمُ الْإِهَابِ يَعُمُّ الْكُلَّ إلَّا فِيمَا قام الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِهِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا إهَابٍ
دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِفِنَاءِ قَوْمٍ
فَاسْتَسْقَاهُمْ فقال ل ( ( ( هل ) ) ) عِنْدَكُمْ مَاءٌ فقالت امْرَأَةٌ لَا يا
رَسُولَ اللَّهِ إلَّا في قِرْبَةٍ لي مَيْتَةً فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَلَسْتِ دَبَغْتِيهَا فقالت نعم فقال دِبَاغُهَا طَهُورُهَا وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ
الْمَيْتَاتِ لِمَا فيها من الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وإنها
تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إذَا غُسِلَ وَلِأَنَّ
الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ بِلُبْسِ جِلْدِ الثَّعْلَبِ
وَالْفَنَكِ والسنور ( ( ( والسمور ) ) ) وَنَحْوِهَا في الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
من غَيْرِ نَكِيرٍ فَدَلَّ على الطَّهَارَةِ وَلَا حُجَّةَ لهم في الحديث لِأَنَّ
الْإِهَابَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِجِلْدٍ لم يُدْبَغْ كَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ
____________________
(1/85)
وَالْخِنْزِيرِ
جَوَابُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْجُلُودَ كُلَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِعُمُومِ
الحديث وَالصَّحِيحُ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِأَنَّ
نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ لِمَا فيه من الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ هو نَجِسُ
الْعَيْنِ فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ في حَقِّهِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَقِيلَ إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ لِأَنَّ له جُلُودًا
مُتَرَادِفَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كما لِلْآدَمِيِّ
وَأَمَّا جِلْدُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كان يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ وَتَنْدَفِعُ
رُطُوبَتُهُ بِالدَّبْغِ يَنْبَغِي أَنْ يَطْهُرَ لِأَنَّهُ ليس بِنَجِسِ
الْعَيْنِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ احْتِرَامًا له
وَأَمَّا جِلْدُ الْفِيلِ فذكر في الْعُيُونِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ لِأَنَّهُ ليس
بِنَجِسِ الْعَيْنِ ثُمَّ الدِّبَاغُ على ضَرْبَيْنِ حَقِيقِيٍّ وَحُكْمِيٍّ
فَالْحَقِيقِيُّ هو أَنْ يُدْبَغَ بِشَيْءٍ له قِيمَةٌ كَالْقَرْظِ وَالْعَفْصِ
وَالسَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا وَالْحُكْمِيُّ أَنْ يُدْبَغَ بِالتَّشْمِيسِ
وَالتَّتْرِيبِ وَالْإِلْقَاءِ في الرِّيحِ وَالنَّوْعَانِ مُسْتَوِيَانِ في
سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا في حُكْمٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ لو أَصَابَهُ الْمَاءُ
بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَعُودُ نَجِسًا وَبَعْدَ الدِّبَاغِ
الْحُكْمِيِّ فيه رِوَايَتَانِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ إلَّا بِالدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ
وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْحُكْمِيَّ في إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ
وَالْعِصْمَةِ عن النَّتِنِ وَالْفَسَادِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ مِثْلُ
الْحَقِيقِيِّ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الذَّكَاةُ في تَطْهِيرِ الذَّبِيحِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها أَنَّ
الْحَيَوَانَ إنْ كان مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذُبِحَ طَهُرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ
إلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فما هو طَاهِرٌ
من الْمَيْتَةِ من الْأَجْزَاءِ التي لَا دَمَ فيها كَالشَّعْرِ وَأَمْثَالِهِ
يَطْهُرُ منه بِالذَّكَاةِ عِنْدَنَا وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ التي فيها الدَّمُ
كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ فَهَلْ تَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ
اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا على أَنَّ جِلْدَهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ وقال
الشَّافِعِيُّ لَا يَطْهُرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الذَّكَاةَ لم تُفِدْ حِلًّا فَلَا تُفِيدُ طُهْرًا وَهَذَا
لِأَنَّ أَثَرَ الذَّكَاةِ يَظْهَرُ فِيمَا وُضِعَ له أَصْلًا وهو حِلُّ تَنَاوُلِ
اللَّحْمِ وفي غَيْرِهِ تَبَعًا فإذا لم يَظْهَرْ أَثَرُهَا في الْأَصْلِ كَيْفَ
يَظْهَرُ في التَّبَعِ فَصَارَ كما لو ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال دِبَاغُ الْأَدِيمِ
ذَكَاتُهُ أَلْحَقَ الذَّكَاةَ بِالدِّبَاغِ ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ في
إزَالَةِ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ فَتُشَارِكُهُ في
إفَادَةِ الطَّهَارَةِ وما ذُكِرَ من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فَغَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ طَهَارَةَ الْجِلْدِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ في الْجِلْدِ كما أَنَّ تَنَاوُلَ اللَّحْمِ
حُكْمٌ مَقْصُودٌ في اللَّحْمِ وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ ليس بِذَكَاةٍ لِعَدَمِ
أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ فَلَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فَتَعَيَّنَ تَطْهِيرُهُ
بِالدِّبَاغِ وَاخْتَلَفُوا في طَهَارَةِ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فقال كُلُّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ
جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ يَطْهُرُ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ
وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِ بَلْخٍ إنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ
جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَأَمَّا اللَّحْمُ
وَالشَّحْمُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا يَطْهُرُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ
لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وقد زَالَ
بِالذَّكَاةِ
وَمِنْهَا نَزْحُ ما وَجَبَ من الدِّلَاءِ أو نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ بَعْدَ
اسْتِخْرَاجِ الْوَاقِعِ في الْبِئْرِ من الْآدَمِيِّ أو غَيْرِهِ من الْحَيَوَانِ
في تَطْهِيرِ الْبِئْرِ عَرَفْنَا ذلك بِالْخَبَرِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ نَزْحُ
جَمِيعِ الْمَاءِ من الْبِئْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ
الْمَاءِ إنْ أَمْكَنَ ثُمَّ يُنْزَحُ ما فيها من الْمَاءِ النَّجَسِ وَإِنْ لم
يُمْكِنْ سَدُّ متابعة ( ( ( منابعه ) ) ) لِغَلَبَةِ الْمَاءِ
رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ
دَلْوٍ وَرُوِيَ مِائَتَا دَلْوٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ أو ثلثمائة دَلْوٍ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُحْفَرُ بِجَنْبِهَا حَفِيرَةً مِقْدَارَ
عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ في
الْحَفِيرَةِ حتى تمتلىء ( ( ( تمتلئ ) ) ) فإذا امْتَلَأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ
الْبِئْرِ وفي رِوَايَةٍ يُرْسَلُ فيها قَصَبَةٌ وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ
عَلَامَةٌ ثُمَّ يُنْزَحُ منها عشر دِلَاءٍ مَثَلًا
ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذلك وَالْأَوْفَقُ في الْبَابِ
ما رُوِيَ عن أبي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدِ بن سَلَّامٍ أَنَّهُ يُؤْتَى
بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَارَةٌ في أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا
لِأَنَّ ما يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فيه إلَى أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في
ذلك الْبَابِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في الدَّلْوِ الذي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ
النَّجِسُ
قال بَعْضُهُمْ الْمُعْتَبَرُ في كل بِئْرٍ دَلْوُهَا صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ
وَقِيلَ الْمُعْتَبَرُ هو الْمُتَوَسِّطُ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
وَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الدَّلْوِ والرشا ( ( ( والرشاء ) ) ) فَقَدْ رُوِيَ عن
أبي يُوسُفَ أَنَّهُ سُئِلَ عن الدَّلْوِ الذي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ
من الْبِئْرِ أَيُغْسَلُ أَمْ لَا
قال لَا بَلْ يُطَهِّرُهُ ما طَهَّرَ الْبِئْرَ وَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ بن
زِيَادٍ أَنَّهُ قال إذَا طَهُرَتْ الْبِئْرُ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ كما
يَطْهُرُ طِينُ الْبِئْرِ وَحَمْأَتُهُ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُمَا بِنَجَاسَةِ
الْبِئْرِ وَطَهَارَتُهُمَا يَكُونُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ
____________________
(1/86)
أَيْضًا
كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ في دَنٍّ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الدَّنِّ
وَمِنْهَا تَطْهِيرُ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ إذَا تَنَجَّسَ وَاخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه فقال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ لَا يَطْهُرُ حتى يَدْخُلَ الْمَاءُ
فيه وَيَخْرُجَ منه مِثْلُ ما كان فيه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَصِيرُ ذلك
بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلَاثًا
وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إذَا دخل فيه الْمَاءُ الطَّاهِرُ
وَخَرَجَ بَعْضُهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَا تَسْتَبِينَ فيه
النَّجَاسَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا ولم يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ
النَّجَسِ فيه وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ
وَقِيلَ إذَا خَرَجَ منه مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ كَالْبِئْرِ إذَا
تَنَجَّسَتْ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَزْحِ ما فيها من الْمَاءِ
وَعَلَى هذا حَوْضُ الْحَمَّامِ أو الْأَوَانِي إذَا تَنَجَّسَ
فَصْلٌ وَأَمَّا طَرِيقُ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ النَّجِسَ
يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ في الْمَاءِ الْجَارِي وَكَذَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ بِصَبِّ
الْمَاءِ عليه وَاخْتُلِفَ في أَنَّهُ هل يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ في الْأَوَانِي
بِأَنْ غَسَلَ الثَّوْبَ النَّجَسَ أو الْبَدَنَ النَّجَسَ في ثَلَاثِ إجَّانَاتٍ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَطْهُرُ حتى يَخْرُجَ من الْإِجَّانَةِ
الثَّالِثَةِ طَاهِرًا
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَطْهُرُ الْبَدَنُ وَإِنْ غُسِلَ في إجَّانَاتٍ كَثِيرَةٍ
ما لم يُصَبَّ عليه الْمَاءُ وفي الثَّوْبِ عنه رِوَايَتَانِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى حُصُولَ الطَّهَارَةِ
بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَصْلًا لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى لَاقَى النَّجَاسَةَ
تَنَجَّسَ سَوَاءٌ وَرَدَ الْمَاءُ على النَّجَاسَةِ أو وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ على
الْمَاءِ وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجِسِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا
بِالطَّهَارَةِ لِحَاجَةِ الناس إلى تَطْهِيرِ الثِّيَابِ وَالْأَعْضَاءِ
النَّجِسَةِ وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُرُودِ
الْمَاءِ على النَّجَاسَةِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ فَعَلَى
هذا لَا يُفَرَّقُ بين الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له على الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إن في الثَّوْبِ ضَرُورَةٌ إذْ
كُلُّ من تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ لَا يَجِدُ من يَصُبُّ الْمَاءَ عليه وَلَا
يُمْكِنُهُ الصَّبُّ عليه بِنَفْسِهِ وَغَسْلُهُ فَتَرَكَ الْقِيَاسَ فيه لِهَذِهِ
الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلِهَذَا جَرَى الْعُرْفُ بِغَسْلِ الثِّيَابِ
في الْأَوَانِي وَلَا ضَرُورَةَ في الْعُضْوِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ
بِصَبِّ الْمَاءِ عليه فَبَقِيَ على ما يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ في الْفَصْلَيْنِ لِتَحَقُّقِ
الضَّرُورَةِ في الْمَحَلَّيْنِ إذْ ليس كُلُّ من أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ بَعْضَ
بَدَنِهِ يَجِدُ مَاءً جَارِيًا أو من يُصَبُّ عليه الْمَاءَ وقد لَا يَتَمَكَّنُ
من الصَّبِّ بِنَفْسِهِ وقد تُصِيبُ النَّجَاسَةُ مَوْضِعًا يَتَعَذَّرُ الصَّبُّ
عليه فإن من دَمِيَ فَمُهُ أو أَنْفُهُ لو صُبَّ عليه الْمَاءُ لَوَصَلَ الْمَاءُ
النَّجِسُ إلَى جَوْفِهِ أو يَعْلُو إلَى دِمَاغِهِ وَفِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ
فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ مع أَنَّ ما ذَكَرَهُ من
الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ لَا
يَنْجَسُ أَصْلًا ما دَامَ على الْمَحَلِّ النَّجَسِ على ما مَرَّ بَيَانُهُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا كان على يَدِهِ نَجَاسَةٌ فَأَدْخَلَهَا في حب ( ( (
جب ) ) ) من الْمَاءِ ثُمَّ في الثَّانِي وَالثَّالِثِ هَكَذَا ولو كان في
الْخَوَابِي خَلٌّ نَجِسٌ
وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَخْرُجُ من الثَّالِثَةِ
طَاهِرًا خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً على أَصْلٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْمَائِعَاتِ
الطَّاهِرَةَ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالصَّبُّ ليس بِشَرْطٍ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُزِيلُ أَصْلًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُزِيلُ لَكِنْ بِشَرْطِ الصَّبِّ ولم يُوجَدْ فَاتَّفَقَ
جَوَابُهُمَا بِنَاءً على أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ فَمِنْهَا الْعَدَدُ في
نَجَاسَةٍ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ عِنْدَنَا
وَالْجُمْلَةُ في ذلك أَنَّ النَّجَاسَةَ نَوْعَانِ حَقِيقِيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ
وَلَا خِلَافَ في أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ وَهِيَ الْحَدَثُ والجنابة (
( ( والجناية ) ) ) تَزُولُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُشْتَرَطُ فيها
الْعَدَدُ
وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَإِنْ كانت غير مَرْئِيَّةٍ كَالْبَوْلِ
وَنَحْوِهِ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا تَطْهُرُ إلَّا
بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا
بِالْحَدَثِ إلَّا في وُلُوغِ الْكَلْبِ في الْإِنَاءِ فإنه لَا يَطْهُرُ إلَّا
بِالْغَسْلِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ
سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال يُغْسَلُ
الْإِنَاءُ من وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا فَقَدْ أَمَرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا
وَإِنْ كان ذلك غير مَرْئِيٍّ وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَذَلِكَ عِنْدَمَا كان
في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِقَلْعِ عَادَةِ الناس في الْإِلْفِ بِالْكِلَابِ كما
أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَنَهَى عن الشُّرْبِ في ظُرُوفِ الْخَمْرِ حين
حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فلما تَرَكُوا الْعَادَةَ أَزَالَ ذلك كما في الْخَمْرِ دَلَّ
عليه ما رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ
بِالتُّرَابِ أو أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وفي بَعْضِهَا وَعَفِّرُوا
الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم من
مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فإنه
لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ أَمْرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا عِنْدَ
____________________
(1/87)
تَوَهُّمِ
النَّجَاسَةِ فَعِنْدَ تَحَقُّقِهَا أَوْلَى
وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْمَرْئِيَّةَ قط ( ( ( فقط ) ) ) لَا تَزُولُ
بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَكَذَا غَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ
ذلك يُرَى بِالْحِسِّ وَهَذَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَدَثِ
غَيْرُ سَدِيدٍ لأن ثَمَّةَ لَا نَجَاسَةَ رَأْسًا وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ
الْغَسْلِ نَصًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالِاكْتِفَاءِ
بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً
وقال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ ثُمَّ التَّقْدِيرُ
بِالثَّلَاثِ عِنْدَنَا ليس بِلَازِمٍ بَلْ هو مُفَوَّضٌ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ
وأكبرظنه وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ بِنَاءً على
غَالِبِ الْعَادَاتِ فإن الْغَالِبَ أنها تَزُولُ بِالثَّلَاثِ وَلِأَنَّ
الثَّلَاثَ هو الْحَدُّ الْفَاصِلُ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ كما في قِصَّةِ
الْعَبْدِ الصَّالِحِ مع مُوسَى حَيْثُ قال له مُوسَى في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ
{ قد بَلَغْتَ من لَدُنِّي عُذْرًا }
وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ فَطَهَارَتُهَا
زَوَالُ عَيْنِهَا وَلَا عِبْرَةَ فيه بِالْعَدَدِ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ في
الْعَيْنِ فَإِنْ زَالَتْ الْعَيْنُ زَالَتْ النَّجَاسَةُ وَإِنْ بَقِيَتْ
بَقِيَتْ وَلَوْ زَالَتْ الْعَيْنُ وَبَقِيَ الْأَثَرُ فَإِنْ كان مِمَّا يَزُولُ
أَثَرُهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ ما لم يَزُلْ الْأَثَرُ لِأَنَّ الْأَثَرَ
لَوْنُ عَيْنِهِ لَا لَوْنُ الثَّوْبِ فَبَقَاؤُهُ يَدُلُّ على بَقَاءِ عَيْنِهِ
وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ مِمَّا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ
أَثَرِهِ عِنْدَنَا
وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ ما دَامَ الْأَثَرُ بَاقِيًا
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِالْمِقْرَاضِ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَثَرِ دَلِيلُ
بَقَاءِ الْعَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْمُسْتَحَاضَةِ
حُتِّيهِ ثُمَّ اقرصيه ( ( ( اقرضيه ) ) ) ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ وَلَا
يَضُرُّكِ أَثَرُهُ وَهَذَا نَصٌّ
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لم يُكَلِّفْنَا غَسْلَ النَّجَاسَةِ إلَّا بِالْمَاءِ
مع عِلْمِهِ أَنَّهُ ليس في طَبْعِ الْمَاءِ قَلْعُ الْآثَارِ دَلَّ على أَنَّ
بَقَاءِ الْأَثَرِ فِيمَا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ ليس بِمَانِعٍ زَوَالَ
النَّجَاسَةِ
وَقَوْلُهُ بَقَاءُ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُسَلَّمٌ
لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ ذلك بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لا يَضُرُّكِ بَقَاءُ أَثَرِهِ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لم
يَأْمُرْنَا إلَّا بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ ولم يُكَلِّفْنَا تَعَلُّمَ الْحِيَلِ
في قَلْعِ الْآثَارِ وَلِأَنَّ ذلك في حَدِّ الْقِلَّةِ
وَالْقَلِيلُ من النَّجَاسَةِ عَفْوٌ عِنْدَنَا وَلِأَنَّ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ
التي لها أَثَرٌ بَاقٍ كَالدَّمِ الْأَسْوَدِ الْعَبِيطِ مِمَّا يَكْثُرُ في
الثِّيَابِ خُصُوصًا في حَقِّ النِّسْوَانِ
فَلَوْ أُمِرْنَا بِقَطْعِ الثِّيَابِ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وإنه مَدْفُوعٌ
وَكَذَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْأَمْوَالِ وَالشَّرْعُ نَهَانَا عن ذلك
فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهِ
وَمِنْهَا الْعَصْرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ وما يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا
لَا يَحْتَمِلُهُ
وَالْجُمْلَةُ فيه إن الْمَحَلَّ الذي تَنَجَّسَ إمَّا إنْ كان شيئا لَا
يُتَشَرَّبُ فيه أَجْزَاءُ النَّجِسِ أَصْلًا أو كان شيئا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ
يَسِيرٌ
أو كان شيئا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ كَثِيرٌ
فَإِنْ كان مِمَّا لَا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ أَصْلًا كَالْأَوَانِي
الْمُتَّخَذَةِ من الْحَجَرِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْخَزَفِ الْعَتِيقِ
وَنَحْوِ ذلك فَطَهَارَتُهُ بِزَوَالِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ أو الْعَدَدُ على ما
مَرَّ
وَإِنْ كان مِمَّا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ قَلِيلٌ كَالْبَدَنِ وَالْخُفِّ
وَالنَّعْل
فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْتَخْرِجُ ذلك الْقَلِيلَ فَيُحْكَمُ
بِطَهَارَتِهِ
وَإِنْ كان مِمَّا يُتَشَرَّبُ فيه كَثِيرٌ
فَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ عَصْرُهُ كَالثِّيَابِ فَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ
مَرْئِيَّةً فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ وَالْعَصْرِ إلَى أَنْ تَزُولَ الْعَيْنُ
وَإِنْ كانت غير مَرْئِيَّةٍ فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا وَالْعَصْرِ في
كل مَرَّةٍ
لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتَخْرِجُ الْكَثِيرَ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ وَلَا
يَتِمُّ الْغَسْلُ بِدُونِهِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْعَصْرِ في الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ عِنْدَنَا بين بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ
وقال الشَّافِعِيُّ بَوْلُ الصَّبِيِّ يَطْهُرُ بِالنَّضْحِ من غَيْرِ عَصْرٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال يُنْضَحُ
بَوْلُ الصَّبِيِّ وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث
عَمَّارٍ من غَيْرِ فَصْلٍ بين بَوْلٍ وَبَوْلٍ
وما رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ كَالْحَصِيرِ الْمُتَّخَذِ من
الْبُورِيِّ وَنَحْوِهِ أَيْ ما لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لم
يُتَشَرَّبْ فيه بَلْ أَصَابَ ظَاهِرَهُ يَطْهُرُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ أو
بِالْغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ من غَيْرِ عَصْرٍ
فَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ تَشَرَّبَ فيه فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ يُنْقَعُ في
الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْخَزَفُ الْجَدِيدُ إذَا تَشَرَّبَ فيه النَّجِسُ
وَالْجِلْدُ إذَا دُبِغَ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ وَالْحِنْطَةُ إذَا تَشَرَّبَ فيها
النَّجَسُ وَانْتَفَخَتْ أنها لَا تَطْهُرُ أَبَدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ تُنْقَعُ في الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَتُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ
وَكَذَا السِّكِّينُ إذَا مُوِّهَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَاللَّحْمُ إذَا طُبِخَ بِمَاءٍ
نَجِسٍ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُمَوَّهُ السِّكِّينُ ويطبح ( ( ( ويطبخ ) ) )
اللَّحْمُ بِالطَّاهِرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا دَخَلَتْ في الْبَاطِنِ
يَتَعَذَّرُ اسْتِخْرَاجُهَا إلَّا بِالْعَصْرِ وَالْعَصْرُ مُتَعَذِّرٌ
وأبو يُوسُفَ يقول إنْ تَعَذَّرَ الْعَصْرُ فإن ( ( ( فالتجفيف ) ) ) التجفيف
مُمْكِنٌ فَيُقَامُ التَّجْفِيفُ مَقَامَ الْعَصْرِ
____________________
(1/88)
دَفْعًا
لِلْحَرَجِ وما قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَقْيَسُ وما قَالَهُ أبو يُوسُفَ أَوْسَعُ
وَلَوْ أَنَّ الْأَرْضَ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ فَإِنْ كانت الْأَرْضُ
رِخْوَةً يُصَبُّ عليها الْمَاءُ حتى يَتَسَفَّلَ فيها فإذا لم يَبْقَ على
وَجْهِهَا شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ وَتَسَفَّلَتْ الْمِيَاهَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا
وَلَا يُعْتَبَرُ فيها الْعَدَدُ وَإِنَّمَا هو على اجْتِهَادِهِ وما في غَالِبِ
ظَنِّهِ إنها طَهُرَتْ
وَيَقُومُ التَّسَفُّلُ في الْأَرْضِ مَقَامَ الْعَصْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ
الْعَصْرَ وَعَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُصَبُّ الْمَاءُ عليها ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ وَيَتَسَفَّلُ في كل مَرَّةٍ وَإِنْ كانت الْأَرْضُ صُلْبَةً فَإِنْ كانت
صَعُودًا يُحْفَرُ في أَسْفَلِهَا حَفِيرَةٌ وَيُصَبُّ الْمَاءُ عليها ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ وَيُزَالُ عنها إلَى الْحَفِيرَةِ ثُمَّ تَكْبَرُ الْحَفِيرَةُ وَإِنْ
كانت مُسْتَوِيَةً بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْمَاءُ عنها لَا تُغْسَلُ لِعَدَمِ
الْفَائِدَةِ في الْغَسْلِ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا كُوثِرَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَتْ
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ بَاقٍ حَقِيقَةً وَلَكِنْ يَنْبَغِي
أَنْ تُقْلَبَ فَيُجْعَلُ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا وَأَسْفَلُهَا أَعْلَاهَا
لِيَصِيرَ التُّرَابُ الظاهر ( ( ( الطاهر ) ) ) وَجْهَ الْأَرْضِ هَكَذَا رُوِيَ
أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ في الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنْ يُحْفَرَ مَوْضِعُ بَوْلِهِ فَدَلَّ أَنَّ الطَّرِيقَ ما قُلْنَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
كِتَابُ الصَّلَاةِ يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَى
مَعْرِفَة أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وما يَشْتَمِلُ عليه كُلُّ نَوْعٍ من
الْكَيْفِيَّاتِ وَالْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وما
يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فيه وما يُكْرَهُ وما يُفْسِدُهُ وَمَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إذَا
فَسَدَ أو فَاتَ عن وَقْتِهِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ أَرْبَعَةُ
أَنْوَاعٍ 1 فَرْضٍ 2 وَوَاجِبٌ 3 وَسُنَّةٌ 4 وَنَافِلَةٌ
وَالْفَرْضُ نَوْعَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ
وَفَرْضُ الْعَيْنِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ في كل
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
وَالثَّانِي صَلَاةُ الْجُمُعَةِ
أَمَّا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَالْكَلَامُ فيها
يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ عَدَدِهَا وفي
بَيَانِ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا وفي بَيَانِ أَرْكَانِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الْأَرْكَانِ وفي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا وفي بَيَانِ سُنَنِهَا وفي بَيَانِ ما
يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ وما يُكْرَهُ فيها وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ
حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو فَاتَتْ عن أَوْقَاتِهَا أو فَاتَ شَيْءٌ من صَلَاةٍ
من هذه الصَّلَوَاتِ عن الْجَمَاعَةِ أو عن مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ وَنَذْكُرُهُ
في آخِرِ الصَّلَاةِ
أَمَّا فَرْضِيَّتُهَا فَثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ
وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى في غَيْرِ مَوْضِعٍ من الْقُرْآنِ {
أَقِيمُوا الصَّلَاةَ }
وَقَوْلُهُ { إنَّ الصَّلَاةَ كانت على الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أَيْ
فَرْضًا مُؤَقَّتًا وقَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ
الْوُسْطَى }
وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ
التي تُؤَدَّى في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وقَوْله تَعَالَى { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ
طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ } الْآيَةَ يَجْمَعُ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى في أَحَدِ طَرَفَيْ النَّهَارِ
وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُؤَدَّيَانِ في الطَّرَفِ الْآخَرِ إذْ
النَّهَارُ قِسْمَانِ غَدَاةٌ وَعَشِيٌّ وَالْغَدَاةُ اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ
إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ وما بَعْدَهُ الْعَشِيُّ حتى إن من حَلَفَ لَا يَأْكُلُ
الْعَشِيُّ فَأَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَحْنَثُ فَدَخَلَ في طَرَفَيْ النَّهَارِ
ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ وَدَخَلَ في قَوْلِهِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ في زُلَفٍ من اللَّيْلِ وَهِيَ سَاعَاتُهُ
وَقَوْلُهُ { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ }
قيل ( ( ( وقيل ) ) ) دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَغَسَقُ اللَّيْلِ أَوَّلُ
ظُلْمَتِهِ فَيَدْخُلُ فيه صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
وَقَوْلُهُ { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } أَيْ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وهو صَلَاةُ
الْفَجْرِ فَثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ
وَفَرْضِيَّةُ صَلَاتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَقِيلَ
دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا فَيَدْخُلُ فيه صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَتَدْخُلُ صَلَاةُ الْفَجْرِ في قَوْلِهِ { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } وَفَرْضِيَّةُ
صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ
وقَوْله تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حين تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ
الْحَمْدُ في السماوات ( ( ( السموات ) ) ) وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ
تُظْهِرُونَ }
روي ( ( ( وروي ) ) ) عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال حين
تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْفَجْرُ وَعَشِيًّا
الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ
ذَكَرَ التَّسْبِيحَ وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ إمَّا
لِأَنَّ التَّسْبِيحَ من لَوَازِمِ الصَّلَاةِ أو لِأَنَّهُ تَنْزِيهٌ
وَالصَّلَاةُ من أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَنْزِيهُ الرَّبِّ عز وجل لِمَا فيها
من إظْهَارِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَفِيهِ
وَصْفٌ له بِالْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالتَّعَالِي عن الْحَاجَةِ
قال الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ إنَّهُمْ فَهِمُوا
من هذه الْآيَةِ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَوْ كانت أَفْهَامُهُمْ
مِثْلَ أَفْهَامِ أَهْلِ زَمَانِنَا لَمَا فَهِمُوا منها سِوَى التَّسْبِيحِ
الْمَذْكُورِ
وقَوْله تَعَالَى { وسبح ( ( ( فسبح ) ) ) بِحَمْدِ رَبِّك قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ
لَعَلَّكَ تَرْضَى }
____________________
(1/89)
قِيلَ
في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَسَبِّحْ أَيْ فَصَلِّ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ هو صَلَاةُ
الصُّبْحِ
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هو صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
{ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَقَوْلُهُ { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } على التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ
تَأْكِيدًا كما في قَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ
الْوُسْطَى } إن ذِكْرَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى على التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهَا
تَحْتَ اسْمِ الصَّلَوَاتِ
كَذَا هَهُنَا
وقَوْله تَعَالَى { في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها
اسْمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } قِيلَ الذِّكْرُ
وَالتَّسْبِيحُ هَهُنَا هُمَا الصَّلَاةُ وَقِيلَ الذِّكْرُ سَائِرُ الْأَذْكَارِ
وَالتَّسْبِيحُ الصَّلَاةُ وَقَوْلُهُ بِالْغُدُوِّ صَلَاةُ الْغَدَاةِ
وَالْآصَالِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقِيلَ
الْآصَالِ هو صَلَاةُ الْعَصْرِ وَيُحْتَمَلُ الْعَصْرُ وَالظُّهْرُ لِأَنَّهُمَا
يُؤَدَّيَانِ في الْأَصِيلِ وهو الْعَشِيُّ وَفَرْضِيَّةُ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ عُرِفَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ
وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ
طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ
وَرُوِيَ عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ على عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ
وَعَنْ عُبَادَةَ أَيْضًا رضي اللَّهُ عنه أنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم يقول خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى على
الْعِبَادِ فَمَنْ أتى بِهِنَّ ولم يُضَيِّعْ من حَقِّهِنَّ شيئا اسْتِخْفَافًا
بِحَقِّهِنَّ فإن له عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لم
يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ له عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ
شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فإن الْأُمَّةَ
أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّةِ هذه الصَّلَوَاتِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ هذه الصَّلَوَاتِ إنَّمَا
وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعَمِ منها نِعْمَةُ الْخِلْقَةِ حَيْثُ فَضَّلَ
الْجَوْهَرَ الأنسي بِالتَّصْوِيرِ على أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ كما
قال تَعَالَى { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ }
وقال { لقد خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } حتى لَا نرى أَحَدًا
يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ على غَيْرِ هذا التَّقْوِيمِ وَالصُّورَةِ التي أنشىء ( (
( أنشئ ) ) ) عليها
وَمِنْهَا نِعْمَةُ سَلَّامَةِ الْجَوَارِحِ عن الْآفَاتِ إذْ بها يَقْدِرُ على
إقَامَةِ مَصَالِحِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذلك كُلَّهُ إنْعَامًا مَحْضًا من غَيْرِ
أَنْ يَسْبِقَ منه ما يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ من ذلك فَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ
هذه النِّعْمَةِ في خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ إذْ شُكْرُ
النِّعْمَةِ اسْتِعْمَالُهَا في خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ
ثُمَّ الصَّلَاةُ تَجْمَعُ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ من
الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ وَوَضْعِ الْيَدِ مَوَاضِعَهَا
وَحِفْظِ الْعَيْنِ وَكَذَا الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ من شَغْلِ الْقَلْبِ
بِالنِّيَّةِ وَإِشْعَارِهِ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَإِحْضَارِ الذِّهْنِ
وَالْعَقْلِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِيَكُونَ عَمَلُ كل عُضْوٍ شُكْرًا
لِمَا أَنْعَمَ عليه في ذلك
وَمِنْهَا نِعْمَةُ الْمَفَاصِلِ اللَّيِّنَةِ وَالْجَوَارِحِ الْمُنْقَادَةِ التي
بها يَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِهَا في الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ من الْقِيَامِ
وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ على هذه
الْأَحْوَالِ فَأُمِرْنَا بِاسْتِعْمَالِ هذه النِّعَمِ الْخَاصَّةِ في هذه
الْأَحْوَالِ في خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَشُكْرُ
النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا
وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَكُلَّ عِبَادَةٍ خِدْمَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ
وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ لَا تَكُونُ إلَّا فَرْضًا إذْ التَّبَرُّعُ
من الْعَبْدِ على مَوْلَاهُ مُحَالٌ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ شَغْلُ جَمِيعِ
الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ إلَّا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَعَلَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتْرُكَ
الْخِدْمَةَ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُخْصَةً حتى لو شَرَعَ لم يَكُنْ له
التَّرْكُ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ
الرُّخْصَةَ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ يُحَقِّقُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ
الْعَبْدَ لَا بُدَّ له من إظْهَارِ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِيُخَالِفَ بِهِ من
اسْتَعْصَى مَوْلَاهُ وَأَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عن الْعِبَادَةِ وفي الصَّلَاةِ
إظْهَارُ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِمَا فيها من الْقِيَامِ بين يَدَيْ الْمَوْلَى
جَلَّ جَلَالُهُ وَتَحْنِيَةِ الظَّهْرِ له وَتَعْفِيرِ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ
وَالْجُثُوِّ على الرُّكْبَتَيْنِ وَالثَّنَاءِ عليه وَالْمَدْحِ له
وَمِنْهَا أنها مَانِعَةٌ لِلْمُصَلِّي عن ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ إذَا
قام ( ( ( أقام ) ) ) بين يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُسْتَشْعِرًا هبة
( ( ( هيبة ) ) ) الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ خَائِفًا تَقْصِيرَهُ في عِبَادَتِهِ
كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَصَمَهُ ذلك عن اقْتِحَامِ الْمَعَاصِي
وَالِامْتِنَاعُ عن الْمَعْصِيَةِ فَرْضٌ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِمْ
الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وقَوْله تَعَالَى { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }
وَمِنْهَا إنها جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالزَّلَّاتِ
وَالتَّقْصِيرِ إذْ الْعَبْدُ في أَوْقَاتِ
____________________
(1/90)
لَيْلِهِ
وَنَهَارِهِ لَا يَخْلُو عن ذَنْبٍ أو خَطَأٍ أو زَلَّةٍ أو تَقْصِيرٍ في
الْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ وَخَطَرُهُ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ قد سَبَقَ إلَيْهِ من اللَّهِ تَعَالَى من النِّعَمِ
وَالْإِحْسَانِ ما لو أَخَذَ بِشُكْرِ ذلك لم يَقْدِرْ على أَدَاءِ شُكْرِ
وَاحِدَةٍ منها فَضْلًا عن أَنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ الْكُلِّ فَيَحْتَاجَ إلَى
تَكْفِيرِ ذلك إذْ هو فَرْضٌ فَفُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَكْفِيرًا
لِذَلِكَ
فَصْلٌ وَأَمَّا عَدَدُهَا فَالْخَمْسُ
ثَبَتَ ذلك بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ
فما تَلَوْنَا من الْآيَاتِ التي فيها فَرْضِيَّةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ
وقَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى }
إشَارَةٌ إلَى ذلك لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَعَطَفَ
الصَّلَاةَ الْوُسْطَى عليها وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عليه في
الْأَصْلِ فَهَذَا يَقْتَضِي جَمْعًا يَكُونُ له وُسْطَى وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذلك
الْجَمْعِ وَأَقَلُّ جَمْعٍ يَكُونُ له وُسْطَى وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذلك الْجَمْعِ
هو الْخَمْسُ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ وَالسِّتَّ لَا وُسْطَى لَهُمَا
وَكَذَا هو شَفْعٌ إذْ الْوَسَطُ ما له حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ وَلَا
يُوجَدُ ذلك في الشَّفْعِ وَالثَّلَاثُ له وُسْطَى لَكِنَّ الْوُسْطَى ليس غير
الْجَمْعِ إذْ الإثنان لَيْسَا بِجَمْعٍ صَحِيحٍ وَالسَّبْعَةُ وَكُلُّ وِتْرٍ
بَعْدَهَا له وُسْطَى لَكِنَّهُ ليس بِأَقَلِّ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ
أَقَلُّ من ذلك
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فقال هل عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هذا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ على هذا من غَيْرِ خِلَافٍ
بَيْنَهُمْ
وَلِهَذَا قال عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ لِمَا أَنَّ كِتَابَ
اللَّهِ وَالسُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَالْمَشْهُورَةَ ما أَوْجَبَتْ زِيَادَةً
على خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَالْقَوْلُ بِفَرْضِيَّةِ الزِّيَادَةِ عليها بِأَخْبَارِ
الْآحَادِ يَكُونُ قَوْلًا بِفَرْضِيَّةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ وَأَنَّهُ خِلَافُ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلَا يَلْزَمُ هذا أَبَا
حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يقول بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَإِنَّمَا يقول
بِوُجُوبِهِ وَالْفَرْقُ بين الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كما بين السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ على ما عُرِفَ في مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا عَدَدُ رَكَعَاتِ هذه الصَّلَوَاتِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَإِنْ كان
مُقِيمًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ
وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ
عَرَفْنَا ذلك بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَقَوْلُهُ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَهَذَا لِأَنَّهُ ليس في كِتَابِ
اللَّهِ عَدَدُ رَكَعَاتِ هذه الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ
الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً في حَقِّ الْمِقْدَارِ ثُمَّ زَالَ الْإِجْمَالُ بِبَيَانِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَوْلًا وَفِعْلًا كما في نُصُوصِ الزَّكَاةِ
وَالْعُشْرِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك
وَإِنْ كان مُسَافِرًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا في حَقِّهِ إحْدَى عَشْرَةَ
عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ وَثَلَاثُ وَرَكْعَتَانِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ كما في حَقِّ الْمُقِيمِ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في صَلَاةِ الْمُسَافِرِ يَقَعُ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ من الصَّلَاةِ في حَقِّ
الْمُسَافِرِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا وَيَبْطُلُ بِهِ
السَّفَرُ وَيَعُودُ إلَى حُكْمِ الْإِقَامَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ من ذَوَاتِ
الْأَرْبَعِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ
وقال الشَّافِعِيُّ أَرْبَعٌ كَفَرْضِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ
يَقْصُرَ رُخْصَةً
من مَشَايِخِنَا من لَقَّبَ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ
وَالْإِكْمَالَ رُخْصَةٌ
وَهَذَا التَّلْقِيبُ على أَصْلِنَا خَطَأٌ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ من ذَوَاتِ
الْأَرْبَعِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا حَقِيقَةً عِنْدَنَا بَلْ
هُمَا تَمَامُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَالْإِكْمَالُ ليس رُخْصَةً في حَقِّهِ بَلْ
هو إسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ
هَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال من أَتَمَّ الصَّلَاةَ في السَّفَرِ
فَقَدْ أَسَاءَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ
وَهَذَا لِأَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عن الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ
لِعَارِضٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ ولم يُوجَدْ
مَعْنَى التَّغْيِيرِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ رَأْسًا إذْ الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ
فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جميعا لِمَا يُذْكَرْ
ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَأُقِرَّتْ الرَّكْعَتَانِ على
حَالِهِمَا في حَقِّ الْمُسَافِرِ كما كَانَتَا في الْأَصْلِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى
التَّغْيِيرِ أَصْلًا في حَقِّهِ وفي حَقِّ الْمُقِيمِ وُجِدَ التَّغْيِيرُ لَكِنْ
إلَى الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ لَا إلَى السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ وَالرُّخْصَةُ
تنبىء عن ذلك فلم يَكُنْ ذلك رُخْصَةً في حَقِّهِ حَقِيقَةً
وَلَوْ سُمِّيَ فَإِنَّمَا سُمِّيَ مَجَازًا لِوُجُودِ بَعْضِ مَعَانِي
الْحَقِيقَةِ هو التَّغْيِيرُ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من الصَّلَاةِ } ولفظة ( ( ( ولفظ )
) ) لَا جُنَاحَ تُسْتَعْمَلُ
____________________
(1/91)
في
الْمُبَاحَاتِ وَالْمُرَخَّصَاتِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَالْعَزَائِمِ وَرُوِيَ عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ
عَلَيْكُمْ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَلَا فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ وَالْمُتَصَدَّقُ
عليه يَكُونُ مُخْتَارًا في قَبُولِ الصَّدَقَةِ كما في التَّصَدُّقِ من
الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُسَافِرِ تَخْفِيفًا عليه في
السَّفَرِ الذي هو مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَضَاعِفَةِ وَالتَّخْفِيفُ في
التَّخْيِيرِ فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْقَصْرِ وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى
الْإِكْمَالِ كما في الْإِفْطَارِ في شَهْرِ رَمَضَانَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْمُسَافِرِ
رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ على لِسَانِ
نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرُوِيَ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ
وَرَوَى الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ
وأبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه هَكَذَا وَرُوِيَ
عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت فُرِضَتْ الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ
رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ في
الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ في السَّفَر على ما كانت
وَرُوِيَ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما سَافَرَ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ
وَلَوْ كان الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالْإِكْمَالُ هو الْعَزِيمَةُ لَمَا تَرَكَ
الْعَزِيمَةَ إلَّا أَحْيَانًا إذْ الْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ وكان رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم لَا يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا وكان لَا
يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ في
حَقِّ الْأُمَّةِ فَأَمَّا تَرْكُ الْأَفْضَلِ أَبَدًا وَفِيهِ تَضْيِيعُ
الْفَضِيلَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في جَمِيعِ عُمْرِهِ فَمِمَّا لَا
يُحْتَمَلُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَصَرَ بِمَكَّةَ
وقال لِأَهْلِ مَكَّةَ أَتِمُّوا يا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ فَلَوْ
جَازَ الْأَرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ على الرَّكْعَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ كان يَغْتَنِمُ زِيَادَةَ الْعَمَلِ في الْحَرَمِ لِمَا لِلْعِبَادَةِ فيه
من تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَالثَّانِي أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان إمَامًا
وَخَلْفَهُ الْمُقِيمُونَ من أَهْلِ مَكَّةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ
أَرْبَعًا كيلا يَحْتَاجَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ إلَى التَّفَرُّدِ وَلِيَنَالُوا
فَضِيلَةَ الِائْتِمَامِ بِهِ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ وَحَيْثُ لم يَفْعَلْ دَلَّ
ذلك على صِحَّةِ ما قُلْنَا
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ
عليه أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى قال لهم إنِّي تَأَهَّلْتُ
بِمَكَّةَ وقد سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول من تَأَهَّلَ
بِقَوْمٍ فهم ( ( ( فهو ) ) ) منهم فَدَلَّ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ
وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْفَرْضَ ما قُلْنَا إذْ لو كان
الْأَرْبَعُ عَزِيمَةً لَمَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عليه وَلَمَا اعْتَذَرَ هو
إذْ لَا يُلَامُ على الْعَزَائِمِ وَلَا يُعْتَذَرُ عنها فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما قُلْنَا
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن الصَّلَاةِ في
السَّفَرِ فقال رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ من خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ أَيْ
خَالَفَ السُّنَّةَ اعْتِقَادًا لَا فِعْلًا
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ وكان
أَحَدُهُمَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ في السَّفَرِ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عن حَالِهِمَا
فقال لِلَّذِي قَصَرَ أنت أَكْمَلْتَ وقال لِلْآخَرِ أنت قَصَرْتَ
وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فيها أَصْلُ الْقَصْرِ لَا
صِفَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ وَالْقَصْرُ قد يَكُونُ عن الرَّكَعَاتِ وقد يَكُونُ عن
الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ وقد يَكُونُ عن الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى
الْإِيمَاءِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ لَا بِتَرْكِ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ
مُرَخَّصٌ عِنْدَنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ مع ما أَنَّ في
الْآيَةِ ما يَدُلُّ على أَنَّ الْمُرَادَ منه ليس هو الْقَصْرُ عن الرَّكَعَاتِ
وهو تَرْكُ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الْخَوْفِ وهو
خَوْفُ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ { إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ
الَّذِينَ كَفَرُوا } وَالْقَصْرُ عن الرَّكَعَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ
الْخَوْفِ بَلْ يَجُوزُ من غَيْرِ خَوْفٍ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ فَلَا يَبْقَى له خِيَارُ
الرَّدِّ شَرْعًا إذْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ
وَقَوْلُهُ الْمُتَصَدَّقُ عليه يَكُونُ مُخْتَارًا في الْقَبُولِ
قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ حَكَمَ عَلَيْكُمْ على أَنَّ
التَّصَدُّقَ من اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ يَكُونُ
عِبَارَةً عن الْإِسْقَاطِ كَالْعَفْوِ من اللَّهِ تَعَالَى وما ذُكِرَ من
الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هذا ليس تَرْفِيهًا بِقَصْرِ شَطْرِ الصَّلَاةِ
بَلْ لم يُشْرَعْ في السَّفَرِ إلَّا هذا الْقَدْرُ لِمَا ذَكَرْنَا من
الدَّلَائِلِ وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه لَا تَقُولُوا قَصْرًا
فإن الذي فَرَضَهَا في الْحَضَرِ أَرْبَعًا هو الذي فَرَضَهَا في السَّفَرِ
رَكْعَتَيْنِ وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ إبْطَالُ قَدْرِ الْعِبَادَاتِ
الْمُوَظَّفَةِ عليهم بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا أو الْفَجْرَ
ثَلَاثًا أو أَرْبَعًا لَا يَقْدِرُ على ذلك كَذَا هذا وَلَا قَصْرَ في الْفَجْرِ
وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ سُقُوطِ
الشَّطْرِ مِنْهُمَا لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ
وَكَذَا لَا قَصْرَ في السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّ الْقَصْرَ
بِالتَّوْقِيفِ وَلَا تَوْقِيفَ
____________________
(1/92)
ثَمَّةَ
وَمِنْ الناس من قال بِتَرْكِ السُّنَنِ في السَّفَرِ
وَرُوِيَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قال لو أُتِيتَ بِالسُّنَنِ في السَّفَرِ
لَأَتْمَمْتُ الْفَرِيضَةَ
وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ على حَالَةِ الْخَوْفِ على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ
الْمُكْثُ لِأَدَاءِ السُّنَنِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ
لو اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا بَلْ الْمَفْرُوضُ
رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ
وَالشَّطْرُ الثَّانِي يَقَعُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَقَعُ الْكُلُّ
فَرْضًا حتى لو لم يَقْعُدْ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ
فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ في حَقِّهِ
وَهِيَ فَرْضٌ وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَوْلَى
عِنْدَهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ في الْمَكْتُوبَاتِ بِلَا خِلَافٍ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنَّهُ
يَجُوزُ في الْوَقْتِ وفي خَارِجِ الْوَقْتِ وفي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ
وَاقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ يَجُوزُ في الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ في
خَارِجِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا لِأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ قد تَقَرَّرَ
رَكْعَتَيْنِ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالِاقْتِدَاءِ
بِالْمُقِيمِ فَكَانَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضًا في حَقِّهِ فَيَكُونُ هذا
اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في حَقِّ الْقَعْدَةِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْوَقْتِ وَلَا في اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ
بِالْمُسَافِرِ وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ أو في وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ في الرَّكْعَتَيْنِ في صَلَاةٍ
ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ فَرْضٌ وقد فَاتَ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ
بِالْقَضَاءِ
فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ وَإِنْ كانت هِيَ
الْأَرْبَعُ عِنْدَهُ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ
عِنْدَهُ
وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ في الظُّهْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على
نَفْسِهِ في الْوَقْتِ أو بَعْدَ ما خَرَجَ الْوَقْتُ فإن عليه أَنْ يُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا يَجُوزُ له الْقَصْرُ
لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ في حَقِّ الْمُسَافِرِ هِيَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا
وَإِنَّمَا صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُقِيمِ
بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وقد بَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ بِبُطْلَانِ الِاقْتِدَاءِ
فَيَعُودُ حُكْمُ الْأَصْلِ
وعنده لَمَّا كانت الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الْقَصْرُ
رُخْصَةً فإذا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَتَأَكَّدَ
عليه وُجُوبُ الْأَرْبَعِ فَلَا تَجُوزُ له الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذلك
وَيَسْتَوِي في الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ على الْمُسَافِرِ من الصَّلَاةِ سَفَرُ
الطَّاعَةِ من الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَسَفَرُ الْمُبَاحِ
كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ
وَالْبَغْيِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَثْبُتُ رُخْصَةُ الْقَصْرِ في سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن رُخْصَةَ الْقَصْرِ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا أو نَظَرًا على
الْمُسَافِرِ وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَالتَّخْفِيفَ
وَلَنَا أَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين مُسَافِرٍ
وَمُسَافِرٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا وَيَسْتَوِي فِيمَا
ذَكَرْنَا من أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ صَلَاةُ
الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ فَالْخَوْفُ لَا يُؤَثِّرُ في نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُقِيمًا
كان الْخَائِفُ أو مُسَافِرًا وهو قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ في سُقُوطِ اعْتِبَارِ بَعْضِ ما يُنَافِي
الصَّلَاةَ في الْأَصْلِ من الْمَشْيِ وَنَحْوِ ذلك على ما نَذْكُرُهُ في صَلَاةِ
الْخَوْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا فَاَلَّذِي
يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجُ من
عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ
أَحَدُهَا مُدَّةُ السَّفَرِ وَأَقَلُّهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ أَصْحَابِ
الظَّوَاهِرِ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مُقَدَّرٌ
وَاخْتَلَفُوا في التَّقْدِيرِ
قال أَصْحَابُنَا مَسِيرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ
الْأَقْدَامِ
وهو الْمَذْكُورُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قَدَّرَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَجَعَلَ لِكُلِّ
يَوْمٍ خَمْسَ فَرَاسِخَ وَمِنْهُمْ من قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ
وقال مَالِكٌ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ إثنا عَشَرَ مِيلًا
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الشَّافِعِيِّ فيه قِيلَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا
وهو قَرِيبٌ من قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَافِلَةَ
لَا تَقْطَعُ في يَوْمٍ أَكْثَرَ من خَمْسَةِ فَرَاسِخَ وَقِيلَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ
وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَثْبَتُ أَقْوَالِهِ إنه مُقَدَّرٌ
بِيَوْمَيْنِ
أَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وإذا
ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من
الصَّلَاةِ } عَلَّقَ الْقَصْرَ بِمُطْلَقِ الضَّرْبِ في الْأَرْضِ فَالتَّقْدِيرُ
تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال يَمْسَحُ الْمُقِيمُ
يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا جَعَلَ
لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا
وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا
وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَلُّ من هذه الْمُدَّةِ
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ
____________________
(1/93)
ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ إلَّا مع مَحْرَمٍ أو زَوْجٍ فَلَوْ لم تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلَاثِ
لم يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَعْنًى وَالْحَدِيثَانِ في حَدِّ
الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِمَا إنْ كان
تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ نَسْخًا مع ما أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ
لِأَنَّ الضَّرْبَ في الْأَرْضِ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن السَّيْرِ فيها
مُسَافِرًا يُقَالُ ضَرَبَ في الْأَرْضِ أَيْ سَارَ فيها مُسَافِرًا فَكَانَ
الضَّرْبُ في الْأَرْضِ عِبَارَةً عن سَيْرٍ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُسَافِرًا
لَا مُطْلَقَ السَّيْرِ وَالْكَلَامُ في أَنَّهُ هل يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَيْرٍ
مُطْلَقٍ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ
وَكَذَا مُطْلَقُ الضَّرْبِ في الْأَرْضِ يَقَعُ على سَيْرٍ يُسَمَّى سَفَرًا
وَالنِّزَاعُ في تَقْدِيرِهِ شَرْعًا وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عن ذلك وقد وَرَدَ
الْحَدِيثُ بِالتَّقْدِيرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال يا
أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ
وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ
وهو غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا ثبتت ( ( ( تثبت ) ) )
لِضَرْبِ مَشَقَّةٍ يَخْتَصُّ بها الْمُسَافِرُونَ وَهِيَ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ
وَالسَّيْرِ وَالنُّزُولِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ رَحْلِهِ من
غَيْرِ أَهْلِهِ وَحَطِّهِ في غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرِ وَهَذِهِ الْمَشَقَّاتُ
تَجْتَمِعُ في يَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحُطُّ الرَّحْلَ في
غَيْرِ أَهْلِهِ وفي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُهُ من غَيْرِ أَهْلِهِ
وَالسَّيْرُ مَوْجُودٌ في الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ
لَا يُوجَدُ فيه إلَّا مَشَقَّةُ السَّيْرِ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الرَّحْلَ من
وَطَنِهِ وَيَحُطُّهُ في مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَيُقَدَّرُ بِيَوْمَيْنِ لِهَذَا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِكْمَالِ كان
ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ إلَّا بمثله وما دُونَ
الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فيه وَالثَّلَاثُ مُجْمَعٌ عليه فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ
بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وما ذُكِرَ من الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَنْ سَافَرَ يَوْمًا
على قَصْدِ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فإنه يَلْحَقُهُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ
وَالْحَطِّ وَالسَّيْرِ على ما ذُكِرَ وَمَعَ هذا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِاجْتِمَاعِ الْمَشَقَّاتِ في يَوْمٍ
وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ في الْيَوْمِ
الثَّانِي مَشَقَّةُ حَمْلِ الرَّحْلِ من غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرُ وَحَطُّهُ
في غَيْرِ أَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ
الْأَقْدَامِ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ لِأَنَّ أَبْطَأَ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ
وَالْأَسْرَعَ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ فَكَانَ أَوْسَطُ أَنْوَاعِ
السَّيْرِ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ
وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَلِأَنَّ
الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ يَتَجَاذَبَانِ فَيَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ على الْوَسَطِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ سَارَ في الْمَاءِ
يَوْمًا وَذَلِكَ في الْبَرِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ
لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلْإِسْرَاعِ
وَكَذَا لو سَارَ في الْبَرِّ إلَى مَوْضِعٍ في يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ وَأَنَّهُ
بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَقْصُرُ
اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ وَعَلَى هذا إذَا سَافَرَ في الْجِبَالِ
وَالْعَقَبَاتِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فيها لَا في السَّهْلِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِمَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو
بِالْمَرَاحِلِ في السَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ
في كل ذلك السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فيه وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الناس فَيُرْجَعُ
إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَالتَّقْدِيرُ بِالْفَرَاسِخِ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ
وقال أبو حَنِيفَةَ إذَا خَرَجَ إلَى مِصْرٍ في ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَمْكَنَهُ
أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ من طَرِيقٍ آخَرَ في يَوْمٍ وَاحِدٍ قَصَرَ
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان لِغَرَضٍ صَحِيحٍ قَصَرَ وَإِنْ كان من غَيْرِ غَرَضٍ
صَحِيحٍ لم يَقْصُرْ وَيَكُونُ كَالْعَاصِي في سَفَرِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا
لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَسِيرَةَ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ على قَصْدِ السَّفَرِ وقد وُجِدَ
وَالثَّانِي نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ السَّيْرَ قد يَكُونُ سَفَرًا وقد
لَا يَكُونُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَخْرُجُ من مِصْرِهِ إلَى مَوْضِعٍ
لِإِصْلَاحِ الضَّيْعَةِ ثُمَّ تَبْدُو له حَاجَةٌ أُخْرَى إلَى الْمُجَاوَزَةِ
عنه إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ليس بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ
يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ من مُدَّةِ السَّفَرِ لَا لِقَصْدِ
السَّفَرِ فَلَا بُدَّ من النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ
وَالْمُعْتَبَرُ في النِّيَّةِ هو نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ حتى يَصِيرَ
الْعَبْدُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَوْلَاهُ وَالزَّوْجَةُ بَنِيَّةِ الزَّوْجِ
وَكُلُّ من لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ لِأَنَّ
حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَأَمَّا الْغَرِيمُ مع صَاحِبِ الدَّيْنِ
فَإِنْ كان مَلِيًّا فَالنِّيَّةُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ
وَالْخُرُوجُ من يَدِهِ وَإِنْ كان مُفْلِسًا فَالنِّيَّةُ إلَى الطَّالِبِ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ من يَدِهِ فَكَانَ تَابِعًا له
وَالثَّالِثُ الْخُرُوجُ من عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا
بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ ما يَخْرُجْ من عُمْرَانِ الْمِصْرِ وَأَصْلُهُ ما
رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ من الْبَصْرَةِ بريد ( (
( يريد ) ) ) الْكُوفَةَ صلى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ
وقال لو جَاوَزْنَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ
إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كانت مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ
عَفْوٌ وَفِعْلُ السَّفَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ من الْمِصْرِ
فما لم يَخْرُجْ لَا يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ =
ج2.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
مُسَافِرًا
وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ في مَوْضِعٍ صَالِحٍ
لِلْإِقَامَةِ حَيْثُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ
هُنَاكَ قَارَنَتْ الْفِعْلَ وهو تَرْكُ السَّفَرِ لِأَنَّ تَرْكَ الْفِعْلِ
فِعْلٌ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَسَوَاءً خَرَجَ في أَوَّلِ
الْوَقْتِ أو في وَسَطِهِ أو في آخِرِهِ حتى لو بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما
يَسَعُ لِأَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ فإنه يَقْصُرُ في ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وقال محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ إنَّمَا يَقْصُرُ
إذَا خَرَجَ قبل الزَّوَالِ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَالِ فإنه يُكْمِلُ
الظُّهْرَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْعَصْرَ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا مَضَى من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يُمْكِنُهُ أَدَاءُ
أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فيه يَجِبُ عليه الْإِكْمَالُ وَلَا يَجُوزُ له الْقَصْرُ
وَإِنْ مَضَى دُونَ ذلك اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فيه وَإِنْ بَقِيَ من الْوَقْتِ
مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا غَيْرُ أو لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ
يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا
أَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فبناه ( ( ( فبناء ) ) ) على أَنَّ
الصَّلَاةَ تَجِبُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ أو في آخِرِهِ فَعِنْدَهُمْ تَجِبُ في
أَوَّلِ الْوَقْتِ فَكُلَّمَا دخل الْوَقْتُ أو مَضَى منه مِقْدَارُ ما يَسَعُ
لِأَدَاءِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ عليه أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَلَا يَسْقُطُ
شَطْرُهَا بِسَبَبِ السَّفَرِ بَعْدَ ذلك كما إذَا صَارَتْ دَيْنًا في الذِّمَّةِ
بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَسْقُطُ الشَّطْرُ كَذَا هَهُنَا
وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا لَا تَجِبُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ على
التَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَجِبُ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ
وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إلَى الْمُصَلِّي من حَيْثُ الْفِعْلِ حتى أَنَّهُ إذَا
شَرَعَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ في ذلك الْوَقْتِ وَكَذَا إذَا شَرَعَ في
وَسَطِهِ أو آخِرِهِ وَمَتَى لم يُعَيِّنْ بِالْفِعْلِ حتى بَقِيَ من الْوَقْتِ
مِقْدَارُ ما يُصَلِّي فيه أَرْبَعًا وهو مُقِيمٌ يَجِبُ عليه تَعْيِينُ ذلك
الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا حتى يَأْثَمَ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ وَإِنْ كان لَا
يَتَعَيَّنُ لِلْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ شَرْعًا حتى لو صلى فيه التَّطَوُّعَ جَازَ
وإذا كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ أَدَاءُ الْأَرْبَعِ وَاجِبًا قبل الشُّرُوعِ
فإذا نَوَى السَّفَرَ وَخَرَجَ من الْعُمْرَانِ حتى صَارَ مُسَافِرًا تَجِبُ عليه
صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ إنْ كان الْوَقْتُ فَاضِلًا على الْأَدَاءِ يَجِبُ
عليه أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَيَتَعَيَّنُ
ذلك بِفِعْلِهِ وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ بِالْفِعْلِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ يَتَعَيَّنُ
آخِرَ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ تَعْيِينِهِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا
وَكَذَا إذَا لم يَكُنْ الْوَقْتُ فَاضِلًا على الْأَدَاءِ وَلَكِنَّهُ يَسَعُ
لِلرَّكْعَتَيْنِ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ
ويبني على هذا الْأَصْلِ الطَّاهِرَةُ إذَا حَاضَتْ في آخِرِ الْوَقْتِ أو نَفِسَتْ
وَالْعَاقِلُ إذَا جُنَّ أو أغمى عليه وَالْمُسْلِمُ إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ
بِاَللَّهِ وقد بَقِيَ من الْوَقْتِ ما يَسَعُ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُهُمْ
الْفَرْضُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ في آخِرِ الْوَقْتِ
عِنْدَنَا إذَا لم يُوجَدْ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فيه
لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ على غَيْرِ الْأَهْلِ ولم يُوجَدْ وَعِنْدَهُمْ
يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ
وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ في أَوَّلِهِ
وَدَلَائِلُ هذا الْأَصْلِ تُعْرَفُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَوْ صلى الصَّبِيُّ
الْفَرْضَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قبل
الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يُجْزِيهِ عن حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا
له
وَجْهُ قَوْلِهِ إن عَدَمَ الْوُجُوبِ عليه كان نَظَرًا له وَالنَّظَرُ له هُنَا
الوجوب ( ( ( للوجوب ) ) ) كيلا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ
فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ صَحَّتْ منه نَظَرًا له وهو الثَّوَابُ وَلَا ضَرَرَ
فيه لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِالْمِيرَاثِ إنْ لم يَزُلْ بِالْوَصِيَّةِ
وَلَنَا أَنَّ في نَفْسِ الْوُجُوبِ ضَرَرًا فَلَا يَثْبُتُ مع الصَّبِيِّ كما لو
لم يَبْلُغْ فيه وَإِنَّمَا انْقَلَبَ نَفْعًا بحالة ( ( ( لحالة ) ) ) اتَّفَقَتْ
وَهِيَ الْبُلُوغُ فيه وإنه نَادِرٌ فَبَقِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ نَفْعٌ
في الْأَصْلِ
الْمُسْلِمُ إذَا صلى ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ
ثُمَّ أَسْلَمَ في الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا إعَادَةَ عليه وَعَلَى هذا الْحَجُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } عَلَّقَ حَبْطَ
الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ على الرِّدَّةِ دُونَ نَفْسِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ
حَصَلَتْ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقُرْبَةِ فَلَا يُبْطِلُهَا كما لو تَيَمَّمَ
ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
}
وقَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ }
عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِنَفْسِ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ من عَلَّقَ حُكْمًا بِشَرْطَيْنِ وَعَلَّقَهُ
بِشَرْطٍ فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من التَّعْلِيقَيْنِ وَيَنْزِلُ
عِنْدَ أَيِّهِمَا وُجِدَ كَمَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت حَرٌّ إذَا جاء يَوْمُ
الْخَمِيسِ ثُمَّ قال له أنت حَرٌّ إذَا جاء يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْطُلُ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَلْ إذَا جاء يَوْمُ الْخَمِيسِ عَتَقَ وَلَوْ كان بَاعَهُ
فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ولم يَكُنْ في مِلْكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَجَاءَ
يَوْمُ الْجُمُعَةِ وهو في مِلْكِهِ عَتَقَ بِالتَّعْلِيقِ الْآخَرِ
وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ ليس بِعِبَادَةٍ وَإِنَّمَا هو طَهَارَةٌ وَأَثَرُ
الرِّدَّةِ في إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مع الْكُفْرِ
لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالرِّدَّةُ لَا
تُبْطِلُهَا لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا على الْإِسْلَامِ فَبَقِيَتْ
____________________
(1/95)
الْحَاجَةُ
على ما ذَكَرْنَا في فَصْلِ التَّيَمُّمِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فبناه ( ( ( فبناء ) ) ) على
أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بين أَصْحَابِنَا وهو مِقْدَارُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ
في آخِرِ الْوَقْتِ
قال الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا أن الْوُجُوبَ
يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يؤدي فيه
الْفَرْضُ وهو اخْتِيَارُ الْقُدُورِيُّ وبنى على هذا الْأَصْلِ الْحَائِضُ إذَا
طَهُرَتْ في آخِرِ الْوَقْتِ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ
الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عليه وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أو سَافَرَ الْمُقِيمُ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ من
أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يتعين ( ( ( يتغير ) ) ) إلَّا إذَا
بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يُمْكِنُ فيه الْأَدَاءُ وَعَلَى الْقَوْلِ
الْمُخْتَارِ يَجِبُ الْفَرْضُ ويتعين ( ( ( ويتغير ) ) ) ( الْأَدَاءُ ) وَإِنْ
بَقِيَ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ
وَأَدَاءُ كل الْفَرْضِ في هذا الْقَدْرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَاسْتَحَالَ وُجُوبُ
الْأَدَاءِ
وَلَنَا أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ على الْمُكَلَّفِ لِلْأَدَاءِ
فِعْلًا على ما مَرَّ فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ
يَجِبُ تَعْيِينُهُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ فِعْلًا بِالْأَدَاءِ وَإِنْ بَقِيَ
مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِلْبَعْضِ وَجَبَ تَعْيِينُهُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ لِأَنَّ
تَعْيِينَ كل الْوَقْتِ لِكُلِّ الْعِبَادَةِ تَعْيِينُ كل أَجْزَائِهِ لِكُلِّ
أَجْزَائِهَا ضَرُورَةً
وفي تَعْيِينِ جُزْءٍ من الْوَقْتِ لِجُزْءٍ من الصَّلَاةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ
الصَّلَاةَ لَا تَتَجَزَّأُ فإذا وَجَبَ الْبَعْضُ فيه وَجَبَ الْكُلُّ فِيمَا
يَتَعَقَّبُهُ من الْوَقْتِ إنْ كان لَا يَتَعَقَّبُهُ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ وَإِنْ
تَعَقَّبَهُ يَجِبُ الْكُلُّ ليؤدي في وَقْتٍ آخَرَ وإذا لم يَبْقَ من الْوَقْتِ
إلَّا قَدْرُ ما يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَ تَحْصِيلُ التَّحْرِيمَةِ
ثُمَّ تَجِبُ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّحْرِيمَةِ
فَيُؤَدِّيهَا في الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْفَجْرِ وفي
الْفَجْرِ يُؤَدِّيهَا في وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ على التَّدْرِيجِ الذي
ذَكَرْنَا قد تَقَرَّرَ وقد عَجَزَ عن الْأَدَاءِ فَيَقْضِي وَهَذَا بِخِلَافِ
الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ من يَوْمِ رَمَضَانَ حَيْثُ
لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذلك الْيَوْمِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَقْتَ مِعْيَارٌ
لِلصَّوْمِ فَكُلُّ جُزْءٍ منه على الْإِطْلَاقِ لَا يَصْلُحُ لِلْجُزْءِ
الْأَوَّلِ من الْعِبَادَةِ بَلْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الْوَقْتِ مُتَعَيَّنٌ
لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الْعِبَادَةِ
ثُمَّ الثَّانِي منه لِلثَّانِي منها
وَالثَّالِثُ لِلثَّالِثِ وَهَكَذَا
فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الوقت ( ( ( العبادة ) ) ) في
الْجُزْءِ الثَّانِي أو الْخَامِسِ من الْوَقْتِ
وَلَا الْجُزْءِ الْخَامِسِ من الْعِبَادَةِ من الْجُزْءِ السَّادِسِ من الْوَقْتِ
فإذا فَاتَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الْوَقْتِ وهو ليس بِأَهْلٍ فلم يَجِبْ
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الْعِبَادَةِ لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ على غَيْرِ
الْأَهْلِ فَبَعْدَ ذلك وَإِنْ أَسْلَمَ في الْجُزْءِ الثَّانِي أو الْعَاشِرِ لَا
يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الصَّوْمِ في ذلك الْجُزْءِ من
الْوَقْتِ لِأَنَّهُ ليس بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِهِ فيه
وَلِأَنَّ وُجُوبَ كل جُزْءٍ من الصَّوْمِ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ وهو مَحَلُّ
أَدَائِهِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي من الصوم ( ( ( اليوم ) ) ) لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ
يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الْعِبَادَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ
وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْآخَرِ
لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَلَا أَدَاءً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ
لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ جُزْءٍ مُطْلَقٍ من الْوَقْتِ يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ فيه
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الصَّلَاةِ إذْ التَّحْرِيمَةُ منها في ذلك الْوَقْتِ
لِأَنَّ الْوَقْتَ ليس بِمِعْيَارٍ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أعلم
( ( ( الموفق ) ) )
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ في حَقِّ
الْحَائِضِ إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا فَأَمَّا إذَا كانت أَيَّامُهَا دُونَ
الْعَشَرَةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عليها الصَّلَاةُ إذَا طَهُرَتْ وَعَلَيْهَا من
الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما تَغْتَسِلُ فيه فَإِنْ كان عليها من الْوَقْتِ ما لَا
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِلَ فيه أو لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ
فَلَيْسَ عليها تِلْكَ الصَّلَاةُ حتى لَا يَجِبَ عليها الْقَضَاءُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كانت أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لَا يُحْكَمُ
بِخُرُوجِهَا من الْحَيْضِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ ما لم تَغْتَسِلْ أو
يَمْضِي عليها وَقْتُ صَلَاةٍ تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلَاةُ دَيْنًا عليها وإذا كانت
أَيَّامُهَا عَشَرَةً بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا عن
الْحَيْضِ فإذا أَدْرَكَتْ جُزْءًا من الْوَقْتِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ
الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَتْ من الِاغْتِسَالِ أو لم تَتَمَكَّنْ بِمَنْزِلَةِ
كَافِرٍ أَسْلَمَ وهو جُنُبٌ أو صَبِيٍّ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ في آخِرِ
الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَ من الِاغْتِسَالِ
في الْوَقْتِ أو لم يَتَمَكَّنْ
وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَ هو خُرُوجُ اللوث ( ( ( الدم ) ) ) في وَقْتٍ مُعْتَادٍ
فإذا انْقَطَعَ اللوث ( ( ( الدم ) ) ) كان يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِهِ
لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ما انْعَدَمَ حَقِيقَةً انْعَدَمَ حُكْمًا إلَّا أَنَّا
لَا نَحْكُمُ بِخُرُوجِهَا من الْحَيْضِ ما لم تَغْتَسِلْ إذَا كانت أَيَّامُهَا
أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
قال الشَّعْبِيُّ حدثني بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا من الصَّحَابَةِ أَنَّ الزَّوْجَ
أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا ما لم تَغْتَسِلْ
وكان الْمَعْنَى في ذلك أَنَّ نَفْسَ الِانْقِطَاعِ ليس بِدَلِيلٍ على
الطَّهَارَةِ
لِأَنَّ ذلك كَثِيرًا ما يَتَخَلَّلُ في زَمَانِ الْحَيْضِ فَشُرِطَتْ زِيَادَةُ
____________________
(1/96)
شَيْءٍ
له أَثَرٌ في التَّطْهِيرِ وهو الِاغْتِسَالُ أو وُجُوبُ الصَّلَاةِ عليها
لِأَنَّهُ من أَحْكَامِ الطُّهْرِ
بِخِلَافِ ما إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِجْمَاعَ
وَمِثْلَ هذا الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ مُنْعَدِمَانِ
وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ قد قام لنا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ على الْعَشَرَةِ
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تستقصي في كِتَابِ الْحَيْضِ وَهَلْ يُبَاحُ لِلزَّوْجِ
قربانها ( ( ( قرانها ) ) ) قبل الِاغْتِسَالِ إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُبَاحُ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُبَاحُ ما لم
تَغْتَسِلْ
وإذا كانت أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا قبل
الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ
وإذا مَضَى عليها وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ
لم تَغْتَسِلْ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما يُعْرَفُ في كِتَابِ الْحَيْضِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا
فَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِوُجُودِ الْإِقَامَةِ
وَالْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا صَرِيحُ نِيَّةِ
الْإِقَامَةِ وهو أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في مَكَان
وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ من أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ نِيَّةُ
الْإِقَامَةِ
وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ
وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِقَامَةِ
أَمَّا نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فَأَمْرٌ لَا بُدَّ منه عِنْدَنَا حتى لو دخل مصر ( (
( مصرا ) ) ) أو ( ( ( ومكث ) ) ) مكث فيه شَهْرًا أو أَكْثَرَ لِانْتِظَارِ
الْقَافِلَةِ أو لِحَاجَةٍ أُخْرَى يقول أَخْرُجُ الْيَوْمَ أو غَدًا ولم يَنْوِ
الْإِقَامَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَامَ
رسول اللَّهِ بِتَبُوكَ كان مُقِيمًا وَإِنْ لم يَنْوِ الْإِقَامَةَ
وَرَسُولُ اللَّهِ أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أو عِشْرِينَ
يَوْمًا
وفي قَوْلٍ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ كان مُقِيمًا وَلَا يُبَاحُ له
الْقَصْرُ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ إن الْإِقَامَةَ مَتَى وُجِدَتْ
حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ الصَّلَاةُ
قَلَّتْ الْإِقَامَةُ أو كَثُرَتْ لِأَنَّهَا ضِدُّ السَّفَرِ وَالشَّيْءُ
يَبْطُلُ بِمَا يُضَادُّهُ إلَّا أَنَّ النبي أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ
يَوْمًا وَقَصَرَ الصَّلَاةَ فَتَرَكْنَا هذا الْقَدْرَ بِالنَّصِّ فَنَأْخُذُ
بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ
وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ على النَّحْوِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ
يَبْطُلَ السَّفَرُ بِقَلِيلِ الْإِقَامَةِ
لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالسَّفَرُ انْتِقَالٌ وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ
بِمَا يُضَادُّهُ فَيَنْعَدِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّ قَلِيلَ
الْإِقَامَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو عن ذلك
عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ
في الْكَثِيرِ
وَالْأَرْبَعَةُ في حَدِّ الْكَثْرَةِ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَثِيرِ أَنْ
يَكُونُ جَمْعًا وَالثَّلَاثَةُ وَإِنْ كانت جَمْعًا لَكِنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ
فَكَانَتْ في حَدِّ الْقِلَّةِ من وَجْهٍ فلم تَثْبُتْ الْكَثْرَةُ الْمُطْلَقَةُ
فإذا صَارَتْ أَرْبَعَةً صَارَتْ في حَدِّ الْكَثْرَةِ على الْإِطْلَاقِ لِزَوَالِ
مَعْنَى الْقِلَّةِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَعْدِ بن أبي
وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ من قُرَى نَيْسَابُورَ
شَهْرَيْنِ وكان يَقْصُرُ الصَّلَاةَ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا
وكان يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وكان يَقْصُرُ
وَرُوِيَ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال شَهِدْتُ مع رسول
اللَّهِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا
يُصَلِّي إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قال لِأَهْلِ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا
قَوْمٌ سَفْرٌ وَالْقِيَاسُ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ
وَأَمَّا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا
وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَحُجَّتُهُمَا ما
ذَكَرْنَا
وَرُوِيَ أَنَّ النبي رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ
قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ
على الثَّلَاثِ تُوجِبُ حُكْمَ الْإِقَامَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُمَا قَالَا إذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وفي عَزْمِكَ أَنْ
تُقِيمَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا
تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فاقصر
وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ من جُمْلَةِ
الْمَقَادِيرِ وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا فَالظَّاهِرُ إنهما
سَمَاعًا عن رسول اللَّهِ
وَرَوَى عبد اللَّهِ بن عباسث ( ( ( عباس ) ) ) وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مع أَصْحَابِهِ دَخَلُوا مَكَّةَ صَبِيحَةَ
الرَّابِعِ من ذِي الْحِجَّةِ وَمَكَثُوا ذلك الْيَوْمَ وَالْيَوْمَ الْخَامِسَ
وَالْيَوْمَ السَّادِسَ وَالْيَوْمَ السَّابِعَ فلما كان صَبِيحَةُ الْيَوْمِ
الثَّامِنِ
وهو يَوْمُ التَّرْوِيَةِ خَرَجُوا إلَى مِنًى
وكان رسول اللَّهِ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ وقد وَطَّنُوا
أَنْفُسَهُمْ على إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ دَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ
بِالْأَرْبَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ
وما رُوِيَ من الحديث فَلَيْسَ فيه ما يُشِيرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ
الْإِقَامَةِ بِالْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ
حَاجَتَهُمْ تَرْتَفِعُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ فَرَخَّصَ بِالْمُقَامِ ثَلَاثًا
لِهَذَا لَا لِتَقْدِيرِ
____________________
(1/97)
الْإِقَامَةِ
وَأَمَّا اتِّحَادُ الْمَكَانِ فَالشَّرْطُ نِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ في
مَكَان وَاحِدٍ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالُ يُضَادُّهُ وَلَا
بُدَّ من الِانْتِقَالِ في مَكَانَيْنِ وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا نَوَى
الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في مَوْضِعَيْنِ فَإِنْ كانا
مِصْرًا وَاحِدًا أو قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ
حُكْمًا
أَلَا ترى ( ( ( يرى ) ) ) أَنَّهُ لو خَرَجَ إلَيْهِ مُسَافِرًا لم يَقْصُرْ
فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وهو نِيَّةُ كَمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ في مَكَان
وَاحِدٍ فَصَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نحو مَكَّةَ وَمِنًى أو
الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أو قَرْيَتَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مِصْرٌ وَالْآخَرُ
قَرْيَةٌ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو خَرَجَ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ يَقْصُرُ فلم يُوجَدْ
الشَّرْطُ وهو نِيَّةُ الْإِقَامَةِ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
فَلَغَتْ نِيَّتُهُ فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ في
أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَإِنْ
دخل أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الذي نَوَى الْمُقَامَ فيه بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ
مُقِيمًا وَإِنْ دخل الْمَوْضِعَ الذي نَوَى الْإِقَامَةَ فيه بِاللَّيَالِيِ
يَصِيرُ مُقِيمًا ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ
مُسَافِرًا
لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرجل ( ( ( الرحل ) ) ) حَيْثُ يَبِيتُ فيه
أَلَا تَرَى إنه إذَا قِيلَ لِلسُّوقِيِّ أَيْنَ تَسْكُنُ يقول في مَحَلَّةِ كَذَا
وهو بِالنَّهَارِ يَكُونُ بِالسُّوقِ
وَذُكِرَ في كِتَابِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ الْحَاجَّ إذَا دخل مَكَّةَ في أَيَّامِ
الْعَشْرِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أو دخل قبل أَيَّامِ
الْعَشْرِ لَكِنْ بَقِيَ إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَقَلُّ من خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا وَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من الْخُرُوجِ
إلَى عَرَفَاتٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّةُ إقَامَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
فَلَا يَصِحُّ
وَقِيلَ كان سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بن أَبَانَ هذه الْمَسْأَلَةُ وَذَلِكَ
أَنَّهُ كان مَشْغُولًا بِطَلَبِ الحديث قال فَدَخَلْتُ مَكَّةَ في أَوَّلِ
الْعَشْرِ من ذِي الْحِجَّةِ مع صَاحِبٍ لي وَعَزَمْتُ على الْإِقَامَةِ شَهْرًا
فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ فقال
أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ فلما رَجَعْتُ من مِنًى
بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ على أَنْ أُصَاحِبَهُ وَجَعَلْتُ
أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فقال لي صَاحِبُ أبي حَنِيفَةَ أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ مُقِيمٌ
بِمَكَّةَ فما لم تَخْرُجْ منها لَا تَصِيرُ مُسَافِرًا فَقُلْت أَخْطَأْتُ في
مَسْأَلَةٍ في مَوْضِعَيْنِ فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ وَاشْتَغَلْتُ
بِالْفِقْهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هذه الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ مَبْلَغُ عِلْمِ
الْفِقْهِ فَيَصِيرُ مبعثه لِلطَّلَبَةِ على طَلَبِهِ
وَأَمَّا الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ
وَالْقَرَارِ في الْعَادَةِ نَحْوُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَأَمَّا الْمَفَازَةُ
وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ حتى لو نَوَى
الْإِقَامَةَ في هذه الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا
كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في الْأَعْرَابِ
وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ في مَوْضِعٍ
وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هذا
إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فيه خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ
مُقِيمًا كما في الْقَرْيَةِ
وَرُوِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُمْ لم يَصِيرُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هذا إذَا نَوَى
الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فيه لَا يَصِحُّ ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي
يُوسُفَ في الْعُيُونِ فَصَارَ الْحَاصِلُ إن عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَصِيرُ
مُقِيمًا في الْمَفَازَةِ
وَإِنْ كان ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذلك الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَعَلَى هذا الْإِمَامُ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ
مع الْجُنْدِ وَمَعَهُمْ أَخْبِيَةٌ وَفَسَاطِيطُ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا في الْمَفَازَةِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ
الْقَرَارِ وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ في الْأَصْلِ فَكَانَتْ
النِّيَّةُ لَغْوًا وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً من مَدَائِنِ أَهْلِ
الْحَرْبِ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ على إقَامَةِ خمسة ( ( ( خمس ) ) ) عَشَرَ
يَوْمًا لم تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَيَقْصُرُونَ وَكَذَا إذَا نَزَلُوا
الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا في الْحِصْنِ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كَانُوا في الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ
الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا في الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ
وقال زُفَرُ في الْفَصْلَيْنِ جميعا إنْ كانت الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ
لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ وَإِنْ كانت لِلْعَدُوِّ لم تَصِحَّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الشَّوْكَةَ إذَا كانت لِلْمُسْلِمِينَ يَقَعُ
الْأَمْنُ لهم من إزْعَاجِ الْعَدُوِّ إيَّاهُمْ فَيُمْكِنَهُمْ الْقَرَارُ
ظَاهِرًا فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ صَادَفَتْ مَحَلِّهَا فَصَحَّتْ وأبو يُوسُفَ
يقول الأبنية مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فيها
بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ
وقال إنَّا نُطِيلُ الثَّوَاءَ في أَرْضِ الْحَرْبِ فقال صَلِّ رَكْعَتَيْنِ حتى
تَرْجِعَ إلَى أَهْلِكَ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْقَرَارِ
وَإِنَّمَا تَصِحُّ في مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلْقَرَارِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَوْضِعَ
قَرَارِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَارِبِينَ لِجَوَازِ أَنْ يُزْعِجَهُمْ الْعَدُوُّ
سَاعَةً فَسَاعَةً لِقُوَّةٍ تَظْهَرُ لهم لِأَنَّ الْقِتَالَ سِجَالٌ أو تَنْفُذُ
لهم في الْمُسْلِمِينَ حِيلَةٌ لِأَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ فلم تُصَادِفْ
النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ من الْمُكْثِ هُنَالِكَ
فَتْحُ الْحِصْنِ دُونَ التَّوَطُّنِ وَتَوَهُّمُ انْفِتَاحِ الْحِصْنِ في كل
سَاعَةٍ قَائِمٌ فَلَا
____________________
(1/98)
تَتَحَقَّقُ
نِيَّتُهُمْ إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا
قَالَا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الْعَدْلِ الْبُغَاةَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ في غَيْرِ مِصْرٍ أو حَاصَرُوهُمْ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ في الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ
وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ في بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُونَ مُقِيمِينَ أَبَدًا وَإِنْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ
مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْإِقَامَةُ في
الْمَفَاوِزِ دُونَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى فَكَانَتْ الْمَفَاوِزُ لهم
كَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَهْلِهَا وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلرَّجُلِ أَصْلٌ
وَالسَّفَرُ عَارِضٌ وَهُمْ لَا يَنْوُونَ السَّفَرَ بَلْ يَنْتَقِلُونَ من مَاءٍ
إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى حتى لو ارْتَحَلُوا عن أَمَاكِنِهِمْ
وَقَصَدُوا مَوْضِعًا آخَرَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ صَارُوا مُسَافِرِينَ في
الطَّرِيقِ
ثُمَّ الْمُسَافِرُ كما يَصِيرُ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ في
مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا خَارِجَ الصَّلَاةِ
يَصِيرُ مُقِيمًا بِهِ في الصَّلَاةِ حتى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ في الْحَالَيْنِ
جميعا سَوَاءً نَوَى الْإِقَامَةَ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ أو ( في وَسَطِهَا أو )
في آخِرِهَا بَعْدَ أَنْ كان شَيْءٌ من الْوَقْتِ بَاقِيًا وَإِنْ قَلَّ وَسَوَاءً
كان الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا مَسْبُوقًا أو مُدْرِكًا إلَّا إذَا
أَحْدَثَ الْمُدْرِكُ أو نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَوَضَّأَ أو انْتَبَهَ بَعْدَ
ما فَرَغَ الْإِمَامُ من الصَّلَاةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ فإنه لَا يَتَغَيَّرُ
فَرْضُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَإِنَّمَا كان
كَذَلِكَ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الِاسْتِقْرَارِ وَالصَّلَاةُ لَا
تُنَافِي نِيَّةَ الِاسْتِقْرَارِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فيها
فإذا كان الْوَقْتُ بَاقِيًا وَالْفَرْضُ لم يُؤَدَّ بَعْدُ كان مُحْتَمِلًا
لِلتَّغْيِيرِ فَيَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْمُغَيَّرِ وهو نِيَّةُ الْإِقَامَةِ
وإذا خَرَجَ الْوَقْتُ أو أدى الْفَرْضُ لم يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ
فَلَا يَعْمَلُ الْمُغَيَّرُ فيه وَالْمُدْرِكُ الذي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أو
أَحْدَثَ وَذَهَبَ لِلْوُضُوءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ
فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ الْفَرْضُ ولم يَبْقَ مُحْتَمِلًا
لِلتَّغْيِيرِ في حَقِّهِ فَكَذَا في حَقِّ اللَّاحِقِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا صلى الْمُسَافِرُ رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى
الْإِقَامَةَ في الْوَقْتِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ (
في الْوَقْتِ ) قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ وَكَذَا لو نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ ما
صلى رَكْعَةً ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وهو في الصَّلَاةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا
يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ لِأَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ قد تَقَرَّرَ عليه بِخُرُوجِ
الْوَقْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بَعْدَ ذلك
وَلَوْ صلى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ( ولم يُسَلِّمْ
ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا )
( وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ) وَقَامَ إلَى
الثَّالِثَةِ
فَإِنْ لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ
لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن الْمَكْتُوبَةِ بَعْدُ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ
وَالرُّكُوعَ لِأَنَّ ذلك نَفْلٌ فَلَا يَنُوبُ عن الْفَرْضِ وهو بِالْخِيَارِ في
الشَّفْعِ الْأَخِيرِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا
يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ قد اسْتَحْكَمَ بِخُرُوجِهِ منه فَلَا
يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِتَكُونَ
الرَّكْعَتَانِ له تَطَوُّعًا لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِالْبَتْرَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ
وَلَوْ أَفْسَدَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ فَفَرْضُهُ تَامٌّ وَلَيْسَ عليه قَضَاءُ
الشَّفْعِ الثَّانِي عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً
على مَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ هذا إذَا قَعَدَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ
فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ
تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لم يُقِمْ صُلْبَهُ عَادَ
إلَى الْقَعْدَةِ وَإِنْ أَقَامَ صُلْبَهُ لَا يَعُودُ كَالْمُقِيمِ إذَا قام ( (
( أقام ) ) ) من ( الثانية ( ( ( الثالثة ) ) ) إلَى الثالثة ( ( ( الرابعة ) ) )
) وهو في الْقِرَاءَةِ في الشَّفْعِ الْأَخِيرِ بِالْخِيَارِ
وَكَذَا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ ولم يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حتى لو نَوَى
الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ
لِمَا مَرَّ فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا
تَعْمَلُ نِيَّتُهُ في حَقِّ هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا قد فَسَدَتْ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ تَمَّ
شُرُوعُهُ في النَّفْلِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَكْبِيرَةِ
الِافْتِتَاحِ أو بِتَمَامِ فِعْلِ النَّفْلِ وَتَمَامُ فِعْلِ الصَّلَاةِ
بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً بِدُونِهِ
وإذا صَارَ شَارِعًا في النَّفْلِ صَارَ خَارِجًا عن الْفَرْضِ ضَرُورَةً لَكِنْ
بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُضِيفُ إلَيْهَا
رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الأربع ( ( ( الأرجح ) ) ) له تَطَوُّعًا لِأَنَّ
التنقل ( ( ( التنفل ) ) ) بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ارْتَفَعَتْ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَا
يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهُ تَطَوُّعًا
مُسَافِرٌ صلى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الرَّكْعَتَيْنِ
أو في وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ
قبل أَنْ يُسَلِّمَ أو قام إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قبل أَنْ
يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَيَقْرَأُ في الْأَخِيرَتَيْنِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ وعند (
( ( وتفسد ) ) ) مُحَمَّدٍ تفسد صلاته
وَلَوْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَفْسُدُ
____________________
(1/99)
صَلَاتُهُ
بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ
الرَّكْعَتَانِ له تَطَوُّعًا على قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ على ما مَرَّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ ثُمَّ
الْفَجْرُ في حَقِّ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أو في
إحْدَاهُمَا على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ
فَكَذَا الظُّهْرُ في حَقِّ الْمُسَافِرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ
الْإِقَامَةِ في رَفْعِ صِفَةِ الْفَسَادِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُفْسِدَ لم يَتَقَرَّرْ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ خُلُوُّ
الصَّلَاةِ عن الْقِرَاءَةِ في رَكْعَتَيْنِ منها وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك بِتَرْكِ
الْقِرَاءَةِ في الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بعرض ( ( ( بغرض ) )
) أَنْ يَلْحَقَهَا مُدَّةُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ الْفَجْرِ في حَقِّ
الْمُقِيمِ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ إذْ ليس لها هذه الْعَرَضِيَّةُ
وَكَذَا إذَا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ
وَلَوْ قَرَأَ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وسلم
وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ لم يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا
وَسَقَطَ عنه السَّهْوُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَزُفَرَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ في آخِرِ الصَّلَاةِ
ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ في نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَةً
وَاحِدَةً لِسَهْوِهِ أو سجدها ( ( ( سجدهما ) ) ) ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ
تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِالْإِجْمَاعِ وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ في آخِرِ
الصَّلَاةِ وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قبل السَّلَامِ الْأَوَّلِ
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ من عليه سُجُودُ السَّهْوِ
إذَا سَلَّمَ يَخْرُجُ من الصَّلَاةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
خُرُوجًا مَوْقُوفًا إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ
إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان لم يَخْرُجْ وَإِنْ لم يَعُدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
كان خَرَجَ حتى لو ضَحِكَ بَعْدَمَا سَلَّمَ قبل أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ سَلَامُهُ لَا يُخْرِجُهُ عن حُرْمَةِ الصَّلَاةِ
أَصْلًا حتى لو ضَحِكَ قَهْقَهَةً بَعْدَ السَّلَامِ قبل الِاشْتِغَالِ
بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ من
عليه سَجْدَتَا السهود ( ( ( السهو ) ) ) لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى
بِهِمَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا شُرِعَتَا لِجَبْرِ النُّقْصَانِ
وَإِنَّمَا يَنْجَبِرَانِ لو حَصَلَتَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا
يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ما يُنَافِي
التَّحْرِيمَةَ
وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ
عَمَلِ هذا السَّلَامِ فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ في هذه الْحَالَةِ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كانت التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً
فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلِّلًا في
الشَّرْعِ
قال النبي وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ما يَحْصُلُ بِهِ
التَّحَلُّلُ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ القوم ( ( ( للقوم ) ) ) فَكَانَ من كَلَامِ
الناس وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ غير أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ في
هذه الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ فلا يَنْجَبِرُ
إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ في التَّحْرِيمَةِ لِيُلْحِقَ الْجَابِرَ بِسَبَبِ
بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ بِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيَنْجَبِرَ النُّقْصَانُ
فَبَقَّيْنَا التَّحْرِيمَةَ مع وُجُودِ الْمُنَافِي لها لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ
فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا
تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إبْقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ وَإِنْ لم
يَشْتَغِلْ لم تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ فَعَمَلَ السَّلَامُ في الْإِخْرَاجِ عن
الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِ التَّحْرِيمَةِ
وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا
وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ كما
لو نَوَى الْإِقَامَةَ قبل السَّلَامِ أو بَعْدَ ما عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا
وَالتَّحْرِيمَةُ مُنْقَطِعَةٌ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مع وُجُودِ الْمُنَافِي
لِضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَالْعَوْدُ إلَى سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ هَهُنَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لو صَحَّ لَتَبَيَّنَ أَنَّ
التَّحْرِيمَةَ كانت بَاقِيَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ فرضا ( ( ( فرضه ) ) ) صَارَ
أَرْبَعًا
وَهَذَا وَسَطُ الصَّلَاةِ
وَالِاشْتِغَالُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ
لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا آخِرُ الصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ في التَّوَقُّفِ هَهُنَا
فَلَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ في هذه الْحَالَةِ
لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَوْقُوفٌ إنْ اشْتَغَلَ بِالسَّجْدَتَيْنِ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ كان صَحِيحًا وَإِنْ لم يَشْتَغِلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا
لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ هُنَاكَ مُفِيدٌ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى
سَجْدَتَيْ السَّهْوِ صَحِيحٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي لهذه ( ( ( للضرورة
) ) ) الضرورة وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ بِخِلَافِ ما إذَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً
لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ أو سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ جميعا حَيْثُ
يَصِحُّ وَإِنْ كان يُؤَدِّي إلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يُعْتَدُّ
بِهِمَا لِحُصُولِهِمَا في وَسَطِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ صَحَّ اشْتِغَالُهُ
بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كانت بَاقِيَةً
فَوُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ
أَرْبَعًا وإذا تَغَيَّرَ أَرْبَعًا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّجْدَةَ حَصَلَتْ في
وَسَطِ الصَّلَاةِ فَيَبْطُلُ اعْتِبَارُهَا وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أنها ما كانت
مُعْتَبَرَةً مُعْتَدًّا بها حين حَصَلَتْ بَلْ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بَعْدَ ذلك
وَقْتَ حُصُولِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ مُقْتَصِرًا على الْحَالِ فَأَمَّا فِيمَا
نَحْنُ فيه فَبِخِلَافِهِ
وَفَرْقٌ بين ما انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ انْفَسَخَ بِمَعْنًى يُوجِبُ
انْفِسَاخَهُ وَبَيْنَ ما لم يَنْعَقِدْ من الْأَصْلِ لِأَنَّ في الْأَوَّلِ
ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْعِقَادِهِ
____________________
(1/100)
وَانْتَفَى
بَعْدَ انْفِسَاخِهِ
وفي الثَّانِي لم يَثْبُتْ الْحُكْمُ أَصْلًا
نَظِيرُهُ من اشْتَرَى دَارًا فَوَجَدَ بها عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ
الْقَاضِي حتى انْفَسَخَ الْبَيْعُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ الذي كان
ثَبَتَ بِالْبَيْعِ
وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ كان حُرًّا ظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لم
يَكُنْ ثَابِتًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ ما كان مُنْعَقِدًا
وفي بَابِ الْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ فَكَذَا هَهُنَا
وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ في آخِرِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ( لِأَنَّهُ شُرِعَ ) لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَأَنَّهُ لَا
يَصْلُحُ جَابِرًا قبل السَّلَامِ فَفِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى فَيُعَادُ
لِتَحْقِيقِ ما شُرِعَ له وَبِخِلَافِ ما إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قبل السَّلَامِ
الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ
بِيَقِينٍ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا تَوَقُّفَ في الْخُرُوجِ عن التَّحْرِيمَةِ
بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا بَلْ يَخْرُجُ جَزْمًا من غَيْرِ تَوَقُّفٍ
وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ في عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا إنْ عَادَ إلَى
سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يَعُودُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ
الْمَسَائِلِ وما ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ في بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ
وَبُطْلَانِهَا أَصَحُّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا
بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالْإِعَادَةِ ولم تُوجَدْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالثَّانِي وُجُودُ الْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وهو أَنْ يَصِيرَ
الْأَصْلُ مُقِيمًا فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ
كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ مَوْلَاهُ وَالْمَرْأَةِ بِإِقَامَةِ
زَوْجِهَا وَالْجَيْشِ بِإِقَامَةِ الْأَمِيرِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْحُكْمَ في
التَّبَعِ ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا تُرَاعَى له عِلَّةٌ على حِدَةٍ لِمَا
فيه من جَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا وإنه قَلْبُ الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا الْغَرِيمُ مع صَاحِبِ الدَّيْنِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
في السَّفَرِ إنه إنْ كان الْمَدْيُونُ مَلِيًّا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا
يَصِيرُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ
بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كان مُفْلِسًا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ صَاحِبِ
الدَّيْنِ لِأَنَّ له حَقَّ مُلَازَمَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَ
صَاحِبَ الدَّيْنِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ
ثُمَّ في هذه الْفُصُولِ إنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ
الْأَصْلِ وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ
إقَامَةِ الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا لم يَعْلَمْ فَلَا حتى لو صلى التَّبَعُ صَلَاةَ
الْمُسَافِرِينَ قبل الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ فإن صَلَاتَهُ
جَائِزَةٌ وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَتُهَا
وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ عليه الْإِعَادَةَ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ في اللُّزُومِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ ضَرَرًا في حَقِّهِ وَحَرَجًا
وَلِهَذَا لم يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ
كَذَا هذا
وَعَلَى هذا يُبْنَى أَيْضًا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ في الْوَقْتِ
أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس لَا يَنْقَلِبُ
وقال مَالِكٌ إنْ أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ رَكْعَةً فَصَاعِدًا يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ
أَرْبَعًا وَإِنْ أَدْرَكَ ما دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَنْقَلِبُ بِأَنْ اقْتَدَى
بِهِ في السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ أو بَعْدَ ما رَفَعَ رَأْسَهُ منها وَالصَّحِيحُ
قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا له لِأَنَّ
مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عليه
قال إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه
وَالْأَدَاءُ أَعْنِي الصَّلَاةَ في الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ
إلَى الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ في الْوَقْتِ وقد وُجِدَ هَهُنَا دَلِيلُ
التَّغْيِيرِ وهو التَّبَعِيَّةُ فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَصَارَ
صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ
بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ من بَابِ الْقَضَاءِ وإنه خَلَفٌ عن الْأَدَاءِ
وَالْأَدَاءُ لم يَتَغَيَّرْ لِعَدَمِ دَلِيلِ التَّغْيِيرِ فَلَا يَتَغَيَّرُ
الْقَضَاءُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ خُرُوجِ
الْوَقْتِ وإذا لم يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ بِالِاقْتِدَاءِ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ
رَكْعَتَيْنِ وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ في حَقِّهِ نَفْلٌ في حَقِّ الْإِمَامِ فَلَوْ
صَحَّ الِاقْتِدَاءُ كان هذا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في حَقِّ
الْقَعْدَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في
جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ في رُكْنٍ منها
وما ذَكَرَهُ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ
فَوُجُودُ الْمُغَيِّرِ في جُزْئِهَا كَوُجُودِهِ في كُلِّهَا
وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صلى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ
فلما قام إلَى الثَّالِثَةِ جاء مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ
الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ
رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عليه في الرَّكْعَتَيْنِ
نَفْلٌ في حَقِّ الْمُقِيمِ في الْأَخِيرَتَيْنِ
فَيَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بالمتنقل ( ( ( بالمتنفل ) ) ) في حَقِّ
الْقِرَاءَةِ
فَإِنْ صَلَّاهُمَا بغيرقراءة وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ في الْوَقْتِ وَخَارِجَ
الْوَقْتِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ في الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ
وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ في حَقِّهِ نَفْلٌ في حَقِّ الْمُقْتَدِي
وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ في كل الصلاة ( ( ( صلاة ) )
) فَكَذَا في بَعْضِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ
ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ
الْمُقِيمُ لِأَنَّهُ قد بَقِيَ عليه شطر ( ( ( شرط ) ) ) الصَّلَاةِ فَلَوْ
سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا
لِقَوْلِهِ أَتِمُّوا يا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ
وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ الْمُسَافِرِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُقِيمِينَ
____________________
(1/101)
خَلْفَهُ
أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ
وَلَا قِرَاءَةَ على الْمُقْتَدِي في بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ إذَا كان مُدْرِكًا
أَيْ لَا يَجِبُ عليه لِأَنَّهُ شَفْعٌ أَخِيرٌ في حَقِّهِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال ذُكِرَ في الْأَصْلِ ما يَدُلُّ على وُجُوبِ
الْقِرَاءَةِ فإنه قال إذَا سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السهود ( ( ( السهو ) ) )
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ إلَى الْعَكْسِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ
بِالْمُنْفَرِدِ في حَقِّ السَّهْوِ فَكَذَا في حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَلَا
قِرَاءَةَ على الْمُنْفَرِدِ في الشَّفْعِ الْأَخِيرِ ثُمَّ الْمُقِيمُونَ بَعْدَ
تَسْلِيمِ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ
فَصَلَاةُ الْإِمَامِ منهم تَامَّةٌ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ
لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا في مَوْضِعٍ يَجِبُ عليهم الِانْفِرَادُ
وَلَوْ قام الْمُقِيمُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ
الْإِقَامَةَ قبل التَّسْلِيمِ يُنْظَرُ إنْ لم يُقَيِّدْ هذا الْمُقِيمُ
رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رَفَضَ ذلك وَتَابَعَ إمَامَهُ حتى لو لم يَرْفُضْ
وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ صَلَاتَهُ صَارَتْ أَرْبَعًا تَبَعًا
لِإِمَامِهِ لِأَنَّهُ ما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَخْرُجُ عن
صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ لِأَنَّهُ
وُجِدَ على وَجْهِ النَّفْلِ فَلَا يَنُوبُ عن الْفَرْضِ
وَلَوْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ
أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ حتى لو رَفَضَ ذلك وَتَابَعَ
الْإِمَامَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ اقْتَدَى في مَوْضِعٍ يَجِبُ عليه
الِانْفِرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ في الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ
الْوَقْتُ قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَبْطُلُ
اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِنْ كان لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ
في خَارِجِ الْوَقْتِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَصَارَ
تَبَعًا له صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُقِيمِينَ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ
الرَّكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ وَهَذَا قد صَارَ
مُقِيمًا وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كما
إذَا صَارَ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ
وَلَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ انْتَبَهَ أَتَمَّهَا
أَرْبَعًا لِأَنَّ الْمُدْرِكَ يُصَلِّي ما نَامَ عنه كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ
وقد انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةُ
بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُقْتَدِيًا بِهِ على ما
مَرَّ
وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أو قبل خُرُوجِهِ يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ على ما مَرَّ
وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ في الْوَقْتِ
فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا من الْمُقِيمِينَ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ
لِأَنَّهُ قَادِرٌ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا تَنْقَلِبُ صَلَاةُ
الْمُسَافِرِينَ أَرْبَعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
يَنْقَلِبُ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُقِيمِ حتى تُعَلَّقَ
صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ صِحَّةً وَفَسَادًا وَالْمُسَافِرُ إذَا اقْتَدَى
بِالْمُقِيمِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا كما لو اقْتَدَى بِهِ ابْتِدَاءً
وَلِأَنَّ فَرْضَهُمْ لو لم يَنْقَلِبْ أَرْبَعًا لَمَا جَازَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ
لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى في حَقِّ الْإِمَامِ نَفْلٌ وفي حَقِّ
الْمُسَافِرِينَ فَرْضٌ فَيَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في
حَقِّ الْقَعْدَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ
خَارِجَ الْوَقْتِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُقِيمَ إنَّمَا صَارَ إمَامًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ
أَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عن الْإِتْمَامِ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَهُ
في مِقْدَارِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذْ الْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ
كَأَنَّهُ هو فَكَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُسَافِرِ مَعْنًى فَلِذَلِكَ لَا
تَنْقَلِبُ صَلَاتُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عليه فَرْضًا
لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسَافِرِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ
وَعَلَى هذا لو قُدِّمَ مُسَافِرٌ فَنَوَى الْمُقَدَّمُ الْإِقَامَةَ لَا
يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ لِمَا قُلْنَا وإذا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ
يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَيَقْعُدَ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ وَلَا يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بَقِيَ عليه شَطْرُ
الصَّلَاةِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالسَّلَامِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ رَجُلًا
من الْمُسَافِرِينَ حتى يُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هو وَبَقِيَّةُ
الْمُقِيمِينَ وَيُصَلُّونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وُحْدَانًا لِأَنَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ
وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ منهم تَامَّةٌ
لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ على كل حَالٍ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ
لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا ما هو فَرْضٌ عليهم وهو الِانْفِرَادُ في هذه الْحَالَةِ
وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صلى بِمُسَافِرِينَ رَكْعَةً في الْوَقْتِ ثُمَّ نَوَى
الْإِقَامَةَ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعًا لِأَنَّ الْإِمَامَ هَهُنَا أَصْلٌ وقد
تَغَيَّرَتْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ وهو نِيَّةُ الْإِقَامَةِ
فَتَتَغَيَّرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ فإنه خَلَفَ عن الْإِمَامِ الْأَوَّلِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ لِمَا
بَيَّنَّا
وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فلما صلى
رَكْعَتَيْنِ وتشهد فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ من الْمُسَافِرِينَ
خَلْفَهُ أو قام فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فإنه يَتَحَوَّلُ
فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لم يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا
لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ في مَحِلِّهِ وَصَلَاةُ من تَكَلَّمَ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ
تَكَلَّمَ في وَقْتٍ لو تَكَلَّمَ فيه إمَامُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَكَذَا
صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كان بِمِثْلِ حَالِهِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ ما نَوَى
الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ
أَرْبَعًا تَبَعًا لِلْإِمَامِ فَحَصَلَ كَلَامُهُ في وَسَطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ
فَسَادُهَا
____________________
(1/102)
وَلَكِنْ
يَجِبُ عليه صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ
مُقِيمًا تَبَعًا وقد زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ فَعَادَ حُكْمُ
الْمُسَافِرِينَ في حَقِّهِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ الدُّخُولُ في الْوَطَنِ فَالْمُسَافِرُ إذَا دخل
مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا سَوَاءٌ دَخَلَهَا لِلْإِقَامَةِ أو لِلِاجْتِيَازِ أو
لِقَضَاءِ حَاجَةٍ وَالْخُرُوجِ بَعْدَ ذلك
لِمَا روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ
يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ وَلِأَنَّ
مِصْرَهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ
وإذا قَرُبَ من مِصْرِهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ ما لم يَدْخُلْ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه حين قَدِمَ الْكُوفَةَ من
الْبَصْرَةِ صلى صَلَاةَ السَّفَرِ وهو يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال لِلْمُسَافِرِ صَلِّ
رَكْعَتَيْنِ ما لم تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ
وَلِأَنَّ هذا مَوْضِعٌ لو خَرَجَ إلَيْهِ على قَصْدِ السَّفَرِ يَصِيرُ
مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى
وَذُكِرَ في الْعُيُونِ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكَافِرَ إذَا خَرَجَا إلَى
السَّفَرِ فَبَقِيَ إلَى مَقْصِدِهِمَا أَقَلُّ من مُدَّةِ السَّفَرِ فَأَسْلَمَ
الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فإن الصَّبِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرَ
الذي أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ السَّفَرِ صَحِيحٌ من الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا
يُصَلِّي لِكُفْرِهِ فإذا أَسْلَمَ زَالَ الْمَانِعُ
فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَقَصْدُهُ السَّفَرَ لم يَصِحَّ وَحِينَ أَدْرَكَ لم يَبْقَ
إلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ابْتِدَاءً
وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ من قَدِمَ من السَّفَرِ فلما انْتَهَى
قَرِيبًا من مِصْرِهِ قبل أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ افْتَتَحَ
الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ في صَلَاتِهِ فلم يَجِدْ الْمَاءَ فَدَخَلَ الْمِصْرَ
لِيَتَوَضَّأَ إنْ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا فَحِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ
مِصْرِهِ صَارَ مُقِيمًا
وَإِنْ كان مُقْتَدِيًا وهو مُدْرِكٌ فَإِنْ لم يَفْرُغْ الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ
يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعدما صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّهُ كأنه خَلْفَ الْإِمَامِ
وَاللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مُقِيمًا
فَكَذَا إذَا دخل مِصْرَهُ
وَإِنْ كان فَرَغَ الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ حين انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ
لَا تَصِحُّ نِيَّةُ إقَامَتِهِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا بِالدُّخُولِ إلَى
مِصْرِهِ وَكَذَا بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ في هذه الْحَالَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ
أَنَّ الْمُغَيِّرَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتَ بَاقٍ فَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا
لِلتَّغْيِيرِ فيتغير أَرْبَعًا وَلِأَنَّ هذا إنْ اُعْتُبِرَ بِمَنْ خَلْفَ
الْإِمَامِ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْمَسْبُوقِ يَتَغَيَّرْ
وَلَنَا أَنَّ اللَّاحِقَ ليس بِمُنْفَرِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ
عليه وَلَا سُجُودَ سهود ( ( ( سهو ) ) ) وَلَكِنَّهُ قَاضٍ مِثْلَ ما انْعَقَدَ
له تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ
وَبِفَرَاغِ الْإِمَامِ فَاتَ الْأَدَاءُ معه فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وَالْقَضَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ فَيُعْتَبَرُ
بِحَالِ الْأَصْلِ وهو صَلَاةُ الْإِمَامِ وقد خَرَجَ الْأَصْلُ عن احْتِمَالِ
التَّغْيِيرِ وَصَارَ مُقِيمًا على وَظِيفَةِ الْمُسَافِرِينَ وَلَوْ تَغَيَّرَ
الْخَلَفُ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ من خَلْفَ
الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لم يَفُتْهُ الْأَدَاءُ مع الْإِمَامِ فلم يَصِرْ قَضَاءً
فَيَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ ما سُبِقَ
بِهِ لِأَنَّهُ لم يَلْتَزِمْ أَدَاءَهُ مع الْإِمَامِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ
فَتَغَيَّرَ
ثُمَّ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا
بِدُخُولِهِ مِصْرَهُ إذَا دَخَلَهُ في الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ
الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عليه فَرْضُ السَّفَرِ بِخُرُوجِ
الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالدُّخُولِ في الْمِصْرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ
وَبِالْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مبحث في أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ وَطَنٌ
أَصْلِيٌّ وهو وَطَنُ الْإِنْسَانِ في بَلْدَتِهِ أو بَلْدَةٍ أُخْرَى اتَّخَذَهَا
دَارًا وَتَوَطَّنَ بها مع أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَلَيْسَ من قَصْدِهِ
الِارْتِحَالُ عنها بَلْ التَّعَيُّشُ بها
وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ وهو أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْكُثَ في مَوْضِعٍ
صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أو أَكْثَرَ
وَوَطَنُ السُّكْنَى وهو أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ الْمُقَامَ في غَيْرِ
بَلْدَتِهِ أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِي قَسَّمَ الْوَطَنَ إلَى
قِسْمَيْنِ وَسَمَّى أَحَدَهُمَا وَطَنَ قَرَارٍ وَالْآخَرَ مُسْتَعَارًا
فَالْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَنْتَقِضُ بمثله لَا غَيْرُ
وهو أَنْ يَتَوَطَّنَ الْإِنْسَانُ في بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُلَ الْأَهْلَ
إلَيْهَا من بَلْدَتِهِ فَيَخْرُجَ الْأَوَّلُ من أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا
له حتى لو دخل فيه مُسَافِرًا لَا تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا
وَأَصْلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرِينَ من الصحابة ( ( ( أصحابه ) )
) رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا من أَهْلِ مَكَّةَ وكان لهم بها أَوْطَانٌ
أَصْلِيَّةٌ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا
دَارًا لِأَنْفُسِهِمْ انْتَقَضَ وَطَنُهُمْ الْأَصْلِيُّ بِمَكَّةَ حتى كَانُوا
إذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ حتى قال النبي حين صلى
بِهِمْ أَتِمُّوا يا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَلِأَنَّ
الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بمثله
ثُمَّ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أو أَكْثَرَ من ذلك
بِأَنْ كان له أَهْلٌ وَدَارٌ في بَلْدَتَيْنِ أو أَكْثَرَ ولم يَكُنْ من نِيَّةِ
____________________
(1/103)
أَهْلِهِ
الْخُرُوجُ منها وَإِنْ كان هو يَنْتَقِلُ من أَهْلٍ إلَى أَهْلٍ في السَّنَةِ حتى
إنه لو خَرَجَ مُسَافِرًا من بَلْدَةٍ فيها أَهْلُهُ وَدَخَلَ في أَيِّ بَلْدَةٍ
من الْبِلَادِ التي فيها أَهْلُهُ فَيَصِيرُ مُقِيمًا من غَيْرِ نِيَّةِ
الْإِقَامَةِ وَلَا يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ
وَلَا بِوَطَنِ السُّكْنَى لِأَنَّهُمَا دُونَهُ وَالشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ بِمَا
هو دُونَهُ
وَكَذَا لَا يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ من وَطَنِهِ حتى يَصِيرَ
مُقِيمًا بِالْعَوْدِ إلَيْهِ من غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ النبي كان يَخْرُجُ من الْمَدِينَةِ مُسَافِرًا وكان وَطَنُهُ بها بَاقِيًا
حتى يَعُودَ مُقِيمًا فيها من غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ
وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ
وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ
يُنْسَخَ بمثله وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ أَيْضًا لِأَنَّ تَوَطُّنَهُ في هذا
الْمَقَامِ ليس لِلْقَرَارِ وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ فإذا سَافَرَ منه يُسْتَدَلُّ بِهِ
على قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَصَارَ مُعْرِضًا عن التَّوَطُّنِ بِهِ فَصَارَ نَاقِضًا
له دَلَالَةً
وَلَا يُنْتَقَضُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى لِأَنَّهُ دُونَهُ
فَلَا يَنْسَخُهُ
وَوَطَنُ السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ
لِأَنَّهُمَا فَوْقَهُ
وَبِوَطَنِ السُّكْنَى لِأَنَّهُ مِثْلُهُ
وَبِالسَّفَرِ لِمَا بَيَّنَّا
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من تَفْسِيرِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةٍ
إنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إقَامَةٍ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بين وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَ هذا الْمَوْضِعِ
الذي تَوَطَّنَ فيه بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
فَصَاعِدًا فَأَمَّا بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَصِيرُ وَطَنَ إقَامَةٍ
وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في مَكَان صَالِحٍ
لِلْإِقَامَةِ حتى إنَّ الرَّجُلَ الْمُقِيمَ إذَا خَرَجَ من مِصْرِهِ إلَى
قَرْيَةٍ من قُرَاهَا لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ وَنَوَى أَنْ يَتَوَطَّنَ بها
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ له
وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ سَفَرٍ لِانْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ
وَكَذَا إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ وَخَرَجَ حتى وَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ مَسِيرَةُ ما دُونَ السَّفَرِ وَنَوَى
أَنْ يُقِيمَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا
وَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ له
وفي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عنه يَصِيرُ مُقِيمًا من غَيْرِ هَذَيْنِ
الشَّرْطَيْنِ كما هو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ
وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ يُخَرَّجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ عليه حتى يَسْهُلَ
تَخْرِيجُ الْبَاقِي
خُرَاسَانِيٌّ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بها شَهْرًا ثُمَّ خَرَجَ
منها إلَى الْحِيرَةِ وَنَوَى الْمُقَامَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ
خَرَجَ من الْحِيرَةِ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِالْكُوفَةِ
فإنه يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كان وَطَنَ إقَامَةٍ
وقد انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِالْحِيرَةِ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ أَيْضًا وقد
بَيَّنَّا أَنَّ وَطَنَ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بمثله
وَكَذَا وَطَنُهُ بِالْحِيرَةِ اُنْتُقِضَ بِالسَّفَرِ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ
فَكَمَا خَرَجَ من الْحِيرَةِ على قَصْدِ خُرَاسَانَ صَارَ مُسَافِرًا وَلَا
وَطَنَ له في مَوْضِعٍ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حتى يَدْخُلَ بَلْدَتَهُ
بِخُرَاسَانَ وَإِنْ لم يَكُنْ نَوَى الْمُقَامَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ لم
يَبْطُلْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِيرَةِ لِأَنَّهُ ليس بِوَطَنٍ مثله وَلَا سَفَرٍ
ويبقى ( ( ( فيبقى ) ) ) وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ كما كان
وَلَوْ أَنَّ خُرَاسَانِيًّا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بها خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ ارْتَحَلَ منها يُرِيدُ مَكَّةَ فَقَبْلَ أَنْ يَسِيرَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَ حَاجَةً له بِالْكُوفَةِ فَعَادَ فإنه يَقْصُرُ لِأَنَّ
وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قد بَطَلَ بِالسَّفَرِ كما يَبْطُلُ بِوَطَنٍ مِثْلِهِ
وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا خَرَجَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ خَرَجَ منها إلَى
الْحِيرَةِ ثُمَّ عَادَ من الْحِيرَةِ يُرِيدُ الشَّامَ فَمَرَّ بِالْقَادِسِيَّةِ
قَصَرَ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَالْحِيرَةِ سَوَاءٌ فَيَبْطُلُ
الْأَوَّلُ بِالثَّانِي وَلَوْ بَدَا له أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ قبل
أَنْ يَصِلَ إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ يَرْتَحِلَ إلَى الشَّامِ صلى
بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ لَا يَبْطُلُ
إلَّا بمثله ولم يُوجَدْ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ في الزِّيَادَاتِ
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَزْمُ على الْعَوْدِ لِلْوَطَنِ وهو أَنَّ
الرَّجُلَ إذَا خَرَجَ من مِصْرِهِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ عَزَمَ على
الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ وَلَيْسَ بين هذا الْمَوْضِعِ الذي بَلَغَ وَبَيْنَ
مِصْرِهِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ يَصِيرُ مُقِيمًا حين عَزَمَ عليه لِأَنَّ الْعَزْمَ
على الْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ
الْإِقَامَةِ فَصَحَّ وَإِنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مُدَّةُ سَفَرٍ لَا
يَصِيرُ مُقِيمًا لِأَنَّهُ بِالْعَزْمِ على الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ
إلَى جِهَةٍ وَقَصَدَ السَّفَرَ إلَى جِهَةٍ فلم يَكْمُلْ الْعَزْمُ على الْعَوْدِ
إلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ مُسَافِرًا كما كان
وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ من خَرَجَ من مِصْرِهِ مُسَافِرًا
فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فلم يَجِدْ الْمَاءَ هناك (
( ( هنالك ) ) ) فَنَوَى أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَهُ وهو قَرِيبٌ فَحِينَ نَوَى ذلك
صَارَ مُقِيمًا من سَاعَتِهِ دخل مِصْرَهُ أو لم يَدْخُلْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ
قَصَدَ الدُّخُولَ في الْمِصْرِ بِنِيَّةِ تَرْكِ السَّفَرِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ
مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَصَحَّتْ فإذا دَخَلَهُ صلى أَرْبَعًا لِأَنَّ تِلْكَ
صَلَاةُ
____________________
(1/104)
الْمُقِيمِينَ
فَإِنْ عَلِمَ قبل أَنْ يَدْخُلَ الْمِصْرَ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ فَمَشَى
إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ صلى أَرْبَعًا أَيْضًا لأنه بِالنِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا فَبِالْمَشْيِ
بَعْدَ ذلك في الصَّلَاةِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا في حَقِّ تِلْكَ
الصَّلَاةِ وَإِنْ حَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ السَّفَرِ حَقِيقَةً
لِأَنَّهُ لو جُعِلَ مُسَافِرًا لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ
فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَنَعَتْهُ عن مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ شَرْعًا بِخِلَافِ
الْإِقَامَةِ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ
عن ذلك فَلَوْ تَكَلَّمَ حين عَلِمَ بِالْمَاءِ أَمَامَهُ أو أَحْدَثَ
مُتَعَمِّدًا حتى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ في مَكَانِهِ
يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا وَلَوْ مَشَى
أَمَامَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ صَارَ
مُسَافِرًا ثَانِيًا بِالْمَشْيِ إلَى الْمَاءِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ خَارِجَ
الصَّلَاةِ فَيُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ بِخِلَافِ الْمَشْيِ في الصَّلَاةِ
لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ أَخْرَجَتْهُ من أَنْ يَكُونَ سَفَرًا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا أَرْكَانُهَا فَسِتَّةٌ منها الْقِيَامُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ
مُتَرَكِّب من مَعَانٍ مُتَغَايِرَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمُرَكَّبِ عليها عِنْدَ
اجْتِمَاعِهَا كان كُلُّ مَعْنًى منها رُكْنًا لِلْمُرَكَّبِ كَأَرْكَانِ
الْبَيْتِ في الْمَحْسُوسَاتِ وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في بَابِ الْبَيْعِ في
الْمَشْرُوعَاتِ وَكُلُّ ما يَتَغَيَّرُ الشَّيْءُ بِهِ وَلَا يَنْطَلِقُ عليه
اسْمُ ذلك الشَّيْءِ كان شَرْطًا كَالشُّهُودِ في بَابِ النِّكَاحِ فَهَذَا
تَعْرِيفُ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ بِالتَّحْدِيدِ
وَأَمَّا تَعْرِيفُهُمَا بِالْعَلَامَةِ في هذا الْبَابِ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ما
يَدُومُ من ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ إلَى انْتِهَائِهَا كان شَرْطًا وما يَنْقَضِي
ثُمَّ يُوجَدُ غَيْرُهُ فَهُوَ رُكْنٌ وقد وُجِدَ حَدُّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتُهُ
في الْقِيَامِ لِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ مع الْمَعَانِي الْأُخَرِ من الْقِرَاءَةِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَنْطَلِقُ عليها اسْمُ الصَّلَاةِ وَكَذَا لَا يَدُومُ
من أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا بَلْ يَنْقَضِي ثُمَّ يُوجَدُ غَيْرُهُ
فَكَانَ رُكْنًا وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
وَالْمُرَادُ منه الْقِيَامُ في الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا الرُّكُوعُ
وَمِنْهَا السُّجُودُ لِوُجُودِ حَدِّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتِهِ في كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وقال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا } وَالْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ من الرُّكُوعِ أَصْلُ الِانْحِنَاءِ
وَالْمَيْلِ وَمِنْ السُّجُودِ أَصْلُ الْوَضْعِ فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ
عَلَيْهِمَا فَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ فَرْضٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ ليس بِفَرْضٍ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ فَرْضٌ وَنَذْكُرُ
الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ ذِكْرِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ سُنَنِهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَاخْتُلِفَ في مَحَلِّ إقَامَةِ فَرْضِ السُّجُودِ قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ
هو بَعْضُ الْوَجْهِ وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ السُّجُودُ فَرْضٌ على
الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ
وَالْقَدَمَيْنِ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على
سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وفي رِوَايَةٍ على سَبْعَةِ آرَابٍ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ
وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالسُّجُودِ مُطْلَقًا من غَيْرِ تَعْيِينِ
عُضْوٍ ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ فَلَا
يَجُوزُ تَعْيِينُ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ فَنَحْمِلُهُ على بَيَانِ السُّنَّةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ثُمَّ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ في ذلك الْبَعْضِ
قال أبو حَنِيفَةَ هو الْجَبْهَةُ أو الْأَنْفُ غير عَيْنٍ حتى لو وَضَعَ
أَحَدَهُمَا في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يُجْزِيهِ غير أَنَّهُ لو وَضَعَ
الْجَبْهَةَ وَحْدَهَا جَازَ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَوْ وَضَعَ الْأَنْفَ
وَحْدَهُ يَجُوزُ مع الْكَرَاهَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هو الْجَبْهَةُ على التَّعْيِينِ حتى لو تَرَكَ
السُّجُودَ عليها حَالَ الِاخْتِيَارِ لَا يُجْزِيهِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو
وَضَعَ الْأَنْفَ وَحْدَهُ في حَالِ الْعُذْرِ يُجْزِيهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ
الْمُسْتَحَبَّ هو الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ
احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ من
الْأَرْضِ أَمَرَ بِوَضْعِهِمَا جميعا إلَّا أَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ
وَحْدَهَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ لِأَنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ في الْبَابِ
وَالْأَنْفُ تَابِعٌ وَلَا عِبْرَةَ لِفَوَاتِ التَّابِعِ عِنْدَ وُجُودِ
الْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ أتى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو السُّجُودُ مُطْلَقًا عن
التَّعْيِينِ ثُمَّ قام الدَّلِيلُ على تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ بِإِجْمَاعٍ
بَيْنَنَا لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ ما سِوَى الْوَجْهِ وما سِوَى هَذَيْنِ
الْعُضْوَيْنِ من الْوَجْهِ غَيْرُ مُرَادٍ وَالْأَنْفُ بَعْضُ الْوَجْهِ
كَالْجَبْهَةِ وَلَا إجْمَاعَ على تَعْيِينِ الْجَبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ
تَعْيِينُهَا وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ لَا
يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ فَنَحْمِلُهُ على بَيَانِ السُّنَّةِ احْتِرَازًا
عن الرَّدِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان قَادِرًا على ذلك فَأَمَّا إذَا كان عَاجِزًا عنه فَإِنْ كان
عَجْزُهُ عنه بِسَبَبِ الْمَرَضِ بِأَنْ كان مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ على الْقِيَامِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَسْقُطُ عنه لِأَنَّ الْعَاجِزَ عن الْفِعْلِ لَا يُكَلَّفُ
بِهِ وَكَذَا إذَا خَافَ زِيَادَةَ الْعِلَّةِ من ذلك لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ
وَفِيهِ أَيْضًا حَرَجٌ فإذا عَجَزَ عن الْقِيَامِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ
وَسُجُودٍ فَإِنْ عَجَزَ عن الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا
بِالْإِيمَاءِ وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ من الرُّكُوعِ فَإِنْ عَجَزَ عن
الْقُعُودِ يَسْتَلْقِي ويومىء ( ( ( ويومئ ) ) ) إيمَاءً لِأَنَّ السُّقُوطَ
لِمَكَانِ الْعُذْرِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْله
تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ }
____________________
(1/105)
قِيلَ
الْمُرَادُ من الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ في الْآيَةِ هو الصَّلَاةُ أَيْ
صَلُّوا
وَنَزَلَتْ الْآيَةُ في رُخْصَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ يُصَلِّي قامئا ( ( (
قائما ) ) ) إنْ اسْتَطَاعَ وَإِلَّا فَقَاعِدًا وَإِلَّا فَمُضْطَجِعًا كَذَا
رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال مَرِضْتُ
فَعَادَنِي رسول اللَّهِ فقال صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا
فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ تومىء ( ( ( تومئ ) ) ) إيمَاءً وَإِنَّمَا
جُعِلَ السُّجُودُ أَخْفَضَ من الرُّكُوعِ في الْإِيمَاءِ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ
أُقِيمَ مَقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَحَدَهُمَا أَخْفَضُ من الْآخَرِ
كَذَا الْإِيمَاءُ بِهِمَا
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي قال في صَلَاةِ الْمَرِيضِ إنْ لم
يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ من رُكُوعِهِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من لم يَقْدِرْ على السُّجُودِ فَلْيَجْعَلْ
سُجُودَهُ رُكُوعًا وَرُكُوعَهُ إيمَاءً وَالرُّكُوعُ أَخْفَضُ من الْإِيمَاءِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الصَّلَاةِ مُسْتَلْقِيًا جَوَابُ الْمَشْهُورِ من
الرِّوَايَاتِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عن الْقُعُودِ يُصَلِّي على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ
وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وهو مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَبِهِ أَخَذَ
الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى جُنُوبِكُمْ }
وَقَوْلُهُ لِعِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ فَعَلَى جَنْبِكَ تومىء ( ( ( تومئ ) ) )
إيمَاءً وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ
يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا وَلِهَذَا يُوضَعُ في اللَّحْدِ هَكَذَا لِيَكُونَ
مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ
فَأَمَّا الْمُسْتَلْقِي يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ
الْقِبْلَةَ رِجْلَاهُ فَقَطْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي أَنَّهُ قال في
الْمَرِيضِ إنْ لم يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى الْقَفَا يومىء إيمَاءً فَإِنْ لم
يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِقَبُولِ الْعُذْرِ
وَلِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَذَلِكَ
في الِاسْتِلْقَاءِ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ هو تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فإذا صلى
مُسْتَلْقِيًا يَقَعُ إيمَاؤُهُ إلَى الْقِبْلَةِ
وإذا صلى على الْجَنْبِ يَقَعُ مُنْحَرِفًا عنها وَلَا يَجُوزُ الِانْحِرَافُ عن
الْقِبْلَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى
وَقِيلَ إنَّ الْمَرَضَ الذي كان بِعِمْرَانَ كان بَاسُورًا فَكَانَ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ على قَفَاهُ وَالْمُرَادُ من الْآيَةِ
الِاضْطِجَاعُ
يُقَالُ فُلَانٌ وَضَعَ جَنْبَهُ إذَا نَامَ وَإِنْ كان مُسْتَلْقِيًا وهو
الْجَوَابُ عن التَّعَلُّقِ بِالْحَدِيثِ
على أَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ دَلِيلُنَا
لِأَنَّ كُلَّ مُسْتَلْقٍ فَهُوَ مُسْتَلْقٍ على الْجَنْبِ لِأَنَّ الظَّهْرَ
مُتَرَكِّبٌ من الضُّلُوعِ فَكَانَ له النِّصْفُ من الْجَنْبَيْنِ جميعا وَعَلَى
ما يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ على جَنْبٍ وَاحِدٍ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ
أَقْرَبَ إلَى مَعْنَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَكَانَ أَوْلَى
وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَضْعِ في اللَّحْدِ لِأَنَّهُ ليس على الْمَيِّتِ في
اللَّحْدِ فِعْلٌ يُوجِبُ تَوْجِيهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ لِيُوضَعَ مُسْتَلْقِيًا
فَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ في الْوَضْعِ على الْجَنْبِ فَوُضِعَ كَذَلِكَ
وَلَوْ قَدَرَ على الْقُعُودِ لَكِنْ نُزِعَ الْمَاءُ من عَيْنَيْهِ فَأُمِرَ أَنْ
يَسْتَلْقِيَ أَيَّامًا على ظَهْرِهِ ونهى عن الْقُعُودِ وَالسُّجُودِ أَجْزَأَهُ
أَنْ يَسْتَلْقِيَ وَيُصَلِّيَ بِالْإِيمَاءِ
وقال مَالِكٌ لَا يُجْزِئُهُ
وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ طَبِيبًا قال له
بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ لو صَبَرْتَ أَيَّامًا مُسْتَلْقِيًا صَحَّتْ عَيْنَاكَ
فَشَاوَرَ عَائِشَةَ وَجَمَاعَةً من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فلم
يُرَخِّصُوا له في ذلك وَقَالُوا له أَرَأَيْتَ لو مِتَّ في هذه الْأَيَّامِ
كَيْفَ تَصْنَعُ بِصَلَاتِكَ
وَلَنَا إن حُرْمَةَ الْأَعْضَاء كَحُرْمَةِ النَّفْسِ وَلَوْ خَافَ على نَفْسِهِ
من عَدُوٍّ أو سَبْعٍ لو قَعَدَ جَازَ له أَنْ يُصَلِّيَ بِالِاسْتِلْقَاءِ وكذا (
( ( فكذا ) ) ) إذَا خَافَ على عَيْنَيْهِ وَتَأْوِيلُ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لم يَظْهَرْ لهم صِدْقُ ذلك الطَّبِيبِ فِيمَا يَدَّعِي
ثُمَّ إذَا صلى الْمَرِيضُ قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أو بِإِيمَاءٍ كَيْفَ
يَقْعُدُ أَمَّا في حَالِ التَّشَهُّدِ فإنه يَجْلِسُ كما يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا في حَالِ الْقِرَاءَةِ وفي حَالِ الرُّكُوعِ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يَقْعُدُ كَيْفَ شَاءَ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ إنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا وَإِنْ
شَاءَ مُتَرَبِّعًا وَإِنْ شَاءَ على رُكْبَتَيْهِ كما في التَّشَهُّدِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا افْتَتَحَ تَرَبَّعَ فإذا أَرَادَ أَنْ
يَرْكَعَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَجَلَسَ عليها
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ على حَالِهِ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ ذلك إذَا
أَرَادَ السَّجْدَةَ
وقال زُفَرُ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى في جَمِيعِ صَلَاتِهِ وَالصَّحِيحُ ما
رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عُذْرَ الْمَرَضِ أَسْقَطَ عنه الْأَرْكَانَ
فَلَأَنْ يُسْقِطَ عنه الهيآت ( ( ( الهيئات ) ) ) أَوْلَى وَإِنْ كان قَادِرًا
على الْقِيَامِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ
وَإِنْ صلى قَائِمًا
____________________
(1/106)
بِالْإِيمَاءِ
أَجْزَأَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ له ذلك وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئهُ
إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا
وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال لِعِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي
اللَّهُ عنه فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا عَلَّقَ الْجَوَازَ قَاعِدًا
بِشَرْطِ الْعَجْزِ عن الْقِيَامِ وَلَا عَجْزَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا
يَجُوزُ تَرْكُهُ مع الْقُدْرَةِ عليه كما لو كان قَادِرًا على الْقِيَامِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَالْإِيمَاءُ حَالَةَ الْقِيَامِ مَشْرُوعٌ في الْجُمْلَةِ بِأَنْ كان الرَّجُلُ
في طِينٍ وَرَدْغَةٍ رَاجِلًا أو في حَالَةِ الْخَوْفِ من الْعَدُوِّ وهو رَاجِلٌ
فإنه يُصَلِّي قَائِمًا بِالْإِيمَاءِ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ الْغَالِبَ إن من عَجَزَ عن الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كان عن
الْقِيَامِ أَعْجَزَ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ من الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ أَشَقُّ
من الِانْتِقَالِ من الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ وَالْغَالِبُ مُلْحَقٌ
بِالْمُتَيَقَّنِ في الْأَحْكَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَجَزَ عن الْأَمْرَيْنِ
إلَّا أَنَّهُ مَتَى صلى قَائِمًا جَازَ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ فِعْلًا ليس عليه
فَصَارَ كما لو تَكَلَّفَ الرُّكُوعَ جَازَ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه كَذَا هَهُنَا
وَلِأَنَّ السُّجُودَ أَصْلٌ وَسَائِرَ الْأَرْكَانِ كَالتَّابِعِ له وَلِهَذَا
كان السُّجُودُ مُعْتَبَرًا بِدُونِ الْقِيَامِ كما في سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَلَيْسَ الْقِيَامُ مُعْتَبَرًا بِدُونِ السُّجُودِ بَلْ لم يُشْرَعْ بِدُونِهِ
فإذا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّابِعُ ضَرُورَةً وَلِهَذَا سَقَطَ الرُّكُوعُ
عَمَّنْ سَقَطَ عنه السُّجُودُ وَإِنْ كان قَادِرًا على الرُّكُوعِ وكان
الرُّكُوعُ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ له فَكَذَا الْقِيَامُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ
الرُّكُوعَ أَشَدُّ تَعْظِيمًا وَإِظْهَارًا لِذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ من
الْقِيَامِ ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ تَابِعًا له وَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ فَالْقِيَامُ
أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لو تَكَلَّفَ وَصَلَّى قَائِمًا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَكِنْ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِدُونِ السُّجُودِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
بِخِلَافِ ما إذَا كان قَادِرًا على الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
لِأَنَّهُ لم يَسْقُطْ عنه الْأَصْلُ
فَكَذَا التَّابِعُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ إنَّ الْعَجْزَ شَرْطٌ
لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ هَهُنَا نَظَرًا إلَى الْغَالِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَالِبَ
هو الْعَجْزُ في هذه الْحَالَةِ وَالْقُدْرَةُ في غَايَةِ النُّدْرَةِ
وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ ثُمَّ الْمَرِيضُ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ
فِيمَا يَعْجِزُ عنه فَأَمَّا فِيمَا يَقْدِرُ عليه فَهُوَ كَالصَّحِيحِ لِأَنَّ
الْمُفَارَقَةَ لِلْعُذْرِ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ حتى لو صلى قبل
وَقْتِهَا أو بِغَيْرِ وُضُوءٍ أو بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ عَمْدًا أو خَطَأً وهو
يَقْدِرُ عليها ( ( ( عليهما ) ) ) لم يَجْزِهِ وَإِنْ عَجَزَ عنها أَوْمَأَ
بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَتَسْقُطُ بِالْعَجْزِ
كَالْقِيَامِ
أَلَا تَرَى أنها سَقَطَتْ في حَقِّ الْأُمِّيِّ وَكَذَا إذَا صلى لِغَيْرِ
الْقِبْلَةِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ لم يُجْزِهِ وَإِنْ كان ذلك خَطَأً منه
أَجْزَأَهُ بِأَنْ اشْتَبَهَتْ عليه الْقِبْلَةُ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ من
يَسْأَلُهُ عنها فَتَحَرَّى وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ كما في
حَقِّ الصَّحِيحِ وَإِنْ كان وَجْهُ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وهو لَا
يَجِدُ من يُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَقْدِرُ على ذلك بِنَفْسِهِ
يُصَلِّي كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ليس في وُسْعِهِ إلَّا ذلك وَهَلْ يُعِيدُهَا إذَا
برىء رُوِيَ عن مُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يُعِيدُهَا
وَأَمَّا في ظَاهِرِ الْجَوَابِ فَلَا إعَادَةَ عليه لِأَنَّ الْعَجْزَ عن
تَحْصِيلِ الشَّرَائِطِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَجْزِ عن تَحْصِيلِ الْأَرْكَانِ
وَثَمَّةَ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ فَهَهُنَا أَوْلَى وَلَوْ كان بِجَبْهَتِهِ
جُرْحٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ على الْجَبْهَةِ لم يُجْزِهِ الْإِيمَاءُ
وَعَلَيْهِ السُّجُودُ على الْأَنْفِ لِأَنَّ الْأَنْفَ مَسْجِدٌ كَالْجَبْهَةِ
خُصُوصًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ على ما مَرَّ وهو قَادِرٌ على السُّجُودِ عليه فَلَا
يُجْزِئُهُ الْإِيمَاءُ
وَلَوْ عَجَزَ عن الْإِيمَاءِ وهو تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فَلَا شَيْءَ عليه
عِنْدَنَا
وقال زُفَرُ يومىء بِالْحَاجِبَيْنِ أَوَّلًا فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْعَيْنَيْنِ
فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ يومىء بِعَيْنَيْهِ وَبِحَاجِبَيْهِ وَلَا يومىء
بِقَلْبِهِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ دَائِمٌ لَا يَسْقُطُ إلَّا
بِالْعَجْزِ فما عَجَزَ عنه يَسْقُطُ وما قَدَرَ عليه يَلْزَمُهُ بِقَدْرِهِ فإذا
قَدَرَ بِالْحَاجِبَيْنِ كان الْإِيمَاءُ بِهِمَا أَوْلَى
لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الرَّأْسِ فَإِنْ عَجَزَ الْآنَ يومىء بِعَيْنَيْهِ
لِأَنَّهُمَا من الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَجَمِيعُ الْبَدَنِ ذُو حَظٍّ من هذه
الْعِبَادَةِ فكذا الْعَيْنَانِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ في
الْجُمْلَةِ ذُو حَظٍّ من هذه الْعِبَادَةِ وهو النِّيَّةُ
أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ صِحَّتِهَا فَعِنْدَ الْعَجْزِ تَنْتَقِلُ
إلَيْهِ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ تُؤَدَّى بِالْأَعْضَاءِ
الظَّاهِرَةِ فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَيْسَ بِذِي حَظٍّ من أَرْكَانِهَا بَلْ هو
ذُو حَظٍّ من الشَّرْطِ وهو النِّيَّةُ وَهِيَ قَائِمَةٌ أَيْضًا عِنْدَ
الْإِيمَاءِ فَلَا يُؤَدَّى بِهِ الْأَرْكَانُ وَالشَّرْطُ جميعا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي قال في
الْمَرِيضِ إنْ لم يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى الْقَفَا يومىء إيمَاءً فَإِنْ لم
يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِقَبُولِ الْعُذْرِ
أَخْبَرَ النبي أَنَّهُ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى في هذه الْحَالَةِ
فَلَوْ كان عليه الْإِيمَاءُ بِمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا كان مَعْذُورًا وَلِأَنَّ
الْإِيمَاءَ ليس بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّنَفُّلُ بِهِ في
حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَلَوْ كان صَلَاةً لَجَازَ كما لو تَنَفَّلَ قَاعِدًا
إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ الصَّلَاةِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ
بِالْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ فَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مُقَامَهُ ثُمَّ إذَا سَقَطَتْ
عنه الصَّلَاةُ بِحُكْمِ
____________________
(1/107)
الْعَجْزِ
فَإِنْ مَاتَ من ذلك الْمَرَضِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عليه
لِأَنَّهُ لم يُدْرِكْ وَقْتَ الْقَضَاءِ
وَأَمَّا إذَا برأ وصح فَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أو
أَقَلَّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك فقال
بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ أَيْضًا لِأَنَّ ذلك لَا يُعْجِزُهُ عن
فَهْمِ الْخِطَابِ فَوَجَبَتْ عليه الصَّلَاةُ فَيُؤَاخَذُ بِقَضَائِهَا بِخِلَافِ
الْإِغْمَاءِ لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عن فَهْمِ الْخِطَابِ فَيَمْنَعُ الْوُجُوبَ
عليه
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ دَخَلَتْ في
حَدِّ التَّكْرَارِ وقد فَاتَتْ لَا بِتَضْيِيعِهِ الْقُدْرَةَ بِقَصْدِهِ فَلَوْ
وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا لَوَقَعَ في الْحَرَجِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَالَ
لَا يَخْتَلِفُ بين الْعِلْمِ والجهل لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَخْتَلِفُ
وَلِهَذَا سَقَطَتْ عن الْحَائِضِ وَإِنْ لم يَكُنْ الْحَيْضُ يُعْجِزُهَا عن
فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَلَى هذا إذَا أُغْمِيَ عليه يَوْمًا وَلَيْلَةً أو أَقَلَّ
ثُمَّ أَفَاقَ قَضَى ما فَاتَهُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا
قَضَاءَ عليه عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا
قال بِشْرٌ الْإِغْمَاءُ ليس بِمُسْقِطٍ حتى يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ طَالَتْ
مُدَّةُ الْإِغْمَاءِ وقال الشَّافِعِيُّ الْإِغْمَاءُ يُسْقِطُ إذَا اسْتَوْعَبَ
وَقْتَ صَلَاةٍ كامل ( ( ( كاملا ) ) ) وَتُذْكَرُ هذه الْمَسَائِلُ في مَوْضِعٍ
آخَرَ عِنْدَ بَيَانِ ما يُقْضَى من الصَّلَاةِ التي فَاتَتْ عن وَقْتِهَا وما لَا
يُقْضَى منها إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ شَرَعَ في الصَّلَاةِ قَاعِدًا وهو مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ وَقَدَرَ على
الْقِيَامِ
فَإِنْ كان شُرُوعُهُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ بنى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُف اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْتَقْبِلُ قِيَاسًا بِنَاءً على أَنَّ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَائِمَ لَا يَقْتَدِي بِالْقَاعِدِ فَكَذَا لَا يَبْنِي آخر
( ( ( أول ) ) ) صَلَاتِهِ على أولها ( ( ( آخرها ) ) ) في حَقِّ نَفْسِهِ
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ وَالْمَسْأَلَةُ
تَأْتِي في مَوْضِعِهَا وَإِنْ كان شُرُوعُهُ بِالْإِيمَاءِ يَسْتَقْبِلُ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَبْنِي لِأَنَّ من أَصْلِهِ أَنَّهُ
يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بالمومىء ( ( ( بالمومئ ) ) ) فَيَجُوزُ
الْبِنَاءُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ على
ما يُذْكَرُ
وَأَمَّا الصَّحِيحُ إذَا شَرَعَ في الصَّلَاةِ ثُمَّ عَرَضَ له مَرَضٌ بَنَى على
صَلَاتِهِ على حَسَبِ إمْكَانِهِ قَاعِدًا أو مُسْتَلْقِيًا في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا صَارَ إلَى الْإِيمَاءِ يَسْتَقْبِلُ
لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ مُخْتَلِفَانِ فِعْلًا فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا
بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ كَالظُّهْرِ مع الْعَصْرِ
وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ بِنَاءَ آخِرِ الصَّلَاةِ على أَوَّلِ
الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي على صَلَاةِ الْإِمَامِ
وَثَمَّةَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ المومىء ( ( ( المومئ ) ) ) بِالصَّحِيحِ لِمَا
يُذْكَرُ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ هَهُنَا وَلِأَنَّهُ لو بَنَى لَصَارَ مُؤَدِّيًا
بَعْضَ الصَّلَاةِ كَامِلًا وَبَعْضَهَا نَاقِصًا وَلَوْ اسْتَقْبَلَ لَأَدَّى
الْكُلَّ نَاقِصًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى
وَلَوْ رُفِعَ إلَى وَجْهِ الْمَرِيضِ وِسَادَةٌ أو شَيْءٌ فَسَجَدَ عليه من
غَيْرِ أَنْ يومىء لم يَجُزْ لِأَنَّ الْفَرْضَ في حَقِّهِ الْإِيمَاءُ ولم
يُوجَدْ وَيُكْرَهُ أَنْ يُفْعَلَ هذا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي دخل على مَرِيضٍ
يَعُودُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ فقال إنْ قَدَرْتَ أَنْ تَسْجُدَ على
الْأَرْضِ فَاسْجُدْ وَإِلَّا فَأَوْمِ بِرَأْسِكَ
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ دخل على أَخِيهِ يَعُودُهُ فَوَجَدَهُ
يُصَلِّي وَيُرْفَعُ إلَيْهِ عُودٌ فَيَسْجُدُ عليه فَنَزَعَ ذلك من يَدِ من كان
في يَدِهِ وقال هذا شَيْءٌ عَرَضَ لَكُمْ الشَّيْطَانُ أَوْمِ لِسُجُودِك
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما رَأَى ذلك من مَرِيضٍ فقال
أَتَتَّخِذُونَ مع اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى فَإِنْ فَعَلَ ذلك يُنْظَرْ إنْ كان
يَخْفِضُ رَأْسَهُ لِلرُّكُوعِ شيئا ثُمَّ لِلسُّجُودِ ثُمَّ يُلْزَقُ بِجَبِينِهِ
يَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِيمَاءِ لَا لِلسُّجُودِ على ذلك الشَّيْءِ فَإِنْ كانت
الْوِسَادَةُ مَوْضُوعَةً على الْأَرْضِ وكان يَسْجُدُ عليها جَازَتْ صَلَاتُهُ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كانت تَسْجُدُ على مِرْفَقَةٍ مَوْضُوعَةٍ بين
يَدَيْهَا لِرَمَدٍ بها ولم يَمْنَعْهَا رسول اللَّهِ
وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ إذَا كان على الرَّاحِلَةِ وهو خَارِجُ الْمِصْرِ وَبِهِ
عُذْرٌ مَانِعٌ من النُّزُولِ عن الدَّابَّةِ من خَوْفِ الْعَدُوِّ أو السَّبُعِ
أو كان في طِينٍ أو رَدْغَةٍ يُصَلِّي الْفَرْضَ على الدَّابَّةِ قَاعِدًا
بِالْإِيمَاءِ من غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لِأَنَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ هذه
الْأَعْذَارِ عَجَزَ عن تَحْصِيلِ هذه الْأَرْكَانِ من الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ فَصَارَ كما لو عَجَزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ويومىء ( ( ( ويومئ ) ) )
إيمَاءً لِمَا رُوِيَ في حديث جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي كان يومىء على
رَاحِلَتِهِ وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ من الرُّكُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ على الدَّابَّةِ بِجَمَاعَةٍ سَوَاءٌ تَقَدَّمَهُمْ
الْإِمَامُ أو تَوَسَّطَهُمْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال استحسن أَنْ يَجُوزَ اقْتِدَاؤُهُمْ
بِالْإِمَامِ إذَا كانت دَوَابُّهُمْ بِالْقُرْبِ من دَابَّةِ الْإِمَامِ على
وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فُرْجَةٌ إلَّا بِقَدْرِ
الصَّفِّ بِالْقِيَاسِ على الصَّلَاةِ على الْأَرْضِ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَكَانِ من
شَرَائِطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ لِيَثْبُتَ اتِّحَادُ الصَّلَاتَيْنِ تَقْدِيرًا
بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ الْمَكَانِ وَهَذَا مُمْكِنٌ على الْأَرْضِ لِأَنَّ
الْمَسْجِدَ جُعِلَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ شَرْعًا وَكَذَا في الصَّحْرَاءِ تُجْعَلُ
الْفُرُجُ التي بين
____________________
(1/108)
الصُّفُوفِ
مَكَانَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُشْغَلُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَيْضًا
فَصَارَ الْمَكَانُ مُتَّحِدًا وَلَا يُمْكِنُ على الدَّابَّةِ لِأَنَّهُمْ
يُصَلُّونَ عليها بِالْإِيمَاءِ من غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ فلم تَكُنْ الْفُرَجُ
إلى ( ( ( التي ) ) ) بين الصُّفُوفِ وَالدَّوَابِّ مَكَانَ الصَّلَاةِ فَلَا
يَثْبُتُ اتِّحَادُ الْمَكَانِ تَقْدِيرًا فَفَاتَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ
فلم يَصِحَّ وَلَكِنْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ حتى لو
كَانَا على دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ في مَحْمَلٍ وَاحِدٍ أو في شِقَّيْ مَحْمَلٍ
وَاحِدٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في شِقٍّ على حِدَةٍ فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا
بِالْآخَرِ جَازَ لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ
وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ على أَيِّ دَابَّةٍ كانت سَوَاءٌ كانت مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ
أو غير مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى على
حِمَارِهِ وَبَعِيرِهِ وَلَوْ كان على سَرْجِهِ قَذَرٌ جَازَتْ صَلَاتُهُ كَذَا
ذُكِرَ في الْأَصْلِ
وَعَنْ أبي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ
إذَا كانت النَّجَاسَةُ في مَوْضِعِ الْجُلُوسِ أو في مَوْضِعٍ الرِّكَابَيْنِ
أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ على
الْأَرْضِ وَأَوَّلَا الْعُذْرُ الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ بِالْعُرْفِ وَعِنْدَ
عَامَّةِ مَشَايِخِنَا تَجُوزُ كما ذكر ( ( ( ذكرنا ) ) ) في الْأَصْلِ
لِتَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى وهو قَوْلُهُ وَالدَّابَّةُ أَشَدُّ من ذلك
وهو يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ما في بَطْنِهَا من النَّجَاسَاتِ
أَكْثَرُ من هذا ثُمَّ إذَا لم يُمْنَعْ الْجَوَازُ فَهَذَا أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ
بِالصَّلَاةِ عليها من الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مع أَنَّ
الْأَرْكَانَ أَقْوَى من الشَّرَائِطِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ شَرْطُ طَهَارَةِ
الْمَكَانِ أَوْلَى
وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَكَانِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ عليه
وهو لَا يُؤَدِّي على مَوْضِعِ سَرْجِهِ وَرِكَابَيْهِ هَهُنَا رُكْنًا
لِيَشْتَرِطَ طَهَارَتَهَا إنَّمَا الذي يُوجَدُ منه الْإِيمَاءُ وهو إشَارَةٌ في
الْهَوَاءِ
فَلَا يُشْتَرَطُ له طَهَارَةُ مَوْضِعِ السَّرْجِ وَالرِّكَابَيْنِ
وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ على الدَّابَّةِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ كيف ما كانت
الدَّابَّةُ وَاقِفَةً أو سَائِرَةً لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى السَّيْرِ
فَأَمَّا لِعُذْرِ الطِّينِ وَالرَّدْغَةِ فَلَا يَجُوزُ إذَا كانت الدَّابَّةُ
سَائِرَةً لِأَنَّ السَّيْرَ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ في الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ
اعْتِبَارُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ولم تُوجَدْ وَلَوْ اسْتَطَاعَ النُّزُولَ ولم
يَقْدِرْ على الْقُعُودِ لِلطِّينِ وَالرَّدْغَةِ يَنْزِلُ ويومىء ( ( ( ويومئ ) )
) قَائِمًا على الْأَرْضِ وَإِنْ قَدَرَ على الْقُعُودِ ولم يَقْدِرْ على
السُّجُودِ يَنْزِلُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ لِأَنَّ السُّقُوطَ
بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الصَّلَاةُ في السَّفِينَةِ إذَا صلى فيها قَاعِدًا
بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أنه يَجُوزَ إذَا كان عَاجِزًا عن الْقِيَامِ وَالسَّفِينَةُ
جَارِيَةٌ وَلَوْ قام يَدُورُ رَأْسُهُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ في السَّفِينَةِ أَنَّ السَّفِينَةَ لَا
تَخْلُو إما إنْ كانت وَاقِفَةً أو سَائِرَةً فَإِنْ كانت وَاقِفَةً في الْمَاءِ
أو كانت مُسْتَقِرَّةً على الْأَرْضِ جَازَتْ الصَّلَاةُ فيها وَإِنْ أَمْكَنَهُ
الْخُرُوجُ منها لِأَنَّهَا إذَا اسْتَقَرَّتْ كان حُكْمُهَا حُكْمَ الْأَرْضِ
وَلَا تَجُوزُ إلَّا قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ
لِأَنَّهُ قَادِرٌ على تَحْصِيلِ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَإِنْ كانت
مَرْبُوطَةً غير مُسْتَقِرَّةٍ على الْأَرْضِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ منها
لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فيها قَاعِدًا لِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً
على الْأَرْضِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ
على الدَّابَّةِ مع إمْكَانِ النُّزُولِ كَذَا هذا وَإِنْ كانت سَائِرَةً فَإِنْ
أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ إلَى الشَّطِّ يُسْتَحَبُّ له الْخُرُوجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ
يَخَافُ دَوَرَانَ الرَّأْسِ في السَّفِينَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْقُعُودِ وهو
آمِنٌ عن الدَّوْرَانِ في الشَّطِّ فَإِنْ لم يَخْرُجْ وَصَلَّى فيها قَائِمًا
بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قال صلى
بِنَا أَنَسٌ رضي اللَّهُ عنه في السَّفِينَةِ قُعُودًا وَلَوْ شِئْنَا
لَخَرَجْنَا إلَى الْحَدِّ وَلِأَنَّ السَّفِينَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ
لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ
فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ
فإن سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ وإذا دَارَتْ السَّفِينَةُ وهو يُصَلِّي
يَتَوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ حَيْثُ دَارَتْ
لِأَنَّهُ قَادِرٌ على تَحْصِيلِ هذا الشَّرْطِ من غَيْرِ تَعَذُّرٍ فَيَجِبُ عليه
تَحْصِيلُهُ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فإن هُنَاكَ لَا إمْكَانَ
وَأَمَّا إذَا صلى فيها قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَإِنْ كان عَاجِزًا عن
الْقِيَامِ بِأَنْ كان يَعْلَمُ أَنَّهُ يَدُورُ رَأْسُهُ لو قام
و ( ( ( وعن ) ) ) ( عجز ) عن الْخُرُوجِ إلَى الشَّطِّ أَيْضًا يُجْزِئُهُ
بِالِاتِّفَاقِ
لِأَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِعُذْرِ الْعَجْزِ
وَإِنْ كان قَادِرًا على الْقُعُودِ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَصَلَّى بِالْإِيمَاءِ
لَا يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ
وَأَمَّا إذَا كان قَادِرًا على الْقِيَامِ أو على الْخُرُوجِ إلَى الشَّطِّ
فَصَلَّى قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقد
أَسَاءَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُجْزِئُهُ
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النبي فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ
لِلْقِيَامِ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي لَمَّا بَعَثَ جَعْفَرَ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه إلَى
الْحَبَشَةِ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ في السَّفِينَةِ قَائِمًا إلَّا أَنْ يَخَافَ
الْغَرَقَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ في الصَّلَاةِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا
بِعُذْرٍ ولم يُوجَدْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رَوَيْنَا من حديث أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ عن سُوَيْد بن غَفَلَةَ
أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن الصَّلَاةِ في
____________________
(1/109)
السَّفِينَةِ
فَقَالَا إنْ كانت جَارِيَةً يُصَلِّي قَاعِدًا وَإِنْ كانت رَاسِيَةً يُصَلِّي
قَائِمًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا قَدَرَ على الْقِيَامِ أو لَا وَلِأَنَّ
سَيْرَ السَّفِينَةِ سَبَبٌ لِدَوَرَانِ الرَّأْسِ غَالِبًا وَالسَّبَبَ يَقُومُ
مَقَامَ الْمُسَبِّبِ إذَا كان في الْوُقُوفِ على الْمُسَبِّبِ حَرَجٌ أو كان
الْمُسَبِّبُ بِحَالٍ يَكُونُ عَدَمُهُ مع وُجُودِ السَّبَبِ في غَايَةِ
النُّدْرَةِ فيلحق ( ( ( فألحقوا ) ) ) النَّادِرَ بِالْعَدَمِ وَلِهَذَا أَقَامَ
أبو حَنِيفَةَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ مَقَامَ خُرُوجِ الْمَذْيِ لِمَا أَنَّ
عَدَمَ الْخُرُوجَ عِنْدَ ذلك نَادِرٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ وَهَهُنَا
عَدَمُ دَوْرَانِ الرَّأْسِ في غَايَةِ النُّدْرَةِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَصَارَ
كَالرَّاكِبِ على الدَّابَّةِ وَهِيَ تَسِيرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِيَامُ
لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عليها غَالِبًا
كَذَا هذا
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ فَإِنْ صَلَّوْا في
السَّفِينَةِ بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ في
سَفِينَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كانت السَّفِينَتَانِ مَقْرُونَتَيْنِ جَازَ
لِأَنَّهُمَا بِالِاقْتِرَانِ صَارَتَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ كَانَا في سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ
كَذَا هذا
وَإِنْ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ لم يَجُزْ لِأَنَّ تَخَلُّلَ ما بَيْنَهُمَا
بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ
وَإِنْ كان الْإِمَامُ في سَفِينَةٍ وَالْمُقْتَدُونَ على الْحَدِّ وَالسَّفِينَةُ
وَاقِفَةٌ فَإِنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ طَرِيقٌ أو مِقْدَارُ نَهْرٍ عَظِيمٍ
لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَمِثْلَ هذا النَّهْرِ
يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا في مَوْضِعِهِ وَمَنْ وَقَفَ
على سَطْحِ السَّفِينَةِ يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ في السَّفِينَةِ صَحَّ
اقْتِدَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْإِمَامِ لِأَنَّ السَّفِينَةَ
كَالْبَيْتِ وَاقْتِدَاءَ الْوَاقِفِ على السَّطْحِ بِمَنْ هو في الْبَيْتِ
صَحِيحٌ إذَا لم يَكُنْ أَمَامَ الْإِمَامِ وَلَا يَخْفَى عليه حَالُهُ كَذَا
هَهُنَا
وَمِنْهَا الْقِرَاءَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِوُجُودِ حَدِّ الرُّكْنِ
وَعَلَامَتِهِ وَهُمَا ما بَيَّنَّا وقال اللَّهُ تَعَالَى { فاقرؤوا ( ( (
فاقرءوا ) ) ) ما تَيَسَّرَ من الْقُرْآنِ } وَالْمُرَادُ منه في حَالِ الصَّلَاةِ
وَالْكَلَامُ في الْقِرَاءَةِ في الْأَصْلِ يَقَعُ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا
في بَيَانِ فَرْضِيَّةِ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ
أما الْأَوَّلُ فَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ في الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ أبي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَسُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ
بِنَاءً على أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهُمَا اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ لَا لِلْأَذْكَارِ
حتى قَالَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ من غَيْرِ تَكْبِيرٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } مُجْمَلٌ
بَيَّنَهُ النبي بِفِعْلِهِ ثُمَّ قال صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
وَالْمَرْئِيُّ هو الْأَفْعَالُ دُونَ الْأَقْوَالِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ اسْمًا
لِلْأَفْعَالِ وَلِهَذَا تَسْقُطُ الصلاة عن الْعَاجِزِ عن الْأَفْعَالِ وَإِنْ
كان قَادِرًا على الْأَذْكَارِ وَلَوْ كان على الْقَلْبِ لَا يَسْقُطُ وهو
الْأَخْرَسُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فاقرؤوا ( ( ( فاقرءوا ) ) ) ما تَيَسَّرَ من
الْقُرْآنِ } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَقَوْلُ النبي لَا صَلَاةَ إلَّا
بِقِرَاءَةٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَالرُّؤْيَةُ أُضِيفَتْ
إلَى ذَاتِهِ لَا إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَقْتَضِي كَوْنَ الصَّلَاةِ مَرْئِيَّةً
وفي كَوْنِ الْأَعْرَاضِ مَرْئِيَّةً اخْتِلَافٌ بين أَهْلِ الْكَلَامِ مع
اتِّفَاقِهِمْ على أنها جَائِزَةُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ
الْحَقِّ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ يُعْرَفُ ذلك في مَسَائِلِ
الْكَلَامِ
على أَنَّا نَجْمَعُ بين الدَّلَائِلِ فَنُثْبِتُ فَرْضِيَّةَ الْأَقْوَالِ بِمَا
ذَكَرْنَا وَفَرْضِيَّةَ الْأَفْعَالِ بهذا الحديث وَسُقُوطُ الصَّلَاةِ عن
الْعَاجِزِ عن الْأَفْعَالِ لِكَوْنِ الْأَفْعَالِ أَكْثَرَ من الْأَقْوَالِ
فَمَنْ عَجَزَ عنها فَقَدْ عَجَزَ عن الْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
وَكَذَا الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال لَا قِرَاءَةَ في الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ لِظَاهِرِ قَوْلِ النبي صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ أَيْ ليس فيها
قِرَاءَةٌ إذْ الْأَعْجَمُ اسْمٌ لِمَنْ لَا يَنْطِقُ
وَلَنَا ما تَلَوْنَا من الْكِتَابِ وَرَوَيْنَا من السُّنَّةِ وفي الْبَابِ نَصٌّ
خَاصٌّ
وهو ما رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه وَأَبِي قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيَّيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ
وفي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا غَيْرُ وما رُوِيَ عن ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ عنه فإنه روى أَنَّ رَجُلًا
سَأَلَهُ وقال أَقْرَأُ خَلْفَ إمَامِي فقال أَمَّا في صَلَاةِ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَعْنَاهُ لَا تَسْمَعُ
فيها قِرَاءَةً
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ
وَهَذَا إذَا كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا فَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَلَا قِرَاءَةَ
عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ في كل
صَلَاةٍ يُخَافِتُ فيها بِالْقِرَاءَةِ قَوْلًا وَاحِدًا
وَلَهُ في الصَّلَاةِ التي يُجْهَرُ فيها بِالْقِرَاءَةِ قَوْلَانِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ
وَلَا شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ صَلَاةً على حِدَةٍ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ
رُكْنٌ في الصَّلَاةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالِاقْتِدَاءِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
____________________
(1/110)
أَمْرٌ
بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُمْكِنًا
عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالْإِنْصَاتُ مُمْكِنٌ فَيَجِبُ بِظَاهِرِ
النَّصِّ
وَعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَمَّا نَزَلَتْ هذه
الْآيَةُ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ وأمامهم كان رَسُولَ اللَّهِ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كان بِأَمْرِهِ
وقال في حَدِيثٍ مَشْهُورٍ إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا
تَخْتَلِفُوا عليه فإذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وإذا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا الْحَدِيثُ
أَمْرٌ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعِنْدَنَا لَا صَلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةٍ أَصْلًا وَصَلَاةُ
الْمُقْتَدِي لَيْسَتْ صلاة ( ( ( بصلاة ) ) ) بِدُونِ قِرَاءَةٍ أَصْلًا بَلْ
هِيَ صَلَاةٌ بِقِرَاءَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ على أَنَّ قِرَاءَةَ
الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لِلْمُقْتَدِي
قال النبي من كان له إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ له قِرَاءَةٌ
ثُمَّ الْمَفْرُوضُ هو أَصْلُ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا من غَيْرِ تَعْيِينٍ
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَيْنًا في الْأُولَيَيْنِ فَلَيْسَتْ
بِفَرِيضَةٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ على ما يُذْكَرُ في بَيَانِ وَاجِبَاتِ
الصَّلَاةِ
وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَمَحَلُّهَا
الرَّكْعَتَانِ الْأُولَيَانِ عَيْنًا في الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ هو
الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
وقال بَعْضُهُمْ رَكْعَتَانِ منها غَيْرُ عَيْنٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ
وَأَشَارَ في الْأَصْلِ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فإنه قال إذَا تَرَكَ
الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ يَقْضِيهَا في الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ جَعَلَ
الْقِرَاءَةَ في الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ
مَحَلَّهَا الْأُولَيَانِ عَيْنًا
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْمَفْرُوضُ هو الْقِرَاءَةُ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وقال مَالِكٌ في ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
وقال الشَّافِعِيُّ في كل رَكْعَةٍ
احْتَجَّ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فاقرؤوا ( ( ( فاقرءوا ) ) ) ما
تَيَسَّرَ من الْقُرْآنِ } وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ
فإذا قَرَأَ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّرْعِ
وقال النبي لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ أَثْبَتَ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةٍ وقد
وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ في رَكْعَةٍ فَثَبَتَتْ الصَّلَاةُ ضَرُورَةً
وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ يقول اسْمُ الصَّلَاةِ
يَنْطَلِقُ على كل رَكْعَةٍ فَلَا تَجُوزُ كُلُّ رَكْعَةٍ إلَّا بِقِرَاءَةٍ
لِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ في كل رَكْعَةٍ
فَرْضٌ في النَّفْلِ فَفِي الْفَرْضِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْوَى
وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ثُمَّ سَائِرُ
الْأَرْكَانِ من الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ في كل رَكْعَةٍ فَكَذَا
الْقِرَاءَةُ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ يقول الْقِرَاءَةُ في
الْأَكْثَرِ أقيم ( ( ( أقيمت ) ) ) مَقَامَ الْقِرَاءَةِ في الْكُلِّ تَيْسِيرًا
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْمَغْرِبِ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا في
الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَجَهَرَ وَعُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه تَرَكَ
الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ من صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا في
الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ وَعَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما كَانَا
يَقُولَانِ الْمُصَلِّي بِالْخِيَارِ في الْأُخْرَيَيْنِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ
شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ
وَسَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ في
الْأُخْرَيَيْنِ فقالت لِيَكُنْ على وَجْهِ الثَّنَاءِ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمْ
خِلَافُ ذلك فَيَكُونُ ذلك إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ في الْأُخْرَيَيْنِ
ذِكْرٌ يُخَافِتُ بها على كل حَالٍ فَلَا تَكُونُ فَرْضًا كَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ
هذا لِأَنَّ مَبْنَى الْأَرْكَانِ على الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَلَوْ كانت الْقِرَاءَةُ
في الْأُخْرَيَيْنِ فَرْضًا لَمَا خَالَفَتْ الْأُخْرَيَانِ الْأُولَيَيْنِ في
الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَحْنُ ما عَرَفْنَا فَرْضِيَّةَ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ
بل بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَاهُ وَالثَّانِي
إنا ما عَرَفْنَا فَرْضِيَّتَهَا بِنَصِّ الْأَمْرِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ
لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى وَالتَّكْرَارُ في
الْأَفْعَالِ إعَادَةٌ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَيَقْتَضِي إعَادَةَ الْقِرَاءَةِ
بِخِلَافِ الشَّفْعِ الثَّانِي لِأَنَّهُ ليس بِتَكْرَارِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ
بَلْ هو زِيَادَةٌ عليه
قالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ رَكْعَتَانِ زِيدَتْ في
الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ في السَّفَرِ
وَالزِّيَادَةُ على الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مثله
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الشَّفْعَانِ في وَصْفِ الْقِرَاءَةِ من حَيْثُ الْجَهْرُ
وَالْإِخْفَاءُ وفي قَدْرِهَا وهو قِرَاءَةُ السُّورَةِ فلم يَصِحَّ
الِاسْتِدْلَال على أَنَّ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانَ فَرْضِيَّةِ
الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِيهِمَا بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ
وقد خَرَجَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على مِقْدَارٍ فَيُجْعَلُ
بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ
كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ حتى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ
الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا في الْأُخْرَيَيْنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ وَلَوْ سَبَّحَ في كل رَكْعَةٍ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ مَكَانَ فَاتِحَةِ
الْكِتَابِ أو سَكَتَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا إنْ كان
عَامِدًا وَلَا سَهْوَ عليه إنْ كان سَاهِيًا
كَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بين
____________________
(1/111)
قِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وروى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إنْ
تَرَكَ الْفَاتِحَةَ عَامِدًا كان مُسِيئًا وَإِنْ كان سَاهِيًا فَعَلَيْهِ
سَجْدَتَا السَّهْوِ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ إنَّ الْمُصَلِّيَ
بِالْخِيَارِ في الْأُخْرَيَيْنِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ
شَاءَ سَبَّحَ
وَهَذَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَالْمَرْوِيُّ عنهما كَالْمَرْوِيِّ عن
النبي
وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في ثلاث مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ
الْجَوَازِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْقَدْرِ الذي يَخْرُجُ بِهِ عن حَدِّ الْكَرَاهَةِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ
أَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ من الْقِرَاءَةِ وَفِيمَا يُكْرَهُ
فَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْقَدْرَ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ
أَصْلُ الْجَوَازِ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ
أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ طَوِيلَةً كانت أو قَصِيرَةً
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { مُدْهَامَّتَانِ }
وَقَوْلِهِ { ثُمَّ نَظَرَ } وَقَوْلِهِ { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ }
وفي رِوَايَةٍ الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هو على أَدْنَى ما يَتَنَاوَلُهُ
الِاسْمُ سَوَاءٌ كانت آيَةً أو ما دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا على قَصْدِ
الْقِرَاءَةِ
وفي رِوَايَةٍ قُدِّرَ الْفَرْضُ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ
الدَّيْنِ أو ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فاقرؤوا ( ( ( فاقرءوا ) ) ) ما تَيَسَّرَ من
الْقُرْآنِ } فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ وَيَقُولَانِ مُطْلَقُ الْكَلَامِ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَأَدْنَى ما يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا في
الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً أو ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ
وأبو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمْرٌ
بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمْرٌ بِقِرَاءَةِ ما تَيَسَّرَ من الْقُرْآنِ وَعَسَى لَا
يَتَيَسَّرُ إلَّا هذا الْقَدْرُ
وما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ أَقْيَسُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَأْخُوذَةٌ من
الْقُرْآنِ أَيْ الْجَمْعِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ
فَيَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَيُقَالُ قَرَأْتُ الشَّيْءَ قُرْآنًا أَيْ
جَمَعْتُهُ فَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتُهُ فَقَدْ قَرَأْتُهُ وقد حَصَلَ مَعْنَى
الْجَمْعِ بهذا الْقَدْرِ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ
وَكَذَا الْعُرْفُ ثَابِتٌ فإن الْآيَةَ التَّامَّةَ أَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه
اسْمُ الْقُرْآنِ في الْعُرْفِ فَأَمَّا ما دُونَ الْآيَةِ فَقَدْ يُقْرَأُ لَا
على سَبِيلِ الْقُرْآنِ فَيُقَالُ بِسْمِ اللَّهِ أو الْحَمْدُ لِلَّهِ أو
سُبْحَانَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا بِالْآيَةِ التَّامَّةِ
على أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِتَسْمِيَتِهِ قَارِئًا في الْعُرْفِ لِأَنَّ هذا
أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فلايعتبر فيه عُرْفُ الناس وقد قَرَّرَ
الْقُدُورِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ إن الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ
وقال الْمَفْرُوضُ مُطْلَقُ الْقِرَاءَةِ من غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلِهَذَا يَحْرُمُ
ما دُونَ الْآيَةِ على الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ إلَّا أَنَّهُ قد يَقْرَأُ لَا على
قَصْدِ الْقُرْآنِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فإن الْآيَةَ التَّامَّةَ قد
تُقْرَأُ لَا على قَصْدِ الْقُرْآنِ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ
التَّسْمِيَةَ قد تُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ لَا لِقَصْدِ الْقُرْآنِ
وَهِيَ آيَةٌ تَامَّةٌ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا قَرَأَ على قَصْدِ الْقُرْآنِ
فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَوَازُ وَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْعُرْفُ لِمَا
بَيَّنَّا ثُمَّ الْجَوَازُ كما يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ
يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كان
يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو لَا يُحْسِنُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كان يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان لَا
يُحْسِنُ يَجُوزُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ أَحْسَنَ أو لم يُحْسِنْ
وإذا لم يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ عِنْدَهُ وَلَا يَقْرَأُ
بِالْفَارِسِيَّةِ وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فاقرؤوا ( ( ( فاقرءوا ) ) ) ما
تَيَسَّرَ من الْقُرْآنِ } أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ في الصَّلَاةِ فَهُمْ
قالوا إنَّ الْقُرْآنَ هو الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا
فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عن عُهْدَةِ الْأَمْرِ وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ
وَالْإِعْجَازُ من حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ
فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ وَلِهَذَا لم
تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ على الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ
إلَّا إنه إذَا لم يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ فَقَدْ عَجَزَ عن مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ
فَيَجِبُ عليه مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى هذا ليس بِقُرْآنٍ فَلَا يُؤْمَرُ بِقِرَاءَتِهِ
وأبو حَنِيفَةَ يقول إنَّ الْوَاجِبَ في الصَّلَاةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ من
حَيْثُ هو لَفْظٌ دَالٌّ على كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الذي هو صِفَةٌ قَائِمَةٌ
بِهِ لِمَا يَتَضَمَّنُ من الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالتَّرْغِيبِ
وَالتَّرْهِيبِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ لَا من حَيْثُ هو لَفْظٌ عَرَبِيٌّ
وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ عليه لَا يَخْتَلِفُ بين لَفْظٍ وَلَفْظٍ قال اللَّهُ {
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ }
وقال { إنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }
وَمَعْلُومٌ إنه ما كان في كُتُبِهِمْ بهذا اللَّفْظِ بَلْ بهذا الْمَعْنَى
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ هو الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ
فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إن كَوْنَ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا
لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا قُرْآنًا وَلَيْسَ في الْآيَةِ نَفْيُهُ
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ سُمِّيَتْ قُرْآنًا لِكَوْنِهَا دَلِيلًا على ما
هو الْقُرْآن وَهِيَ الصِّفَةُ التي هِيَ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ وَلِهَذَا قُلْنَا
إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ على إرَادَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ دُونَ الْعِبَارَاتِ
الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ يُوجَدُ في الْفَارِسِيَّةِ فَجَازَ
تَسْمِيَتُهَا قُرْآنًا دَلَّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا } أَخْبَرَ سبحانه وتعالى
____________________
(1/112)
أَنَّهُ
لو عَبَّرَ عنه بِلِسَانِ الْعَجَمِ كان قُرْآنًا وَالثَّانِي إنْ كان لَا
يُسَمَّى غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَكِنَّ قِرَاءَةَ الْعَرَبِيَّةَ ما
وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تُسَمَّى قُرْآنًا بَلْ لِكَوْنِهَا دَلِيلًا على ما هو
الْقُرْآنُ الذي هو صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قَرَأَ
عَرَبِيَّةً لَا يَتَأَدَّى بها كَلَامُ اللَّهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَضْلًا من
أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا وَاجِبًا وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ لَا يَخْتَلِفُ فَلَا
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَالدَّلِيل على أَنَّ عِنْدَهُمَا تُفْتَرَضُ
الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ على غَيْرِ الْقَادِرِ على الْعَرَبِيَّةِ
وَعُذْرُهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُرْآنِ
وأنه قُرْآنٌ عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ
دُونَ الْمَعْنَى فإذا زَالَ اللَّفْظُ لم يَكُنْ الْمَعْنَى قُرْآنًا فَلَا
مَعْنَى لِلْإِيجَابِ وَمَعَ ذلك وَجَبَ فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ ما ذَهَبَ
إلَيْهِ أبو حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ غير الْعَرَبِيَّةِ إذَا لم يَكُنْ قُرْآنًا لم
يَكُنْ من كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ من كَلَامِ الناس وهو يُفْسِدُ الصَّلَاةَ
وَالْقَوْلُ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَا هو مُفْسِدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْإِعْجَازَ من حَيْثُ اللَّفْظُ لَا يَحْصُلُ
بِالْفَارِسِيَّةِ فَنَعَمْ لَكِنَّ قِرَاءَةَ ما هو مُعْجِزُ النَّظْمِ عِنْدَهُ
ليس بِشَرْطٍ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَرَدَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ لَا
بِقِرَاءَةِ ما هو مُعْجِزٌ وَلِهَذَا جَوَّزَ قِرَاءَةَ آيَةٍ قَصِيرَةٍ وَإِنْ
لم تَكُنْ هِيَ مُعْجِزَةً ما لم تَبْلُغْ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَفَصْلُ الْجُنُبِ
وَالْحَائِضِ مَمْنُوعٌ
وَلَوْ قَرَأَ شيئا من التَّوْرَاةِ أو الْإِنْجِيلِ أو الزَّبُورِ في الصَّلَاةِ
إنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّفٍ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِمَا
قُلْنَا وَإِنْ لم يَتَيَقَّنْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عن
تَحْرِيفِهِمْ بِقَوْلِهِ { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عن مَوَاضِعِهِ } فَيُحْتَمَلُ
إن الْمَقْرُوءَ مُحَرَّفٌ فَيَكُونُ من كَلَامِ الناس فَلَا يُحْكَمُ
بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا تَشَهَّدَ أو خَطَبَ يوم الْجُمُعَةِ
بِالْفَارِسِيَّةِ وَلَوْ أَمَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ أو سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ
بِالْفَارِسِيَّةِ أو لَبَّى عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ أو بِأَيِّ
لِسَانٍ كان يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ
إنَّهُ على هذا الْخِلَافِ
وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ حتى
لو وَقَعَ بِهِ الْإِعْلَامُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ أنها سُنَّةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ إن اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ
عليها أَلَا تَرَى إن من حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ
يَحْنَثُ وَإِنْ لم يَقْعُدْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لِلْأَعْرَابِيِّ الذي عَلَّمَهُ
الصَّلَاةَ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ من آخِرِ السَّجْدَةِ وَقَعَدْتَ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ
الْأَخِيرَةِ وَأَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْفَرَائِضِ إذْ لم يَتِمَّ أَصْلُ
الْعِبَادَةِ بَعْدُ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تَمَامَ قَبْلَهَا إذْ الْمُعَلَّقُ
بِالشَّرْطِ عُدِمَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وَرُوِيَ أَنَّ النبي قام إلَى
الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَرَجَعَ وَلَوْ لم يَكُنْ فَرْضًا لَمَا رَجَعَ كما
في الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَلِأَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فيها وهو ما
ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا لم يَتَوَقَّفْ عليها اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
من الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ التي تَتَرَكَّبُ منها الصَّلَاةُ على ما
ذَكَرْنَا في أول الْكِتَابِ لَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من فَرَائِضِ الصَّلَاةِ
ثُمَّ الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ من الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ هو قَدْرُ التَّشَهُّدِ
حتى لو انْصَرَفَ قبل أَنْ يَجْلِسَ هذا الْقَدْرَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا
رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ
قال إذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَعَدَ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ
بِالْقَعْدَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَدَلَّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الِانْتِقَالُ من رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى
الرُّكْنِ فَكَانَ في مَعْنَى الرُّكْنِ فَهَذِهِ السِّتَّةُ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ
إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُوَلَ من الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ
الْبَاقِيَتَيْنِ
وقال بَعْضُهُمْ الْقَعْدَةُ من الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ أَيْضًا وَإِلَيْهِ
مَالَ عِصَامُ بن يُوسُفَ وَوَجْهُهُ أنها فَرْضٌ تَنْعَدِمُ الصَّلَاةُ
بِانْعِدَامِهَا كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ
وَالصَّحِيحُ أنها لَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ لِأَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ
يَنْطَلِقُ على الْمُتَرَكِّبِ من الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ بِدُونِ الْقُعُودِ
وَلِهَذَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عن الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ
غُرُوبِهَا وَوَقْتَ الزَّوَالِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ
الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ وَإِنْ لم تُوجَدْ الْقَعْدَةُ وَلَوْ أتى
بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَحْنَثُ وَلِأَنَّ الْقَعْدَةَ بِنَفْسِهَا غَيْرُ
صَالِحَةٍ لِلْخِدْمَةِ لِأَنَّهَا من بَابِ الِاسْتِرَاحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ
الْأَرْكَانِ فَتَمَكَّنَ الْخَلَلُ في كَوْنِهَا رُكْنًا أَصْلِيًّا فلم تَكُنْ
هِيَ من الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كانت من فُرُوضِهَا حتى
لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ
____________________
(1/113)
بِدُونِهَا
وَيُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ
وأما التَّحْرِيمَةُ فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا
بَلْ هِيَ شَرْطٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ وهو قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ
عِصَامُ بن يُوسُفَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ في بَابِ الْحَجِّ
أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ رُكْنٌ
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ بِنَاءُ النَّفْلِ على الْفَرْضِ
بِأَنْ يُحْرِمَ لِلْفَرْضِ وَيَفْرُغَ منه وَيَشْرَعَ في النَّفْلِ قبل التَّسْلِيمِ
من غَيْرِ تَحْرِيمَةٍ جَدِيدَةٍ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَمَّا كانت شَرْطًا
جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى النَّفَلُ بِتَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ كما يَتَأَدَّى
بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِلْفَرْضِ وَعِنْدَهُ لَمَّا كانت رُكْنًا وقد انْقَضَى
الْفَرْضُ بِأَرْكَانِهِ فَتَنْقَضِي التَّحْرِيمَةُ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فيها وهو ما
ذَكَرْنَا
وَكَذَا وُجِدَتْ عَلَامَةُ الْأَرْكَانِ فيها لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ بَلْ تَنْقَضِي
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا ما يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ
الْأَرْكَانِ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } عَطَفَ الصَّلَاةَ
على الذِّكْرِ الذي هو التَّحْرِيمَةُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ وَالِاسْتِدْلَالُ
بِالْآيَةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ بِحَرْفِ
التَّعْقِيبِ أَنْ تُوجَدَ الصَّلَاةُ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَوْ كانت التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ
الذِّكْر لِاسْتِحَالَةِ انْعِدَامِ الشَّيْءِ في حَالِ وُجُودِ رُكْنِهِ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَالثَّانِي أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بين الْمَعْطُوفِ
وَالْمَعْطُوفِ عليه وَلَوْ كانت التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَا تتحقق ( ( ( يتحقق )
) ) الْمُغَايَرَةُ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَبَعْضُ الشَّيْءِ ليس
غَيْرُهُ إنْ لم يَكُنْ عَيْنَهُ وَكَذَا الْمَوْجُودُ فيها حَدَّ الشَّرْطِ لَا
حَدُّ الرُّكْنِ فإنه يَعْتَبِرُ الصَّلَاةَ بها وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ
الصَّلَاةِ عليها مع سَائِرِ الشَّرَائِطِ فَكَانَتْ شَرْطًا وَكَذَا عَلَامَةُ
الشُّرُوطِ فيها مَوْجُودَةٌ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ حُكْمِهَا وهو
وُجُوبُ الِانْزِجَارِ عن مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ
على أَنَّ الْعَلَامَةَ إذَا خَالَفَتْ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْحَدُّ بَلْ
يَظْهَرُ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَاذِبَةٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ يُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ
فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ذلك لها بَلْ لِلْقِيَامِ الْمُتَّصِلِ بها
وَالْقِيَامُ رُكْنٌ حتى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَمَّا لم يَكُنْ
مُتَّصِلًا بِالرُّكْنِ جَوَّزْنَا تَقْدِيمَهُ على الْوَقْتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَرْكَانِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الشَّرَائِطِ
أنها نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جميعا وهو شَرَائِطُ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ وهو شَرَائِطُ جَوَازِ
الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ في صَلَاتِهِ
أَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَمِنْهَا الطَّهَارَةُ بِنَوْعَيْهَا من
الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ وَالطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ
الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَمَكَانِ الصَّلَاةِ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
وَالطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عن الْحَدَثِ
وَطَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ عن الْجَنَابَةِ
أَمَّا طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَطَهَارَةُ الْبَدَنِ عن النَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وإذا وَجَبَ
تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ }
إلَى قَوْلِهِ { لِيُطَهِّرَكُمْ }
وَقَوْلِ النبي لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ
وَقَوْلِهِ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ
وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا }
وَقَوْلِهِ تَحْتَ كل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا
الْبَشَرَةَ
وَالْإِنْقَاءُ هو التَّطْهِيرُ فَدَلَّتْ النُّصُوصُ على أَنَّ الطَّهَارَةَ
الْحَقِيقِيَّةَ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْحُكْمِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ
الصَّلَاةِ وَالْمَعْقُولُ كَذَا يَقْتَضِي من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّلَاةَ
خِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ وَخِدْمَةُ
الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ
بين يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِبَدَنٍ طَاهِرٍ وَثَوْبٍ طَاهِرٍ على مَكَان
طَاهِرٍ يَكُونُ أَبْلَغَ في التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ في الْخِدْمَةِ من
الْقِيَامِ بِبَدَنٍ نَجِسٍ وَثَوْبٍ نَجِسٍ وَعَلَى مَكَان نَجِسٍ كما في
خِدْمَةِ الملوك ( ( ( المملوك ) ) ) في الشَّاهِدِ
وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَإِنْ لم تَكُنْ نَجَاسَةً مَرْئِيَّةً
فَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تُوجِبُ اسْتِقْذَارَ ما حَلَّ بِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَافِحَ حُذَيْفَةَ بن
الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عنه امْتَنَعَ وقال إنِّي جُنُبٌ يا رَسُولَ اللَّهِ
فَكَانَ قِيَامُهُ مُخِلًّا بِالتَّعْظِيمِ على أَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ على
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ نَجَاسَةٌ رَأْسًا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عن الدَّرَنِ
وَالْوَسَخِ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ بَادِيَةٌ عَادَةً فَيَتَّصِلُ بها الدَّرَنُ
وَالْوَسَخُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا تَطْهِيرًا لها من الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ
فَتَتَحَقَّقُ الزِّينَةُ وَالنَّظَافَةُ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ
وَأَكْمَلَ في الْخِدْمَةِ
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بين يَدَيْ الْمُلُوكِ لِلْخِدْمَةِ في الشَّاهِدِ
أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ
تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ وَلِهَذَا كان الْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ في
أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَأَنْظَفِهَا التي أَعَدَّهَا لِزِيَارَةِ الْعُظَمَاءِ
____________________
(1/114)
وَلِمَحَافِلِ
الناس وَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَعَمِّمًا أَفْضَلَ من الصَّلَاةِ مَكْشُوفَ
الرَّأْسِ لِمَا أَنَّ ذلك أَبْلَغُ في الِاحْتِرَامِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ من الْحَدَثِ
وَالْجَنَابَةِ تَذْكِيرًا لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ من الْغِشِّ وَالْحَسَدِ
وَالْكِبْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذلك من أَسْبَابِ
الْمَآثِمِ فَأَمَرَ لَا لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ تَطْهِيرًا لِأَنَّ قِيَامَ
الْحَدَثِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ مع قِيَامِ الْحَدَثِ
وَالْجَنَابَةِ وَأَقْرَبُ من ذلك الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الذي هو رَأْسُ
الْعِبَادَاتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ ليس بِمَعْصِيَةٍ وَلَا سَبَبِ مَأْثَمٍ
وما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي التي في بَاطِنِهِ أَسْبَابُ الْمَآثِمِ فَأَمَرَ
بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ دَلَالَةً وَتَنْبِيهًا على تَطْهِيرِ
الْبَاطِنِ من هذه الْأُمُورِ وَتَطْهِيرُ النَّفَسِ عنها وَاجِبٌ بِالسَّمْعِ
وَالْعَقْلِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ هذه الْأَعْضَاءِ شُكْرًا للنعمة ( ( ( لنعمة
) ) ) وَرَاءَ النِّعْمَةِ التي وَجَبَتْ لها الصَّلَاةُ وَهِيَ أَنَّ هذه
الْأَعْضَاءَ وَسَائِلُ إلَى اسْتِيفَاءِ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ بَلْ بها تُنَالُ جُلُّ
نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْيَدُ بها يَتَنَاوَلُ وَيَقْبِضُ ما يَحْتَاجُ
إلَيْهِ وَالرِّجْلُ يَمْشِي بها إلَى مَقَاصِدِهِ وَالرَّأْسُ والوجه مَحَلُّ
الْحَوَاسِّ وَمَجْمَعُهَا التي بها يُعْرَفُ عِظَمُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى من
الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْأُذُنِ التي بها الْبَصَرُ وَالشَّمُّ
وَالذَّوْقُ وَالسَّمْعُ التي بها يَكُونُ التَّلَذُّذُ وَالتَّشَهِّي
وَالْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ النِّعَمِ فَأَمَرَ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ شُكْرًا
لِمَا يُتَوَسَّلُ بها إلَى هذه النِّعَمِ
وَالرَّابِعُ أَمَرَ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ تَكْفِيرًا لِمَا ارْتَكَبَ
بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ من الْإِجْرَامِ إذْ بها يَرْتَكِبُ جُلَّ الْمَآثِمِ من
أَخْذِ الْحَرَامِ وَالْمَشْيِ إلَى الْحَرَامِ وَالنَّظَرِ إلَى الْحَرَامِ
وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَسَمَاعِ الْحَرَامِ من اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ فَأَمَرَ
بِغَسْلِهَا تَكْفِيرًا لِهَذِهِ الذُّنُوبِ وقد وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِكَوْنِ
الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِلْمَآثِمِ فَكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ طَهِّرَا
بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } وقال في
مَوْضِعٍ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَخِدْمَةُ الْمَعْبُودِ
الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَأَدَاءُ
الصَّلَاةِ على مَكَان طَاهِرٍ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ طَهَارَةُ
مَكَانِ الصَّلَاةِ شَرْطًا
وقد رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول الله أَنَّهُ نهى عن
الصَّلَاةِ في الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَقَوَارِعِ
الطرق ( ( ( الطريق ) ) ) وَالْحَمَّامِ وَالْمَقْبَرَةِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ
اللَّهِ تَعَالَى
أَمَّا مَعْنَى النَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ
فَلِكَوْنِهِمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا مَعَاطِنُ الْإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ
إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ فيها أنها لَا تَخْلُو عن النَّجَاسَاتِ عَادَةً لَكِنَّ
هذا يُشْكِلُ بِمَا رُوِيَ من الحديث صَلُّوا في مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا
تُصَلُّوا في مَعَاطِنِ الْإِبِلِ مع أَنَّ الْمَعَاطِنَ وَالْمَرَابِضَ في
مَعْنَى النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا
تَبُولُ على الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ وَهَذَا لَا
يُتَوَهَّمُ في الْغَنَمِ
وَأَمَّا قَوَارِعُ الطُّرُقِ فَقِيلَ أنها لَا تَخْلُو عن الْأَرْوَاثِ
وَالْأَبْوَالِ عَادَةً فَعَلَى هذا لَا فَرْقَ بين الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ
وَالضَّيِّقِ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ فيها أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ
الْمَارَّةُ وَعَلَى هذا إذَا كان الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَا يُكْرَهُ وَحَكَى ابن
سماعه أَنَّ مُحَمَّدًا كان يُصَلِّي على الطَّرِيقِ في الْبَادِيَةِ
وَأَمَّا الْحَمَّامُ فَمَعْنَى النَّهْيِ فيه أَنَّهُ مَصَبُّ الْغُسَالَاتِ
وَالنَّجَاسَاتِ عَادَةً فَعَلَى هذا لو صلى في مَوْضِعِ الْحَمَّامِيِّ لَا
يُكْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ فيه أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ
فَعَلَى هذا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ في كل مَوْضِعٍ منه سَوَاءٌ غُسِلَ ذلك
الْمَوْضِعُ أو لم يُغْسَلْ
وَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَقِيلَ إنَّمَا نهى عن ذلك لِمَا فيه من التَّشْبِيهِ
بِالْيَهُودِ كما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي
مَسْجِدًا
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إلَى
قَبْرٍ فَنَادَاهُ الْقَبْرَ الْقَبْرَ فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يقول الْقَمَرَ
الْقَمَرَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فما زَالَ بِهِ حتى تَنَبَّهَ
فَعَلَى هذا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَتُكْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ
الْمَقَابِرَ لَا تَخْلُو عن النَّجَاسَاتِ لِأَنَّ الْجُهَّالَ يَسْتَتِرُونَ
بِمَا شَرُفَ من الْقُبُورِ فَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ خَلْفَهُ فَعَلَى هذا
لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لو كان في مَوْضِعٍ يَفْعَلُونَ ذلك لِانْعِدَامِ طَهَارَةِ
الْمَكَانِ
وَأَمَّا فَوْقَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَى النَّهْيِ عِنْدَنَا أَنَّ
الْإِنْسَانَ مَنْهِيٌّ عن الصُّعُودِ على سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِمَا فيه من تَرْكِ
التَّعْظِيمِ وَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الصَّلَاةِ عليه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا النَّهْيُ لِلْإِفْسَادِ حتى لو صلى على سَطْحِ
الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ
وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيمَا بَعْدُ
وَلَوْ صلى في بَيْتٍ فيه تَمَاثِيلُ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ كانت
التَّمَاثِيلُ مَقْطُوعَةَ الرؤوس أو لم تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرؤوس فَإِنْ كانت
مَقْطُوعَةَ الرؤوس فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فيه لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ
خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ تَمَاثِيلَ
____________________
(1/115)
وَالْتَحَقَتْ
بِالنُّقُوشِ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ إلَيْهِ
تُرْسٌ فيه تِمْثَالُ طَيْرٍ فَأَصْبَحُوا وقد مُحِيَ وَجْهُهُ
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَذِنَ
له فقال كَيْفَ أَدْخُلُ وفي الْبَيْتِ قِرَامٌ فيه تَمَاثِيلُ خُيُولٍ وَرِجَالٍ
فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رؤوسها ( ( ( رءوسها ) ) ) أو تُتَّخَذُ وَسَائِدَ
فَتُوطَأُ وَإِنْ لم تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرؤوس فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فيه سَوَاءٌ
كانت في جِهَةِ الْقِبْلَةِ أو في السَّقْفِ أو عن يَمِينِ الْقِبْلَةِ أو عن
يَسَارِهَا فَأَشَدُّ ذلك كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ
تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَلَوْ كانت في مُؤْخِرِ الْقِبْلَةِ أو تَحْتَ
الْقَدَمِ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ التَّشَبُّهِ في الصَّلَاةِ بِعَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ
وَكَذَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ إلَى بَيْتٍ فيه صُوَرٌ على سَقْفِهِ أو حِيطَانِهِ
أو على السُّتُورِ وَالْأُزُرِ وَالْوَسَائِدِ الْعِظَامِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه
السَّلَامُ قال إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ أو صُورَةٌ وَلَا خَيْرَ في
بَيْتٍ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ وَكَذَا نَفْسُ التَّعْلِيقِ لِتِلْكَ
السُّتُورِ وَالْأُزُرِ على الْجِدَارِ وَوَضْعُ الْوَسَائِدِ الْعِظَامِ عليه
مَكْرُوهٌ لِمَا في هذا الصَّنِيعِ من التشبه ( ( ( التشبيه ) ) ) بِعُبَّادِ
الصُّوَرِ لِمَا فيه من تَعْظِيمِهَا
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت دخل رسول اللَّهِ في بَيْتِي
وأنا مُسْتَتِرَةٌ بِسِتْرٍ فيه تَمَاثِيلُ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ وَجْهِ رسول
اللَّهِ حتى عَرَفْتُ الْكَرَاهَةَ في وَجْهِهِ فَأَخَذَهُ مِنِّي وَهَتَكَهُ بيده
فَجَعَلْنَاهُ نُمْرُقَةً أو نُمْرُقَتَيْنِ وَإِنْ كانت الصُّوَرُ على الْبُسُطِ
وَالْوَسَائِدِ الصِّغَارِ وَهِيَ تُدَاسُ بِالْأَرْجُلِ لَا تُكْرَهُ لِمَا فيه
من إهَانَتِهَا وَالدَّلِيلُ عليها حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها
وَلَوْ صلى على هذا الْبِسَاطِ فَإِنْ كانت الصُّورَةُ في مَوْضِعِ سُجُودِهِ
يُكْرَهُ لِمَا فيه من التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْنَامِ وَكَذَا
إذَا كانت أَمَامَهُ في مَوْضِعٍ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَحْصُلُ
بِتَقْرِيبِ الْوَجْهِ من الصُّورَةِ فَأَمَّا إذَا كانت في مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ
فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا فيه من الْإِهَانَةِ دُونَ التَّعْظِيمِ هذا إذَا كانت
الصُّورَةُ كَبِيرَةً فَأَمَّا إذَا كانت صَغِيرَةً لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ من
بَعِيدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ من يَعْبُدُ الصَّنَمَ لَا يَعْبُدُ الصَّغِيرَ
منها جِدًّا وقد رُوِيَ أَنَّهُ كان على خَاتَمِ أبي مُوسَى ذُبَابَتَانِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ على عَهْدِ عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه كان على فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِهِ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ ذلك في ابْتِدَاءِ حَالِهِ أو لِأَنَّ التِّمْثَالَ في شَرِيعَةِ من
قَبْلَنَا كان حَلَالًا قال اللَّهُ تَعَالَى في قِصَّةِ سُلَيْمَانَ {
يَعْمَلُونَ له ما يَشَاءُ من مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من
الْكَرَاهَةِ في صُورَةِ الْحَيَوَانِ
فَأَمَّا صُورَةُ ما لَا حَيَاةَ له كَالشَّجَرِ وَنَحْوِ ذلك فَلَا يُوجِبُ
الْكَرَاهَةَ لِأَنَّ عَبَدَةَ الصورة ( ( ( الصور ) ) ) لَا يَعْبُدُونَ
تِمْثَالَ ما ليس بِذِي رُوحٍ فَلَا يَحْصُلُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَكَذَا
النَّهْيُ إنَّمَا جاء عن تَصْوِيرِ ذِي الرُّوحِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من صَوَّرَ تِمْثَالَ ذِي الرُّوحِ كُلِّفَ يوم
الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فيه الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فَأَمَّا لَا نَهْيَ
عن تَصْوِيرِ ما لَا رُوحَ له لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ نهى مُصَوِّرًا عن التَّصْوِيرِ فقال كَيْفَ أَصْنَعُ وهو كَسْبِي فقال
إنْ لم يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِتِمْثَالِ الْأَشْجَارِ
وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أو قَبْرٍ أو
مَخْرَجٍ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا وَالْمَسَاجِدُ كَذَلِكَ
قال اللَّهُ تَعَالَى { في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها
اسْمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ } وَمَعْنَى
التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ إذَا كانت قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى هذه الْمَوَاضِعُ
لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عن الْأَقْذَارِ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
رحمهما الله تعالى أَنَّهُ قال هذا في مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ فَأَمَّا مَسْجِدُ
الرَّجُلِ في بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِبْلَتُهُ إلَى هذه
الْمَوَاضِعِ لِأَنَّهُ ليس له حُرْمَةُ الْمَسَاجِدِ حتى يَجُوزَ بَيْعُهُ
وَكَذَا لِلنَّاسِ فيه بَلْوَى بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ صلى في
مِثْلِ هذا الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى
قَوْلِ بِشْرِ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ لَا تَجُوزُ وَعَلَى هذا إذا ( ( ( المصلي
) ) ) صلى في أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أو صلى وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مَغْصُوبٌ لَا تَجُوزُ
عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى بِمَا هو مَنْهِيٌّ عنه
وَلَنَا أَنَّ النَّهْيَ ليس لِمَعْنًى في الصَّلَاةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ
الصَّلَاةِ وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ بين الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ هذه الْمَوَاضِعِ
حَائِلٌ من بَيْتٍ أو جِدَارٍ أو نَحْوِ ذلك فَإِنْ كان بَيْنَهُمَا حَائِلٌ لَا
يُكْرَهُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ حَاصِلٌ فَالتَّحَرُّزُ عنه غَيْرُ
مُمْكِنٍ
وَمِنْهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِدٍ } قِيلَ في التَّأْوِيلِ الزِّينَةُ ما يُوَارِي
الْعَوْرَةَ وَالْمَسْجِدُ الصَّلَاةُ فَقَدْ أَمَرَ بِمُوَارَاةِ الْعَوْرَةِ في
الصَّلَاةِ وقال النبي لَا صَلَاةَ لِلْحَائِضِ إلَّا بِخِمَارٍ كَنَى
بِالْحَائِضِ عن الْبَالِغَةِ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَلِيلُ الْبُلُوغِ فذكر
الْحَيْضَ وَأَرَادَ بِهِ الْبُلُوغَ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ
إجْمَاعُ الْأَمَةِ وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ حَالَ الْقِيَامِ بين يَدَيْ
اللَّهِ تَعَالَى من بَابِ التَّعْظِيمِ وَأَنَّهُ فُرِضَ عَقْلًا وَشَرْعًا
____________________
(1/116)
وإذا
كان السَّتْرُ فَرْضًا كان الِانْكِشَافُ مَانِعًا جَوَازَ الصَّلَاةِ ضَرُورَةً
وَالْكَلَامُ في بَيَانِ ما يَكُونُ عَوْرَةً وما لَا يَكُونُ مَوْضِعُهُ كِتَابُ
الِاسْتِحْسَانِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الذي
يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ
قَلِيلُ الِانْكِشَافِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ لِمَا فيه من الضَّرُورَةِ لِأَنَّ
الثِّيَابَ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ خَرْقٍ عَادَةً
وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَاخْتُلِفَ في الْحَدِّ الْفَاصِلِ
بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَقَدَّرَ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ الْكَثِيرَ
بِالرُّبْعِ وقالا ( ( ( فقالا ) ) ) الرُّبْعُ وما فَوْقَهُ من الْعُضْوِ كَثِيرٌ
وما دُونَ الرُّبْعِ فيه قَلِيلٌ وأبو يُوسُفَ جَعَلَ الْأَكْثَرَ من النِّصْفِ
كَثِيرًا وما دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عنه في
النِّصْفِ فَجَعَلَهُ في حُكْمِ الْقَلِيلِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وفي حُكْمِ
الْكَثِيرِ في الْأَصْلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ من الْمُتَقَابِلَاتِ
فَإِنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ فما كان مقابلة أَقَلَّ منه فَهُوَ كَثِيرٌ
وما كان مُقَابِلُهُ أَكْثَرَ منه فَهُوَ قَلِيلٌ
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الرُّبْعَ مَقَامَ الْكُلِّ في كَثِيرٍ من
الْمَوَاضِعِ كما في حَلْقِ ربع الرَّأْسِ في حَقِّ الْمُحْرِمِ وَمَسْحِ رُبْعِ
الرَّأْسِ كَذَا هَهُنَا إذْ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ وَأَمَّا
قَوْلُهُ إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ من أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ فَإِنَّمَا
يُعْرَفُ ذلك بِمُقَابِلِهِ فَنَقُولُ الشَّرْعُ قد جَعَلَ الرُّبْعَ كَثِيرًا في
نَفْسِهِ من غَيْرِ مُقَابَلَةٍ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ على ما بَيَّنَّا فَلَزِمَ
الْأَخْذُ بِهِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ ثُمَّ كَثِيرُ الِانْكِشَافِ يَسْتَوِي
فيه الْعُضْوُ الْوَاحِدُ وَالْأَعْضَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ حتى لو انْكَشَفَ من
أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ ما لو جُمِعَ لَكَانَ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
وَيَسْتَوِي فيه الْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ وَهِيَ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ
وَالْخَفِيفَةُ كَالْفَخْذِ وَنَحْوِهِ
وَمِنْ الناس من قَدَّرَ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ بِالدِّرْهَمِ تَغْلِيظًا
لِأَمْرِهَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ كُلُّهَا
لَا تَزِيدُ على الدِّرْهَمِ فَتَقْدِيرُهَا بِالدِّرْهَمِ يَكُونُ تَخْفِيفًا
لِأَمْرِهَا لَا تَغْلِيظًا له فَتَنْعَكِسُ الْقَضِيَّةُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ ما يَدُلُّ على أَنَّ حُكْمَ الْغَلِيظَةِ
وَالْخَفِيفَةِ وَاحِدٌ فإنه قال في امْرَأَةٍ صَلَّتْ فَانْكَشَفَ شَيْءٌ من
شَعْرِهَا وَشَيْءٌ من ظَهْرِهَا وَشَيْءٌ من فَرْجِهَا وَشَيْءٌ من فَخْذِهَا إنه
إنْ كان بِحَالٍ لو جُمِعَ بَلَغَ الرُّبْعَ مَنَعَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَإِنْ لم
يَبْلُغْ لَا يَمْنَعُ فَقَدْ جَمَعَ بين الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ
وَاعْتَبَرَ فيها الرُّبْعَ فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهَا لَا يَخْتَلِفُ وإن
الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهَذَا في حَالَةِ الْقُدْرَةِ
فَأَمَّا في حَالَةِ الْعَجْزِ فَالِانْكِشَافُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
بِأَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وهو عُرْيَانٌ لَا يَجِدُ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ
وَلَوْ كان معه ثَوْبٌ نَجِسٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان الرُّبْعُ منه طَاهِرًا
وأما إن كان كُلُّهُ نَجِسًا فَإِنْ كان رُبْعُهُ طَاهِرًا لم يُجْزِهِ أَنْ
يُصَلِّيَ عُرْيَانًا بَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يُصَلِّيَ في ذلك الثَّوْبِ لِأَنَّ
الرُّبْعَ فما فَوْقَهُ في حُكْمِ الْكَمَالِ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِ
الْمُحْرِمِ رُبْعَ الرَّأْسِ وَكَمَا يُقَالُ رأيت فُلَانًا وَإِنْ عَايَنَهُ من
إحْدَى جِهَاتِهِ الْأَرْبَعِ فَجُعِلَ كَأَنَّ الثَّوْبَ كُلَّهُ طاهرا ( ( (
طاهر ) ) ) وَإِنْ كان كُلُّهُ نَجِسًا أو الطَّاهِرُ منه أَقَلَّ من الرُّبْعِ
فَهُوَ بِالْخِيَارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنْ شَاءَ صلى
عُرْيَانًا وَإِنْ شَاءَ مع الثَّوْبِ لَكِنَّ الصَّلَاةَ في الثَّوْبِ أَفْضَلُ
وقال مُحَمَّدٌ لَا تُجْزِئُهُ إلَّا مع الثَّوْبِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَرْضٌ وَسَتْرَ
الْعَوْرَةِ فَرْضٌ إلَّا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّهُمَا وَآكَدُهُمَا
لِأَنَّهُ فَرْضٌ في الْأَحْوَالِ أَجْمَعِ وَفَرْضِيَّةُ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ
النَّجَاسَةِ مَقْصُورَةٌ على حَالَةِ الصَّلَاةِ فَيُصَارُ إلَى الْأَهَمِّ
فَتُسْتَرُ الْعَوْرَةُ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وَيَتَحَمَّلُ
اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ وَلِأَنَّهُ لو صلى عُرْيَانًا كان تَارِكًا فَرَائِضَ
منها سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَلَوْ صلى في
الثَّوْبِ النَّجِسِ كان تَارِكًا فَرْضًا وَاحِدًا وهو تَرْكُ اسْتِعْمَالِ
النَّجَاسَةِ فَقَطْ فَكَانَ هذا الْجَانِبُ أَهْوَنَ وقد قالت عَائِشَةُ رضي
اللَّهُ عنها ما خُيِّرَ رسول اللَّهِ بين شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ
أَهْوَنَهُمَا فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ
أَهْوَنَهُمَا
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَانِبَيْنِ في الْفَرْضِيَّةِ في حَقِّ الصَّلَاةِ على
السَّوَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كما لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ
عُرْيَانًا لَا تَجُوزُ مع الثَّوْبِ الْمَمْلُوءِ نَجَاسَةً وَلَا يُمْكِنُ
إقَامَةُ أَحَدِ الْفَرْضَيْنِ في هذه الْحَالَةِ إلَّا بِتَرْكِ الْآخَرِ
فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُمَا في حَقِّ الصَّلَاةِ فَيُخَيَّرُ فَيُجْزِئُهُ كيف ما
فَعَلَ إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ في الثَّوْبِ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ
وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ }
وَقَوْلُ النبي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ
مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَعَلَيْهِ
إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لِلصَّلَاةِ
شَرْطٌ زَائِدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ
الِاسْتِقْبَالُ فِيمَا هو رَأْسُ الْعِبَادَاتِ وهو الْإِيمَانُ وَكَذَا في
عَامَّةِ الْعِبَادَاتِ من الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَإِنَّمَا عُرِفَ
شَرْطًا في بَابِ الصَّلَاةِ شَرْعًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِقَدْرِ ما وَرَدَ
الشَّرْعُ بِهِ وَفِيمَا وَرَاءَهُ يُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ
ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا
أن كان قَادِرًا على الِاسْتِقْبَالِ أو كان عَاجِزًا عنه فَإِنْ كان قَادِرًا
يَجِبُ عليه التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ كان في حَالِ مُشَاهَدَةِ
الْكَعْبَةِ فَإِلَى عَيْنِهَا أَيْ أَيِّ جِهَةٍ كانت من جِهَاتِ الْكَعْبَةِ حتى
لو كان مُنْحَرِفًا عنها غير مُتَوَجِّهٍ إلَى شَيْءٍ منها لم يَجُزْ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }
____________________
(1/117)
وفي
وُسْعِهِ تَوْلِيَةُ الْوَجْهِ إلَى عَيْنِهَا فَيَجِبُ ذلك
وَإِنْ كان نائبا ( ( ( نائيا ) ) ) عن الْكَعْبَةِ غَائِبًا عنها يَجِبُ عليه
التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ بالأمارات
الدَّالَّةِ عليها لَا إلَى عَيْنِهَا وَتُعْتَبَرُ الْجِهَةُ دُونَ الْعَيْنِ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي وهو قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا
وَرَاءَ النَّهْرِ
وقال بَعْضُهُمْ الْمَفْرُوضُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ
وَالتَّحَرِّي وهو قَوْلُ أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حتى قالوا إنَّ نِيَّةَ
الْكَعْبَةِ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } من غَيْرِ
فَصْلٍ بين حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ وَلِأَنَّ لُزُومَ الِاسْتِقْبَالِ
لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى في الْعَيْنِ لَا في الْجِهَةِ
وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لو كانت الْجِهَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي له إذَا اجْتَهَدَ
فَأَخْطَأَ الْجِهَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ في اجْتِهَادِهِ
بِيَقِينٍ وَمَعَ ذلك لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
فَدَلَّ أَنَّ قِبْلَتَهُ في هذه الْحَالَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ
وَالتَّحَرِّي
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هو الْمَقْدُورُ عليه
وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عليها فَلَا تَكُونُ مَفْرُوضَةً
وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لو كانت عَيْنَ الْكَعْبَةِ في هذه الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي
وَالِاجْتِهَادِ لَتَرَدَّدَتْ صَلَاتُهُ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ
إنْ أَصَابَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِتَحَرِّيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لم يُصِبْ
عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ إلَّا
أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وأنه خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ وقد
عُرِفَ بُطْلَانُهُ في أُصُولِ الْفِقْهِ
أَمَّا إذَا جُعِلَتْ قِبْلَتُهُ الْجِهَةَ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ
لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْخَطَأِ فَنَزَلَتْ الْجِهَةُ في هذه الْحَالَةِ
مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ في حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ
يَجْعَلَ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ قِبْلَةً لِعِبَادِهِ على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ
وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في قَوْله تَعَالَى { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ من
الناس ما وَلَّاهُمْ عن قِبْلَتِهِمْ التي كَانُوا عليها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي من يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَلِأَنَّهُمْ
جَعَلُوا عَيْنَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً في هذه الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي وَأَنَّهُ
مَبْنِيٌّ على تَجَرُّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ من غَيْرِ أَمَارَةٍ وَالْجِهَةُ
صَارَتْ قِبْلَةً بِاجْتِهَادِهِمْ الْمَبْنِيِّ على الإمارات الدَّالَّةِ عليها
من النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذلك فَكَانَ فَوْقَ الِاجْتِهَادِ
بِالتَّحَرِّي
وَلِهَذَا إنَّ من دخل بَلْدَةً وَعَايَنَ الْمَحَارِيبَ الْمَنْصُوبَةَ فيها
يَجِبُ عليه التَّوَجُّهُ إلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ له التَّحَرِّي وَكَذَا إذَا دخل
مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ له وَبِحَضْرَتِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ له
التَّحَرِّي بَلْ يَجِبُ عليه السُّؤَالُ من أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ لهم
عِلْمًا بِالْجِهَةِ الْمَبْنِيَّةِ على الْأَمَارَاتِ فَكَانَ فَوْقَ الثَّابِتِ
بِالتَّحَرِّي
وَكَذَا لو كان في الْمَفَازَةِ وَالسَّمَاءُ مصحبة ( ( ( مصحية ) ) ) وَلَهُ
عِلْمٌ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ على الْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ له
التَّحَرِّي لِأَنَّ ذلك فَوْقَ التَّحَرِّي وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِيَّةَ
الْكَعْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَنْوِيَ الْكَعْبَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُحَاذِيَ
هذه الْجِهَةُ الْكَعْبَةَ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ
وَلَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ حَالَةَ الْقُدْرَةِ
وَالْقُدْرَةَ حَالَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا حَالَ الْبُعْدِ عنها وهو الْجَوَابُ
عن قَوْلِهِمْ أن الِاسْتِقْبَالَ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ أَنَّ ذلك حَالَ
الْقُدْرَةِ على الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا دُونَ حَالِ الْعَجْزِ عنه
وَأَمَّا إذَا كان عَاجِزًا فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان عَاجِزًا بِسَبَبِ عُذْرٍ
من الْأَعْذَارِ مع الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ وَأَمَّا إنْ كان عَجْزُهُ بِسَبَبِ
الِاشْتِبَاهِ فَإِنْ كان عَاجِزًا لِعُذْرٍ مع الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ فَلَهُ
أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كانت وَيَسْقُطَ عنه الِاسْتِقْبَالُ نحو أَنْ
يَخَافَ على نَفْسِهِ من الْعَدُوِّ في صَلَاةِ الْخَوْفِ أو كان بِحَالٍ لو
اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَثِبُ عليه الْعَدُوُّ أو قُطَّاعُ الطَّرِيقِ أو
السَّبْعُ أو كان على لَوْحٍ من السَّفِينَةِ في الْبَحْرِ لو وَجَّهَهُ إلَى
الْقِبْلَةِ يَغْرَقُ غَالِبًا أو كان مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ
بِنَفْسِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ من يُحَوِّلَهُ إلَيْهَا
وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ هذا شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَإِنْ كان
عَاجِزًا بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ وهو أَنْ يَكُونَ في الْمَفَازَةِ في لَيْلَةٍ
مُظْلِمَةٍ أو لَا عِلْمَ له بالإمارات الدَّالَّةِ على الْقِبْلَةِ
فَإِنْ كان بِحَضْرَتِهِ من يَسْأَلُهُ عنها لَا يَجُوزُ له التَّحَرِّي لِمَا
قُلْنَا بَلْ يَجِبُ عليه السُّؤَالُ
فَإِنْ لم يَسْأَلْ وَتَحَرَّى وَصَلَّى فَإِنْ أَصَابَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وإن
لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ جَازَ له التَّحَرِّي
لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَلَيْسَ في وُسْعِهِ
إلَّا التَّحَرِّي فَتَجُوزُ له الصَّلَاةُ بِالتَّحَرِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ تَحَرَّوْا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ
____________________
(1/118)
وَصَلَّوْا
ولم يُنْكِرْ عليهم النبي
فَدَلَّ على الْجَوَازِ فإذا صلى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَلَا يَخْلُو إمَّا
أَنْ صلى إلَى جهة ( ( ( الجهة ) ) ) بِالتَّحَرِّي أو بِدُونِ التَّحَرِّي فَإِنْ
صلى بِدُونِ التَّحَرِّي فَلَا يَخْلُو من أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ كان لم يَخْطُرْ
بِبَالِهِ شَيْءٌ ولم يَشُكَّ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ أو خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ
في جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى من غَيْرِ تَحَرٍّ أو تَحَرَّى وَوَقَعَ
تَحَرِّيهِ على جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لم يَقَعْ عليها التَّحَرِّي
أَمَّا إذَا لم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ ولم يَشُكَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ من
الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هو الْجَوَازُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِهَةِ قِبْلَةٌ
بِشَرْطِ عَدَمِ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ من السُّؤَالِ أو
التَّحَرِّي ولم يُوجَدْ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجِبُ عليه إذَا لم يَكُنْ
شَاكًّا فإذا مَضَى على هذه الْحَالَةِ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ صَارَتْ
الْجِهَةُ التي صلى إلَيْهَا قِبْلَةً له ظَاهِرًا فَإِنْ ظَهْرَ أنها جِهَةُ الْكَعْبَةِ
تَقَرَّرَ الْجَوَازُ
فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ بِأَنْ انْجَلَى الظَّلَامُ وَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ صلى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ أو تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ على
غَيْرِ الْجِهَةِ التي صلى إلَيْهَا إنْ كان بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ
يُعِيدُ وَإِنْ كان في الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ ما جُعِلَ حُجَّةً
بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَقْوَى يَبْطُلُ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالِاجْتِهَادِ إذَا
ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ
وَأَمَّا إذَا شَكَّ ولم يَتَحَرَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ
هو الْفَسَادُ فإذا ظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ في غَيْرِ الْجِهَةِ التي صلى
إلَيْهَا أما بِيَقِينٍ أو بِالتَّحَرِّي تَقَرَّرَ الْفَسَادُ
وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْجِهَةَ التي صلى إلَيْهَا قبله إنْ كان بَعْدَ الْفَرَاغِ
من الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ إذَا شَكَّ في جِهَةِ
الْكَعْبَةِ وَبَنَى صَلَاتَهُ على الشَّكِّ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ
التي صلى إلَيْهَا قِبْلَةً وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَكُونَ فَإِنْ ظَهَرَ أنها لم
تَكُنْ قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
وَإِنْ ظَهَرَ أنها كانت قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى إلَى الْقِبْلَةِ فَلَا
يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ في الِابْتِدَاءِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
بَلْ يُحْكَمُ بِالْفَسَادِ بِنَاءً على الْأَصْلِ وهو الْعَدَمُ بِحُكْمِ
اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فإذا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صلى إلَى الْقِبْلَةِ بَطَلَ
الْحُكْمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَثَبَتَ الْجَوَازُ من الْأَصْلِ
وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ في وَسَطِ الصَّلَاةِ رُوِيَ عن أبي يُوسُف أَنَّهُ يَبْنِي
على صَلَاتِهِ لِمَا قُلْنَا
وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ شُرُوعَهُ في الصَّلَاةِ بِنَاءً
على الشَّكِّ وَمَتَى ظَهَرَتْ الْقِبْلَةُ إمَّا بِالتَّحَرِّي أو بِالسُّؤَالِ
من غَيْرِهِ صَارَتْ حَالَتُهُ هذه أَقْوَى من الْحَالَةِ الْأُولَى وَلَوْ
ظَهَرَتْ في الِابْتِدَاءِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى هذه الْجِهَةَ
فَكَذَا إذَا ظَهَرَتْ في وَسَطِ الصَّلَاةِ وَصَارَ كالمومىء ( ( ( كالمومئ ) ) )
إذَا قَدَرَ على الْقِيَامِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ لِمَا
ذَكَرْنَا كَذَا هذا
وَأَمَّا إذَا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ
أُخْرَى من غَيْرِ تَحَرٍّ فَإِنْ أَخْطَأَ لَا تُجْزِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ
أَصَابَ فَكَذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ
يَجُوزُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّحَرِّي هو الْإِصَابَةُ وقد حَصَلَ
هذا الْمَقْصُودُ فَيُحْكَمُ بِالْجَوَازِ كما إذَا تَحَرَّى في الْأَوَانِي
فَتَوَضَّأَ بِغَيْرِ ما وَقَعَ عليه التَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ
يُجْزِيهِ كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ
الْجِهَةُ التي مَالَ إلَيْهَا الْمُتَحَرِّي فإذا تَرَكَ الْإِقْبَالَ إلَيْهَا
فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا هو قِبْلَتُهُ مع الْقُدْرَةِ عليه فَلَا يَجُوزُ كَمَنْ
تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ مع الْقُدْرَةِ عليه
بِخِلَافِ الْأَوَانِي لِأَنَّ الشَّرْطَ هو التوضأ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ
حَقِيقَةً وقد وُجِدَ
فَأَمَّا إذَا صلى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خطأه
فَإِنْ كان قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَتَمَّ
الصَّلَاةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ
إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ ولم
يَأْمُرْهُمْ رسول اللَّهِ بِالْإِعَادَةِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ
إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ
حَالَ الِاشْتِبَاهِ فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَلِأَنَّ تَبَدُّلَ
الرَّأْيِ في مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ وَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ
بِالْمَنْسُوخِ في زَمَانِ ما قبل النَّسْخِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صلى يَمْنَةً
أو يَسْرَةً يُجْزِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ظَهَرَ
أَنَّهُ صلى مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ يُجْزِيهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْزِيهِ وَعَلَى هذا إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ
على قَوْمٍ فَتَحَرَّوْا وَصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ
عِنْدَنَا إلَّا صَلَاةَ من تَقَدَّمَ على إمَامِهِ أو عَلِمَ بِمُخَالَفَتِهِ
إيَّاهُ
وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صلى إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ وقد
ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فَيَبْطُلُ كما إذَا تَحَرَّى وَصَلَّى في ثَوْبٍ على ظَنٍّ
أَنَّهُ طَاهِرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ
وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كذلك هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ التي تَحَرَّى
إلَيْهَا وقد صلى إلَيْهَا فَتُجْزِيهِ كما إذَا صلى إلَى الْمَحَارِيبِ
الْمَنْصُوبَةِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ قِبْلَتُهُ هِيَ جِهَةُ التَّحَرِّي
النَّصُّ والمنقول ( ( ( والمعقول ) ) )
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ } قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ ثَمَّةَ قِبْلَةُ
____________________
(1/119)
اللَّهِ
وَقِيلَ ثَمَّةَ رِضَاءُ اللَّهِ وَقِيلَ ثَمَّةَ وَجْهُ اللَّهِ الذي وَجَّهَكُمْ
إلَيْهِ إذْ لم يجىء ( ( ( يجئ ) ) ) مِنْكُمْ التَّقْصِيرُ في طَلَبِ الْقِبْلَةِ
وَأَضَافَ التَّوَجُّهَ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا في ذلك بِفِعْلِ
اللَّهِ تَعَالَى من ( ( ( بغير ) ) ) غير تَقْصِيرٍ كان منهم في الطَّلَبِ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النبي لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ تِمَّ على صَوْمِكَ
فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ وَإِنْ وُجِدَ الْأَكْلُ من الصَّائِمِ
حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا لم يَكُنْ قَاصِدًا فيه أَضَافَ فِعْلَهُ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى وَصَيَّرَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ لم يَأْكُلْ كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا كان
تَوَجُّهُهُ إلَى هذه الْجِهَةِ من غَيْرِ قَصْدٍ منه حَيْثُ أتى بِجَمِيعِ ما في وُسْعِهِ
وَإِمْكَانِهِ أَضَافَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك إلَى ذَاتِهِ
وَجَعَلَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ تَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ له إلَى إصَابَةِ عَيْنِ
الْكَعْبَةِ وَلَا إلَى إصَابَةِ جِهَتِهَا في هذه الْحَالَةِ لِعَدَمِ
الدَّلَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهَا وَالْكَلَامُ فيه وَالتَّكْلِيفُ
بِالصَّلَاةِ مُتَوَجِّهٌ وَتَكْلِيفُ ما لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ مُمْتَنِعٌ
وَلَيْسَ في وُسْعِهِ إلَّا الصَّلَاةُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي فَتَعَيَّنَتْ هذه
قِبْلَةً له شَرْعًا في هذه الْحَالَةِ فَنَزَلَتْ هذه الْجِهَةُ حَالَةَ
الْعَجْزِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَالْمِحْرَابِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ
وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّحَرِّي شَرْطًا نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا
لِإِصَابَةِ الْقِبْلَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما أَخْطَأَ قِبْلَتَهُ لِأَنَّ
قِبْلَتَهُ جِهَةُ التَّحَرِّي وقد صلى إلَيْهَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ
لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هو الصَّلَاةُ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً
لَكِنَّهُ أُمِرَ بِإِصَابَتِهِ بِالتَّحَرِّي فإذا لم يُصِبْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ
فلم يَجُزْ أَمَّا هَهُنَا فَالشَّرْطُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقِبْلَتُهُ هذه
في هذه الْحَالَةِ وقد اسْتَقْبَلَهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَيَخْرُجُ على ما ذَكَرْنَا الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ خَارِجَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ
إنْ كان في حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى
عَيْنِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ
بِالنَّصِّ وَيَجُوزُ إلَى أي الْجِهَاتِ من الْكَعْبَةِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ كان
مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ منها لِوُجُودِ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ شَطْرَ الْكَعْبَةِ
فَإِنْ صلى مُنْحَرِفًا عن الْكَعْبَةِ غير مُوَاجِهٍ لِشَيْءٍ منها لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى قِبْلَتِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه وَشَرَائِطُ
الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ من غَيْرِ عُذْرٍ
ثُمَّ إنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ لَا يَخْلُو أما إن صَلُّوا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَ
الْكَعْبَةِ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ وأما إن صَلُّوا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ منها
مُصْطَفِّينَ فَإِنْ صَلَّوْا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا كان
كُلُّ وَاحِدٍ منهم مُسْتَقْبِلًا جزأ من الْكَعْبَةِ وَلَا يَجُوزُ لهم أَنْ
يَصْطَفُّوا زِيَادَةً على حَائِطِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ فَعَلُوا ذلك لَا تَجُوزُ
صَلَاةُ من جَاوَزَ الْحَائِطَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ
اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا وَإِنْ صَلَّوْا حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ جَازَ
لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا من لَدُنْ رسول اللَّهِ إلَى
يَوْمِنَا هذا وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ في مَقَامِ إبْرَاهِيمَ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه ثُمَّ صَلَاةُ الْكُلِّ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا
أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ من الْإِمَامِ أو أَبْعَدَ إلَّا صَلَاةَ من كان
أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ من الْإِمَامِ في الْجِهَةِ التي يُصَلِّي الْإِمَامُ
إلَيْهَا بِأَنْ كان مُتَقَدِّمًا على الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ فَيَكُونُ ظَهْرُهُ
إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ أو كان على يَمِينِ الْإِمَامِ أو يَسَارِهِ مُتَقَدِّمًا
عليه من تِلْكَ الْجِهَةِ وَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى الصَّفِّ الذي مع الْإِمَامِ
وَوَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان مُتَقَدِّمًا على إمَامِهِ فلا
يَكُونُ تَابِعًا له فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ ما إذَا كان
أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ من الْإِمَامِ من غَيْرِ الْجِهَةِ التي صلى ( ( ( يصلي
) ) ) إلَيْهَا الْإِمَامُ لِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُقَابِلِ لِلْإِمَامِ
وَالْمُقَابِلُ لِغَيْرِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونُ تَابِعًا له بِخِلَافِ
الْمُتَقَدِّمِ عليه
وَعَلَى هذا إذَا قَامَتْ امْرَأَةٌ بِجَنْبِ الْإِمَامِ في الْجِهَةِ التي
يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ وَنَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ
الْإِمَامِ لِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ
وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَوْ قَامَتْ في
الصَّفِّ في غَيْرِ جِهَةِ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهَا
في الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ من على يَمِينِهَا
وَيَسَارِهَا وَمَنْ كان خَلْفَهَا على ما يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ كانت
الْكَعْبَةُ مُنْهَدِمَةً فَتَحَلَّقَ الناس حَوْلَ أَرْضِ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا
هَكَذَا أو صلى مُنْفَرِدًا مُتَوَجِّهًا إلَى جُزْءٍ منها جَازَ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كان بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ اسْمٌ
لِلْبُقْعَةِ وَالْبِنَاءِ جميعا إلَّا إذَا كان بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لِأَنَّهَا
من تَوَابِعِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ من الْبَيْتِ مَعْنًى
وَلَنَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فإن الناس كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الْبُقْعَةِ حين
رُفِعَ الْبِنَاءُ في عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حين بَنَى الْبَيْتَ على قَوَاعِدِ
الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه وفي عَهْدِ الْحَجَّاجِ حين أَعَادَهُ إلَى ما
كان عليه في الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ مَقْضِيَّةً بِالْجَوَازِ وَبِهِ
تُبُيِّنَ أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ سَوَاءٌ كان ثَمَّةَ بِنَاءٌ أو
لم يَكُنْ وقد وُجِدَ التوج ( ( ( التوجه ) ) ) إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ
تَرْكُ اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لِمَا فيه من اسْتِقْبَالِ الصورة الصُّورَةِ
____________________
(1/120)
وقد
نهى رسول اللَّهِ عن ذلك في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَ الْبِنَاءُ في عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَمَرَ
ابن عَبَّاسٍ بِتَعْلِيقِ الْأَنْطَاعِ في تِلْكَ الْبُقْعَةِ لِيَكُونَ ذلك
بِمَنْزِلَةِ السُّتْرَةِ لهم وَعَلَى هذا إذَا صلى على سطح ( ( ( ظهر ) ) )
الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ لم يَكُنْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيهِ بِدُونِ السُّتْرَةِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ
وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا حُرْمَةَ له لِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو نقل ( ( (
نفل ) ) ) إلَى عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَى إلَيْهَا لَا يَجُوزُ بَلْ كانت
حُرْمَتُهُ لِاتِّصَالِهِ بِالْعَرْصَةِ الْمُحْتَرَمَةِ
وَالدَّلِيلُ عليه أن من صلى على جَبَلِ أبي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَى الْبِنَاءِ بَلْ إلَى الْهَوَاءِ دَلَّ
أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعَرْصَةِ وَالْهَوَاءِ دُونَ الْبِنَاءِ هذا إذَا صَلَّوْا
خَارِجَ الْكَعْبَةِ فَأَمَّا إذَا صَلَّوْا في جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَالصَّلَاةُ
في جَوْفِ الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ نَافِلَةً كانت أو
مَكْتُوبَةً
وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ إنْ كان مُسْتَقْبِلًا
جِهَةً كان مُسْتَدْبِرًا جِهَةً أُخْرَى وَالصَّلَاةُ مع اسْتِدْبَارِ
الْقِبْلَةِ لَا تَجُوزُ فَأَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ في الْمَكْتُوبَاتِ فَأَمَّا
في التَّطَوُّعَاتِ فَالْأَمْرُ فيها أَوْسَعُ وَصَارَ كَالطَّوَافِ في جَوْفِ
الْكَعْبَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ من الْكَعْبَةِ غير عَيْنٍ
وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً له بِالشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ
وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ وَمَتَى صَارَتْ قبله فَاسْتِدْبَارُهَا في الصَّلَاةِ من
غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَكُونُ مُفْسِدًا فَأَمَّا الْأَجْزَاءُ التي لم يَتَوَجَّهْ
إلَيْهَا لم تَصِرْ قِبْلَةً في حَقِّهِ فَاسْتِدْبَارُهَا لَا يَكُونُ مُفْسِدًا
وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنَّ من صلى في جَوْفِ الْكَعْبَةِ رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ
وَرَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ
مُسْتَدْبِرًا عن الْجِهَةِ التي صَارَتْ قِبْلَةً في حَقِّهِ بِيَقِينٍ من غَيْرِ
ضَرُورَةٍ وَالِانْحِرَافُ ( عن القبلة ) من غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُفْسِدٌ
لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ النَّائِي عن الْكَعْبَةِ إذَا صلى بِالتَّحَرِّي إلَى
الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بِأَنْ صلى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ
إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَصَلَّى رَكْعَةً إلَيْهَا هَكَذَا جَازَ لِأَنَّ هُنَاكَ لم
يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عن الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْجِهَةَ التي تَحَرَّى
إلَيْهَا ما صَارَتْ قِبْلَةً له بِيَقِينٍ بَلْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَحِينَ
تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى صَارَتْ قِبْلَتُهُ هذه الْجِهَةَ في
الْمُسْتَقْبَلِ ولم يَبْطُلْ ما أَدَّى بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ما
أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا
في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَى الْقِبْلَةِ فلم يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عن
الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ فَهُوَ الْفَرْقُ
ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إن صَلَّوْا في جَوْفِ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ أو
مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ مُتَحَلِّقِينَ
جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ من وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ أو إلَى
يَمِينِ الْإِمَامِ أو إلَى يَسَارِهِ أو ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَكَذَا
صَلَاةُ من وَجْهُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فيه من
اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ الصُّورَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْإِمَامِ سُتْرَةٌ
وَأَمَّا صَلَاةُ من كان مُتَقَدِّمًا على الْإِمَامِ وَظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ
الْإِمَامِ وَصَلَاةُ من كان مُسْتَقْبِلًا جِهَةَ الْإِمَامِ وهو أَقْرَبُ إلَى
الْحَائِطِ من الْإِمَامِ فَلَا تَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَهَذَا بِخِلَافِ
جَمَاعَةٍ تَحَرَّوْا في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاقْتَدُوا بِالْإِمَامِ حَيْثُ لَا
تَجُوزُ صَلَاةُ من عَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ في جِهَتِهِ لِأَنَّ
هُنَاكَ اعْتَقَدَ الْخَطَأَ في صَلَاةِ إمَامِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ إمَامَهُ
غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ فلم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ أما هَهُنَا فما
اعْتَقَدَ الْخَطَأَ في صَلَاةِ إمَامِهِ لِأَنَّ كُلَّ جَانِبٍ من جَوَانِبِ
الْكَعْبَةِ قِبْلَةٌ بِيَقِينٍ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَإِنْ صَلَّوْا مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ إلَى جِهَةِ الْإِمَامِ فَلَا
شَكَّ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ وَكَذَا إذَا كان وَجْهُ بَعْضِهِمْ إلَى
ظَهْرِ الْإِمَامِ وَظَهْرُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِهِ لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ
الْقِبْلَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا قبله ( ( ( أمامه
) ) ) وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْإِمَامَ إذَا نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ
فَقَامَتْ امْرَأَةٌ بِحِذَائِهِ مُقَابِلَةً له لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ
لِأَنَّهَا في الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ من كان
عن يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَخَلْفِهَا في الْجِهَةِ التي هِيَ فيها
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ في أَنَّ النبي هل صلى في الْكَعْبَةِ حين دَخَلَهَا
رَوَى أُسَامَةُ بن زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ لم يُصَلِّ فيه ( ( ( فيها ) )
) وَرَوَى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى فيها رَكْعَتَيْنِ بين
السَّارِيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ والله أعلم
وَمِنْهَا الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَقْتَ كما هو سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ
شَرْطٌ لِأَدَائِهَا قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ كانت على الْمُؤْمِنِينَ
كِتَابًا مَوْقُوتًا } أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حتى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ
قبل وَقْتِهِ إلَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ يوم عَرَفَةَ على ما يُذْكَرُ وَالْكَلَامُ
فيه يَقَعُ في ثلاث مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ
الْمَفْرُوضَةِ وفي بَيَانِ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وفي بَيَانِ
الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ منها وفي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لِبَعْضِ
الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ أَوْقَاتِهَا عُرِفَ بِالْكِتَابِ وهو قَوْله تَعَالَى
{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حين تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ في
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } وقَوْله تَعَالَى {
وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ } وقَوْله
تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مَشْهُودًا }
____________________
(1/121)
وقَوْله
تَعَالَى { فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجا منهم } فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَشْتَمِلُ على بَيَانِ فَرْضِيَّةِ
هذه الصَّلَوَاتِ وَبَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِهَا لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا فَإِنَّمَا عُرِفَ
بِالْأَخْبَارِ أَمَّا الْفَجْرُ فَأَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ حين يَطْلُعَ
الْفَجْرُ الثَّانِي وَآخِرُهُ حين تَطْلُعَ الشَّمْسُ لِمَا رُوِيَ عن أبي
هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رَسُولَ اللَّهِ أنه قال إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا
وَآخِرًا وأن أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حين يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَآخِرُهُ حين تَطْلُعَ
الشَّمْسُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَجْرِ الثَّانِي لِأَنَّ الفجر ( فجران الْفَجْرَ
) الْأَوَّلَ هو الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ يَبْدُو في نَاحِيَةٍ من السَّمَاءِ
وهو الْمُسَمَّى بذنب ( ( ( ذنب ) ) ) السِّرْحَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ ثُمَّ
يَنْكَتِمُ وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا لِأَنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ ثُمَّ
يَخْلُفُ وَيَعْقُبُهُ الظَّلَامُ وَهَذَا الْفَجْرُ لَا يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ
وَالشَّرَابُ على الصَّائِمِينَ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَلَا
يَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَالْفَجْرُ الثَّانِي وهو الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ في الْأُفُقِ لَا يُزَالُ
يَزْدَادُ نُورُهُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يسمى ( ( ( ويسمى ) ) ) هذا فَجْرًا
صَادِقًا لِأَنَّهُ إذَا بدا نُورُهُ يَنْتَشِرُ في الْأُفُقِ وَلَا يَخْلُفُ
وَهَذَا الْفَجْرُ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ على الصَّائِمِ
وَيَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ صلاة الْفَجْرِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي أَنَّهُ قال
الْفَجْرُ فَجْرَانِ فَجْرٌ مُسْتَطِيلٌ يَحِلُّ بِهِ الطَّعَامُ وَتَحْرُمُ فيه
الصَّلَاةُ وَفَجْرٌ مُسْتَطِيرٌ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَتَحِلُّ فيه
الصَّلَاةُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ في حديث
أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه هو الْفَجْرُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا
الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ لَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ في الْأُفُقِ
وَرُوِيَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ كُلُوا
وَاشْرَبُوا حتى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ أَيْ الْمُنْتَشِرُ في
الْأُفُقِ وقال الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا لَا هَكَذَا وَمَدَّ
يَدَهُ طُولًا وَلِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ لَيْلٌ في الْحَقِيقَةِ لِتَعَقُّبِ
الظَّلَامِ إيَّاهُ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي قال وَقْتُ
الْفَجْرِ ما لم تَطْلُعْ الشَّمْسُ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْفَجْرِ قبل أَنْ تَطْلُعَ
الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ أَيْضًا على أَنَّ آخِرَ
وَقْتِ الْفَجْرِ حين تَطْلُعُ الشَّمْسُ
وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَحِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا
رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال أَوَّلُ وَقْتِ
الظُّهْرِ حين تَزُولُ الشَّمْسُ وَأَمَّا آخِرُهُ فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ نَصًّا
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ رَوَى مُحَمَّدٌ عنه إذَا صَارَ
ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وَالْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ وَلَا
يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حتى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ ولم يَتَعَرَّضْ
لِآخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كل
شَيْءٍ مثله سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
وَالْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ وَرَوَى أَسَدُ بن عَمْرٍو عنه ( ( ( وعنه ) ) ) إذَا
صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ
وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ ما لم يَصِرْ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ
فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ يَكُونُ بين وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ
مُهْمَلٌ كما بين الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عنه
فإنه روى في خَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حين يَدْخُلُ وَقْتُ
الْعَصْرِ وَهَذَا يَنْفِي الْوَقْتَ الْمُهْمَلَ ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ
زَوَالِ الشَّمْسِ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال حَدُّ الزَّوَالِ أَنْ يَقُومَ
الرَّجُلُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فإذا مَالَتْ الشَّمْسُ عن يَسَارِهِ فَهُوَ
الزَّوَالُ وَأَصَحُّ ما قِيلَ في مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بن
شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ يَغْرِزُ عُودًا مُسْتَوِيًا في أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ
وَيَجْعَلُ على مَبْلَغِ الظِّلِّ منه عَلَامَةً فما دَامَ الظِّلُّ يَنْتَقِصُ من
الْخَطِّ فَهُوَ قبل الزَّوَالِ فإذا وَقَفَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ
فَهُوَ وقت ( ( ( ساعة ) ) ) الزَّوَالِ وإذا أَخَذَ الظِّلُّ في الزِّيَادَةِ
فَالشَّمْسُ قد زَالَتْ
وإذا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ فَيْءِ الزَّوَالِ فَخُطَّ على رَأْسِ مَوْضِعِ
الزِّيَادَةِ خَطًّا فَيَكُونُ من رَأْسِ الْخَطِّ إلَى الْعَوْدِ فَيْءُ
الزَّوَالِ فإذا صَارَ ظِلَّ الْعُودِ مِثْلَيْهِ من رَأْسِ الْخَطِّ لَا من
الْعُودِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وإذا صَارَ ظِلُّ الْعُودِ مثله ( ( ( مثليه ) ) ) من رَأْسِ الْخَطِّ خَرَجَ
وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَهُمْ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ حَدِيثَ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ فإنه روى عن رسول
اللَّهِ أَنَّهُ قال أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى
بِي الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حين زَالَتْ الشَّمْسُ وَصَلَّى بِي
الْعَصْرَ حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حين غَرَبَتْ
الشَّمْسُ وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حين غَابَ الشَّفَقُ وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ
حين طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ
____________________
(1/122)
في
الْيَوْمِ الثَّانِي حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ في
الْيَوْمِ الثَّانِي حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ وَصَلَّى بِي
الْمَغْرِبَ في الْيَوْمِ الثَّانِي في الْوَقْتِ الذي صلى بِي في الْيَوْمَ
الْأَوَّلَ وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين مَضَى ثُلُثُ
اللَّيْلِ وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين أَسْفَرَ النَّهَارُ
ثُمَّ قال الْوَقْتُ ما بين الْوَقْتَيْنِ
فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صلى الْعَصْرَ
في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ
وَقْتِ الْعَصْرِ هذا فَكَانَ هو آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ ضَرُورَةً
وَالثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَةَ في الْيَوْمِ الثَّانِي كانت لِبَيَانِ آخِرِ
الْوَقْتِ ولم يُؤَخِّرْ الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى أَنْ يَصِيرَ
ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ ما ذَكَرْنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إنَّ مَثَلَكُمْ وَمَثَلَ من
قَبْلَكُمْ من الْأُمَمِ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فقال من يَعْمَلُ لي
من الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قال من
يَعْمَلُ لي من الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ
قال من يَعْمَلُ لي من الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ فَعَمِلْتُمْ
أَنْتُمْ فَكُنْتُمْ أَقَلَّ عَمَلًا وَأَكْثَرَ أَجْرًا فَدَلَّ الْحَدِيثُ على
أَنَّ مُدَّةَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ من مُدَّةِ الظُّهْرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ
أَقْصَرَ أَنْ لو كان الْأَمْرُ على ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإن شِدَّةَ الْحَرِّ من
فَيْحِ جَهَنَّمَ وَالْإِبْرَادُ يَحْصُلُ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ كل شَيْءٍ
مِثْلَيْهِ فإن الْحَرَّ لَا يَفْتُرُ خُصُوصًا في بِلَادِهِمْ
على أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَقْتِ الْعَصْرِ
لِأَنَّ مَوْضِعَ التَّعَارُضِ مَوْضِعُ الشَّكِّ وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا
يَثْبُتُ بِالشَّكِّ
فَإِنْ قِيلَ لَا يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ بِالشَّكِّ أَيْضًا فَالْجَوَابُ
أَنَّهُ كَذَلِكَ يقول أبو حَنِيفَةَ في رِوَايَةِ أَسَدِ بن عَمْرٍو أَخْذًا
بِالْمُتَيَقَّنِ فِيهِمَا
وَالثَّانِي أَنَّ ما ثَبَتَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا
يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَخَبَرُ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ مَنْسُوخٌ في
الْمُتَنَازَعِ فيه فإن الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ صلى الظُّهْرَ في الْيَوْمِ
الثَّانِي في الْوَقْتِ الذي صلى فيه الْعَصْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على تَغَايُرِ وَقْتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَكَانَ
الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا في الْفَرْعِ وَلَا يُقَالُ مَعْنَى ما وَرَدَ أَنَّهُ صلى
الْعَصْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله أَيْ بَعْدَ ما
صَارَ وَمَعْنَى ما وَرَدَ أَنَّهُ صلى الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين
صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَيْ قَرُبَ من ذلك فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا
لِأَنَّا نَقُولُ هذا نِسْبَةُ للنبي ( ( ( النبي ) ) ) إلَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ
التَّمْيِيزِ بين الْوَقْتَيْنِ أو إلَى التَّسَاهُلِ في أَمْرِ تَبْلِيغِ
الشَّرَائِعِ وَالتَّسْوِيَةُ بين أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَرْكُ ذلك
مُبْهَمًا من غَيْرِ بَيَانٍ منه أو دَلِيلٍ يُمْكِنُ الْوُصُولُ بِهِ إلَى
الِافْتِرَاقِ بين الْأَمْرَيْنِ وَمِثْلُهُ لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ
وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في آخِرِ
وَقْتِ الظُّهْرِ حتى رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال خَالَفْتُ أَبَا
حَنِيفَةَ في وَقْتِ الْعَصْرِ فقلت أَوَّلُهُ إذَا زاد ( ( ( دار ) ) ) الظِّلُّ
على قَامَةٍ اعْتِمَادًا على الْآثَارِ التي جَاءَتْ وَآخِرُهُ حين تَغْرُبُ
الشَّمْسُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ إذَا صَارَ ظِلُّ
كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ
الْمَغْرِبِ حتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ وفي
قَوْلٍ إذَا صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُهُ الْمُسْتَحَبُّ
وَيَبْقَى أَصْلُ الْوَقْتِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا
رُوِيَ في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه في وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرُهَا
حين تَغْرُبُ الشَّمْسُ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْعَصْرِ قبل أَنْ
تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أدرك ( ( ( أدركها ) ) )
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي أَنَّهُ قال من فَاتَهُ الْعَصْرُ
حتى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ
وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَحِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ
وفي خَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حين
تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَكَذَا حَدِيثُ جِبْرِيلَ صلوات الله وسلامه عليه صلى
الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ في الْيَوْمَيْنِ جميعا وَالصَّلَاةُ في
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كانت بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا آخِرُهُ فَقَدْ
اخْتَلَفُوا فيه
قال أَصْحَابُنَا حين يَغِيبُ الشَّفَقُ
وقال الشَّافِعِيُّ وَقْتُهَا ما يَتَطَهَّرُ الْإِنْسَانُ وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ
وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ حتى لو صَلَّاهَا بَعْدَ ذلك كان قَضَاءً لَا
أَدَاءً عِنْدَهُ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ صلى الْمَغْرِبَ في الْمَرَّتَيْنِ
في وَقْتٍ وَاحِدٍ
وَلَنَا أَنَّ في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ
الْمَغْرِبِ حين تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَآخِرُهُ حين يَغِيبُ الشَّفَقُ وَعَنْ ابْنِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي أَنَّهُ قال وَقْتُ الْمَغْرِبِ ما لم يَغِبْ
الشَّفَقُ وَإِنَّمَا لم يُؤَخِّرْهُ جِبْرِيلُ عن أَوَّلِ الْغُرُوبِ لِأَنَّ
التَّأْخِيرَ عن أَوَّلِ الْغُرُوبِ مَكْرُوهٌ إلَّا لِعُذْرٍ وَأَنَّهُ جاء
لِيُعَلِّمَهُ الْمُبَاحَ من الْأَوْقَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يُؤَخِّرْ
الْعَصْرَ إلَى الْغُرُوبِ
____________________
(1/123)
مع
بَقَاءِ الْوَقْتِ إلَيْهِ وَكَذَا لم يُؤَخِّرْ الْعِشَاءَ إلَى ما بَعْدَ ثُلُثِ
اللَّيْلِ وَإِنْ كان بَعْدَهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا لِمَا رُوِيَ في خَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَوَّلُ
وَقْتِ الْعِشَاءِ حين يَغِيبُ الشَّفَقُ وَاخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الشَّفَقِ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هو الْبَيَاضُ وهو مَذْهَبُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذٍ
وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَالشَّافِعِيِّ هو الْحُمْرَةُ وهو قَوْلُ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو رِوَايَةُ أَسَدِ بن عَمْرٍو عن أبي
حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ
ما عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ
وكان رسول اللَّهِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ
كان الشَّفَقُ هو الْبَيَاضُ لَمَا كان مُؤَخِّرًا لها بَلْ كان مُصَلِّيًا في
أَوَّلِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَبْقَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ خُصُوصًا في
الصَّيْفِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ
تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } جَعَلَ
الْغَسَقَ غَايَةً لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ وَلَا غَسَقَ ما بَقِيَ النُّورُ
الْمُعْتَرِضُ وَرُوِيَ عن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال آخِرُ
وَقْتِ الْمَغْرِبِ ما لم يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَبَيَاضُهُ وَالْمُعْتَرِضُ
نُورُهُ
وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حين
يَسْوَدُّ الْأُفُقُ وَإِنَّمَا يَسْوَدُّ بِإِخْفَائِهَا بِالظَّلَامِ
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَمِنْ وَجْهَيْنِ لُغَوِيٍّ وَفِقْهِيٍّ أَمَّا
اللُّغَوِيُّ فَهُوَ أَنَّ الشَّفَقَ اسْمٌ لِمَا رَقَّ يُقَالُ ثَوْبٌ شَفِيقٌ
أَيْ رَقِيقٌ إمَّا من رِقَّةِ النَّسْجِ وَإِمَّا لِحُدُوثِ رِقَّةٍ فيه من طُولِ
اللُّبْسِ وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ من الْخَوْفِ أو
الْمَحَبَّةِ وَرِقَّةُ نُورِ الشَّمْسِ بَاقِيَةٌ ما بَقِيَ الْبَيَاضُ
وَقِيلَ الشَّفَقُ اسْمٌ لِرَدِيءِ الشَّيْءِ وَبَاقِيهِ وَالْبَيَاضُ بَاقِي
آثَارِ الشَّمْسِ
وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَهُوَ أَنَّ صَلَاتَيْنِ يؤديان ( ( ( تؤديان ) ) ) في
أَثَرِ الشَّمْسِ وهو ( ( ( وهما ) ) ) الْمَغْرِبُ مع الْفَجْرِ وَصَلَاتَيْنِ
تُؤَدَّيَانِ في وَضَحِ النَّهَارِ وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَيَجِبُ أَنْ
يُؤَدِّيَ صَلَاتَيْنِ في غَسَقِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ لم يَبْقَ أَثَرٌ من آثَارِ
الشَّمْسِ وَهُمَا الْعِشَاءُ وَالْوِتْرُ بعد ( ( ( وبعد ) ) ) غَيْبُوبَةِ
الْبَيَاضِ لَا يَبْقَى أَثَرٌ لِلشَّمْسِ
وَلَا حُجَّةَ لهم في الحديث لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَغِيبُ قبل مُضِيِّ ثُلُثِ
اللَّيْلِ غَالِبًا وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ
الصَّادِقُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ حين يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ لِأَنَّ
جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ صلى في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ
اللَّيْلِ وكان ذلك بَيَانًا لِآخِرِ الْوَقْتِ وفي قَوْلٍ قال يُؤَخِّرُ إلَى
آخِرِ نِصْفِ اللَّيْلِ بِعُذْرِ السَّفَرِ لِأَنَّ النبي أَخَّرَ لَيْلَةً إلَى
النِّصْفِ ثُمَّ قال هو لنا بِعُذْرِ السَّفَرِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حين
يَغِيبُ الشَّفَقُ وَآخِرُهُ حين يَطْلُعُ الْفَجْرُ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حتى يَخْرُجَ وَقْتُ
أُخْرَى وَقَّتَ عَدَمَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَى غَايَةِ خُرُوجِ وَقْتِ
صَلَاةٍ أُخْرَى فَلَوْ لم يَثْبُتْ الدُّخُولُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لم يَتَوَقَّفْ
وَلِأَنَّ الْوِتْرَ من تَوَابِعِ الْعِشَاءِ وَيُؤَدَّى في وَقْتِهَا وَأَفْضَلُ
وَقْتِهَا السَّحَرُ دَلَّ أَنَّ السَّحَرَ آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَلِأَنَّ
أَثَرَ السَّفَرِ في قَصْرِ الصَّلَاةِ لَا في زِيَادَةِ الْوَقْتِ وَإِمَامَةُ
جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ كان تَعْلِيمًا لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ
وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ ذلك ثُلُثُ اللَّيْلِ
وَأَمَّا بَيَانُ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالسَّمَاءُ لَا تَخْلُو إمَّا
إن كانت مُصْحِيَةً أو مُغَيِّمَةً فَإِنْ كانت مُصْحِيَةً فَفِي الْفَجْرِ
الْمُسْتَحَبُّ أخر الْوَقْتِ والإسفار بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ من
التَّغْلِيسِ بها في السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ في حَقِّ
جَمِيعِ الناس إلَّا في حَقِّ الْحَاجِّ بِمُزْدَلِفَةَ فإن التَّغْلِيسَ بها
أَفْضَلُ في حَقِّهِ
وقال الطَّحَاوِيُّ إنْ كان من عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ
أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ بها وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ وَإِنْ لم يَكُنْ من
عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ من التَّغْلِيسِ
وقال الشَّافِعِيُّ التَّغْلِيسُ بها أَفْضَلُ في حَقِّ الْكُلِّ وَجُمْلَةُ
الْمَذْهَبِ عِنْدَهُ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرْضِ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ
وَحْدَهُ ما دَامَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ من الْوَقْتِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ } وَالتَّعْجِيلُ من بَابِ
الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَامًا على الْكَسَلِ
فقال { وإذا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى } وَالتَّأْخِيرُ من
الْكَسَلِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فقال الصَّلَاةُ
لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وقال أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُ الْوَقْتِ
عَفْوُ اللَّهِ أَيْ يُنَالُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ
اللَّهِ وَيُنَالُ بِأَدَائِهَا في آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى
وَاسْتِيجَابُ الرِّضْوَانِ خَيْرٌ من اسْتِيجَابِ الْعَفْوِ لِأَنَّ الرِّضْوَانَ
أَكْبَرُ الثَّوَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَرِضْوَانٌ من اللَّهِ أَكْبَرُ }
وَيُنَالُ بِالطَّاعَاتِ وَالْعَفْوُ يُنَالُ بِشَرْطِ سَابِقِيَّةِ الْجِنَايَةِ
وَرُوِيَ في الْفَجْرِ خَاصَّةً عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النِّسَاءَ
كُنَّ
____________________
(1/124)
يُصَلِّينَ
مع رسول اللَّهِ ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ وما يُعْرَفْنَ من شِدَّةِ الْغَلَسِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فإنه أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ رَوَاهُ
رَافِعُ بن خَدِيجٍ
وقال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه ما صلى رسول اللَّهِ صَلَاةً قبل
مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ
بِمُزْدَلِفَةَ فإنه قد غَلَّسَ بها فسمى التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ صَلَاةً قبل
الْمِيقَاتِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَادَةَ كانت في الْفَجْرِ الْإِسْفَارُ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال ما اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ
على شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ على تَأْخِيرِ الْعَصْرِ وَالتَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ
وَلِأَنَّ في التَّغْلِيسِ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ
وَغَفْلَةٍ وفي الْإِسْفَارِ تَكْثِيرُهَا فَكَانَ أَفْضَلَ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ
الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ في الصَّيْفِ لِاشْتِغَالِ الناس بِالْقَيْلُولَةِ
وَلِأَنَّ في حُضُورِ الْجَمَاعَةِ في هذا الْوَقْتِ ضَرْبَ حَرَجٍ خُصُوصًا في
حَقِّ الضُّعَفَاءِ
وقد قال النبي صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ في
مَكَانِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال من صلى الْفَجْرَ وَمَكَثَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ
أَرْبَعَ رِقَابٍ من وَلَدِ إسْمَاعِيلَ
وقلنا ( ( ( وقلما ) ) ) يَتَمَكَّنُ من إحْرَازِ هذه الْفَضِيلَةِ عِنْدَ
التَّغْلِيسِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ فيها لِطُولِ الْمُدَّةِ وَيَتَمَكَّنُ
من إحْرَازِهَا عِنْدَ الْإِسْفَارِ فَكَانَ أَوْلَى
وما ذُكِرَ من الدَّلَائِلِ الجملية ( ( ( الجميلة ) ) ) فَنَقُولُ بها في بَعْضِ
الصَّلَوَاتِ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ على ما نَذْكُرُ لَكِنْ قَامَتْ الدَّلَائِلُ
في بَعْضِهَا على أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ لِمَصْلَحَةٍ وُجِدَتْ في
التَّأْخِيرِ
وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ
لِئَلَّا يَقَعَ في السفر ( ( ( السمر ) ) ) بَعْدَ الْعِشَاءِ ثُمَّ الْأَمْرُ
بِالْمُسَارَعَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُسَارَعَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بها أَلَا تَرَى
أَنَّ الْأَدَاءَ قبل الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان فيه مُسَارَعَةٌ لِمَا لم
يَرِدْ الشَّرْعُ بها وَقِيلَ في الحديث أن الْعَفْوَ عِبَارَةٌ عن الْفَضْلِ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } أَيْ
الْفَضْلَ فَكَانَ مَعْنَى الحديث على هذا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ من أَدَّى
الصَّلَاةَ في أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ فَقَدْ نَالَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَأَمِنَ من
سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَهُ وَأَدَائِهِ ما أَوْجَبَ عليه
وَمَنْ أَدَّى في آخِرِ الْوَقْتِ فَقَدْ نَالَ فَضْلَ اللَّهِ وَنَيْلُ فَضْلِ
اللَّهِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الرِّضْوَانِ فَكَانَتْ هذه الدَّرَجَةُ أَفْضَلَ من
تِلْكَ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَالصَّحِيحُ من الرِّوَايَاتِ
إسْفَارُ رسول اللَّهِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث ابْنِ
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
فَإِنْ ثَبَتَ التَّغْلِيسُ في وَقْتٍ فَلِعُذْرِ الْخُرُوجِ إلَى سَفَرٍ أو كان
ذلك في الِابْتِدَاءِ حين كُنَّ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ ثُمَّ لما
أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ في الْبُيُوتِ اُنْتُسِخَ ذلك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا في الظُّهْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ هو آخِرُ الْوَقْتِ في الصَّيْفِ
وَأَوَّلُهُ في الشِّتَاءِ وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان يُصَلِّي وَحْدَهُ
يُعَجِّلْ في كل وَقْتٍ وَإِنْ كان يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ يُؤَخِّرْ يَسِيرًا
لِمَا ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عن خَبَّابُ بن الْأَرَتِّ أَنَّهُ قال شَكَوْنَا إلَى
رسول اللَّهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ في جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فلم يُشْكِنَا
فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ في التَّعْجِيلِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإن شِدَّةَ
الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ في الصَّيْفِ لَا يَخْلُو عن
أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِغَالِ الناس
بِالْقَيْلُولَةِ وَإِمَّا الْإِضْرَارُ بِهِمْ لِتَأَذِّيهِمْ بِالْحَرِّ وقد
انْعَدَمَ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ في الشِّتَاءِ فَيُعْتَبَرُ فيه مَعْنَى
الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لِمُعَاذٍ رضي
اللَّهُ عنه حين وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ إذَا كان الصَّيْفُ فَأَبْرِدْ
بِالظُّهْرِ فإن الناس يُقِيلُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حتى يُدْرِكُوا وإذا كان
الشِّتَاءُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حين تَزُولُ الشَّمْسُ فإن اللَّيَالِيَ طِوَالٌ
وَتَأْوِيلُ حديث خَبَّابُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَرْكَ الْجَمَاعَةِ أَصْلًا فلم
يَشْكُهُمْ لِهَذَا
على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فلم يُشْكِنَا أَيْ لم يَدَعْنَا في الشِّكَايَةِ بَلْ
أَزَالَ شَكْوَانَا بِأَنْ أَبْرَدَ بها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعَصْرُ فَالْمُسْتَحَبُّ فيها هو التَّأْخِيرُ ما دَامَتْ الشَّمْسُ
بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لم يَدْخُلْهَا تَغْيِيرٌ في الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جميعا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّعْجِيلُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عن
عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان رسول اللَّهِ يُصَلِّي الْعَصْرَ
وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ في حُجْرَتِي
وَعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه كان رسول اللَّهِ يُصَلِّي الْعَصْرَ
فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي وَيَنْحَرُ الْجَزُورَ وَيَطْبُخُ الْقُدُورَ
وَيَأْكُلُ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ
يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ وَهَذَا منه بَيَانُ
تَأْخِيرِهِ لِلْعَصْرِ وَقِيلَ سُمِّيَتْ الْعَصْرَ لِأَنَّهَا تُعْصَرُ أَيْ
تُؤَخَّرُ وَلِأَنَّ في التَّأْخِيرِ تَكْثِيرُ النَّوَافِلِ لِأَنَّ النَّافِلَةَ
بَعْدَهَا مَكْرُوهَةٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ وَلِهَذَا
____________________
(1/125)
كان
التَّعْجِيلُ في الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ لِأَنَّ النَّافِلَةَ قَبْلَهَا مَكْرُوهَةٌ
وَلِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال النبي من صلى الْعَصْرَ ثُمَّ مَكَثَ في الْمَسْجِدِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ
فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ ثَمَانِيًا من وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا يُتَمَكَّنُ
من إحْرَازِ هذه الْفَضِيلَةِ بِالتَّأْخِيرِ لَا بِالتَّعْجِيلِ لِأَنَّهُ
قَلَّمَا يَمْكُثُ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ كانت حِيطَانُ حُجْرَتِهَا
قَصِيرَةً فَتَبْقَى الشَّمْسُ طَالِعَةً فيها إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه فَقَدْ كان ذلك في وَقْتِ الصَّيْفِ
وَمِثْلُهُ يَتَأَتَّى لِلْمُسْتَعْجِلِ إذ كان ذلك في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَالْمُسْتَحَبُّ فيها التَّعْجِيلُ في الشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ جميعا وَتَأْخِيرُهَا إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ مَكْرُوهٌ لِمَا
رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا
الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ
الْجَمَاعَةِ وَالتَّأْخِيرَ سَبَبٌ لِتَقْلِيلِهَا لِأَنَّ الناس يَشْتَغِلُونَ بِالتَّعَشِّي
وَالِاسْتِرَاحَةِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ
وَكَذَا هو من بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الْعِشَاءُ فالمستحب ( ( ( المستحب ) ) ) فيها التَّأْخِيرُ إلَى ثُلُثِ
اللَّيْلِ في الشِّتَاءِ وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَيُكْرَهُ
التَّأْخِيرُ عن النِّصْفِ وَأَمَّا في الصَّيْفِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ
لِمَا ذكرنا وَعَنْ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ أَنَّ النبي كان يُصَلِّي الْعِشَاءَ
حين يَسْقُطُ الْقَمَرُ في اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ
الشَّفَقِ يَكُونُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي أَخَّرَ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ
خَرَجَ فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ فقال أَمَا إنَّهُ
لَا يَنْتَظِرُ هذه الصَّلَاةَ في هذا الْوَقْتِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا
سَقَمُ السَّقِيمِ وَضَعْفُ الضَّعِيفِ لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى هذا الْوَقْتِ
وفي حَدِيثٍ آخَرَ قال لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ
إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ أَنْ صَلِّ الْعِشَاءَ حين يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَإِنْ
أَبَيْتَ فَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنْ نِمْتَ فَلَا نَامَتْ عَيْنَاكَ وفي
رِوَايَةٍ فَلَا تَكُنْ من الْغَافِلِينَ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عن النِّصْفِ
الْأَخِيرِ تَعْرِيضٌ لها لِلْفَوَاتِ فَإِنْ من لم يَنَمْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
ثُمَّ نَامَ فَغَلَبَهُ النَّوْمُ فَلَا يَسْتَيْقِظُ في الْمُعْتَادِ إلَى ما
بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَتَعْرِيضُ الصَّلَاةِ لِلْفَوَاتِ مَكْرُوهٌ
وَلِأَنَّهُ لو عَجَّلَ في الشِّتَاءِ رُبَّمَا يَقَعُ في السَّمَرِ بَعْدَ
الْعِشَاءِ لِأَنَّ الناس لَا يَنَامُونَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِطُولِ
اللَّيَالِي فَيَشْتَغِلُونَ بِالسَّمَرِ عَادَةً وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عنه
وَلَأَنْ يَكُونَ اخْتِتَامُ صَحِيفَتِهِ بِالطَّاعَةِ أَوْلَى من أَنْ يَكُونَ
بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّعْجِيلُ في الصَّيْفِ لَا يُؤَدِّي إلَى هذا الْقَبِيحِ
لِأَنَّهُمْ يَنَامُونَ لِقِصَرِ اللَّيَالِي فَتُعْتَبَرُ فيه الْمُسَارَعَةُ
إلَى الْخَيْرِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على زَمَانِ الصَّيْفِ أو على حَالِ
الْعُذْرِ
وكان عِيسَى بن أَبَانَ يقول الْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِلْآثَارِ وَلَكِنْ لَا
يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُذْرَ لِمَرَضٍ وَلِسَفَرٍ
يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِعْلًا وَلَوْ
كان الْمَذْهَبُ كَرَاهَةَ التَّأْخِيرِ مُطْلَقًا لَمَا أُبِيحَ ذلك بِعُذْرِ
الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ كما لَا يُبَاحُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى تَغَيُّرِ
الشَّمْسِ
هذا إذَا كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَإِنْ كانت مُتَغَيِّمَةً فَالْمُسْتَحَبُّ
في الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ هو التَّأْخِيرُ وفي الْعَصْرِ
وَالْعِشَاءِ هو التَّعْجِيلُ
وَإِنْ شِئْت أَنْ تَحْفَظَ هذا فَكُلُّ صَلَاةٍ في أَوَّلِ اسْمِهَا عَيْنٌ
تُعَجَّلُ وما ليس في أَوَّلِ اسْمِهَا عَيْنٌ تُؤَخَّرُ أَمَّا التَّأْخِيرُ في
الْفَجْرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لو غَلَّسَ بها فَرُبَّمَا تَقَعُ قبل
انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَكَذَا لو عَجَّلَ الظُّهْرَ فَرُبَّمَا يَقَعُ قبل
الزَّوَالِ
وَلَوْ عَجَّلَ الْمَغْرِبَ عَسَى يَقَعُ قبل الْغُرُوبِ وَلَا يُقَالُ لو أَخَّرَ
رُبَّمَا يَقَعُ في وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ
لِلتَّأْخِيرِ لِيَخْرُجَ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ
وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عن وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فَلِئَلَّا يَقَعَ في
وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وهو وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَلَيْسَ فيه وَهْمُ الْوُقُوعِ
قبل الْوَقْتِ لِأَنَّ الظُّهْرَ قد أُخِّرَ في هذا الْيَوْمِ وَتُعَجَّلُ
الْعِشَاءُ كيلا تَقَعَ بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ وَلَيْسَ في التَّعْجِيلِ
تَوَهُّمُ الْوُقُوعِ قبل الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ قد أُخِّرَ في هذا
الْيَوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا
أَفْضَلُ في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ وهو اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ
الْجَلِيلِ أبي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ وَعَلَّلَ وقال إنَّ في التَّأْخِيرِ
تَرَدُّدًا بين وَجْهَيْ الْجَوَازِ إمَّا الْقَضَاءُ وَإِمَّا الْأَدَاءُ وفي
التَّعْجِيلِ ترددا ( ( ( تردد ) ) ) بين وَجْهَيْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ
فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ قال أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين
فَرْضَيْنِ في وَقْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ فَيُجْمَعُ
بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ
____________________
(1/126)
في
وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ اتَّفَقَ عليه رُوَاةُ نُسُكِ رسول اللَّهِ
أَنَّهُ فَعَلَهُ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ
وقال الشَّافِعِيُّ يُجْمَعُ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في وَقْتِ الْعَصْرِ
وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ في وَقْتِ الْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ
وَالْمَطَرِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَى ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم
أَنَّ النبي كان يَجْمَعُ بِعَرَفَةَ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبِمُزْدَلِفَةَ
بين الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذلك في السَّفَرِ كيلا
يَنْقَطِعَ بِهِ السَّيْرُ وفي الْمَطَرِ كَيْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ إذْ لو
رَجَعُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ فَيَجُوزُ الْجَمْعُ
بهذا كما يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
وَبِمُزْدَلِفَةَ بين الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَلَنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عن وَقْتِهَا من الْكَبَائِرِ فَلَا يُبَاحُ
بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ
من الْكَبَائِرِ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ قال من جَمَعَ بين صَلَاتَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أتى بَابًا من
الْكَبَائِرِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْجَمْعُ بين الصَّلَاتَيْنِ من
الْكَبَائِرِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَوَاتِ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا
بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بها من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ
وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عن أَوْقَاتِهَا بِضَرْبٍ من
الِاسْتِدْلَالِ أو بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مع أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ لِأَنَّ
السَّفَرَ وَالْمَطَرَ لَا أَثَرَ لَهُمَا في إبَاحَةِ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ عن
وَقْتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ
مع ما ذَكَرْتُمْ من الْعُذْرِ وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ ما كان لِتَعَذُّرِ
الْجَمْعِ بين الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُضَادُّ
الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ بَلْ ثَبَتَ غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ
الْإِجْمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ عن النبي فَصَلُحَ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ
الْمَقْطُوعِ بِهِ وَكَذَا الْجَمْعُ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسَّيْرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ بين الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ
وما رُوِيَ من الحديث في خَبَرِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ
الدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مع أَنَّهُ غَرِيبٌ وَرَدَ في حَادِثَةٍ تَعُمُّ بها
الْبَلْوَى وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا ثُمَّ هو مُؤَوَّلٌ
وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا لَا وَقْتًا بِأَنْ أَخَّرَ
الْأُولَى مِنْهُمَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَدَّى الْأُخْرَى في أَوَّلِ
الْوَقْتِ وَلَا وَاسِطَةَ بين الْوَقْتَيْنِ فَوَقَعَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ
فِعْلًا كَذَا فَعَلَ ابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما في سَفَرٍ وقال هَكَذَا كان
يَفْعَلُ بِنَا رسول اللَّهِ دَلَّ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنهما عن النبي جَمَعَ من غَيْرِ مَطَرٍ وَلَا سَفَرٍ
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِعْلًا وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قال هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رسول اللَّهِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ
قال هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رسول اللَّهِ
وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فَهُوَ
وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِلْمَغِيبِ لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ يُكْرَهُ
أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ لِلنَّهْيِ عن عُمُومِ الصَّلَوَاتِ في الْأَوْقَاتِ
الثَّلَاثَةِ منها إذَا تَضَيَّفَتْ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ على ما يُذْكَرُ وقد
وَرَدَ وَعِيدٌ خَاصٌّ في أَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ في هذا الْوَقْتِ وهو ما
رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال يَجْلِسُ أحدكم حتى إذَا كانت الشَّمْسُ بين
قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قام فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فيها إلَّا
قَلِيلًا تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا لَكِنْ يَجُوزُ
أَدَاؤُهَا مع الْكَرَاهَةِ حتى يَسْقُطَ الْفَرْضُ عن ذِمَّتِهِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَرْضِ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ قبل الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَا
فَرْضَ قَبْلَهُ وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَجْرِ مع طُلُوعِ الشَّمْسِ
عِنْدَنَا حتى لو طَلَعَتْ الشَّمْسُ وهو في خِلَالِ الصَّلَاةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ وَيَقُولُ أن النَّهْيَ عن النَّوَافِلِ لَا
عن الْفَرَائِضِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَصْرَ يَوْمِهِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَنَحْنُ نَقُولُ النَّهْيُ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا لِمَا
يُذْكَرُ في قَضَاءِ الْفَرَائِضِ في هذه الْأَوْقَاتِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا تَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ
لَكِنَّهُ يَصْبِرُ حتى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِأَنَّا لو
قُلْنَا كَذَلِكَ لَكَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ وَلَوْ
أَفْسَدْنَا لَوَقَعَ الْكُلُّ خَارِجَ الْوَقْتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ
أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَدِّي الْعَصْرَ إذَا غَرَبَتْ عليه الشَّمْسُ
وهو في خِلَالِ الصَّلَاةِ قد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا النِّيَّةُ وأنها شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ
تَعَالَى قال اللَّهُ تَعَالَى { وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ له الدِّينَ } وَالْإِخْلَاصُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ وقال
النبي لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ له وقال الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
وَلِكُلِّ إمرىء ما نَوَى وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في تَفْسِيرِ النِّيَّةِ
وَالثَّانِي في كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ
وَالثَّالِثُ في وَقْتِ النِّيَّةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ فَنِيَّةُ الصَّلَاةِ هِيَ
إرَادَةُ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى على الْخُلُوصِ وَالْإِرَادَةُ عَمَلُ
الْقَلْبِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ مُنْفَرِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُقْتَدِيًا فَإِنْ كان مُنْفَرِدًا إنْ كان
____________________
(1/127)
يُصَلِّي
التَّطَوُّعَ تَكْفِيهِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ
صِفَةٌ زَائِدَةٌ على أَصْلِ الصَّلَاةِ لِيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَنْوِيهَا فَكَانَ
شَرْطُ النِّيَّةِ فيها لِتَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى وإنها تَصِيرُ لِلَّهِ
تَعَالَى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَتَأَدَّى صَوْمُ النَّفْلِ
خَارِجَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَإِنْ كان يُصَلِّي الْفَرْضَ لَا
يَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ
على أَصْلِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْوِيَهَا فَيَنْوِيَ فَرْضَ
الْوَقْتِ أو ظُهْرَ الْوَقْتِ أو نحو ذلك وَلَا تَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ
الْفَرْضِ لِأَنَّ غَيْرَهَا من الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مَشْرُوعَةٌ في
الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ
وقال بَعْضُهُمْ تَكْفِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّ ظُهْرَ
الْوَقْتِ هو الْمَشْرُوعُ الْأَصْلِيُّ فيه وَغَيْرَهُ عَارِضٌ فَعِنْدَ
الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى ما هو الْأَصْلُ كَمُطْلَقِ اسْمِ الدِّرْهَمِ
أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَحُكِيَ عن
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ مع نِيَّةِ ظُهْرِ الْوَقْتِ إلَى نِيَّةِ
الْفَرْضِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الظُّهْرَ فَقَدْ نَوَى الْفَرْضَ
إذْ الظُّهْرُ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ
الْجُمُعَةِ وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةَ الْوِتْرِ
لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَحْصُلُ بهذا
وَإِنْ كان إمَامًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فَيَنْوِي ما
يَنْوِي الْمُنْفَرِدُ وَهَلْ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْإِمَامَةِ
أَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَيَصِحُّ
اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ بِدُونِ نِيَّةِ إمَامَتِهِمْ وَأَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ
النِّسَاءِ فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ ليس بِشَرْطٍ حتى لو لم يَنْوِ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُنَّ بِهِ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وهو قَاسَ إمَامَةَ النِّسَاءِ بِإِمَامَةِ الرِّجَالِ
وَهُنَاكَ النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ كَذَا هذا وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ
سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وهو أَنَّهُ لو صَحَّ
اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فَرُبَّمَا تُحَاذِيهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ من غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَشَرْطُ نِيَّةَ اقْتِدَائِهَا
بِهِ حتى لَا يَلْزَمَهُ الضَّرَرُ من غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَرِضَاهُ وَهَذَا
الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ في جَانِبِ الرِّجَالِ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ
الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا من صِيَانَتِهَا عن
النَّوَاقِضِ وَلَوْ صَحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ من غَيْرِ نِيَّةٍ لم يَتَمَكَّنْ
من الصِّيَانَةِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي فَتَقْتَدِي بِهِ ثُمَّ تُحَاذِيهِ
فَتُفْسِدُ صَلَاتَهُ
وَأَمَّا في الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ
نِيَّةَ إمَامَتِهِنَّ شَرْطٌ فِيهِمَا وَمِنْهُمْ من قال لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
لِأَنَّهَا لو شُرِطَتْ لَلَحِقَهَا الضَّرَرُ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ على
أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَحْدَهَا وَلَا تَجِدُ إمَامًا آخَرَ
تَقْتَدِي بِهِ وَالظَّاهِرُ أنها لَا تَتَمَكَّنُ من الْوُقُوفِ بِجَنْبِ
الْإِمَامِ في هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِازْدِحَامِ الناس فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهَا
لِدَفْعِ الضَّرَرِ عنها بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَإِنْ كان مُقْتَدِيًا فإنه يَحْتَاجُ إلَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ
وَيَحْتَاجُ لِزِيَادَةِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا
يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِالِاقْتِدَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ
الْإِمَامِ فَشَرَطَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ حتى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ
مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ
ثُمَّ تَفْسِيرُ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ هو أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ
الْوَقْتِ وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فيه أو يَنْوِيَ الشُّرُوعَ في صَلَاةِ
الْإِمَامِ أو يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ في صَلَاتِهِ وَلَوْ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ ولم يُعَيِّنْ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَا نَوَى فَرْضَ
الْوَقْتِ هل يُجْزِيهِ عن الْفَرْضِ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ
بِهِ يَصِحُّ في الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جميعا فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ مع
أَنَّ النَّفَلَ أَدْنَاهُمَا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى
ما لم يُعَيِّنْ الْأَعْلَى
وقال بَعْضُهُمْ يُجْزِيهِ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عن الْمُتَابَعَةِ
وَالشَّرِكَةِ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ إلَّا إذَا كانت
صَلَاتُهُ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى
الْفَرْضِ إلَّا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهِ في النَّفْلِ وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ
الْإِمَامِ ولم يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ
لِأَنَّهُ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ قد يَكُونُ
بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ وقد يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْإِمَامِ فَلَا
تَتَعَيَّنُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ بِدُونِ النِّيَّةِ من مَشَايِخِنَا من قال
إذَا انْتَظَرَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ كَبَّرَ بَعْدَهُ كَفَاهُ عن نِيَّةِ
الِاقْتِدَاءِ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ قَصَدَ منه
الِاقْتِدَاءَ بِهِ وهو تَفْسِيرُ النِّيَّةِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
الِانْتِظَارَ مُتَرَدِّدٌ قد يَكُونُ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ وقد يَكُونُ
بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَلَا يَصِيرُ مُقْتَدِيًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ يَنْوِي صَلَاتَهُ ولم يَدْرِ أنها الظُّهْرُ أو
الْجُمُعَةُ أَجْزَأَهُ أَيَّهُمَا كان لِأَنَّهُ بَنَى صَلَاتَهُ على صَلَاةِ
الْإِمَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْعِلْمُ في حَقِّ الْأَصْلِ
يُغْنِي عن الْعِلْمِ في حَقِّ التَّبَعِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ
عَلِيًّا وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي اللَّهُ عنهما قَدِمَا من الْيَمَنِ
على رسول اللَّهِ بِمَكَّةَ فقال بِمَ أَهْلَلْتُمَا
فَقَالَا بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رسول اللَّهِ
وَجَوَّزَ ذلك لَهُمَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْلُومًا وَقْتَ الْإِهْلَالِ فَإِنْ لم
يَنْوِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الظُّهْرَ وَالِاقْتِدَاءَ فإذا هِيَ
جُمُعَةٌ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ نَوَى غير صَلَاةِ الْإِمَامِ
وَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ
____________________
(1/128)
صِحَّةَ
الِاقْتِدَاءِ على ما نَذْكُرُ
وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْجُمُعَةِ فإذا هِيَ الظُّهْرُ جَازَتْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبِنَاءُ
فَلَا يُعْتَبَرُ ما زَادَ عليه بَعْدَ ذلك كَمَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بهذا
الْإِمَامِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ زَيْدٌ فإذا هو عَمْرٌو كان اقْتِدَاؤُهُ صَحِيحًا
بِخِلَافِ ما إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ وَالْإِمَامُ عَمْرٌو
ثُمَّ الْمُقْتَدِي إذَا وَجَدَ الْإِمَامَ في حَالِ الْقِيَامِ يُكَبِّرُ
لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا ثُمَّ يُتَابِعُهُ في الْقِيَامِ وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ
وَإِنْ وَجَدَهُ في الرُّكُوعِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا ثُمَّ يُكَبِّرُ
أُخْرَى مع الِانْحِطَاطِ لِلرُّكُوعِ وَيُتَابِعُهُ في الرُّكُوعِ وَيَأْتِي
بِتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَإِنْ وَجَدَهُ في الْقَوْمَةِ التي بين الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ أو في الْقَعْدَةِ التي بَيْن السَّجْدَتَيْنِ يُتَابِعُهُ في ذلك
وَيَسْكُتُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في
مِقْدَارِ التَّشَهُّدِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ
وَهَلْ يُتَابِعُهُ في الزِّيَادَةِ عليه ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا
يُتَابِعُهُ عليه لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُؤَخَّرٌ إلَى الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ
وَهَذِهِ قَعْدَةٌ أُولَى في حَقِّهِ
وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال يَدْعُوَ
بِالدَّعَوَاتِ التي في الْقُرْآنِ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْعُو
بِالدَّعَوَاتِ التي في الْقُرْآنِ وَيُصَلِّي على النبي
وقال بَعْضُهُمْ يَسْكُتُ
وَعَنْ هِشَامٍ من ذَاتِ نَفْسِهِ وَمُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ
يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ لِأَنَّ هذه قَعْدَةٌ
أُولَى في حَقِّهِ وَالزِّيَادَةَ على التَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى
غَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلسُّكُوتِ في الصَّلَاةِ إلَّا الِاسْتِمَاعُ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ التَّشَهُّدَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى
وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ إنه يُكَبِّرُ
تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ مُخَالِطًا لِنِيَّتِهِ إيَّاهَا أَيْ مُقَارِنًا
أَشَارَ إلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ وَقْتُ التَّكْبِيرِ وهو عِنْدَنَا
مَحْمُولٌ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ فإن
تَقْدِيمَ النِّيَّةِ على التَّحْرِيمَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا إذَا لم يُوجَد
بَيْنَهُمَا عَمَلٌ يَقْطَعُ أَحَدَهُمَا عن الْآخَرِ وَالْقِرَانُ ليس بِشَرْطٍ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقِرَانُ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْحَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ
وَذَلِكَ عِنْدَ الشُّرُوعِ لَا قَبْلَهُ فَكَانَتْ النِّيَّةُ قبل التَّكْبِيرِ
هَدْرًا
وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في بَابِ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْقِرَانُ
هُنَاكَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ لِأَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ في الصَّوْمِ وَقْتُ
غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَلَا حَرَجَ في بَابِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ
وَلَنَا قَوْلُ النبي الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ القرآن
وَقَوْلُهُ لِكُلِّ امرىء ما نَوَى مُطْلَقًا أَيْضًا وَعِنْدَهُ لو تَقَدَّمَتْ
النِّيَّةُ لَا يَكُونُ له ما نَوَى وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ شَرْطَ
الْقِرَانِ لَا يَخْلُو عن الْحَرَجِ فَلَا يُشْتَرَطُ كما في بَابِ الصَّوْمِ
فإذا قَدَّمَ النِّيَّةَ ولم يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ نِيَّتَهُ يُجْزِئُهُ
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فإن مُحَمَّدًا ذَكَرَ في كِتَابِ
الْمَنَاسِكِ أَنَّ من خَرَجَ من بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ ولم
تَحْضُرْهُ نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُجْزِئُهُ
وَذُكِرَ في كِتَابِ التَّحَرِّي أَنَّ من أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهِ على الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ ولم تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ عِنْدَ
الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ
وَذَكَرَ محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ
تَوَضَّأَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فلم يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ وَشَرَعَ في
الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ عَرِيَتْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشُّرُوعِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ خَرَجَ من مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الْفَرْضَ في
الْجَمَاعَةِ فلما انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كَبَّرَ ولم تَحْضُرهُ النِّيَّةُ في
تِلْكَ السَّاعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ
قال الْكَرْخِيُّ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا من أَصْحَابِنَا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ
في ذلك وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَمَ على تَحْقِيقِ ما نَوَى فَهُوَ على
عَزْمِهِ وَنِيَّتِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَاطِعُ ولم يُوجَدْ وَبِهِ تَبَيَّنَ
أَنَّ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ يَحْصُلُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لِأَنَّهَا
مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الشُّرُوعِ تَقْدِيرًا على ما مَرَّ
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ إذَا كان بِحَالٍ لو سُئِلَ عِنْدَ
الشُّرُوعِ أَيُّ صَلَاةٍ تُصَلِّي يُمْكِنُهُ الْجَوَابُ على الْبَدِيهَةِ من
غَيْرِ تَأَمُّلٍ يُجْزِئُهُ وَإِلَّا فَلَا
وَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا ما رَوَى الْكَرْخِيُّ
أَنَّهُ إذَا نَوَى وَقْتَ الثَّنَاءِ يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّنَاءَ من تَوَابِعِ
التَّكْبِيرِ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِرَانِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ
وَالْحَرَجُ يَنْدَفِعُ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّأْخِيرِ
وَلَوْ نَوَى بَعْدَ قَوْلِهِ اللَّهُ قبل قَوْلِهِ أَكْبَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ
الشُّرُوعَ يَصِحُّ بقول ( ( ( بقوله ) ) ) اللَّهُ لِمَا يُذْكَرُ فَكَأَنَّهُ
نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ
وَأَمَّا نِيَّةُ الْكَعْبَةِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أنها
شَرْطٌ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ هو الْوَاجِبُ في الْأَصْلِ وقد
عَجَزَ عنه بِالْبُعْدِ فَيَنْوِيهَا بِقَلْبِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس
بِشَرْطٍ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْبُعْدِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَهِيَ
المحرايب ( ( ( المحاريب ) ) ) لَا عَيْنُ الْكَعْبَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ أتى بِهِ فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَهُ لَا يَضُرُّهُ
وَإِنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ ولم يَنْوِ الْكَعْبَةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ليس من الْكَعْبَةِ
وَعَنْ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أبي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ
نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ فقال إنْ
____________________
(1/129)
كان
هذا الرَّجُلُ لم يَأْتِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْبَيْتَ
وَالْمَقَامَ وَاحِدٌ وَإِنْ كان قد أتى مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَرَفَ
أَنَّ الْمَقَامَ غَيْرُ الْبَيْتِ
وَمِنْهَا التَّحْرِيمَةُ وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَإِنَّهَا شَرْطُ
صِحَّةِ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن عُلَيَّةَ وأبو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ
الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ من غَيْرِ تَكْبِيرٍ فَزَعَمَا
أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ وَلَيْسَتْ بِأَذْكَارٍ حتى أَنْكَرَ افْتِرَاضَ
الْقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَنَا قَوْلُ النبي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ
مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ نَفَى قَبُولَ
الصَّلَاةِ بِدُونِ الكبير ( ( ( التكبير ) ) ) فَدَلَّ على كَوْنِهِ شَرْطًا
لَكِنْ إنَّمَا يُؤْخَذُ هذا الشَّرْطُ على الْقَادِرِ دون الْعَاجِزِ فَلِذَلِكَ
جَازَتْ صَلَاةُ الْأَخْرَسِ وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَكْثَرُ من الْأَذْكَارِ
فَالْقَادِرُ على الْأَفْعَالِ يَكُونُ قَادِرًا على الْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ
حُكْمُ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَدَرَ على الْأَذْكَارِ تَقْدِيرًا
ثُمَّ لَا بُدَّ من بَيَانِ صِفَةِ الذِّكْرِ الذي يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا في
الصَّلَاةِ وقد اُخْتُلِفَ فيه فقال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَصِحُّ الشُّرُوعُ
في الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هو ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ
تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ اللَّهُ الْكَبِيرُ
اللَّهُ أَجَلُّ اللَّهُ أَعْظَمُ أو يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أو سُبْحَانَ
اللَّهِ أو لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ مع الصِّفَةِ نحو أَنْ يَقُولَ الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ
الرَّحِيمُ أَجَلُّ
سَوَاءٌ كان يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أو لَا يُحْسِنُ
وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِأَلْفَاظٍ مُشْتَقَّةٍ من
التَّكْبِيرِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ اللَّهُ
الْكَبِيرُ إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أو لَا يَعْلَمُ أَنَّ
الشُّرُوعَ بِالتَّكْبِيرِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظَيْنِ اللَّهُ أَكْبَرُ
اللَّهُ الْأَكْبَرُ
وقال مَالِكٌ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وهو اللَّهُ أَكْبَرُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا من الحديث
وهو قَوْلُهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ
مَوَاضِعَهُ
وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ نَفَى الْقَبُولَ بِدُونِ
هذه اللَّفْظَةِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ عَيْنِ ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ دُونَ
التَّعْلِيلِ إذْ التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ لَا لِإِبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ
كما في الْأَذَانِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ السُّجُودُ على الْخَدِّ وَالذَّقَنِ
مَقَامَ السُّجُودِ على الْجَبْهَةِ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا
أَنَّهُ يقول في الْأَكْبَرِ أتى بِالْمَشْرُوعِ وَزِيَادَةِ شَيْءٍ فلم تَكُنْ
الزِّيَادَةُ مَانِعَةً كما إذَا قال اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا فَأَمَّا
الْعُدُولُ عَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ
وأبو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ النبي وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ
وَالتَّكْبِيرُ حَاصِلٌ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فإن أَكْبَرَ هو
الْكَبِيرُ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وهو أَهْوَنُ عليه } أَيْ هَيِّنٌ عليه عِنْدَ بَعْضِهِمْ
إذْ ليس شَيْءٌ أَهْوَنَ على اللَّهِ من شَيْءٍ بَلْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا
بِالنِّسْبَةِ إلَى دُخُولِهَا تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَالتَّكْبِيرُ
مُشْتَقٌّ من الْكِبْرِيَاءِ وَالْكِبْرِيَاءُ تنبىء عن الْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ
يُقَالُ هذا أَكْبَرُ الْقَوْمِ أَيْ أَعْظَمُهُمْ مَنْزِلَةً وَأَشْرَفُهُمْ
قَدْرًا
وَيُقَال هو أَكْبَرُ من فُلَانٍ أَيْ أَقْدَمُ منه فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ
غَيْرِهِ من الْأَلْفَاظِ مَقَامَهُ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ في الْمَعْنَى
إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالْجَوَازِ إذَا لم يُحْسِنْ أو لَا يَعْلَمُ أَنَّ
الصَّلَاةَ تُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ لِلضَّرُورَةِ
وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى } وَالْمُرَادُ منه ذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ لِافْتِتَاحِ
الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الصَّلَاةَ بالذكر ( ( ( الذكر ) ) ) بِحَرْفٍ
يُوجِبُ التَّعْقِيبَ بِلَا فَصْلٍ وَالذِّكْرُ الذي تَتَعَقَّبُهُ الصَّلَاةُ
بِلَا فَصْلٍ هو تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ
فَقَدْ شَرَعَ الدُّخُولَ في الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ
التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ من الْكِبْرِيَاءِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ من حَيْثُ هِيَ
مُطْلَقُ الذِّكْرِ لَا من حَيْثُ هِيَ ذِكْرٌ بِلَفْظٍ خَاصٍّ وَأَنَّ الحديث
مَعْلُولٌ بِهِ لِأَنَّا إذَا عَلَّلْنَاهُ بِمَا ذُكِرَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ
من حَيْثُ اشْتِرَاطُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ وَلَوْ لم نُعَلِّلْ احْتَجْنَا إلَى
رَدِّهِ أَصْلًا لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ فَإِذًا تَرْكُ التَّعْلِيلِ هو
الْمُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ دُونَ التَّعْلِيلِ
على أَنَّ التَّكْبِيرَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ قال تَعَالَى {
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } أَيْ عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا وقال تَعَالَى { فلما
رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أَيْ عَظَّمْنَهُ وقال تَعَالَى { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
} أَيْ فَعَظِّمْ فَكَانَ الْحَدِيثُ وارد ( ( ( واردا ) ) ) بِالتَّعْظِيمِ
وَبِأَيِّ اسْمٍ ذَكَرَ فَقَدْ عَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَذَا من سَبَّحَ
اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ من
صِفَاتِ النَّقْصِ وَسِمَاتِ الْحَدَثِ فَصَارَ وَاصِفًا له بِالْعَظَمَةِ
وَالْقِدَمِ وَكَذَا إذَا هَلَّلَ لِأَنَّهُ إذَا وَصَفَهُ بِالتَّفَرُّدِ
وَالْأُلُوهِيَّةِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ لِاسْتِحَالَةِ
ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّة دُونَهُمَا وَإِنَّمَا لم يَقُمْ السُّجُودُ على الْخَدِّ
مَقَامَ السُّجُودِ على الْجَبْهَةِ لِلتَّفَاوُتِ في التَّعْظِيمِ كما في
الشَّاهِدِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه هو الْإِعْلَامُ
وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ
الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بين الناس حتى لو حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِغَيْرِ هذه
الْأَلْفَاظِ يَجُوزُ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا رَوَى أبو
يُوسُفَ في الْأَمَالِي وَالْحَاكِمُ في الْمُنْتَقَى وَالدَّلِيلُ على أَنَّ
قَوْلَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أو الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ سَوَاءٌ قَوْله تَعَالَى { قل
ادعوا الله أو اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الحسنى }
____________________
(1/130)
وَلِهَذَا
يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاسْمِ الرحمن أو بِاسْمِ الرَّحِيمِ فَكَذَا هذا
وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَذْهَبَهُمَا ما رُوِيَ عن عبد الرحمن السُّلَمِيُّ إن
الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِلَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَنَا بِهِمْ أُسْوَةٌ هذا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ
وَالصِّفَةَ فَأَمَّا إذَا ذَكَر الِاسْمَ لَا غير بِأَنْ قال اللَّهُ لَا يَصِيرُ
شَارِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ
شَارِعًا وَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ
الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَلِأَبِي حنفية ( ( ( حنيفة ) ) ) أَنَّ
النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْمِ الْمُجَرَّدِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِقَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ لَا بِالنَّفْيِ وَلَوْ قال
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لم يُخْلِصْ
تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ هو لِلْمَسْأَلَةِ وَالدُّعَاءِ دُونَ خَالِصِ
الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَلَوْ قال اللَّهُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
لِاخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ في مَعْنَاهُ قال بَعْضُهُمْ يَصِيرُ شَارِعًا
لِأَنَّ الْمِيمَ في قَوْلِهِ اللَّهُمَّ بَدَلٌ عن النِّدَاءِ كَأَنَّهُ قال يا
اللَّهُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّ الْمِيمَ في قَوْلِهِ اللَّهُمَّ
بِمَعْنَى السُّؤَالِ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ آمِنَّا بِخَيْرٍ أَيْ أَرِدْنَا بِهِ
فَيَكُونُ دُعَاءً لَا ثَنَاءً خَالِصًا كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قال ( خداي بزركنر ) أو (
خداي بزرك ) يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ
شَارِعًا إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ ذَبَحَ وَسَمَّى
بِالْفَارِسِيَّةِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ على أَصْلِهِ في
مُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عليه وَالْمَنْصُوصُ عليه لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ
بِقَوْلِهِ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ
وفي بَابِ الذَّبْحِ الْمَنْصُوصُ عليه هو مُطْلَقُ الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ {
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ } وَذَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ
وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَجَوَّزَ النَّقْلَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ من الْعَرَبِيَّةِ ولم
يُجَوِّزْ النَّقْلَ إلَى الْفَارِسِيَّةِ فقال الْعَرَبِيَّةُ لِبَلَاغَتِهَا
وَوَجَازَتِهَا تَدُلُّ على مَعَانٍ لَا تَدُلُّ عليها الْفَارِسِيَّةُ
فَتَحْتَمِلُ الْخَلَلَ في الْمَعْنَى عِنْدَ النَّقْلِ منها إلَى الْفَارِسِيَّةِ
وَكَذَا لِلْعَرَبِيَّةِ من الْفَضِيلَةِ ما ليس لِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ
وَلِهَذَا كان الدُّعَاءُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ وَلِذَلِكَ
خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ كَرَامَتِهِ في الْجَنَّةِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَذِهِ
اللُّغَةِ فَلَا يَقَعُ غَيْرُهَا من الْأَلْسِنَةِ مَوْقِعَ كَلَامِ الْعَرَبِ
إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يُحْسِنْ جَازَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وأبو حَنِيفَةَ
اعْتَمَدَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى في اعْتِبَارِ مُطْلَقِ الذِّكْرِ وَاعْتُبِرَ
مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَكُلُّ ذلك حَاصِلٌ بِالْفَارِسِيَّةِ
ثُمَّ شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْبِيرِ أَنْ يُوجَدَ في حَالَةِ الْقِيَامِ في حَقِّ
الْقَادِرِ على الْقِيَامِ سَوَاءٌ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا حتى
لو كَبَّرَ قَاعِدًا ثُمَّ قام لَا يَصِيرُ شَارِعًا وَلَوْ وَجَدَ الْإِمَامَ في
الرُّكُوعِ أو السُّجُودِ أو الْقُعُودِ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا ثُمَّ
يَتْبَعَهُ في الرُّكْنِ الذي هو فيه وَلَوْ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ في الرُّكْنِ
الذي هو فيه لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِعَدَمِ التَّكْبِيرِ قَائِمًا مع الْقُدْرَةِ
عليه
وَمِنْهَا تُقَدَّمُ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ التي يَتَذَكَّرُهَا إذَا كانت
الْفَوَائِتُ قَلِيلَةً وفي الْوَقْتِ سَعَةٌ هو شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ
الْوَقْتِيَّةِ فَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّرْتِيبَ
بين الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا
يَسْقُطُ بِمُسْقِطٍ وَعِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ أَصْلًا وَيَجُوزُ أَدَاءُ
الْوَقْتِيَّةِ قبل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه في الْأَصْلِ في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في اشْتِرَاطِ هذا النَّوْعِ من التَّرْتِيبِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يُسْقِطُهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ التَّرْتِيبَ في الصَّلَاةِ
على أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا التَّرْتِيبُ في أَدَاءِ هذه الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ
وَالثَّانِي التَّرْتِيبُ في قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ
وَالثَّالِثُ التَّرْتِيبُ في الْفَوَائِتِ
وَالرَّابِعُ التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ التَّرْتِيبَ في أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ
الْمَكْتُوبَاتِ في أَوْقَاتِهَا شَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهَا حتى لَا يَجُوزَ
أَدَاءُ الظُّهْرِ في وَقْتِ الْفَجْرِ وَلَا أَدَاءُ الْعَصْرِ في وَقْتِ الظُّهْرِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الصَّلَوَاتِ لَا تَجِبُ قبل دُخُولِ وَقْتِهَا
وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ قبل وُجُوبِهِ مُحَالٌ وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى ذلك
أَمَّا التَّرْتِيبُ بين قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ فَقَدْ
قال أَصْحَابُنَا أنه شَرْطٌ
وقال الشَّافِعِيُّ ليس بِشَرْطٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا الْوَقْتَ صَارَ لِلْوَقْتِيَّةِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا في
وَقْتِهَا كما في حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلِيُصَلِّهَا إذَا
ذَكَرَهَا فإن ذلك وَقْتُهَا وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا وَقْتَ لها إلَّا ذلك
فَقَدْ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتَ الْفَائِتَةِ فَكَانَ أَدَاءُ
الْوَقْتِيَّةِ قبل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ أَدَاءً قبل وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ
____________________
(1/131)
وَرُوِيَ
عن ابْنِ عُمَرَ عن النبي أَنَّهُ قال من نَسِيَ صَلَاةً فلم يَذْكُرْهَا إلَّا
وهو مع الْإِمَامِ فَلِيُصَلِّ مع الْإِمَامِ وَلِيَجْعَلْهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ
ليقضي ( ( ( ليقض ) ) ) ما تَذَّكَّر ثُمَّ لِيُعِدْ ما كان صلاة مع الْإِمَامِ
وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ تَفْسُدُ الْفَرْضِيَّةُ لِلصَّلَاةِ إذَا
تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ فيها وَيَلْزَمهُ الْإِعَادَةُ بِخِلَافِ حَالِ ضِيقِ
الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا
كَوْنَ هذا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ وَعَرَفْنَا كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ على وَجْهٍ
لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ
وَالِاشْتِغَالُ بِالْفَائِتَةِ عِنْد ضِيقِ الْوَقْتِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِهِ
لِأَنَّهُ تَفْوِيتٌ لِلْوَقْتِيَّةِ عن الْوَقْتِ وَكَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ
الْفَوَائِتِ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ
فَتَفُوتُ الْوَقْتِيَّةُ عن وَقْتِهَا وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَعَلَ
الْوَقْتَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ لِتَدَارُكِ ما فَاتَ فَلَا يَصِيرُ وَقْتًا لها
على وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ صَلَاةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْوَقْتِيَّةُ
وَلِأَنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ على
الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى وَقْتٍ ليس بِمَشْغُولٍ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ لَا
يَشْغَلُ كما انْصَرَفَ إلَى وَقْتٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فيه
وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ
وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا فلم يَصِرْ الْوَقْتُ وَقْتًا
لِلْفَائِتَةِ فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ وُجِدَ
التَّذَكُّرُ فَكَانَ الْوَقْتُ لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ في
هذا إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بَلْ هو جَمْعٌ بين
الدَّلَائِلِ إذْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ من الصَّلَوَاتِ عن وَقْتِهَا وَلَيْسَ فيه
أَيْضًا شُغْلُ ما هو مَشْغُولٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ لو أَخَّرَ الْوَقْتِيَّةَ وَقَضَى
الْفَائِتَةَ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوَقْتِيَّةِ ما تصل ( ( ( اتصل ) ) ) بِهِ
الْأَدَاءُ وَأَنَّ ما قبل ذلك لم يَكُنْ وَقْتًا لها بَلْ كان وَقْتًا
لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ
بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَأَمَّا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَإِنْ لم
يَتَّصِل بِهِ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ ما كان وَقْتًا له
حتى تَصِيرَ الصَّلَاةُ فَائِتَةً وَتَبْقَى دَيْنًا عليه
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ التَّرْتِيبُ في الْفَوَائِتِ أَنَّهُ كما يَجِبُ مُرَاعَاةُ
التَّرْتِيبِ بين الْوَقْتِيَّةِ وَالْفَائِتَةِ عِنْدنَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بين
الْفَوَائِتِ إذَا كانت الْفَوَائِتُ في حَدِّ الْقِلَّةِ عِنْدَنَا أَيْضًا
لِأَنَّ قِلَّةَ الْفَوَائِتِ لم تَمْنَعْ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ في الْأَدَاءِ
فَكَذَا في الْقَضَاءِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ النبي لَمَّا شُغِلَ عن أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يوم
الْخَنْدَقِ قَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ من اللَّيْلِ على التَّرْتِيبِ ثُمَّ قال
صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ويبني على هذا إذَا تَرَكَ الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أَوْلَى فإنه
يَتَحَرَّى لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عليه أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ
بِيَقِينٍ وهو التَّرْتِيبُ فَيُصَارُ إلَى التَّحَرِّي لِأَنَّهُ عِنْدَ
انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ قام مَقَامَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ كما إذَا
اشْتَبَهَتْ عليه الْقِبْلَةُ فَإِنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ عَمِلَ بِهِ
لِأَنَّهُ جُعِلَ كَالثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ وَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ على
شَيْءٍ وَأَرَادَ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ ما صلى
أَوَّلًا أَيَّتُهُمَا كانت إلَّا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالظُّهْرِ أَوْلَى
لِأَنَّهَا أَسْبَقُ وُجُوبًا في الْأَصْلِ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ
ثُمَّ الظُّهْرَ لِأَنَّ الظُّهْرَ لو كانت هِيَ التي فَاتَتْ أَوَّلًا فَقَدْ
وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ وَكَانَتْ الظُّهْرُ التي أَدَّاهَا بَعْدَ
الْعَصْرِ ثَانِيَةً نَافِلَةً له وَلَوْ كانت الْعَصْرُ هِيَ الْمَتْرُوكَةُ
أَوَّلًا كانت الظُّهْرُ التي أَدَّاهَا قبل الْعَصْرِ نَافِلَةً له
فإذا أَدَّى الْعَصْرَ بَعْدَهَا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ ثُمَّ
إذَا أَدَّى الظُّهْرَ بَعْدَهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ فَيَعْمَلُ
كَذَلِكَ لِيَخْرُجَ عَمَّا عليه بِيَقِينٍ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا نَأْمُرهُ إلَّا بِالتَّحَرِّي كَذَا ذَكَرَهُ
أبو اللَّيْثِ ولم يذكر أَنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ على شَيْءٍ كَيْفَ
يَصْنَعُ عِنْدَهُمَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ صَدْرُ الدِّينِ أبو
الْمُعِينِ أَنَّهُ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقِيلَ لَا خِلَافَ
في هذه الْمَسْأَلَةِ على التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِحْبَابَ على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهُمَا ما بَيَّنَّا الِاسْتِحْبَابَ وَذِكْرُ عَدَمِ
وُجُوبِ الْإِعَادَةِ على قَوْلِهِمَا وأبو حَنِيفَةَ ما أَوْجَبَ الْإِعَادَةَ
وَجْهٌ قَوْلُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ في مَوْضِعِ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ هو
التَّحَرِّي وَالْعَمَلُ بِهِ لَا الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ من
شَكَّ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ يؤمر ( ( ( يعمل ) ) ) بِالتَّحَرِّي وَلَا يَأْخُذُ
بِالْيَقِينِ بِأَنْ يُصَلِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إلَى أَرْبَعِ
جِهَاتٍ وَكَذَا من شَكَّ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فلم يَدْرِ أَثَلَاثًا صلى أَمْ
أَرْبَعًا يَتَحَرَّى وَلَا يَبْنِي على الْيَقِينِ وهو الْأَقَلُّ كَذَا هذا
وَلِأَنَّهُ لو صلى إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّمَا يُصَلِّي
مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرْتِيبُ في هذه الْحَالَةِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ حين
بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لم يَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ عليه صَلَاةً أُخْرَى قبل هذه
لِتَصِيرَ هذه مُؤَدَّاةٌ قبل وَقْتِهَا فَسَقَطَ عنه التَّرْتِيبُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ كان أَوْلَى
إلَّا إذَا تَضَمَّنَ فَسَادًا كما في مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ فإن الْأَخْذَ
بِالثِّقَةِ ثَمَّةَ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ
____________________
(1/132)
حَيْثُ
يَقَعُ ثَلَاثٌ من الصَّلَوَاتِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ وَلَا تَجُوزُ
الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَتَعَذَّرُ
الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَهَهُنَا لَا فَسَادَ لِأَنَّ
أَكْثَرَ ما في الْبَابِ أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
فَتَكُونُ إحْدَاهُمَا تَطَوُّعًا
وَكَذَا في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا لَا يبني على الْأَقَلِّ
لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ قد صلى أَرْبَعًا فَيَصِيرُ
بِالْقِيَامِ إلَى الْأُخْرَى تَارِكًا لِلْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ فَرْضٌ
فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَوْ أُمِرَ بِالْقَعْدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالرَّكْعَةِ لَحَصَلَتْ
في الثَّالِثَةِ وإنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهَهُنَا يَصِيرُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ وهو
التَّرْتِيبُ من غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ فَسَادًا فَكَانَ الْأَخْذُ
بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى
وَصَارَ هذا كما إذَا فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا يَدْرِي
أَيَّتُهَا هِيَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
احْتِيَاطًا وكذا هَهُنَا
أما قَوْلُهُمَا حين بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لَا يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عليه
أُخْرَى قبل هذه فَكَانَ التَّرْتِيبُ عنه ساقط ( ( ( ساقطا ) ) ) فَنَقُولُ حين صلى
هذه يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عليه أُخْرَى لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أنها سَابِقَةٌ
على هذه أو مُتَأَخِّرَةٌ عنها فَإِنْ كانت سَابِقَةً عليها لم تَجُزْ
الْمُؤَدَّاةُ لِعَدَمِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ كانت الْمُؤَدَّاةُ
سَابِقَةً جَازَتْ فَوَقَعَ الشَّكُّ في الْجَوَازِ فَصَارَتْ الْمُؤَدَّاةُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ دَائِرَةً بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَلَا يَسْقُطُ عنه
الْوَاجِبُ بِيَقِينٍ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ في الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ
بِالْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ شَكَّ في ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ من يَوْمٍ وَالْعَصْرُ من يَوْمٍ
وَالْمَغْرِبُ من يَوْمٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ
اخْتَلَفُوا في هذا منهم من قال أنه يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّ ما بين
الْفَوَائِتِ يَزِيدُ على هذا سِتَّ صَلَوَاتٍ فَصَارَتْ الْفَوَائِتُ في حَدِّ
الْكَثْرَةِ فَلَا يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ في قَضَائِهَا فَيُصَلِّي
أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مَوْضِعَ هذه الْمَسَائِلِ
في حَالَةِ النِّسْيَانِ على ما يُذْكَرُ وَالتَّرْتِيبُ عِنْدَ النِّسْيَانِ
سَاقِطٌ فَكَانَتْ الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْفَائِتَةِ في نفسها ( ( ( أنفسها ) )
) جَائِزَةً لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ فَبَقِيَتْ الْفَوَائِتُ في نفسها ( ( (
أنفسها ) ) ) في حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الترتيت ( ( ( الترتيب ) )
) فيها فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ في هذه الصُّورَةِ سَبْعَ صَلَوَاتٍ يُصَلِّي
الظُّهْرَ أَوَّلًا ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ
الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ بِيَقِينٍ
وَالْأَصْلُ في ذلك أَنْ يَعْتَبِرَ الْفَائِتَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَتَا فَيُعِيدَهُمَا
على الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا ثُمَّ يَأْتِي بِالثَّالِثَةِ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ
الثَّالِثَةِ ما كان يَفْعَلُهُ في الصَّلَاتَيْنِ وَعَلَى هذا إذَا كانت
الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا بِأَنْ تَرَكَ الْعِشَاءَ من يَوْمٍ آخَرَ فإنه يُصَلِّي
سَبْعَ صَلَوَاتٍ كما ذَكَرْنَا في الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ
يُصَلِّي بَعْدَهَا سَبْعَ صَلَوَاتٍ مِثْلَ ما كان يُصَلِّي قبل الرَّابِعَةِ
فَإِنْ قِيلَ في الِاحْتِيَاطِ هَهُنَا حَرَجٌ عَظِيمٌ فإنه إذَا فَاتَتْهُ خَمْسُ
صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ من
أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَدْرِي أَيَّ ذلك أَوَّل يَحْتَاجُ إلَى أَنْ
يُؤَدِّيَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ صَلَاةً وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى
فَالْجَوَابُ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ ما قَالَاهُ هو الْحُكْمُ
الْمُرَادُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ مع الِاحْتِمَالِ إلَّا
أَنَّ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ احْتِيَاطٌ لَا حَتْمٌ وَمِنْهُمْ من قال لَا بَلْ
الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ في الحكم ( ( ( حكم ) ) ) الْمُرَادِ وَإِعَادَةُ
الْأُولَى وَاجِبَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ في الْقَضَاءِ
وَاجِبٌ فإذا لم يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةً وَلَهُ طَرِيقٌ في الْجُمْلَةِ يَجِبُ
الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَهَذَا وَإِنْ كان فيه نَوْعُ مَشَقَّةٍ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا
يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْجَوَابِ في حَالَةِ النِّسْيَانِ بِأَنْ صلى أَيَّامًا
ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ تَرَكَ شيئا منها ثُمَّ تَذَكَّرَ الْفَوَائِتَ
ولم يَتَذَكَّرْ التَّرْتِيبَ فَأَمَّا إذَا كان ذَاكِرًا لِلْفَوَائِتِ حتى صلى
أَيَّامًا مع تَذَكُّرِهَا ثُمَّ نَسِيَ ( الترتيب في الفوائت فعلى قياس قول أبي
يوسف ومحمد ينبغي أن سَقَطَ ) التَّرْتِيبُ هَهُنَا لِأَنَّ الْفَوَائِتَ صَارَتْ
في حَدِّ الْكَثْرَةِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ بَعْدَ الْفَوَائِتِ عِنْدَهُمَا
فَاسِدَةٌ إلَى السِّتِّ فإذا ( ( ( وإذا ) ) ) فَسَدَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ
فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ من غَيْرِ
الْحَاجَةِ إلَى التَّحَرِّي وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَة لَا
يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ عِنْدَهُ تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ
إذَا بَلَغَتْ مع الْفَائِتَةِ سِتًّا وإذا انْقَلَبَتْ إلَى الْجَوَازِ بَقِيَتْ
الْفَوَائِتُ في حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فيها
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إلَى الْفَوَائِتِ فما دَامَتْ في حَدِّ
الْقِلَّةِ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فيها وإذا كَثُرَتْ سَقَطَ
التَّرْتِيبُ فيها لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ في
الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ في الْقَضَاءِ أَوْلَى هذا إذَا شَكَّ في
صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَمَّا إذَا شَكَّ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَاتَتْهُ وَلَا
يَدْرِي أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ يَجِبُ عليه التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا فَإِنْ لم
يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ على شَيْءٍ يُصَلِّي خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عَمَّا
عليه بِيَقِينٍ
وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أنه يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا
الْفَجْرَ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ أُخَرَ بِتَحْرِيمَةٍ على حِدَةٍ يَنْوِي
بها الْمَغْرِبَ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بها ما فَاتَتْهُ فَإِنْ كانت
الْفَائِتَةُ ظُهْرًا أو عَصْرًا أو عِشَاءً انْصَرَفَتْ هذه إلَيْهَا
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بها ما
____________________
(1/133)
عليه
لَكِنْ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ فَيَقْعُدُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ
وَالْأَرْبَعِ وهو قَوْلُ بِشْرٍ حتى لو كانت الْمَتْرُوكَةُ فَجْرًا لَجَازَتْ
لِقُعُودِهِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ
وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَوْ كانت الْمَغْرِبَ لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ
على الثلاث ( ( ( ثلاث ) ) ) وَلَوْ كانت من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ كانت كُلُّهَا
فَرْضًا وَخَرَجَ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ إلَّا أَنَّ ما قُلْنَاهُ أَحْوَطُ
لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ عليه صَلَاةٌ أُخْرَى كان تَرَكَهَا في وَقْتٍ
آخَرَ وَلَوْ نَوَى ما عليه يَنْصَرِفُ إلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ أو يَقَعُ
التَّعَارُضُ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى هذه التي يُصَلِّي فَيُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ لِيَخْرُجَ عن عُهْدَةِ ما عليه بِيَقِينٍ وَعَلَى هذا لو تَرَكَ
سَجْدَةً من صُلْبِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ولم يَدْرِ أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ يُؤْمَرُ
بِإِعَادَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّهَا من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَصَارَ
الشَّكُّ فيها كَالشَّكِّ في الصَّلَاةِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ فَالتَّرْتِيبُ بين قَضَاءِ
الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ يَسْقُطُ بِأَحَدِ خِصَالٍ ثَلَاثٍ
أَحَدُهَا ضِيقُ الْوَقْتِ بِأَنْ يَذْكُرَ في آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لو
اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ يَخْرُجُ الْوَقْتُ قبل أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ سَقَطَ
عنه التَّرْتِيبُ في هذه الْحَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في مُرَاعَاةِ
التَّرْتِيبِ فيها إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِدَلِيلٍ
فيه شُبْهَةٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ تَذَّكَّر صَلَاةَ الظُّهْرِ في آخِرِ
وَقْتِ الْعَصْرِ بَعْدَ ما تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ فإنه يُصَلِّي الْعَصْرَ وَلَا
يُجْزِئُهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَضَاءَ
الصَّلَاةِ في هذا الْوَقْتِ قَضَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ بِخِلَافِ عَصْرِ
يَوْمِهِ وَأَمَّا إذَا تَذَكَّرَهَا قبل تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ بِحَالٍ
لو اشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا لَدَخَلَ عليه وَقْتٌ مَكْرُوهٌ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ
الْعَصْرَ قبل أَنْ يُرَاعِيَ التَّرْتِيبَ فَيَقْضِيَ الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّيَ
الْعَصْرَ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ خُرُوجَ الْوَقْتِ فلم يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ
فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا بَلْ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ قبل
الظُّهْرِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وقال هذا عِنْدِي على
الِاخْتِلَافِ الذي في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وهو أَنَّ من تَذَكَّرَ في صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ أَنَّهُ لم يُصَلِّ الْفَجْرَ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ يَخَافُ
فَوْتَ الْجُمُعَةِ وَلَا يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ فلم يَجْعَلَا فَوْتَ
الْجُمُعَةِ عُذْرًا في سُقُوطِ التَّرْتِيبِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي
الْجُمُعَةَ ثُمَّ الْفَجْرَ فَجَعَلَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا في سُقُوطِ
التَّرْتِيبِ فَكَذَا في هذه الْمَسْأَلَةِ على قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ لَا
يَجُوزَ الْعَصْرُ وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي على صَلَاتِهِ
وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ وهو ذَاكِرٌ أَنَّ عليه
الظُّهْرَ
وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حتى دخل عليه وَقْتٌ مَكْرُوهٌ لَا تَجُوزُ
صَلَاتُهُ لِأَنَّ شُرُوعَهُ في الْعَصْرِ مع تَرْكِ الظُّهْرِ لم يَصِحَّ
فَيَقْطَعُ ثُمَّ يَفْتَتِحُهَا ثَانِيًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ
الْغُرُوبِ
وَلَوْ افْتَتَحَهَا وهو لَا يَعْلَمُ أَنَّ عليه الظُّهْرَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ
وَالْقِرَاءَةَ حتى دخل وَقْتٌ مَكْرُوهٌ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَمْضِي على صَلَاتِهِ
لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلتَّرْتِيبِ قد وُجِدَ عِنْد افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَاخْتِتَامِهَا
وهو النِّسْيَانُ وَضِيقُ الْوَقْتِ
وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ في حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وهو ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فلما
صلى منها رَكْعَةً أو رَكْعَتَيْنِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ الْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ
الْعَصْرُ لِأَنَّ الْعُذْرَ قذ زَالَ وهو ضِيقُ الْوَقْتِ فَعَادَ التَّرْتِيبُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَمْضِي فيها ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّي
الْمَغْرِبَ
ذَكَرَهُ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ
وَالثَّانِي النِّسْيَانُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ
التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ
بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الْمَغْرِبَ يَوْمًا
ثُمَّ قال هل رَآنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ فَقَالُوا لَا
فَصَلَّى الْعَصْرَ ولم يُعِدْ الْمَغْرِبَ وَلَوْ وَجَبَ التَّرْتِيبُ لَأَعَادَ
وَعَلَى هذا لو صلى الظُّهْرَ على غَيْرِ وُضُوءٍ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ
وهو ذَاكِرٌ لِمَا صَنَعَ فَأَعَادَ الظُّهْرَ ولم يُعِدْ الْعَصْرَ وَصَلَّى
الْمَغْرِبَ وهو يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ تُجْزِئُهُ أَعَادَ الْعَصْرَ ولم يُعِدْ
الْمَغْرِبَ لِأَنَّ أَدَاءَ الظُّهْرِ على غَيْرِ وُضُوءٍ وَالِامْتِنَاعَ عنه
بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ شَرْطِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ فَحِينَ صلى الْعَصْرَ صلى
وهو يَعْلَمُ أَنَّ الظُّهْرَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَوْ لم يَعْلَمْ وكان يَظُنُّ
أنها جَائِزَةٌ لم يَكُنْ هذا الظَّنُّ مُعْتَبَرًا لِأَنَّهُ نَشَأَ عن جَهْلٍ
وَالظَّنُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا نَشَأَ عن دَلِيلٍ أو شُبْهَةِ دَلِيلٍ ولم
يُوجَدْ فَكَانَ هذا جَهْلًا مَحْضًا فَقَدْ صلى الْعَصْرَ وهو عَالِمٌ أَنَّ عليه
الظُّهْرَ فَكَانَ مُصَلِّيًا الْعَصْرَ في وَقْتِ الظُّهْرِ فلم يَجُزْ وَلَوْ
صلى الْمَغْرِبَ قبل إعَادَتِهِمَا جميعا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ صلى الْمَغْرِبَ
وهو يَعْلَمُ أَنَّ عليه الظُّهْرَ فَصَارَ الْمَغْرِبُ في وَقْتِ الظُّهْرِ فلم
يَجُزْ فَأَمَّا لو كان أَعَادَ الظُّهْرَ ولم يُعِدْ الْعَصْرَ فَظَنَّ جَوَازَهَا
ثُمَّ صلى الْمَغْرِبَ فإنه يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْعَصْرِ وَلَا يُؤْمَرُ
بِإِعَادَةِ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ ظَنَّهُ إن عَصْرَهُ جَائِزٌ ظَنٌّ مُعْتَبَرٌ
لِأَنَّهُ نَشَأَ عن شُبْهَةِ دَلِيلٍ وَلِهَذَا خَفِيَ على الشَّافِعِيِّ فَحِين
____________________
(1/134)
صلى
الْمَغْرِبَ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّاهَا
بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا الْمُخْتَصَّةِ بها إنَّمَا خَفِيَ عليه ما
يخفى بِنَاءً على شُبْهَةِ دَلِيلٍ وَمَنْ صلى الْمَغْرِبَ وَعِنْدَهُ أَنْ لَا
عَصْرَ عليه حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ كما لو كان نَاسِيًا لِلْعَصْرِ بَلْ
هذا فَوْقَ النِّسْيَانِ لِأَنَّ ظَنَّ النَّاسِي لم يَنْشَأْ عن شُبْهَةِ دَلِيلٍ
بَلْ عن غَفْلَةٍ طبيعة ( ( ( طبيعية ) ) ) وَهَذَا الظَّنُّ نَشَأَ عن شُبْهَةِ
دَلِيلٍ فَكَانَ هذا فَوْقَ ذلك ثُمَّ هُنَاكَ حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ
فَهَهُنَا أَوْلَى
ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْفَائِتَةِ كما هو شَرْطٌ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَالْعِلْمُ
بِوُجُوبِهَا حَالَ الْفَوَاتِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ قَضَائِهَا حتى إن الْحَرْبِيَّ
إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ وَمَكَثَ فيها سَنَةً ولم يَعْلَمْ أَنَّ عليه
الصَّلَاةَ فلم يُصَلِّ ثُمَّ عَلِمَ لَا يَجِبُ عليه قَضَاؤُهَا في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ عليه قَضَاؤُهَا وَلَوْ كان هذا ذِمِّيًّا أَسْلَمَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ
عليه وهو قَوْلُ الْحَسَنِ
وَجْهٌ قَوْلُ زُفَرَ أَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ أَحْكَامَهُ وَوُجُوبُ
الصَّلَاةِ من أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهُ وَلَا يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ
كما لو كان هذا في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَنَا أَنَّ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ مُنِعَ عنه الْعِلْمُ
لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْعِلْمِ في حَقِّهِ وَلَا وُجُوبَ على من مُنِعَ عنه
الْعِلْمُ كما لَا وُجُوبَ على من مُنِعَ عنه الْقُدْرَةُ بِمَنْعِ سَبَبِهَا
بِخِلَافِ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ
حَيْثُ لم يَسْأَلْ الْمُسْلِمِينَ عن شَرَائِعِ الدِّينِ مع تَمَكُّنِهِ من
السُّؤَالِ وَالْوُجُوبُ مُتَحَقِّقٌ في حَقِّ من ضَيَّعَ الْعِلْمَ كما
يَتَحَقَّقُ في حَقِّ من ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ ولم يُوجَدْ التَّضْيِيعُ هَهُنَا إذْ
لَا يُوجَدُ في الْحَرْبِ من يَسْأَلهُ عن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حتى لو وُجِدَ
ولم يَسْأَلْهُ يَجِبُ عليه وَيُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذلك
لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ وما مُنِعَ منه كَاَلَّذِي أَسْلَمَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّهُ الْتَزَمَ
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ حكمنا ( ( ( حكما ) ) ) له
سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَيْهِ ولم يُوجَدْ فَإِنْ بَلَّغَهُ في دَارِ الْحَرْبِ
رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا يَتْرُكُ بَعْدَ ذلك في قَوْلِ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وفي رِوَايَةِ
الْحَسَنِ عنه لَا يَلْزَمُهُ ما لم يُخْبِرْهُ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ هذا خَبَرٌ مُلْزِمٌ وَمِنْ أَصْلِهِ اشْتِرَاطُ
الْعَدَدِ في الْخَبَرِ الْمُلْزِمِ كما في الْحَجْرِ على الْمَأْذُونِ وَعَزْلِ
الْوَكِيلِ وَالْإِخْبَارِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ الْأَصَحُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ
من صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالتَّبْلِيغِ
قال النبي أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وقال نَضَّرَ اللَّهُ أمرا (
( ( امرءا ) ) ) سمع مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كما سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا
إلَى من لم يَسْمَعْهَا فَهَذَا الْمُبَلِّغُ نَظِيرُ الرَّسُولِ من المولى
وَالْمُوَكِّلِ وَخَبَرُ الرَّسُولِ هُنَاكَ مُلْزِمٌ فَهَهُنَا كَذَلِكَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
الثالث ( ( ( والثالث ) ) ) كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ وقال بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ
التَّرْتِيبُ لَا يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ حتى إنَّ من تَرَكَ صَلَاةً
وَاحِدَةً فَصَلَّى في جَمِيعِ عُمُرِهِ وهو ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَصَلَاةُ
عُمُرِهِ على الْفَسَادِ ما لم يَقْضِ الْفَائِتَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلتَّرْتِيبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
بين قَلِيلِ الْفَائِتِ وَكَثِيرِهِ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تَكُونُ عن
كَثْرَةِ تَفْرِيطِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ التَّخْفِيفُ
وَلَنَا أَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ لو وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ
مَعَهَا لَفَاتَتْ الْوَقْتِيَّةِ عن الْوَقْتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ فيه إبْطَالُ ما ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في حَدِّ أَدْنَى الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا فإذا خَرَجَ وَقْتُ
السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حتى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّابِعَةِ قَبْلَهَا
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ هو أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ خَمْسًا فإذا
دخل وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حتى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ
وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَلْزَمهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ في صَلَاةِ شَهْرٍ ولم
يُرْوَ عنه أَكْثَرُ من شَهْرٍ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ أَنْ يَزِيدَ
على شَهْرٍ
وَجْهُ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ في كل بَابٍ كُلُّ جِنْسِهِ
كَالْجُنُونِ إذَا اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ في بَابِ الصَّوْمِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ لَا تَدْخُلُ في حَدِّ التَّكْرَارِ
بِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ منها تَصِيرُ مُكَرَّرَةً فَعَلَى هذا لو تَرَكَ صَلَاةً
ثُمَّ صلى بَعْدهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ وهو ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فإنه يَقْضِيهِنَّ
لِأَنَّهُنَّ في حَدِّ الْقِلَّةِ بَعْد وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ
عِنْدَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُنَّ
على وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إخْرَاجِهِ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ
فَصَارَ مُؤَدِّيًا كُلَّ صَلَاةٍ منها في وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ وَالْمَتْرُوكَةُ
قبل الْمُؤَدَّاةِ فَصَارَ مُؤَدِّيًا الْمُؤَدَّاةَ قبل وَقْتِهَا فلم يَجُزْ
وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ يَقْضِي الْمَتْرُوكَةَ وَأَرْبَعًا
بَعْدَهَا لِأَنَّ السَّادِسَةَ جَائِزَةٌ وَلَوْ لم يَقْضِهَا حتى صلى
السَّابِعَةَ فَالسَّابِعَةُ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ وَقْتَ
السَّابِعَةِ وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ السَّادِسَةُ لم يُجْعَلْ وَقْتًا
لِلْفَوَائِتِ
____________________
(1/135)
لِأَنَّهُ
لو جُعِلَ وَقْتًا لَهُنَّ لَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ
لِاسْتِيعَابِ تِلْكَ الْفَوَائِتِ هذا الْوَقْتَ وَفِيهِ إبْطَالُ الْعَمَلِ
بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ على ما بَيَّنَّا فَبَقِيَ
وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فإذا أَدَّاهَا حُكِمَ بِجَوَازِهَا لِحُصُولِهَا في
وَقْتِهَا بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسًا
لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ على
وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَيُجْعَلُ عَمَلًا
بِالدَّلِيلَيْنِ
ثُمَّ إذَا صلى السَّابِعَةَ تَعُودُ الْمُؤَدَّيَاتُ الْخَمْسُ إلَى الْجَوَازِ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَحْدَهَا اسْتِحْسَانًا
وَعَلَى قَوْلِهِمَا عليه قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ بَعْدَهَا وهو
الْقِيَاسُ وَعَلَى هذا إذَا تَرَكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ صلى السَّادِسَةَ وهو
ذَاكِرٌ لِلْفَوَائِتِ فَالسَّادِسَةُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لو
صلى السَّابِعَةَ تَنْقَلِبُ السَّادِسَةُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ
قَضَاءُ الْخَمْسِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَنْقَلِبُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ السِّتِّ
وَكَذَلِكَ لو تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صلى شَهْرًا وهو ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ
فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا عليه
قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسٍ بَعْدَهَا إلَّا على قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ
أَنَّ عليه قَضَاءَ الْفَائِتَةِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ
يُعِيدُ الْفَائِتَةَ وَجَمِيعَ ما صلى بَعْدَهَا من صَلَاةِ الشَّهْرِ
وَهَذِهِ هي الْمَسْأَلَةُ التي يُقَالُ لها وَاحِدَةٌ تُصَحِّحُ خَمْسًا
وَوَاحِدَةٌ تُفْسِدُ خَمْسًا لِأَنَّهُ إنْ صلى السَّادِسَةَ قبل الْقَضَاءِ
صَحَّ الْخَمْسُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ قَضَى الْمَتْرُوكَةَ قبل أَنْ
يُصَلِّي السَّادِسَةَ فَسَدَتْ الْخَمْسُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ مُؤَدَّاةٍ إلَى الْخَمْسِ حَصَلَتْ في وَقْتِ
الْمَتْرُوكَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ ذلك الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْمَتْرُوكَةِ
لِكَوْنِ الْمَتْرُوكَةِ في حَدِّ الْقِلَّةِ وَوَقْتُ الْمَتْرُوكَةِ قبل وَقْتِ
هذه المؤادة ( ( ( المؤداة ) ) ) فَحَصَلَتْ الْمُؤَدَّاةُ قبل وَقْتِهَا
فَفَسَدَتْ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذلك لِلْحُكْمِ بِجَوَازِهَا وَلَا لِلْحُكْمِ
بِتَوَقُّفِهَا لِلْحَالِ
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه عِبَارَاتُ
الْمَشَايِخِ قال مَشَايِخُ بَلْخٍ إنَّا وَجَدْنَا صَلَاةً بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ
جَائِزَةً وَهِيَ السَّادِسَةُ وقد أَدَّاهَا على نَقْصِ التَّرْكِيبِ وَتَرْكِ
التَّأْلِيفِ فلذا ( ( ( فكذا ) ) ) يُحْكَمُ بِجَوَازِ ما قَبْلِهَا وَإِنْ
أَدَّاهَا على تَرْكِ التَّأْلِيفِ وَنَقْصِ التَّرْكِيبِ وَهَذِهِ نُكْتَةٌ
وَاهِيَةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين السَّادِسَةِ وَبَيْنَ ما قَبْلِهَا في الْجَوَازِ
من غَيْرِ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا بَلْ مع قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُفَرِّقِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ السَّادِسَةِ ليس بِوَقْتٍ المتروكة ( ( ( للمتروكة ) ) )
على ما قَرَّرْنَا وَوَقْتُ كل صَلَاةٍ مُؤَدَّاةٍ قبل السَّادِسَةِ وَقْتٌ
لِلْمَتْرُوكَةِ فَكَانَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ أَدَاءً في وَقْتِهَا فَجَازَتْ
وَأَدَاءُ كل مُؤَدَّاةٍ أَدَاءٌ قبل وَقْتِهَا فلم تَجُزْ
وقال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ إنَّ الْكَثْرَةَ عِلَّةُ سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فإذا
أَدَّى السَّادِسَةَ فَقَدْ ثَبَتَتْ الْكَثْرَةُ وَهِيَ صِفَةٌ لِلْكُلِّ لَا
مَحَالَةَ فَاسْتَنَدَتْ إلَى أَوَّلِ الْمُؤَدَّيَاتِ فتستند ( ( ( فنستند ) ) )
لِحُكْمِهَا فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ لِلْكُلِّ وَهَذِهِ نُكْتَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا
لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَإِنْ صَارَتْ صِفَةً لِلْكُلِّ لَكِنَّهَا تَثْبُتُ
لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُؤَدَّيَاتِ كما أُدِّيَتْ
تَثْبُتُ لها صِفَةُ الْكَثْرَةِ قَبْل وُجُودِ ما يَتَعَقَّبُهَا لِاسْتِحَالَةِ
كَثْرَةِ الْوُجُودِ بِمَا هو في حَيِّزِ الْعَدَمِ بَعْد وَلَوْ اتَّصَفَتْ هِيَ
بِالْكَثْرَةِ وَلَا تَتَّصِفُ الذَّاتُ بها وَحْدَهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ
الْوَاحِدِ كَثِيرًا بِمَا يَتَعَقَّبُهَا من الْمُؤَدَّيَاتِ وَتِلْكَ
مَعْدُومَةً فَيُؤَدِّي إلَى اتِّصَافِ الْمَعْدُومِ بِالْكَثْرَةِ وهو مُحَالٌ
فَدَلَّ أَنَّ صِفَةَ الْكَثْرَةِ تَثْبُت لِلْكُلِّ مُقْتَصِرًا على وُجُودِ
الْأَخِيرَةِ منها كما إذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جَوْهَرًا وَاحِدًا لم
يَتَّصِفْ بِكَوْنِهِ مُجْتَمِعًا فَلَوْ خُلِقَ مُنْضَمًّا إلَيْهِ جوهرا ( ( (
جوهر ) ) ) آخَرُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُجْتَمِعِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُقْتَصِرًا على الْحَالِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَذَا هذا
على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا هذه الدَّعْوَى الْمُمْتَنِعَةَ على طَرِيقِ
الْمُسَاهَلَةِ فَلَا حُجَّةَ لهم فيها أَيْضًا لِأَنَّ الْمُؤَدَّاةَ الْأُولَى
وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ من وَقْتِ وُجُودِهَا لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يَحْكُمَ بِجَوَازِهَا وَسُقُوطِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ كان
مُتَعَلِّقًا لِمَعْنًى وهو اسْتِيعَابُ الْفَوَائِتِ وَقْتَ الصَّلَاةِ
وَتَفْوِيتُ الْوَقْتِيَّةِ عن وَقْتِهَا عِنْدَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ
فلم تَجِبْ الْمُرَاعَاةُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ ما ثَبَتَ
بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِد وَهَذَا
الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ في الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسِ وَإِنْ اتَّصَفَتْ
بِالْكَثْرَةِ وَلِأَنَّ هذا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ فإن الْجَوَازَ وَسُقُوطَ
التَّرْتِيبِ بِسَبَبِ صِفَةِ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَمَتَى حُكِمَ بِالْجَوَازِ
لم تَبْقَ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَيَجِيءُ التَّرْتِيبُ وَمَتَى جاء التَّرْتِيبُ
جاء الْفَسَادُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ فَثَبَتَ أَنَّ
الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ صَحِيحَيْنِ
وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ أبو الْمُعِينِ وهو أَنَّ أَدَاءَ السَّادِسَةِ من الْمُؤَدَّيَاتِ
حَصَلَ في وَقْتٍ وهو وَقْتُهَا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعِ وَلَيْسَ بِوَقْتٍ
لِلْفَائِتَةِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في جَعْلِ هذا
الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ
بِهِ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا وَانْتَهَى ما هو وَقْتُ
الْفَائِتَةِ فإذا قُضِيَتْ الْفَائِتَةُ بَعْدَ
____________________
(1/136)
أَدَاءِ
السَّادِسَةِ من الْمُؤَدَّيَاتِ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وهو
وَقْتُهَا الْأَصْلِيُّ لأنه ( ( ( لأنها ) ) ) لَا بُدَّ لها من مَحَلٍّ
فَالْتِحَاقُهَا بِمَحَلِّهَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لها في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ
مُتَعَيَّنٌ له وَلَهُ في هذا الْوَقْتِ مُزَاحِمٌ لِأَنَّهُ وَقْتُ خَمْسِ
صَلَوَاتٍ وَلَيْسَ الْبَعْضُ في الْقَضَاءِ في هذا الْوَقْتِ أَوْلَى من
الْبَعْضِ فَالْتِحَاقُهَا بِوَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لها فيه أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ ذلك وَقْتُهُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَهَذَا وَقْتُ
غَيْرِهِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ وَقْتًا له بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ فَيُرَجَّحُ ذلك على هذا فَالْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ
حُكْمًا وَالثَّابِتُ حُكْمًا كَالثَّابِتِ حَقِيقَةً وإذا الْتَحَقَتْ
بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْسَ الْمُؤَدَّيَاتِ أُدِّيَتْ
في أَوْقَاتِهَا فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا بِخِلَافِ ما إذَا قُضِيَتْ الْمَتْرُوكَةُ
قبل أَدَاءِ السَّادِسَةِ لِأَنَّهَا قُضِيَتْ في وَقْتٍ هو وَقْتُهَا من حَيْثُ
الظَّاهِرُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ كَوْنَهُ وَقْتًا لها ( فإذا
قُضِيَتْ فِيمَا هو وَقْتُهَا ظَاهِرًا تَتَقَرَّرُ فيه ) وَلَا تَلْتَحِقُ
بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ فلم يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسَ
أُدِّيَتْ بَعْدَ الْفَائِتَةِ بَلْ تَبَيَّنَ أنها أُدِّيَتْ قبل الْفَائِتَةِ
لِاسْتِقْرَارِ الْفَائِتَةِ بِمَحَلِّ قَضَائِهَا وَعَدَمِ الْتِحَاقِهَا
بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ فَحُكِمَ بِفَسَادِ الْمُؤَدَّيَاتِ وَبِخِلَافِ حَالِ
النِّسْيَانِ وَضِيقِ الْوَقْتِ إذَا أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ قَضَى
الْفَائِتَةَ حَيْثُ لَا تَجِبُ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ
وَلَوْ الْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ بِمَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ لَوَجَبَ إعَادَةُ
الْوَقْتِيَّةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها حَصَلَتْ قبل وَقْتِ الْفَائِتَة لِأَنَّ
هُنَاكَ المؤدي حَصَلَ في وَقْتٍ هو وَقْتٌ لها من جَمِيعِ الْوُجُوهِ على ما
مَرَّ فَأَدَاءُ الْفَائِتَةِ بَعْدَ ذلك لَا يُخْرِجُ هذا الْوَقْتَ من أَنْ
يَكُونَ وَقْتًا لِلْمُؤَدَّاةِ فَتَقَرَّرَتْ الْمُؤَدَّاةُ في مَحَلِّهَا من
جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ في حَقِّ الْمُؤَدَّاةِ بِصَلَاةِ
وَقْتِهَا بَعْدَ وَقْتِ الْمُؤَدَّاةِ فلم يُؤَثِّرْ ذلك في إفْسَادِ
الْمُؤَدَّاةِ
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا قام الْمُصَلِّي وَقَرَأَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَكَعَ حَيْثُ
لم يَلْتَحِقْ الرُّكُوعُ بِمَحَلِّهِ وهو قبل السُّجُودِ حتى كان لَا يَجِبُ
إعَادَةُ السُّجُودِ وَمَعَ ذلك لم يَلْتَحِقْ حتى يَجِبَ إعَادَةُ السُّجُودِ
لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُجْعَلُ حَاصِلًا في مَحَلِّهِ أَنْ لو وُجِدَ شَيْءٌ
آخَرُ في مَحَلِّهِ بَعْدَهُ وَوَقَعَ ذلك الشَّيْءُ مُعْتَبَرًا في نَفْسِهِ فإذا
حَصَلَ هذا الْتَحَقَ بِمَحَلِّهِ
وَهُنَاكَ السُّجُودُ وَقَعَ قبل أَوَانِهِ فما وَقَعَ مُعْتَبَرًا فَلَغَا
فَبَعْدَ ذلك كان الرُّكُوعُ حَاصِلًا في مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ من تَحْصِيلِ
السَّجْدَةِ بَعْدَ ذلك في مَحَلِّهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَقَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً مَجَانَةً ثُمَّ نَدِمَ على ما
صَنَعَ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ في مَوَاقِيتِهَا قبل أَنْ يَقْضِيَ
شيئا من الْفَوَائِتِ فَتَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صلى أُخْرَى وهو ذَاكِرٌ لِهَذِهِ
الْفَائِتَةِ الْحَدِيثَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجْعَلُ الْفَوَائِتَ
الْكَثِيرَةَ الْقَدِيمَةَ كَأَنَّهَا لم تَكُنْ وَيَجِبُ عليه مُرَاعَاةُ
التَّرْتِيبِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قد سَقَطَ عنه لِكَثْرَةِ
الْفَوَائِتِ وَتُضَمُّ هذه الْمَتْرُوكَةُ إلَى ما مَضَى إلَّا أَنَّ
الْمَشَايِخَ اسْتَحْسَنُوا فقال ( ( ( فقالوا ) ) ) إنَّهُ لَا يَجُوزُ
احْتِيَاطًا زَجْرًا لِلسُّفَهَاءِ عن التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ
وَلِئَلَّا تَصِيرَ الْمَقْضِيَّةُ وَسِيلَةً إلَى التَّخْفِيفِ
ثُمَّ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ كما تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ في الْأَدَاءِ تُسْقِطُهُ
في الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا لَمَّا عَمِلَتْ في إسْقَاطِ التَّرْتِيبِ في غَيْرِهَا
فَلَأَنْ تَعْمَلَ في نَفْسِهَا أَوْلَى حتى لو قَضَى فَوَائِتَ الْفَجْرِ
كُلَّهَا ثُمَّ الظُّهْرَ كُلَّهَا ثُمَّ الْعَصْرَ كُلَّهَا هَكَذَا جَازَ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
وَصَلَّى من الْغَدِ مع كل صَلَاةِ صَلَاةً قال الْفَوَائِتُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ
سَوَاءٌ قَدَّمَهَا أو أَخَّرَهَا
وَأَمَّا الْوَقْتِيَّةُ فَإِنْ قَدَّمَهَا لم يَجُزْ شَيْءٌ منها لِأَنَّهُ مَتَى
صلى وَاحِدَةً منها صَارَتْ الْفَوَائِتُ سِتًّا لَكِنَّهُ مَتَى قَضَى فَائِتَةً
بَعْدَهَا عَادَتْ خَمْسًا ثَمَّ وَثَمَّ فَلَا تَعُودُ إلَى الْجَوَازِ وَإِنْ
أَخَّرَهَا لم يَجُزْ شَيْءٌ منها إلَّا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهُ
كُلَّمَا قَضَى فَائِتَةً عَادَتْ الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا وَفَسَدَتْ
الْوَقْتِيَّةُ إلَّا الْعِشَاءُ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنَّ جَمِيعَ ما
عليه قد قَضَاهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِي
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فإنه ليس بِشَرْطٍ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ شَرْطٌ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ
خَلْفَهُ أو سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَسَبَقَهُ الْإِمَامُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ ثُمَّ
انْتَبَهَ من نَوْمِهِ أو عَادَ من وُضُوئِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ ما
سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ ثُمَّ يُتَابِعَ إمَامَهُ لِمَا يَذْكُرُ وَلَوْ تَابَعَ
إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَضَى ما فَاتَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَ
عِنْدنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ
وَكَذَلِكَ إذَا زَحَمَهُ الناس في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فلم يَقْدِرْ
على أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مع الْإِمَامِ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ
وَبَقِيَ قَائِمًا
وَأَمْكَنَهُ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مع الْإِمَامِ قبل أَنْ يُؤَدِّي
الْأُولَى ثُمَّ قَضَى الْأُولَى بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ
وَكَذَلِكَ لو تَذَكَّرَ سَجْدَةً في الرُّكُوعِ وَقَضَاهَا أو سَجْدَةً في
السَّجْدَةِ وَقَضَاهَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الرُّكُوعَ أو السُّجُودَ الذي
هو فِيهِمَا وَلَوْ اعْتَدَّ بِهِمَا ولم يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
زُفَرَ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَعْتَدَّ بِهِمَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ في هذه الْمَوَاضِعَ وَقَعَ في
غَيْرِ محله ( لأن محله بعد إذا ما عليه فإذا أتى به قبله لم يصادفه مَحَلِّهِ )
____________________
(1/137)
فَلَا
يَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ كما إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ وَجَبَ عليه
إعَادَةُ السُّجُودِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْلُ النبي ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْقِيبِ بِلَا
فَصْلٍ ثُمَّ أَمْرٌ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْجَوَازِ
وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فيه لَا بِمَا سَبَقَهُ
وَإِنْ كان ذلك أَوَّلَ صَلَاتِهِ وقد أَخَّرَهُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاو وَأَنَّهُ
لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَقَعُ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ
مُعْتَدًّا بِهِ إلَّا أَنَّ الْمَسْبُوقَ صَارَ مَخْصُوصًا بِقَوْلِ النبي سَنَّ
لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بها وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ في
الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِظَاهِرِهِ وَبِضَرُورَتِهِ في الْمَسْأَلَةِ
الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَإِسْقَاطُ
التَّرْتِيبِ في نَفْسِ الصَّلَاةِ إسْقَاطٌ فِيمَا هو من أَجْزَائِهَا ضَرُورَةٌ
إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ قبل الرُّكُوعِ لِأَنَّ السُّجُودَ
لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قبل الرُّكُوعِ
على ما يُذْكَرُ في سُجُودِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانَ شَرَائِطِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الشَّرَائِطُ
الْعَامَّةُ التي تَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جميعا فَأَمَّا الذي
يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ وهو شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ في
صَلَاتِهِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ رُكْنِ
الِاقْتِدَاءِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ
أما رُكْنُهُ فَهُوَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وقد ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا
فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها الشِّرْكَةُ في
الصَّلَاتَيْنِ وَاتِّحَادُهُمَا سَبَبًا وَفِعْلًا وَوَصْفًا لِأَنَّ
الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ على التَّحْرِيمَةِ فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ
تَحْرِيمَتَهُ لِمَا انْعَقَدَتْ له تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ فَكُلَّمَا
انْعَقَدَتْ له تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ من الْمُقْتَدِي وما لَا
فَلَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالشِّرْكَةِ في الصَّلَاتَيْنِ
وَاتِّحَادُهُمَا من الْوُجُوهِ الذي وَصَفْنَا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَسَائِلُ الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ
بِالِافْتِتَاحِ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو
الْبِنَاءُ لَا يُتَصَوَّرَ هَهُنَا لِأَنَّ الْبِنَاءَ على الْعَدَمِ مُحَالٌ
وقال النبي إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه
وما لم يُكَبِّرْ الْإِمَامُ لَا يَتَحَقَّقُ الِائْتِمَامُ بِهِ وَكَذَا إذَا
كَبَّرَ قَبْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ عليه وَلَوْ جَدَّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ
تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ في صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ
صَارَ قَاطِعًا لِمَا كان فيه شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ كَمَنْ كان في
النَّفْلِ فَكَبَّرَ وَنَوَى الْفَرْضَ يَصِيرُ خَارِجًا من النَّفْلِ دَاخِلًا في
الْفَرْضِ وَكَمَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بألفين ( ( ( ألفين ) ) ) كان فَسْخًا
لِلْأَوَّلِ وَعَقْدًا آخَرَ كَذَا هذا وَلَوْ لم يُجَدِّدْ حتى لم يَصِحَّ
اقْتِدَاؤُهُ هل يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ أَشَارَ في كِتَابِ
الصَّلَاةِ إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِيمَا إذَا جَدَّدَ
التَّكْبِيرَ وَنَوَى الدُّخُولَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ فقال التَّكْبِيرُ
الثَّانِي قَطْعٌ لِمَا كان فيه وَأَشَارَ في نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ إلَى
أَنَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا في نَفْسِهِ فإنه ذَكَرَ أَنَّهُ لو قَهْقَهَ لَا
تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ
ثُمَّ من مَشَايِخِنَا من حَمَلَ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ على اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ
الْمَسْأَلَةِ فقال مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ
ظَنًّا منه أَنَّ الْإِمَامَ كَبَّرَ فَيَصِيرَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ ليس في
الصَّلَاةِ كَالْمُقْتَدِي بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ
في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَبَّرَ على عِلْمٍ منه أَنَّ الْإِمَامَ لم
يُكَبِّرْ فَيَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ
الِاخْتِلَافَ بين الرِّوَايَتَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهُ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِمَنْ ليس في
الصَّلَاةِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ كما لو اقْتَدَى
بِمُشْرِكٍ أو جُنُبٍ أو بِمُحْدِثٍ وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ
صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لو اسْتَأْنَفَ التَّكْبِيرَ
نَاوِيًا الشُّرُوعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا مُسْتَأْنِفًا وَاسْتِقْبَالُ
ما هو فيه لَا يُتَصَوَّرُ دَلَّ أَنَّ هذه الصَّلَاةَ غَيْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ
فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في إحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى
وَجْهُ ما ذُكِرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ نَوَى شَيْئَيْنِ الدُّخُولَ في
الصَّلَاةِ وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فَبَطَلَتْ إحْدَى نِيَّتَيْهِ وَهِيَ
نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ لِأَنَّهَا لم تُصَادِفْ مَحَلَّهَا فَتَصِحُّ الْأُخْرَى
وَهِيَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ وَصَارَ كَالشَّارِعِ في الْفَرْضِ على ظَنِّ أَنَّهُ
عليه وَلَيْسَ عليه بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِالْمُشْرِكِ وَالْمُحْدِثِ
وَالْجُنُبِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَصَارَ
بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ فأما هذا فَمِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ
بِهِ وَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ مُعْتَبَرَةٌ فلم يَصِرْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُلْغِيًا
صَلَاتَهُ
هذا إذَا كَبَّرَ الْمُقْتَدِي وَعَلِمَ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ فَأَمَّا
إذَا كَبَّرَ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ أو بَعْدَهُ
ذَكَرَ هذه الْمَسْأَلَةَ في الْهَارُونِيَّاتِ وَجَعَلَهَا على ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ إنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ لَا يَصِيرُ
شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ
بَعْدَ الْإِمَامِ يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاتِهِ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ
حُجَّةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْيَقِينِ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لم يَقَعْ رَأْيُهُ
____________________
(1/138)
على
شَيْءٍ فَالْأَصْلُ فيه هو الْجَوَازُ ما لم يَظْهَرْ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل
الْإِمَامِ بِيَقِينٍ وَيُحْمَلُ على الصَّوَابِ احْتِيَاطًا ما لم يَسْتَيْقِنْ
بِالْخَطَأِ كما قُلْنَا في بَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ في جِهَةِ
الْقِبْلَةِ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ ولم يَشُكَّ أَنَّ الْجِهَةَ التي صلى
إلَيْهَا قِبْلَةٌ أَمْ لَا أنه يَقْضِي بِجَوَازِهَا ما لم يَظْهَرْ خطأه
بِيَقِينٍ وَكَذَا في بَابِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ هَهُنَا
وَلَوْ كَبَّرَ الْمُقْتَدِي مع الْإِمَامِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ طَوَّلَ
قَوْلَهُ حتى فَرَغَ الْمُقْتَدِي من قَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ قبل أَنْ يَفْرُغَ
الْإِمَامُ من قَوْلِهِ اللَّهُ لم يَصِرْ شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ كَذَا
رَوَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هذه الْمَسْأَلَةُ
بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ اللَّهُ وَحْدَهُ فإذا
فَرَغَ الْمُقْتَدِي من ذلك قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ
فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يَصِحُّ
إلَّا بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّعْتِ فَلَا بُدَّ من الْمُشَارَكَةِ في
ذِكْرِهِمَا فإذا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِاسْمِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ في ذِكْرِ
النَّعْتِ لَا غير وهو غَيْرُ كَافٍ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَعَلَى
هذا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ اللَّابِسِ بِالْعَارِي لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ
الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ بها الصَّلَاةُ مع السِّتْرِ فَلَا يُقْبَلُ الْبِنَاءُ
لِاسْتِحَالَةِ الْبِنَاءِ على الْعَدَمِ وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لَا
صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهَا في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هذا
الشَّرْطِ في حَقِّ الْعَارِي لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ
الْمُقْتَدِي فَلَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الشَّرْطِ في حَقِّهِ فلم تَكُنْ صَلَاةً في
حَقِّهِ فلم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ
على الْعَدَمِ مُسْتَحِيلٌ
وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الصَّحِيحِ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ الدَّائِمِ لِأَنَّ
تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ مع انْقِطَاعِ الدَّم فَلَا
يَجُوزُ الْبِنَاءُ وَلِأَنَّ النَّاقِضَ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ لَكِنْ لم
يَظْهَرْ في حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ في حَقِّ
الْمُقْتَدِي ولا ( ( ( فلا ) ) ) يَجُوزُ اقْتِدَاءُ القارىء بِالْأُمِّيِّ
وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْأَخْرَسِ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ
لِلصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ من الْمُقْتَدِي وَلِأَنَّ
الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ عن الْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ
وَلَا عُذْرَ في حَقِّ الْمُقْتَدِي وَكَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ
بالأخرى ( ( ( بالأخرس ) ) ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ
التَّحْرِيمَةِ على تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَلَا تَحْرِيمَةَ من الْإِمَامِ
أَصْلًا فَاسْتَحَالَ الْبِنَاءُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ بِلَا
تَحْرِيمَةٍ لِلضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ من شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَا
تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عن الْأَخْرَسِ
لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ في حَقِّ الْأُمِّيِّ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على
التَّحْرِيمَةِ فَنَزَلَ الْأُمِّيُّ الذي يَقْدِرُ على التَّحْرِيمَةِ من
الْأَخْرَسِ مَنْزِلَةَ القارىء من الْأُمِّيِّ حتى أَنَّهُ لو لم يَقْدِرْ على
التَّحْرِيمَةِ جَازَ اقْتِدَاؤُهُ بِالْأَخْرَسِ لِاسْتِوَائِهِمَا في
الدَّرَجَةِ
وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ من يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بالمومىء ( ( ( بالمومئ ) ) )
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَقَطَ إلَى خَلْفٍ وهو
الْإِيمَاءُ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بِالْخَلْفِ كَأَدَائِهِ بِالْأَصْلِ وَصَارَ
كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ والمتوضىء ( ( ( والمتوضئ ) ) )
بِالْمُتَيَمِّمِ
وَلَنَا أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَالْإِيمَاءُ وَإِنْ كان يَحْصُلُ فيه بَعْضُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ لِمَا أَنَّهُمَا لِلِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ وقد وُجِدَ أَصْلُ
الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ في الْإِيمَاءِ فَلَيْسَ فيه كَمَالُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ تَنْعَقِدُ تَحْرِيمَتُهُ لِتَحْصِيلِ وَصْفِ الْكَمَالِ فلم
يُمْكِنُ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ
وَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ في
الْأَصْلِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ عن المومىء ( ( ( المومئ ) ) )
لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فلم يَكُنْ ما أتى بِهِ المومىء
( ( ( المومئ ) ) ) صَلَاةً شَرْعًا في حَقِّهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْبِنَاءُ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أَنَّهُ خَلْفٌ لِأَنَّا نَقُولُ ليس كَذَلِكَ
بَلْ هو تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى
بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْفَرْضِ في حَالَةِ الْعُذْرِ لَا أَنْ يَكُونَ خَلْفًا
بِخِلَافِ الْمَسْحِ مع الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مع الْوُضُوءِ لِأَنَّ ذلك
خَلْفٌ فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْأَصْلِ
وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ من يوميء قَاعِدًا أو قَائِمًا بِمَنْ يوميء مُضْطَجِعًا
لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ أو الْقُعُودِ فَلَا
يَجُوزُ الْبِنَاءُ
ثُمَّ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ في هذه الْفُصُولِ كُلِّهَا إلَّا في فَصْلٍ
وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْأُمِّيَّ إذَا أَمَّ القارىء أو القارىء وَالْأُمِّيِّينَ فَصَلَاةُ
الْكُلِّ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأُمِّيِّ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ تَامَّةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ عُذْرٍ اقْتَدَى بِهِ من هو بِمِثْلِ
حَالِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ له فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ من هو بِمِثْلِ
حَالِهِ كَالْعَارِي إذَا أَمَّ الْعُرَاةَ أو ( ( ( واللابسين ) ) ) اللابسين
وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَؤُمُّ الْأَصِحَّاءَ وَأَصْحَابَ الْجِرَاحِ
والمومىء ( ( ( والمومئ ) ) ) إذَا أَمَّ المؤمنين ( ( ( المومئين ) ) )
وَالرَّاكِعِينَ وَالسَّاجِدِينَ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ
بِمِثْلِ حَالِهِ كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ
____________________
(1/139)
في
الْمَسْأَلَةِ إحْدَاهُمَا ما ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ وهو أَنَّهُمْ لَمَّا جاؤوا مُجْتَمِعِينَ
لِأَدَاءِ هذه الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ والأمي ( ( ( فالأمي ) ) ) قَادِرٌ على
أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِأَنْ يُقَدِّمَ القارىء فَيَقْتَدِيَ بِهِ
فَتَكُونَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً له قال من كان له إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ
له قِرَاءَةٌ فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ مع
الْقُدْرَةِ عليها فَفَسَدَتْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ لِأَنَّ لُبْسَ
الْإِمَامِ لا يَكُونُ لُبْسًا لِلْمُقْتَدِي
وَكَذَا رُكُوعُ الْإِمَامِ وَسُجُودُهُ وَلَا يَنُوبُ عن الْمُقْتَدِي وَوُضُوءُ
الْإِمَامِ لَا يَكُونُ وضوءا ( ( ( وضوء ) ) ) لِلْمُقْتَدِي فلم يَكُنْ قَادِرًا
على إزَالَةِ الْعُذْرِ بِتَقْدِيمِ من لَا عُذْرَ له
وَلَا يَلْزَم على هذه الطَّرِيقَةِ ما إذَا كان الْأُمِّيُّ يُصَلِّي وَحْدَهُ
وَهُنَاكَ قارىء ( ( ( قارئ ) ) ) يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ حَيْثُ تَجُوزُ
صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَإِنْ كان قَادِرًا على أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ
بِأَنْ يَقْتَدِيَ بالقارىء ( ( ( بالقارئ ) ) ) لِأَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ
مَمْنُوعَةٌ
وَذَكَرَ أبو حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا
تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّ
هُنَاكَ لم يَقْدِرْ على أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ إذ لم يَظْهَرْ من
القارىء رَغْبَةٌ في أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ حَيْثُ اخْتَارَ الِانْفِرَادَ
بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ ما ذَكَرَهُ غَسَّانُ وهو أَنَّ التَّحْرِيمَةَ
انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ فإذا صَلَّوْا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَسَدَتْ
صَلَاتُهُمْ كَالْقَارِئِينَ وَإِنَّمَا قُلْنَا أن التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ
مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ في التَّحْرِيمَةِ
لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً
لِلْقِرَاءَةِ لِاشْتِرَاكِهَا بين الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ
ثُمَّ عِنْدَ أَوَانِ الْقِرَاءَةِ تَفْسُدُ لِانْعِدَامِ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ
سَائِرِ الْأَعْذَارِ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّحْرِيمَةَ لم تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً
لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ اللَّابِسِ لم تَنْعَقِدْ إذَا اقْتَدَى بِالْعَارِي
لِافْتِقَارِهَا إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِلَى ارْتِفَاعِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ
فلم تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه فَإِنَّهَا غَيْرُ
مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ القاريء مُشْتَرَكَةً
فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ
وَلَا يَلْزَمُ على هذه الطَّرِيقَةِ ما ذَكَرْنَا من الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ
هُنَاكَ تَحْرِيمَةُ الْأُمِّيِّ لم تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ
لِانْعِدَامِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القارىء فيها
أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُ ما إذَا اقْتَدَى القارىء
بِالْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ وَلَوْ
صَحَّ شروعه ( ( ( شروع ) ) ) في الِابْتِدَاءِ لَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ
صَارَ شَارِعًا في صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فيها وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ وَلَوْ
نَذَرَ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمهُ شَيْءٌ إلَّا في رِوَايَةٍ عن
أبي يُوسُفَ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فيها
وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْكَافِرِ وَلَا اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ
بِالْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالْمَرْأَةُ
لَيْسَتْ من أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَكَانَتْ صَلَاتُهَا عَدَمًا في حَقِّ
الرَّجُلِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ وَلَا يَجُوزُ
اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا إلَّا
أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فُرَادَى أَفْضَلُ لِأَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَنْسُوخَةٌ
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ إذَا نَوَى الرَّجُلُ إمَامَتَهَا
وَعِنْدَ زُفَرَ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ على ما مَرَّ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أنها إذَا وَقَفَتْ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ
اقْتِدَاؤُهَا بِهِ وَإِنْ لم يَنْوِ إمَامَتَهَا ثُمَّ إذَا وَقَفَتْ إلَى
جَنْبِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا خَاصَّةً لَا صَلَاةُ الرَّجُلِ وَإِنْ كان نَوَى
إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ
وَوَجْهُهُ إنها إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ كان قَصْدُهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ لَا
إفْسَادَ صَلَاةِ الرَّجُلِ فَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ
وإذا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ فَقَدْ قَصَدَتْ إفْسَادَ صَلَاتِهِ فَيُرَدُّ
قَصْدُهَا بِإِفْسَادِ صَلَاتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قد نَوَى
إمَامَتَهَا فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِهَذَا
الضَّرَرِ وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهَا بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِأَنَّهُ إنْ
كان رَجُلًا فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ
وَإِنْ كان امْرَأَةً فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ جَائِزٌ أَيْضًا
لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْخُنْثَى أَنْ يَتَقَدَّمَ وَلَا يَقُومَ في وَسَطِ الصَّفِّ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالْمُحَاذَاةِ وَكَذَا
تُشْتَرَطُ نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ
لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ
بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً
وَالْمُقْتَدِي رَجُلًا فَيَكُونَ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ على بَعْضِ
الْوُجُوهِ فَلَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِالْمُحْدِثِ أو الْجُنُبِ فَإِنْ كان عَالِمًا بِذَلِكَ
لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَكَذَلِكَ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ كما في الْكَافِرِ لَكِنِّي
تَرَكْتُ الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ وهو ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَيُّمَا
رَجُلٍ صلى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ ولم يُعِيدُوا
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً
فَأَعَادَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِعَادَةِ فأعادوا وقال أَيُّمَا رَجُلٍ صلى
بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ وَأَعَادُوا وقد رُوِيَ نَحْوُ هذا عن
عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما حتى ذَكَرَ أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي أَنَّ
عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه صلى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا ثُمَّ
____________________
(1/140)
عَلِمَ
أَنَّهُ كان جُنُبًا فَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَلَا إنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ كان جُنُبًا فَأَعِيدُوا صَلَاتَكُمْ وَلِأَنَّ مَعْنَى
الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ هَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ
التَّحْرِيمَةِ مع قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وما رَوَاهُ مَحْمُولٌ على
بُدُوِّ الْأَمْرِ قبل تَعَلُّقِ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ على ما
رُوِيَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ كان إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى ما
فَاتَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ حتى تَابَعَ عبد اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ أو مُعَاذٌ رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ قَضَى ما فَاتَهُ فَصَارَ شَرِيعَةً
بِتَقْرِيرِ رسول اللَّهِ
ع وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِاللَّابِسِ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ
انْعَقَدَتْ لِمَا يَبْنِي عليه الْمُقْتَدِي لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْتِي بِمَا
يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَيُقْبَلُ الْبِنَاءُ وَكَذَا اقْتِدَاءُ
الْعَارِي بِالْعَارِي لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فَتَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ في
التَّحْرِيمَةِ ثُمَّ الْعُرَاةُ يُصَلُّونَ قُعُودًا بِإِيمَاءٍ
وقال بِشْرٌ يُصَلُّونَ قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ عَجَزُوا عن تَحْصِيلِ شَرْطِ الصَّلَاةِ وهو سَتْرُ
الْعَوْرَةِ وَقَدَرُوا على تَحْصِيلِ أَرْكَانِهَا فَعَلَيْهِمْ الْإِتْيَانُ
بِمَا قَدَرُوا عليه وَسَقَطَ عَنْهُمْ ما عَجَزُوا عنه
وَلِأَنَّهُمْ لو صَلَّوْا قُعُودًا تَرَكُوا أَرْكَانًا كَثِيرَةً وَهِيَ
الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَإِنْ صَلَّوْا قِيَامًا تَرَكُوا فَرْضًا
وَاحِدًا وهو سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عليه حَدِيثُ
عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي قال له صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ
لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ فَهَذَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّي قَائِمًا فَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَائِمًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّ
أَصْحَابَ رسول اللَّهِ رَكِبُوا الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ
فَخَرَجُوا من الْبَحْرِ عُرَاةً فَصَلَّوْا قُعُودًا بِإِيمَاءٍ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا
الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ لِلصَّلَاةِ
قَاعِدًا تَرْجِيحًا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو صلى قَاعِدًا فَقَدْ
تَرَكَ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وما تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ أَصْلًا
لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِبَعْضِهِمَا وهو الْإِيمَاءُ
وَأَدَّى فَرْضَ الْقِيَامِ بِبَدَلِهِ وهو الْقُعُودُ فَكَانَ فيه مُرَاعَاةُ
الْفَرْضَيْنِ جميعا وَفِيمَا قُلْتُمْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وهو سَتْرُ
الْعَوْرَةِ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّ من أَدَاءِ الْأَرْكَانِ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ في الصَّلَاةِ
وَغَيْرِهَا وَالْأَرْكَانَ فَرَائِضُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرِهَا
وَالثَّانِي أَنَّ سُقُوطَ هذه الْأَرْكَانِ إلَى الْإِيمَاءِ جَائِزٌ في النَّوَافِلِ
من غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْمُتَنَفِّلِ على الدَّابَّةِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا
تَسْقُطُ فَرْضِيَّتُهُ قَطُّ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَ أَهَمَّ فَكَانَ
مُرَاعَاتُهُ أَوْلَى فَلِهَذَا جَعَلْنَا الصَّلَاةَ قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ
أَوْلَى غير أَنَّهُ إنْ صلى قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ
وَإِنْ تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ فَقَدْ كَمَّلَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ
الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى تَكْمِيلِ هذه
الْأَرْكَانِ فَصَارَ تَارِكًا لِفَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ أَصْلًا
لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَجَوَّزْنَا له ذلك لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَاجَةِ وَحُصُولِ
الْغَرَضِ وَجَعَلْنَا الْقُعُودَ بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى لِكَوْنِ ذلك الْفَرْضِ
أَهَمَّ وَلِمُرَاعَاةِ الْفَرْضَيْنِ جميعا من وَجْهٍ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوا من الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ
عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ حُكْمًا
حَيْثُ اُفْتُرِضَ عليه سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ
ثُمَّ لو كَانُوا جَمَاعَةً يَنْبَغِي لهم أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى لِأَنَّهُمْ لو
صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فَإِنْ قام الْإِمَامُ وَسَطَهُمْ احْتِرَازًا عن
مُلَاحَظَةِ سَوْأَةِ الْغَيْرِ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ التَّقَدُّمِ على
الْجَمَاعَةِ وَالْجَمَاعَةُ أَمْرٌ مَسْنُونٌ فإذا كان لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ
إلَّا بِارْتِكَابِ بِدْعَةٍ وَتَرْكِ سُنَّةٍ أُخْرَى لَا يُنْدَبُ إلَى
تَحْصِيلِهَا بَلْ يُكْرَهُ تَحْصِيلُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ
وَأَمَرَ الْقَوْمَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِمْ كما ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ لَا يَسْلَمُونَ عن الْوُقُوعِ في الْمُنْكَرِ أَيْضًا فإنه قَلَّمَا
يُمْكِنُهُمْ غَضُّ الْبَصَرِ على وَجْهٍ لَا يَقَعُ على عَوْرَةِ الْإِمَامِ مع
أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ في الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا نَصَّ عليه الْقُدُورِيُّ
لِمَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْظُرَ في كل حَالَةٍ إلَى مَوْضِعٍ
مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ الْبَصَرُ ذَا حَظٍّ من أَدَاءِ هذه الْعِبَادَاتِ كَسَائِرِ
الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ وفي غَضِّ الْبَصَرِ فَوَاتُ ذلك فَدَلَّ أَنَّهُ لَا
يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِارْتِكَابِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ
فَتَسْقُطَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُمْ فَلَوْ صَلَّوْا مع هذه الْجَمَاعَةِ
فَالْأَوْلَى لِإِمَامِهِمْ أَنْ يَقُومَ وَسَطَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُمْ
على عَوْرَتِهِ فَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ أَيْضًا وَحَالُهُمْ في هذا
الْمَوْضِعِ كَحَالِ النِّسَاءِ في الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ
يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ وَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ قَامَتْ إمَامَتُهُنَّ
وَسَطَهُنَّ وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُنَّ جَازَ فَكَذَلِكَ حَالُ الْعُرَاةِ
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِالصَّحِيحِ وَبِمَنْ هو بِمِثْلِ
حَالِهِ وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بالقارىء ( ( ( بالقارئ ) ) )
وَبِالْأُمِّيِّ لِمَا مَرَّ وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ المومىء ( ( ( المومئ ) ) )
بِالرَّاكِعِ السَّاجِدِ وبالمومىء ( ( ( وبالمومئ ) ) ) لِمَا مَرَّ وَيَسْتَوِي
الْجَوَاب
____________________
(1/141)
بَيْنَمَا
إذَا كان الْمُقْتَدِي قَاعِدًا يومىء بِالْإِمَامِ الْقَاعِد المومىء ( ( (
المومئ ) ) ) وَبَيْنَمَا إذَا كان قَائِمًا وَالْإِمَامُ قاعدا ( ( ( قاعد ) ) )
وَلِأَنَّ هذا الْقِيَامَ ليس بِرُكْنٍ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ على الْخُفِّ لِأَنَّ الْمَسْحَ على
الْخُفِّ بَدَلٌ عن الْغَسْلِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ
الْعَجْزِ عنه أو تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ فَقَامَ الْمَسْحُ مَقَامَ الْغَسْلِ في
حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ لِتَعَذُّرِ غَسْلِهِمَا عِنْدَ كل حَدَثٍ خُصُوصًا
في حَقِّ الْمُسَافِرِ على ما مَرَّ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ
لِلصَّلَاةِ مع غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هو بَدَلٌ عن
الْغَسْلِ فَصَحَّ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ
وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْقَدَمِ حَصَلَتْ بِالْغَسْلِ السَّابِقِ وَالْخُفُّ
مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَكَانَ هذا اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ
بِالْغَاسِلِ فَصَحَّ وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ على
الْجَبَائِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عن الْمَسْحِ قَائِمٌ مَقَامَهُ
فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فيه
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ المتوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) ) بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وقد مَرَّ الْكَلَامُ
فيه في كِتَابِ الطَّهَارَةِ
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ الذي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْقَاعِدِ بالذي ( (
( الذي ) ) ) يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ اسْتِحْسَانًا وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ
اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ المومىء ( ( ( المومئ ) ) ) بِالْقَاعِدِ المومىء ( ( (
المومئ ) ) )
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي
جَالِسًا أَيْ لِقَائِمٍ لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّهُ لو أَمَّ لِجَالِسٍ جَازَ
وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ أَعْلَى حَالًا من الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ
بِهِ كَاقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بالمومىء ( ( ( بالمومئ ) ) )
وَاقْتِدَاءِ القارىء بِالْأُمِّيِّ
وَفِقْهُهُ ما بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ على
تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَتَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ بَلْ
انْعَقَدَتْ لِلْقُعُودِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِيَامِ عليها كما لَا
يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ على تَحْرِيمَةِ الْأُمِّيِّ وَبِنَاءُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ على تَحْرِيمَةِ المومىء ( ( ( المومئ ) ) )
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رسول اللَّهِ في
ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا وَأَصْحَابُهُ خَلْفَهُ قِيَامٌ
يَقْتَدُونَ بِهِ فإنه لَمَّا ضَعُفَ في مَرَضِهِ قال مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلِيُصَلِّ بِالنَّاسِ فقالت عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ رضي اللَّهُ عنهما قُولِي له
أن أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ في مَكَانِكَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ
فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ فقالت حَفْصَةُ ذلك فقال أَنْتُنَّ صُوَيْحِبَاتُ
يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فلما افْتَتَحَ أبو بَكْرٍ رضي
اللَّهُ عنه الصَّلَاةَ وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ في نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ وهو
يهادي بين عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ وَرِجْلَاهُ يَخُطَّانِ الْأَرْضَ حتى دخل
الْمَسْجِدَ فلما سمع أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه حِسَّهُ تَأَخَّرَ فَتَقَدَّمَ
رسول اللَّهِ وَجَلَسَ يُصَلِّي وأبو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ
يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أبي بَكْرٍ يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه كان
يَسْمَعُ تَكْبِيرَ رسول اللَّهِ فَيُكَبِّرُ وَالنَّاسُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ
أبي بَكْرٍ
فَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ على وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ عليه
وَلَوْ تُوُهِّمَ وُرُودُ النَّسْخِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ ما لم يَثْبُتْ النَّسْخُ
فإذا لم يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقُعُودَ غَيْرُ
الْقِيَامِ وإذا أُقِيمَ شَيْءٌ مَقَامَ غَيْرِهِ جُعِلَ بَدَلًا عنه كَالْمَسْحِ
على الْخُفِّ مع غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمَا
مُتَغَايِرَانِ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ وَالْحَقِيقَةِ
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْقِيَامَ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ في
مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُمَا الِانْتِصَابَانِ في النِّصْفِ الْأَعْلَى
وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ فَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ في النِّصْفِ الْأَعْلَى
بِمَا يُضَادُّهُ وهو الِانْحِنَاءُ سُمِّيَ رُكُوعًا لِوُجُودِ الِانْحِنَاءِ لِأَنَّهُ
في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الِانْحِنَاءِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ النِّصْفِ
الْأَسْفَلِ لِأَنَّ ذلك وَقَعَ وِفَاقًا فَأَمَّا هو في اللُّغَةِ فَاسْمٌ
لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَحَسْبُ وهو الِانْحِنَاءُ وَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ في
النِّصْفِ الْأَسْفَلِ بِمَا يُضَادُّهُ وهو انْضِمَامُ الرِّجْلَيْنِ وَإِلْصَاقُ
الإلية بِالْأَرْضِ يُسَمَّى قُعُودًا فَكَانَ الْقُعُودُ اسْمًا لِمَعْنَيَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ في مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُمَا الِانْتِصَابُ في النِّصْفِ
الْأَعْلَى وَالِانْضِمَامُ وَالِاسْتِقْرَارُ على الْأَرْضِ في النِّصْفِ
الْأَسْفَلِ فَكَانَ الْقُعُودُ مُضَادًّا لِلْقِيَامِ في أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ
وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالرُّكُوعُ مع الْقُعُودِ يُضَادُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِلْآخَرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وهو صِفَةُ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَاسْمُ الْمَعْنَيَيْنِ
يَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ بِوُجُودِ مُضَادِّ أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَالْبُلُوغِ
وَالْيُتْمِ فَيَفُوتُ الْقِيَامُ بِوُجُودِ الْقُعُودِ أو الرُّكُوعِ
بِالْكُلِّيَّةِ وَلِهَذَا لو قال قَائِلٌ ما قُمْتُ بَلْ قَعَدْتُ وما أَدْرَكْتُ
الْقِيَامَ بَلْ أَدْرَكْتُ الرُّكُوعَ لم يُعَدَّ مُنَاقِضًا في كَلَامِهِ
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ ما صَارَ الْقِيَامُ لِأَجْلِهِ طَاعَةً يَفُوتُ
عِنْدَ الْجُلُوسِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ إنَّمَا صَارَ طَاعَةً ( لا
لِانْتِصَابِ ) نِصْفِهِ الْأَعْلَى بَلْ لِانْتِصَابِ رِجْلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُ
رِجْلَيْهِ من الْمَشَقَّةِ وهو بِالْكُلِّيَّةِ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ
فَثَبَتَ حَقِيقَةً
____________________
(1/142)
وَحُكْمًا
أَنَّ الْقِيَامَ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ فَصَارَ الْجُلُوسُ بَدَلًا عنه
وَالْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عن الْأَصْلِ أو تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ يَقُومُ
مَقَامَ الْأَصْلِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا اقْتِدَاءَ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ
لِقِيَامِ الْمَسْحِ مَقَامَ الْغَسْلِ في حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ
تَعَذُّرِ الْغَسْلِ لِكَوْنِهِ بَدَلًا عنه فَكَانَ الْقُعُودُ من الْإِمَامِ
بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ لو كان قَادِرًا عليه فَجُعِلَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ
في حَقِّ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِلْقِيَامِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هو بَدَلُ
الْقِيَامِ فَصَحَّ بِنَاءُ قِيَامِ الْمُقْتَدِي على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ
بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ القارىء بِالْأُمِّيِّ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ ما هو
بَدَلُ الْقِرَاءَةِ بَلْ سَقَطَتْ أَصْلًا فلم تَنْعَقِدْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ
لِلْقِرَاءَةِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ عليه أَمَّا هَهُنَا لم
يَسْقُطْ الْقِيَامُ أَصْلًا بَلْ أُقِيمَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اضْطَجَعَ وهو قَادِرٌ على الْقُعُودِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ
كان الْقِيَامُ يَسْقُطُ أَصْلًا من غَيْرِ بَدَلٍ وَذَا ليس وَقْتَ وُجُوبِ
الْقُعُودِ بِنَفْسِهِ كان يَنْبَغِي أَنَّهُ لو صلى مُضْطَجِعًا يَجُوزُ وَحَيْثُ
لم يَجُزْ دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ إلَى بَدَلِهِ
وَجُعِلَ بَدَلَهُ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْقِيَامِ وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ
السَّاجِدِ بالمومىء ( ( ( بالمومئ ) ) ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِيمَاءَ ليس
عَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَلْ هو تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
إلَّا أَنَّهُ ليس فيه كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فلم تَنْعَقِد تَحْرِيمَةُ
الْإِمَامِ لِلْفَائِتِ وهو الْكَمَالُ فلم يُمْكِنْ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ من الْمَعْنَى وما رُوِيَ من الحديث كان في
الِابْتِدَاءِ فإنه رُوِيَ أَنَّ النبي سَقَطَ عن فَرَسٍ فَجُحِشَ جَنْبُهُ فلم
يَخْرُجْ أَيَّامًا وَدَخَلَ عليه أَصْحَابُهُ فَوَجَدُوهُ يُصَلِّي قَاعِدًا
فَافْتَتَحُوا الصَّلَاةَ خَلْفَهُ قِيَامًا فلما رَآهُمْ على ذلك قال اسْتِنَانٌ
بِفَارِسَ وَالرُّومِ
وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ ثُمَّ نَهَاهُمْ عن ذلك فقال لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ
بَعْدِي جَالِسًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ في الصَّلَاةِ فقال اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ
وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك كان في الِابْتِدَاءِ حين كان
التَّكَلُّمُ في الصَّلَاةِ مُبَاحًا وما رَوَيْنَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا
فَانْتَسَخَ قَوْلُهُ السَّابِقُ بِفِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جابر بن عبد اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كان
يُصَلِّي مع النبي الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ في بَنِي
سَلِمَةَ وَمُعَاذٌ كان مُتَنَفِّلًا وكان يُصَلِّي خَلْفَهُ الْمُفْتَرِضُونَ
وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ لَا صَلَاةَ صَاحِبِهِ
لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِعْلَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ فِعْلُ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ وَافَقَ فِعْلَ إمَامِهِ أو خَالَفَهُ وَلِهَذَا جَازَ
اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفَ وَجَعَلَ الناس
طَائِفَتَيْنِ وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ لِيَنَالَ كُلُّ
فَرِيقٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَلَوْ جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرَضِ
بِالْمُتَنَفِّلِ لَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى ثُمَّ نَوَى
النَّفَلَ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ
فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَشْيِ وَأَفْعَالٍ
كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ من الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما
انْعَقَدَتْ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْفَرْضِيَّةُ وَإِنْ لم تَكُنْ صِفَةً زَائِدَةً
على ذَاتِ الْفِعْلِ فَلَيْسَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَيْضًا بَلْ هِيَ من
الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ على ما عُرِفَ في مَوْضِعِهِ فلم يَصِحَّ الْبِنَاءُ
من الْمُقْتَدِي بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ لِأَنَّ
النَّفْلِيَّةَ لَيْسَتْ من بَابِ الصِّفَةِ بَلْ هِيَ عَدَمٌ إذْ النَّفَلُ
عِبَارَةٌ عن أَصْلٍ لَا وَصْفَ له فَكَانَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً
لِمَا يَبْنِي عليه الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَصَحَّ الْبِنَاءُ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن مَعْنَاهُ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَلِّي صَلَاةَ
نَفْسِهِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنَّ إحْدَاهُمَا بِنَاءٌ على الْأُخْرَى
وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِنَاءِ
وما رُوِيَ من الحديث فَلَيْسَ فيه أَنَّ مُعَاذًا كان يُصَلِّي مع النبي
الْفَرْضَ
فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان يَنْوِي النَّفَلَ ثُمَّ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ الْفَرْضَ
وَلِهَذَا قال له لَمَّا بَلَغَهُ طُولُ قِرَاءَتِهِ إمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِهِمْ
وَإِلَّا فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ مَعَنَا على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في
الِابْتِدَاءِ حين كان تَكْرَارُ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا
وَيَنْبَنِي على هذا الْخِلَافِ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ في
الْفَرَائِضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِأَنَّ النفل ( ( ( الفعل ) ) ) من
الصَّبِيِّ لَا يَقَعُ فَرْضًا فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن سَلَمَةَ كان يُصَلِّي بِالنَّاسِ وهو
ابن تِسْعِ سِنِينَ وَلَا يُحْمَلُ على صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِأَنَّهَا لم
تَكُنْ على عَهْدِ رسول اللَّهِ بِجَمَاعَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ كان في الْفَرَائِضِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حين لم تَكُنْ صَلَاةُ
الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةً بِصَلَاةِ الْإِمَامِ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ نُسِخَ
وَأَمَّا في التَّطَوُّعَاتِ فَقَدْ رُوِيَ عن مُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ
أَنَّهُ أَجَازَ ذلك في التَّرَاوِيحِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ
____________________
(1/143)
ذلك
لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لَا في الْفَرِيضَةِ وَلَا في التَّطَوُّعِ لِأَنَّ
تَحْرِيمَةَ الصَّبِيِّ انْعَقَدَتْ لِنَفْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ عليه
بِالْإِفْسَادِ وَنَفْلُ الْمُقْتَدِي الْبَالِغِ مَضْمُونٌ عليه بِالْإِفْسَادِ
فَلَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ
وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّبَ وَلَدَهُ على الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ
إذَا عَقَلَهُمَا لِقَوْلِ النبي مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا
سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عليها إذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَلَا يُفْتَرَضُ عليه إلَّا
بَعْدَ الْبُلُوغِ وَنَذْكُرُ حَدَّ الْبُلُوغِ في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ احْتَلَمَ الصَّبِيُّ لَيْلًا ثُمَّ انتبه ( ( ( تنبه ) ) ) قبل طُلُوعِ
الْفَجْرِ قَضَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِبُلُوغِهِ
بِالِاحْتِلَامِ وقد انْتَبَهَ وَالْوَقْتُ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ
يُؤَدِّيَهَا وَإِنْ لم يَنْتَبِهْ حتى طَلَعَ الْفَجْرُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه قال بَعْضُهُمْ ليس عليه قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِأَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ
بِالِاحْتِلَامِ لَكِنَّهُ نَائِمٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ وَلِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ احْتَلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُحْتَمَلُ قَبْلَهُ
فَلَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وقال بَعْضُهُمْ عليه صَلَاةُ الْعِشَاءِ
لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَلِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ
احْتَلَمَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَاحْتُمِلَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ
أَحْوَطُ
وَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْعَصْرِ
وَلَا اقْتِدَاءُ من يُصَلِّي ظُهْرًا بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرَ يَوْمٍ غير ذلك
الْيَوْمِ عِنْدَنَا لِاخْتِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ وَصِفَتِهِمَا
وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ
وَرُوِيَ عن أَفْلَحَ بن كَثِيرٍ أَنَّهُ قال دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ ولم أَكُنْ
صَلَّيْتُ الظُّهْرَ فَوَجَدْتُ الناس في الصَّلَاةِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ في
الظُّهْرِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَنَوَيْتُ الظُّهْرَ فلما فَرَغُوا عَلِمْتَ
أَنَّهُمْ كَانُوا في الْعَصْرِ فَقُمْتُ وَصَلَّيْتُ الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّيْتُ
الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجْتُ فَوَجَدَتْ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ مُتَوَافِرِينَ
فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا فَعَلْتُ فَاسْتَصْوَبُوا ذلك وَأَمَرُوا بِهِ فَانْعَقَدَ
الْإِجْمَاعُ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما قُلْنَا وَعَلَى هذا
لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ بأنه ( ( ( بأن ) ) ) نَذَرَ
رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَاقْتَدَى
أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِيمَا نَذَرَ وَكَذَا إذَا شَرَعَ رَجُلَانِ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَحْدَهُ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على
نَفْسِهِ حتى وَجَبَ عليه الْقَضَاءُ فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ لَا
يَصِحُّ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفٌ وهو نَذْرُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَشُرُوعُهُ فَاخْتَلَفَ الْوَاجِبَانِ وَتَغَايَرَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ
صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا
بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ حَيْثُ يَصِحُّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
هُنَاكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ لَا نَفْسُ الصَّلَاةِ فَبَقِيَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ من
الصَّلَاتَيْنِ في حَقِّ نَفْسِهَا نَفْلًا فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ
بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ وَكَذَا لو اشْتَرَكَا في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِأَنْ
اقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فيها ثُمَّ أَفْسَدَاهَا حتى وَجَبَ الْقَضَاءُ
عَلَيْهِمَا فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ في الْقَضَاءِ جَازَ لِأَنَّهَا
صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا
مَعْنًى فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ
ثُمَّ إذَا لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ فَصَلَاةُ
الْإِمَامِ جَائِزَةٌ كَيْفَمَا كان لِأَنَّ صَلَاتَهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ
بِصَلَاةِ الْمُقْتَدِي وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا فَسَدَتْ عن
الْفَرْضِيَّةِ هل يَصِيرُ شَارِعًا في التَّطَوُّعِ ذكر في باب الأذان أنه يصير
شارعا في النفل وذكر في زيادات الزيادات وفي باب الحدث ما يدل على أنه لا يصير
شارعا فإنه ذُكِرَ في بَابِ الْحَدَثِ في الرَّجُلِ إذَا كان يُصَلِّي الظُّهْرَ
وقد نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ وَاقْتَدَتْ بِهِ فَرْضًا
آخَرَ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في التَّطَوُّعِ حتى
لو حازت ( ( ( حاذت ) ) ) الْإِمَامَ لم تُفْسِدْ عليه صَلَاتَهُ فَمِنْ
مَشَايِخِنَا من قال في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمِنْهُمْ من قال ما ذُكِرَ
في بَابِ الْأَذَان قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وما ذُكِرَ في بَابِ
الْحَدَثِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَجَعَلُوهُ فَرْعِيَّةَ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّ
الْمُصَلِّيَ إذَا لم يَفْرُغْ من الْفَجْرِ حتى طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَقِيَ في
التَّطَوُّعِ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يَمْكُثُ حتى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ثُمَّ
يَضُمُّ إلَيْهَا ما يُتِمُّهَا فَيَكُونَ تَطَوُّعًا وَعِنْدَهُ يَصِيرُ خَارِجًا
من الصَّلَاةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَا إذَا كان في الظُّهْرِ فَتَذَكَّرَ
أَنَّهُ نَسِيَ الْفَجْرَ يَنْقَلِبُ ظُهْرُهُ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ يَصِيرُ خَارِجًا من الصَّلَاةِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَوَى فَرْضًا عليه ولم يَظْهَرْ أَنَّهُ ليس
عليه فَرْضٌ فَلَا تلغو ( ( ( يلغو ) ) ) نِيَّةَ الْفَرْضِ فَمِنْ حَيْثُ أنه لم
يَلْغُ نِيَّةَ الْفَرْضِ لم يَصِرْ شَارِعًا في النَّفْلِ وَمِنْ حَيْثُ أنه
يُخَالِفُ فَرْضُهُ فَرْضَ الْإِمَامِ لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ فلم يَصِرْ
شَارِعًا في الصَّلَاةِ أَصْلًا بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ عليه الْفَرْضُ
لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ لَغَتْ أَصْلًا كَأَنَّهُ لم يَنْوِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ بَنَى أَصْلَ الصَّلَاةِ وَوَصْفَهَا على صَلَاةِ
الْإِمَامِ وَبِنَاءُ الْأَصْلِ صَحَّ وَبِنَاءُ الْوَصْفِ لم يَصِحَّ فَلَغَا
بِنَاءُ الْوَصْفِ وَبَقِيَ بِنَاءُ الْأَصْلِ وَبُطْلَان بِنَاءِ الْوَصْفِ لَا
يُوجِبُ بُطْلَان بِنَاءِ الْأَصْلِ لِاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عن هذا الْوَصْفِ
فَيَصِيرُ هذا اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ وَأَنَّهُ جَائِز
وَذُكِرَ في النَّوَادِرِ عن مُحَمَّدٍ
____________________
(1/144)
في
رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ صَلَاةً وَاحِدَةً مَعًا وَيَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يَؤُمَّ صَاحِبَهُ فيها أَنَّ صَلَاتَهُمَا جَائِزَةٌ لِأَنَّ
صِحَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ فَصَارَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ اقْتَدَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ فيها فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ لِأَنَّ صَلَاةَ
الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا إمَامَ هَهُنَا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقْتَدِي عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ مُتَقَدِّمًا على
إمَامِهِ عِنْدَنَا وقال مَالِكٌ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيُجْزِئُهُ إذَا أَمْكَنَهُ
مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ في الصَّلَاةِ
وَالْمَكَانُ ليس من الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فيه أَلَا تَرَى
أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ في مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْقَوْمُ صَفٌّ حَوْلَ الْبَيْتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ قبل الْإِمَامِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي ليس مع الْإِمَامِ من تَقَدَّمَهُ وَلِأَنَّهُ إذَا
تَقَدَّمَ الْإِمَامَ يَشْتَبِهُ عليه حَالُهُ أو يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ
وَرَاءَهُ في كل وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ وَلِأَنَّ
الْمَكَانَ من ( لوازم الصلاة والإقتداء يقتضي التبعية في الصلاة فكذا فما هو من
لَوَازِمِهِ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ
أو طَرِيقٌ لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ في الْمَكَانِ
كَذَا هذا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عند الْكَعْبَةِ لِأَنَّ وَجْهَهُ إذَا كان إلَى
الْإِمَامِ لم تَنْقَطِعْ التَّبَعِيَّةُ وَلَا يُسَمَّى قبلة بَلْ هُمَا
مُتَقَابِلَانِ كما إذَا حَاذَى إمَامَهُ وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْقَبْلِيَّةَ
إذَا كان ظَهْرُهُ إلَى الْإِمَامِ ولم يُوجَدْ وَكَذَا لَا يَشْتَبِهُ عليه حَالُ
الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ مَكَانِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ لأن الِاقْتِدَاءَ
يَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ في الصَّلَاةِ وَالْمَكَانُ من لَوَازِمِ الصَّلَاةِ
فَيَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ في الْمَكَانِ ضَرُورَةً وَعِنْدَ اخْتِلَافِ
الْمَكَانِ تَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ في الْمَكَانِ فَتَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ
في الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ لَازِمِهَا وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ يُوجِبُ
خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ على الْمُقْتَدِي فَتَتَعَذَّرُ عليه الْمُتَابَعَةُ
التي هِيَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ حتى أَنَّهُ لو كان بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ عَامٌّ
يَمُرُّ فيه الناس أو نَهْرٌ عَظِيمٌ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ
اخْتِلَافَ الْمَكَانَيْنِ عُرْفًا مع اخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً فَيَمْنَعُ
صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ
وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا
إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أو
طَرِيقٌ أو صَفٌّ من النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ له وَمِقْدَارُ الطَّرِيقِ
الْعَامُّ ذُكِرَ في الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أبو نَصْرٍ محمد بن مُحَمَّدِ بن
سَلَّامٍ عن مِقْدَارِ الطَّرِيقِ الذي يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فقال
مِقْدَارُ ما تَمُرُّ فيه الْعَجَلَةُ أو ( ( ( وتمر ) ) ) تمر فيه الْأَوْقَارُ
وَسُئِلَ أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عنه فقال مِقْدَارُ ما يَمُرُّ فيه الْجَمَلُ
وَأَمَّا النَّهْرُ الْعَظِيمُ فما لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ عليه إلَّا بِعِلَاجٍ
كَالْقَنْطَرَةِ وَنَحْوِهَا
وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّ الْمُرَادَ من
الطَّرِيقِ ما تَمُرُّ فيه الْعَجَلَةُ وما وَرَاءَ ذلك طَرِيقَةٌ لَا طَرِيقٌ
وَالْمُرَادُ بِالنَّهْرِ ما تَجْرِي فيه السُّفُنُ وما دُونَ ذلك بِمَنْزِلَةِ
الْجَدْوَلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ
فَإِنْ كانت الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً على الطَّرِيقِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّ
اتِّصَالَ الصُّفُوفِ أَخْرَجَهُ من أَنْ يَكُونَ مَمَرَّ الناس فلم يَبْقَ
طَرِيقًا بَلْ صَارَ مُصَلًّى في حَقِّ هذه الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ إذا كان على هذا
النَّهْرِ جِسْرٌ وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كان
بَيْنَهُمَا حَائِطٌ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ وَهَذَا في الْحَاصِلِ
على وَجْهَيْنِ إنْ كان الْحَائِطُ قَصِيرًا ذَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ
أَحَدٍ من الرُّكُوبِ عليه كَحَائِطِ الْمَقْصُورَةِ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ
لِأَنَّ ذلك لَا يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ في الْمَكَانِ وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ
حَالِ الْإِمَامِ ( وَلَوْ كان بين الصَّفَّيْنِ حَائِطٌ إنْ كان طَوِيلًا
وَعَرِيضًا ليس فيه ثُقْبٌ يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ وَإِنْ كان فيه ثُقْبٌ لَا
يَمْنَعُ مُشَاهَدَةَ حَالِ الْإِمَامِ لَا يَمْنَعُ بِالْإِجْمَاعِ ) وَإِنْ كان
كَبِيرًا فَإِنْ كان عليه بَابٌ مَفْتُوحٌ أو خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم
يَكُنْ عليه شَيْءٌ من ذلك ففيه ( ( ( فعليه ) ) ) رِوَايَتَانِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى التي قال لَا يَصِحُّ أَنَّهُ يَشْتَبِهُ عليه
حَالُ إمَامِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْوُجُودُ وهو ما ظَهَرَ من عَمَلِ الناس في
الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ فإن الْإِمَامَ يَقِفُ في مَقَامِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عليه وَسَلَامُهُ وَبَعْضُ الناس يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ من
الْجَانِبِ الْآخَرِ فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ ولم
يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ من ذلك فَدَلَّ على الْجَوَازِ
وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا صَفٌّ من النِّسَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا
رَوَيْنَا من الحديث وَلِأَنَّ الصَّفَّ من النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ
الْكَبِيرِ الذي ليس فيه فُرْجَةٌ وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ كَذَا هذا
وَلَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ في أَقْصَى الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ في
الْمِحْرَابِ جَازَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ على تَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ في
الْحُكْمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَوْ وَقَفَ على سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى
بِالْإِمَامِ فَإِنْ كان وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أو بِحِذَائِهِ أَجْزَأَهُ
لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ وَقَفَ على سَطْحٍ المسجد
وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ وهو في جَوْفِهِ وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ تَبَعٌ
____________________
(1/145)
لِلْمَسْجِدِ
وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ في جَوْفِ الْمَسْجِدِ
وَهَذَا إذَا كان لَا يَشْتَبِهُ عليه حَالُ إمَامِهِ
فَإِنْ كان يَشْتَبِهُ لَا يَجُوزُ
وَإِنْ كان وُقُوفُهُ مُتَقَدِّمًا على الْإِمَامِ لَا يُجْزِئْهُ لِانْعِدَامِ
مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ كما لو كان في جَوْفِ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ لو كان على
سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلٍ بِهِ ليس بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ فَاقْتَدَى
بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَكَانَ الصَّلَاةِ
بِالْجَمَاعَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَلَنَا أَنَّ السَّطْحَ إذَا كان مُتَّصِلًا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ كان تَبَعًا
لِسَطْحِ الْمَسْجِدِ وَتَبَعُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ في حُكْمِ الْمَسْجِدِ فَكَانَ
اقْتِدَاؤُهُ وهو عليه كَاقْتِدَائِهِ وهو في جَوْفِ الْمَسْجِدِ إذَا كان لَا
يَشْتَبِهُ عليه حَالُ الْإِمَامِ وَلَوْ اقْتَدَى خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ
في الْمَسْجِدِ إنْ كانت الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ ذلك
الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْمَسْجِدِ هذا إن كان
الْإِمَامُ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إذَا كان يُصَلِّي في الصَّحْرَاءِ
فَإِنْ كانت الْفُرْجَةُ التي بين الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ قَدْرَ الصَّفَّيْنِ
فَصَاعِدًا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِأَنَّ ذلك بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ
الْعَامِّ أو النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَيُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ
وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أبو نَصْرٍ عن إمَامٍ يُصَلِّي في فَلَاةٍ
من الْأَرْضِ كَمْ مِقْدَارُ ما بَيْنَهُمَا حتى يَمْنَعَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ
قال إذَا كان مِقْدَارُ ما لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْطَفَّ فيه جَازَتْ صَلَاتُهُمْ
فَقِيلَ له لو صلى في مُصَلَّى الْعِيدِ قال حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَلَوْ
كان الْإِمَامُ يُصَلِّي على دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه أو على الْقَلْبِ
جَازَ وَيُكْرَهُ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ ذلك لَا يَقْطَعُ التَّبَعِيَّةَ وَلَا يُوجِبُ
خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلِمَا يُذْكَرُ في
بَيَانِ ما يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَهُ في صَلَاتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَانْفِرَادُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ عن الصَّفِّ لَا يَمْنَعُ
صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أَصْحَابُ الحديث منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَل يَمْنَعُ وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ وَعَنْ
وَابِصَةَ أَنَّ النبي رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي في حجزة ( ( ( حجرة ) ) ) من
الْأَرْضِ فقال أَعِدْ صَلَاتَكَ فإنه لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَقَامَنِي
النبي وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَأَقَامَ أُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا جَوَّزَ
اقْتِدَاءَهَا بِهِ عن انْفِرَادِهَا خَلْفَ الصُّفُوفِ وَدَلَّ الْحَدِيثُ على
أَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا
خَلْفَهُمَا مع نَهْيِهِ عن الِانْفِرَادِ خَلْفَ الصَّفِّ فَعُلِمَ أَنَّهُ
إنَّمَا فَعَلَ صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بكر ( ( ( بكرة ) )
) رضي اللَّهُ عنه دخل الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ
وَدَبَّ حتى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ فلما فَرَغَ النبي من صَلَاتِهِ قال زَادَكَ
اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أو قال لَا تَعْدُ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُ بِهِ خَلْفَ
الصَّفِّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو تَبَيَّنَ أَنَّ من بِجَنْبِهِ كان
مُحْدِثًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان هو مُنْفَرِدًا خَلْفَ
الصَّفِّ حَقِيقَةً
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْكَمَالِ وَالْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ
وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ ما يَمْنَعُ
الِاقْتِدَاءَ وفي الحديث ما يَدُلُّ عليه فإنه قال في حُجْرَةٍ من الْأَرْضِ أَيْ
نَاحِيَةٍ لَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يَلْتَحِقَ بِالصَّفِّ إنْ وَجَدَ
فُرْجَةً ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيُكْرَهُ له الِانْفِرَادُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ نَذْكُرهُ في بَيَانِ ما يُكْرَهُ فِعْلُهُ في الصَّلَاةِ
وَلَوْ انْفَرَدَ ثُمَّ مَشَى لِيَلْحَقَ بِالصَّفِّ ذُكِرَ في الْفَتَاوَى عن
مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ إنْ مَشَى في صَلَاتِهِ مِقْدَارَ صَفٍّ وَاحِدٍ
لَا تَفْسُدُ وَإِنْ مَشَى أَكْثَرَ من ذلك فَسَدَتْ وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا
قام إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ فَتَقَدَّمَ حتى لَا يَمُرَّ الناس بين يَدَيْهِ
أَنَّهُ إنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك فَسَدَتْ
وهو اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ سَوَاءٌ كان في الْمَسْجِدِ أو في
الصَّحْرَاءِ ولو ( ( ( ومشى ) ) ) مشى مِقْدَارَ صَفٍّ وَوَقَفَ لَا تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ وَقَدَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ وَبَعْضُهُمْ
بِمِقْدَارِ الصَّفَّيْنِ إنْ زَادَ على ذلك فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا قبل الصَّلَاةِ وَبَعْضُهَا
في الصَّلَاةِ وَبَعْضُهَا عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ وَبَعْضُهَا في
حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْد الْخُرُوجِ منها
أَمَّا الذي قبل الصَّلَاةِ فَاثْنَانِ أَحَدُهُمَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ
وَالْكَلَامُ في الْأَذَانِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهِ في
الْجُمْلَةِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ سَبَبِهِ وفي بَيَانِ مَحَلِّ
وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ ما يَجِبُ على السَّامِعِينَ عِنْدَ
سَمَاعِهِ
أما الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَر مُحَمَّدٌ ما يَدُلُّ على الْوُجُوبِ فإنه قال إنَّ
أَهْلَ بَلْدَةٍ لو اجْتَمَعُوا على تَرْكِ الْأَذَانِ لَقَاتَلْتُهُمْ عليه
وَلَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ ضَرَبْتُهُ وَحَبَسْتُهُ وَإِنَّمَا يُقَاتَلُ وَيُضْرَبُ
____________________
(1/146)
وَيُحْبَسُ
على تَرْكِ الْوَاجِبِ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّهُمَا سُنَّتَانِ
مُؤَكَّدَتَانِ لِمَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في قَوْمٍ
صَلَّوْا الظُّهْرَ والعصر في الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ ولاإقامة
فَقَدْ أخطؤوا ( ( ( أخطئوا ) ) ) السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا
وَالْقَوْلَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ
وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا السُّنَّةُ التي هِيَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ
فَلَا يَسَعُ تَرْكُهَا وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ لِأَنَّ تَرْكَ
السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَإِنْ لم تَكُنْ من شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ فَهَذَا أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سَمَّاهُ سُنَّةً
ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ حَيْثُ قال أخطؤا ( ( ( أخطئوا ) ) ) السُّنَّةَ
وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا وَالْإِثْمُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن زَيْدِ بن عبد رَبِّهِ
الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ تعالى عنه وهو الْأَصْلُ في بَابِ الْأَذَانِ فإنه
روي أَنَّ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان تَفُوتَهُمْ
الصَّلَاةُ مع الْجَمَاعَةِ لِاشْتِبَاهِ الْوَقْتِ عليهم وَأَرَادُوا أَنْ
يَنْصِبُوا لِذَلِكَ عَلَامَةً قال بَعْضُهُمْ نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ فَكَرِهُوا
ذلك لِمَكَانِ النَّصَارَى
وقال بَعْضُهُمْ نَضْرِبُ بِالشَّبُّورِ فَكَرِهُوا ذلك لِمَكَانِ الْيَهُودِ
وقال بَعْضُهُمْ نُوقِدُ نَارًا عَظِيمَةً فَكَرِهُوا ذلك لِمَكَانِ الْمَجُوسِ
فَتَفَرَّقُوا من غَيْرِ رَأْيٍ اجْتَمَعُوا عليه فَدَخَلَ عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ
مَنْزِلَهُ فَقَدَّمَتْ امْرَأَتُهُ الْعَشَاءَ فقال ما أنا بِآكِلٍ وَأَصْحَابُ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَهُمُّهُمْ أَمْرُ الصَّلَاةِ إلَى أَنْ قال كنت
بين النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ رأيت نَازِلًا نَزَلَ من السَّمَاءِ وَعَلَيْهِ
بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَبِيَدِهِ نَاقُوسٌ فقلت له أَتَبِيعُ مِنِّي هذا
النَّاقُوسَ فقال ما تَصْنَعُ بِهِ فقلت أَذْهَبُ بِهِ إلَى رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم لِيَضْرِبَ بِهِ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ فقال أَلَا أَدُلُّك إلَى
ما هو خَيْرٌ منه فَقُلْت نعم فَوَقَفَ على حَذْمِ حَائِطٍ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ وقال اللَّهُ أَكْبَرُ الاذان الْمَعْرُوفَ إلَى آخِرِهِ قال ثُمَّ
مَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قال مِثْلَ ذلك إلَّا أَنَّهُ زَادَ في آخِرِهِ قد
قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ
قال فلما أَصْبَحْتُ ذَكَرْتُ ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال
إنَّهُ لَرُؤْيَا حَقٍّ فَأَلْقِهَا إلَى بِلَالٍ فإنه أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا
مِنْكَ وَمُرْهُ يُنَادِي بِهِ فلما سمع عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
أَذَانَ بِلَالٍ خَرَجَ من الْمَنْزِلِ يَجُرُّ ذَيْلَ رِدَائِهِ فقال يا رَسُولَ
اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لقد طَافَ بِي اللَّيْلَةَ مِثْلُ ما
طَافَ بِعَبْدِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ سَبَقَنِي بِهِ فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنَّهُ لَأَثْبَتُ فَقَدْ أَمَرَ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُلْقِيَ الْأَذَانَ إلَى
بِلَالٍ وَيَأْمُرَهُ يُنَادِيَ بِهِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذلك وَلَا مَعْنَى
لِلْإِنْكَارِ فإنه رُوِيَ عن مُعَاذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ
رُؤْيَا عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ بن عبد ربه الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه
وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ وَإِنْ كان رُؤْيَا عبد اللَّهِ لَكِنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا شَهِدَ بحقية ( ( ( بحقيقة ) ) ) رُؤْيَاهُ ثَبَتَتْ
حقيتها ( ( ( حقيقتها ) ) ) وَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِلَالًا يُنَادِيَ
بِهِ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لِمَا بَيَّنَّا
وَلِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاظَبَ عليه في عُمْرِهِ في الصَّلَوَاتِ
الْمَكْتُوبَاتِ وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ مَهْمَا قام عليه دَلِيلُ
عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ وقد قام هَهُنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ فَهُوَ على الْكَيْفِيَّةِ
المعهودة ( ( ( المعروفة ) ) ) الْمُتَوَاتِرَةِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا
نُقْصَانٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وزاد بَعْضُهُمْ وَنَقَّصَ الْبَعْضُ فقال
مَالِكٌ يُخْتَمُ الْأَذَانُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ اعْتِبَارًا
لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ
وَلَنَا حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ وَفِيهِ الْخَتْمُ بِلَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَأَصْلُ الْأَذَانِ ثَبَتَ بِحَدِيثِهِ فَكَذَا قَدْرُهُ وما يَرْوُونَ
فيه من الحديث فَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى وَالِاعْتِمَادُ في مِثْلِهِ على الْمَشْهُورِ وهو ما رَوَيْنَا
وقال مَالِكٌ يُكَبِّرُ في الِابْتِدَاءِ مَرَّتَيْنِ وهو رِوَايَةٌ عن أبي
يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ حَيْثُ يُؤْتَى بها مَرَّتَيْنِ
وَلَنَا حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ
بِصَوْتَيْنِ
وَرُوِيَ عن أبي مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنِ مَكَّةَ أَنَّهُ قال عَلَّمَنِي رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْأَذَانَ سبعة عشر كلمة والإقامة تِسْعَةَ عَشْرَ
كَلِمَةً وَإِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ إذَا كان التَّكْبِيرُ فيه مَرَّتَيْنِ
وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بالشهادة ( ( ( بالشهادتين ) ) ) فَنَقُولُ كُلُّ
تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا فَكَأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ
فَيَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ كما يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ فيه تَرْجِيعٌ
وهو أَنْ يبتدىء الْمُؤَذِّنُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ مَرَّتَيْنِ
يَخْفِضُ بِهِمَا صَوْتَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَيَرْفَعُ بِهِمَا صَوْتَهُ
وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ أبي مَحْذُورَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال له
ارْجِعْ فَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ
وَلَنَا حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ وَلَيْسَ فيه
____________________
(1/147)
تَرْجِيعٌ
وَكَذَا لم يَكُنْ في أذان بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَرْجِيعٌ
وَأَمَّا حَدِيثُ أبي مَحْذُورَةَ فَقَدْ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فإنه روي
أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ وكان حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ قال اللَّهُ
أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ وَمَدَّ صَوْتَهُ فلما
بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ خَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ بَعْضُهُمْ قالوا إنَّمَا
فَعَلَ ذلك مَخَافَةَ الْكُفَّارِ وَبَعْضُهُمْ قالوا إنَّهُ كان جَهْوَرِيَّ
الصَّوْتِ وكان في الْجَاهِلِيَّةِ يَجْهَرُ بِسَبِّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم فلما بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ فاستحيى ( ( ( استحيا ) ) ) فَخَفَضَ
بِهِمَا صَوْتَهُ فَدَعَاهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَرَكَ أُذُنَهُ
وقال ارْجِعْ وَقُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ غَيْظًا لِلْكُفَّارِ
وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَمَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
كَالْأَذَانِ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلُهُ
قد قَامَتْ الصَّلَاةُ فإنه يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى أَنَسُ بن مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا رضي اللَّهُ عنه أُمِرَ
أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآمِرَ كان
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلَنَا حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ أَنَّ النَّازِلَ من السَّمَاءِ أتى
بِالْأَذَانِ وَمَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قال مِثْلَ ذلك إلَّا أَنَّهُ زَادَ في
آخِرِهِ مَرَّتَيْنِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ
وَرَوَيْنَا في حديث أبي مَحْذُورَةَ وَالْإِقَامَةَ سبعة ( ( ( سبع ) ) ) عشر
كَلِمَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كانت مَثْنَى
وقال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ كان الناس يَشْفَعُونَ الْإِقَامَةَ حتى خَرَجَ
هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ فَأَفْرَدُوا الْإِقَامَةَ
وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَأَشَارَ إلَى كَوْنِ الْإِفْرَادِ بِدْعَةً
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ في حَقِّ الصَّوْتِ
وَالنَّفَسِ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ بِدَلِيلِ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّثْوِيبُ فَالْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في
تَفْسِيرِ التَّثْوِيبِ في الشَّرْعِ
وَالثَّانِي في الْمَحَلِّ الذي شُرِعَ فيه
وَالثَّالِثُ في وَقْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ
الصَّلَاةِ قلت أَرَأَيْتَ كَيْفَ التَّثْوِيبُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ قال كان
التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْأَذَانِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ من النَّوْمِ
فَأَحْدَثَ الناس هذا التَّثْوِيبَ وهو حَسَنٌ فَسَّرَ التَّثْوِيبَ وَبَيَّنَ
وَقْتَهُ ولم يُفَسِّرْ التَّثْوِيبَ الْمُحْدَثَ ولم يُبَيِّنْ وَقْتَهُ
وَفَسَّرَ ذلك في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيَّنَ وَقْتَهُ فقال التَّثْوِيبُ
الذي يَصْنَعُهُ الناس بين الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ حَيَّ
على الصَّلَاةِ حَيَّ على الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ حَسَنٌ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ
مُحْدَثًا لِأَنَّهُ أُحْدِثَ في زَمَنِ التَّابِعِينَ وَوَصَفَهُ بِالْحَسَنِ
لِأَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوهُ
وقد قال صلى اللَّهُ عليه وسلم ما رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ
اللَّهِ حَسَنٌ وما رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ
وَأَمَّا مَحَلُّ التَّثْوِيبِ فَمَحَلُّ الْأَوَّلِ هو صَلَاةُ الْفَجْرِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس بِالتَّثْوِيبِ في صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْضًا وهو أَحَدُ
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْقَدِيمِ وَأَنْكَرَ
التَّثْوِيبَ في الْجَدِيدِ رَأْسًا
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هذا وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ كَوَقْتِ
الْفَجْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ كما في وَقْتِ الْفَجْرِ وَجْهُ
قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ عَلَّمَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْأَذَانَ تسعة ( ( ( تسع ) ) ) عشر كَلِمَةً وَلَيْسَ فيها
التَّثْوِيبُ وَكَذَا ليس في حديث عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ ذِكْرُ التَّثْوِيبِ
وَلَنَا ما رَوَى عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى عن بِلَالٍ رضي اللَّهُ عنه قال قال
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يا بِلَالُ ثَوِّبْ في الْفَجْرِ وَلَا تُثَوِّبْ
في غَيْرِهَا فَبَطَلَ بِهِ الْمَذْهَبَانِ جميعا
وَعَنْ عبد الرحمن بن زَيْدِ بن أَسْلَمَ عن أبيه أَنَّ بِلَالًا أتى النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فقال الصَّلَاةُ
خَيْرٌ من النَّوْمِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما أَحْسَنَ هذا اجْعَلْهُ
في أَذَانِكَ وَعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان
التَّثْوِيبُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّلَاةُ خَيْرٌ من
النَّوْمِ
وَتَعْلِيمُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَبَا مَحْذُورَةَ وَتَعْلِيمُ الْمَلَكِ
كان تَعْلِيمَ أَصْلِ الْأَذَانِ لَا ما يُذْكَرُ فيه من زِيَادَةِ الأعلام وما
ذَكَرُوا من الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ
وَغَفْلَةٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ من الْأَوْقَاتِ مع أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
نهى عن النَّوْمِ قبل الْعِشَاءِ وَعَنْ السَّمَرِ بَعْدَهَا فَالظَّاهِرُ هو
التَّيَقُّظُ
وَأَمَّا التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ فَمَحَلُّهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَيْضًا
وَوَقْتُهُ ما بين الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُولَ حَيَّ
على الصَّلَاةِ حَيَّ على الْفَلَاحِ على ما بُيِّنَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
غير أَنَّ مَشَايِخَنَا قالوا لَا بَأْسَ بِالتَّثْوِيبِ الْمُحْدَثِ في سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ لِفَرْطِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ على الناس في زَمَانِنَا وَشِدَّةِ
رُكُونِهِمْ في ( ( ( إلى ) ) ) الدُّنْيَا وَتَهَاوُنِهِمْ بِأُمُورِ الدِّينِ
فَصَارَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ في زَمَانِنَا مِثْلَ الْفَجْرِ في زَمَانِهِمْ
فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِعْلَامِ من بَابِ التَّعَاوُنِ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
فَكَانَ مُسْتَحْسَنًا
وَلِهَذَا قال أبو يُوسُفَ لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ
السَّلَامُ عَلَيْكَ
____________________
(1/148)
أَيُّهَا
الْأَمِيرُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ حَيَّ على الصَّلَاةِ حَيَّ على
الْفَلَاحِ الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ
لِاخْتِصَاصِهِمْ بِزِيَادَةِ شُغْلٍ بِسَبَبِ النَّظَرِ في أُمُورِ الرَّعِيَّةِ
فَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ نَظَرًا لهم
ثُمَّ التَّثْوِيبُ في كل بَلْدَةٍ على ما يَتَعَارَفُونَهُ إمَّا بِالتَّنَحْنُحِ
أو بِقَوْلِهِ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ أو قَامَتْ قَامَتْ
أو ( بابك ( ( ( بايك ) ) ) نماز بايك ) كما يَفْعَلُ أَهْلُ بُخَارَى لِأَنَّهُ
الْإِعْلَامُ وَالْإِعْلَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ
وَأَمَّا وَقْتُهُ فَقَدْ بَيَّنَّا وَقْتَ التَّثْوِيبِ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ
جميعا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ سُنَنِ الْأَذَانِ فَسُنَنُ الْأَذَانِ في الأصل
نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ
الْمُؤَذِّنِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَجْهَرَ
بِالْأَذَانِ فَيَرْفَعَ بِهِ صَوْتَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وهو الْإِعْلَامُ
يَحْصُلُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِعَبْدِ
اللَّهِ بن زَيْدٍ عَلِّمْهُ بِلَالًا فإنه أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ
وَلِهَذَا كان الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَذِّنَ في مَوْضِعٍ يَكُونُ أَسْمَعَ
لِلْجِيرَانِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ
لِأَنَّهُ يُخَافُ حُدُوثُ بَعْضِ الْعِلَلِ كَالْفَتْقِ وَأَشْبَاهِ ذلك
دَلَّ عليه ما رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قال لِأَبِي مَحْذُورَةَ أو
لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حين رَآهُ يُجْهِدَ نَفْسَهُ في الْأَذَانِ أَمَا
تَخْشَى أَنْ ينقطع مُرَيْطَاؤُكَ وهو ما بين السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ وَكَذَا
يَجْهَرُ بِالْإِقَامَةِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْأَذَانِ لِأَنَّ
الْمَطْلُوبَ من الأعلام بها دُونَ الْمَقْصُودِ من الْأَذَانِ
وَمِنْهَا أَنْ يَفْصِلَ بين كَلِمَتَيْ الْأَذَانِ بِسَكْتَةٍ وَلَا يَفْصِلَ بين
كَلِمَتَيْ الْإِقَامَةِ بَلْ يَجْعَلُهَا كَلَامًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْإِعْلَامَ
الْمَطْلُوبَ من الْأَوَّلِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ
وَالْمَطْلُوبُ من الْإِقَامَةِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَرَسَّلَ في الْأَذَانِ وَيَحْدِرَ في الْإِقَامَةِ لِقَوْلِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِبِلَالٍ رضي اللَّهُ عنه إذَا أَذَّنْتَ
فَتَرَسَّلْ وإذا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ وفي رِوَايَةٍ فَاحْذِمْ وفي رِوَايَةٍ
فَاحْذِفْ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ
وَذَا في التَّرَسُّلِ أَبْلَغُ وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ
بِالشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْحَدْرِ وَلَوْ تَرَسَّلَ
فِيهِمَا أو حَدَرَ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ وهو الْإِعْلَامُ
وَمِنْهَا أَنْ يُرَتِّبَ بين كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ حتى لو قَدَّمَ
الْبَعْضَ على الْبَعْضِ تَرَكَ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ يُرَتِّبُ وَيُؤَلِّفُ
وَيُعِيد الْمُقَدَّمَ لِأَنَّهُ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَغَا وَكَذَلِكَ إذَا
ثَوَّبَ بين الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ في الْفَجْرِ فَظَنَّ أَنَّهُ في
الْإِقَامَةِ فَأَتَمَّهَا ثُمَّ تَذَكَّرَ قبل الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ
فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِقَامَةِ من أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا
مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ وَدَلِيلُ كَوْنِ التَّرْتِيبِ سنة أَنَّ النَّازِلَ من
السَّمَاءِ رَتَّبَ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ من مُؤَذِّنَيْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُمَا رَتَّبَا وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ في الصَّلَاةِ فَرْضٌ
وَالْأَذَانُ شبيهة ( ( ( شبيه ) ) ) بها فَكَانَ التَّرْتِيبُ فيه سُنَّةً
وَمِنْهَا أَنْ يُوَالِيَ بين كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِأَنَّ
النَّازِلَ من السَّمَاءِ وَالَى وَعَلَيْهِ عَمَلُ مُؤَذِّنَيْ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم حتى أَنَّهُ لو أَذَّنَ فَظَنَّ أَنَّهُ الْإِقَامَةُ ثُمَّ
عَلِمَ بَعْدَ ما فَرَغَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ وَيَسْتَقْبِلَ
الْإِقَامَةَ مُرَاعَاةً لِلْمُوَالَاةِ وَكَذَا إذَا أَخَذَ في الْإِقَامَةِ
وَظَنَّ أَنَّهُ في الْأَذَانِ ثُمَّ عَلِمَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يبتدىء
الْإِقَامَةَ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هذا إذَا غُشِيَ عليه في الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ
سَاعَةً أو مَاتَ أو ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ أو أَحْدَثَ
فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جاء فَالْأَفْضَلُ هو الِاسْتِقْبَالُ لِمَا قُلْنَا
وَالْأَوْلَى له إذَا أَحْدَثَ في أَذَانِهِ أو إقَامَتِهِ أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ
يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأ وَيُصَلِّيَ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ
مع الْحَدَثِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى وَلَوْ أَذَّنَ ثُمَّ ارْتَدَّ عن
الْإِسْلَامِ فَإِنْ شاؤوا أَعَادُوا لِأَنَّهُ عِبَادَتُهُ مَحْضَة وَالرِّدَّةُ
مُحْبِطَةٌ لِلْعِبَادَاتِ فَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ شاؤوا
اعْتَدُّوا بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو الْإِعْلَامُ
وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَكَلَّمَ في أَذَانِهِ أو إقَامَتِهِ
لِمَا فيه من تَرْكِ سُنَّةِ الْمُوَالَاةِ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ
كَالْخُطْبَةِ فَلَا يَسَعُ تَرْكُ حُرْمَتِهِ وَيُكْرَهُ له رَدُّ السَّلَامِ في
الْأَذَانِ لِمَا قُلْنَا وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ
بِذَلِكَ لِأَنَّهُ فَرْضٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ أنه يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ إلَى
الْفَرَاغِ من الْأَذَانِ
وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِي بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
لِأَنَّ النَّازِلَ من السَّمَاءِ هَكَذَا فَعَلَ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ
وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو الْإِعْلَامُ
لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا
انْتَهَى إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا
كَذَا فَعَلَ النَّازِلُ من السَّمَاءِ وَلِأَنَّ هذا خِطَابٌ لِلْقَوْمِ
فَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إلَيْهِمْ إعْلَامًا لهم كَالسَّلَامِ في الصَّلَاةِ وَقَدَمَاهُ
مَكَانَهُمَا لِيَبْقَى مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كما في
السَّلَامِ في ( ( ( والصلاة ) ) ) الصلاة وَيُحَوِّلَ وَجْهَهُ مع بَقَاءِ
الْبَدَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَذَا هَهُنَا
وَإِنْ كان في الصَّوْمَعَةِ فَإِنْ كانت ضَيِّقَةً لَزِمَ مَكَانَهُ لِانْعِدَامِ
الْحَاجَةِ إلَى الِاسْتِدَارَةِ وَإِنْ كانت وَاسِعَةً فَاسْتَدَارَ فيها
لِيُخْرِجَ رَأْسَهُ من نَوَاحِيهَا فَحَسَنٌ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ إذَا كانت
مُتَّسِعَةً فَالْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ
____________________
(1/149)
بِدُونِ
الِاسْتِدَارَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرَ جَزْمًا وهو قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ
لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْأَذَانُ جَزْمٌ
وَمِنْهَا تَرْكُ التَّلْحِينِ في الْأَذَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى
ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما فقال إنِّي أُحِبُّكَ في اللَّهِ تَعَالَى فقال
ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما إنِّي أَبْغَضُكَ في اللَّهِ تَعَالَى
فقال لِمَ قال لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُغَنِّي في أَذَانِكَ يَعْنِي
التَّلْحِينَ
أَمَّا التَّفْخِيمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ إحْدَى اللُّغَتَيْنِ
وَمِنْهَا الْفَصْلُ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ بين الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ
لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالْفَصْلِ وَالْفَصْلُ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ بِالصَّلَاةِ أو بِالْجُلُوسِ
مَسْنُونٌ وَالْوَصْلُ مَكْرُوهٌ وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِبِلَالٍ إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ وإذا
أَقَمْتَ فَاحْدِرْ وفي رِوَايَةٍ فَاحْذِفْ وفي رِوَايَةٍ فَاحْذِمْ وَلْيَكُنْ
بين أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ ما يَفْرُغُ الْآكِلُ من أَكْلِهِ
وَالشَّارِبُ من شُرْبِهِ وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دخل لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَلَا
تَقُومُوا في الصَّفِّ حتى تَرَوْنِي وَلِأَنَّ الآذان لِاسْتِحْضَارِ
الْغَائِبِينَ فَلَا بُدَّ من الْإِمْهَالِ لِيَحْضُرُوا
ثُمَّ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارُ الْفَصْلِ وَرَوَى الْحَسَنُ
عن أبي حَنِيفَةَ في الْفَجْرِ قَدْرُ ما يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً وفي الظُّهْرِ
قَدْرَ ما يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ نَحْوًا من عَشْرِ
آيَاتٍ وفي الْعَصْرِ مِقْدَارُ ما يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ
نَحْوًا من عَشْرِ آيَاتٍ وفي الْمَغْرِبِ يَقُومُ مِقْدَارَ ما يَقْرَأُ ثَلَاثَ
آيَاتٍ وفي الْعِشَاءِ كما في الظُّهْرِ وَهَذَا ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ مِقْدَارَ ما يُحْضِرُ الْقَوْمَ مع مُرَاعَاةِ
الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا يُفْصَلُ فيها بِالصَّلَاةِ
عِنْدنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُفْصَلُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ
الصَّلَوَاتِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال بين كل أَذَانَيْنِ
صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إلَّا الْمَغْرِبَ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ مَبْنَى
الْمَغْرِبِ على التَّعْجِيلِ لِمَا رَوَى أبو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي
اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَنْ تَزَالَ
أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما لم يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ
وَالْفَصْلُ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ لها فَلَا يُفْصَلُ بِالصَّلَاةِ وَهَلْ
يُفْصَلُ بِالْجُلُوسِ قال أبو حَنِيفَةَ لَا يُفْصَلُ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ يُفْصَلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ التي بين
الْخُطْبَتَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ
فَيُفْصَلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
الْفَصْلَ بِالْجَلْسَةِ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَلِهَذَا لم
يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى وَلِأَنَّ الْوَصْلَ مَكْرُوهٌ
وَتَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا مَكْرُوهٌ وَالتَّحَرُّزُ عن الْكَرَاهَتَيْنِ
يَحْصُلُ بِسَكْتَةٍ قليلة ( ( ( خفيفة ) ) ) وَبِالْهَيْئَةِ من التَّرَسُّلِ
والحدر ( ( ( والحذف ) ) ) وَالْجَلْسَةُ لَا تَخْلُو عن أَحَدِهِمَا وَهِيَ
كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ فَكَانَتْ مَكْرُوهَةً
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها أَنْ
يَكُونَ رَجُلًا فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ
لِأَنَّهَا إنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا فَقَدْ ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً وَإِنْ خَفَضَتْ
فَقَدْ تَرَكَتْ سُنَّةَ الْجَهْرِ وَلِأَنَّ أَذَانَ النِّسَاءِ لم يَكُنْ في
السَّلَفِ فَكَانَ من الْمُحْدَثَاتِ وقال ( ( ( وقد ) ) ) النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَلَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَهُمْ حتى لَا
تُعَادَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو الْإِعْلَامُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ وَكَذَا أَذَانُ
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِنْ كان جَائِزًا حتى لَا يُعَادَ ذَكَرَهُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو الْإِعْلَامُ لَكِنَّ أَذَانَ الْبَالِغِ
أَفْضَلُ لِأَنَّهُ في مُرَاعَاةِ الْحُرْمَةِ أَبْلَغُ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال أَكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ من لم
يَحْتَلِمْ لِأَنَّ الناس لَا يَعْتَدُّونَ بِأَذَانِهِ
وَأَمَّا أَذَانُ الصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ فَلَا يجزىء وَيُعَادُ لِأَنَّ ما
يَصْدُرُ لَا عن عَقْلٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَصَوْتِ الطُّيُورِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ
الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ وَتَأْذِينُهُمَا تَرْكٌ
لِتَعْظِيمِهِ وَهَلْ يُعَادُ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ
يُعَادَ لِأَنَّ عَامَّةَ كَلَامِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ هَذَيَانٌ
فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ على الناس فَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْإِمَامُ
ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا
التَّقِيُّ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ وَيُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَخِيَارُ الناس
الْعُلَمَاءُ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ سُنَنِ الْأَذَانِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا من
الْعَالِمِ بها وَلِهَذَا إنَّ أَذَانَ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ
الزِّنَا وَإِنْ كان جَائِزًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو الْإِعْلَامُ لَكِنَّ
غَيْرَهُمْ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَفَرَّغُ لِمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ
لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عليه الْجَهْلُ
وَكَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَوَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْجَهْلُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ حتى كان الْبَصِيرُ
أَفْضَلَ من الضَّرِيرِ لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ له بِدُخُولِ الْوَقْتِ
وَالْإِعْلَامَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ له بِالدُّخُولِ
مُتَعَذِّرٌ
____________________
(1/150)
لَكِنْ
مع هذا لو أَذَّنَ يَجُوزُ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِصَوْتِهِ وَإِمْكَانِ
الْوُقُوفِ على الْمَوَاقِيتِ من قِبَلِ غَيْرِهِ في الْجُمْلَةِ وابن أُمِّ
مَكْتُومٍ كان مُؤَذِّنَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وكان أَعْمَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا على الْأَذَانِ لِأَنَّ حُصُولَ الْإِعْلَامِ
لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ بِصَوْتِ الْمُوَاظِبِ أَبْلَغُ من حُصُولِهِ بِصَوْتِ من
لَا عَهْدَ لهم بِصَوْتِهِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَإِنْ أَذَّنَ السُّوقِيُّ
لِمَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرُهُ في صَلَاةِ النَّهَارِ
يَجُوزُ لِأَنَّ السُّوقِيَّ يُحْرَجُ في الرُّجُوعِ إلَى الْمَحَلَّةِ في وَقْتِ
كل صَلَاةٍ لِحَاجَتِهِ إلَى الْكَسْبِ
وَمِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ في أُذُنَيْهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم لِبِلَالٍ إذَا أَذَّنْتَ فَاجْعَلْ أُصْبُعَيْكَ في أُذُنَيْكَ فإنه
أَنْدَى لِصَوْتِكَ وَأَمَدُّ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَنَبَّهَ على الْحِكْمَةِ وَهِيَ
الْمُبَالَغَةُ في تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ لم يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ
لِحُصُولِ أَصْلِ الْإِعْلَامِ بِدُونِهِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ
في أُذُنَيْهِ في الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَإِنْ جَعَلَ يَدَيْهِ على
أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ على
أُذُنِهِ فَحَسَنٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ على الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ
فَإِتْيَانُهُ مع الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ وَإِنْ كان على غَيْرِ
طَهَارَةٍ بِأَنْ كان مُحْدِثًا يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ حتى لا يُعَادَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعَادُ وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَذَانِ
شَبَهًا بِالصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ كما في الصَّلَاةِ
ثُمَّ الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ مع الْحَدَثِ فما هو شَبِيهٌ بها يُكْرَهُ معه
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رُبَّمَا أَذَّنَ وهو على
غَيْرِ وُضُوءٍ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَمْنَعُ من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعُ من الْأَذَانِ وَإِنْ أَقَامَ وهو مُحْدِثٌ ذَكَرَ في
الْأَصْلِ وَسَوَّى بين الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فقال وَيَجُوزُ الْأَذَانُ
وَالْإِقَامَةُ على غَيْرِ وُضُوءٍ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ قال أَكْرَهُ
إقَامَةَ الْمُحْدِثِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ
فَكَانَ الْفَصْلُ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ الْأَذَانِ وَلَا تُعَادُ لِأَنَّ
تَكْرَارَهَا ليس بِمَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْأَذَانِ
وَأَمَّا الْأَذَانُ مع الْجَنَابَةِ فَيُكْرَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى
يُعَادَ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو
الْإِعْلَامُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ أَثَرَ
الْجَنَابَةِ ظَهَرَ في الْفَمِ فَيَمْنَعُ من الذِّكْرِ الْمُعَظَّمِ كما
يَمْنَعُ من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَكَذَا الْإِقَامَةُ مع
الْجَنَابَةِ تُكْرَهُ لَكِنَّهَا لَا تُعَادُ لِمَا مَرَّ
وَمِنْهَا أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا إذَا أَذَّنَ لِلْجَمَاعَةِ وَيُكْرَهُ
قَاعِدًا لِأَنَّ النَّازِلَ من السَّمَاءِ أَذَّنَ قَائِمًا حَيْثُ وَقَفَ على
حَذْمِ حَائِطٍ وَكَذَا الناس تَوَارَثُوا ذلك فِعْلًا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا
لِمُخَالَفَتِهِ النَّازِلَ من السَّمَاءِ وَإِجْمَاعَ الْخَلْقِ وَلِأَنَّ
تَمَامَ الْإِعْلَامِ بِالْقِيَامِ وَيُجْزِئُهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ
وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
مُرَاعَاةُ سُنَّةِ الصَّلَاةِ لَا الْإِعْلَامُ
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ
بِلَالًا رضي اللَّهُ عنه رُبَّمَا أَذَّنَ في السَّفَرِ رَاكِبًا وَلِأَنَّ له
أَنْ يَتْرُكَ الْأَذَانَ أَصْلًا في السَّفَرِ فَكَانَ له أَنْ يَأْتِيَ بِهِ
رَاكِبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
بِلَالًا أَذَّنَ وهو رَاكِبٌ ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ على الْأَرْضِ وَلِأَنَّهُ
لو لم يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بين الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ
بِالنُّزُولِ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ
وَأَمَّا في الْحَضَرِ فَيُكْرَهُ الْأَذَانُ رَاكِبًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لَا بَأْسَ بِهِ
ثَمَّ الْمُؤَذِّنُ يَخْتِمُ الْإِقَامَةَ على مَكَانِهِ أو يُتِمُّهَا مَاشِيًا
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يتمها ( ( ( يختمها ) ) ) على
مَكَانِهِ سَوَاءً كان الْمُؤَذِّنُ إمَامًا أو غَيْرَهُ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ وقال بَعْضُهُمْ يُتِمُّهَا مَاشِيًا
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَوْلَهُ
قد قَامَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَشَى وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ
إمَامًا كان أو غَيْرَهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ
وما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَصَحُّ
وَمِنْهَا أَنْ يُؤَذِّنَ في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ في
مَسْجِدَيْنِ وَيُصَلِّيَ في أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ إذَا صلى في الْمَسْجِدِ
الْأَوَّلِ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالْأَذَانِ في الْمَسْجِدِ الثَّانِي
وَالتَّنَفُّلُ بِالْأَذَانِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ يَخْتَصُّ
بِالْمَكْتُوبَاتِ وهو في الْمَسْجِدِ الثَّانِي يُصَلِّي النَّافِلَةَ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ الناس إلَى الْمَكْتُوبَةِ وهو لَا يُسَاعِدهُمْ فيها
وَمِنْهَا أَنَّ من أَذَّنَ فَهُوَ الذي يُقِيمُ وَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ فَإِنْ
كان يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ اكْتِسَابَ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ
وَإِنْ كان لَا يَتَأَذَّى بِهِ لَا يُكْرَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ تَأَذَّى بِهِ أو لم يَتَأَذَّ
واحتج ( ( ( احتج ) ) ) بِمَا رُوِيَ عن أَخِي صداي ( ( ( صداء ) ) ) أَنَّهُ قال
بَعَثَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَالًا إلَى حَاجَةٍ له فَأَمَرَنِي
أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ فَنَهَاهُ عن
ذلك وقال إنَّ أَخَا صداي ( ( ( صداء ) ) ) هو الذي أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ
الذي يُقِيمُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن زَيْدٍ لَمَّا قَصَّ الرُّؤْيَا على
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال له لَقِّنْهَا بِلَالًا فَأَذَّنَ بِلَالٌ
ثُمَّ أَمَرَ النبي صلى اللَّهُ
____________________
(1/151)
عليه
وسلم عَبْدَ اللَّهِ بن زَيْدٍ فَأَقَامَ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ
كان يُؤَذِّنُ وَبِلَالٌ يُقِيمُ وَرُبَّمَا أَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ ابن أُمِّ
مَكْتُومٍ وَتَأْوِيلُ ما رَوَاهُ أَنَّ ذلك كان يَشُقُّ عليه لِأَنَّهُ رُوِيَ
أَنَّهُ كان حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وكان يُحِبُّ الْأَذَانَ
وَالْإِقَامَةَ
وَمِنْهَا أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا وَلَا يَأْخُذَ على الْأَذَانِ
وَالْإِقَامَةِ أَجْرًا وَلَا يَحِلُّ له أَخْذُ الْأُجْرَةِ على ذلك لِأَنَّهُ
اسْتِئْجَارٌ على الطَّاعَةِ وَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ في تَحْصِيلِ
الطَّاعَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ له أَخْذُ الْأُجْرَةِ عليه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ له أَنْ يَأْخُذَ على ذلك أَجْرًا وَهِيَ من
مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وفي الْبَابِ حَدِيثٌ خَاصٌّ وهو ما رُوِيَ عن
عُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال آخِرُ ما عَهِدَ إلَيَّ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ
وَأَنْ اتخذ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عليه أَجْرًا وَإِنْ عَلِمَ الْقَوْمُ
حَاجَتَهُ فَأَعْطَوْهُ شيئا من غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّهُ من بَابِ
الْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُجَازَاةِ على إحْسَانِهِ بِمَكَانِهِمْ وَكُلُّ ذلك
حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ فَالْمَحَلُّ الذي يَجِبُ فيه
الْأَذَانُ وَيُؤَذَّنُ له الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ التي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ
مُسْتَحَبَّةٍ في حَالِ الْإِقَامَةِ فَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ في صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ على الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ ما
يَتَرَكَّبُ منه الصَّلَاةُ وهو الْقِيَامُ إذْ لَا قِرَاءَةَ فيها وَلَا رُكُوعَ
وَلَا سُجُودَ وَلَا قُعُودَ فلم تَكُنْ صَلَاةً على الْحَقِيقَةِ وَلَا أَذَانَ
وَلَا إقَامَةَ في النَّوَافِلِ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ
وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ
دُونَ النَّوَافِلِ وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ فَجُعِلَ
أَذَانُ الْأَصْلِ أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ
في السُّنَنِ لِمَا قُلْنَا
وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ في الْوِتْرِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا فَكَانَ
تَبَعًا لِلْعِشَاءِ فَكَانَ تَبَعًا لها في الْأَذَانِ كَسَائِرِ السُّنَنِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ غَيْرُ الْمَكْتُوبَةِ وَالْأَذَانُ
من خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ
وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ
وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ
وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ في جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ
وَالْعَبِيدِ لِأَنَّ هذه الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وقد رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس على النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ
وَلِأَنَّهُ ليس عَلَيْهِنَّ الْجَمَاعَةُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِنَّ الْأَذَانُ
وَالْإِقَامَةُ
وَالْجُمُعَةُ فيها أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ تُؤَدَّى
بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هو الظُّهْرُ عِنْدَ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا وَالْجُمُعَةُ قَائِمَةٌ مُقَامَهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْفَرْضُ هو
الْجُمُعَةُ ابْتِدَاءً وَهِيَ آكَدُ من الظُّهْرِ حتى وَجَبَ تَرْكُ الظُّهْرِ
لِأَجْلِهَا ثُمَّ إنَّهُمَا وَجَبَا لِإِقَامَةِ الظُّهْرِ فَالْجُمُعَةُ أَحَقُّ
ثُمَّ الْأَذَانُ الْمُعْتَبَرُ يوم الْجُمُعَةِ هو ما يُؤْتَى بِهِ إذَا صَعِدَ
الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَتَجِبُ الْإِجَابَةُ وَالِاسْتِمَاعُ له دُونَ الذي
يُؤْتَى بِهِ على الْمَنَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وكان
الْحَسَنُ بن زِيَادٍ يقول الْمُعْتَبَرُ هو الْأَذَانُ على الْمَنَارَةِ لِأَنَّ
الْإِعْلَامَ يَقَعُ بِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن
السَّائِبِ بن يزيد ( ( ( زيد ) ) ) أَنَّهُ قال كان الْأَذَانُ يوم الْجُمُعَةِ
على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى عَهْدِ أبي بَكْرٍ
وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَذَانًا وَاحِدًا حين يَجْلِسُ الْإِمَامُ على
الْمِنْبَرِ فلما كانت خِلَافَةُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه وَكَثُرَ الناس أَمَرَ
عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه بِالْأَذَانِ الثَّانِي على الزَّوْرَاءِ وَهِيَ
الْمَنَارَةُ وَقِيلَ اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ
وَصَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ تُؤَدَّى مع الظُّهْرِ في وَقْتِ الظُّهْرِ
بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَلَا يُرَاعَى لِلْعَصْرِ أَذَانٌ على حِدَةٍ لِأَنَّهَا
شُرِعَتْ في وَقْتِ الظُّهْرِ في هذا الْيَوْمِ فَكَانَ أَذَانُ الظُّهْرِ
وَإِقَامَتُهُ عنهما جميعا وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ مع الْعِشَاءِ
بِمُزْدَلِفَةَ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ
في الْجَمْعِ الْأَوَّلِ يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بِإِقَامَتَيْنِ وفي
الثَّانِي يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ كما في الْجَمْعِ
الْأَوَّلِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا يُذْكَرُ في
كِتَابِ الْمَنَاسِكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ صلى الرَّجُلُ في بَيْتِهِ وَحْدَهُ ذُكِرَ في الْأَصْلِ إذَا صلى
الرَّجُلُ في بَيْتِهِ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ الناس وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ
وَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عن تحقيق ( ( ( تحقق ) ) )
الْجَمَاعَةِ بِنَفْسِهِ فلم يَعْجَزْ عن التَّشَبُّهِ فَيُنْدَبُ إلَى أَنْ
يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ على هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا كان
الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ في صَلَوَاتِ الْجَهْرِ
وَإِنْ تَرَكَ ذلك وَاكْتَفَى بِأَذَانِ الناس وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ صلى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ
بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وقال يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ
وَإِقَامَتُهُمْ أَشَارَ إلَى أَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ وَإِقَامَتَهُمْ وَقَعَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَهْلِ الْحَيِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ على كل وَاحِدٍ منهم أَنْ يَحْضُرَ مَسْجِدَ الْحَيِّ
وَرَوَى ابن أبي مَالِكٍ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ في قَوْمٍ صَلَّوْا في
____________________
(1/152)
الْمِصْرِ
في مَنْزِلٍ أو في مَسْجِدِ مَنْزِلٍ فَأُخْبِرُوا بِأَذَانِ الناس
وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُمْ وقد أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمَا فَقَدْ فَرَّقَ بين
الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ لِأَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ يَكُونُ أَذَانًا
لِلْأَفْرَادِ وَلَا يَكُونُ أَذَانًا لِلْجَمَاعَةِ
هذا في الْمُقِيمِينَ
وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَالْأَفْضَلُ لهم أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا
وَيُصَلُّوا بجماعة ( ( ( جماعة ) ) ) لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ من لَوَازِمِ
الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَالسَّفَرُ لم يُسْقِطْ الْجَمَاعَةَ فَلَا
يُسْقِطْ ما هو من لَوَازِمِهَا فَإِنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ وَأَقَامُوا
وَتَرَكُوا الآذان أَجْزَأَهُمْ وَلَا يُكْرَهُ وَيُكْرَهُ لهم تَرْكُ
الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا تَرَكُوا الْأَذَانَ وَأَقَامُوا
أَنَّهُ يُكْرَهُ لهم ذلك لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ وقد أَثَّرَ في
سُقُوطِ شَطْرٍ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ في سُقُوطِ أَحْدِ الْأَذَانَيْنِ إلَّا
أَنَّ الْإِقَامَةَ آكَدُ ثُبُوتًا من الأذان فَيَسْقُطُ شَطْرُ الْأَذَانِ دُونَ
الْإِقَامَةِ
وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْمُسَافِرُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ ولم يُؤَذِّنْ
ولم يُوجَدْ في حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ
لِلْإِعْلَامِ بِهُجُومِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَحْضُرُوا وَالْقَوْمُ في السَّفْرِ
حَاضِرُونَ فلم يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ بِخِلَافِ
الْحَضَرِ لِأَنَّ الناس لِتَفَرُّقِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِرَفِ
وَالْمَكَاسِبِ لَا يَعْرِفُونَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ تَرْكُ
الْإِعْلَامِ في حَقِّهِمْ بِالْأَذَانِ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا
لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ هذا ( ( ( وذا ) ) ) لَا يَخْتَلِفُ في
حَقِّ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا كان وَحْدَهُ فَإِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ فَلَا بَأْسَ
بِهِ وَإِنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ وَالْمُقِيمُ إذَا كان يُصَلِّي في
بَيْتِهِ وَحْدَهُ فَتَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَا يُكْرَهُ وَالْفَرْقُ
أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَقَعُ أَذَانًا لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَهْلِ
الْمَحَلَّةِ فَكَأَنَّهُ وُجِدَ الْأَذَانُ منه في حَقِّ نَفْسِهِ تَقْدِيرًا
فَأَمَّا في السَّفَرِ فلم يُوجَدْ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْمُسَافِرِ من
غَيْرِهِ
غير أَنَّهُ سَقَطَ الْأَذَانُ في حَقِّهِ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَلَا بُدَّ من
الْإِقَامَةِ
وَلَوْ صلى في مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ هل يُكْرَهْ له أَنْ يُؤَذَّنَ
وَيُقَامُ فيه ثَانِيًا فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان
مَسْجِدًا له أَهْلٌ مَعْلُومٌ أو لم يَكُنْ فَإِنْ كان له أَهْلٌ مَعْلُومٌ
فَإِنْ صلى فيه غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ
أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ
وَإِنْ صلى فيه أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أو بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ
لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ من أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ
وَالْإِقَامَةَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ
وَإِنْ كان مَسْجِدًا ليس له أَهْلٌ مَعْلُومٌ بِأَنْ كان على شَوَارِعِ
الطَّرِيقِ لَا يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فيه
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً على مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَكْرَارَ
الْجَمَاعَةِ في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ هل يُكْرَهُ فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من
التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ
إذَا كانت الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً
فَأَمَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً أو أَرْبَعَةً فَقَامُوا في زَاوِيَةٍ من
زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ لَا يُكْرَهُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كانت الثَّانِيَةُ على
سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ فَلَا يُكْرَهُ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
صلى بِجَمَاعَةٍ في الْمَسْجِدِ فلما فَرَغَ من صَلَاتِهِ دخل رَجُلٌ وَأَرَادَ
أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من يَتَصَدَّقُ
على هذا الرَّجُلِ فقال أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه أنا يا رَسُولَ اللَّهِ
فَقَامَ وَصَلَّى معه هذا أَمْرٌ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ وما كان رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَأْمُرَ بِالْمَكْرُوهِ وَلِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ
الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ كما يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّ الْجَمَاعَةِ حتى إن الناس لو
صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ في الْبُيُوتِ وَعَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ أَثِمُوا
وَخُوصِمُوا يوم الْقِيَامَةِ بِتَرْكِهِمْ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ وَلَوْ
صَلَّوْا فُرَادَى في الْمَسَاجِدِ أَثِمُوا بِتَرْكِهِمْ الْجَمَاعَةَ
وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ ما قَضَوْا حَقَّ الْمَسْجِدِ فَيَجِبُ عليهم قَضَاءُ
حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فيه وَلَا يُكْرَهُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ
لَا يُكْرَهُ في مَسَاجِدِ قَوَارِعِ الطريق ( ( ( الطرق ) ) ) كَذَا هذا
وَلَنَا ما رَوَى عبد الرحمن بن أبي بَكْرٍ عن أبيه رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَرَجَ من بَيْتِهِ لِيُصْلِحَ بين
الْأَنْصَارِ لِتَشَاجُرٍ بَيْنَهُمْ فَرَجَعَ وقد صلى في الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ
فَدَخَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في مَنْزِلِ بَعْضِ أَهْلِهِ
فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً وَلَوْ لم يُكْرَهُ تَكْرَارُ
الْجَمَاعَةِ في الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
مع عِلْمِهِ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ في الْمَسْجِد
وَرُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا في الْمَسْجِدِ
فُرَادَى وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ
الناس إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمْ الْجَمَاعَةُ فَيَسْتَعْجِلُونَ
فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ وإذا عَلِمُوا أنها لَا تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ
فَتَقِلُّ الْجَمَاعَةُ وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ بِخِلَافِ
الْمَسَاجِدِ التي على قَوَارِعِ الطُّرُقِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لها أَهْلٌ
مَعْرُوفُونَ فَأَدَاءُ الْجَمَاعَةِ فيها مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يُؤَدِّي
إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ وَبِخِلَافِ ما إذَا صلى فيه غَيْرُ أَهْلِهِ
لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ أَهْلَ
____________________
(1/153)
الْمَسْجِدِ
يَنْتَظِرُونَ أَذَانَ الْمُؤَذِّن الْمَعْرُوفِ فَيَحْضُرُونَ حِينَئِذٍ
وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَسْجِدِ لم يُقْضَ بَعْدُ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّهِ على
أَهْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرَمَّةَ وَنَصْبَ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ
عليهم فَكَانَ عليهم قَضَاؤُهُ
وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّ ذلك مُضَافٌ
إلَيْهِمْ حَيْثُ لم يَنْتَظِرُوا حُضُورَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ أَهْلِ
الْمَسْجِدِ لِأَنَّ انْتِظَارَهُمْ ليس بِوَاجِبٍ عليهم وَلَا حُجَّةَ له في
الحديث لِأَنَّهُ أَمَرَ وَاحِدًا وَذَا لَا يُكْرَهُ وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ ما
كان على سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ بَلْ هو حُجَّةٌ عليه لِأَنَّهُ لم
يَأْمُرْ أَكْثَرَ من الْوَاحِدِ مع حَاجَتِهِمْ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ وما
ذُكِرَ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ على
وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ
وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ القضاء ( ( ( الأداء
) ) ) والأداء ( ( ( والقضاء ) ) ) وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو
إمَّا إن كانت الْفَائِتَةُ من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وإما إنْ كانت صَلَاةَ
الْجُمُعَةِ فَإِنْ كانت من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنْ فَاتَهُ صَلَاةٌ
وَاحِدَةٌ قَضَاهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَكَذَا إذَا فَاتَتْ الْجَمَاعَةَ
صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَوْهَا بِالْجَمَاعَةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ يُصَلِّي بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وفي
قَوْلٍ يُصَلِّي بِالْإِقَامَةِ لَا غَيْرُ واحتج ( ( ( احتج ) ) ) بِمَا رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا شُغِلَ عن أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ
يوم الْأَحْزَابِ قَضَاهُنَّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ
وَرُوِيَ في قِصَّةِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
ارْتَحَلَ من ذلك الْوَادِي فلما ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ
وَصَلُّوا ولم يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ
بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَا حَاجَةَ هَهُنَا إلَى الْإِعْلَامِ بِهِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ رضي اللَّهُ عنه في حديث لَيْلَةِ
التَّعْرِيسِ فقال كنت مع النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في غَزْوَةٍ أو سَرِيَّةٍ
فلما كان في آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسْنَا فما اسْتَيْقَظْنَا حتى أَيْقَظَنَا حَرُّ
الشَّمْسِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَثِبُ دَهْشًا وَفَزَعًا فَاسْتَيْقَظَ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال ارْتَحِلُوا من هذا الْوَادِي فإنه وَادِي
شَيْطَانٍ فَارْتَحَلْنَا وَنَزَلْنَا بِوَادٍ آخَرَ فلما ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ
وَقَضَى الْقَوْمُ حَوَائِجَهُمْ أَمَرَ بِلَالًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ
وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ
وَهَكَذَا رَوَى عِمْرَانُ بن حُصَيْنٍ هذه الْقِصَّةَ
وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عن أبي يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ حين شَغَلَهُمْ الْكُفَّارُ يوم الْأَحْزَابِ عن
أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ قَضَاهُنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ
لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حتى قالوا أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ
ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى
الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ
على حَسَبِ الْأَدَاءِ وقد فَاتَتْهُمْ الصَّلَاةُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
فَتُقْضَى كَذَلِكَ
وَلَا تَعَلُّقَ له بِحَدِيثِ التَّعْرِيسِ وَالْأَحْزَابِ لِأَنَّ الصَّحِيحَ
أَنَّهُ أَذَّنَ هُنَاكَ وَأَقَامَ على ما رَوَيْنَا ( وإذا صلى ) فَاتَتْهُ
صَلَوَاتٌ فَإِنْ أَذَّنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَأَقَامَ فَحَسَنٌ وَإِنْ أَذَّنَ
وَأَقَامَ لِلْأُولَى وَاقْتَصَرَ على الْإِقَامَةِ لِلْبَوَاقِي فَهُوَ جَائِزٌ
وقد اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في قَضَاءِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
الصَّلَوَاتِ التي فَاتَتْهُ يوم الْخَنْدَقِ في بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ
بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ واحدة ( ( ( صلاة ) ) ) على ما رَوَيْنَا
وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ
صَلَاةٍ بَعْدَهَا وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ على الْإِقَامَةِ لِكُلِّ
صَلَاةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى خُصُوصًا
في بَابِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ صلى الظُّهْرَ
بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ
التي تؤدي بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ وَأَدَاءُ الظُّهْرِ بِجَمَاعَةٍ يوم
الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ في الْمِصْرِ كَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَوَقْتُهُمَا ما هو
وَقْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ حتى لو أَذَّنَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ لَا
يُجْزِئُهُ وَيُعِيدُهُ إذَا دخل الْوَقْتُ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقد قال أبو يُوسُفَ أَخِيرًا لَا بَأْسَ بِأَنْ
يُؤَذَّنَ لِلْفَجْرِ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ من اللَّيْلِ وهو قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى سَالِمُ بن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ عن أبيه
رضي اللَّهُ عنهم أَنَّ بِلَالًا كان يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ
وفي رِوَايَةٍ قال لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عن السَّحُورِ فإنه
يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ وفي مُرَاعَاتِهِ
بَعْضُ الْحَرَجِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رَوَى شَدَّادُ مولى عِيَاضِ بن عَامِرٍ أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِبِلَالٍ لَا تُؤَذِّنْ حتى يَسْتَبِينَ لَك
الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ
لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَالْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ قبل الدُّخُولِ
كَذِبٌ وَكَذَا هو من بَابِ الْخِيَانَةِ في الْأَمَانَةِ وَالْمُؤَذِّنُ
مُؤْتَمَنٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِهَذَا لم يجر ( (
( يجز ) ) ) في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ قبل الْفَجْرِ
____________________
(1/154)
يُؤَدِّي
إلَى الضَّرَرِ بِالنَّاسِ لِأَنَّ ذلك وَقْتَ نَوْمِهِمْ خُصُوصًا في حَقِّ من
تَهَجَّدَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ من اللَّيْلِ فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ
عليهم وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كان إذَا سمع من يُؤَذِّن قبل طُلُوعِ
الْفَجْرِ قال عُلُوجٌ فِرَاغٌ لَا يُصَلُّونَ إلَّا في الْوَقْتِ لو أَدْرَكَهُمْ
عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ وَبِلَالٌ رضي اللَّهُ عنه ما كان يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ
لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ لِمَعَانٍ أُخَرَ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي
اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَمْنَعَنَّكُمْ من
السَّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ فإنه يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ
وَيَرُدَّ قَائِمَكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صائمكن ( ( ( صائمكم ) ) ) فَعَلَيْكُمْ
بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وقد كانت الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ يَتَهَجَّدُونَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ من اللَّيْلِ
وَفِرْقَةٌ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ وكان الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ وَالدَّلِيلُ
على أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كان لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ
أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كان يُعِيدُهُ ثَانِيًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وما
ذُكِرَ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْفَجْرَ الصَّادِقَ الْمُسْتَطِيرَ
في الْأُفُقِ مُسْتَبِينٌ لَا اشْتِبَاهَ فيه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ على السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ فَالْوَاجِبُ
عليهم الْإِجَابَةُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَرْبَعٌ من الْجَفَاءِ من بَالَ قَائِمًا وَمَنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قبل
الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَمَنْ سمع الْأَذَانَ ولم يُجِبْ وَمَنْ سمع ذِكْرِي
ولم يُصَلِّ عَلَيَّ وَالْإِجَابَةُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ما قال الْمُؤَذِّنُ
لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من قال مِثْلَ ما يقول الْمُؤَذِّنُ غَفَرَ
اللَّهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ فيقول مِثْلَ ما قَالَهُ إلَّا في
قَوْلِهِ حَيَّ على الصَّلَاةِ حَيَّ على الْفَلَاحِ فإنه يقول مَكَانَهُ لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ لِأَنَّ إعَادَةَ
ذلك تُشْبِهُ الْمُحَاكَاةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَكَذَا إذَا قال الْمُؤَذِّنُ
الصَّلَاةُ خَيْرٌ من النَّوْمِ لَا يُعِيدُهُ السَّامِعُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ
يقول صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ أو ما يُؤْجَرُ عليه
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ السَّامِعُ في حَالِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ
وَلَا يَشْتَغِلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا بِشَيْءٍ من الْأَعْمَالِ سِوَى
الْإِجَابَةِ وَلَوْ كان في الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ وَيَشْتَغِلَ
بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِجَابَةِ
كَذَا قالوا في الْفَتَاوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
صلاة الجماعة وَالثَّانِي الْجَمَاعَةُ وَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وفي بَيَانِ من تَنْعَقِدُ بِهِ وفي
بَيَانِ ما يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْجَمَاعَةِ وفي بَيَانِ من يَصْلُحُ
لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ وفي بَيَانِ من يَصْلُحُ لها على التَّفْصِيلِ وفي
بَيَانِ من هو أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ وفي بَيَانِ مَقَامِ الْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ
الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أنها وَاجِبَةٌ وَذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أنها سُنَّةٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ على صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وفي رِوَايَةٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً جَعَلَ
الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ أَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَارْكَعُوا مع الرَّاكِعِينَ } أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِالرُّكُوعِ مع الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ في حَالِ الْمُشَارَكَةِ
في الرُّكُوعِ فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَمُطْلَقُ
الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لقد
هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ
تَخَلَّفُوا عن الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ
لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
وَأَمَّا تَوَارُثُ الْأُمَّةِ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَاظَبَتْ عليها وَعَلَى النَّكِيرِ على
تَارِكِهَا وَالْمُوَاظَبَةُ على هذا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ هذا
اخْتِلَافًا في الْحَقِيقَةِ بَلْ من حَيْثُ الْعِبَارَةُ لِأَنَّ السُّنَّةَ
الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا ما كان من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ
فقال الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عنها إلَّا
لِعُذْرٍ وهو تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه الْجَمَاعَةُ فَالْجَمَاعَةُ إنَّمَا
تَجِبُ على الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْأَحْرَارِ الْقَادِرِينَ عليها من غَيْرِ
حَرَجٍ فَلَا تَجِبُ على النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِين وَالْعَبِيدِ
وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ
الذي لَا يَقْدِرُ على الْمَشْيِ وَالْمَرِيضِ
أَمَّا النِّسَاءُ فَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِتْنَةٌ
وَأَمَّا الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ
في حَقِّهِمْ
وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ عن مَوَالِيهِمْ بِتَعْطِيلِ
مَنَافِعِهِمْ الْمُسْتَحَقَّةِ وَأَمَّا الْمُقْعَدُ وَمَقْطُوعُ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ على
الْمَشْيِ وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ
____________________
(1/155)
عليه
إلَّا بِحَرَجٍ
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ
عليه
وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وعند ( ( ( ومحمد ) ) ) محمد تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ مع حُجَجِهَا تَأْتِي في
كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَأَقَلُّ من تَنْعَقِدُ
بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ وهو أَنْ يَكُونَ مع الْإِمَامِ وَاحِدٌ لِقَوْلِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الِاثْنَانِ فما فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ وَلِأَنَّ
الْجَمَاعَةَ مَأْخُوذَةٌ من مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَأَقَلُّ ما يَتَحَقَّقُ بِهِ
الِاجْتِمَاعُ إثنان وَسَوَاءٌ كان ذلك الْوَاحِدُ رَجُلًا أو امْرَأَةً أو
صَبِيًّا يَعْقِلُ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَمَّى الِاثْنَيْنِ
مُطْلَقًا جَمَاعَةً وَلِحُصُولِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ بِانْضِمَامِ كل وَاحِدٍ
من هَؤُلَاءِ إلَى الْإِمَامِ
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا
لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِالْعَدَمِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَفْعَلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ فَلَا خِلَافَ
في أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ في مَسْجِدٍ
آخَرَ لَكِنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ
الْجَمَاعَةُ في مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِنْ أتى مَسْجِدًا آخَرَ يَرْجُو إدْرَاكَ
الْجَمَاعَةِ فيه فَحَسَنٌ وَإِنْ صلى في مَسْجِدِ حَيِّهِ فَحَسَنٌ لِحَدِيثِ
الْحَسَنِ قال كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ من يُصَلِّي في
مَسْجِدِ حَيِّهِ وَمِنْهُمْ من يَتَّبِعُ الْجَمَاعَةَ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ في كل جَانِبٍ مُرَاعَاةَ حُرْمَةٍ وَتَرْكَ
أُخْرَى فَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَسْجِدِهِ وَتَرْكُ
الْجَمَاعَةِ وفي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُرَاعَاةُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ
حَقِّ مَسْجِدِهِ فإذا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَالَ إلَى أَيِّهِمَا
شَاءَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ جَمَعَ بِأَهْلِهِ في
مَنْزِلِهِ وَإِنْ صلى وَحْدَهُ جَازَ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ خَرَجَ من الْمَدِينَةِ إلَى صُلْحٍ بين حَيَّيْنِ من أَحْيَاءِ
الْعَرَبِ فَانْصَرَفَ منه وقد فَرَغَ الناس من الصَّلَاةِ فَمَالَ إلَى بَيْتِهِ
وَجَمَعَ بِأَهْلِهِ في مَنْزِلِهِ وفي هذا الحديث دَلِيلٌ على سُقُوطِ الطَّلَبِ
إذْ لو وَجَبَ لَكَانَ أَوْلَى الناس بِهِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى في زَمَانِنَا
أَنَّهُ إذَا لم يَدْخُلْ مَسْجِدَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ دخل
مَسْجِدَهُ صلى فيه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ فَهُوَ كُلُّ
عَاقِلٍ مُسْلِمٍ حتى تَجُوزَ إمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْأَعْمَى
وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ وقال مَالِكٌ لَا
تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْفَاسِقِ ووجه قَوْلِهِ إن الْإِمَامَةَ من بَابِ
الْأَمَانَةِ وَالْفَاسِقُ خَائِنٌ وَلِهَذَا لَا شَهَادَةَ له لِكَوْنِ
الشَّهَادَةِ من بَابِ الْأَمَانَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلُّوا خَلْفَ من
قال لاإله إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلُّوا خَلْفَ كل
بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَالْحَدِيثُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِنْ وَرَدَ في الْجُمَعِ
وَالْأَعْيَادِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْأُمَرَاءِ وَأَكْثَرُهُمْ فُسَّاقٌ
لَكِنَّهُ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ فِيمَا نَحْنُ فيه إذْ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ
اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضوان ( ( ( رضي ) ) )
اللَّهُ عَنْهُمْ كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَالتَّابِعُونَ اقْتَدَوْا
بِالْحَجَّاجِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مع أَنَّهُ كان أَفْسَقَ أَهْلِ
زَمَانِهِ حتى كان عُمَرُ بن الْعَزِيزِ يقول لو جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِخَبِيثِهَا وَجِئْنَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ لَغَلَبْنَاهُمْ وأبو مُحَمَّدٍ
كُنْيَةُ الْحَجَّاجِ
وَرُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ مولى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ قال عَرَّسْتُ فَدَعَوْتُ
رَهْطًا من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيهِمْ أبو ذَرٍّ
وَحُذَيْفَةُ وأبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي
فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وأنا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ
وفي رِوَايَةٍ قال فَتَقَدَّمَ أبو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقِيلَ له
أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ في بَيْتِ غَيْرِكَ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وأنا
يَوْمئِذٍ عَبْدٌ وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ
الْمَأْذُونِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَخْلَفَ
ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ على الصَّلَاةِ بِالْمَدِينَةِ حين خَرَجَ إلَى بَعْضِ
الْغَزَوَاتِ وكان أَعْمَى وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَدَاءِ
الْأَرْكَانِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عليها لا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى لِأَنَّ
مَبْنَى الْإِمَامَةِ على الْفَضِيلَةِ وَلِهَذَا كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم يَؤُمُّ غَيْرَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ غَيْرُهُ وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ من
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في عَصْرِهِ وَلِأَنَّ الناس لَا
يَرْغَبُونَ في الصَّلَاةِ خَلْفَ هَؤُلَاءِ فَتُؤَدِّي إمَامَتُهُمْ إلَى
تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ
وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ
وَلِأَنَّ مَبْنَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ على الْعِلْمِ وَالْغَالِبُ على الْعَبْدِ
وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا الْجَهْلُ أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لَا
يَتَفَرَّغُ عن خِدْمَةِ مَوْلَاهُ لِيَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا سَاوَى الْعَبْدُ غَيْرَهُ في الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ كان
هو وَغَيْرُهُ سَوَاءً وَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ أَحَبَّ إلَيَّ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ مولى بَنِي أُسَيْدٍ وَذَا يَدُلُّ على
الْجَوَازِ وَلَا كَلَامَ فيه وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَانْتِقَاصُ
____________________
(1/156)
فَضِيلَتِهِ
عن فَضِيلَةِ الْأَحْرَارِ يُوجِبَانِ الْكَرَاهَةَ وَكَذَا الْغَالِبُ على الْأَعْرَابِيِّ
الْجَهْلُ قال اللَّهُ تَعَالَى { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رَسُولِهِ }
وَالْأَعْرَابِيُّ هو الْبَدَوِيُّ وَإِنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ
وَالْعَرَبِيُّ اسْمُ مَدْحٍ وَكَذَا وَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ من حَالِهِ
الْجَهْلُ لِفَقْدِهِ من يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ مَعَالِمَ الشَّرِيعَةِ
وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَتَحَمَّلهَا الْفَاسِقُ
لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ على وَجْهِهَا وَالْأَعْمَى يُوَجِّهُهُ
غَيْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَيَصِيرَ في أَمْرِ الْقِبْلَةِ مُقْتَدِيًا
بِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا يَمِيلُ في خِلَالِ الصَّلَاةِ عن الْقِبْلَةِ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان
يَمْتَنِعُ عن الْإِمَامَةِ بعدما كُفَّ بَصَرُهُ وَيَقُولُ كَيْفَ أَؤُمُّكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْدِلُونَنِي وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ التَّوَقِّي عن
النَّجَاسَاتِ فَكَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى إلَّا إذَا كان في الْفَضْلِ لَا
يُوَازِيهِ في مَسْجِدِهِ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَوْلَى وَلِهَذَا اسْتَخْلَفَ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي اللَّهُ عنه
وَإِمَامَةُ صَاحِبِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَكْرُوهَةٌ نَصَّ عليه أبو يُوسُفَ
في الْأَمَالِي فقال أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ صَاحِبَ هَوًى وَبِدْعَةٍ
لِأَنَّ الناس لَا يَرْغَبُونَ في الصَّلَاةِ خَلْفَهُ
وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الصَّلَاةُ
خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ لَا تَجُوزُ
وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كان لَا يَرَى
الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كان هَوًى يُكَفِّرُهُ
لَا تَجُوزُ وَإِنْ كان لَا يُكَفِّرُهُ تَجُوزُ مع الْكَرَاهَةِ وَكَذَا
الْمَرْأَةُ تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ حتى لو أَمَّتْ النِّسَاءَ
جَازَ وَيَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ وَسَطَهُنَّ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها أنها أَمَّتْ نِسْوَةً في صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ
وَأَمَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ نِسَاءً وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَلِأَنَّ مَبْنَى
حَالِهِنَّ على السِّتْرِ
وَهَذَا أَسْتَرُ لها إلَّا أَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ
وَيُرْوَى في ذلك أَحَادِيثَ لَكِنَّ تِلْكَ كانت في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ
ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذلك
وَلَا يُبَاحُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ بِدَلِيلِ ما
رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ نهى الشَّوَابَّ عن الْخُرُوجِ
وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ وَالْفِتْنَةُ
حَرَامٌ
وما أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ
فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فيه في مَوْضِعٍ آخَرَ
وكذا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ يَصْلُحُ إمَامًا في الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَؤُمَّ
الصِّبْيَانَ في التَّرَاوِيحِ وفي إمَامَتِهِ الْبَالِغِينَ فيها اخْتِلَافُ
الْمَشَايِخِ على ما مَرَّ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ
فليسا ( ( ( فليس ) ) ) من أَهْلِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من
أَهْلِ الصَّلَاةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ على التَّفْصِيلِ فَكُلُّ من
صَحَّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ في صَلَاةٍ يَصْلُحُ إمَامًا له فيها وَمَنْ لَا
فَلَا وقد مَرَّ بَيَانُ شَرَائِط صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من هو أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بها فَالْحُرُّ
أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ من الْعَبْدِ وَالتَّقِيُّ أَوْلَى من الْفَاسِقِ
وَالْبَصِيرُ أَوْلَى من الْأَعْمَى وَوَلَدُ الرِّشْدَةِ أَوْلَى من وَلَدِ
الزِّنَا وَغَيْرُ الْأَعْرَابِيِّ من هَؤُلَاءِ أَوْلَى من الْأَعْرَابِيِّ لِمَا
قُلْنَا
ثُمَّ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا
وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا وَلَا شَكَّ
أَنَّ هذه المعاني ( ( ( الخصال ) ) ) إذَا اجْتَمَعَتْ في إنْسَانٍ كان هو
أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الْإِمَامَةِ على الْفَضِيلَةِ
وَالْكَمَالِ وَالْمُسْتَجْمَعُ فيه هذه الْخِصَالُ من أَكْمَلِ الناس
أَمَّا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ
وَأَمَّا كِبَرُ السِّنِّ فَلِأَنَّ من امْتَدَّ عُمُرُهُ في الْإِسْلَامِ كان
أَكْثَرَ طَاعَةً وَمُدَاوَمَةً على الْإِسْلَامِ
فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقَتْ في أَشْخَاصٍ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى إذَا
كان يُحْسِنُ من الْقِرَاءَةِ ما تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ فقال وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ
أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ
وَرَعًا وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ اقرؤهم لِكِتَابِ
اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا
سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا
فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً
فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا
ثُمَّ من الْمَشَايِخِ من أَجْرَى الحديث على ظَاهِرِهِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ
لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَدَأَ بِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَعْلَمَ
بِالسُّنَّةِ إذَا كان يُحْسِنُ من الْقِرَاءَةِ ما تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ
فَهُوَ أَوْلَى
كَذَا ذُكِرَ في آثَارِ أبي حَنِيفَةَ لِافْتِقَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هذا
الْقَدْرِ من الْقِرَاءَة إلَى الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ من تَدَارُكِ ما عَسَى
أَنْ يَعْرِضَ في الصَّلَاةِ من الْعَوَارِضِ وَافْتِقَارِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا
إلَى الْعِلْمِ بِالْخَطَأِ الْمُفْسِدِ لِلصَّلَاةِ فيها فَلِذَلِكَ كان
الْأَعْلَمُ أَفْضَلَ حتى قالوا إنَّ الْأَعْلَمَ إذَا كان مِمَّنْ يَجْتَنِبُ
الْفَوَاحِشَ الظَّاهِرَةَ
____________________
(1/157)
وَالْأَقْرَأُ
أَوَرَعُ منه فَالْأَعْلَمُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
قَدَّمَ الْأَقْرَأَ في الحديث لِأَنَّ الْأَقْرَأَ في ذلك الزَّمَانِ كان
أَعْلَمَ لِتَلَقِّيهِمْ الْقُرْآنَ بِمَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ
فَأَمَّا في زَمَانِنَا فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَاهِرًا في الْقُرْآنِ وَلَا
حَظَّ له من الْعِلْمِ فَكَانَ الْأَعْلَمُ أَوْلَى فَإِنْ اسْتَوَوْا في
الْعِلْمِ فَأَوْرَعُهُمْ لِأَنَّ الْحَاجَّةَ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ
بِقَدْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ إلَى الْوَرَعِ أَشَدُّ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من صلى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صلى
خَلْفَ نَبِيٍّ وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَقْدَمَهُمْ هِجْرَةً في الحديث لِأَنَّ
الْهِجْرَةَ كانت فَرِيضَةً يَوْمئِذٍ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَيُقَدَّمُ الْأَوْرَعُ لِتَحْصُلَ بِهِ
الْهِجْرَةُ عن الْمَعَاصِي فَإِنْ اسْتَوَوْا في الْوَرَعِ فَأَقْرَؤُهُمْ
لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَهْلُ
الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ فَإِنْ اسْتَوَوْا في الْقِرَاءَةِ
فَأَكْبَرَهُمْ سِنًّا لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْكُبْرَ الْكُبْرَ
فَإِنْ كَانُوا فيه سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ من
بَابِ الْفَضِيلَةِ وَمَبْنَى الْإِمَامَةِ على الْفَضِيلَةِ فَإِنْ كَانُوا فيه
سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا لِأَنَّ رَغْبَةَ الناس في الصَّلَاةِ خَلْفَهُ
أَكْثَرُ
وَبَعْضُهُمْ قالوا مَعْنَى قَوْلِهِ في الحديث أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا أَيْ
أَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِالْأُمُورِ
يُقَالُ وَجْهُ هذا الْأَمْرِ كَذَا
وقال بَعْضُهُمْ أَيْ أَكْثَرُهُمْ صَلَاةً بِاللَّيْلِ كما جاء في الحديث من
كَثُرَ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ وَلَا حَاجَةَ إلَى
هذا التَّكَلُّفِ لِأَنَّ الْحَمْلَ على ظَاهِرِهِ مُمْكِنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ
ذلك من أَحَدِ دَوَاعِي الِاقْتِدَاءِ فَكَانَتْ إمَامَتُهُ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ
الْجَمَاعَةِ فَكَانَ هو أَوْلَى
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلَ في بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِمَا
رَوَيْنَا من حديث أبي سَعِيدِ مولى بَنِي أُسَيْدٍ وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ على
تَكْرِمَةِ أَخِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فإنه أَعْلَمُ بِعَوْرَاتِ بَيْتِهِ
وفي رِوَايَةٍ في بَيْتِهِ وَلِأَنَّ في التَّقَدُّمِ عليه ازْدِرَاءً بِهِ بين
عَشَائِرِهِ وَأَقَارِبِهِ وَذَا لَا يَلِيقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَوْ
أَذِنَ له لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كانت لِحَقِّهِ وَذَكَرَ
مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الضَّيْفَ إذَا
كان ذَا سُلْطَانٍ جَازَ له أَنْ يَؤُمَّ بِدُونِ الْإِذْنِ لِأَنَّ الاذن
لِمِثْلِ هذا الضَّيْفِ ثَابِتٌ دَلَالَةً وأنه كَالْإِذْنِ نَصًّا وَأَمَّا إذَا
كان الضَّيْفُ سُلْطَانًا فَحَقُّ الْإِمَامَةِ له حَيْثُمَا يَكُونُ وَلَيْسَ
لِلْغَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عليه إلَّا بِإِذْنِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَنَقُولُ إذَا كان
سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ يَتَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ لِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم وَعَمَلِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ
وَرُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّ جَدَّتِي
مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى طَعَامٍ فقال صلى
اللَّهُ عليه وسلم قُومُوا لِأُصَلِّيَ بِكُمْ فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ من
وَرَائِهِ وَأُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ من وَرَائِنَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَمْتَازُ بها عن غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَبَهُ على الدَّاخِلِ
لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالتَّقَدُّمِ
وَلَوْ قام في وَسَطِهِمْ أو في مَيْمَنَةِ الصَّفِّ أو في مَيْسَرَتِهِ جَازَ وقد
أَسَاءَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْكَانِ وقد
وُجِدَتْ وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فلتركه ( ( ( فتركه ) ) ) السُّنَّةَ
الْمُتَوَاتِرَةَ وَجَعْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ الدَّاخِلُ
الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَفِيهِ تَعْرِيضُ اقْتِدَائِهِ لِلْفَسَادِ وكذا ( ( ( ولذلك
) ) ) إذَا كان سِوَاهُ اثْنَانِ يَتَقَدَّمُهُمَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَسَّطُهُمَا لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَقَامَ
وَسَطَهُمَا وقال هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلَنَا ما رَوَيْنَا أنا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمَ
وَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ وهو مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ هكذا
صَنَعَ بِنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم تُرْوَ في عَامَّةِ
الرِّوَايَاتِ فلم يَثْبُتْ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ وهو مَحْمُولٌ على ضِيقِ
الْمَكَانِ
كَذَا قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وهو كان أَعْلَمَ الناس بِأَحْوَالِ عبد
اللَّهِ وَمَذْهَبِهِ وَلَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَهِيَ أَيْضًا مَحْمُولَةٌ
على هذه الْحَالَةِ أَيْ هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
عِنْدَ ضِيقِ الْمَكَانِ
على أَنَّ الْأَحَادِيثَ إنْ تَعَارَضَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمَعْقُولِ
الذي لِأَجْلِهِ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ
لِئَلَّا يَشْتَبِهَ حَالُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فيه غير
أَنَّ هَهُنَا لو قام الْإِمَامُ وَسَطَهُمَا لَا يُكْرَهُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ
وَكَوْنِ التَّأْوِيلِ من بَابِ الِاجْتِهَادِ
وَإِنْ كان مع الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أو صَبِيٌّ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ يَقِفُ
عن يَمِينِ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ
قال بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فَانْتَبَهَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال نَامَتْ
الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ثُمَّ قَرَأَ
آخِرَ آلِ عِمْرَانَ { إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْآيَاتِ
ثُمَّ قام إلَى شَنٍّ
____________________
(1/158)
مُعَلَّقٍ
في الْهَوَاءِ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَتَوَضَّأْتُ وَوَقَفْتُ عن
يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي وفي رِوَايَةٍ بِذُؤَابَتِي وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ
حتى أَقَامَنِي عن يَمِينِهِ فَعُدْتُ إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا
فلما فرع ( ( ( فرغ ) ) ) قال ما مَنَعَكَ يا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ في
الْمَوْضِعِ الذي أَوْقَفْتُكَ فيه فقلت أنت رسول اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ في الْمَوْقِفِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم اللَّهُمَّ
فَقِّهْهُ في الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ
فَإِعَادَةُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إيَّاهُ إلَى الْجَانِبِ
الْأَيْمَنِ دَلِيلٌ على أَنَّ الْمُخْتَارَ هو الْوُقُوفُ على يَمِينِ الْإِمَامِ
إذَا كان معه رَجُلٌ وَاحِدٌ وَكَذَا رُوِيَ عن حُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قام عن يَسَارِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَحَوَّلَهُ
وَأَقَامَهُ عن يَمِينِهِ
ثُمَّ إذَا وَقَفَ عن يَمِينِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عن الْإِمَامِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ عِنْدَ عَقِبِ
الْإِمَامِ وهو الذي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ وَلَوْ كان الْمُقْتَدِي أَطْوَلَ
من الْإِمَامِ وكان سُجُودُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ لم يَضُرَّهُ لِأَنَّ
الْعِبْرَةَ لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ لَا لِمَوْضِعِ السُّجُودِ كما لو وَقَفَ في
الصَّفِّ وَوَقَعَ سُجُودُهُ أَمَامَ الْإِمَامِ لِطُولِهِ وَلَوْ وَقَفَ عن
يَسَارِهِ جَازَ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنهما وَقَفَا في الِابْتِدَاءِ عن
يَسَارِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُمَا بِهِ
وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَقَامَ الْمُخْتَارَ له وَلِهَذَا
حَوَّلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ
ولو وَقَفَ خَلْفَهُ جَازَ لِمَا مَرَّ وَهَلْ يُكْرَهُ
لم يذكر مُحَمَّدٌ الْكَرَاهَةَ نَصًّا وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال
بَعْضُهُمْ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْوَاقِفَ خَلْفَهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ منه
على يَمِينِهِ فَلَا يَتِمُّ إعْرَاضُهُ عن السُّنَّةِ بِخِلَافِ الْوَاقِفِ على
يَسَارِهِ
وقال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ في مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ
الصَّفِّ وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا صَلَاةَ لِمُنْبَذٍ خَلْفَ
الصُّفُوفِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ هو الْكَرَاهَةُ
وَإِنَّمَا نَشَأَ هذا الِاخْتِلَافُ عن إشَارَةِ مُحَمَّدٍ فإنه قال وَإِنْ صلى
خَلْفَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ عن يَسَارِ الْإِمَامِ وهو
مُسِيءٌ فَمِنْهُمْ من صَرَفَ جَوَابَ الْإِسَاءَةِ إلَى آخِرِ الْفِعْلَيْنِ
ذِكْرًا وَمِنْهُمْ من صَرَفَهُ إلَيْهِمَا جمعا ( ( ( جميعا ) ) ) وهو الصَّحِيحُ
لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا على الْآخَرِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ ثُمَّ أَثْبَتَ
الْإِسَاءَةَ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا
وإذا كان مع الْإِمَامِ امْرَأَةٌ أَقَامَهَا خَلْفَهُ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا
مُفْسِدَةٌ وَكَذَلِكَ لو كان معه خُنْثَى مُشْكِلٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ
امْرَأَةٌ وَلَوْ كان معه رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أو رَجُلٌ وَخُنْثَى أَقَامَ
الرَّجُلَ عن يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ أو الْخُنْثَى خَلْفَهُ وَلَوْ كان معه
رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ أو خُنْثَى أَقَامَ الرَّجُلَيْنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةَ
أو ( ( ( والخنثى ) ) ) الخنثى خَلْفَهُمَا
وَلَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْخَنَاثَى
وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ
يَقُومُ الرِّجَالُ صَفًّا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ
ثُمَّ الْخَنَاثَى ثُمَّ الْإِنَاثُ ثُمَّ الصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ وَكَذَلِكَ
التَّرْتِيبُ في الْجَنَائِزِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا جِنَازَةُ الرَّجُلِ
وَالصَّبِيِّ وَالْخُنْثَى وَالْأُنْثَى وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ وَكَذَلِكَ
الْقَتْلَى إذَا جُمِعَتْ في حَفِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ على ما
يُذْكَرُ ذلك في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَفْضَلُ مَكَانِ الْمَأْمُومِ إذَا كان رَجُلًا حَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى
الْإِمَامِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ
أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وإذا تَسَاوَتْ الْمَوَاضِعُ في الْقُرْبِ إلَى
الْإِمَامِ فَعَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يُحِبُّ التَّيَامُنَ في الْأُمُورِ وإذا قَامُوا في الصُّفُوفِ تَرَاصَّوْا
وَسَوَّوْا بين مَنَاكِبِهِمْ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَرَاصُّوا
والصقوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ
الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ فَنَقُولُ إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ من الصَّلَاةِ فَلَا
يَخْلُو إمَّا إن كانت صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ أو كانت صَلَاةً
تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ فَإِنْ كانت صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدهَا سُنَّةٌ
كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قام وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ في
مَكَانِهِ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ هَاتَيْنِ
الصَّلَاتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْمُكْثُ على
هَيْئَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان إذَا فَرَغَ من الصَّلَاةِ لَا يَمْكُثُ في
مَكَانِهِ إلَّا مِقْدَارَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أنت السَّلَامُ وَمِنْكَ
السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَرُوِيَ جُلُوسَ
الْإِمَامِ في مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِدْعَةٌ
وَلِأَنَّ مُكْثَهُ يُوهِمُ الدَّاخِلَ أَنَّهُ في الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ
فَيَفْسُدُ اقْتِدَاؤُهُ فَكَانَ الْمُكْثُ تَعْرِيضًا لِفَسَادِ اقْتِدَاءِ
غَيْرِهِ بِهِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ إنْ
شَاءَ إنْ لم يَكُنْ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم كان إذَا فَرَغَ من صَلَاةِ
____________________
(1/159)
الْفَجْرِ
اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ وقال هل رَأَى أحد ( ( ( أحدكم ) ) ) منكم
رُؤْيَا كَأَنَّهُ كان يَطْلُبُ رُؤْيَا فيها بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ فَإِنْ كان
بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لَا يَسْتَقْبِلْ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ لِأَنَّ
اسْتِقْبَالَ الصُّورَةِ الصُّورَةَ في الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ فَعَلَاهُمَا
بِالدِّرَّةِ وقال لِلْمُصَلِّي أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ وَلِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ
الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ لِأَنَّ بِالِانْحِرَافِ يَزُولُ
الِاشْتِبَاهُ كما يَزُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في كَيْفِيَّةِ الِانْحِرَافِ
قال بَعْضُهُمْ يَنْحَرِفُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ تَبَرُّكًا بِالتَّيَامُنِ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْحَرِفُ إلَى الْيَسَارِ لِيَكُونَ يَسَارُهُ إلَى الْيَمِينِ
وقال بَعْضُهُمْ هو مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمْنَةً وَإِنْ شَاءَ يَسْرَةً
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ من الِانْحِرَافِ وهو زَوَالُ
الِاشْتِبَاهِ يَحْصُلُ بِالْأَمْرَيْنِ جميعا
وَإِنْ كانت صَلَاةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ له الْمُكْثُ قَاعِدًا
وَكَرَاهَةُ الْقُعُودِ مَرْوِيَّةٌ عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا
من الصَّلَاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا على الرَّضْفِ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ يُوجِبُ
اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ على الدَّاخِلِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنْ يَقُومُ
وَيَتَنَحَّى عن ذلك الْمَكَانِ ثُمَّ يتنفل ( ( ( ينتقل ) ) ) لِمَا رُوِيَ عن
أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَيَعْجِزُ أحدكم إذَا فَرَغَ من صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأَخَّرَ
وَعَنْ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ
في الْمَكَانِ الذي أَمَّ فيه وَلِأَنَّ ذلك يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ
على الدَّاخِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَحَّى إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ أو
اسْتِكْثَارًا من شُهُودِهِ على ما رُوِيَ أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ له
يوم الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا حَرَجَ عليهم في تَرْكِ
الِانْتِقَالِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِبَاهِ على الدَّاخِلِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ
فَرَاغِ مَكَانِ الْإِمَامِ عنه
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَيْضًا أَنْ
يَنْقُضُوا الصُّفُوفَ وَيَتَفَرَّقُوا لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ على الدَّاخِلِ الْمُعَايِنِ
الْكُلَّ في الصَّلَاةِ الْبَعِيدِ عن الْإِمَامِ وَلِمَا رَوَيْنَا من حديث أبي
هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَأَمَّا الذي هو في الصَّلَاةِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو أَصْلِيٌّ وَنَوْعٌ هو
عَارِضٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ
فَصْلٌ أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ في الصَّلَاةِ فَسِتَّةٌ منها
قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ في صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ وفي
الْأُولَيَيْنِ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ حتى لو تَرَكَهُمَا أو
أَحَدَهُمَا فَإِنْ كان عَامِدًا كان مُسِيئًا وَإِنْ كان سَاهِيًا يَلْزَمُهُ
سُجُودُ السَّهْوِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ
على التَّعْيِينِ فَرْضٌ حتى لو تَرَكَهَا أو حَرْفًا منها في رَكْعَةٍ لَا
تَجُوزُ صَلَاتُهُ
وقال مَالِكٌ قِرَاءَتُهُمَا على التَّعْيِينِ فَرْضٌ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يَقْرَأْ
فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وروى لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ
مَعَهَا أو قال وَشَيْءٌ مَعَهَا وَلِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاظَبَ
على قِرَاءَتِهِمَا في كل صَلَاةٍ فَيَدُلُّ على الْفَرْضِيَّةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فاقرؤوا ( ( ( فاقرءوا ) ) ) ما تَيَسَّرَ من
الْقُرْآنِ } أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ من غَيْرِ تَعْيِينٍ فَتَعْيِينُ
الْفَاتِحَةِ فَرْضًا أو تَعْيِينُهُمَا نَسَخَ الْإِطْلَاقَ وَنَسْخُ الْكِتَابِ
بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَبِلْنَا الحديث في حَقِّ الْوُجُوبِ عَمَلًا حتى تُكْرَهَ
تَرْكُ قِرَاءَتِهِمَا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ
الْمُمْكِنِ كيلا يُضْطَرَّ إلَى رَدِّهِ لِوُجُوبِ رَدِّهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ
الْكِتَابِ وَمُوَاظَبَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على فِعْلٍ لَا يَدُلُّ على
فَرْضِيَّتِهِ فإنه كان يُوَاظِبُ على الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ وهو الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ في الْأُولَيَيْنِ وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وهو الظُّهْرُ
وَالْعَصْرُ إذَا كان إمَامًا
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا أو مُنْفَرِدًا
فَإِنْ كان إمَامًا يَجِبُ عليه مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ وَكَذَا في
كل صَلَاةٍ من شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ
وَالتَّرْوِيحَاتِ وَيَجِبُ عليه الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَإِنَّمَا كان
كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عن الْقَوْمِ
فِعْلًا فَيَجْهَرُ لِيَتَأَمَّلَ الْقَوْمُ وَيَتَفَكَّرُوا في ذلك فَتَحْصُلُ
ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ وَفَائِدَتُهَا لِلْقَوْمِ فَتَصِيرُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ
قِرَاءَةً لهم تَقْدِيرًا كَأَنَّهُمْ قرؤوا ( ( ( قرءوا ) ) ) وَثَمَرَةُ
الْجَهْرِ تَفُوتُ في صَلَاةِ النَّهَارِ لِأَنَّ الناس في الْأَغْلَبِ
يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَاتِ في خِلَالِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِانْتِشَارِ
في الْأَرْضِ فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ فَيَشْغَلُهُمْ ذلك عن
حَقِيقَةِ التَّأَمُّلِ فَلَا يَكُونُ الْجَهْرُ مُفِيدًا بَلْ يَقَعُ تَسْبِيبًا
إلَى الْإِثْمِ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ صَلَاةِ
اللَّيْلِ لِأَنَّ الْحُضُورَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ في خِلَالِ الشُّغْلِ
وَبِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِأَنَّهُ يؤدي في الْأَحَايِينِ مَرَّةً
على هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ من الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحُضُورِ السُّلْطَانِ
وَغَيْرِ ذلك فَيَكُونُ ذلك مَبْعَثَةٌ على إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ
وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
____________________
(1/160)
وَالْأَرْكَانُ
في الْفَرَائِضِ تؤدي على سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دُونَ الْإِخْفَاءِ وَلِهَذَا كان
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَجْهَرُ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا في الِابْتِدَاءِ
إلَى أَنْ قَصَدَ الْكُفَّارُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَادُوا يَلْغُونَ
فيه فَخَافَتَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْقِرَاءَةِ في الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى في هَذَيْنِ
الْوَقْتَيْنِ وَلِهَذَا كان يَجْهَرُ في الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِأَنَّهُ
أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وما كان لِلْكُفَّارِ بِالْمَدِينَةِ قُوَّةُ الْأَذَى
ثُمَّ وَإِنْ زَالَ هذا الْعُذْرُ بَقِيَتْ هذه السُّنَّةُ كَالرَّمَلِ في
الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ على الْمُخَافَتَةِ فِيهِمَا في
عُمْرِهِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً وَلِأَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّهَارِ
بِالْعَجْمَاءِ وَهِيَ التي لَا تَبِينُ وَلَا يَتَحَقَّقُ هذا الْوَصْفُ لها
إلَّا بِتَرْكِ الْجَهْرِ فيها وَكَذَا وَاظَبَ على الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ
وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَعَلَى هذا
عَمَلُ الْأُمَّةِ
ويخفى الْقِرَاءَةَ فِيمَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ الْجَهْرَ صِفَةُ
الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ في الْأُخْرَيَيْنِ
لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ أو خَافَتْ
فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كان عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا وَإِنْ كان سَاهِيًا
فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه إسْمَاعُ الْقَوْمِ فِيمَا
يُجْهَرُ وَإِخْفَاءُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمْ فِيمَا يُخَافَتُ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ
عَمْدًا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ
وَإِنْ كان مُنْفَرِدًا فَإِنْ كانت صَلَاةً يُخَافَتُ فيها بِالْقِرَاءَةِ
خَافَتَ لَا مَحَالَةَ وهو رِوَايَةُ الْأَصْلِ وَذَكَرَ أبو يُوسُفَ في
الْإِمْلَاءِ إنْ زَادَ على ما يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَذَكَرَ
عِصَامُ بن أبي يُوسُفَ في مُخْتَصَرِهِ وَأَثْبَتَ له خِيَارَ الْجَهْرِ
وَالْمُخَافَتَةِ اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ السَّهْوِ عليه إذَا جَهَرَ
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ
النَّهَارِ عَجْمَاءُ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مع حَاجَتِهِ إلَى إسْمَاعِ
غَيْرِهِ يُخَافِتُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَلَوْ جَهَرَ فيها بِالْقِرَاءَةِ
فَإِنْ كان عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في صَلَاتِهِ
وَإِنْ كان سَاهِيًا لَا سَهْوَ عليه نَصَّ عليه في بَابِ السَّهْوِ بِخِلَافِ
الْإِمَامِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَالنُّقْصَانُ
في صَلَاةِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ فَعَلَ
شَيْئَيْنِ نهى عنهما أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ في غَيْرِ مَوْضِعِ
الرَّفْعِ وَالثَّانِي أَنَّهُ أَسْمَعَ من أُمِرَ بِالْإِخْفَاءِ عنه
وَالْمُنْفَرِدُ رَفَعَ الصوت ( ( ( صوته ) ) ) فَقَطْ فَكَانَ النُّقْصَانُ في
صَلَاتِهِ أَقَلَّ وما وَجَبَ لِجَبْرِ الْأَعْلَى لَا يَجِبُ لِجَبْرِ الْأَدْنَى
وَإِنْ كانت صَلَاةً يُجْهَرُ فيها بِالْقِرَاءَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ ما
يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلَا يَزِيدُ على ذلك وَذَكَرَ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ
مُفَسَّرًا أَنَّهُ بين خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ وَإِنْ
شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ
أَمَّا كَوْنُ له أَنْ يَجْهَرَ فَلِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إمَامٌ في نَفْسِهِ
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ وَلَهُ أَنْ يُخَافِتَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ لِأَنَّ
الْإِمَامَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ لِإِسْمَاعِ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدُ
يَحْتَاجُ إلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُخَافَتَةِ
وَذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ الْكَبِيرِ إن الْجَهْرَ أَفْضَلُ لِأَنَّ فيه
تَشْبِيهًا بِالْجَمَاعَةِ وَالْمُنْفَرِدُ إنْ عَجَزَ عن تَحْقِيقِ الصَّلَاةِ
بِجَمَاعَةٍ لم يَعْجِزْ عن التَّشَبُّهِ وَلِهَذَا إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ كان
أَفْضَلَ هذا في الْفَرَائِضِ
وَأَمَّا في التَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كان في النَّهَارِ يُخَافِتُ وَإِنْ كان في
اللَّيْلِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَافَتَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَالْجَهْرُ
أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّوَافِلَ اتباع الْفَرَائِضِ وَالْحُكْمُ في الْفَرَائِضِ
كَذَلِكَ حتى لو كان بِجَمَاعَةٍ كما في التَّرَاوِيحِ يَجِبُ الْجَهْرُ وَلَا
يَتَخَيَّرُ كما في الْفَرَائِضِ وقد رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
كان إذَا صلى بِاللَّيْلِ سُمِعَتْ قِرَاءَتُهُ من وَرَاءِ الْحِجَابِ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه
وهو يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ وَمَرَّ بِعُمَرَ وهو
يَتَهَجَّدُ وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَمَرَّ بِبِلَالٍ وهو يَتَهَجَّدُ
وَيَنْتَقِلُ من سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ فلما أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ منهم عن حَالِهِ فقال أبو بَكْرٍ
رضي اللَّهُ عنه كنت أُسْمِعُ من أُنَاجِي وقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه كنت
أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ
وقال بِلَالٌ رضي اللَّهُ عنه كنت أَنْتَقِلُ من بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فقال
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ من صَوْتِكِ قَلِيلًا وَيَا
عُمَرُ اخْفِضْ من صَوْتِكَ قَلِيلًا وَيَا بِلَالُ إذَا افتتحت ( ( ( فتحت ) ) )
سُورَةً فَأَتِمَّهَا
ثُمَّ الْمُنْفَرِدُ إذَا خَافَتَ وَأَسْمَعَ أُذُنَيْهِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ
لِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ بِيَقِينٍ إذْ السَّمَاعُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ لَا
يُتَصَوَّرُ وأما إذَا صَحَّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ وَأَدَّاهَا على وَجْهِهَا
ولم يُسْمِعْ أُذُنَيْهِ وَلَكِنْ وَقَعَ له الْعِلْمُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ
وَخُرُوجِ الْحُرُوفِ من مَخَارِجِهَا فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ اُخْتُلِفَ فيه
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وهو قَوْلُ أبي بَكْرِ الْبَلْخِيّ
الْمَعْرُوفِ بِالْأَعْمَشِ
وَعَنْ الشَّيْخِ أبي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ وَالْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ
الْهِنْدُوَانِيُّ
____________________
(1/161)
وَالشَّيْخِ
الْإِمَامِ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
ما لم يُسْمِعْ نَفْسُهُ وَعَنْ بِشْرِ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ قال إنْ
كان بِحَالٍ لو أَدْنَى رَجُلٌ صِمَاخَ أُذُنَيْهِ إلَى فيه سمع كَفَى وَإِلَّا
فَلَا وَمِنْهُمْ من ذَكَرَ في الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بين أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ فقال على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا
يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ
وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْحُرُوفِ وَنَظْمِهَا على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وقد وُجِدَ
فَأَمَّا إسْمَاعُهُ نَفْسَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّ السَّمَاعَ فِعْلُ الْأُذُنَيْنِ
دُونَ اللِّسَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ نَجِدُهَا تَتَحَقَّقُ من
الْأَصَمِّ وَإِنْ كان لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ
وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي إن مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَقَدْرِ ما لَا يَسْمَعُ هو لو كان سَمِيعًا لم
يَعْرِفْ قِرَاءَةً
وَجْهُ قَوْلِ بِشْرٍ أَنَّ الْكَلَامَ في الْعُرْفِ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ
دَالَّةٍ على ما في ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْتٍ
مَسْمُوعٍ وما قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ وَذَكَرَ في كِتَابِ
الصَّلَاةِ إشَارَةً إلَيْهِ فإنه قال إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ
وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَلَوْ لم يُحْمَلْ قَوْلُهُ قَرَأَ في نَفْسِهِ على إقَامَةِ
الْحُرُوفِ لَأَدَّى إلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عن الْإِفَادَةِ
وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ في الْبَابِ لِأَنَّ هذا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
رَبِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه عُرْفُ الناس وَعَلَى هذا الْخِلَافِ كُلُّ حُكْمٍ
تَعَلَّقَ بِالنُّطْقِ من الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الطُّمَأْنِينَةُ وَالْقَرَارُ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهَذَا
قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ الطُّمَأْنِينَةُ مِقْدَارُ
تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حتى لو تَرَكَ
الطُّمَأْنِينَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ ولم يذكر هذا الْخِلَافَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى في نَوَادِرِهِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ الْقَوْمَةَ التي بَعْدَ الرُّكُوعِ
وَالْقَعْدَةَ التي بين السَّجْدَتَيْنِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ
فِيمَنْ لم يُقِمْ صُلْبَهُ في الرُّكُوعِ إنْ كان إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ منه
إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لم يُجْزِهِ وَإِنْ كان إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ
منه إلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ وَلَقَبُ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ ليس بِفَرْضٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ
احْتَجَّا بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الذي دخل الْمَسْجِدَ وَأَخَفَّ الصَّلَاةَ
فقال له النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لم تُصَلِّ هَكَذَا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ لم أَسْتَطِعْ غير ذلك فَعَلِّمْنِي
فقال له النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَتَطَهَّرْ كما
أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَقُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ
وَاقْرَأْ ما مَعَكَ من الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حتى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ
مِنْكَ ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حتى تَسْتَقِمْ قَائِمًا
فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ أَمَرَهُ
بِالْإِعَادَةِ وَالْإِعَادَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ فَسَادِ الصَّلَاةِ
وَفَسَادُهَا بِفَوَاتِ الرُّكْنِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ الْمُؤَدَّى صَلَاةً بِقَوْلِهِ فَإِنَّك لم
تُصَلِّ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ
لِلْفَرْضِيَّةِ وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا لِنَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } أمر
( ( ( وأمر ) ) ) بِمُطْلَقِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعُ في اللُّغَةِ
هو الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ يُقَالُ رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ إلَى
الْأَرْضِ وَالسُّجُودُ هو التَّطَأْطُؤُ وَالْخَفْضُ يُقَالُ سَجَدَتْ
النَّخْلَةُ إذَا تَطَأْطَأَتْ وَسَجَدَتْ النَّاقَةُ إذَا وَضَعَتْ جِرَانَهَا
على الْأَرْضِ وَخَفَضَتْ رَأْسَهَا لِلرَّعْيِ فإذا أتى بِأَصْلِ الِانْحِنَاءِ
وَالْوَضْعِ فَقَدْ امْتَثَلَ لِإِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ
فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ على أَصْلِ الْفِعْلِ وَالْأَمْرُ
بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ من الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا
لِلْكِتَابِ وَلَكِنْ يَصْلُح مُكَمِّلًا فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالِاعْتِدَالِ على
الْوُجُوبِ وَنَفْيُهُ الصَّلَاةَ على نَفْيِ الْكَمَالِ وَتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ
الْفَاحِشِ الذي يُوجِبُ عَدَمَهَا من وَجْهٍ وَأَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ على
الْوُجُوبِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ أو على الزَّجْرِ عن الْمُعَاوَدَةِ إلَى
مِثْلِهِ كَالْأَمْرِ بِكَسْرِ دَنَانِ الْخَمْرِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا
تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ
على أَنَّ الحديث حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَكَّنَ
الْأَعْرَابِيَّ من الْمُضِيِّ في الصَّلَاةِ في جَمِيعِ الْمَرَّاتِ ولم
يَأْمُرْهُ بِالْقَطْعِ فَلَوْ لم تَكُنْ تِلْكَ الصَّلَاةُ جَائِزَةً لَكَانَ
الِاشْتِغَالُ بها عَبَثًا إذْ الصَّلَاةُ لَا يُمْضَى في فَاسِدِهَا فَيَنْبَغِي
أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ منه
ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ في الرُّكُوعِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ حتى لو تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السهود
( ( ( السهو ) ) ) وَذَكَرَ أبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ أنها سُنَّةٌ حتى لَا
يَجِبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا وَكَذَا الْقَوْمَةُ التي بين
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةُ التي بين السَّجْدَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ ما
ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ من بَابِ إكْمَالِ الرُّكْنِ
وَإِكْمَالُ الرُّكْنِ وَاجِبٌ كَإِكْمَالِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ أَلَا
تَرَى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(1/162)
أَلْحَقَ
صَلَاةَ الْأَعْرَابِيِّ بِالْعَدَمِ وَالصَّلَاةُ إنَّمَا يقضي عليها بِالْعَدَمِ
إمَّا لِانْعِدَامِهَا أَصْلًا بِتَرْكِ الرُّكْنِ أو بِانْتِقَاصِهَا بِتَرْكِ
الْوَاجِبِ فَتَصِيرُ عَدَمًا من وَجْهٍ فَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَلَا
يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا وَلِهَذَا
يُكْرَهُ تَرْكُهَا أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ حتى رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال
أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ
وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلْفَصْلِ بين الشَّفْعَيْنِ حتى لو تَرَكَهَا
عَامِدًا كان مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السهود ( ( (
السهو ) ) ) لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاظَبَ عليها في جَمِيعِ
عُمُرِهِ وَذَا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ إذَا قام دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ
وقد قام هَهُنَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قام
إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فلم يَرْجِعْ وَلَوْ كانت فَرْضًا لَرَجَعَ
وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عليها إمَّا لِأَنَّ
وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا أو لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ في
مَعْنَى الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَدْنَى ما يَجُوزُ من الصَّلَاةِ
فَوَجَبَتْ الْقَعْدَةُ فأصله بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ما يَلِيهِمَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَمِنْهَا التَّشَهُّدُ في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
فَرْضٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاظَبَ عليه في جَمِيعِ عُمُرِهِ
وَهَذَا دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ قال كنا نَقُولُ قبل أَنْ يُفْرَضَ علينا التَّشَهُّدُ السَّلَامُ على
اللَّهِ السَّلَامُ على جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ أَمَرَنَا
بِالتَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ قُولُوا
وَنَصَّ على فَرْضِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قبل أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ
وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ إذَا رَفَعْتَ
رَأْسَكَ من آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ
صَلَاتُك أَثْبَتَ تَمَامَ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَعْدَةِ وَلَوْ كان
التَّشَهُّدُ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَ التَّمَامُ بِدُونِهِ دَلَّ أَنَّهُ ليس
بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِمُوَاظَبَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِيمَا قام دَلِيلٌ عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ وقد
قام هَهُنَا وهو ما ذَكَرْنَا فَكَانَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْأَمْرُ في الحديث يَدُلُّ على الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ لِأَنَّهُ
خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ وَقَوْلُهُ
قبل أَنْ يفترض ( ( ( يفرض ) ) ) أَيْ قبل أَنْ يُقَدَّرَ على هذا التَّقْدِيرِ
الْمَعْرُوفِ إذْ الْفَرْضُ في اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ
وَمِنْهَا مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا من الْأَفْعَالِ في
الصَّلَاةِ وهو السَّجْدَةُ لِمُوَاظَبَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على
مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فيه وَقِيَامُ الدَّلِيلِ على عَدَمِ فَرَضِيَتِهِ على ما
ذَكَرْنَا حتى لو تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ من الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ
تَذَكَّرَهَا في آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ
بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ سَاهِيًا
فَوَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الذي ثَبَتَ وُجُوبُهُ في الصَّلَاةِ بِعَارِضٍ فَنَوْعَانِ أَيْضًا
أَحَدُهُمَا سُجُودُ السَّهْوِ وَالْآخَرُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ
أَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهِ وفي
بَيَان سَبَبِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ من الْأَفْعَالِ
وَالْأَذْكَارِ سَاهِيًا هل يُقْضَى أَمْ لَا وفي بَيَانِ مَحِلِّ السُّجُودِ وفي
بَيَانِ قَدْرِ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتِهِ وفي بَيَانِ عَمَلِهِ أَنَّهُ
يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا وفي بَيَانِ من يَجِبُ عليه سُجُودُ السَّهْوِ
وَمَنْ لَا يَجِبُ عليه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ
وَكَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في الْأَصْلِ فقال إذَا سَهَا الْإِمَامُ
وَجَبَ على الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا أنه سُنَّةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أن الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ
التَّشَهُّدَ حتى لو تَكَلَّمَ بعد ما سَجَدَ لِلسَّهْوِ قبل أَنْ يَقْعُدَ لَا
تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَوْ كان وَاجِبًا لَرَفَعَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كما هو مَشْرُوعٌ في صَلَاةِ
الْفَرْضِ وَالْفَائِتُ من التَّطَوُّعِ كَيْفَ يُجْبَرُ بِالْوَاجِبِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي
اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من شَكَّ في صَلَاتِهِ
فلم يَدْرِ أَثَلَاثًا صلى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى
الصَّوَابِ وَلْيَبْنِ عليه وَلْيَسْجُدْ سجدتين ( ( ( للسهو ) ) ) بَعْدَ
السَّلَامِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُمَا
تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَبَرِهِ وَكَذَا النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم وأصحابه ( ( ( والصحابة ) ) ) رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَاظَبُوا
عليه وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا لِنُقْصَانِ
الْعِبَادَةَ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ في بَابِ الْحَجِّ
وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ وَلَا تَحْصُلُ
صِفَةُ الْكَمَالِ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ فَكَانَ وَاجِبًا ضَرُورَةً إذْ
لَا حُصُولَ لِلْوَاجِبِ إلَّا بِهِ إلَّا أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ
لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لَا لِأَنَّ السُّجُودَ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ لِمَعْنًى
آخَرَ وهو أَنَّ السُّجُودَ وَقَعَ في مَحَلِّهِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ
الْقَعْدَةِ فَالْعَوْدُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ رَافِعًا لِلْقَعْدَةِ
____________________
(1/163)
الْوَاقِعَةِ
في مَحَلِّهَا فَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَمَحَلُّهَا قبل الْقَعْدَةِ
فَالْعَوْدُ إلَيْهَا يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ
الصُّلْبِيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ
أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ له مَدْخَلًا في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَنَقُولُ أَصْلُ
الصَّلَاةِ وَإِنْ كانت تَطَوُّعًا لَكِنَّ لها أَرْكَانٌ لَا تَقُومُ بِدُونِهَا
وَوَاجِبَاتٌ تَنْتَقِصُ بِفَوَاتِهَا وَتَغْيِيرِهَا عن مَحَلِّهَا فَيُحْتَاجُ
إلَى الْجَابِرِ مع ما أَنَّ النَّفَلَ يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَنَا بِالشُّرُوعِ
وَيَلْتَحِقُ بِالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ في حَقِّ الْأَحْكَامِ على ما
يُبَيَّنُ في موضعه ( ( ( مواضعه ) ) ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ
الْأَصْلِيِّ في الصَّلَاةِ أو تَغْيِيرُهُ أو تَغْيِيرُ فَرْضٍ منها عن مَحَلِّهِ
الْأَصْلِيِّ سَاهِيًا لِأَنَّ كُلَّ ذلك يُوجِبُ نُقْصَانًا في الصَّلَاةِ
فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ وَيَخْرُجُ على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الذي وَقَعَ السَّهْوُ عنه لَا يَخْلُو إما إنْ
كان من الْأَفْعَالِ وإما إنْ كان من الْأَذْكَارِ إذْ الصَّلَاةُ أَفْعَالٌ
وَأَذْكَارٌ فَإِنْ كان من الْأَفْعَالِ بِأَنْ قَعَدَ في مَوْضِعِ الْقِيَامِ أو
قام في مَوْضِعَ الْقُعُودِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ وهو
تَأْخِيرُ الْقِيَامِ عن وَقْتِهِ أو تَقْدِيمُهُ على وَقْتِهِ مع تَرْكِ
الْوَاجِبِ وهو الْقَعْدَةُ الْأُولَى وقد رُوِيَ عن الْمُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قام من الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ
سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ ولم ( ( ( فلم ) ) ) يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا بِهِ فلم
يُعِدْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَكَذَا إذَا رَكَعَ في مَوْضِعِ السُّجُودِ أو سَجَدَ
في مَوْضِعِ الرُّكُوعِ أو رَكَعَ رُكُوعَيْنِ أو سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ
لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ عن مَحَلِّهِ أو تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَكَذَا إذَا
تَرَكَ سَجْدَةً من رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا في آخِرِ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا
وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّهُ أَخَّرَهَا عن مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَكَذَا
إذَا قام إلَى الْخَامِسَةِ قبل أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أو بعدما
قَعَدَ وَعَادَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ عن وَقْتِهِ
الْأَصْلِيِّ وهو الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ أو تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ وهو
السَّلَامُ وَلَوْ زَادَ على قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى
وَصَلَّى على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
ذُكِرَ في أَمَالِي الْحَسَنِ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عليه سُجُودَ
السَّهْوِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ
لَهُمَا أَنَّهُ لو وَجَبَ عليه سُجُودُ السَّهْوِ لَوَجَبَ لجبر ( ( ( جبر ) ) )
النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ شُرِعَ له وَلَا يُعْقَلُ تَمَكُّنُ النُّقْصَانِ في
الصَّلَاةِ بِالصَّلَاةِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وأبو حَنِيفَةَ يقول لَا
يَجِبُ عليه بِالصَّلَاةِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَلْ بِتَأْخِيرِ
الْفَرْضِ وهو الْقِيَامُ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ حَصَلَ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ
عليه من حَيْثُ أنه تَأْخِيرٌ لَا من حَيْثُ أنه صَلَاةٌ على النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَلَوْ تَلَا سَجْدَةً فَنَسِيَ أَنْ يسجدها ( ( ( يسجد ) ) ) ثُمَّ
تَذَكَّرَهَا في آخِرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَيَسْجُدَ
لِلسَّهْوِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ عن وَقْتِهِ
وَلَوْ سَلَّمَ مُصَلِّي الظُّهْرِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ على ظَنِّ أَنَّهُ
قد أَتَمَّهَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صلى رَكْعَتَيْنِ وهو على مَكَانِهِ
يُتِمُّهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ
أَمَّا الْإِتْمَامُ فَلِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَا يُخْرِجُهُ عن الصَّلَاةِ
وَأَمَّا وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وهو الْقِيَامُ إلَى
الشَّفْعِ الثَّانِي بِخِلَافِ ما إذَا سَلَّمَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ على
ظَنِّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أو مُصَلِّي الْجُمُعَةِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
لِأَنَّ هذا الظَّنَّ نَادِرٌ فَكَانَ سَلَامُهُ سَلَامَ عَمْدٍ وَأَنَّهُ قَاطِعٌ
لِلصَّلَاةِ
وَلَوْ تَرَكَ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ أو ( ( ( والقومة ) ) ) القومة التي بين
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أو الْقَعْدَةَ التي بين السَّجْدَتَيْنِ سَاهِيًا اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً على أَنَّ
تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ عِنْدَهُمَا وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ وقد بَيَّنَّا ذلك فِيمَا
تَقَدَّمَ وَعَلَى هذا إذَا شَكَّ في شَيْءٍ من صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ في ذلك حتى
اسْتَيْقَنَ وهو على وَجْهَيْنِ أما إنْ شَكَّ في شَيْءٍ من هذه الصَّلَاةِ التي
هو فيها فَتَفَكَّرَ في ذلك وأما إنْ شَكَّ في صَلَاةٍ قبل هذه الصَّلَاةِ
فَتَفَكَّرَ في ذلك وهو في هذه وَكُلُّ وَجْهٍ على وَجْهَيْنِ إما أن طَالَ
تَفَكُّرُهُ بِأَنْ كان مِقْدَارُ ما يُمْكِنهُ أَنْ يُؤَدِّيَ فيه رُكْنًا من
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أو لم يَطُلْ فَإِنْ لم يَطُلْ
تَفَكُّرُهُ فَلَا سَهْوَ عليه سَوَاءٌ كان تَفَكُّرُهُ في غَيْرِ هذه الصَّلَاةِ
أو في هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَطُلْ لم يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ الْأَصْلِيِّ
وهو تَرْكُ الْوَاجِبِ أو تَغْيِيرُ فَرْضٍ أو وَاجِبٍ عن وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ
وَلِأَنَّ الْفِكْرَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه فَكَانَ
عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ فَإِنْ كان تَفَكُّرُهُ في
غَيْرِ هذه الصَّلَاةِ فَلَا سَهْوَ عليه وَإِنْ كان في هذه الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ
في الْقِيَاسِ وفي الِاسْتِحْسَانِ عليه السَّهْوُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ تمكن ( ( ( يمكن ) ) )
النُّقْصَانُ في الصَّلَاةِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَذَكَّرَ
أَنَّهُ أَدَّاهَا فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِكْرِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ السَّهْوَ
كَالْفِكْرِ الْقَلِيلِ وَكَمَا لو شَكَّ في صَلَاةٍ أُخْرَى وهو في هذه
الصَّلَاةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا لَا سَهْوَ عليه وَإِنْ طَالَ
فِكْرُهُ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْفِكْرَ الطَّوِيلَ في هذه الصَّلَاةِ
____________________
(1/164)
مِمَّا
يُؤَخِّرُ الْأَرْكَانَ عن أَوْقَاتِهَا فَيُوجِبُ تَمَكُّنَ النُّقْصَانِ في
الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ من جَبْرِهِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْفِكْرِ
الْقَصِيرِ وَبِخِلَافِ ما إذَا شَكَّ في صَلَاةٍ أُخْرَى وهو في هذه الصَّلَاةِ
لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ في هذه الصَّلَاةِ سَهْوُ هذه الصَّلَاةِ لَا
سَهْوُ صَلَاةٍ أُخْرَى وَلَوْ شَكَّ في سُجُودِ السَّهْوِ يَتَحَرَّى وَلَا
يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ لِأَنَّ تَكْرَارَ سُجُودِ السَّهْوِ في صَلَاةٍ
وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ على ما نَذْكُرُ وَلِأَنَّهُ لو سَجَدَ لَا يَسْلَمُ
عن السَّهْوِ فيه ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى ما لَا يَتَنَاهَى
وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ قال لِلْكِسَائِيِّ وكان الْكِسَائِيُّ
ابْنَ خَالَتِهِ لِمَ لَا تَشْتَغِلُ بِالْفِقْهِ مع هذا الْخَاطِرِ فقال من
أَحْكَمَ عِلْمًا فَذَاكَ يَهْدِيهِ إلَى سَائِرِ الْعُلُومِ فقال مُحَمَّدٌ أنا
أُلْقِي عَلَيْك شيئا من مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَخَرِّجْ جَوَابَهُ من النَّحْوِ
فقال هَاتِ قال فما تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا في سُجُودِ السَّهْوِ
فَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قال لَا سَهْوَ عليه
فقال من أَيِّ بَابٍ من النَّحْوِ خَرَّجْتَ هذا الْجَوَابَ فقال من بَابِ أَنَّهُ
لَا يُصَغَّرُ الْمُصَغَّرُ فَتَحَيَّرَ من فِطْنَتِهِ
وَلَوْ شَرَعَ في الظُّهْرِ ثُمَّ تَوَهَّمَ أَنَّهُ في الْعَصْرِ فَصَلَّى على
ذلك الْوَهْمِ رَكْعَةً أو رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ في الظُّهْرِ
فَلَا سَهْوَ عليه لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا
شَرْطُ بَقَائِهَا كَأَصْلِ النِّيَّةِ فلم يُوجَدْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ وَلَا تَرْكُ
وَاجِبٍ فَإِنْ تَفَكَّرَ في ذلك تَفَكُّرًا شَغَلَهُ عن رُكْنٍ فَعَلَيْهِ
سُجُودُ السَّهْوِ اسْتِحْسَانًا على ما مَرَّ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ
فَقَرَأَ ثُمَّ شَكَّ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ
ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كان كَبَّرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَنَّهُ
بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخَّرَ رُكْنًا وهو الرُّكُوعُ
ثُمَّ لَا فَرْقَ بين ما إذَا شَكَّ في خِلَالِ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ حتى
اسْتَيْقَنَ وَبَيْنَ ما إذَا شَكَّ في آخِرِ صَلَاتِهِ بعدما قَعَدَ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ في حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ
لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ وهو السَّلَامُ وَلَوْ شَكَّ بعدما سَلَّمَ
تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً ثُمَّ اسْتَيْقَنَ لَا سَهْوَ عليه لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ
الْأُولَى خَرَجَ عن الصَّلَاةِ وَانْعَدَمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ
تَنْقِيصُهَا بِتَفْوِيتِ وَاجِبٍ منها فَاسْتَحَالَ إيجَابُ الْجَابِرِ
وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ في الصَّلَاةِ
فَعَادَ إلَى الْوُضُوءِ ثُمَّ شَكَّ قبل أَنْ يَعُودَ إلَى الصَّلَاةِ
فَتَفَكَّرَ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ حتى يَجِبَ عليه سُجُودُ السَّهْوِ في الْحَالَيْنِ
جميعا إذَا طَالَ تَفَكُّرُهُ لِأَنَّهُ في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان غير
مُؤَدٍّ لها وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الشَّكِّ في الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى سُجُودِ
السَّهْوِ
وَأَمَّا حُكْمُ الشَّكِّ في الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبِنَاءِ
وَالِاسْتِقْبَالِ فَنَقُولُ إذَا سَهَا في صَلَاتِهِ فلم يَدْرِ أَثَلَاثًا صلى
أَمْ أَرْبَعًا فَإِنْ كان ذلك أَوَّلَ ما سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ أول ما سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لم يَصِرْ عَادَةً له لَا
أَنَّهُ لم يَسْهُ في عُمُرِهِ قَطُّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْنِي على
الْأَقَلِّ
احْتَجَّ بِمَا رَوَى أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا شَكَّ أحدكم في صَلَاتِهِ فلم يَدْرِ
أَثَلَاثًا صلى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَلْغِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ على الْأَقَلِّ
أَمَرَ بِالْبِنَاءِ على الْأَقَلِّ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا
أَخْذًا بِالْيَقِينِ من غَيْرِ إبْطَالِ الْعَمَلِ فَكَانَ أَوْلَى
وَلَنَا ما رَوَى عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال إذَا شَكَّ أحدكم في صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صلى فَلِيَسْتَقْبِلْ
الصَّلَاةَ أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَكَذَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَر وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا هَكَذَا
وروى عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلِأَنَّهُ لو اسْتَقْبَلَ أَدَّى
الْفَرْضَ بِيَقِينٍ كَامِلًا وَلَوْ بَنَى على الْأَقَلِّ ما أَدَّاهُ كَامِلًا
لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي زِيَادَةً على الْمَفْرُوضِ وَإِدْخَالُ الزِّيَادَةِ
في الصَّلَاةِ نُقْصَانٌ فيها وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ
بِأَنْ كان أَدَّى أَرْبَعًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَدَّى ثَلَاثًا فَبَنَى على الْأَقَلِّ
وَأَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى قبل أَنْ يَقْعُدَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ
الِاسْتِقْبَالَ ليس إبْطَالًا لِلصَّلَاةِ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ
أَكْمَلَ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا وَالْإِكْمَالُ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالِاسْتِقْبَالِ على ما مَرَّ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ما إذَا وَقَعَ ذلك له مِرَارًا ولم يَقَعْ تَحَرِّيهِ
على شَيْءٍ بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا هذا إذَا كان ذلك أَوَّلَ ما سَهَا فَإِنْ كان
يَعْرِضُ له ذلك كَثِيرًا تَحَرَّى وَبَنَى على ما وَقَعَ عليه التَّحَرِّي في
ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْنِي على
الْأَقَلِّ
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَيْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى من غَيْرِ
فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَرِّي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ
هَهُنَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُ الْيَقِينِ بِدُونِهِ بِأَنْ يَبْنِيَ على
الْأَقَلِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرِّي
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا شَكَّ أحدكم في صَلَاتِهِ فلم يَدْرِ
أَثَلَاثًا صلى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ
وَلْيَبْنِ عليه وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عليه الْوُصُولُ إلَى ما اشْتَبَهَ عليه
بِدَلِيلٍ من الدَّلَائِلِ وَالتَّحَرِّي عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ
مَشْرُوعٌ كما في أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ
عَسَى أَنْ يَقَعَ ثَانِيًا وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إلَى ما لَا
يَتَنَاهَى وَلَا وَجْهَ لِلْبِنَاءِ على الْأَقَلِّ
____________________
(1/165)
لِأَنَّ
ذلك لَا يُوَصِّلهُ إلَى ما عليه لِمَا مَرَّ في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ على ما إذَا تَحَرَّى ولم يَقَعْ تَحَرِّيهِ
على شَيْءٍ وَعِنْدَنَا إذَا تَحَرَّى ولم يَقَعْ تَحَرِّيهِ على شَيْءٍ يَبْنِي
على الْأَقَلِّ وَكَيْفِيَّةُ الْبِنَاءِ على الْأَقَلِّ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ
الشَّكُّ في الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ يجعلهما ( ( ( يجعلها ) ) ) رَكْعَةً
وَاحِدَةً وإذا وَقَعَ الشَّكُّ في الركعة ( ( ( الركعتين ) ) ) والركعتين والثلاث
( ( ( الثلاث ) ) ) جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ في الثَّلَاثِ
وَالْأَرْبَعِ جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ على ذلك وَعَلَيْهِ أَنْ
يَتَشَهَّدَ لَا مَحَالَةَ في كل مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ
لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّفْلِ قبل
إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ له فَلِذَلِكَ يَقْعُدُ وَأَمَّا الشَّكُّ في
أَرْكَانِ الْحَجِّ
ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ ذلك إنْ كان يَكْثُرُ يَتَحَرَّى أَيْضًا كما في بَابِ
الصَّلَاةِ وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ وَالْفَرْقُ إن
الزِّيَادَةَ في بَابِ الْحَجِّ وَتَكْرَارَ الرُّكْنِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ
فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ في بَابِ الصَّلَاةِ
إذَا كانت الركعة ( ( ( ركعة ) ) ) فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا وُجِدَتْ
قبل الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي أَحْوَطَ من
الْبِنَاءِ على الْأَقَلِّ
وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَالْأَذْكَارُ التي يَتَعَلَّقُ سُجُودُ السَّهْوِ بها
أَرْبَعَةٌ الْقِرَاءَةُ وَالْقُنُوتُ وَالتَّشَهُّدُ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ
أَمَّا الْقِرَاءَةُ فإذا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ قَرَأَ في
الْأُخْرَيَيْنِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ على
التَّعْيِينِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِنَّمَا الْفَرْضُ
في رَكْعَتَيْنِ منها غَيْرِ عَيْنٍ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَاهِيًا يُوجِبُ
السَّهْوَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هِيَ فَرْضٌ في الْأُولَيَيْنِ عَيْنًا وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ
في الْأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ تَرْكِهَا في الْأُولَيَيْنِ قَضَاءً عن الأوليين فإذا
تَرَكَهَا في الْأُولَيَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا فَقَدْ غَيَّرَ الْفَرْضَ عن
مَحَلِّ أَدَائِهِ سَهْوًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ
وَلَوْ سَهَا عن الْفَاتِحَةِ فِيهِمَا أو في إحْدَاهُمَا أو عن السُّورَةِ
فِيهِمَا أو في إحْدَاهُمَا فَعَلَيْهِ السَّهْوُ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ
على التَّعْيِينِ في الْأُولَيَيْنِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا
قِرَاءَةُ السُّورَةِ على التَّعْيِينِ أو قِرَاءَةُ مِقْدَارِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ
وَهِيَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَاجِبَةٌ فَيَتَعَلَّقُ السُّجُودُ بِالسَّهْوِ عنهما
وَلَوْ غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ سَهْوًا بِأَنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ أو
خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ
فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا فَإِنْ كان إمَامًا
سَجَدَ لِلسَّهْوِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا سَهْوَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ من هَيْئَةِ الرُّكْنِ وهو
الْقِرَاءَةُ فَيَكُونُ سُنَّةً كَهَيْئَةِ كل رُكْنٍ نحو الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ
وَهَيْئَةِ الْقَعْدَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ
وَاجِبَةٌ على الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ
الرِّوَايَاتُ عن أَصْحَابِنَا في مِقْدَارِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ
السَّهْوِ من الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ ذُكِرَ في نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ
وَفَصَلَ بين الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ في الْمِقْدَارِ فقال إنْ جَهَرَ فِيمَا
يُخَافَتُ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ ذلك أو كَثُرَ
وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كان في أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ أو في
ثَلَاثِ آيَاتٍ من غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ وَإِلَّا فَلَا
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ التَّسْوِيَةَ بين الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ
تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ في ثَلَاثِ آيَاتٍ أو أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ
السَّهْوِ وَإِلَّا فَلَا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ في آيَةٍ
وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا جَهَرَ بِحَرْفٍ يَسْجُدُ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ أَلْزَمُ
من الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَتَخَيَّرُ بين
الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ وَلَا خِيَارَ له فِيمَا يُخَافَتُ فإذا جَهَرَ فِيمَا
يُخَافَتُ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ في الصَّلَاةِ بِنَفْسِ الْجَهْرِ
فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ فَأَمَّا بِنَفْسِ الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ
فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ ما لم يَكُنْ مِقْدَارَ ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) )
آيَاتٍ أو أَكْثَرَ
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ ما رُوِيَ عن أبي قَتَادَةَ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم كان يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ أَحْيَانًا في
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَهَذَا جَهْرٌ فِيمَا يُخَافَتُ فإذا ثَبَتَ فيه ثَبَتَ في
الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ الْحَدِيثُ
مُقَدَّرًا بِآيَةٍ أو آيَتَيْنِ ولم يَرِدْ بِأَزْيَدَ من ذلك كانت الزِّيَادَةُ
تَرْكًا لِلْوَاجِبِ فَيُوجِبُ السَّهْوَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِنَاءً على أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَة عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كانت قَصِيرَةً فإذا غَيَّرَ
صِفَةَ الْقِرَاءَةِ في هذا الْقَدْرِ تَعَلَّقَ بِهِ السَّهْوُ وَعِنْدَهُمَا لَا
يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ أو ثَلَاثِ آيَاتٍ
قِصَارٍ فما لم يَتَمَكَّنْ التَّغْيِيرَ في هذا الْمِقْدَارِ لَا يَجِبُ السَّهْوُ
هذا إذَا كان إمَامًا
فَأَمَّا إذَا كان مُنْفَرِدًا فَلَا سَهْوَ عليه أَمَّا إذَا خَافَتَ فِيمَا
يُجْهَرُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بين الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ
لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَهْرَ على الْإِمَامِ إنَّمَا وَجَبَ
تَحْصِيلًا لِثَمَرَةِ الْقِرَاءَةِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي وَهَذَا الْمَعْنَى لَا
يُوجَدُ في حَقِّ الْمُنْفَرِدِ فلم يَجِبْ الْجَهْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النَّقْصُ
في الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ وَكَذَا إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ لِأَنَّ
الْمُخَافَتَةَ في الْأَصْلِ إنَّمَا وَجَبَتْ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عن
الْمُغَالَبَةِ وَاللَّغْوِ فيها
____________________
(1/166)
لِأَنَّ
صِيَانَةَ الْقِرَاءَةِ عن ذلك وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ في الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ
على طَرِيقِ الِاشْتِهَارِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ
فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فما كان يُوجَدُ فيها الْمُغَالَبَةُ فلم تَكُنْ
الصِّيَانَةُ بِالْمُخَافَتَةِ وَاجِبَةً فلم يَتْرُكْ الْوَاجِبَ فَلَا
يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فَأَخْطَأَ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَا سَهْوَ
عليه لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو تَغْيِيرُ فَرْضٍ أو وَاجِبٍ أو تَرْكُهُ
إذْ لَا تَوْقِيتَ في الْقِرَاءَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال فِيمَنْ
قَرَأَ الْحَمْدُ مَرَّتَيْنِ في الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ لِأَنَّهُ
أَخَّرَ السُّورَةَ بِتَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ قَرَأَ الْحَمْدُ ثُمَّ
السُّورَةَ ثُمَّ الْحَمْدُ لَا سَهْوَ عليه وَصَارَ كَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً
طَوِيلَةً ( ولو قرأ الحمد في الأخريين مرتين لا سهو عليه ) وَلَوْ تَشَهَّدَ
مَرَّتَيْنِ لَا سَهْوَ عليه وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ في رُكُوعِهِ أو في
سُجُودِهِ أو في قِيَامِهِ لَا سَهْوَ عليه لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَهَذِهِ
الْأَرْكَانُ مَوَاضِعُ الثَّنَاءِ وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَتَرْكُهُ سَهْوًا
يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ إذَا تَرَكَهَا أو نَقَصَ منها لِأَنَّهَا
وَاجِبَةٌ وَكَذَا إذَا زَادَ عليها أو أتى بها في غَيْرِ مَوْضِعِهَا لِأَنَّهُ
يَحْصُلُ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أو وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ إذَا
سَهَا عنها في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قبل السَّلَامِ أو
بَعْدَ ما سَلَّمَ سَاهِيًا قَرَأَهَا وسلم وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّهَا
وَاجِبَةٌ وَأَمَّا في الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ في هذا وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَوَاءٌ
وَلَا سَهْوَ عليه لِأَنَّ هذه الْأَذْكَارَ سُنَّةٌ وَلَا يَتَمَكَّنُ
بِتَرْكِهَا كَبِيرُ نُقْصَانٍ في الصَّلَاةِ فَلَا يُوجِبُ السَّهْوَ كما إذَا
تَرَكَ الثَّنَاءَ وَالتَّعَوُّذَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذه الْأَذْكَارَ وَاجِبَةٌ أَمَّا وُجُوبُ
الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ فَلِمَا يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ وَأَمَّا
وُجُوبُ التَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَلِمُوَاظَبَةِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم على قِرَاءَتِهِ ومواضبة ( ( ( ومواظبة ) ) ) الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ على قراءته وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ من الثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ
وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا سَهْوَ فيها
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إذَا سَهَا عن ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قِيَاسًا على
تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَهَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ لِمَا يُذْكَرُ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بها
السَّهْوُ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهَا من
السُّنَنِ وَنُقْصَانُ السُّنَّةِ لَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ لِأَنَّ
سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ وَلَا يَجِبُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِمَا هو فَوْقَ
الْفَائِتِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْجَبِرُ بمثله وَلِهَذَا
لَا يَتَعَلَّقُ السَّهْوُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا لِأَنَّ النَّقْصَ
الْمُتَمَكِّنَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا فَوْقَ النَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ
بِتَرْكِهِ سَهْوًا وَالشَّرْعُ لَمَّا جَعَلَ السُّجُودَ جَابِرًا لِمَا فَاتَ
سَهْوًا كان مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا وإذا كان مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا
كان دُونَ ما فَاتَ عَمْدًا وَالشَّيْءُ لَا يَنْجَبِرُ بِمَا هو دُونَهُ
وَلِهَذَا لَا يَنْجَبِرُ بِهِ النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ بِفَوَاتِ الْفَرْضِ
وَلَوْ سَلَّمَ عن يَسَارِهِ قبل سَلَامِهِ عن يَمِينِهِ فَلَا سَهْوَ عليه
لِأَنَّ التَّرْتِيبَ في السَّلَامِ من بَابِ السُّنَنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
سُجُودُ السَّهْوِ وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا
سَهْوَ عليه لِأَنَّهُ لم يَتْرُكْ وَاجِبًا من وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَلَوْ
سَهَا في صَلَاتِهِ مِرَارًا لَا يَجِبُ عليه إلَّا سَجْدَتَانِ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لِقَوْلِهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلِأَنَّ كُلَّ
سَهْوٍ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فَيَسْتَدْعِي جَابِرًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال سَجْدَتَانِ
تُجْزِيَانِ لِكُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى
وَسَجَدَ لها سَجْدَتَيْنِ وكان سَهَا عن الْقَعْدَةِ وَعَنْ التَّشَهُّدِ حَيْثُ
تَرَكَهُمَا وَعَنْ الْقِيَامِ حَيْثُ أتى بِهِ في غَيْرِ مَحَلِّهِ ثُمَّ لم
يَزِدْ على سَجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ كَافِيَتَانِ وَلِأَنَّ
سُجُودَ السَّهْوِ إنَّمَا أُخِّرَ عن مَحَلِّ النُّقْصَانِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ
لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى تَكْرَارِهِ لوقوع السَّهْوُ بَعْدَ ذلك وَإِلَّا لم
يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على جِنْسِ السَّهْوِ
الْمَوْجُودِ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَنَّهُ عَيْنُ السَّهْوِ بِدَلِيلِ ما
ذَكَرْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْمَتْرُوكِ سَاهِيًا هل يقضي أَمْ لَا فنقول ( ( ( نقول
) ) ) وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْمَتْرُوكَ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ
السَّهْوِ من الْفَرَائِضِ والواجب ( ( ( والواجبات ) ) ) لَا يَخْلُو إمَّا إن
كان من الْأَفْعَالِ أو من الْأَذْكَارِ وَمِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ كان واجبا ( (
( وجب ) ) ) أَنْ يَقْضِيَ إنْ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ وَإِنْ لم
يُمْكِنْ فَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ فَرْضًا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كان
وَاجِبًا لَا تَفْسُدُ وَلَكِنْ تُنْتَقَصُ وَتَدْخُلُ في حَدِّ الْكَرَاهَةِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ
أَمَّا الْأَفْعَالُ فإذا تَرَكَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً من رَكْعَةٍ ثُمَّ
تَذَكَّرَهَا آخِرَ الصَّلَاةِ قَضَاهَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَقْضِيهَا وَيَقْضِي ما بَعْدَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما صلى بَعْدَ الْمَتْرُوكِ حَصَلَ قبل
____________________
(1/167)
أَوَانِهِ
فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّ هذه عِبَادَةٌ شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً فَلَا
تُعْتَبَرُ بِدُونِ التَّرْتِيبِ كما لو قَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ
أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا
بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وقد وُجِدَتْ الرَّكْعَةُ الْأُولَى لِأَنَّ
الرَّكْعَةَ تَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عليها اسْمُ الصَّلَاةِ حتى لو حَلَفَ لَا
يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ فَكَانَ أَدَاءُ
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُعْتَبَرًا مُعْتَدًّا بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا
قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ بِخِلَافِ ما إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ
لِأَنَّ السُّجُودَ ما صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ
لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَةُ بِدُونِ الرُّكُوعِ لَا تَتَحَقَّقُ فلم
يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا تَذَكَّرَ
سَجْدَتَيْنِ من رَكْعَتَيْنِ في آخِرِ الصَّلَاةِ قَضَاهُمَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ
عِنْدَنَا وَيَبْدَأُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا ثُمَّ بِالثَّانِيَةِ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ على حَسَبِ الْأَدَاءِ ثُمَّ الثَّانِيَةُ مُرَتَّبَةٌ على الْأُولَى
في الْأَدَاءِ فَكَذَا في الْقَضَاءِ وَلَوْ كانت إحْدَاهُمَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ
تَرَكَهَا من الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالْأُخْرَى صُلْبِيَّةٌ تَرَكَهَا من
الثَّانِيَةِ يُرَاعِي التَّرْتِيبَ أَيْضًا فَيَبْدَأُ بِالتِّلَاوَةِ وعند
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال زُفَرُ يَبْدَأُ بِالثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا أَقْوَى
وَلَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ وقد تَقَدَّمَ وُجُوبُ
التِّلَاوَةِ أَدَاءً فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا في الْقَضَاءِ
وَلَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً وهو رَاكِعٌ أو سَاجِدٌ لَخَرَّ لها من
رُكُوعِهِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ من سُجُودِهِ فَسَجَدَهَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَعُودَ
إلَى حُرْمَةِ هذه الْأَرْكَانِ فَيُعِيدَهَا لِيَكُونَ على الْهَيْئَةِ
الْمَسْنُونَةِ وَهِيَ التَّرْتِيبُ وَإِنْ لم يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ
في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرْضٌ عِنْدَهُ فَالْتَحَقَتْ هذه السَّجْدَةُ
بِمَحَلِّهَا فَبَطَلَ ما أَدَّى من الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ
لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ وَعِنْدَنَا التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ
ليس بِفَرْضٍ وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فيه
دُونَ ما سَبَقَهُ وَلَئِنْ كان فَرْضًا فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ
فَوَقَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مُعْتَبَرًا لِمُصَادِفَتِهِ مَحَلَّهُ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّ عليه إعَادَةَ الرُّكُوعِ إذَا خَرَّ لها من الرُّكُوعِ
بِنَاءً على أَصْلِهِ
أَنَّ الْقَوْمَةَ التي بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ
بِخِلَافِ ما إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ في رُكُوعِهِ أو سُجُودِهِ أَنَّهُ
يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ ما أَحْدَثَ فيه لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْجُزْءَ
الذي لاقاه الْحَدَثُ من الرُّكْنِ قد فَسَدَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ
كُلَّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هذا
الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ في حَقِّ جَوَازِ الْبِنَاءِ فَيُعْمَلُ
بِهِ في حَقِّ الرُّكْنِ الذي أَحْدَثَ فيه
وَلَوْ لم يَسْجُدْهَا حتى سَلَّمَ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ
لها أو سَاهٍ عنها فَإِنْ سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ لها فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان
سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ يُوجِبُ الْخُرُوجَ
عن الصَّلَاةِ إلَّا سَلَامَ من عليه السَّهْوُ وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُوجِبُ
الْخُرُوجَ عن الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّلَامَ مُحَلِّلٌ في الشَّرْعِ قال النبي
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ مُضَادٌّ
لِلصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عن الْعَمَلِ حَالَةَ السَّهْوِ
ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَسْلَمُ عن
النِّسْيَانِ وفي حَقِّ من عليه سَهْوٌ ضَرُورَةَ التمكن ( ( ( تمكنه ) ) ) من
سُجُودِ السَّهْوِ وَلَا ضَرُورَةَ في غَيْرِ حَالَةِ السَّهْوِ في حَقِّ من لَا
سَهْوَ عليه فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مُحَلِّلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ
إذَا عَرَفْنَا هذا فَنَقُولُ إذَا سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ أَنَّ عليه سَجْدَةً
صُلْبِيَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ سَلَامَ
الْعَمْدِ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ وقد بَقِيَ عليه رُكْنٌ من أَرْكَانِهَا وَلَا
وُجُودَ لِلشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ وَإِنْ كان سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ
مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ على ما مَرَّ ثُمَّ إنْ سَلَّمَ
وهو في مَكَانِهِ لم يَصْرِفْ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ ولم يَتَكَلَّمْ يعود ( ( (
يعد ) ) ) إلَى قَضَاءِ ما عليه وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ
وإذا عَادَ إلَى السَّجْدَةِ يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فيها
وَلَكِنْ لَا يَعْتَدُّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ لِأَنَّهُ لم يُدْرِكْ الرُّكُوعَ
وَيُتَابِعُهُ في التَّشَهُّدِ دُونَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ
يُتَابِعهُ في سُجُودِ السَّهْوِ فإذا سَلَّمَ الْإِمَامُ سَاهِيًا لَا
يُتَابِعُهُ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ وَإِنْ لم يَعُدْ
الْإِمَامُ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ بَقِيَ عليه
رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِفَسَادِ
صَلَاةِ الْإِمَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ
وَفَائِدَةُ صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِهِ أَنَّهُ لو كان اقْتَدَى بِهِ بِنِيَّةِ
التَّطَوُّعِ في صَلَاةِ الظُّهْرِ أو الْعَصْرِ أو الْعِشَاءِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ
أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إنْ كان الْإِمَامُ مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ
قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ
وَأَمَّا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ فَإِنْ كان في الْمَسْجِدِ ولم
يَتَكَلَّمْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعُودَ
وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عن الْقِبْلَةِ مفسدة ( ( ( مفسد ) ) )
لِلصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فَكَانَ مَانِعًا من الْبِنَاءِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ في حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ
لِأَنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ صَحَّ اقْتِدَاءُ من هو في
____________________
(1/168)
الْمَسْجِدِ
بِالْإِمَامِ وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ يَمْنَعُ
صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَكَانَ بَقَاؤُهُ فيه كَبَقَائِهِ في مَكَانِ صَلَاتِهِ
وَصَرْفُ الْوَجْهِ عن الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ في غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ
وَالضَّرُورَةِ فَأَمَّا في حَالِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ فَلَا بِخِلَافِ
الْكَلَامِ لِأَنَّهُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ فَيَسْتَوِي فيه الْحَالَانِ
وَإِنْ كان خَرَجَ من الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يعود ( ( ( يعد ) ) ) وَتَفْسُدْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْخُرُوجَ من مَكَانِ الصَّلَاةِ مَانِعٌ من الْبِنَاءِ وقد
بَقِيَ عليه رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ
وَأَمَّا إذَا كان في الصَّحْرَاءِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قبل أَنْ يُجَاوِزَ
الصُّفُوفَ من خَلْفِهِ أو من قِبَلِ الْيَمِينِ أو الْيَسَارِ عَادَ إلَى قَضَاءِ
ما عليه وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ ذلك الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ
الْتَحَقَ بِالْمَسْجِدِ وَلِهَذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ
وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ لم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ وَقِيلَ إنْ مَشَى قَدْرَ
الصُّفُوفِ التي خَلْفَهُ عَادَ وَبَنَى وَإِلَّا فَلَا
وهو مَرْوِيٌّ عن أبي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ
وَقِيلَ إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ لَا يَعُودُ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّ ذلك
الْقَدْرَ في حُكْمِ خُرُوجِهِ من الْمَسْجِدِ فَكَانَ مَانِعًا من الْبِنَاءِ
وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ كان يَعُودُ ما لم
يُجَاوِزْهَا لِأَنَّ دَاخِلَ السُّتْرَةِ في حُكْمِ الْمَسْجِدِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ فَإِنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ
سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ أو قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَإِنْ سَلَّمَ وهو
ذَاكِرٌ لها سَقَطَتْ عنه لأنه سَلَامَهُ سَلَامَ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عن
الصَّلَاةِ حتى لو اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ وَلَوْ ضَحِكَ
قَهْقَهَةً لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ
وَلَوْ كان مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا
وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لم يَبْقَ عليه رُكْنٌ من أَرْكَانِ
الصَّلَاةِ لَكِنَّهَا تُنْتَقَصُ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كان سَاهِيًا عنها
لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُ عن الصَّلَاةِ حتى يَصِحَّ
الِاقْتِدَاءُ بِهِ
وَيُنْتَقَضُ وضوؤه بِالْقَهْقَهَةِ وَيَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ
الْإِقَامَةِ لو كان مُسَافِرًا أَرْبَعًا
ثُمَّ الْأَمْرُ في الْعَوْدِ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ
على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الصُّلْبِيَّةِ غير أَنَّ هَهُنَا لو
تَذَكَّرَ بَعْدَ ما خَرَجَ عن الْمَسْجِدِ أو جَاوَزَ الصُّفُوفَ سَقَطَ عنه
وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ وقد
وُجِدَتْ إلَّا أنها تُنْتَقَصُ لِمَا بَيَّنَّا
ثُمَّ الْعَوْدُ إلَى هذه الْمَتْرُوكَاتِ وَهِيَ السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ
وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ حتى لو
تَكَلَّمَ أو قَهْقَهَ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْعَوْدِ
إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وقد مَرَّ الْفَرْقُ
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَتَا سَهْوٍ فَإِنْ
سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ لَهُمَا أو لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وقد بَقِيَ عليه رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَإِنْ
كان سَاهِيًا عنهما ( ( ( عنها ) ) ) وَذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ أَمَّا إذَا كان سَاهِيًا عنهما فَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا إذَا كان ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ لِأَنَّهُ سَلَامُ من عليه السَّهْوُ
وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ أَوَّلًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَيَتَشَهَّدَ
لِأَنَّ تَشَهُّدَهُ اُنْتُقِضَ بِالْعَوْدِ إلَيْهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ
يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ فَإِنْ كان ذَاكِرًا
لَهُمَا أو لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً سَقَطَتَا عنه لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ
فَيُخْرِجُهُ عن الصَّلَاةِ وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ كان سَاهِيًا عنهما أو ذَاكِرًا لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ خَاصَّةً لَا
يَسْقُطَانِ عنه لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ أو سَلَامُ من عليه السَّهْوُ
وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ التِّلَاوَةَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَشَهَّدَ لِمَا مَرَّ
ثُمَّ يُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَإِنْ
كان سَاهِيًا عنهما يَعُودُ فيقضيهما ( ( ( فيقضهما ) ) ) الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ
وَإِنْ كان ذَاكِرًا لَهُمَا أو لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَإِنْ كان ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى هذا إذَا كان عليه مع الصُّلْبِيَّةِ
وَالتِّلَاوَةِ سَجْدَتَا السَّهْوِ إنْ كان سَاهِيًا عن الْكُلِّ أو ذاكر ( ( (
ذاكرا ) ) ) لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ
فَيَعُودُ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إنْ كانت الصُّلْبِيَّةَ أَوَّلًا
بَدَأَ بها
وَإِنْ كانت التِّلَاوَةُ أَوَّلًا بَدَأَ بها عِنْدَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما
مَرَّ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ
وَإِنْ كان ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ
سَلَامُ عَمْدٍ وَإِنْ كان ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ سَاهِيًا عن الصُّلْبِيَّةِ
فَكَذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمَامِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ في
الْفَصْلَيْنِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ سَلَامَهُ في حَقِّ الرُّكْنِ سَلَامُ سَهْوٍ وَذَا لَا يُوجِبُ
فَسَادَ الصَّلَاةِ وَبَعْضُ الطَّاعِنِينَ على مُحَمَّدٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ
قَرَّرُوا هذا الْوَجْهَ فَقَالُوا إنَّ هذا سَلَامُ سَهْوٍ في حَقِّ الرُّكْنِ
وَسَلَامُ عَمْدٍ في حَقِّ الْوَاجِبِ وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُهُ
وَسَلَامُ الْعَمْدِ يُخْرِجُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالتَّحْرِيمَةُ صَحِيحَةٌ
فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ ما إذَا كان ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ غير
ذَاكِرٍ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرُّكْنِ على جَانِبِ
الْوَاجِبِ وَفِيمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ تَرْجِيحُ جَانِبِ
____________________
(1/169)
الْوَاجِبِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنَّ هذا الطَّعْنَ فَاسِدٌ لِأَنَّ جَانِبَ الْعَمْدِ
يُخْرِجُ وَجَانِبَ الشَّكِّ مَسْكُوتٌ عنه لَا يُخْرِجُ وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ
عن الْإِخْرَاجِ فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بين الْوَاجِبِ وَالرُّكْنِ وَإِنَّمَا
يَقَعُ التَّعَارُضُ أَنْ لو كان أَحَدُهُمَا مُخْرِجًا وَالْآخَرُ مُبْقِيًا
وَهَهُنَا جَانِبُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْخُرُوجَ وَجَانِبُ الرُّكْنِ لَا يُوجِبُ
وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عن الْإِخْرَاجِ فَأَنَّى يَقَعُ التَّعَارُضُ
على أَنَّ كُلَّ سَلَامٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا لِأَنَّهُ جُعِلَ
مُحَلِّلًا شَرْعًا لِقَوْلِ النبي وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَلِأَنَّهُ من
بَابِ الْكَلَامِ على ما مَرَّ إلَّا أَنَّهُ مَنَعَ من الْإِخْرَاجِ حَالَةَ
السَّهْوِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ وَلَا
يُكْرَهُ سَلَامُ من عَلِمَ أَنَّ عليه الْوَاجِبَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ
الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ فَبَقِيَ مُخْرَجًا على أَصْلِ
الْوَضْعِ
وَلِأَنَّا لو لم نَحْكُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ حتى لو أتى بِالصُّلْبِيَّةِ
يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَأْتِي بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا
لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ
لِلتِّلَاوَةِ فَكَانَ سَلَامَ عَمْدٍ في حَقِّهِ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ
الْأَخِيرِ في هذا الْحُكْمِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ
بِأَنْ كان مُحْرِمًا وهو في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ من
ذلك سَوَاءٌ كان سَاهِيًا عن الْكُلِّ أو ذَاكِرًا لِلْكُلِّ لِأَنَّ مَوْضِعَ هذه
الْأَشْيَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ فإذا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَأَ بِالسَّهْوِ
ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ
بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّكْبِيرُ يُؤْتَى بِهِ في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا
في تَحْرِيمَتِهَا وَالتَّلْبِيَةُ لَا تَخْتَصُّ بِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ سَقَطَ عنه السَّهْوُ وَالتَّكْبِيرُ وَكَذَا إذَا
لَبَّى بَعْدَ السَّهْوِ قبل التَّكْبِيرِ سَقَطَ عنه التَّكْبِيرُ لِأَنَّ
سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّكْبِيرُ يَخْتَصُّ
بِحُرْمَتِهَا وقد بَطَلَ ذلك كُلُّهُ بِالتَّلْبِيَةِ لِأَنَّهَا كَلَامٌ
لِكَوْنِهَا جَوَابًا لِخِطَابِ إبْرَاهِيمَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَذِّنْ في
الناس بِالْحَجِّ }
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَسْقُطُ عنه السَّهْوُ لِأَنَّهُ كَلَامُ
قُرْبَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ
السَّلَامِ لِأَنَّهُ لم يَقَعْ مَوْقِعَهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ في
الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ
وَالسَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كان مُحْرِمًا في أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ فَإِنْ كان ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ أو
لِلصُّلْبِيَّةِ دُونَ التِّلَاوَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَا إذَا كان ذَاكِرًا
لِلتِّلَاوَةِ دُونَ الصُّلْبِيَّةِ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ كان سَاهِيًا عنها لَا يَخْرُجُ عن الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ
لِكُلِّ وَاحِدَةٍ منهما الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مِنْهُمَا ثُمَّ يَتَشَهَّدُ
بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ
ثم يسلم ثُمَّ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُلَبِّي لِمَا مَرَّ
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ قبل هذه الْأَشْيَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ
بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا تَفْسُدُ لِمَا مَرَّ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ
بَعْدَ السَّلَامِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ خَارِجُ الصَّلَاةِ في حُرْمَتِهَا فإذا
كَبَّرَ في الصَّلَاةِ لم يَقَعْ مَوْقِعَهُ فَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ
وَأَمَّا إذَا كان الْمَتْرُوكُ رُكُوعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه الْقَضَاءُ
وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ من رَكْعَةٍ
وَبَيَانُ ذلك إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ قبل أَنْ يَرْكَعَ
ثُمَّ قام إلَى الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَهَذَا قد صلى رَكْعَةً
وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ هذا الرُّكُوعُ قَضَاءً عن الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إذَا لم
يَرْكَعْ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ السُّجُودِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ
لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَالْتَحَقَ السُّجُودُ بِالْعَدَمِ
فَكَأَنَّهُ لم يَسْجُدْ فَكَانَ أَدَاءُ هذا الرُّكُوعِ في مَحَلِّهِ فإذا أتى
بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ صَارَ مُؤَدِّيًا رَكْعَةً تَامَّةً
وَكَذَا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ ولم يَسْجُدْ ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ فَقَرَأَ ولم يَرْكَعْ ثُمَّ سَجَدَ فَهَذَا قد صلى رَكْعَةً وَاحِدَةً
وَلَا يَكُونُ هذا السُّجُودُ قَضَاءً عن الْأَوَّلِ لِأَنَّ رُكُوعَهُ وَقَعَ
مُعْتَبَرًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وقد
وُجِدَتْ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ على أَنْ تَتَقَيَّدَ بِالسَّجْدَةِ فإذا قام
وَقَرَأَ لم يَقَعْ قِيَامُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ مُعْتَدًّا بِهِ لِأَنَّهُ لم
يَقَعْ في مَحَلِّهِ فَلَغَا فإذا سَجَدَ صَادَفَ السُّجُودُ مَحَلَّهُ
لِوُقُوعِهِ بَعْدَ رُكُوعٍ مُعْتَبَرٍ فَتَقَيَّدَ رُكُوعُهُ بِهِ فَقَدْ وجه
انْضِمَامُ السَّجْدَتَيْنِ إلَى الرُّكُوعِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً
وَكَذَا إذَا قَرَأَ وركع ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ
فَإِنَّمَا صلى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ تقدم ( ( ( تقدمه ) ) ) رُكُوعَانِ
وَوُجِدَ السُّجُودُ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا وَيَلْغُو الْآخَرَ غير أَنَّ في
بَابِ الْحَدَثِ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ وفي بَابِ السَّهْوِ
من نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ حتى
أَنَّ من أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ على
رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ وَعَلَى رِوَايَةِ هذا الْبَابِ يَصِيرُ مُدْرِكًا
لِلرَّكْعَةِ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ بَابِ الْحَدَثِ لِأَنَّ رُكُوعَهُ
الْأَوَّلَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَوَقَعَ الثَّانِي
مُكَرَّرًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فإذا سَجَدَ يَتَقَيَّدُ بِهِ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ
فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ
____________________
(1/170)
ولم
يَرْكَعْ وَسَجَدَ ثُمَّ قام فَقَرَأَ وَرَكَعَ ولم يَسْجُدْ ثُمَّ قام فَقَرَأَ
ولم يَرْكَعْ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صلى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ سُجُودَهُ
الْأَوَّلَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ قبل الرُّكُوعِ فلم يَقَعْ
مُعْتَدًّا بِهِ فإذا قرى ( ( ( قرأ ) ) ) وَرَكَعَ تَوَقَّفَ هذا الرُّكُوعُ على
أَنْ يَتَقَيَّدَ بِسُجُودِهِ بَعْدَهُ فإذا سَجَدَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ تَقَيَّدَ
ذلك الرُّكُوعُ بِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ في
الْأُولَى ولم يَسْجُدْ ثُمَّ رَكَعَ في الثَّانِيَةِ ولم يَسْجُدْ وَسَجَدَ في
الثَّالِثَةِ ولم يَرْكَعْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صلى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِمَا
مَرَّ غير أَنَّ هذا السُّجُودَ يَلْتَحِقُ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ أَمْ
بِالثَّانِي فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ على ما مَرَّ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ في
هذه الْمَوَاضِعِ لِإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ إدْخَالَ
الزِّيَادَةِ في الصَّلَاةِ نَقْصٌ فيها
وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا في رِوَايَةٍ عن مُحَمَّدٍ فإنه يقول زِيَادَةُ
السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ
السَّجْدَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْبَةٌ وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ وَعِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ إلَّا
سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ
ثُمَّ إدْخَالُ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ أو السُّجُودِ الزَّائِدِ لَا يُوجِبُ
فَسَادَ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ لَا تَفْسُدُ
بِوُجُودِ أَفْعَالِهَا بَلْ بِوُجُودِ ما يُضَادُّهَا بِخِلَافِ ما إذَا زَادَ
رَكْعَةً كَامِلَةً لِأَنَّهَا فِعْلُ صَلَاةٍ كاملا ( ( ( كامل ) ) ) فَانْعَقَدَ
نَفْلًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ فَلَا يَبْقَى في الْفَرْضِ ضَرُورَةٌ
لِمَكَانِ فَسَادِ فَرْضٍ بهذا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ بِخِلَافِ
زِيَادَةِ ما دُونَ الرَّكْعَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِعْلٍ كَامِلٍ لِيَصِيرَ
مُنْتَقِلًا إلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ
إمَّا بِوُجُودِ ما يُضَادُّهَا أو بِالِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهَا وقد انْعَدَمَ
الْأَمْرَانِ جميعا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى
الْخَامِسَةِ فَإِنْ لم يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ
لِأَنَّهُ لَمَّا لم يُقَيِّدْ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يَكُنْ رَكْعَةً فلم
يَكُنْ فِعْلَ صَلَاةٍ كَامِلًا وما لم يَكْمُلْ بَعْدُ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ على
الِاسْتِقْرَارِ فَكَانَ قَابِلًا لِلرَّفْعِ وَيَكُونُ رَفْعُهُ في الْحَقِيقَةِ
دَفْعًا وَمَنْعًا عن الثُّبُوتِ فَيُدْفَعُ لِيَتَمَكَّنَ من الْخُرُوجِ عن
الْفَرْضِ وهو الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قام
إلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَعَادَ وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ
بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ وَفَسَدَ فَرْضُهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَيَعُودُ بِنَاءً على أَنَّ
الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ عِنْدَهُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى
النَّقْصِ لِبَقَاءِ فَرْضٍ عليه وهو الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ
وإنا نَقُولُ وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وقد انْعَقَدَ
نَفْلًا فَصَارَ بِهِ خَارِجًا عن الْفَرْضِ لِأَنَّ من ضَرُورَةِ حُصُولِهِ في
النَّفْلِ خُرُوجَهُ عن الْفَرْضِ لِتَغَايُرِهُمَا فَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ
فِيهِمَا وقد حَصَلَ في النَّفْلِ فَصَارَ خَارِجًا عن الْفَرْضِ ضَرُورَةً
وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى
الثَّالِثَةِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ لِمَا رُوِيَ عن النبي
أَنَّهُ قام من الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ ولم يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا بِهِ فلم
يَعُدْ وَلَكِنْ سَبَّحَ بِهِمْ فَقَامُوا وما رُوِيَ أَنَّهُمْ سَبَّحُوا بِهِ
فَعَادَ مَحْمُولٌ على ما إذَا لم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا وكان إلَى الْقُعُودِ
أَقْرَبَ تَوْفِيقًا بين الْحَدِيثَيْنِ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ فَرِيضَةٌ
وَالْقَعْدَةَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ فَلَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ لِمَكَانِ الْوَاجِبِ
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ الِانْتِقَالِ من الْقِيَامِ إلَى سَجْدَةِ
التِّلَاوَةِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ
أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ من عَصَاهُ وَاسْتَنْكَفَ عن
سَجْدَتِهِ
وَأَمَّا إذَا لم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كان إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ
فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِوُجُودِ حَدِّ الْقِيَامِ وهو انْتِصَابُ النِّصْفِ
الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ جميعا وما بَقِيَ من الِانْحِنَاءِ فَقَلِيلٌ
غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كان إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَقْعُدُ لِانْعِدَامِ
الْقِيَامِ الذي هو فَرْضٌ ولم يذكر مُحَمَّدٌ أَنَّهُ هل يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ أَمْ لَا وقد اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه كان الشَّيْخُ أبو بَكْرٍ محمد
بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يقول لَا يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لِأَنَّهُ
إذَا كان إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ كان كَأَنَّهُ لم يَقُمْ وَلِهَذَا يَجِبُ عليه
أَنْ يَقْعُدَ وقال غَيْرُهُ من مَشَايِخِنَا أنه يَسْجُدُ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ ما
اشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ أَخَّرَ وَاجِبًا وَجَبَ وَصْلُهُ بِمَا قَبْلَهُ من
الرُّكْنِ فَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ
وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ
قَضَاهَا في الْأُخْرَيَيْنِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيَّ من أَصْحَابِنَا أَنَّ هذا
عِنْدِي أَدَاءٌ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ الْفَرْضَ هو الْقِرَاءَةُ في
رَكْعَتَيْنِ غير عَيْنٍ فإذا قَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ كان مُؤَدِّيًا لَا
قَاضِيًا وقال غَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا أنه يَكُونُ قَاضِيًا وَمَسَائِلُ
الْأَصْلِ تَدُلُّ عليه فإنه قال في الْمُسَافِرِ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ في
الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لم
يَكُنْ قَرَأَ الْإِمَامُ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كانت الْقِرَاءَةُ في
الْأُولَيَيْنِ أَدَاءً لَجَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ
بِالْمُفْتَرِضِ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كانت الْقِرَاءَةُ في
الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ الْتَحَقَتْ بِالْأُولَيَيْنِ فخلت ( (
( فحلت ) ) ) الْأُخْرَيَانِ عن الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَيَصِيرُ في حَقِّ
الْقِرَاءَةِ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ
____________________
(1/171)
وَإِنَّهُ
فَاسِدٌ
وَذُكِرَ في بَابِ السَّهْوِ من الْأَصْلِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كان لم يَقْرَأْ
في الْأُولَيَيْنِ فَاقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ في الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ
الْإِمَامُ فِيهِمَا ثُمَّ قام الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ ما فَاتَهُ فَعَلَيْهِ
الْقِرَاءَةِ وَإِنْ تَرَكَ ذلك لم تُجْزِهِ صَلَاتُهُ وَلَوْ كان فَرْضُ
الْقِرَاءَةِ في رَكْعَتَيْنِ غير عَيْنٍ لَكَانَ الْإِمَامُ مُؤَدِّيًا فَرْضَ
الْقِرَاءَةِ في الْأُخْرَيَيْنِ وقد أَدْرَكَهُمَا الْمَسْبُوقُ فَحَصَلَ فَرْضُ
الْقِرَاءَةِ عَيْنًا بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عليه
الْقِرَاءَةُ وَمَعَ هذا وَجَبَ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُولَيَيْنِ مَحَلُّ أَدَاءِ
فَرْضِ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا وَالْقِرَاءَةُ في الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءٌ عن
الْأُولَيَيْنِ فإذا قَرَأَ الْإِمَامُ في الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ قَضَى ما
فَاتَهُ من الْقِرَاءَةِ في الْأُولَيَيْنِ وَالْفَائِتُ إذَا قضى يَلْتَحِقُ
بِمَحَلِّهِ فخلت ( ( ( فحلت ) ) ) الْأُخْرَيَانِ عن الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ
فَقَدْ فَاتَ على الْمَسْبُوقِ الْقِرَاءَةُ فَلَا بُدَّ من تَحْصِيلِهَا لِأَنَّ
الصَّلَاةَ بِلَا قِرَاءَةٍ غَيْرُ جَائِزَةٍ
وَكَذَا لو كان قَرَأَ الْإِمَامُ في الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ في
الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنْ وُجِدَتْ لم تَكُنْ فَرْضًا لِافْتِرَاضِهَا في
رَكْعَتَيْنِ فَحَسْبُ فَقَدْ فَاتَ الْفَرْضُ على الْمَسْبُوقِ فَيَجِبُ عليه
تَحْصِيلُهَا فِيمَا يَقْضِي وَلَوْ تَرَكَهَا في الْأُولَيَيْنِ في صَلَاةِ
الْفَجْرِ أو الْمَغْرِبِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ
هَهُنَا وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَبَدَأَ
بِغَيْرِهَا فلما قَرَأَ بَعْضَ السُّورَةِ تَذَكَّرَ يَعُودُ فَيَقْرَأُ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّورَةِ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سُمِّيَتْ
فَاتِحَةً لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بها في الصَّلَاةِ فإذا تَذَكَّرَ في
مَحَلِّهَا كان عليه مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ كما لو سَهَا عن تَكْبِيرَاتِ
الْعِيدِ حتى اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لم يُكَبِّرْ
يَعُودُ إلَى التَّكْبِيرَاتِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا كَذَا هذا وَلَوْ تَرَكَ
الْفَاتِحَةَ في الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ السُّورَةَ لم يَقْضِهَا في
الْأُخْرَيَيْنِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ
يَقْضِي الْفَاتِحَةَ في الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوْجَبُ من
السُّورَةِ ثُمَّ السُّورَةُ تُقْضَى فَلَأَنْ تُقْضَى الْفَاتِحَةُ أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مَحَلُّ الْفَاتِحَةِ أَدَاءً فَلَا تَكُونَا
مَحَلًّا لها قَضَاءً بِخِلَافِ السُّورَةِ وَلِأَنَّهُ لو قَضَاهَا في
الْأُخْرَيَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ في الْأُولَيَيْنِ ولم
يَقْرَأْ السُّورَةَ قَضَاهَا في الْأُخْرَيَيْنِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا
يَقْضِيهَا كما لَا يَقْضِي الْفَاتِحَةَ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَتْ عن
مَوْضِعِهَا وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في رَكْعَةٍ من صَلَاةِ الْمَغْرِبِ
فَقَضَاهَا في الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ
وَرُوِيَ عن عمر ( ( ( عثمان ) ) ) رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَرَكَ السُّورَةَ في
الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا في الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ لِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ
لَيْسَتَا مَحَلًّا لِلسُّورَةِ أَدَاءً فَجَازَ أَنْ يكونا ( ( ( يكون ) ) )
مَحَلًّا لها قَضَاءً
ثُمَّ قال في الْكِتَابِ وَجَهَرَ ولم يذكر أَنَّهُ جَهَرَ بِهِمَا أو
بِالسُّورَةِ خَاصَّةً وَفَسَّرَهُ الْبَلْخِيّ فقال أتى بِالسُّورَةِ خَاصَّةً
لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ وَيَجْهَرُ بِالسُّورَةِ أَدَاءً فَكَذَا
قَضَاءً
فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ في مَحَلِّهَا وَمِنْ سُنَنِهَا الْإِخْفَاءُ
فَيُخْفِي بها وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُخَافِتُ بِهِمَا لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ
الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةُ تُبْنَى عليها ثُمَّ السُّنَّةُ في
الْفَاتِحَةِ الْمُخَافَتَةُ فَكَذَا فِيمَا يبني عليها وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ
يَجْهَرُ بِهِمَا لِأَنَّ الْجَمْعَ بين الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ في رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وقد وَجَبَ عليه الْجَهْرُ بِالسُّورَةِ فَيَجْهَرُ
بِالْفَاتِحَةِ أَيْضًا
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ ما قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ
فَإِنْ تَذَكَّرَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أو السُّورَةِ في الرُّكُوعِ أو بعد ما
رَفَعَ رَأْسَهُ منه يَعُودُ إلَى الْقِرَاءَةِ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ بِخِلَافِ
الْقُنُوتِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهُ في صَلَاةِ الْوِتْرِ وَلَوْ
تَرَكَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَتَذَكَّرَ في الرُّكُوعِ قَضَاهَا في الرُّكُوعِ
بِخِلَافِ الْقُنُوتِ إذَا تَذَكَّرَ في الرُّكُوعِ حَيْثُ يَسْقُطُ وَنَذْكُرُ
الْفَرْقَ هُنَاكَ أَيْضًا وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ
الْأَخِيرَةِ وَقَامَ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَعُودُ وَيَتَشَهَّدُ إذَا لم يُقَيِّدْ
الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّهُ لو كان قَرَأَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ تَذَكَّرَ
يَعُودُ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ من الصَّلَاةِ على الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ فَهَهُنَا
أَوْلَى وَكَذَا إذَا لم يَقُمْ وَتَذَكَّرَهَا قبل السَّلَامِ أو بَعْدَ ما
سَلَّمَ سَاهِيًا وَلَوْ سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ لها سَقَطَتْ عنه وَسَقَطَ سَجْدَتَا
السَّهْوِ لِمَا مَرَّ
وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى
الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ لِأَنَّ
الْقِيَامَ فَرْضٌ وَلَيْسَ من الْحِكْمَةِ تَرْكُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ
الْوَاجِبِ وَإِنْ لم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كان إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ
لَا يَعُودُ وَتَسْقُطُ وَإِنْ كان إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَعُودُ لِمَا
ذَكَرْنَا في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْنُونُ
بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كان السَّهْوُ بِإِدْخَالِ زِيَادَةٍ في
الصَّلَاةِ أو نُقْصَانٍ فيها
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قبل السَّلَامِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِيهِمَا جميعا
وقال مَالِكٌ إنْ كان يَسْجُدُ لِلنُّقْصَانِ فَقَبْلَ السَّلَامِ وَإِنْ كان
يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ فَبَعْدَ السَّلَامِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى عبد اللَّهِ بن بُحَيْنَةَ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(1/172)
سَجَدَ
لِلسَّهْوِ قبل السَّلَامِ
وما رُوِيَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَحْمُولٌ على
التَّشَهُّدِ كما حَمَلْتُمْ السَّلَامَ على التَّشَهُّدِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وفي كل رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَيْ فَتَشَهَّدْ وَيُرَجَّحُ ما
رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْمَعْنَى إيَّاهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
السَّجْدَةَ إنَّمَا يُؤْتَى بها جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ في
الصَّلَاةِ وَالْجَابِرُ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ في مَوْضِعِ النَّقْصِ لَا في غَيْرِ
مَوْضِعِهِ وَالْإِتْيَانُ بِالسَّجْدَةِ بَعْدَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ لَا
في مَحَلِّ النُّقْصَانِ وَالْإِتْيَانُ بها قبل السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ
في مَحَلِّ النُّقْصَانِ فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ جَبْرَ النُّقْصَانِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ قِيَامِ
الْأَصْلِ وَبِالسَّلَامِ الْقَاطِعِ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْأَصْلُ
فَلَا يُتَصَوَّرُ جَبْرُ النُّقْصَانِ بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم قام في مَثْنَى من صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قبل
السَّلَامِ وكان سَهْوًا في نُقْصَانٍ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى الظُّهْرَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
بَعْدَ السَّلَامِ وكان سَهْوًا في الزِّيَادَةِ وَلِأَنَّ السَّهْوَ إذَا كان
نُقْصَانًا فَالْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ فَيُؤْتَى بِهِ في مَحِلِّ النُّقْصَانِ
على ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَأَمَّا إذَا كان زِيَادَةً فَتَحْصِيلُ
السَّجْدَةِ قبل السَّلَامِ يُوجِبُ زِيَادَةً أُخْرَى في الصَّلَاةِ وَلَا
يُوجِبُ رَفْعَ شَيْءٍ فَيُؤَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ السَّلَامِ
وَلَنَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَرُوِيَ عن عِمْرَانَ بن الْحُصَيْنِ وَالْمُغِيرَةِ
بن شُعْبَةَ وَسَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَكَذَا رَوَى ابن
مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وأبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَوَيْنَا عن ابْنِ
مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من شَكَّ في صَلَاتِهِ فلم
يَدْرِ أَثَلَاثًا صلى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذلك إلَى الصَّوَابِ
وَلْيَبْنِ عليه وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلِأَنَّ سُجُودَ
السَّهْوِ أُخِّرَ عن مَحَلِّ النُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا كان
لِمَعْنًى ذلك الْمَعْنَى يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ عن السَّلَامِ وهو أَنَّهُ لو
أَدَّاهُ هُنَاكَ ثُمَّ سَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً
يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهِ في كل مَحِلٍّ وَتَكْرَارُ سُجُودِ السَّهْوِ في صَلَاةٍ
وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَأُخِّرَ إلَى وَقْتِ السَّلَامِ احْتِرَازًا عن
التَّكْرَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ أَيْضًا عن السَّلَامِ حتى أَنَّهُ لو
سَهَا عن السَّهْوِ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ
وَلِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ في الصَّلَاةِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فيها فَلَوْ أتى
بِالسُّجُودِ قبل السَّلَامِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ الْجَابِرُ لِلنُّقْصَانِ
مُوجِبًا زِيَادَةَ نَقْصٍ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن تَعَلُّقِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ
الْفِعْلِ مُتَعَارِضَةٌ فَبَقِيَ لنا رِوَايَةُ الْقَوْلِ من غَيْرِ تَعَارُضٍ أو
تَرَجَّحَ ما ذَكَرْنَا لِمُعَاضَدَةِ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى إيَّاهُ أو
يُوَفَّقُ فَيُحْمَلُ ما رَوَيْنَا على أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ
الْأَوَّلِ وَلَا مَحْمَلَ له سواه ( ( ( سواء ) ) ) فَكَانَ مُحْكَمًا وما رَوَاهُ
مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قبل السَّلَامِ الْأَوَّلِ وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ سَجَدَ قبل السَّلَامِ الثَّانِي فَكَانَ مُتَشَابِهًا فَيُصْرَفُ إلَى
مُوَافَقَةِ الْمُحْكَمِ وهو أَنَّهُ سَجَدَ قبل السَّلَامِ الْأَخِيرِ لَا قبل
السَّلَامِ الْأَوَّلِ رَدًّا لِلْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْكَمِ
وما ذَكَرَ مَالِكٌ من الْفَصْلِ بين الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّهُ سَوَاءٌ نَقَصَ أو زَادَ كُلُّ ذلك كان نُقْصَانًا وَلِأَنَّهُ لو سَهَا
مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ مَاذَا
يَفْعَلُ
وَتَكْرَارُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وقد روى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ
أَلْزَمَ مَالِكًا بين يَدَيْ الْخَلِيفَةِ بهذا الْفَصْلِ فقال أَرَأَيْتَ لو
زَادَ وَنَقَصَ كَيْف يَصْنَعُ فَتَحَيَّرَ مَالِكٌ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن أَحَدِ معنيي ( ( ( معنى ) ) ) الشَّافِعِيِّ أَنَّ
الْجَابِرَ يَحْصُلُ في مَحَلِّ الْجَبْرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ
في مَحَلِّ الْجَبْرِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ يُؤَخَّرُ عنه لِمَعْنًى يُوجِبُ
التَّأْخِيرَ عن السَّلَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْجَبْرَ لَا يَتَحَقَّقُ
إلَّا حَالَ قِيَامِ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَنَعَمْ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن سَلَامَ
من عليه السَّهْوُ قَاطِعٌ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وقد اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا
في ذلك فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا فَيَتَحَقَّقُ
مَعْنَى الْجَبْرِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُهَا على
تَقْدِيرِ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ أو يَقْطَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ بِالْعَوْدِ
إلَى السُّجُودِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ
وإذا عَرَفَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ بَعْدَ السَّلَامِ فإذا فَرَغَ من
التَّشَهُّدِ الثَّانِي يُسَلِّمُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَعُودُ إلَى سُجُودِ
السَّهْوِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي على
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ وهو اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ
وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَذَكَرَ
الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي بِالدُّعَاءِ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وهو
اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا
شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ الْمَوْضُوعَةِ في
الصَّلَاةِ وَمَنْ عليه السَّهْوُ قد بَقِيَ عليه بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
من الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ وهو سُجُودُ السَّهْوِ وَالصَّلَاةُ على النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم فلم يَتَحَقَّقْ الْفَرَاغُ
____________________
(1/173)
فَلِذَلِكَ
كان التَّأْخِيرُ إلَى التَّشَهُّدِ الثَّانِي أَحَقَّ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ
لَا يَأْتِيَ بِدَعَوَاتٍ تُشْبِهُ كَلَامَ الناس لِئَلَّا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ
هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانَ مَحَلِّهِ الْمَسْنُونِ وَأَمَّا مَحِلُّ جَوَازِهِ
فَنَقُولُ جَوَازُ السُّجُودِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ السَّلَامِ حتى لو
سَجَدَ قبل السَّلَامِ يَجُوزُ وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ
من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ سُنَّتَهُ وهو الْأَدَاءُ بَعْدَ
السَّلَامِ وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَلِأَنَّ
الْأَدَاءَ بَعْدَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ كان
تَكْرَارًا وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَتَرْكُ السُّنَّةِ أَوْلَى من فِعْلِ الْبِدْعَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَدْرُ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وهو
اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الزَّاهِدِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ عَلِيِّ بن مُحَمَّدٍ
الْبَزْدَوِيِّ وقال لو سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ تَبْطُلُ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّ
التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ لِمَعْنَى التَّحِيَّةِ وَمَعْنَى التَّحِيَّةِ
سَاقِطٌ عن سَلَامِ السَّهْوِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْلِيمَةِ
الثَّانِيَةِ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عن الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ منه فَكَانَ
قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ وَعَامَّتُهُمْ على أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ
عن يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ لقوله ( ( ( لقول ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم
لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ ذَكَرَ السَّلَامَ بِالْأَلِفِ
وَاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الجنس ( ( ( الحبس ) ) ) أو إلَى الْمَعْهُودِ
وَهُمَا التَّسْلِيمَتَانِ
فَصْلٌ وَأَمَّا عَمَلُ سَلَامِ السَّهْوِ أَنَّهُ هل يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ
أَمْ لَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا وَعِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَقْطَعْ وَإِنْ لم
يُعِدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَطَعَ حتى لو ضَحِكَ بَعْدَ ما سَلَّمَ قبل أَنْ
يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا نتقض ( ( ( تنتقض ) ) ) طَهَارَتُهُ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال
لَا تَوَقُّفَ في انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَلْ تَنْقَطِعُ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَإِنَّمَا
التَّوَقُّفُ عِنْدَهُمَا في عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا إنْ عَادَ إلَى
سَجْدَتَيْ السهو ( ( ( تعد ) ) ) تعود وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا أَسْهَلُ
لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ وَالْأَوَّلُ وهو أن التَّوَقُّفُ في بَقَاءِ
التَّحْرِيمَةِ وَبُطْلَانُهَا أَصَحُّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ
وَاحِدَةٌ فإذا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا لإعادة ( ( ( بإعادة ) ) ) ولم تُوجَدْ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ من
عليه سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا في تحريمة
( ( ( تحريم ) ) ) الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا شُرِّعَتَا لجبر ( ( ( لجبران ) ) )
النُّقْصَانِ وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ إنْ حَصَلَتَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ
وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ما
يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ
إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هذا السَّلَامِ فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ في
هذه الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كانت التَّحْرِيمَةُ
بَاقِيَةً فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلَّلًا في
الشَّرْعِ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ
وَالتَّحْلِيلُ ما يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ
فَكَانَ من كَلَامِ الناس وأنه مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ غير أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ
عَمَلَهُ في هذه الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ وَلَا
يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ في التَّحْرِيمَةِ لِيَلْتَحِقَ
الْجَابِرُ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فينجبر ( ( (
فيجبر ) ) ) النُّقْصَانُ فَنَفَيْنَا التَّحْرِيمَةَ مع وُجُودِ الْمُنَافِي لها
لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ
اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ
فَبَقِيَتْ وَإِنْ لم يَشْتَغِلْ لم تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ فَيَعْمَلُ
السَّلَامُ في الْإِخْرَاجِ عن الصَّلَاةِ وَإِبْطَالُ التَّحْرِيمَةِ عَمَلَهُ
وَيُبْنَى على هذا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا إذَا قَهْقَهَ قبل
الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَ عنه
السَّهْوُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وهو قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً على أَصْلِهِ في الْقَهْقَهَةِ أنها في
كل مَوْضِعٍ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَا تُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ كما
إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ قبل السَّلَامِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ
وَالثَّانِيَةُ إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَجَاءَ رَجُلٌ
فَاقْتَدَى بِهِ قبل أَنْ يَعُودَ إلَى السُّجُودِ فَاقْتِدَاؤُهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنْ عَادَ إلَى السُّجُودِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أو لم يَعُدْ
وقال بِشْرٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أو لم يُعِدْ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ
السَّلَامَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ جَزْمًا
وَالثَّالِثَةُ الْمُسَافِرُ إذَا سَلَّمَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ في ذَوَاتِ
الْأَرْبَعِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ قبل أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ لَا
يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْقُطُ عنه السَّهْوُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا
وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ
رَجُلٌ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ إلَّا عِنْدَ بِشْرٍ وَكَذَلِكَ لو قَهْقَهَ في
هذه الْحَالَةِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ وَكَذَلِكَ لو نَوَى
الْإِقَامَةَ في هذه
____________________
(1/174)
الْحَالَةِ
يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيُؤَخِّرُ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ
الصَّلَاةِ سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ ما سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أو
سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ في سُجُودِ السَّهْوِ ولا سِيَّمَا
إذَا سَلَّمَ وهو ذَاكِرٌ له أو سَاهٍ عنه وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَسْجُدَ له أولا
يَسْجُدَ حتى لَا يَسْقُطَ عنه في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ
السَّلَامِ إلَّا إذَا فَعَلَ فِعْلًا يَمْنَعُهُ من الْبِنَاءِ بِأَنْ تَكَلَّمَ
أو قَهْقَهَ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أو خَرَجَ عن الْمَسْجِدِ أو صَرَفَ
وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ وهو ذَاكِرٌ له لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّهُ وهو
تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةَ فَوَاتِ مَحَلِّهِ وَكَذَا إذَا
طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ السَّلَامِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ أو احْمَرَّتْ في
صَلَاةِ الْعَصْرِ سَقَطَ عنه السَّهْوُ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جَبْرٌ لِلنَّقْصِ
الْمُتَمَكَّنِ فَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ وقد وَجَبَتْ كامله فَلَا يقضي
النَّاقِصَ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عليه
فَسُجُودُ السَّهْوِ يَجِبُ على الْإِمَامِ وَعَلَى الْمُنْفَرِدِ مَقْصُودًا
لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الوجود ( ( ( الوجوب ) ) ) مِنْهُمَا وهو السَّهْوُ فَأَمَّا
الْمُقْتَدِي إذَا سَهَا في صَلَاتِهِ فَلَا سَهْوَ عليه لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
السُّجُودُ لِأَنَّهُ إنْ سَجَدَ قبل السَّلَامِ كان مُخَالِفًا لِلْإِمَامِ
وَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى ما بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ يَخْرُجُ من الصَّلَاةِ
بِسَلَامِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ مِمَّنْ لَا سَهْوَ عليه فَكَانَ
سَهْوُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السُّجُودِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ لتعدد ( ( (
لتعذر ) ) ) السُّجُودِ عليه فَسَقَطَ السُّجُودُ عنه أَصْلًا
وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ وهو الْمُدْرِكُ لِأَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا فَاتَهُ
بَعْضُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ بِسَبَبِ النَّوْمِ أو الْحَدَثِ السَّابِقِ بِأَنْ
نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ انْتَبَهَ وقد سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أو
فَرَغَ من صَلَاتِهِ أو سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وقد سَبَقَهُ
الْإِمَامُ بِشَيْءٍ من صَلَاتِهِ أو فَرَغَ عنها فَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ ما سُبِقَ
بِهِ فَسَهَا فيه لَا سَهْوَ عليه لِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَ
الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عليه وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا
سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَجَبَ عليه السَّهْوُ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي
بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عليه الْقِرَاءَةُ
وَأَمَّا الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ ثُمَّ قام إلَى إتْمَامِ
صَلَاتِهِ وَسَهَا هل يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال
إنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في سُجُودِ السَّهْوِ وإذا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ
فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ
أَنَّهُ كَاللَّاحِقِ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ في سُجُودِ السَّهْوِ وإذا سَهَا
فِيمَا يُتِمُّ لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ
الصَّلَاةِ فَكَانَ في حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُؤَدِّيهِ بِتِلْكَ
التَّحْرِيمَةِ كَاللَّاحِقِ وَلِهَذَا لَا يَقْرَأُ كَاللَّاحِقِ وَالصَّحِيحُ ما
ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ ما اقْتَدَى بِإِمَامِهِ إلَّا بِقَدْرِ صَلَاةِ
الْإِمَامِ فإذا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَارَ مُنْفَرِدًا فِيمَا وَرَاءَ
ذلك وَإِنَّمَا لَا يَقْرَأُ فِيمَا يُتِمُّ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ في
الْأُولَيَيْنِ وقد قَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا فَكَانَتْ قِرَاءَةً له وَسَهْوُ
الْإِمَامِ يُوجِبُ السُّجُودَ عليه وَعَلَى الْمُقْتَدِي لِأَنَّ مُتَابَعَةَ
الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَابِعْ إمَامَكَ على أَيِّ
حَالٍ وَجَدْتَهُ وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ وَالْحُكْمُ في
التَّبَعِ ثَبَتَ بِوُجُودِ السَّبَبِ في الْأَصْلِ فَكَانَ سَهْوُ الْإِمَامِ
سَبَبًا لِوُجُوبِ السَّهْوِ عليه وَعَلَى الْمُقْتَدِي وَلِهَذَا لو سَقَطَ عن
الْإِمَامِ بِسَبَبٍ من الْأَسْبَابِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا
أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ يَسْقُطُ عن الْمُقْتَدِي
وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ إذَا سَهَا في حَالِ نَوْمِ
اللَّاحِقِ أو ذَهَابِهِ إلَى الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُصَلِّي
خَلْفَهُ وَلَكِنْ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ في سُجُودِ السَّهْوِ إذَا انْتَبَهَ
في حَالِ اشْتِغَالِ الْإِمَامِ بِسُجُودِ السَّهْوِ أو جاء إلَيْهِ من الْوُضُوءِ
في هذه الْحَالَةِ بَلْ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ في آخِرِ
صَلَاتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أو الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ حَيْثُ يتابع
( ( ( تابع ) ) ) الْإِمَامَ في سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ
بِالْإِتْمَامِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ اللَّاحِقَ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا اقْتَدَى
بِهِ على نَحْوِ ما فَصَّلَ الْإِمَامُ وَأَنَّهُ اقْتَدَى بِهِ في حَقِّ جَمِيعِ
الصَّلَاةِ فَيُتَابِعُهُ في جَمِيعِهَا على نَحْوِ ما يُؤَدِّي الْإِمَامُ
وَالْإِمَامُ أَدَّى الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ في آخِرِ
صَلَاتِهِ فَكَذَا هو فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ
بِهِ مُتَابَعَتَهُ بِقَدْرِ ما هو صَلَاةُ الْإِمَامِ وقد أَدْرَكَ هذا الْقَدْرَ
فَيُتَابِعُهُ فيه ثُمَّ يَنْفَرِدُ وَكَذَا الْمُقِيمُ الْمُقْتَدِي
بِالْمُسَافِرِ
وَلَوْ سَجَدَ اللَّاحِقُ مع الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ وتابعه ( ( ( تابعه ) ) ) فيه
لم يُجْزِهِ لِأَنَّهُ سَجَدَ قبل أَوَانِهِ في حَقِّهِ فلم يَقَعْ مُعْتَدًّا
بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ إذَا فَرَغَ من قَضَاءِ ما عليه وَلَكِنْ لَا
تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ ما زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ
إذَا تَابِعَ الْإِمَامَ في سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ
على الْإِمَامِ سَهْوٌ حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابَعَ
الْإِمَامَ وما زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ لِأَنَّ من الْفُقَهَاءِ من قال لَا
تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ على ما نَذْكُرهُ
ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ ليس لِزِيَادَةِ
السَّجْدَتَيْنِ بَلْ لِلِاقْتِدَاءِ في مَوْضِعٍ كان عليه الِانْفِرَادُ في ذلك
الْمَوْضِعِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ اللَّاحِقَ مُقْتَدٍ في جَمِيعِ ما
يُؤَدِّي فَلِهَذَا لم تَفْسُدْ صَلَاتُهُ
وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ
____________________
(1/175)
لِسَهْوِ
الْإِمَامِ سَوَاءٌ كان سَهْوُهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أو قَبْلَهُ بِأَنْ
كان مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ وقد سَهَا الْإِمَامُ فيها
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ أَصْلًا لِأَنَّ
مَحَلَّ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ في السَّلَامِ
فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمُتَابَعَةُ في السَّهْوِ
وَلَنَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يؤدي في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ
الصَّلَاةُ بَاقِيَةً وإذا بَقِيَتْ الصَّلَاةُ بَقِيَتْ التَّبَعِيَّةُ
فَيُتَابِعُهُ فِيمَا يُؤَدِّي من الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ
وَالتَّلْبِيَةِ حتى لَا يُلَبِّيَ الْمَسْبُوقُ وَلَا يُكَبِّرَ مع الْإِمَامِ في
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالتَّلْبِيَةَ لَا يُؤَدَّيَانِ في
تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو ضَحِكَ قَهْقَهَةً في تِلْكَ
الْحَالَةِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ لَا يَصِحُّ
بِخِلَافِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَإِنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ في تَحْرِيمَةِ
الصَّلَاةِ بدليل ( ( ( بخلاف ) ) ) انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ وَصَحَّ
الِاقْتِدَاءُ بِهِ في تِلْكَ الْحَالَةِ
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ الْمَسْبُوقُ مع الْإِمَامِ لِأَنَّهُ
رُبَّمَا يَسْهُو فِيمَا يَقْضِي فَيَلْزَمُهُ السُّجُودُ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى
التَّكْرَارِ وأنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّهُ لو تَابَعَهُ في السُّجُودِ
يَقَعُ سُجُودُهُ في وَسَطِ الصَّلَاةِ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّكْرَارَ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُمَا
صَلَاتَانِ حُكْمًا وَإِنْ كانت التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ
فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ وَنَظِيرُهُ الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى
بِالْمُسَافِرِ فَسَهَا الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ الْمُقِيمُ في السَّهْوِ وَإِنْ
كان الْمُقْتَدِي رُبَّمَا يَسْهُو في إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ
السَّهْوِ يَسْجُدُ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ على ما مَرَّ لَكِنْ لَمَّا كان
مُنْفَرِدًا في ذلك كَانَا صَلَاتَيْنِ حُكْمًا وَإِنْ كانت التَّحْرِيمَةُ
وَاحِدَةً كَذَا هَهُنَا
ثُمَّ الْمَسْبُوقُ إنَّمَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ في السَّهْوِ دُونَ السَّلَامِ
بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُسَلِّمَ فَيَسْجُدَ فَيُتَابِعُهُ في سُجُودِ
السَّهْوِ لَا في سَلَامِهِ وَإِنْ سَلَّمَ فَإِنْ كان عَامِدًا تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ وَإِنْ كان سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ وَلَا سَهْوَ عليه لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ
وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي بَاطِلٌ فإذا سَجَدَ الْإِمَامُ لِلسَّهْوِ يُتَابِعُهُ في
السُّجُودِ وَيُتَابِعُهُ في التَّشَهُّدِ وَلَا يُسَلِّمُ إذَا سَلَّمَ
الْإِمَامُ لِأَنَّ السَّلَامَ لِلْخُرُوجِ عن الصَّلَاةِ وقد بَقِيَ عليه
أَرْكَانُ الصَّلَاةِ
فإذا سَلَّمَ مع الْإِمَامِ فَإِنْ كان ذَاكِرًا لِمَا عليه من الْقَضَاءِ
فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَإِنْ لم يَكُنْ ذَاكِرًا له لَا
تَفْسُدُ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فلم يُخْرِجْهُ عن الصَّلَاةِ
وَهَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِ سَلَامِهِ يَنْظُرُ إنْ سَلَّمَ قبل
تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أو سَلَّمَا مَعًا لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ
الْمُقْتَدِي وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي مُتَعَطِّلٌ وَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَ تَسْلِيمِ
الْإِمَامِ لَزِمَهُ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُنْفَرِدِ فَيَقْضِي ما فَاتَهُ
ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ في آخِرِ صَلَاتِهِ
وَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ في صَلَاةِ الْخَوْفِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَتَابَعَهُ
فِيهِمَا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
الْإِتْمَامِ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبُوقِينَ إذا
لم يُدْرِكُوا مع الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى
بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ لِإِدْرَاكِهِمْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ
وَلَوْ قام الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ ولم يُتَابِعْ الْإِمَامَ في
السَّهْوِ سَجَدَ في آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يقضي وَصَلَاةُ
الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي فَصَارَ كَمَنْ لَزِمَتْهُ السَّجْدَةُ
في صَلَاةٍ فلم يَسْجُدْ حتى خَرَجَ منها وَدَخَلَ في صَلَاةٍ أُخْرَى لَا
يَسْجُدُ في الثَّانِيَةِ بَلْ يَسْقُطُ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ مُتَّحِدَةٌ فإن الْمَسْبُوقَ
يَبْنِي ما يقضي على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ فَجَعَلَ الْكُلَّ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ
وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ وإذا كان الْكُلُّ صَلَاةً وَاحِدَةً وقد
تَمَكَّنَ فيها النُّقْصَانُ بِسَهْوِ الْإِمَامِ ولم يُجْبَرْ ذلك
بِالسَّجْدَتَيْنِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن وَجْهِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ في الْقَضَاءِ
لِأَنَّا نَقُولُ نعم في الْأَفْعَالِ أَمَّا هو مقتدي ( ( ( مقتد ) ) ) في
التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ غير ( ( ( غيره ) ) )
به فَجُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ في حَقِّ التَّحْرِيمَةِ وَلَوْ سَهَا
فِيمَا يَقْضِي ولم يَسْجُدْ لِسَهْوِ الْإِمَامِ كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِسَهْوِهِ
وَلِمَا عليه من قِبَلِ الْإِمَامِ لِأَنَّ تَكْرَارَ السَّهْوِ في صَلَاةٍ
وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَوْ سَجَدَ لِسَهْوِ الْإِمَامِ ثُمَّ سَهَا فِيمَا
يَقْضِي فَعَلَيْهِ السَّهْوُ لِمَا أمر ( ( ( مر ) ) ) أَنَّ ذلك إذًا سهوين ( (
( سهوان ) ) ) في صَلَاتَيْنِ حُكْمًا فلم يَكُنْ تَكْرَارًا
وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ ما سَلَّمَ لِلسَّهْوِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ أَدْرَكَهُ قبل السُّجُودِ أو في حَالِ السُّجُودِ
أو بَعْدَ ما فَرَغَ من السُّجُودِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ قبل السُّجُودِ أو في حَالِ
السُّجُودِ يُتَابِعُهُ في السُّجُودِ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ
مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ من صَلَاتِهِ وَسُجُودُ السَّهْوِ من
أَفْعَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُتَابِعُهُ فيه وَلَيْسَ عليه قَضَاءُ
السَّجْدَةِ الْأُولَى إذَا أَدْرَكَهُ في الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ لم
يُوجَدْ منه السَّهْوُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عليه السُّجُودُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ
لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ في تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَحِينَ دخل في صَلَاةِ
الْإِمَامِ كان النُّقْصَانُ بِقَدْرِ ما يَرْتَفِعُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وهو قد
أتى بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَانْجَبَرَ النَّقْصُ فَلَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ آخَرُ
بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِهِ قبل أَنْ يَسْجُدَ شيئا ثُمَّ لم يُتَابِعْ
إمَامَهُ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ حَيْثُ يَسْجُدُ السَّجْدَتَيْنِ
اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ
____________________
(1/176)
هُنَاكَ
اقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَتَحْرِيمَتُهُ نَاقِصَةٌ نُقْصَانًا لَا يَنْجَبِرُ إلَّا
بِسَجْدَتَيْنِ وَبَقِيَ النُّقْصَانُ لِانْعِدَامِ الْجَابِرِ فَيَأْتِي بِهِ في
آخِرِ الصَّلَاةِ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ على ما مَرَّ وَإِنْ أَدْرَكَهُ
بَعْدَ ما فَرَغَ من السُّجُودِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَلَيْسَ عليه السَّهْوُ
بَعْدَ فَرَاغِهِ من صَلَاةِ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا إن وُجُوبَ السُّجُودِ على
الْمَسْبُوقِ بِسَبَبِ سَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ في تَحْرِيمَةِ
الْإِمَامِ وَحِينَ دخل في صَلَاةِ الْإِمَامِ كان النَّقْصُ انْجَبَرَ
بِالسَّجْدَتَيْنِ وَلَا يُعْقَلُ وُجُودُ الْجَابِرِ من غَيْرِ نَقْصٍ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَمَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا
إنْ كان مُنْفَرِدًا أو إمَامًا فَإِنْ كان مُنْفَرِدًا تَوَضَّأَ وَسَجَدَ
لِأَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ وَلَا يَمْنَعُ بِنَاءَ
بَعْضِ الصَّلَاةِ على الْبَعْضِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بِنَاءَ سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ أَوْلَى وَإِنْ كان إمَامًا اسْتَخْلَفَ لِأَنَّهُ عَجَزَ عن سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ فَيُقَدِّمَ الْخَلِيفَةَ لِيَسْجُدَ كما لو بَقِيَ عليه رُكْنٌ أو
التَّسْلِيمُ
ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْمَسْبُوقَ وَلَا لِلْمَسْبُوقِ أَنْ
يَتَقَدَّمَ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بَلْ
يُقَدِّمُ رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُسَلِّمُ بِهِمْ
وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَلَكِنْ مع هذا لو قَدَّمَهُ أو تَقَدَّمَ جَازَ
لِأَنَّهُ قَادِرٌ على إتْمَامِ الصَّلَاةِ في الْجُمْلَةِ وَلَا يَأْتِي
بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ لِأَنَّ أَوَانَ السُّجُودِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وهو
عَاجِزٌ عن التَّسْلِيمِ لِأَنَّ عليه الْبِنَاءَ فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ
عليه الْبِنَاءُ فَيَتَأَخَّرُ وَيُقِيمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ وَيَسْجُدُ
سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَيَسْجُدُ هو مَعَهُمْ كما لو كان الْإِمَامُ هو الذي
يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنْ
لم يَسْجُدْ مع خَلِيفَتِهِ سَجَدَ في آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا على ما
ذَكَرْنَا في حَقِّ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ
فَإِنْ لم يَجِدْ الْإِمَامُ الْمَسْبُوقُ مُدْرِكًا
وكان الْكُلُّ مَسْبُوقِينَ قَامُوا وَقَضَوْا ما سُبِقُوا بِهِ فُرَادَى لِأَنَّ
تَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ على الِانْفِرَادِ ثُمَّ إذَا
فَرَغُوا لَا يَسْجُدُونَ في الْقِيَاسِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَسْجُدُونَ وقد
بَيَّنَّا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ
وَلَوْ قام الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ بَعْدَ ما سَلَّمَ
الْإِمَامُ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ أَنَّ عليه سُجُودَ السَّهْوِ
فَسَجَدَهُمَا يَعُودُ إلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَقْتَدِي وَلَا يُعْتَدُّ
بِمَا قَرَأَ وَرَكَعَ
وَالْجُمْلَةُ في الْمَسْبُوقِ إذَا قام إلَى قَضَاءِ ما عليه فَقَضَاهُ أَنَّهُ
لَا يَخْلُو ما قام إلَيْهِ وَقَضَاهُ أما أَنْ يَكُونَ قبل أَنْ يَقْعُدَ
الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أو بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ كان
ما قام إلَيْهِ وَقَضَاهُ قبل أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لم
يُجْزِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَ ما بَقِيَ عليه فَرْضٌ لم يَنْفَرِدْ الْمَسْبُوقُ
بِهِ عنه لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَتَهُ فِيمَا بَقِيَ عليه من الصَّلَاةِ وهو
قد بَقِيَ عليه فَرْضٌ وهو الْقَعْدَةُ فلم يَنْفَرِدْ فَبَقِيَ مُقْتَدِيًا
وَقِرَاءَةُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ لَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةً من
صَلَاتِهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ من قِيَامِهِ وَقِرَاءَتُهُ ما كان بَعْدَ ذلك
فَإِنْ كان مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أو رَكْعَتَيْنِ فَوُجِدَ بَعْدَ ما قَعَدَ
الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ قَدْرَ ما تَجُوزُ بِهِ
الصَّلَاةُ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْفَرَدَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِانْقِضَاءِ
أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَدْ أتى بِمَا فُرِضَ عليه من الْقِيَامِ
وَالْقِرَاءَةِ في أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ وَإِنْ لم يُوجَدْ مِقْدَارُ
ذلك أو وُجِدَ الْقِيَامُ دُونَ الْقِرَاءَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِانْعِدَامِ
ما فُرِضَ عليه في أَوَانِهِ وَإِنْ كان مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِنْ لم
يَرْكَعْ حتى فَرَغَ الْإِمَامُ من التَّشَهُّدِ ثُمَّ رَكَعَ وَقَرَأَ في
الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هذه الرَّكْعَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقِيَامَ
فَرْضٌ في كل رَكْعَةٍ وَفَرْضُ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ وَلَا يُعْتَدُّ
بِقِيَامِهِ ما لم يَفْرُغْ الْإِمَامُ من التَّشَهُّدِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ من
التَّشَهُّدِ قبل أَنْ يَرْكَعَ هو فَقَدْ وُجِدَ الْقِيَامُ وَإِنْ قَلَّ في هذه
الرَّكْعَةِ وَوُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ في الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هذه الرَّكْعَةِ
فَقَدْ أتى بِمَا فُرِضَ عليه فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان رَكَعَ قبل فَرَاغِ
الْإِمَامِ من التَّشَهُّدِ لم ( ( ( أنجز ) ) ) تجز صَلَاتَهُ لِأَنَّهُ لم
يُوجَدْ قِيَامٌ يعتد ( ( ( معتد ) ) ) بِهِ في هذه الرَّكْعَةِ لِأَنَّ ذلك هو الْقِيَامُ
بَعْدَ تَشَهُّدِ الْإِمَامِ ولم يُوجَدْ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
وَأَمَّا إذَا قام الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ ما عليه بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ
من التَّشَهُّدِ قبل السَّلَامِ فَقَضَاهُ أَجْزَأَهُ وهو مُسِيءٌ أَمَّا
الْجَوَازُ فَلِأَنَّ قِيَامَهُ حَصَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ من أَرْكَانِ
الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ انْتِظَارَ سَلَامِ الْإِمَامِ
لِأَنَّ أَوَانَ قِيَامِهِ لِلْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ من الصَّلَاةِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ الْقِيَامَ عن السَّلَامِ
وَلَوْ قام بعد ما سَلَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
فَخَرَّ لَهُمَا فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ كان الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ
رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ أو لم يُقَيِّدْ فَإِنْ لم يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ
بِالسَّجْدَةِ رُفِضَ ذلك وَيَسْجُدُ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ ما أتى بِهِ ليس
بِفِعْلٍ كَامِلٍ وكان مُحْتَمِلًا لِلرَّفْضِ وَيَكُونُ تَرْكُهُ قبل التَّمَامِ
مَنْعًا له عن الثُّبُوتِ حَقِيقَةً فَجُعِلَ كَأَنْ لم يُوجَدْ فَيَعُودُ
وَيُتَابِعُ إمَامَهُ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ في الْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ
وَبَطَلَ ما أتى بِهِ من الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِمَا بَيَّنَّا
فَإِنْ لم يَعُدْ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَمَضَى على قَضَائِهِ جَازَتْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّ عَوْدَ
____________________
(1/177)
الْإِمَامِ
إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ وَالْبَاقِي على الْإِمَامِ
سُجُودُ السَّهْوِ وهو وَاجِبٌ وَالْمُتَابَعَةُ في الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ فَتَرْكُ
الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى لو تَرَكَهُ الْإِمَامُ
لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَكَذَا الْمَسْبُوقُ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
بَعْدَ الْفَرَاغِ من قَضَائِهِ اسْتِحْسَانًا
وَإِنْ كان الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ إلَى
مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قد تَمَّ وَلَيْسَ على الْإِمَامِ
رُكْنٌ وَلَوْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِغَيْرِهِ بَعْدَ
وُجُودِ الِانْفِرَادِ وَوُجُوبِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فَسَجَدَهَا فَإِنْ كان الْمَسْبُوقُ
لم يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ لِمَا مَرَّ فَيَسْجُدَ معه لِلتِّلَاوَةِ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ
يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَيَقُومَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ ما عليه وَلَا
يُعْتَدُّ بِمَا أتى بِهِ من قَبْلُ لِمَا مَرَّ وَلَوْ لم يَعُدْ فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ
الْقَعْدَةَ في حَقِّ الْإِمَامِ وهو بَعْدُ لم يَصِرْ مُنْفَرِدًا لِأَنَّ ما أتى
بِهِ دُونَ فِعْلِ صَلَاةٍ فَتُرْتَفَضُ الْقَعْدَةُ في حَقِّهِ أَيْضًا فإذا
ارْتَفَضَتْ في حَقِّهِ لَا يَجُوزُ له الِانْفِرَادُ لِأَنَّ هذا أَوَانُ وُجُوبِ
الْمُتَابَعَةِ وَالِانْفِرَادُ في هذه الْحَالَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ
وَإِنْ كان قد قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ إلَى مُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنْ لم يُعِدْ وَمَضَى
عليها فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ
وَذُكِرَ في نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ
الْقَعْدَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ انْفَرَدَ قبل أَنْ يَقْعُدَ
الْإِمَامُ وَالِانْفِرَادُ في مَوْضِعٍ يَجِبُ فيه الِاقْتِدَاءُ مُفْسِدٌ
لِلصَّلَاةِ
وَجْهُ نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ ارْتِفَاضَ الْقَعْدَةِ في حَقِّ
الْإِمَامِ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّ ذلك بِالْعَوْدِ إلَى
التِّلَاوَةِ وَالْعَوْدُ حَصَلَ بعد ما تَمَّ انْفِرَادُهُ عن الْإِمَامِ
وَخَرَجَ عن مُتَابَعَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ
جَمِيعَ الصَّلَاةِ لو ارْتَفَضَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَظْهَرُ
في حَقِّ الْمُؤْتَمِّ بِأَنْ ارْتَدَّ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
الصَّلَاةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ
الْقَوْمِ فَفِي حَقِّ الْقَعْدَةِ أَوْلَى وَلِذَا لو صلى الظُّهْرَ بِقَوْمٍ يوم
الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَهَا ارْتَفَضَ ظُهْرُهُ ولم
يَظْهَرْ الرَّفْضُ في حَقِّ الْقَوْمِ بِخِلَافِ ما إذَا لم يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ
بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْفِرَادُ لم يَتِمَّ على ما قَرَرْنَا
وَنَظِيرُ هذه الْمَسْأَلَةِ مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ وَقَامَ إلَى إتْمَامِ
صَلَاتِهِ بعد ما تَشَهَّدَ الْإِمَامُ قبل أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ
الْإِقَامَةَ حتى تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَإِنْ لم يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ
بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَإِنْ لم
يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ
عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لم يُعِدْ وَمَضَى عليها وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ لَا
تَفْسُدُ
وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ عليه سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَإِنْ كان
الْمَسْبُوقُ لم يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ
عليه الْعَوْدُ وَلَوْ لم يُعِدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ في سَجْدَةِ
التِّلَاوَةِ وَإِنْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ
عَادَ إلَى الْمُتَابَعَةِ أو لم يَعُدْ في الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ
انْتَقَلَ عن صَلَاةِ الْإِمَامِ وَعَلَى الْإِمَامِ رُكْنَانِ السَّجْدَةُ
وَالْقَعْدَةُ وهو عَاجِزٌ عن مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ إكْمَالِ الرَّكْعَةِ وَلَوْ
انْتَقَلَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَعَجَزَ عن مُتَابَعَتِهِ تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى
رَجُلٌ صلى الظُّهْرَ خَمْسًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ
قَعَدَ في الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أو لم يَقْعُدْ وَكُلُّ وَجْهٍ على
وَجْهَيْنِ أما إن قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ أو لم يُقَيِّدْ فَإِنْ
قَعَدَ في الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لم
يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حتى تَذَكَّرَ يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيُتِمَّهَا
وَيُسَلِّمْ لِمَا مَرَّ وَإِنْ قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ على ما مَرَّ
ثُمَّ عِنْدَنَا إذَا كان ذلك في الظُّهْرِ أو في الْعِشَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ
يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَا له نَفْلًا إذْ التَّنَفُّلُ
بَعْدَهُمَا جَائِزٌ وما دُونَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ صَلَاةً تَامَّةً كما
قال ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَاَللَّهِ ما أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ وَإِنْ
كان في الْعَصْرِ لَا يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى بَلْ يَقْطَعْ لِأَنَّ
التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ
أَنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى أَيْضًا لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ
إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا شَرَعَ فيه قَصْدًا فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فيه بِغَيْرِ
قَصْدِهِ فَلَا يُكْرَهُ ولو لم يُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى في الظُّهْرِ
بَلْ قَطَعَهَا لَا قَضَاءَ عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ وَالصَّوْمِ
الْمَظْنُونِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ هَهُنَا في الْخَامِسَةِ على ظَنٍّ أنها عليه
ولو أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى في الظُّهْرِ هل تجزىء هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عن
السُّنَّةِ التي بَعْدَ الظُّهْرِ
قال بَعْضُهُمْ يُجْزِيَانِ لِأَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَيْسَتْ إلَّا
رَكْعَتَيْنِ يُؤَدَّيَانِ نَفْلًا وقد وُجِدَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَا
يُجْزِيَانِ عنها لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ
بِتَحْرِيمَةٍ على حِدَةٍ لَا بِنَاءً على تَحْرِيمَةِ غَيْرِهَا فلم يُوجَدْ
هَيْئَةُ السُّنَّةِ فَلَا تَنُوبُ عنها وَبِهِ كان يُفْتِي الشَّيْخُ أبو عبد
اللَّهِ الجرجاني رحمه الله تعالى ( ( ( الجراجري ) ) )
ثُمَّ إذَا أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً
____________________
(1/178)
أُخْرَى
فَعَلَيْهِ السَّهْوُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا سَهْوَ عليه لِأَنَّ
السَّهْوَ تَمَكَّنَ في الْفَرْضِ وقد أَدَّى بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى وَجْهُ
الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا بَنَى النَّفَلَ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وقد
تَمَكَّنَ فيها النَّقْصُ بِالسَّهْوِ فَيُجْبَرُ بِالسَّجْدَتَيْنِ على ما
ذَكَرْنَا في الْمَسْبُوقِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ لِلنَّقْصِ
الْمُتَمَكَّنِ في الْفَرْضِ أو لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ في النَّفْلِ فَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ في النَّفْلِ لِدُخُولِهِ فيه لَا على
وَجْهِ السُّنَّةِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلنَّقْصِ الذي تَمَكَّنَ في الْفَرْضِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ انْقَطَعَتْ تَحْرِيمَةُ الْفَرْضِ
بِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ فَلَا وَجْهَ إلَى جَبْرِ نُقْصَانِ الْفَرْضِ
بَعْدَ الْخُرُوجِ منه وَانْقِطَاعِ تَحْرِيمَتِهِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ على أَصْلِ
الصَّلَاةِ وَوَصْفِهَا وَبِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ انْقَطَعَ الْوَصْفُ لَا
غَيْرُ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّ بِنَاءَ النَّفْلِ على تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ جَائِزٌ في حَقِّ
الِاقْتِدَاءِ حتى جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فَكَذَا
بِنَاءُ فِعْلِ نَفْسِهِ على تَحْرِيمَةِ فَرْضِهِ يَكُونُ جَائِزًا وَالْأَصْلُ
في الْبِنَاءِ هو الْبِنَاءُ في إحْرَامٍ وَاحِدٍ
وَفَائِدَةُ هذا الْخِلَافِ أَنَّهُ لو جاء إنْسَانٌ وَاقْتَدَى بِهِ في هَاتَيْنِ
الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَلَوْ أَفْسَدَهُ
يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كان الْإِمَامُ لو أَفْسَدَهُ لَا قَضَاءَ
عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَمِنْ هذا صَحَّحَ مَشَايِخُ بَلْخٍ اقْتِدَاءَ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ في
التَّطَوُّعَاتِ فَقَالُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مَضْمُونَةً في حَقِّ
الْمُقْتَدِي وَإِنْ لم تَكُنْ مَضْمُونَةً في حَقِّ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا
بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ لم يُجَوِّزُوا ذلك
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي سِتًّا وَلَوْ أَفْسَدَهَا لَا يَجِبُ عليه
الْقَضَاءُ كما لَا يَجِبُ على الْإِمَامِ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ
تُجْعَلَ السَّجْدَتَانِ جَبْرًا لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ في الْإِحْرَامِ وهو
إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَيَنْجَبِرُ بِهِمَا النَّقْصُ الممكن ( ( ( المتمكن ) ) ) في
الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جميعا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أبو بَكْرِ بن أبي سَعِيدٍ
رحمه الله تعالى
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا قَعَدَ في الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ
فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لم يُقَيِّدْهَا
بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ لِمَا مَرَّ وَإِنْ قَيَّدَ فَسَدَ فَرْضُهُ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ وَيَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيَخْرُجُ عن الْفَرْضِ
بِلَفْظِ السَّلَامِ بَعْدَ ذلك وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ بِنَاءً على أَصْلِهِ الذي
ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْكَامِلَةَ في احْتِمَالِ النَّقْصِ وما دُونِهَا
سَوَاءٌ فَكَانَ كما لو تَذَكَّرَ قبل أَنْ يُقَيِّدَ الْخَامِسَةَ بِسَجْدَةٍ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى الظُّهْرَ خَمْسًا ولم يُنْقَلْ
أَنَّهُ كان قَعَدَ في الرَّابِعَةِ وَلَا أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وقد
انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا من الْفَرْضِ ضَرُورَةَ حُصُولِهِ في
النَّفْلِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِيهِمَا وقد بَقِيَ عليه فَرْضٌ وهو
الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ وَالْخُرُوجُ عن الصَّلَاةِ مع بَقَاءِ فَرْضٍ من
فَرَائِضِهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كان قَعَدَ في الرَّابِعَةِ أَلَا
تَرَى أَنَّ الرَّاوِيَ قال صلى الظُّهْرَ وَالظُّهْرُ اسْمٌ لِجَمِيعِ
أَرْكَانِهَا
وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ وَهَذَا هو الظَّاهِرُ أَنَّهُ قام إلَى الْخَامِسَةِ على
تَقْدِيرِ أَنَّ هذه القعدة هي الْقَعْدَةَ الْأُولَى لِأَنَّ هذا أَقْرَبُ إلَى
الصَّوَابِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عليه
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ الْفَسَادُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِوَضْعِ رَأْسِهِ بِالسَّجْدَةِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ بِرَفْعِ رَأْسِهِ عنها حتى لو سَبَقَهُ الْحَدَثُ في هذه الْحَالَةِ
لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ
وَيَتَوَضَّأَ وَيَعُودَ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ
السَّهْوِ لِأَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَصِحُّ مع الْحَدَثِ فَكَأَنَّهُ لم يَسْجُدْ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِنَفْسِ الْوَضْعِ
فَلَا يَعُودُ
ثُمَّ الذي يَفْسُدُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْفَرْضِيَّةُ لَا
أَصْلُ الصَّلَاةِ حتى كان الْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى
فَتَصِيرَ السِّتُّ له نَفْلًا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ بِنَاءً على أَنَّ أَصْلَ
الْفَرْضِيَّةِ مَتَى بَطَلَتْ بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
لَا تَبْطُلُ
وَهَذَا الْخِلَافُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَ من مَسْأَلَةٍ
ذَكَرَهَا في الْأَصْلِ في بَابِ الْجُمُعَةِ وهو أَنَّ مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ
إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا وهو وَقْتُ الظُّهْرِ قبل إتْمَامِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ
قَهْقَهَ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تُنْتَقَضُ وَهَذَا يَدُلُّ
على أَنَّهُ بَقِيَ نَفْلًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا له وَكَذَا تَرْكُ الْقَعْدَةِ
في كل شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ عِنْدَهُ مُفْسِدٌ وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُفْسِدٍ
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ لها شُعَبٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْنَا عن ذِكْرِ
تَفَاصِيلِهَا وَجُمَلِهَا وَمَعَانِي الْفُصُولِ وَعِلَلِهَا إحالة ( ( ( حالة )
) ) إلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَا هذه الْمَسْأَلَةَ
بِالذِّكْرِ وَإِنْ كان بَعْضُ فُرُوعِهَا دخل في بَعْضِ ما ذَكَرْنَا من
الْأَقْسَامِ لِمَا أَنَّ لها فُرُوعًا أخرى ( ( ( أخر ) ) ) لَا تُنَاسِبُ
مَسَائِلَ الْفَصْلِ وَكَرِهْنَا قَطْعَ الْفَرْعِ عن الْأَصْلِ فَرَأَيْنَا
الصَّوَابَ في إيرَادِهَا بِفُرُوعِهَا في آخِرِ الْفَصْلِ تَتْمِيمًا
لِلْفَائِدَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ سَبَبِ
____________________
(1/179)
الْوُجُوبِ
وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وَمَنْ لَا تَجِبُ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا وفي بَيَانِ مَحِلِّ أَدَائِهَا وفي
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا وفي بَيَانِ سَبَبِهَا وفي بَيَانِ مَوَاضِعِهَا
من الْقُرْآنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّهَا وَاجِبَةٌ وقال الشَّافِعِيُّ
إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بواجبه
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حين عَلَّمَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم الشَّرَائِعَ فقال هل عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ قال لَا إلَّا أَنْ
تَطَّوَّعَ فَلَوْ كانت سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةً لَمَا اُحْتُمِلَ تَرْكُ
الْبَيَانِ بَعْدَ السُّؤَالِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ على الْمِنْبَرِ
وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا في الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَشَوَّفَ الناس
لِلسُّجُودِ فقال أَمَا إنَّهَا لم تُكْتَبْ عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ
وَلَنَا ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا
تَلَا ابن آدَمَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي
وَيَقُولُ أُمِرَ ابن آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ
بِالسُّجُودِ فلم أَسْجُدْ فَلِيَ النَّارُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الحكم ( ( ( الحكيم
) ) ) مَتَى حَكَى عن غَيْرِ الْحَكِيمِ أَمْرًا ولم يَعْقُبْهُ بِالنَّكِيرِ
يَدُلُّ ذلك على أَنَّهُ صَوَابٌ فَكَانَ في الحديث دَلِيلٌ على كَوْنِ ابْنِ
آدَمَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ
وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا
بِتَرْكِ السُّجُودِ فقال { وإذا قُرِئَ عليهم الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ }
وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ
السُّجُودِ في القران مُنْقَسِمَةٌ
منها ما هو أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَإِلْزَامٌ لِلْوُجُوبِ كما في آخِرِ سُورَةِ
الْقَلَمِ
وَمِنْهَا ما هو إخْبَارٌ عن اسْتِكْبَارِ الْكَفَرَةِ عن السُّجُودِ فَيَجِبُ
عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ بِتَحْصِيلِهِ
وَمِنْهَا ما هو إخْبَارٌ عن خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا
مُتَابَعَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } وَعَنْ عمر ( (
( عثمان ) ) ) وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن
عَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا
السَّجْدَةُ على من تَلَاهَا وَعَلَى من سَمِعَهَا وَعَلَى من جَلَسَ لها على
اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ وَعَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ وَأَمَّا حَدِيثُ
الْأَعْرَابِيِّ فَفِيهِ بَيَانُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً لَا ما يَجِبُ بِسَبَبٍ
يُوجَدُ من الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يذكر الْمَنْذُورَ وهو وَاجِبٌ
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ أنها لم تُكْتَبْ
عَلَيْنَا بَلْ أُوجِبَتْ وَفَرْقٌ بَيْن الْفَرْضِ وَالْوَاجِب على ما عُرِفَ في
مَوْضِعِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ
فَإِنَّهَا تَجِبُ على سَبِيلِ التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عِنْدَ عَامَّةِ
أَهْلِ الْأُصُولِ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ مُطْلَقَةٌ عن تَعْيِينِ
الْوَقْتِ فَتَجِبُ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذلك
بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا
وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عليه الْوُجُوبُ في آخِرِ عُمُرِهِ كما في سَائِرِ
الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ
وَأَمَّا في الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ على سَبِيلِ التَّضْيِيقِ لِقِيَامِ
دَلِيلِ التَّضْيِيقِ وهو أنها وَجَبَتْ بِمَا هو من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وهو
الْقِرَاءَةُ فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَصَارَتْ جُزْءًا من
أَجْزَائِهَا وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا في الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا
في الصَّلَاةِ نُقْصَانًا فيها وَتَحْصِيلُ ما ليس من الصَّلَاةِ في الصَّلَاةِ
إنْ لم يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبُ نُقْصَانًا وإذا الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ
الصَّلَاةِ وَجَبَ أَدَاؤُهَا مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ
بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا دَلِيلَ على التَّضْيِيقِ
وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فلم يَسْجُدْ ولم يَرْكَعْ حتى
طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى السُّجُودَ لم يُجْزِهِ وَكَذَا إذَا
نَوَاهَا في السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا وَالدَّيْنُ
يُقْضَى بِمَا له لَا بِمَا عليه وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عليه فَلَا يَتَأَدَّى
بِهِ الدَّيْنُ على ما نَذْكُرُ وَلِهَذَا قُلْنَا أنه لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ
لِلتِّلَاوَةِ في الْمِصْرِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ في الْمِصْرِ لَا يَتَحَقَّقُ
عَادَةً وَالْجَوَازُ بِالتَّيَمُّمِ مع وُجُودِ الْمَاءِ لَنْ يَكُونَ إلَّا
لِخَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا كما في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدِ وَلَا خَوْفَ
هَهُنَا لِانْعِدَامِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لها خَارِجَ الصَّلَاةِ فلم يَتَحَقَّقْ
التَّيَمُّمُ طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا بِالْإِجْمَاعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا أَحَدُ
شَيْئَيْنِ التِّلَاوَةُ أو السَّمَاعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حَالِهِ
مُوجِبٌ فَيَجِبُ على التَّالِي الْأَصَمِّ وَالسَّامِعِ الذي لم يَتْلُ أَمَّا
التِّلَاوَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا السَّمَاعُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَلْحَقَ اللَّائِمَةَ بِالْكُفَّارِ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ إذَا قرىء
( ( ( قرئ ) ) ) عليهم الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فما لهم لَا يُؤْمِنُونَ
وإذا قُرِئَ عليهم الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ }
وقال تَعَالَى { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بها
خَرُّوا سُجَّدًا } الْآيَةَ من غَيْرِ فَصْلٍ في الْآيَتَيْنِ بين التَّالِي
وَالسَّامِعِ وَرَوَيْنَا عن كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
السَّجْدَةُ على من سَمِعَهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ
بِالسَّمَاعِ كما تَلْزَمُهُ بِالتِّلَاوَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ لحاجة ( ( (
لحجة ) ) ) اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّمَاعِ كما يَخْضَعُ بِالْقِرَاءَةِ
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ في حَقِّ التَّالِي
____________________
(1/180)
بين
ما إذَا تَلَا السَّجْدَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أو بِالْفَارِسِيَّةِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حتى قال أبو حَنِيفَةَ حتى يَلْزَمُهُ
السُّجُودُ في الْحَالَيْنِ وَأَمَّا في حَقِّ السَّامِعِ فَإِنْ سَمِعَهَا
مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِمَ أو
لم يَفْهَمْ لِأَنَّ السَّبَبَ قد وُجِدَ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يَقِفُ على
الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ
بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِنَاءً على أَصْلِهِ إن
الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزَةٌ
وقال أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي وعندهما إنْ كان السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ
يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ
لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْفَارِسِيَّةَ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ سَوَاءٌ
فُهِمَ أو لم يُفْهَمْ كما لو سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ
لم يَجْعَلْهُ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ وَإِنْ فُهِمَ
ولو اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ وَهُمَا التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ بِأَنْ تَلَا
السَّجْدَةَ ثُمَّ سَمِعَهَا أو سَمِعَهَا ثُمَّ تَلَاهَا أو تَكَرَّرَ
أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ الْأَصْلُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا
إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ أو التِّلَاوَةُ
أو السَّمَاعُ حتى إن من تَلَا آيَةً وَاحِدَةً مِرَارًا في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ
تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه
السَّلَامُ كان يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ على رسول
اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهَ كان يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ على
أَصْحَابِهِ وكان لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً
وَرُوِيَ عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيُّ مُعَلِّمِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كان يُعَلِّمُ الْآيَةَ مِرَارًا وكان لَا يَزِيدُ على
سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه كان عَالِمًا
بِذَلِكَ ولم يُنْكِرْ عليه
وَرُوِيَ عن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يُكَرِّرُ
آيَةَ السَّجْدَةِ حين كان يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ وكان لَا يَسْجُدُ إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةَ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ جَامِعٌ لِلْكَلِمَاتِ
الْمُتَفَرِّقَةِ كما في الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلِأَنَّ في إيجَابِ السَّجْدَةِ
في كل مَرَّةٍ إيقَاعٌ في الْحَرَجِ لِكَوْنِ الْمُعَلِّمِينَ مُبْتَلِينَ
بِتَكْرَارِ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ
الْكِتَابِ وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ وَالْمَرَّةُ
الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ لِلتِّلَاوَةِ فَأَمَّا التَّكْرَارُ فلم يَكُنْ
لِحَقِّ التِّلَاوَةِ بَلْ لِلتَّحَفُّظِ أو لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ في ذلك
وَكُلُّ ذلك من عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهِ
فَجُعِلَ الْإِجْرَاءُ على اللِّسَانِ الذي هو من ضَرُورَةِ ما هو فِعْلُ
الْقَلْبِ أو وَسِيلَةٌ إلَيْهِ من أَفْعَالِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا هو فِعْلُ
الْقَلْبِ وَذَلِكَ ليس بِسَبَبٍ كَذَا عَلَّلَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ رحمه الله
تعالى
وَأَمَّا الصَّلَاةُ على النبي بِأَنْ ذَكَرَهُ أو سمع ذِكْرَهُ في مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ مِرَارًا فلم يُذْكَرْ في الْكُتُبِ
وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ مَرَّةٌ
وَاحِدَةٌ قِيَاسًا على السَّجْدَةِ
وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يصلي عليه في كل مَرَّةٍ لِقَوْلِهِ لَا تَجْفُونِي
بَعْدَ مَوْتِي فَقِيلَ له وَكَيْفَ نَجْفُوَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال إن
أُذْكَرَ في مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّ رسول اللَّهِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا
تَتَدَاخَلُ وَعَلَى هذا اخْتَلَفُوا في تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ أن من عَطَسَ
وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا
فقال بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَ في كل مَرَّةٍ لِأَنَّهُ
حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ على الثَّلَاثِ لَا يُشَمِّتُهُ
لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِلْعَاطِسِ في مَجْلِسِهِ
بَعْدَ الثَّلَاثِ قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّكَ مَزْكُومٌ
ثُمَّ لَا فَرْقَ هَهُنَا بين ما إذَا تَلَا مِرَارًا ثُمَّ سَجَدَ وَبَيْنَ ما
إذَا تَلَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا بَعْدَ ذلك مِرَارًا في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حتى لَا
يَلْزَمَهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا زَنَى مِرَارًا
أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ حُدَّ
ثُمَّ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا
وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ تَكَرَّرَ السَّبَبُ لِمُسَاوَاةِ كل فِعْلٍ الْأَوَّلَ
في الْمَأْثَمِ وَالْقُبْحِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ وَكُلِّ مَعْنًى صَارَ بِهِ
الْأَوَّلُ سَبَبًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ عليه الْحَدُّ جُعِلَ ذلك
حُكْمًا لِكُلِّ سَبَبٍ فَجُعِلَ بِكَمَالِهِ حُكْمًا لِهَذَا وَحُكْمًا لِذَاكَ
وَجُعِلَ كَأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ ليس معه غَيْرُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ لِحُصُولِ ما
شُرِعَ له الْحَدُّ وهو الزَّجْرُ عن الْمُعَاوَدَةِ في الْمُسْتَقْبَلِ فإذا
وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ ذلك انْعَقَدَ سَبَبًا كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ
من وُجُودِ حُكْمِهِ
بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه لِأَنَّ هَهُنَا السَّبَبُ هو التِّلَاوَةُ وَالْمَرَّةُ
الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ على ما مَرَّ فلم يَتَكَرَّرْ
السَّبَبُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَبَدَّلُ بِتَخَلُّلِ السَّجْدَةِ
بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ التَّخَلُّلِ لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِحَقِّ التَّأَمُّلِ
وَالتَّحَفُّظِ في الْحَالَيْنِ وَكَذَا السَّامِعُ لَتِلْكَ التِّلَاوَاتِ
الْمُتَكَرِّرَةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى لِأَنَّ ما
وَرَاءَهَا في حَقِّهِ جُعِلَ غير سَبَبٍ بَلْ تابعا ( ( ( تبعا ) ) ) لِلتَّأَمُّلِ
وَالْحِفْظِ لِأَنَّهُ في حَقِّهِ يُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ جميعا أَعْنِي
الْإِعَانَةَ على الْحِفْظِ وَالتَّدَبُّرِ
بِخِلَافِ ما إذَا سمع إنْسَانٌ آخَرُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أو الثَّالِثَةَ أو
الرَّابِعَةَ وَذَلِكَ في حَقِّهِ أَوَّلَ ما سمع حَيْثُ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ
لِأَنَّ ذلك في حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ تِلَاوَةٌ
حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ جُعِلَتْ سَاقِطَةً
____________________
(1/181)
في
حَقِّ من تَكَرَّرَتْ في حَقِّهِ فَفِي حَقِّ من لم تَتَكَرَّرْ بَقِيَتْ على حَقِيقَتِهَا
وَبِخِلَافِ ما إذَا قَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً في مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ لِأَنَّ
هُنَاكَ النُّصُوصَ مُنْعَدِمَةً وَالْجَامِعُ وهو الْمَجْلِسُ غَيْرُ ثَابِتٍ
وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَمَعْنَى التدبر ( ( ( التفكر ) ) ) والتفكر ( ( ( والتدبر
) ) ) زَائِلٌ لِأَنَّهَا في الْمَجْلِسِ الْآخَرِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ
لِيَنَالَ ثَوَابَهَا في ذلك الْمَجْلِسِ وَبِخِلَافِ ما إذَا قَرَأَ آيَاتٍ
مُتَفَرِّقَةً في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ هذه الْمَعَانِي أَيْضًا
أَمَّا النُّصُوصُ فَلَا تُشْكِلُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ لِأَنَّ
الْمَجْلِسَ لَا يَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ
كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ولآخر ( ( (
والآخر ) ) ) بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلِعَبْدِهِ بِالْعِتْقِ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ
لَا يَجْعَلُ الْمَجْلِسُ الْكُلَّ إقْرَارًا وَاحِدًا وَكَذَا الْحَرَجُ مُنْتَفٍ
وَكَذَا التِّلَاوَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ في الْأُولَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ تَلَاهَا في مَكَان وَذَهَبَ عنه ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا
فَعَلَيْهِ أُخْرَى لِأَنَّهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حَصَلَتْ بِحَقِّ
التِّلَاوَةِ فَتَجَدَّدَ السَّبَبُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا إذَا بَعُدَ عن
ذلك الْمَكَانِ فَإِنْ كان قَرِيبًا منه لم يَلْزَمْهُ أُخْرَى وَيَصِيرُ
كَأَنَّهُ تَلَاهَا في مَكَانِهِ لِحَدِيثِ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كان
يُعَلِّمُ الناس بِالْبَصْرَةِ وكان يَزْحَفُ إلَى هذا تَارَةً وَإِلَى هذا
تَارَةً أُخْرَى فَيُعَلِّمُهُمْ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً
وَاحِدَةً
وَلَوْ تَلَاهَا في مَوْضِعٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَسْمَعُهَا ثُمَّ ذَهَبَ التَّالِي
عنه ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا وَالسَّامِعُ على مَكَانِهِ سَجَدَ
التَّالِي لِكُلِّ مَرَّةٍ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ في حَقِّهِ وهو التِّلَاوَةُ
عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ
وَأَمَّا السَّامِعُ فَلَيْسَ عليه إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ السَّبَبَ في
حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ ما حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ في
حَقِّهِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَكَذَلِكَ إذَا كان التَّالِي على مَكَانِهِ ذلك
وَالسَّامِعُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَسْمَعُ تِلْكَ الْآيَةِ سَجَدَ السَّامِعُ
لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً وَلَيْسَ على التَّالِي إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ
لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ في حَقِّ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي على ما مَرَّ
وَلَوْ تَلَاهَا في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أو في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ في زَاوِيَةٍ
ثُمَّ تَلَاهَا في زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَا يَجِبُ عليه إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ
لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ في حَقِّ
الصَّلَاةِ فَفِي حَقِّ السَّجْدَةِ أَوْلَى وَكَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ وَكَذَلِكَ
الْبَيْتُ وَالْمَحْمَلُ وَالسَّفِينَةُ في حُكْمِ التِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ
سَوَاءٌ كانت السَّفِينَةُ وَاقِفَةً أو جَارِيَةً بِخِلَافِ الدَّابَّةِ على ما
نَذْكُرُ
وَلَوْ تَلَاهَا وهو يَمْشِي لَزِمَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ لِتَبَدُّلِ
الْمَكَانِ وَكَذَلِكَ لو كان يَسْبَحُ في نَهْرٍ عَظِيمٍ أو بَحْرٍ لِمَا
ذَكَرْنَا فَإِنْ كان يَسْبَحُ في حَوْضٍ أو غَدِيرٍ له حَدٌّ مَعْلُومٌ قِيلَ
يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَلَاهَا على غُصْنٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى
غُصْنٍ آخَرَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَكَذَا في التِّلَاوَةُ عِنْدَ الكدس (
( ( الكرس ) ) ) وَقَالُوا في تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ أنه يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا وهو يَسِيرُ على الدَّابَّةِ إنْ كان
خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً على حِدَةٍ بِخِلَافِ ما إذَا
قَرَأَهَا في السَّفِينَةِ وَهِيَ تَجْرِي حَيْثُ تَكْفِيهِ وَاحِدَةٌ
وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوَائِمَ الدَّابَّةِ جُعِلَتْ كَرِجْلَيْهِ حُكْمًا لِنُفُوذِ
تَصَرُّفِهِ عليها في السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ فَكَانَ تَبَدُّلُ مَكَانِهَا
كَتَبَدُّلِ مَكَانِهِ فَحَصَلْت الْقِرَاءَةُ في مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ
فَتَعَلَّقَتْ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ بِخِلَافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهَا لم
تُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ رِجْلَيْ الرَّاكِبِ لِخُرُوجِهَا عن قَبُولِ تَصَرُّفِهِ
في السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ وَلِهَذَا أُضِيفَ سَيْرُهَا إلَيْهَا دُونَ رَاكِبِهَا
قال اللَّهُ تَعَالَى { حتى إذَا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ }
وقال { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ في مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } فلم يَجْعَلْ تَبَدُّلَ
مَكَانِهَا تَبَدُّلَ مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ ما اسْتَقَرَّ هو فيه من
السَّفِينَةِ من حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ وَذَلِكَ لم يَتَبَدَّلْ
فَكَانَتْ التِّلَاوَةُ مُتَكَرِّرَةً في مَكَان وَاحِدٍ فلم يَجِبْ لها إلَّا
سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كما في الْبَيْتِ
وَعَلَى هذا حُكْمُ السَّمَاعِ بِأَنْ سَمِعَهَا من غير ( ( ( غيره ) ) )
مَرَّتَيْنِ وهو يَسِيرُ على الدَّابَّةِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِ السَّامِعِ
هذا إذَا كان خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا كان في الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا
وهو يَسِيرُ على الدَّابَّةِ وَيُصَلِّي عليها إنْ كان ذلك في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَيْثُ
جَوَّزَ صَلَاتَهُ عليها مع حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ في الْأَمَاكِنِ
الْمُخْتَلِفَةِ دَلَّ على أَنَّهُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ اخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ
أو جَعَلَ مَكَانَهُ في هذه الْحَالَةِ ظَهْرَ الدَّابَّةِ لَا ما هو مَكَانُ
قَوَائِمِهَا وَهَذَا أَوْلَى من إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْأَمَاكِنِ
الْمُخْتَلِفَةِ لِأَنَّهُ ليس بِتَغْيِيرٍ لِلْحَقِيقَةِ أو هو أَقَلُّ
تَغْيِيرًا لها وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ
وَالظَّهْرُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَارَ رَاكِبُ
الدَّابَّةِ في هذه الْحَالَةِ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ
الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ أَمْكِنَةَ قَوَائِمِ
الدَّابَّةِ لَصَارَ هو مَاشِيًا بِمَشْيِهَا وَالصَّلَاةُ مَاشِيًا لَا تَجُوزُ
وَأَمَّا إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ في رَكْعَتَيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْفِيَهُ
سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ وهو قَوْلُ أبي
يُوسُفَ الْأَوَّلُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذِهِ من الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ
التي رَجَعَ فيها أبو يُوسُفَ
____________________
(1/182)
عن
الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ
إحْدَاهَا هذه الْمَسْأَلَةُ
وَالثَّانِيَةُ إن الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ رَهْنًا
بِالْمُتْعَةِ قِيَاسًا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وفي الِاسْتِحْسَانِ
يَكُونُ رَهْنًا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عليه الْقِيَاسُ أَنْ
يُخَيَّرَ الْمَوْلَى ثَانِيًا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وفي
الِاسْتِحْسَانِ لَا يُخَيَّرُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وهو قَوْلُ
مُحَمَّدٍ لَا يُخَيَّرُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافُ إذَا صلى على الْأَرْضِ وَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ في
رَكْعَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيمَا إذَا قَرَأَهَا في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكَانَ هَهُنَا وَإِنْ
اتَّحَدَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكِنْ مع هذا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ
الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا لِأَنَّ لِكُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً مُسْتَحَقَّةً فَلَوْ
جَعَلْنَا الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا لِلْأُولَى وَالْتَحَقَتْ الْقِرَاءَةُ
بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لَخَلَتْ الثَّانِيَةُ عن الْقِرَاءَةِ وَلَفَسَدَتْ
وَحَيْثُ لم تَفْسُدْ دَلَّ أنها لم تُجْعَلْ مُكَرَّرَةً بِخِلَافِ ما إذَا
كَرَّرَ التِّلَاوَةَ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ جَعْلُ
التِّلَاوَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ مُتَّحِدَةً حُكْمًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَكَانَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيُوجِبُ
كَوْنَ الثَّانِيَةِ تَكْرَارًا لِلْأُولَى كما في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وما ذَكَرَهُ
مُحَمَّدٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لها حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ
وَوُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَحِقَةً بِالْأُولَى في
حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ لَا في غَيْرِهِ من الْأَحْكَامِ
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ على الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ فَقَرَأَ آيَةَ
السَّجْدَةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَسَجَدَ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ أَعَادَهَا في
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَا يُشْكِلُ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ قال
بَعْضُهُمْ يَلْزَمُهُ أُخْرَى
وقال بَعْضُهُمْ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ
ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قد يَكُونُ حَقِيقَةً وقد يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ
تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ أَكَلَ أو نَامَ مُضْطَجِعًا أو أَرْضَعَتْ
صَبِيًّا أو أَخَذَ في بَيْعٍ أو شِرَاءٍ أو نِكَاحٍ أو عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ
قَطْعٌ لِمَا كان قبل ذلك ثُمَّ أَعَادَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ
الْمَجْلِسَ يَتَبَدَّلُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَجْلِسُونَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ
مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الدَّرْسِ ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرُ
مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ النِّكَاحِ ثُمَّ بِالْبَيْعِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ
مَجْلِسَ الْبَيْعِ ثُمَّ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْأَكْلِ
ثُمَّ بِالْقِتَالِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْقِتَالِ فَصَارَ تَبَدُّلُ
الْمَجْلِسِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كَتَبَدُّلِهِ بِالذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِمَا
مَرَّ
وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أو أَكَلَ لُقْمَةً أو شَرِبَ شَرْبَةً أو تَكَلَّمَ
بِكَلِمَةٍ أو عَمِلَ عَمَلًا يَسِيرًا ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَيْسَ عليه أُخْرَى
لِأَنَّ بهذا الْقَدْرِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا
سَوَاءٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً إلَّا
أَنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا طَالَ الْعَمَلُ اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ إذَا
عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا خَرَجَ الْأَمْرُ عن يَدِهَا وكان قَطْعًا لِلْمَجْلِسِ
بِخِلَافِ ما إذَا أَكَلَ لُقْمَةً أو شَرِبَ شَرْبَةً
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَهَا أو أَطَالَ
الْجُلُوسَ ثُمَّ أَعَادَهَا ليس عليه سَجْدَةٌ أُخْرَى
لِأَنَّ مَجْلِسَهُ لم يَتَبَدَّلْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَطُولِ الْجُلُوسِ
وَكَذَا لو اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ أو بِالتَّهْلِيلِ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا
يَلْزَمُهُ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَهَا وهو جَالِسٌ ثُمَّ قام فَقَرَأَهَا وهو
قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ في مَكَانِهِ ذلك يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ
الْمَجْلِسَ لم يَتَبَدَّلْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لم يَبْرَحْ مَكَانَهُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ قِيَامٌ وهو عَمَلٌ قَلِيلٌ كَأَكْلِ
لُقْمَةٍ أو شُرْبِ شَرْبَةٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَهَذَا
بِخِلَافِ ما إذَا خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَقَامَتْ من مَجْلِسِهَا حَيْثُ خَرَجَ
الْأَمْرُ من يَدِهَا كما لو انْتَقَلَتْ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ لِأَنَّ خُرُوجَ
الْأَمْرِ من يَدِهَا مُوجِبُ الإعراض ( ( ( الاعتراض ) ) ) عن قَبُولِ
التَّمْلِيكِ إذْ التَّخْيِيرُ تَمْلِيكٌ على ما يُعْرَفُ في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَمَنْ مَلَكَ شيئا فَأَعْرَضَ عنه يَبْطُلُ ذلك التَّمْلِيكُ وَهَذَا لِأَنَّ
الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا أو زَوْجَهَا
أَمْرٌ تَحْتَاجُ فيه إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَنْظُرَ أَيَّ ذلك
أَعْوَدَ لها وَأَنْفَعَ وَالْقُعُودُ أَجْمَعُ لِلذِّهْنِ وَأَشَدُّ إحْضَارًا
لِلرَّأْيِ فَالْقِيَامُ من هذه الْحَالَةِ إلَى ما يُوجِبُ تَفَرُّقَ الذِّهْنِ
وَفَوَاتَ الرَّأْيِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ
أَمَّا هَهُنَا فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَتَعَدُّدِهِ لَا
بِالْإِعْرَاضِ وَعَدَمِهِ وَالْمَجْلِسُ لم يَتَبَدَّلْ فلم يَعْدُ مُتَعَدِّدًا
مُتَفَرِّقًا
وَكَذَلِكَ لو قَرَأَهَا وهو قَائِمٌ فَقَعَدَ ثُمَّ أَعَادَهَا يَكْفِيهِ
سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَرَأَهَا في مَكَان ثُمَّ قام وَرَكِبَ
الدَّابَّةَ على مَكَانِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا قبل أَنْ يَسِيرَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ
وَاحِدَةٌ على الْأَرْضِ
وَلَوْ سَارَتْ الدَّابَّةُ ثُمَّ تَلَا بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ
____________________
(1/183)
قبل
السَّيْرِ فَأَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا
وفي الْقِيَاسِ عليه ( ( ( فعليه ) ) ) سَجْدَتَانِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِهِ
بِالنُّزُولِ أو الرُّكُوبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّزُولَ أو الرُّكُوبَ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَلَا
يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كان سَارَ ثُمَّ نَزَلَ فَعَلَيْهِ
سَجْدَتَانِ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِهِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ
الْمَجْلِسُ وَكَذَلِكَ لو قَرَأَهَا ثُمَّ قام في مَكَانِهِ ذلك وَرَكِبَ ثُمَّ
نَزَلَ قبل السَّيْرِ فَأَعَادَهَا لَا تَجِبُ عليه إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَعَادَهَا وهو على
مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ أَنَّ
النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ لَيْسَا بِمَكَانَيْنِ
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ ولم يَسْجُدْ لها ثُمَّ
افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَتَلَاهَا في عَيْنِ ذلك الْمَكَانِ صَارَتْ إحْدَى
السَّجْدَتَيْنِ تَابِعَةً لِلْأُخْرَى فَتَسْتَتْبِعُ التي وُجِدَتْ في
الصَّلَاةِ التي وُجِدَتْ قَبْلَهَا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ
وَتُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم يقل ( ( ( يتل ) ) ) إلَّا في الصَّلَاةِ حتى أَنَّهُ لو
سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ في الصَّلَاةِ خَرَجَ عن عُهْدَةِ الْوُجُوبِ وإذا لم
يَسْجُدْ لم يَبْقَ عليه شَيْءٌ إلَّا الْمَأْثَمُ
وَهَذَا على رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَكِتَابِ الصَّلَاةِ من الْأَصْلِ
وَنَوَادِرِ الصَّلَاةِ التي رَوَاهَا الشَّيْخُ أبو حَفْصٍ الْكَبِيرُ
وَلَنَا على رِوَايَةِ الصَّلَاةِ التي رَوَاهَا أبو سُلَيْمَانَ لَا تَسْتَتْبِعُ
إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا
وَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ الْأُولَى وَبَقِيَتْ السَّجْدَةُ
وَاجِبَةً عليه سَوَاءٌ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ في الصَّلَاةِ أو لم يَسْجُدْ
وَأَمَّا إذَا تَلَاهَا وَسَجَدَ لها ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَأَعَادَهَا في
ذلك الْمَكَانِ يَسْجُدُ لِلْمَتْلُوَّةِ في الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ
الرِّوَايَتَيْنِ
أَمَّا على رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَلِعَدَمِ الِاسْتِتْبَاعِ وَثُبُوتِ
الِاسْتِقْلَالِ
وَأَمَّا على رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ فَلِكَوْنِ الْمَوْجُودَةِ
خَارِجَ الصَّلَاةِ تَابِعَةً لِلْمَوْجُودَةِ في الصَّلَاةِ وَالتَّابِعُ لَا
يَسْتَتْبِعُ الْمَتْبُوعَ فَلَا تَصِيرُ السَّجْدَةُ لِتِلْكَ التِّلَاوَةِ
مَانِعَةً من لُزُومِ السَّجْدَةِ بِهَذِهِ التِّلَاوَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ في
مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حُكْمًا لِأَنَّ الْأُولَى وُجِدَتْ في مَجْلِسِ
التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةَ في مَجْلِسِ الصَّلَاةِ وَالْمَجْلِسُ يَتَبَدَّلُ
بِتَبَدُّلِ الْأَفْعَالِ فيه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قد يَكُونُ مَجْلِسَ عَقْدٍ
ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ مُذَاكَرَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ أَكْلٍ وَاعْتُبِرَ
هذا التَّبَدُّلُ في حَقِّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في بَابِ الْعُقُودِ وَكُلِّ
ما يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ
فَكَذَا هذا لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْحُكْمِيَّ مُلْحَقٌ بِالتَّعَدُّدِ
الْحَقِيقِيِّ في الْمَوَاضِعِ أَجْمَعَ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ حكم ( (
( وحكم ) ) ) وَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ
أن تَفُوتُ لِالْتِحَاقِهَا بِأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَا هو من
أركان الصَّلَاةِ فلم يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لِلْأُولَى فَالْأُولَى
أَيْضًا تَفُوتُ بِالسَّبْقِ فَلَا تَصِيرُ تَابِعَةً لِمَا بَعْدَهَا إذْ
الشَّيْءُ لَا يَتْبَعُ ما بَعْدَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ ما قَبْلَهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ
مَجْلِسَ صَلَاةٍ وَلَكِنْ في الصَّلَاةِ تِلَاوَةٌ مَفْرُوضَةٌ فَكَانَ مَجْلِسُ
الصَّلَاةِ مَجْلِسَ التِّلَاوَةِ ضَرُورَةً فلم يُوجَدْ التَّبَدُّلُ لَا
حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِ صِفَةِ الِاتِّحَادِ من حَيْثُ
الْحُكْمِ لِلتِّلَاوَتَيْنِ الْمُتَعَدِّدَتَيْنِ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْمُوجِبِ
لِصِفَةِ الِاتِّحَادِ وهو الْمَجْلِسُ الْمُتَّحِدُ
وَكَذَا الْمُتَعَدِّدُ من أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا
كَالسَّمَاعِ وَالتِّلَاوَةِ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الِانْفِرَادِ
سَبَبٌ
ثُمَّ من قَرَأَ وَسَمِعَ من نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ
فَالْتَحَقَ السَّبَبَانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتَعَدِّدَ من
أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا فَصَارَ مُتَّحِدًا حُكْمًا
وَزَمَانُ وُجُودِ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ التِّلَاوَتَيْنِ
وُجِدَتَا في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا
خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَةَ في الصَّلَاتَيْنِ مُتَقَرِّرَةٌ في
مَحِلِّهَا بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ
وَلَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ في حَقِّ وُجُوبِ
السَّجْدَةِ دُونَ جَوَازِ الصَّلَاةِ لَبَقِيَ التَّعَدُّدُ من وَجْهٍ مع وُجُودِ
دَلِيلِ الِاتِّحَادِ
وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ كان أَوْلَى
من الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمَوْجُودَةُ في الصَّلَاةِ في حُكْمِ
التَّفَكُّرِ لِتَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بها وهو من أَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ
دُونَ التَّفَكُّرِ وَلَا مَانِعَ من أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى كَأَنَّهَا وُجِدَتْ
في الصَّلَاةِ فَصَارَ كما لو تُلِيَتَا في الصَّلَاةِ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ من
جُمْلَةِ الصَّلَاةِ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا سمع من غَيْرِهِ آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ شَرَعَ في الصَّلَاةِ
في ذلك الْمَكَانِ وَتَلَا تِلْكَ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا في الصَّلَاةِ فَهَذَا
وَاَلَّذِي تَلَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ شَرَعَ في الصَّلَاةِ مَكَانَهُ ثُمَّ
أَعَادَهَا سَوَاءٌ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه والله أعلم
وَلَوْ قَرَأَهَا في الصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ سَلَّمَ فَأَعَادَهَا قبل أَنْ
يَبْرَحَ مَكَانَهُ ذُكِرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُخْرَى
وَذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَوْجُودَةَ في الصَّلَاةِ تَفُوتُ
بِالسَّبْقِ وَحُرْمَةِ الصَّلَاةِ جميعا فَيَسْتَتْبِعُ الْأَدْنَى دَرَجَةً
الْمُتَأَخِّرَةُ وَقْتًا ولهذه ( ( ( وبهذه ) ) ) الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ
التَّعْلِيلَ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاخْتِلَافِ
الْمَجْلِسِ حُكْمًا ليس بِصَحِيحٍ
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَتْلُوَّةَ في الصَّلَاةِ لَا
وُجُودَ لها بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا الْحُكْمُ فإن بَعْدَ انْقِطَاعِ
التَّحْرِيمَةِ لَا بَقَاءَ لِمَا هو من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ أَصْلًا
وَالْمَوْجُودُ هو الذي يُسْتَتْبَعُ دُونَ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ ما إذَا كانت
الْأُولَى مَتْلُوَّةً خَارِجَ الصَّلَاةِ فإن
____________________
(1/184)
تِلْكَ
بَاقِيَةٌ بَعْدَ التِّلَاوَةِ من حَيْثُ الْحُكْمُ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وهو
وُجُوبُ السَّجْدَةِ فإذا تَلَاهَا في الصَّلَاةِ وُجِدَتْ وَالْأُولَى
مَوْجُودَةٌ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ الْأَوْهَى
وَذَكَرَ الشيخ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّهُ إنَّمَا
اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الموضوع ( ( ( الموضع ) ) ) فَوَضَعَ
الْمَسْأَلَةَ في النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بعدما سَلَّمَ قبل أَنْ
يَتَكَلَّمَ وَبِالسَّلَامِ لم يَنْقَطِعْ فَوْرُ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ
أَعَادَهَا في الصَّلَاةِ وَوَضَعَهَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ فِيمَا إذَا
أَعَادَهَا بَعْدَ ما سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ وَبِالْكَلَامِ يَنْقَطِعُ فَوْرُ
الصَّلَاةِ الكبرى ( ( ( ألا ) ) ) لو تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ بَعْدَ
السَّلَامِ يَأْتِي بها بعد ( ( ( وبعد ) ) ) الْكَلَامِ لَا يَأْتِي بها
فَيَكُونُ هذا في مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ لم يَسْجُدْهَا في
الصَّلَاةِ حتى سَجَدَهَا الْآنَ
قال في الْأَصْلِ أَجْزَأَهُ عنهما وهو مَحْمُولٌ على ما إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ
السَّلَامِ قبل الْكَلَامِ لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن حُرْمَةِ الصَّلَاةِ
فَكَأَنَّهُ كَرَّرَهَا في الصَّلَاةِ وَسَجَدَ
أَمَا لَا يَسْتَقِيمُ هذا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ
لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ قد سَقَطَتْ عنه بِالْكَلَامِ ولو تَلَاهَا في صَلَاتِهِ
ثُمَّ سَمِعَهَا من أَجْنَبِيٍّ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ لِأَنَّ
السَّمَاعِيَّةَ لَيْسَتْ بصلاتيه وَاَلَّتِي أَدَّاهَا صلاتيه فَلَا تَنُوبُ
عَمَّا لَيْسَتْ بصلاتيه
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التِّلَاوَةَ الْأُولَى من أَفْعَالِ صَلَاتِهِ
وَالثَّانِيَةَ لَا فَحَصَلَتْ الثَّانِيَةُ تَكْرَارًا لِلْأُولَى من حَيْثُ
الْأَصْلُ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ فَجُعِلَ وَصْفُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ
فَصَارَتْ من الصَّلَاةِ فَيَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَة وَقَالُوا على رِوَايَةِ
النَّوَادِرِ أَيْضًا تَكُونُ تَكْرَارًا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ
بِمُسْتَحَقَّةٍ بِنَفْسِهَا في مَحَلِّهَا فَتَلْتَحِقُ بِالْأُولَى بِخِلَافِ
تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
فَكَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِنَفْسِهَا في مَحَلِّهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ
مُلْحَقَةً بِالْأُولَى
وَلَوْ سَمِعَهَا أَوَّلًا من أَجْنَبِيٍّ وهو في الصَّلَاةِ ثُمَّ تَلَاهَا
بِنَفْسِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ تَلَاهَا في الصَّلَاةِ
ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَانِهِ
وَبَنَى على صَلَاتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ذلك الْأَجْنَبِيُّ تِلْكَ الْآيَةَ فَعَلَى
هذا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَهَا إذَا فَرَغَ من صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ
عن مَكَانِهِ فَسَمِعَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ
وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ
فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جاء وَقَرَأَ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ
أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَكَانُ وَالْفَرْقُ
أَنَّ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَكَانُ قد تَبَدَّلَ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ
التَّحْرِيمَةَ لَا تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ في
حَقِّ ما ليس من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَسَمَاعُ السَّجْدَةِ ليس من أَفْعَالِ
الصَّلَاةِ فلم يَتَّحِدْ الْمَكَانُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ
مَرَّةٍ سَجْدَةٌ على حِدَةٍ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فإن هُنَاكَ
الْقِرَاءَةُ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ
الْمُتَفَرِّقَةَ مَكَانًا وَاحِدًا حُكْمًا لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا
تَجُوزُ في الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجُعِلَتْ الْأَمْكِنَةُ كَمَكَانٍ
وَاحِدٍ في حَقِّ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ الْجَوَازِ وَالْقِرَاءَةُ من
أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْمَكَانُ في حَقِّهَا مُتَّحِدًا فَأَمَّا
السَّمَاعُ فَلَيْسَ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَتَبْقَى الْأَمْكِنَةُ في حَقِّهِ
مُتَفَرِّقَةً لِعَدَمِ ضَرُورَةٍ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ وَالْحَقَائِقُ لَا
يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا حُكْمًا إلَّا لِضَرُورَةٍ
وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ من إمَامٍ ثُمَّ دخل في صَلَاتِهِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ
لم يَسْجُدْهَا سَجَدَهَا مع الْإِمَامِ وَإِنْ كان سَجَدَهَا الْإِمَامُ سَقَطَتْ
عنه حتى لَا يَجِبَ عليه قَضَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى
بِالْإِمَامِ صَارَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً له وَجُعِلَ من حَيْثُ
التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَهَا ثَانِيًا فَصَارَتْ تِلْكَ السَّجْدَةُ
من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ ثَانِيًا لَا يَجِبُ عليه مَرَّةً أُخْرَى
لِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ من أَفْعَالِ الصَّلَاة فَكَذَا هَهُنَا وإذا صَارَتْ
من أَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ
وَذُكِرَ في زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِمَا سمع قبل
الِاقْتِدَاءِ بعدما فَرَغَ من صَلَاتِهِ
وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لو تَلَا ما سمع
خَارِجَ الصَّلَاةِ في صَلَاةِ نَفْسِهِ في غَيْرِ ذلك الْمَكَانِ وَسَجَدَ لها
لَا يَسْقُطُ عنه ما لَزِمَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا
ذَكَرَهُ في زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ فَصَارَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِتَكْرَارٍ لِلْأُولَى
لِأَنَّ التَّكْرَارَ إعَادَةُ الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ وَهَهُنَا الْأُولَى لم
تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا فِعْلًا من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةُ وَاجِبَةٌ
وَهِيَ فِعْلٌ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفَ الْوَصْفُ فلم تَكُنْ إعَادَةً
بِخِلَافِ ما إذَا كَانَتَا في الصَّلَاةِ أو كَانَتَا جميعا خَارِجَ الصَّلَاةِ
حَيْثُ كان تَكْرَارًا لِاتِّحَادِ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ من بَاعَ بِأَلْفٍ
ثُمَّ بَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ ما كان تَكْرَارًا بَلْ كان فَسْخًا لِلْأَوَّلِ
وَلَوْ بَاعَ في الثَّانِيَةِ بِأَلْفٍ كان تَكْرَارًا وإذا لم يَكُنْ تَكْرَارًا
جُعِلَ كَأَنَّهُ قَرَأَ آيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ في مَكَان أو آيَةً في
مَكَانَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ على حِدَةٍ دَلَّ
عليه أَنَّهُ لو كان
____________________
(1/185)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق