ج5.
صفحة : 900 .
وكففت غرب النفس حتى ما تتوق إلى متـاق الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. والغناء لابن عباد الكاتب. ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل، وقيل: إنه لغيره.
?أخبار سعيد بن عبد الرحمن
وقد مضى نسبه في نسب جده حسان بن ثابت متدما. وهو شاعر من شعراء الدولة الأموية، متوسط في طبقته ليس معدودا في الفحول. وقد وفد إلى الخلفاء من بني أمية فمدحهم ووصلوه. ولم تكن له نباهة أبيه وجده.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني أبو عمرو الخصاف عن العتبي قال: خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسان مع جماعة من قريش إلى الشأم في خلافة هشام بن عبد الملك، وسألهم معاونته، فلم يصادفوا من هشام له نشاطا. وكان الوليد بن يزيد قد طلق امرأته العثمانية ليتزوج أختها، فمنعه هشام عن ذلك ونهى أباها أن يزوجه. فمر يوما بالوليد وقد خرج من داره ليركب، فلما رآه وقف، فأمر به الوليد فدعي إليه، فلما جاءه قال: أنت ابن عبد الرحمن بن حسان? قال: نعم أيها الأمير. فقال له: ما أقدمك? قال: وفدت على أمير المؤمنين منتجعا ومادحا ومستشفعا بجماعة صحبتهم من أهله، فلم أنل منه خطوة ولا قبولا. قال: لكنك تجد عندي ما تحب، فأقم حتى أعود. فأقام ببابه حتى دخل إلى هشام وخرج من عنده، فنزل ودعا بسعيد، فدخل إليه، فأمر بتغيير هيئته وإصلاح شأنه، ثم قال له: أنشدني قصيدة بلغتني لك فشوقتني إليك، وغنيت في بعضها، فلم أزل أتمنى لقاءك. فقال: أي قصيدة أيها الأمير? قال قولك:
أبائنة سعدى ولم توف بـالـعـهـد ولم تشف قلبا تيمته علـى عـمـد
نعم أفمود أنت إن شطـت الـنـوى بسعدى وما من فرقة الدهر من رد
كأن قد رأيت البين لا شـيء دونـه فم الآن أعلن ما تسر من الـوجـد
لعلك منها بعد أن تشحـط الـنـوى ملاق كما لاقى ابن عجلان من هند
فويل ابن سلمى خـلة غـير أنـهـا تبلغ منـي وهـي مـازحة جـدي
وتدنو لنا في القول وهـى بـعـيدة فما إن بسلمى من دنـو ولا بـعـد
ومهما أكن جلدا عـلـيه فـإنـنـي على هجرها غير الصبور ولا الجلد
إذا سمت نفسي هجرها قطعت بـه فجانبته فـيمـا أسـر ومـا أبـدي
كأني أرى في هجرهـا أي سـاعة هممت به موتى وفي وصلها خلدي
ومن أجلها صافيت من لا تـردنـي عليه له قربى ولا نعـمة عـنـدي
وأغضيت عيني من رجال على القذى يقولون أقوالا أمضوا بهـا جـلـدي
وأقصيت من قد كنت أدني مكـانـه وأدنيت من قد كنت أقصيته جهـدي
فإن يك أمسى وصل سلمـى خـلابة فما أنا بالمفتون في مثلهـا وحـدي
فأصبح ما منتـك دينـا مـسـوفـا لواه غريم ذو اعتـلال وذو جـحـد
تجود بتـقـريب الـذي هـو آجـل من الوعد ممطول وتبخل بالـنـقـد
وقد قلت إذ أهـدت إلـينـا تـحـية عليها سلام الله من نازح مـهـدي
سقي الغيث ذاك الغور ما سكنت بـه ونجدا إذا صارت نواها إلى نـجـد قال: فجعل ينشدها ودموع الوليد تنحدر على خديه حتى فرغ منها. ثم قال له: لن تحتاج إلى رفد أحد ولا معونته ما بقيت، وأمر له بخمسمائة درهم، وقال: إبعث بها إلى أهلك وأقم عندي، فلن تعدم ما تحبه ما بقيت.
فلم يزل معه زمانا، ثم استأذنه وانصرف. وفي بعض هذه الأبيات غناء نسبته:
أبائنة سعدى ولم توف بـالـعـهـد ولم تشف قلبا أقصدته على عـمـد
ومهما أكن جلدا عـلـيه فـإنـنـي على هجرها غير الصبور ولا الجلد الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. من هذه القصيدة:
وأغضيت عيني من رجال على القذى يقولون أقوالا أمضوا بهـا جـلـدي
إذا سمت نفسي هجرها قطعت بـه فجانبته فـيمـا أسـر ومـا أبـدي الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.
صفحة : 901
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي ومحمد بن الضحاك بن عثمان قالا: وفد سعيد بن عبد الرحمن بن حسان على هشام بن عبد الملك وكان حسن الوجه، فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فأراده على نفسه، وكان لوطيا زنديقا، فدخل سعيد على هشام مغضبا وهو يقول:
إنه والله لـولا أنـت لـم ينج مني سالما عبد الصمد فقال له هشام: ولماذا? قال:
إنه قد رام مني خـطة لم يرمها قبله مني أحد فقال: وما هي? قال:
رام جهلا بي وجهلا بـأبـي يدخل الأفعى إلى خيس الأسد قال: فضحك هشام وقال له: لو فعلت به شيئا لم أنكر عليك.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن شبة قال أخبرنا ابن عائشة لا أعلمه إلا عن أبيه قال: سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان صديقا له حاجة - وقال هشام بن محمد في خبره: سأل سعيد بن عبد الرحمن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حاجة - يكلم فيها سليمان بن عبد الملك فلم يقضها له، ففزع فيها إلى غيره فقضاها، فقال:
سئلت فلم تفعل وأدركت حاجتي تولى سواكم حمدها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعهـا
إذا ما أرادته على الخير مـرة عصاها وإن همت بشر أطاعها قال ابن عمار: وقد أنشدنا هذه الأبيات سليمان بن أبي شيخ لسعيد بن عبد الرحمن ولم يذكر لها خبرا.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال: قال رجل من الأنصار لعدي بن الرقاع: أكتبني شيئا من شعرك. قال: ومن أي العرب أنت? قال: أنا رجل من الأنصار. قال: ومن منكم القائل:
إن الحمام إلى الحجاز بهيج لي طربا ترنـمـه إذا يتـرنـم
والبرق حين أشيمه متيامـنـا وجنائب الأرواح حين تنسـم فقال له: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. فقال: عليكم بصاحبكم فاكتب شعره، فلست تحتاج معه إلى غيره.
وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته:
برح الخفاء فأي ما بك تكتـم والشوق يظهر ما تسر فيعلم
وحملت سقما من علائق حبها والحب يعلقه الصحيح فيسقم الغناء لحكم خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي، وذكره إبراهيم له ولم يجنسه وفي هذه القصيدة يقول:
علوية أمست ودون وصالـهـا مضمار مصر وعابد والقلـزم
خود تطيف بها نواعم كالدمـى مما اصطفى ذو النيقة المتوسم
حلين مرجان البحور وجوهـرا كالجمر فيه على النحور ينظم
قالت وماء العين يغسل كحلهـا عند الفراق بمستهـل يسـجـم
يا ليت أنك يا سعيد بـأرضـنـا تلقي المراسي ثـاويا وتـخـيم
فتصيب لذة عيشـنـا ورخـاءه فنكون أجوارا فماذا تـنـقـم
لا ترجعن إلى الحجاز فـإنـه بلد به عيش الكـريم مـذمـم
وهلم جاورنا فقلت له اقصـري عيش بطيبة ويح غيرك أنعـم
أيفارق الوطن الحبيب لمنـزل ناء ويشرى بالحـديث الأقـدم
إن الحمام إلى الحجاز يهيج لي طربا تـرنـمـه إذا يتـرنـم
والبرق حين أشيمه متـيامـنـا وجنائب الأرواح حين تنـسـم
لو لح ذو قسم على أن لم يكـن في الناس مشبهها لبر المقسـم
من أجلها تركي القرار وخفضه وتجشمي ما لم أكن أتجـشـم
ولقد كتمت غداة بانـت حـاجة في الصدر لم يعلم بها متكلـم
تشفي برؤيتها السقيم وترتمـى حب القلوب رميها لا يسـلـم
رقراقة في عنفوان شبـابـهـا فيها عن الخلق الدني تـكـرم
ضنت على مغرى بطول سؤالها صب كما يسل الغني المعـدم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن الحرمازي قال:
صفحة : 902
خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسان إلى عسكر يزيد بن عبد الملك، فأتى عنبسة بن سعيد بن العاصي، وكان أبوه صديقا لأبيه، فسأله أن يرفع أمره إلى الخليفة، فوعده أن يفعل، فلم يمكث إلا يسيرا حتى طرقه لص فسرق متاعه وكل شيء كان معه، فأتى عنبسة فتنجزه ما وعده، فاعتل عليه ودافعه، فرجع سعيد من عنده فارتجل وقال:
أعنبس قد كنت لا تـعـتـزي إلى عدة منك كانت ضـلالا
وعدت عدات لو انجـزتـهـا إذا لحمدت ولم تـرز مـالا
وما كان ضرك لو قد شفعـت فأعطى الخليفة عفوا نـوالا
وقد ينجز الحـر مـوعـوده ويفعل ما كان بالأمس قـالا
فيا ليتني والمنى كاسـمـهـا وقد يصرف الدهر حالا فحالا
قعدت ولم ألتمس ما وعـدت ويا ليت وعدك كان اعتـلالا
وكانت نعم منـك مـخـزونة وقـلـت مـن أول يوم ألالا
أرى كذب القول من شر مـا يعد إذا الناس عدوا الخصـالا
فأبقيت لي عنـك مـنـدوحة ونفسا عزوفا تقل الـسـؤالا
?فإن عدت أرجوكم بعـدهـا فبدلت بعد العلاء السـفـالا
أأرجوك من بعد ما قد عزفت لعمري لقد جئت شيئا عضالا نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني يأثره عن أبيه قال: كان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان إذا وفد إلى الشأم نزل على الوليد بن يزيد، فأحسن نزله وأعطاه وكساه وشفع له. فلما حج الوليد لقيه سعيد بن عبد الرحمن في أول من لقيه، فسلم عليه، فرد الوليد عليه السلام وحياه وقربه وأمر بإنزاله معه وبسطه، ولم يأنس بأحد أنسه به. وأنشده سعيد قوله فيه:
يا لقومي للهجر بعد التصافـي وتنائى الجميع بعـد ائتـلاف
ما شجا القلب بعد طول اندمال غير هاب كالفرخ بين أثافـي
ونعيب الغراب في عرصة الدا ر ونؤي تسقي عليه السوافي وقد روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال: رأى علي ابن عمر أوضاحا فقال: ألقها عنك فقد كبرت.
ما جرت خطرة على القلب مني فيك إلا استترت عن أصحابـي
من دموع تجري فإن كنت وحدي خاليا أسعدت دموعي انتحابـي
إن حبي إياك قد سل جسـمـي ورماني بالشيب قبل الشـبـاب
إرحمي عاشقا لك اليوم صـبـا هائم العقل قد ثوى في التـراب الشعر للسيد الحميري، والغناء لمحمد نعجة خفيف رمل أيضا. ولم أجد لهذا المغني خبرا ولا ذكرا في موضع من المواضع أذكره. وقد مضت أخبار السيد متقدما.
أكرع الكرعة الروية منـهـا ثم أصحو وما شفيت غليلـي
كم أتى دون عهد أم جـمـيل من أني حاجة ولبث طـويل
وصياح الغراب أن سر فأسرع سوف تحظى بنائل وقـبـول الشعر للأحوص. والغناء للبردان خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر.
?أخبار البردان
البردان لقب غلب عليه. ومن الناس من يقول: بردان من أهل المدينة، وأخذ الغناء عن معبد وقبله عن جميلة وعزة الميلاء. وكان معدلا مقبول الشهادة، وكان متولي السوق بالمدينة.
قال هارون بن الزيات حدثني أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال: هو بردان بضم الباء وتسكين الراء. أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر وحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال قال إسحاق: كان بردان متولي السوق بالمدينة. فقدم إليه رجل خصما يدعي عليه حقا، فوجب الحكم عليه فأمر به إلى الحبس. فقال له الرجل: أنت بغير هذا أعلم منك بهذا. فقال: ردوه فرد، فقال: لعلك تعني الغناء إني والله به لعارف، ولو سمعت شيئا جاء البارحة لازددت علما بأني عارف، ومهما جهلت فإني بوجوب الحق عليك عالم، اذهبوا به إلى الحبس حتى يخرج إلى غريمه من حقه.
قال وحدثني أبو أيوب عن حماد عن أبيه عن ابن جامع عن سياط قال: رأيت البردان بالمدينة يتولى سوقها وقد أسن، فقلت له: يا عم، إني رويت لك صوتا صنعته، وأحببت أن تصححه لي. فضحك ثم قال: نعم يا بني وحبا وكرامة. لعله:
كم أتى دون عهد أم جميل
صفحة : 903
فقلت: قال: مل بنا إلى ها هنا، فمال بي إلى دار في السوق، ثم قال: غنه، فقلت: بل تتم إحسانك يا عم وتغنينى به فإنه أطيب لنفسي، فإن سمعته كما أقول غنيته وأنا غير متهيب، وإن كان فيه مستصلح استعدته. فضحك ثم قال: أنت لست تريد أن تصحح غنائك، إنما تريد أن تقول سمعتني وأنا شيخ وقد انقطعت وأنت شاب. فقلت للجماعة: إن رأيتم أن تسألوه أن يشفعني فيما طلبت منه فسألوه، فاندفع فغناه فأعاده ثلاث مرات، فما رأيت أحسن من غنائه على كبر سنه ونقصان صوته. ثم قال: غنه فغنيته، فطرب الشيخ حتى بكى، وقال: اذهب يا بني، فأنت أحسن الناس غناء، ولئن عشت ليكونن لك شأن. قال: وكان بردان خفيف الروح طيب الحديث مليح النادرة مقبول الشهادة قد لقي الناس، فكان بعد ذلك إذا رآني يدعوني فيأخذني معه إلى منزله ويسألني أن أغنيه فأفعل، فإذا طابت نفسه سألته أن يطرح علي شيئا من أغاني القدماء فيفعل إلى أن أخذت عنه عدة أصوات.
لمن الديار بحـائل فـوعـال درست وغيرها سنون خوالي
درج البوارح فوقها فتنكـرت بعد الأنيس معارف الأطلال
دمن تذعذعها الرياح وتـارة تعفو بمرتجز السحاب ثقـال
فكأنما هي من تقادم عهدهـا ورق نشرن من الكتاب بوالي الشعر للأخطل، والغناء لسائب خاثر، ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر من أصوات قليلة الأشباه. وذكر عمرو بن بانة أن في الثاني والرابع من الأبيات للأبجر ثقيلا أول. وذكر حبش أن لمعبد فيه ثقيلا أول بالوسطى وأنه أحد السبعة، وأن لإسحاق فيه ثاني ثقيل، وذكر الهشامي أن لحن إسحاق خفيف ثقيل.
ذكر الأخطل وأخباره ونسبه
هو غياث بن غوث بن الصلت بن الطارقة، ويقال ابن سيحان بن عمرو بن الفدوكس بن عمرو بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمر بن غنم بن تغلب. ويكنى أبا مالك. وقال المدائني: هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة، قال: ويقال لسلمة سلمة اللحام. قال: وبعث النعمان بن المنذر بأربعة أرماح لفرسان العرب، فأخذ أبو براء عامر بن مالك رمحا، وسلمة بن طارقة اللحام رمحا وهو جد الأخطل، وأنس بن مدرك رمحا، وعمرو بن معد يكرب رمحا.
والأخطل لقب غلب عليه. ذكر هارون بن الزيات عن ابن النطاح عن أبي عبيدة أن السبب فيه أنه هجا رجلا من قومه، فقال له: يا غلام، إنك لأخطل، فغلبت عليه. وذكر يعقوب بن السكيت أن عتبة بن الزعل بن عبد الله بن عمر بن عمرو بن حبيب بن الهجرس بن تيم بن سعد بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب حمل حمالة، فأتى قومه يسأل فيها، فجعل الأخطل يتكلم وهو يومئذ غلام. فقال عتبة: من هذا الغلام الأخطل? فلقب به.
قال يعقوب وقال غير أبي عبيدة: إن كعب بن جعيل كان شاعر تغلب، وكان لا يأتي منهم قوما إلا أكرموه وضربوا له قبة، حتى إنه كان تمد له حبال بين وتدين فتملأ له غنما. فأتى في مالك بن جشم ففعلوا ذلك به، فجاء الأخطل وهو غلام فأخرج الغنم وطردها، فسبه عتبة ورد الغنم إلى مواضعها، فعاد وأخرجها وكعب ينظر إليه، فقال: إن غلامكم هذا لأخطل - والأخطل: السفيه - فغلب عليه. ولج الهجاء بينهما، فقال الأخطل فيه:
سميت كعبا بشر العـظـام وكان أبوك يسمى الجعـل
وإن مـحـلـك مـن وائل محل القراد من است الجمل فقال كعب: قد كنت أقول لا يقهرني إلا رجل له ذكر ونبأ، ولقد أعددت هذين البيين لأن أهجى بهما منذ كذا وكذا، فغلب عليهما هذا الغلام.
وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي قال حدثني عيسى بن إسماعيل قال حدثني القحذمي قال: وقع بين ابني جعيل وأمهما ذرء من كلام، فأدخلوا الأخطل بينهم، فقال الأخطل:
لعمرك إنني وابني جعيل وأمهما لإستـار لـئيم فقال ابن جعيل: يا غلام، إن هذا لخطل من رأيك، ولولا أن أمي سمية أمك لتركت أمك يحدو بها الركبان، فسمي الأخطل يذلك. وكان اسم أمهما وأمم الأخطل ليلى.
صفحة : 904
وقال هارون حدثني إسماعيل بن مجمع عن ابن الكلبي عن قوم من تغلب في قصة كعب بن جعيل والأخطل بمثل ما ذكره يعقوب عن غير أبي عبيدة ممن لم يسمه، وقال فيها: وكان الأخطل يومئذ يقرزم - والقرزمة: الابتداء بقول الشعر - فقال له أبوه: أبقرزمتك تريد أن تقاوم ابن جعيل وضربه. قال: وجاء ابن جعيل على تفئة ذلك فقال: من صاحب الكلام? فقال أبوه: لا تحفل به فإنه غلام أخطل. فقال له كعب:
شاهد هذا الوجه غب الحمة فقال الأخطل:
فناك كعب بن جعيل أمة فقال كعب: ما اسم أمك? قال: ليلى. قال: أردت أن تعيذها باسم أمي. قال: لا أعاذها الله إذا. وكان اسم أم الأخطل ليلى، وهي امرأة من إياد، فيسمي الأخطل يومئذ، وقال:
هجا الناس ليلى أم كعب فمزقت فلم يبق إلا نفنف أنـا رافـعة وقال فيه أيضا:
هجاني المنتنان ابنا جعـيل وأي الناس يقتله الهجـاء
ولدتم بعد إخوتكم من است فهلا جئتم من حيث جاؤوا فانصرف كعب، ولج الهجاء بينهما.
وكان نصرانيا من أهل الجزيرة. ومحله في الشعر أكبر من أن يحتاج إلى وصف. وهو وجرير والفرزدق طبقة واحدة، فجعلها ابن سلام أول طبقات الإسلام. ولم يقع إجماع على أحدهم أنه أفضل، ولكل واحد منهم طبقة تفضله عن الجماعة.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى يونس فقال له: من أشعر الثلاثة? قال: الأخطل. قلنا: من الثلاثة? قال: أي ثلاثة ذكروا فهو أشعرهم. قلنا: عمن تروي هذا? قال: عن عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق الحضرمي وأبي عمرو بن العلاء وعنبسة الفيل وميمون الأقرن الذين ماشوا الكلام وطرقوه. أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز قال قال أبو عبيدة عن يونس، فذكر مثله وزاد فيه: لا كأصحابك هؤلاء لا بدويون ولا نحويون. فقلت للرجل: سله وبأي شيء فضلوه? قال: بأنه كان أكثرهم عدد طوال جياد ليس فيها سقط ولا فحش وأشدهم تهذيبا للشعر. فقال أبو وهب الدقاق: أما إن حماد وجنادا كانا لا يفضلانه. فقال: وما حماد وجناد لا نحويان ولا بدويان ولا يبصران الكسور ولا يفصحان، وأنا أحدثك عن أبناء تسعين أو كثر أدوا إلى أمثالهم ماشوا الكلام وطرقوه حتى وضعوا أبنيته فلم تشذ عنهم زنة كلمة، وألحقوا السليم بالسليم والمضاعف بالمضاعف والمعتل بالمعتل والأجوف بالأجوف وبنات الياء بالياء وبنات الواو بالواو، فلم تخف عليهم كلمة عربية، وما علم حماد وجناد.
قال هارون حدثني القاسم بن يوسف عن الأصمعي: أن الأخطل كان يقول تسعين بيتا ثم يختار منها ثلاثين فيطيرها.
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال أخبرنا محمد بن سلام قال سمعت سلمة بن عياش وذكر أهل المجلس جريرا والفرزدق والأخطل ففضله سلمة عليهما. قال: وكان إذا ذكر الأخطل يقول: ومن مثل الأخطل وله في كل بيت، شعر بيتان ثم ينشد قوله:
ولقد علمت إذا العشار تروحت هدج الرئال تكبهن شـمـالا
أنا نعجل بالعبيط لضـيفـنـا قبل العيال ونضرب الأبطالا ثم يقول ولو قال:
ولقد علمت إذا العشـا ر تروحت هدج الرئال كان شعرا، وإذا زدت فيه تكبهن شمالا، كان أيضا شعرا من روي آخر.
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال: كعب بن جعيل لقبه الأخطل، سمعه ينشد هجاء فقال: يا غلام إنك لأخطل اللسان، فلزمته.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري فال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثنا بعض أصحابنا عن رجل من بني سعد قال:
صفحة : 905
كنت مع نوح بن جرير في ظل شجرة، فقلت له: قبحك الله وقبح أباك أما أبوك فأفنى عمره في مديح عبد ثقيف يعني الحجاج. وأما أنت فامتدحت قثم بن العباس فلم تهتد لمناقبه ومناقب آبائه حتى امتدحته بقصر بناه. فقال: والله لئن سؤتني في هذا الموضع لقد سؤت فيه أبي: بينا أنا آكل معه يوما وفي فيه لقمة وفي يده أخرى، فقلت: يا أبت، أنت أشعر أم الأخطل? فجرض باللقمة التي في فيه ورمى بالتي في يده وقال: يا بني، لقد سررتني وسؤتني. فأما سرورك إياي فلتعهدك لي مثل هذا وسؤالك عنه. وأما ما سؤتني به فلذكرك رجلا قد مات. يا بني أدركت الأخطل وله ناب واحد، ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني به، ولكني أعانتني عليه خصلتان: كبر سن، وخبث دين.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد وقال: سئل حماد الراوية عن الأخطل، فقال: ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلى النصرانية قال إسحاق وحدثني أبو عبيدة قال قال أبو عمرو: لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا.
قال إسحاق وحدثني الأصمعي أن أبا عمرو أنشد بيت شعر، فاستجاده وقال: لو كان للأخطل ما زاد.
وذكر يعقوب بن السكيت عن الأصمعي عن أبي عمرو: أن جريرا سئل أي الثلاثة أشعر? فقال: أما الفرزدق فتكلف مني ما لا يطيق. وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للفرائض. وأما أنا فمدينة الشعر.
وقال ابن النطاح حدثني الأصمعي قال: إنما أدرك جرير الأخطل وهو شيخ قد تحطم. وكان الأخطل أسن من جرير، وكان جرير يقول: أدركته وله ناب واحد، ولو أدركت له نابين لأكلني. قال: وكان أبو عمرو يقول: لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما فضلت عليه أحدا.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: قال العلاء بن جرير: إذا لم يجيء الأخطل سابقا فهو سكيت، والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا، وجرير يجيى سابقا ومصليا وسكيتا.
وقال يعقوب بن السكيت قال الأصمعي: قيل لجرير: ما تقول في الأخطل? قال: كان أشدنا اجتراء بالقليل وأنعتنا للحمر والخمر.
وروى إسماعيل عن عبيد الله عن مؤرج عن شعبة عن سماك بن حرب: أن الفرزدق دخل الكوفة، فلقيه ضوء بن اللجلاج، فقال له: من أمدح أهل الإسلام? فقال له: وما تريد إلى ذلك? قال: تمارينا فيه. قال: الأخطل أمدح العرب.
وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مسلم عن حفص بن عمر قال: سمعت شيخا كان يجلس إلى يونس كان يكنى أبا حفص، فحدثه أنه سأل جريرا عن الأخطل فقال: أمدح الناس لكريم وأوصفه للخمر. قال: وكان أبو عبيدة يقول: شعراء الإسلام الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق. قال أبو عبيدة: وكان أبو عمرو يشبه الأخطل بالنابغة لصحة شعره.
وقال ابن النطاح حدثني عبد الله بن رؤبة بن العجاج قال: كان أبو عمرو يفضل الأخطل.
وقال ابن النطاح حدثني عبد الرحمن بن برزج قال: كان حماد يفضل الأخطل على جرير والفرزدق. فقال له الفرزدق: إنما تفضله لأنه فاسق مثلك. فقال: لو فضلته بالفسق لفضلتك.
قال ابن النطاح قال لي إسحاق بن مرار الشيباني: الأخطل عندنا أشعر الثلاثة. فقلت: يقال إنه أمدحهم فقال: لا والله ولكن أهجاهم. من منهما يحسن أن يقول:
ونحن رفعنا عن سلول رماحنـا وعمدا رغبنا عن دماء بني نصر أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال: قال الأخطل: أشعر الناس قبيلة بنو قيس بن ثعلبة، وأشعر الناس بيتا آل أبي سلمى وأشعر الناس رجل في قميصي.
أخبرني الحسن قال حدثني محمد قال حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن حماد - هكذا قال، وأظنه علي بن مجاهد - قال: قال الأخطل لعبد الملك: يا أمير المؤمنين، زعم ابن المراغة أنه يبلغ مدحتك في ثلاثة أيام وقد أقمت في مدحتك:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا سنة فما بلغت كل ما أردت. فقال عبد الملك: فأسمعناها يا أخطل، فأنشده إياها، فجعلت أرى عبد الملك يتطاول لها، ثم قال: ويحك يا أخطل أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب? قال: أكتفي بقول أمير المؤمنين. وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت دراهم وألقى عليه خلعا، وخرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول: هذا شاعر أمير المؤمنين، هذا أشعر العرب.
صفحة : 906
وقال ابن الزيات حدثني جعفر بن محمد بن عيينة بن المنهال عن هشام عن عوانة قال: أنشد عبد الملك قول كثير فيه:
فما تركوها عنوة عن مودة ولكن بحد المشرفي استقالها فأعجب به. فقال له الأخطل: ما قلت لك والله يا أمير المؤمنين أحسن منه. قال: وما قلت? قال قلت:
أهلوا من الشهر الحرام فأصبحوا موالي ملك لا طريف ولا غصب جعلته لك حقا وجعلك أخذته غصبا، قال: صدقت.
قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال أخبرنا عمر بن شبة قال أخبرنا أبو دقاقة الشامي مولى قريش عن شيخ من قريش قال: رأيت الأخطل خارجا من عند عبد الملك، فلما انحدر دنوت منه فقلت: يا أبا مالك، من أشعر العرب? قال: هذان الكلبان المتعاقران من بني تميم. فقلت: فأين أنت منهما? قال: أنا واللات أشعر منهما. قال: فحلف باللات هزؤا واستخفافا بدينه.
وروى هذا الخبر أبو أيوب المديني عن المدائني عن عاصم بن شنل الجرمي أنه سأل الأخطل عن هذا، فذكر نحوه، وقال: واللات والعزى.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال ذكر الحرمازي: أن رجلا من بني شيبان جاء إلى الأخطل فقال له: يا أبا مالك، إنا، وإن كنا بحيث تعلم من افتراق العشيرة واتصال الحرب والعداوة، تجمعنا ربيعة، وإن لك عندي نصحا. فقال: هاته، فما كذبت. فقلت: إنك قد هجوت جريرا ودخلت بينه وبين الفرزدق وأنت غني عن ذلك ولا سيما أنه يبسط لسانه بما ينقبض عنه لسانك ويسب ربيعة سبا لا تقدر على سب مضر بمثله والملك فيهم والنبوة قبله، فلو شئت أمسكت عن مشارته ومهارته. فقال: صدقت في نصحك وعرفت مرادك، وصلتك رحم فو الصليب والقربان لأتخلصن إلى كليب خاصة دون مضر بما يلبسهم خزيه ويشملهم عاره. ثم اعلم أن العالم بالشعر لا يبالي وحق الصليب إذا مر به البيت المعاير السائر الجيد، أمسلم قاله أم نصراني.
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني عن أبي الحسن المدائني قال: أصبح عبد الملك يوما في غداة باردة، فتمثل قول الأخطل:
إذا اصطبح الفتى منها ثلاثا بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشية لا شك فـيهـا وأرخى من مآزره الفضولا ثم قال: كأني أنظر إليه الساعة مجلل الإزار مستقبل الشمس في حانوت من حوانيت دمشق، ثم بعث رجلا يطلبه فوجده كما ذكره.
وقال هارون بن الزيات حدثني طائع عن الأصمعي قال: أنشد أبو حية النميري يوما أبا عمرو:
يا لمعد ويا للناس كلـهـم ويا لغائبهم يوما ومن شهدا كأنه معجب بهذا البيت، فجعل أبو عمرو يقول له: إنك لتعجب بنفسك كأنك الأخطل.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الغلابي عن عبد الرحمن التيمي عن هشام بن سليمان المخزومي: أن الأخطل قدم على عبد الملك، فنزل على ابن سرحون كاتبه. فقال عبد الملك: على من نزلت? قال: على فلان. قال: قاتلك الله ما أعلمك بصالح المنازل فما تريد أن ينزلك? قال: درمك من درمككم هذا ولحم وخمر من بيت رأس. فضحك عبد الملك ثم قال له: ويلك وعلى أي شيء اقتتلنا إلا على هذا. ثم قال: ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف? قال: فكيف بالخمر? فال: وما تصنع بها وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر فقال: أما إذ قلت ذلك فإن فيما بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع. فضحك ثم قال: ألا تزور الحجاج فإنه كتب يستزيرك. فقال: أطائع أم كاره? قال: بل طائع. قال: ما كنت لأختار نواله على نوالك ولا قربه على قربك، إنني إذا لكما فال الشاعر:
كمبتاع ليركبه حـمـارا تخيره من الفرس الكبير فأمر له بعشرة آلاف درهم وأمره بمدح الحجاج? فمدحه بقوله:
صرمت حبالك زينب ورعوم وبدا المجمجم منهما المكتوم ووجه بالقصيدة مع ابنه إليه وليست من جيد شعره.
وقال هارون بن الزيات حدثني محمد بن إسماعيل عن أبي غسان قال: ذكروا الفرزدق وجريرا في حلقة المدائني، فقلت لصباح بن خاقان: أنشدك بيتين للأخطل وتجيء لجرير والفرزدق بمثلهما? قال: هات، فأنشدته:
ألم يأتها أن الأراقـم فـلـقـت جماجم قيس بين راذان والحضر
صفحة : 907
جماجم قوم لم يعافـوا ظـلامة ولم يعرفوا أين الوفاء من الغدر قال: فسكت.
قال إسحاق وحدثني أبو عبيدة أن يونس سئل عن جرير والفرزدق والأخطل: أيهم أشعر? قال: أجمعت العلماء على الأخطل. فقلت لرجل إلى جنبه: سله ومن هم? فقال: من شئت، ابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن، هؤلاء طرقوا الكلام وماشوه لا كمن تحكمون عنه لا بدويين ولا نحويين. فقلت لرجل: سله: وبأي شيء فضل على هؤلاء? قال: بأنه كان أكثرهم عدد قصائد طوال جياد ليس فيها فحش ولا سفط. قال أبو عبيدة: فنظرنا في ذلك فوجدنا للأخطل عشرا بهذه الصفة وإلى جانبها عشرا إن لم تكن مثلها فليست بدونها، ووجدنا لجرير بهذه الصفة ثلاثا. قال إسحاق: فسألت أبا عبيدة عن العشر فقال:
عفا واسط من آل رضوى فنبتل
وتأبد الربع من سلمى بأحفار
وخف القطين فراحوا منك وابتكروا
وكذبتك عينك أم رأيت بواسط
ودع المعمر لا تسأل بمصرعه
ولمن الديار بحائل فوعال قال إسحاق: ولم أحفظ بقية العشر. قال: وقصائد جرير:
حي الهدملة من ذات المواعيس
وألا طرقتك وأهلي هجود
وأهوى أراك برامتين وقودا قال وقال أبو عبيدة: الأخطل أشبه بالجاهلية وأشدهم أسر شعر وأقلهم سقطا وأخبرنا الجوهري عن عمر بن شبة عن أبي عبيدة مثله. وفي بعض هذه القصائد التي ذكرت للأخطل أغان هذا موضع ذكرها.
منها:
تأبد الربع من سلمى بأحـفـار وأقفرت من سليمى دمنة الدار
وقد تحل بها سلمى تجاذبـنـي تساقط الحلي حاجاتي وأسراري غناه عمر الوادي هزجا بالسبابة في مجرى الوسطى. وسنذكر خبر هذا الشعر في أخبار عبد الرحمن بن حسان لما هجاه الأخطل وهجا الأنصار، إذ كان هذا الشعر قيل في ذلك.
ومنها:
خف القطين فراحوا منك وابتكروا وأزعجتهم نوى في صرفها غير
كأنني شارب يوم استـبـد بـهـم من قهوة ضمنتها حمص أو جدر
جادت بها من ذوات القار مترعة كلفاء ينحت عن خرطومها المدر غناه إبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر. ولابن سريج فيه رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه رمل آخر يقال: إنه لعلوية، ويقال: إنه لإبراهيم. وفيه لعلوية خفيف ثقيل آخر لا يشك فيه.
وقال هارون بن الزيات حدثني ابن النطاح عن أبي عمرو الشيباني عن رجل من كلب يقال له مهوش عن أبيه: أن عمر بن الوليد بن عبد الملك سأل الأخطل عن أشعر الناس، قال: الذي كان إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع. قال: ومن هو? قال: الأعشى. قال: ثم من? قال: ابن العشرين يعني طرفة. قال: ثم من? قال: أنا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثنا أبو قحافة المري عن أبيه قال: دخل الأخطل على بشر بن مروان وعنده الراعي، فقال له بشر: أنت أشعر أم هذا? قال: أنا أشعر منه وأكرم.
فقال للراعي: ما تقول قال: أما أشعر مني فعسى، وأما أكرم فإن كان في أمهاته من ولدت مثل الأمير فنعم. فلما خرج الأخطل قال له رجل: أتقول لخال الأمير أنا أكرم منك. قال: ويلك إن أبا نسطوس وضع في رأسي أكؤسا ثلاثا، فوالله ما أعقل معها.
قال: ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان، فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي، فمر من يسقيني. فقال: اسقوه ماء. فقال: شراب الحمار، وهو عندنا كثير. قال: فاسقوه لبنا. قال: عن اللبن فطمت. قال: فاسقوه عسلا. قال: شراب المريض. قال: فتريد ماذا? قال: خمرا يا أمير المؤمنين. قال: أو عهدتني أسقي الخمر لا أم لك لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت. فخرج فلقي فراشا لعبد الملك فقال: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر فسقاه، فقال: اعدله بآخر فسقاه آخر. فقال: تركتهما يعتركان في بطني، إسقني ثالثا فسقاه ثالثا. فقال: تركتني أمشي على واحدة، إعدل ميلي برابع فسقاه رابعا، فدخل على عبد الملك فأنشده:
خف القطين فراحوا منك وابتكروا وأزعجتهم نوى في صرفها غير فقال عبد الملك: خذ بيده يا غلام فأخرجه، ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره، وأحسن جائزته، وقال: إن لكل قوم شاعرا وإن شاعر بني أمية الأخطل.
صفحة : 908
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال قال أبان بن عثمان حدثني سماك بن حرب عن ضوء بن اللجلاج قال: دخلت حماما بالكوفة وفيه الأخطل، قال فقال: ممن الرجل? قلت: من بني ذهل. قال: أتروي للفرزدق شيئا? قلت نعم. قال: ما أشعر خليلي على أنه ما أسرع ما رجع في هبته. قلت: وما ذاك? قال قوله:
أبنى غدانة إنني حررتـكـم فوهبتكم لعطية بن جـعـال
لولا عطية لاجت دعت أنوفكم من بين ألام آنف وسـبـال وهبهم في الأول ورجع في الآخر. فقلت: لو أنكر الناس كلهم هذا ما كان ينبغي أن تنكره أنت. قال: كيف? قلت: هجوت زفر بن الحارث ثم خوفت الخليفة منه فقلت:
بني أمية إني ناصح لـكـم فلا يبيتن فيكم آمنـا زفـر
مفترشا كافتراش الليث كلكله لوقعة كائن فيها له جـزر ومدحت عكرمة بن ربعي فقلت:
قد كنت أحسبه قينا وأخبـره فاليوم طير عن أثوابه الشرر قال: لو أردت المبالغة في هجائه ما زدت على هذا. فقال له الأخطل: والله لولا أنك من قوم سبق لي منهم ما سبق لهجوتك هجاء يدخل معك قبرك. ثم قال:
ما كنت هاجي قوم بعد مدحهم ولا تكدر نعمى بعد ما تجب أخرج عني.
وقال هارون بن الزيات حدثني أحمد بن إسماعيل الفهري عن أحمد بن عبد العزيز بن علي بن ميمون عن معن بن خلاد عن أبيه قال: لما استنزل عبد الملك زفر بن الحارث الكلابي من قرقيسيا، أقعده معه على سريره، فدخل عليه ابن ذي الكلاع. فلما نظر إليه مع عبد الملك على السرير بكى. فقال له: ما يبكيك? فقال: يا أمير المؤمنين، كيف لا أبكي وسيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافه عليك، ثم هو معك على السرير وأنا على الأرض قال: إني لم أجلسه معي أن يكون أكرم علي منك، ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني. فبلغت الأخطل وهو يشرب فقال: أما والله لأقومن في ذلك مقاما لم يقمه ابن ذي الكلاع ثم خرج حتى دخل على عبد الملك. فلما ملأ عينه منه قال:
وكأس مثل عين الديك صرف تنسي الشاربين لها العقـولا
إذا شرب الفتى منها ثـلاثـا بغير الماء حاول أن يطـولا
مشى قرشية لا شك فـيهـا وأرخى من مآزره الفضولا فقال له عبد الملك: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك. قال: أجل والله يا أمير المؤمنين حين تجلس عدو الله هذا معك على السرير وهو القائل بالأمس:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هـيا قال: فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير وقال: أذهب الله حزازات تلك الصدور. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعهد الذي أعطيتني. فكان زفر يقول: ما أيقنت بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.
وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مسلم عن سعيد بن الحارث عن عبد الخالق بن حنظلة الشيباني قال: قال الأخطل: فضلت الشعراء في المديح والهجاء والنسيب بما لا يلحق بي فيه. فأما النسيب فقولي:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بـدر وإن كان حيانا عدى آخر الدهـر
من الخفرات البيض أما وشاحهـا فيجري وأما القلب منها فلا يجري
تموت وتحيا بالضجيع وتـلـتـوي بمطرد المتنين منبتر الـخـصـر وقولي في المديح:
نفسي فداء أمير المؤمنـين إذا أبدى النواجذ يوما عارم ذكـر
الخائض الغمرة الميمون طائره خليفة الله يستسقى به المطـر وقولي في الهجاء:
وكنت إذا لقيت عبـيد تـيم وتيما قلت أيهم العـبـيد
لئيم العالمين يسود تـيمـا وسيدهم وإن كرهوا مسود قال عبد الخالق: وصدق لعمري، لقد فضلهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية عن محمد بن داود قال: طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك. فبينا هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست، فقال الأخطل:
كلانا على هم يبيت كـأنـمـا بجنبيه من مس الفراش قروح
صفحة : 909
على زوجها الماضي تنوح وإنني على زوجتي الأخرى كذلك أنوح أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش: أن الأخطل قال لعبد الملك بن المهلب: ما نازعتني نفسي قط إلى مدح أحد ما نازعتني إلى مدحكم، فأعطني عطية تبسط بها لساني، فوالله لأردينكم أردية لا يذهب صقالها إلى يوم القيامة. فقال: أعلم والله يا أبا مالك أنك بذلك ملىء، ولكني أخاف أن يبلغ أمير المؤمنين أني أسأل في غرم وأعطى الشعراء فأهلك ويظن ذلك مني حيلة. فلما قدم على إخوته لاموه كل اللوم فيما فعله. فقال: قد أخبرته بعذري.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال أبو الخطاب حدثني نوح بن جرير قال: قلت لأبي: أنت أشعر أم الأخطل? فنهرني وقال: بئس ما قلت وما أنت وذاك لا أم لك فقلت: وما أنا وغيره قال: لقد أعنت عليه بكفر وكبر سن، وما رأيته إلا خشيت أن يبتلعني.
أخبرني عمي عن الكراني عن دماذ عن أبي عبيدة قال: قال رجل لأبي عمرو: يا عجبا للأخطل نصراني كافر يهجو المسلمين. فقال أبو عمرو: يالكع لقد كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وحرز خز، في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن.
وقال هارون حدثني أحمد بن إسماعيل الفهري عن أحمد بن عبد الله بن علي الدوسي عن معقل بن فلان عن أبيه عن أبي العسكر قال: كنا بباب مسلمة بن عبد الملك، فتذاكرنا الشعراء الثلاثة، فقال أصحابي: حكمناك وتراضينا بك. فقلت: نعم، هم عندي كأفراس ثلاثة أرسلتهن في رهان، فأحدها سابق الدهر كله، وأحدها مصل، وأحدها يجيء أحيانا سابق الريح وأحيانا سكيتا وأحيانا متخلفا. فأما السابق في كل حالاته فالأخطل. وأما المصلى في كل حالاته فالفرزدق. وأما الذي يسبق الريح أحيانا ويتخلف أحيانا فجرير، ثم أنشد له:
سرى لهم ليل كأن نجومه قناديل فيهن الذبال المفتل وقال: أحسن في هذا وسبق. ثم أنشد:
التغلبية مهرها فلسـان والتغلبي جنازة الشيطان وقال: تخلف في هذه. فخرجنا من عنده على هذا.
وقال هارون بن الزيات حدثني محمد بن عمرو الخرجاني عن أبيه: أن الفرزدق والأخطل، بينا هما يشربان وقد اجتمعا بالكوفة في إمارة بشر بن مروان إذ دخل عليهما فتى من أهل اليمامة، فقالا له: هل تروي لجرير شيئا? فأنشدهما:
لو قد بعثت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث لقد نكحت الأخطلا فأقبل الفرزدق فقال: يا أبا مالك، أتراه إن وسمني يتوركك على كبر سنك ففزع الفتى فقام وقال: أنا عائذ بالله من شركما. فقالا: اجلس لا بأس عليك ونادماه بقية يومهما.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو يعلى قال حدثني عبد السلام بن حرب قال: نزل الفرزدق على الأخطل ليلا وهو لا يعرفه، فجاءه بعشاء ثم قال له: إني نصراني وأنت حنيف، فأي الشراب أحب إليك? قال: شرابك. ثم جعل الأخطل لا ينشد بيتا إلا أتم الفرزدق القصيدة. فقال الأخطل: لقد نزل بي الليلة شر، من أنت? قال: الفرزدق بن غالب. قال: فسجد لي وسجدت له. فقيل للفرزدق في ذلك، فقال: كرهت أن يفضلني. فنادى الأخطل: يا بني تغلب هذا الفرزدق. فجمعوا له إبلا كثيرة. فلما أصبح فرقها ثم شخص.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال: كان مما يقدم به الأخطل أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف عن الفحش. وقال الأخطل: ما هجوت أحدا قط بما تستحي العذراء أن تنشده أباها.
أخبرني أحمد وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا بن شبة قال حدثني محمد بن عباد الموصلي قال: خرج يزيد بن معاوية معه عام حج بالأخطل. فاشتاق يزيد أهله فقال:
بكى كل ذي شجو من الشأم شاقه تهام فأنى يلتقـي الـشـجـيان أجز يا أخطل، فقال:
يغور الذي بالشأم أو ينجد الذي بغور تهامات فـيلـتـقـيان أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قيل لأبي العباس أمير المؤمنين: إن رجلا شاعرا قد مدحك، فتسمع شعره? قال: وما عسى أن يقول في بعد قول ابن النصرانية في بني أمية:
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
صفحة : 910
أخبرني به وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي بمثله.
قال هارون وحدثني هارون بن سليمان عن الحسن بن مروان التميمي عن أبي بردة الفزاري عن رجل من تغلب قال: لحظ الأخطل شكوة لأمه فيها لبن وجرابا فيه تمر وزبيب، وكان جائعا وكان يضيق عليه، فقال لها: يا أمه، آل فلان يزورونك ويقضون حقك وأنت لا تأتينهم وعندهم عليل، فلو أتيتهم لكان أجمل وأولى بك. قالت: جزيت خيرا يا بني لقد نبهت على مكرمة. وقامت فلبست ثيابها ومضت إليهم. فمضى الأخطل إلى الشكوة ففرغ ما فيها وإلى الجراب فأكل التمر والزبيب كله. وجاءت فلحظت موضعها فرأته فارغا، فعلمت أنه قد دهاها، وعمدت إلى خشبة لتضربه بها، فهرب وقال:
ألم على عنبات العجوز وشكوتها من غياث لمم
فظلت تنادي ألا ويلهـا وتلعن واللعن منها أمم وذكر يعقوب بن السكيت هذه القصة، فحكى أنها كانت مع امرأة لأبيه لها منه بنون، فكانت تؤثرهم باللبن والتمر والزبيب وتبعث به يرعى أعنزا لها. وسائر القصة والشعر متفق. وقال في خبره: وهذا أول شعر قاله الأخطل.
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن فيروز عن الأصمعي عن أمامة ورعوم اللتين قال فيهما الأخطل:
صرمت أمامة حبلها ورعوم ورعوم وأمامة بنتا سعيد بن إياس بن هانىء بن قبيصة، وكان الأخطل نزل عليه فأطعمه وسقاه خمرا وخرجتا وهما جويريتان فخدمتاه. ثم نزل عليه ثانية وقد كبرتا فحجبتا عنه، فسأل عنهما وقال: فأين ابنتاي? فأخبر بكبرهما، فنسب بهما. قال: والرعوم هي التي كانت عند قتيبة بن مسلم وكان يقال لها أم الأخماس، تزوجت في أخماس البصرة محمد بن المهلب وعامر بن مسمع وعباد بن الحصين وقتيبة بن مسلم، وكان يقال لها الجارود.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال قال أبو عبد الملك: كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل، وكان يدخل المسجد فيقدمون إليه. قال: فرأيته بالجزيرة وقد شكي إلى القس وقد أخذ بلحيته وضربه بعصاه وهو يصيء كما يصيء الفرخ. فقلت له: أين هذا مما كنت فيه بالكوفة? فقال: يا بن أخي، إذا جاء الدين ذللنا.
وقال يعقوب بن السكيت زعم غيلان عن يحيى بن بلال عن عمر بن عبد الله عن داود بن المساور قال: دخلت إلى الأخطل فسلمت عليه، فنسبني فانتسبت، واستنشدته فقال: أنشدك حبة قلبي، ثم أنشدني:
لعمري لقد أسريت لا لـيل عـاجـز بسلهبة الخـدين ضـاوية الـقـرب
إليك أمير المؤمـنـين رحـلـتـهـا على الطائر الميمون والمنزل الرحب فقلت: من أشعر الناس? قال: الأعشى. قلت: ثم من? قال: ثم أنا.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن أبي أيوب المديني عن المدائني قال: إمتدح الأخطل هشاما فأعطاه خمسمائة درهم، فلم يرضها وخرج فاشترى بها تفاحا وفرقه على الصبيان. فبلغ ذلك هشاما فقال: قبحه الله ما ضر إلا نفسه.
وقال يعقوب بن السكيت حدثني سلمة النميري - وتوفي وله مائة وأربعون سنة - أنه حضر هشاما وله يومئذ تسع عشرة سنة وحضر جرير والفرزدق والأخطل عنده، فأحضر هشام ناقة له فقال متمثلا:
أنيخها ما بدا لي ثم أرحلها ثم قال: أيكم أتم البيت كما أريد فهي له. فقال جرير:
كأنها نقنق يعدو بصحراء فقال: لم تصنع شيئا. فقال الفرزدق:
كأنها كاسر بالدو فتخاء فقال: لم تغن شيئا. فقال الأخطل:
ترخي المشافر واللحيين إرخاء فقال: اركبها لا حملك الله.
وقال هارون بن الزيات حدثني الخراز عن المدائني قال: هجت الأخطل جارية من قومه، فقال لأبيها: يا أبا الدلماء، إن ابنتك تعرضت لي فاكففها. فقال له: هي امرأة مالكة لأمرها. فقال الأخطل.
ألا أبلغ أبا الدلماء عـنـي بأن سنان شاعركم قصير
فإن يطعن فليس بذي غناء وإن يطعن فمطعنه يسير
متى ما ألقه ومعي سلاحي يخر على قفاه فلا يحـير فمشى أبوها في رجال من قومه إلى الأخطل فكلموه، فقال: أما ما مضى فقد مضى ولا أزيد.
أخبرنا أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال: لما حضرت الأخطل الوفاة قيل له: يا أبا مالك، ألا توصي? فقال:
صفحة : 911
أوصي الفرزدق عند الممات بأم جـرير وأعـيارهــا
وزار القبور أبـو مـالـك برغم العـداة وأوتـارهـا أخبرنا أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال قال لي معاوية بن أبي عمرو بن العلاء: أي البيتين عندك أجود: قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح أم قول الأخطل:
شمس العداوة حتى يستفاد لهـم وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا فقلت: بيت جرير أحلى وأسير، وبيت الأخطل أجزل وأرزن. فقال: صدقت، وهكذا كانا في أنفسهما عند الخاصة والعامة.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الحلبي وجعفر بن سعيد أن رجلا سأل حمادا الراوية عن الأخطل فقال: ويحكم ما أقول في شعر رجل قد والله حبب إلي شعره النصرانية.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن أبي عبيدة قال: كان يونس بن حبيب وعيسى بن عمر وأبو عمرو يفضلون الأخطل على الثلاثة.
وقال هارون بن الزيات حدثني أبو عثمان المازني عن العتبي عن أبيه: أن سليمان بن عبد الملك سأل عمر بن عبد العزيز: أجرير أشعر أم الأخطل? فقال له: أعفني. قال: لا والله لا أعفيك. قال: إن الأخطل ضيق عليه كفره القول، وإن جريرا وسع عليه إسلامه قوله، وقد بلغ الأخطل منه حيث رأيت. فقال له سليمان: فضلت والله الأخطل.
قال هارون وحدثني أبو عثمان عن الأصمعي عن خالد بن كلثوم قال: قال عبد الملك للفرزدق: من أشعر الناس في الإسلام? قال: كفاك بابن النصرانية إذا مدح.
أخبرنا أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال: حدثت أن الحجاج بن يوسف أوفد وفدا إلى عبد الملك وفيهم جرير. فجلس لهم ثم أمر بالأخطل فدعي له، فلما دخل عليه قال له: يا أخطل، هذا سبك - يعني جريرا - وجرير جالس- فأقبل عليه جرير فقال: أين تركت خنازير أمك? قال: راعية مع أعيار أمك، وإن أتيتنا قريناك منها. فأقبل جرير على عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إن رائحة الخمر لتفوح منه. قال: صدق يا أمير المؤمنين، وما اعتذاري من ذلك.
تعيب الخمر وهي شراب كسرى ويشرب قومك العجب العجيبـا
مني العبد عـبـد أبـي سـواج أحق من المدامة أن تـعـيبـا فقال عبد الملك: دعوا هذا، وأنشدني يا جرير، فأنشده ثلاث قصائد كلها في الحجاج يمدحه بها، فأحفظ عبد الملك، وقال له: يا جرير، إن الله لم ينصر الحجاج وإنما نصر خليفته ودينه. ثم أقبل على الأخطل فقال:
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا فقال عبد الملك: هذه المزمرة، والله لو وضعت على زبر الحديد لأذابتها. ثم أمر له بخلع فخلعت عليه حتى غاب فيها، وجعل يقول: إن لكل قوم شاعرا، وإن الأخطل شاعر بني أمية فأما قول الأخطل:
مني العبد عبد أبي سواج فأخبرني بخبر أبي سواج علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب وأبو غسان دماذ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن أبا سواج وهو عباد بن خلف الضبي جاور بني يربوع، وكانت له فرس يقال لها بذوة، وكان لصرد بن جمرة اليربوعي فرس يقال لها القضيب، فتراهنا عشرين بعشرين، فسبقت بذوة فظلمه ابن جمرة حقه ومنعه سبقه، وجعل يفجر بامرأته. ثم إن أبا سواج ذهب إلى البحرين يمتار، فلما أقبل راجعا، وكان رجلا شديدا معجبا بنفسه، جعل يقول وهو يحدو:
يا ليت شعري هل بغت من بعدي فسمع قائلا يقول من خلفه:
نعم بمكوي قفاه جعدي
صفحة : 912
فعاد إلى قوله فأجابه بمثل ذلك. وقدم إلى منزله فأقام به مدة، فتغاضب صرد على امرأة أبي سواج وقال: لا أرضى أو تقدي من است أبي سواج سيرا. فأخبرت زوجها بذلك فقام إلى نعجة له فذبحها وقد من باطن أليتيها سيرا فدفعه إليها، فجعله صرد بن جمرة في نعله، فقال لقومه: إذا أقبلت وفيكم أبو سواج فسلوني من أين أقبلت ففعلوا، فقال: من ذي بليان وأريد ذابليان، وفي نعلي شراكان، من است إنسان. فقام أبو سواج: فطرح ثوبه وقال: أنشدكم الله هل ترون بأسا? ثم أمر أبو سواج غلامين له راعيين أن يأخذا أمة له فيتراوحاها، ودفع إليهما عسا وقال: لئن قطرت منكما قطرة في غير العس لأقتلنكما. فباتا يتراوحانها ويصبان ما جاء منهما في العس، وأمرهما أن يحلبا عليه فحلبا حتى ملأاه، ثم قال لامرأته: والله لتسقنه صرد أو لأقتلنك: واختبأ وقال: ابعثي إليه حتى يأتيك ففعلت. وأتاها لعادتها كما كان يأتيها، فرحبت به واستبطأته ثم قامت إلى العس فناولته إياه. فلما ذاقه رأى طعما خبيثا وجعل يتمطق من اللبن الذي يشرب وقال: إني أرى لبنكم خاثرا، أحسب إبلكم رعت السعدان.
فقالت: إن هذا من طول مكثه في الإناء، أقسمت عليك إلا شربته. فلما وقع في بطنه وجد لموت، فخرج إلى أهله ولا يعلم أصحابه بشيء من أمره. فلما جن على أبي سواج الليل أتى أهله وغلمانه فانصرفوا إلى قومه وخلف الفرس وكلبه في الدار، فجعل الكلب ينبح والفرس يصهل، وذلك ليظن القوم أنه لم يرتحل. فساروا ليلتهم والدار ليس فيها غيره وكلبه وفرسه وعسه. فلما أصبح ركب فرسه وأخذ العس فأتى مجلس بني يربوع فقال: جزاكم الله من جيران خيرا فقد أحسنتم الجوار، وفعلتم ما كنتم له أهلا. فقالوا له: يا أبا سواج، ما بدا لك في الانصراف عنا? قال: إن صرد بن جمرة لم يكن فيما بيني وبينه محسنا، وقد قلت في ذلك:
إن المـنـي إذا سـرى في العبد أصبح مسمغدا
أتنال سلمـى بـاطـلا وخلقت يوم خلقت جلدا
صرد بن جمرة هل لقي ت رثيئة لبنا وعصـدا واعلموا أن هذا القدح قد أحبل منكم رجلا وهو صرد بن جمرة. ثم رمى بالعس على صخرة فانكسر وركض فرسه. وتنادوا: عليكم الرجل، فأعجزهم ولحق بقومه. وقال في ذلك عمر بن لجأ التيمي:
تمسح يربـوع سـبـالا لـئيمة بها من مني العبد رطب ويابس وإياه عنى الأخطل بقوله:
ويشرب قومك العجب العجيبا ??أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال زعم محمد بن حفص بن عائشة التيمي عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب قال: قدمت الشام وأنا شاب مع أبي، فكنت أطوف في كنائسها ومساجدها؛ فد خلت كنيسة دمشق، وإذا الأخطل فيها محبوس، فجعلت. أنظر إليه. فسأل عني فأخبر بنسبي، فقال: يا فتى، إنك لرجل شريف، وإنى أسألك حاجة.
فقلت: حاجتك مقضيه. قال إن القس حبسني هاهنا فتكلمه ليخلي عني. فأتيت القس فانتسبت له، فرحب وعظم، قلت: إن لي إليك حاجة. قال: ما حاجتك? قلت: الأخطل تخلي عنه. قال: أعيذك بالله من هذا مثلك لا يتكلم فيه، فاسق يشتم أعراض الناس ويهجوهم فلم أزل أطلب إليه حتى مضى معي متكئا على عصاه، فوقف عليه ورفع عصاه وقال: يا عدو الله أتعود تشتم الناس وتهجوهم وتقذف المحصنات وهو يقول: لست بعائد ولا أفعل، ويستخذي له. قال: فقلت له: يا أبا مالك، الناس يهابونك والخليفة يكرمك وقدرك في الناس قدرك، وأنت تخضع لهذا هذا الخضوع وتستخذي له. قال: فجعل يقول لي: إنه الدين إنه الدين.
أخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب عن الهيثم بن عدي قال: كانت امرأة الأخطل حاملا، وكان متمسكا بدينه. فمر به الأسقف يوما. فقال لها: الحقيه فتمسحي به؛ فعدت فلم تلحق إلا ذ نب حماره فتمسحت به ورجعت. فقال لها: هو وذنب حماره سواء.
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا ابن سلام قال حدثني يونس قال قال أبو الغراف. سمع هشام بن عبد الملك الأخطل وهو يقول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخرا يكون كصالح الأعمـال فقال: هنيئا لك أبا مالك هذا الإسلام. فقال له: يا أمير المؤمنين ، مازلت مسلما في ديني.
صفحة : 913
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا ابن سلام قال حدثني يونس وعبد الملك وأبو الغراف فألفت ما قالوا، قالوا: أتى الأخطل الكوفة، فأتى الغضبان بن القبعثري الشيباني فسأله في حمالة، فقال: إن شئت أعطيتك ألفين، وإن شئت أعطيتك درهمين. قال: وما بال الألفين وما بال الدرهمين? قال: إن أعطيتك ألفين لم يعطكها إلا قليل، وإن أعطيتك درهمين لم يبق في الكوفة بكري إلا أعطاك درهمين؛ وكتبنا إلى إخواننا بالبصرة فلم يبق بكري بها إلا أعطاك درهمين، فخفت عليهم المئونة وكثر لك النيل. فقال: فهذه إذا. فقال: نقسمها لك على أن ترد علينا. فكتب بالبصرة إلى سويد بن منجوف السدوسي فقدم البصرة - فقال يونس في حديثه - فنزل على آل الصلت بن حريث الحنفي فأخبر من سمعه يقول : والله لا أزال أفعل ذلك. ثم رجع الحديث الأول: فأتى سويدا فأخبره بحاجته. فقال نعم وأقبل على قومه فقال: هذا أبو مالك قد أتاكم يسألكم أن تجمعوا له، وهو الذي يقول:
إذا ما قلت قد صالحت بكرا أبى البغضاء والنسب البعيد
وأيام لنـاولـهـم طـوال يعض الهام فيهن الحـديد
ومهراق الدماء بـواردات تبيد المخزيات ولا تـبـيد
هما أخوان يصطليان نـارا رداء الحرب بينهما جـديد فقالوا: فلا والله لا نعطيه شيئا. فقال الأخطل:
فإن تبخل سدوس بدرهميها فإن الريح طـيبة قـبـول
تواكلني بنو العلات منهـم وغالت مالكا ويزيد غـول
صريعا وائل هلكا جميعـا كأن الأرض بعدهما محول وقال في سويد بن منجوف - وكان رجلا ليس بذي منظر -:
وما جذع سوء خرب السوس أصله لما حملـتـه وائل بـمـطـيق أخبرنا أبو خليفة قال قال محمد بن سلام: كان الأخطل مع مهارته وشعره يسقط أحيانا: كان مدح سماكا الأسدي، وهو سماك الهالكي من بني عمرو بن أسد، وبنو عمرو يلقبون القيون، ومسجد سماك بالكوفة معروف، وكان من أهلها؛ فخرج أيام علي هاربا فلحق بالجزيرة، فمدحه الأخطل فقال:
نعم المجير سماك من بني أسد بالقاع إذ قتلت جيرانها مضـر
قد كنت أحسبه قينا وأخـبـره فاليوم طيرعن أثوابه الشـرر
إن سماكا بني مجدا لأسـرتـه حتى الممات وفعل الخير يبتدر فقال سماك: يا أخطل: أردت مدحي فهجوتني، كان الناس يقولون قولا فحققته. فلما هجا سويدا قال له سويد: والله يا أبا مالك، ما تحسن تهجو ولا تمدح؛ لقد أردت مدح الأسدي فهجوته- يعني قوله:
قد كنت أحسبه قينـا وأنـبـؤه فاليوم طير عن أثوابه الشـرر
إن سماكا بني مجدا لأسـرتـه حتى الممات وفعل الخير يبتدر - وأردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلا حملتني أمورها، وما طمعت في بني تغلب فضلا عن بكر.
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبان البجلي قال: مر الأخطل بالكوفة في بني رؤاس ومؤذنهم ينادي بالصلاة. فقال له بعض فتيانهم: ألا تدخل يا أبا مالك فتصلي? فقال:
أصلي حيث تدركني صلاتي وليس البر عند بني رؤاس أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو الحصين الأموي قال: بينا الأخطل قد خلا بخميرة له في نزهة مع صاحب له، وطرأ عليهما طارىء لا يعرفانه ولا يستخفانه، فشرب شرابهما وثقل عليهما. فقال الأخطل في ذلك:
وليس القذى بالعود يسقط في الإنـا ولا بذباب خطبـه أيسـر الأمـر
ولكن شخصا لا نسـر بـقـربـه رمتنا به الغيظان من حيث لا ندري يروي:
ولكن قذاها زائر لا نحبه
صفحة : 914
وهو الجيد. الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وقد أخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري قال حدثنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: بينا الأخطل جالس عند امرأة من قومه، وكان أهل البدو إذ ذاك يتحدث رجالهم إلى النساء لا يرون بذلك بأسا، وبين يديه باطية شراب والمرأة تحدثه وهو يشرب، إذ دخل رجل فجلس، فثقل على الأخطل وكره أن يقول له قم استحياء منه. وأطال الرجل الجلوس إلى أن أقبل ذباب فوقع في الباطية في شرابه؛ فقال الرجل: يا أبا مالك، الذباب في شرابك. فقال:
وليس القذى بالعود يسقط في الخمر ولا بذباب نزعـه أيسـر الأمـر
ولكن قـذاهـا زائر لا نـحـبـه رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري قال: فقام الرجل فانصرف.
وأخبرني عمي رحمه الله بهذا الحديث عن الكراني عن الزيادي عن علي بن الحفار أخي أبي الحجاج : أن الأخطل جاء إلى معبد في قدمة قدمها إلى الشأم. فقال له معبد: إني أحب محادثتك. فقال له: وأنا أحب ذلك. وقاما يتصبحان الغدران-حتى وقفا على غدير فنزلا وأكلا؛ فتبعهما أعرابي فجلس معهما. وذكر الخبر مثل الذي قبله.
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال أبان بن عثمان حدثني أبي قال: دعا الأخطل شاب من شباب أهل الكوفة إلى منزله. فقال له: يا بن أخي، أنت لا تحتمل المئونة وليس عندك معتمد؛ فلم يزل به حتى انتجعه، فأتى الباب فقال: يا شقراء، فخرجت إليه امرأة، فقال لأمه: هذا أبو مالك قد أتاني؛ فباعت غزلا لها واشترت له لحما ونبيذا و ريحانا. فدخل خصا لها فأكل معه وشرب، وقال في ذلك:
وبيت كظهر الفيل جل متاعـه أباريقه و الشارب المتقـطـر
ترى فيه أثلام الأصيص كأنهـا إذا بال فيها الشيخ جفر معـور
لعمرك ما لاقيت يوم مـعـيشة من الدهر إلا يوم شقراء أقصر
حوارية لا يدخل الذم بـيتـهـا مطهرة يأوي إليها مـطـهـر وذكر هارون بن الزيات هذا الخبر عن حماد عن أبيه أنه كان نازلا على عكرمة الفياض وأنه خرج من عنده يوما، فمر بفتيان يشربون ومعهم قينة يقال لها شقراء. وذكر الخبر مثل ما قبله، وزاد فيه: فأقام عندهم أربعة أيام. وظن عكرمة أنه غضب فانصرف عنه. فلما أتاه أخبره بخبره، فبعث إلى الفتيان بألف درهم وأعطاه خمسة آلاف، فمضى بها إليهم وقال: إستعينوا بهذه على أمركم. ولم يزل ينادمهم حتى رحل.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال: اجتمع الفرزدق وجرير والأخطل عند بشر بن مروان، وكان بشر يغري بين الشعراء. فقال للأخطل: أحكم بين الفرزدق وجرير. فقال: أعفني أيها الأمير. قال: أحكم بينهما، فاستعفاه بجهده فأبى إلا أن يقول؛ فقال: هذا حكم مشئوم؛ ثم قال: الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر. فلم يرض بذلك جرير، وكان سبب الهجاء بينهما. فقال جرير في حكومته:
يا ذا الغباوة إن بشرا قد قضى ألا تجوز حكومة النـشـوان
فدعوا الحكومة لستم من أهلها إن الحكومة في بني شيبـان
قتلوا كليبكم بلقحة جـارهـم يا خزر تغلب لستم بهجـان فقال الأخطل يرد على جرير:
ولقد تناسبتم إلى أحـسـابـكـم وجعلتم حكما من السلـطـان
فإذا كليب لا تـسـاوي دارمـا حتى يساوي حـزرم بـأبـان
و إذا جعلت أباك في ميزانهـم رجحوا وشال أبوك في الميزان
وإذا وردت الماء كـان لـدارم عفواته و سهولة الأعـطـان ثم استطارا في الهجاء.
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو الغراف فال: لما قال جرير:
إذا أخذت قيس عليك وخنـدف بأقطارها لم تدر من أين تسرح قال الأخطل. لا أين سد والله علي الدنيا. فلما أنشد قوله:
فما لك في نجد حصاة تعدهـا وما لك من غوري تهامة أبطح قال الأخطل: لا أبالي والله ألا يكون فتح لي والصليب القول؛ ثم قال:
ولكن لنا بر الـعـراق و بـحـره وحيث ترى القرقور في الماء يسبح
صفحة : 915
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني محمد بن الحجاج الأسيدي قال: خرجت إلى الصائفة فنزلت منزلا ببني تغلب فلم أجد به طعاما و لا شرابا ولا علفا لدوابي شرى ولا قرى و لم أجد ظلا؛ فقتل لرجل منهم: ما في داركم هذه مسجد يستظل فيه? فقال: ممن أنت? قلت: من بني تميم. قال: ما كنت أرى عمك جريرا إلا قد أخبرك حين قال:
فينا المساجد و الإمام ولا ترى في آل تغلب مسجدا معمورا أخبرني أبو خليفة قال أنبأنا محمد بن سلام قال حدثني شيخ من ضبيعة قال: خرج جرير إلى الشام فنزل منزلا ببني تغلب فخرج متلثما عليه ثياب سفره، فلقيه رجل لا يعرفه. فقال: ممن الرجل? قال: من بني تميم. قال: أما سمعت ما قلت لغاوي بني تميم? فأنشده مما قال لجرير. فقال: أما سمعت ما قال لك غاوي بني تميم? فأنشده. ثم عاد الأخطل وعاد جرير في نقضه حتى كثر ذلك بينهما. فقال التغلبي: من أنت? لا حياك الله والله لكأنك جرير. قال: فأنا جرير. قال: وأنا الأخطل.
أخبرني عمي قال أنبأنا الكراني قال أنبأنا أبو عبد الرحمن عن المدائني قال: دخل الأخطل على عبد الملك وقد شرب، فكلمه فخلط في كلامه. فقال له: ما هذا? فقال:
إذا شرب الفتى منها ثـلاثـا بغير الماء حاول أن يطـولا
مشى قرشية لا عيب فـيهـا وأررخى من مآزره الفضولا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال أخبرني إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال أخبرني أبو محمد اليزيدي قال: خرج الفرزدق يؤم بعض الملوك من بني أمية، فرفع له في طريقه بيت أحمر من أدم، فدنا منه وسأل فقيل له: بيت الأخطل. فأتاه فقال: انزل. فلما نزل قام إليه الأخطل وهو لا يعرفه إلا أنه ضيف؛ فقعدا يتحدثان. فقال له الأخطل: ممن الرجل? قال: من بني تميم. قال: فإنك إذا من رهط أخي الفرزدق. فقال: تحفظ من شعره شيئا? قال: نعم كثيرا. فما زالا يتناشدان ويتعجب الأخطل من حفظه شعر الفرزدق إلى أن عمل فيه الشراب،- وقد كان الأخطل قال له قبل ذلك: أنتم معشر الحنفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا. فقال له الفرزدق: خفض قليلا وهات من شرابك فاسقنا. فلما عملت الراح في أبي فراس قال: أنا والله الذي أقول في جرير فأنشده. فقام إليه الأخطل فقبل رأسه وقال: لا جزاك الله عني خيرا لم كتمتني نفسك منذ اليوم وأخذا في شرابهما وتناشدهما، إلى أن قال له الأخطل: والله إنك وإياي لأشعر منه ولكنه أوتي من سير الشعر ما لم نؤته؛ قلت أنا بيتا ما أعلم أن أحدا قال أهجى منه، قلت:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار فلم يروه إلا حكماء أهل الشعر. وقال هو:
و التغلبي إذا تنحنح للقرى حك استه وتمثل الأمثالا فلم تبق سقاة ولا أمثالها إلا رووه. فقضيا له أنه أسير شعرا منهما.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال المدائني: كان للأخطل الشاعر دار ضيافة، فمر به عكرمة الفياض وهو لا يعرفه، فقيل له: هذا رجل شريف قد نزل بنا. فلما أمسى بعث إليه فتعشى معه، ثم قال له: أتصيب من الشراب شيئا? قال: نعم. قال: أيه? قال: كله إلا شرابك. فدعا له بشراب يوافقه، وإذا عنده قينتان هما خلفه وبينه وبينهما ستر، وإذا الأخطل أشهب اللحية له ضفيرتان؛ فغمز الستر بقضيب في يده وقال: غنياني بأردية الشعر، فغنتاه بقول عمرو بن شأس:
وبيض تطلى بالعبير كـأنـمـا يطأن وإن أعنقن في جدد وحلا
لهونا بها يوما و يوما بشـارب إذا قلت مغلوبا وجدت له عقلا
صفحة : 916
فأما السبب في مدح الأخطل عكرمة بن ربعي الفياض فأخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: قدم الأخطل الكوفة فأتى حوشب بن رويم الشيباني، فقال: إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي فنهره، فأتى سيار بن البزيعة، فسأله فاعتذر إليه، فأتى عكرمة الفياض، وكان كاتبا لبشر بن مروان، فسأله وأخبره بما أراد عليه الرجلان؛ فقال: أما إني لا أنهرك ولا أعتذر إليك، ولكني أعطيك إحداهما عينا والأخرى عرضا. قال: وحدث أمر بالكوفة فاجتمع له الناس في المسجد، فقيل له: إن أردت أن تكافىء عكرمة يوما فاليوم. فلبس جبة خز وركب فرسا وتقلد صليبا من ذهب وأتى باب المسجد ونزل عن فرسه. فلما رآه حوشب وسيار نفسا عليه ذلك وقال له عكرمة: يا أبا مالك، فجاء فوقف وابتدأ ينشد قصيدته:
لمن الديار بحائل فوعال حتى انتهى إلى قوله:
إن ابن ربعي كفانـي سـيبـه ضغن العدو وغدرة المحتـال
أغليت حين تواكلتـنـي وائل إن المكارم عنـد ذاك غـوال
ولقد مننت على ربيعة كلـهـا وكفيت كل مـواكـل خـذال
كابن البزيعة أو كآخر مثـلـه أولى لك ابن مسيمة الأجمال
إن اللئيم إذا سألت بـهـرتـه وترى الكريم يراح كالمختال
وإذا عدلت به رجالا لم تـجـد فيض الفرات كراشح الأوشال قال: فجعل عكرمة يبتهج ويقول: هذه والله أحب إلي من حمر النعم. ومما في شعر الأخطل من الأصوات المختارة:
أراعك بالخابور نوق وأجمال ودار عفتها الريح بعدي بأذيال
ومبنى قباب المالكية حولـنـا وجرد تغادى بين سهل وأجبال عروضه من الطويل. الشعر للأخطل. والغناء لابن محرز، ولحنه المختار من خفيف الثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه خفيف رمل في هذا الوجه نسبه يحيى المكي إلى ابن محرز، وذكر الهشامي أنه منحول. وفيه لحنين الحيري ثقيل أول عن الهشامي
ذكر سائب خاثر ونسبه
كان سائب خاثر مولى بني ليث. وأصله من فيء كسرى، وأشترى عبد الله بن جعفر ولاءه من مواليه، وقيل: بل اشتراه فأعتقه، وقيل: بل كان على ولائه لبني ليث، وإنما أنقطع إلى عبدالله بن جعفر فلزمه وعرف به. وكان يبيع الطعام بالمدينة. واسم أبيه الذي أعتقه بنو ليث يشا .
قال ابن الكلبي وأبو غسان وغيرهما: هو أول من عمل العود بالمدينة وغنى به. وقال ابن خرداذبه: كان عبدالله بن عامر أشترى إماء صناجات وأتى بهن المدينة، فكان لهن يوم في الجمعة يلعبن فيه، وسمع الناس منهن، فأخذ عنهن. ثم قدم رجل فارسي يسمى بنشيط، فغنى فأعجب عبد الله بن جعفر به. فقال له سائب خاثر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربية، ثم غدا على عبدالله بن جعفر وقد صنع:
لمن الديار رسومها قفر قال ابن الكلبي: وهو أول صوت غني به في الإسلام من الغناء العربي المتقن الصنعة. قال: ثم آشترى عبد الله بن جعفر نشيطا بعد ذلك، فأخذ عن سائب خاثر الغناء العربي وأخذ عنه ابن سريح وجميلة وعزة الميلاء وغيرهم.
قال ابن الكلبي وحدثني أبو مسكين قال: كان سائب خاثر يكنى أبا جعفر، ولم يكن يضرب بالعود إنما كان يقرع بقضيب ويغني مرتجلا، ولم يزل يغني. وقتل يوم الحرة. ومر به بعض القرشيين وهو قتيل، فضربه برجله وقال: إن ها هنا لحنجرة حسنة. وكان سائب من ساكني المدينة. قال ابن الكلبي: وكان سائب تاجرا موسرا يبيع الطعام، وكان تحته أربع نسوة، وكان أنقطاعه إلى عبد الله بن جعفر، وكان مع ذلك يخالط سروات الناس وأشرافهم لظرفه وحلاوته وحسن صوته. وكان قد آلى ألا يغني أحدا سوى عبدالله بن جعفر، إلا أن يكون خليفة أو ولي عهد أو ابن خليفة؛ فكان على ذلك إلى أن قتل. قال: وأخذ معبد عنه غناء كثيرا فنحل الناس بعضه إليه ، وأهل العلم بالغناء يعرفون ذلك. وزعم ابن خرداذبه أن أم محمد ابن عمرو الواقدي القاضي المحدث بنت عيسى بن جعفر بن سائب خاثر.
وقال ابن الكلبي: سائب خاثر أول من غنى بالعربية الغناء الثقيل؛ وأول لحن صنعه منه:
لمن الديار رسومها قفر قال: قألفت هذا الصوت الفروح. قال وحدثني محمد بن يزيد أن أول صوت صنعه في شعر أمرىء القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
صفحة : 917
وأن معبدا أخذ لحنه فيه فغنى عليه:
أمن آل ليلى باللوى متربع أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن لقيط قال: وفد عبد الله بن جعفر على معاوية ومعه سائب خاثر فوقع له في حوائجه، ثم عرض عليه حاجة لسائب خاثر؛ فقال معاوية: من سائب خاثر? قال: رجل من أهل المدينة ليثي يروي الشعر. قال: أو كل من روى الشعر أراد أن نصله قال: إنه حسنه. قال: وإن حسنه قال: أفأدخله إليك يا أمير المؤمنين? قال نعم. قال: فألبسته ممصرتين إزارا ورداء. فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته يتغنى:
لمن الديار رسومها قفر قالتفت معاوية إلى عبدالله بن جعفر فقال: أشهد لقد حسنه فقضى حوائجه وأحسن إليه.
لمن الديار رسومها قفـر لعبت بها الأرواح والقطر
وخلالها من بعد ساكنـهـا حجج مضين ثمان أوعشر
والزعفران على ترائبهـا شرق به اللئات والنحـر الشعر ينسب إلى أبي بكر بن المسور بن مخرمة الزهري، وإلى الحارث بن خالد المخزومي، وإلى بعض القرشيين من السبعة المعدودين من شعراء العرب. والغناء لسائب خاثر ثقيل أول بالسبابة عن الكلبي وحبش، وذكر أن لحن شمائب خاثر ثقيل أول بالوسطى، و وافق إسحاق في ذلك، وذكر أن الثقيل الأول لنشيط. وذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد ولم يجنسه، وذكر الهشامي أن لحن معبد خفيف ثقيل، وأن فيه لابن سريج خفيف رمل.
أخبرنا أحمد بن عبيدالله بن عمار وأحمد بن عبدالعزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس قالوا حدثنا عمر بن شبة حدثني قبيصة بن عمرو قال حدثنا محمد بن المنهال عن رجل حدثه، وذكر ذلك أيضا ابن الكلبي عن لقيط قال: أشرف معاوية بن أبي سفيان ليلا على منزل يزيد أبنه، فسمع صوتا أعجبه، وأستخفه السماع فاستمع قائما حتى مل، ثم دعا بكرسيي فجلس عليه، وأشتهى الاستزادة فاستمع بقية ليلته حتى مل. فلما أصبح غدا عليه يزيد. فقال له: يا بني من كان جليسك البارحة? قال: أي جليس يا أمير المؤمنين? وأستعجم عليه. قال: عرفني فإنه لم يخف علي شيء من أمرك. قال: سائب خاثر. قال: فأخثر له يا بني من برك وصلتك، فما رأيت بمجالسته بأسا.
قال ابن الكلبي: قدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم؛ فأمر حاجبه بالإذن للناس؛ فخرج الآذن ثم رجع فقال: ما بالباب أحد. فقال معاوية: وأين الناس? قال: عند ابن جعفر. فدعا ببغلته فركبها ثم توجه إليهم. فلما جلس قال بعض: القرشيين لسائب خاثر: مطرفي هذا لك - وكان من خز - إن أنت أندفعت تغني ومشيت بين السماطين وأنت تغني. فقام ومشى بين السماطين وغنى:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا فسمع منه معاوية وطرب وأصغى إليه حتى سكت وهو مستحسن لذلك، ثم قام وأنصرف إلى منزله. وأخذ سائب خاثر المطرف.
أخبرني حبيب بن نصر عن عمر بن شبه عن الزبيري، وأخبرني أبو بكر بن أبي شيبة البزار قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: قتل سائب خاثر يوم الحرة، وكان خشي على نفسه من أهل الشأم فخرج إليهم وجعل يحدثهم ويقول: أنا مغن، ومن حالي وقصتي كيت وكيت؛ وقد خدمت أمير المؤمنين يزيد وأباه قبله. قالوا: فغن لنا، فجعل يغني؛ فقام إليه أحدهم فقال له: أحسنت والله ثم ضربه بالسيف فقتله. وبلغ يزيد خبره ومر به أسمه في أسماء من قتل يومئذ فلم يعرفه وقال: من سائب خاثر هذا? فقيل له: هو سائب خاثر المغني. فعرفه فقال: ويله ماله ولنا ألم نحسن إليه ونصله ونخلطه بأنفسنا فما الذي حمله على عداوتنا لا جرم أن بغيه صرعه. وقال المدائني في خبره: فقال إن لله أو بلغ القتل إلى سائب خاثر وطبقته ما أرى أنه بقي بالمدينة أحد. ثم قال: قبحكم الله يأهل الشام تجدهم صادفوه في حديقة أو حائط مستترأ منهم فقتلوه.
أخبرني أحمد بن عبدالعزيز قال أنبأنا عمر بن شبة قال حدثني قبيصة بن عمرو قال حدثني حاتم بن قبيصة قال حدثني ابن جعدبة قال حدثني مويلك عن أبيه قال قال لي سائب خاثر يوم الحرة: هل سمعت شيئا صنعته? فغناني صوتا:
لمن طلل بين الكراع إلى القصر يغيب عنا آيه سبل الـقـطـر
إلى خالدات ما تـريم وهـامـد وأشعث ترسيه الوليدة بالفهـر
صفحة : 918
قال: فسمعت عجبا معجبا، ثم ذكر أهله وولده فبكى. فقلت له: وما يمنعك منهم? فقال: أما بعد شيء سمعته ورأيته من يزيد بن معاوية فلا ثم تقدم حتى قتل.
أقفرمن أهله مصـيف فبطن نخلة فالعـريف
هل تبلغني ديار قومي مهرية سيرها زفيف
يا أم نعمان نـولـينـا قد ينفع النائل الطفيف
أعمامها الصيد من لؤي حقا و أخوالها ثقـيف الشعر لأبي فرعة الكناني، والغناء لجرادتي عبدالله بن جدعان، ولحنه من خفيف الثقيل. وفيه في الثالث والرابع ثقيل أول مطلق.
ذكر جرادتي عبدالله بن جدعان
و خبرهما وشيء من أخبار ابن جدعان
هو عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.
قال ابن الكلبي: كانت لابن جدعان أمتان تسميان الجرادتين تتغنئان في الجاهلية، سماهما بجرادتي عاد. و وهبهما عبدالله بن جدعان لأمية بن أبي الصلت الثقفيى، وقد كان أمتدحه. وكان ابن جدعان سيدا جوادا، فرأى أمية ينظر إليهما هو عنده فأعطاه إياهما.
وأخبرني أبو الليث نصر بن القاسم الفرائضي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن داوود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه? قال: لا لم يقل يوما اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن الحسين قال حدثني إبراهيم بن أحمد قال: قدم أمية بن أبي الصلت على عبدالله بن جدعان؛ فلما دخل عليه قال له عبد الله: أمر ما أتى بك فقال أمية: كلاب غرماء نبحتني ونهشتني. فقال له عبدالله: قدمت علي وأنا عليل من حقوق لزمتني ونهشتني، فأنظرني قليلا، ما في يدي، وقد ضمنتك قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه. قال: فأقام أمية أياما، فأتاه فقال:
أأذكرحاجتي أم قد كفـانـي حياؤك إن شيمتك الـحـياء
وعلمك بالأمور و أنت قـرم لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغـيره صـبــاح عن الخلق السني ولامسـاء
تباري الريح مكرمة وجـودا إذا ما الكلب أحجره الشتـاء
إذا أثنى عليك المـرء يومـا كفاه من تعرضه الـثـنـاء
إذا خلفت عبدالله فـاعـلـم بأن القوم ليس لهـم جـزاء
فأرضك كل مكرمة بنـاهـا بنو تيم و أنت لهم سـمـاء
فأبرز فضله حقا عـلـيهـم كما برزت لناظرها السماء
فهل تخفى السماء على بصير وهل بالشمس طالعة خفـاء فلما أنشده أمية هذا الشعر كانت عنده قينتان فقال: خذ أيتهما شئت؛ فأخذ إحداهما وانصرف. فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا له: لقد لقيته عليلا، فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتها، كان ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حق ضمنه لك، فوقع الكلام من أمية موقعا وندم، ورجع إليه ليردها عليه. فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها وقالوا كذا وكذا، فوصف لأمية ما قال له القوم. فقال أمية: والله ما أخطأت يا أبا زهير. فقال عبدالله بن جدعان: فما الذي قلت في ذلك: فقال أمية:
عطاؤك زين لامرىء إن حبوته ببذل وما كل العـطـاء يزين
وليس بشين لامرىء بذل وجهه إليك كما بعض السؤال يشـين غنت فيه جرادتا عبدالله بن جدعان- فقال عبدالله لأمية: خذ الأخرى؛ فأخذهما جميعا وخرج. فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول- وقد أنشدنا هذه الأبيات أحمد بن عبدالعزيز الجوهري عن عمر بن شبة وفيها زيادة-:
ومالي لا أحـييه وعـنـدي مواهب يطلعن من النجـاد
لأبيض من بني تيم بن كعب وهم كالمشرفيات الحـداد
لكل قـبـيلة هـاد و رأس وأنت الرأس تقدم كل هادي
له بالخيف قد علمت معـد و إن البيت يرفع بالعمـاد
له داع بمكة مـشـمـعـل وآخر فوق دارتـه ينـادي
صفحة : 919
إلى ردح من الشيزي ملاء لباب البر يلبك بالشـهـاد وقال فيه أيضا:
ذكر ابن جدعان بخـي ركلما ذكر الـكـرام
من لايخــون ولا يع ق ولا تغيره الـلـئام
نجب النجيبة والنجـي ب له الرحالة والزمام أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق البغوي قال حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قال: كان ابن جدعان سيدا من قريش? فوفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ، فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ. قال: وما الفالوذ? قالوا: لباب البر يلبك مع عسل النحل. قال: ابغوني غلاما يصنعه? فأتوه بغلام يصنعه فآبتاعه ثم، قدم به مكة معه، ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر فحضر الناس? فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت? فقال فيه:
ومالي لا أحييه وعنـدي مواهب يطلعن من النجاد
إلي وإنه للنـاس نـهـي ولا يعتل بالكلم الصوادي وذكر باقي الأبيات التي مضت متقدما.
حدثنا أحمد بن عبيدالله بن عمار قال أخبرنا يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني محمد بن عمران الجرجاني- وليس بصاحب إسحاق الموصلي? قال: وهو شيخ لقيته بجرجان- قال حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا أبا محمد، ما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: كان من أكثر دعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وإنما هو ذكر وليس فيه من الدعاء شيء? فقال لي: أعرفت حديث مالك بن الحارث: يقول الله جل ثناؤه: إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ? قلت: نعم، أنت حدثتنيه عن منصور عن مالك بن الحارث. قال: فهذا تفسير ذلك، ثم قال: أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله. قلت: لا أدري? قال قال:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثنـاء ثم قال سفيان: فهذا مخلوق ينسب إلى الجود فقيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي على حاجتنا، فكيف بالخالق.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا حميد بن حميد قال حدثني جبار ابن جابر قال: دخل أمية بن أبي الصلت على عبد الله بن جدعان وهو يجود بنفسه? فقال له أمية: كيف تجدك أبا زهير? قال: إني لمدابر، أي ذاهب. فقال أمية:
علم ابن جدعان بن عـم رو أنه يومـا مـدابـر
ومسافرسفـرا بـعـي د لا يؤوب به المسافـر
فقـدوره بـفـنـــائه للضيف مترعة زواخر
تبدو الكسور من انضرا ج الغلي فيها والكراكر
فكأنهن بـمـا حـمـي ن وما شحن بها ضرائر
بذ المعـاشـركـلـهـا بالفضل قدعلم المعاشر
وعلا علو الـشـمـس حتى ما يفاخره مفاخر
دانت لـه أبـنـاء فـه ر من بني كعب وعامر
أنت الجواد ابن الـجـوا د بكم ينافر من ينافـر أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال أخبرني أبو عبدالرحمن الغلابي عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال: ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر أستحياء مما فيها من الدنس? ولقد عابها ابن جدعان قبل موته فقال:
شربت الخمرحتى قال قومي ألست عن السفاه بمستفـيق
وحتى ما أوسد في مـبـيت أنام به سوى الترب السحيق
وحتى أغلق الحانوت رهني وآنست الهوان من الصديق قال: وكان سبب تركه الخمر أن أمية بن أبي الصلت شرب معه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب. فقال له: ما بال عينك? فسكت. فلما ألح عليه قال له: أنت صاحبها أصبتها البارحة. فقال: أو بلغ مني الشراب الذي أبلع معه من جليسي هذا لا جرم لأدينها لك ديتين، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر علي حرام أن أذوقها أبدا، تركها من يومئذ.
من المائة المختارة
صفحة : 920
قد لعمري بت لـيلـي كأخي الداء الوجـيع
ونجي الـهـم مـنـي بات أدنى من ضجيعي
كلما أبصرت ربـعـا خاليا فاضت دموعـي
لاتلمنا إن خشـعـنـا أوهممنا بالخـشـوع
إذا فقـدنـا سـيدا ك ان لناغـيرمـضـيع الشعر للأحوص. والغناء لسلامة القس. ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالوسطى في مجراها. وقد قيل: إن الشعر والغناء جميعا لها، وقد قيل: إن الغناء لمعبد وإنها أخذته عنه.
ذكر سلامة القس وخبرها
كانت سلامة مولدة من مولدات المدينة وبها نشأت. وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح وذويهم فمهرت. وإنما سميت سلامة القس لأن رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي من قراء أهل مكة، وكان يلقب بالقس لعبادته، شغف بها وشهر، فغلب عليها لقبه. واشتراها يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان، وعاشت بعده، وكانت إحدى من اتهم به الوليد من جواري أبيه حين قال له قتلته: ننقم عليك أنك تطأ جواري أبيك. وقد ذكرنا ذلك في خبر مقتله.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كانت حبابة وسلامة القس من قيان أهل المدينة، وكانتا حاذقتين ظريفتين ضاربتين وكانت سلامة أحسنهما غناء، وحبابة أحسنهما وجها، وكانت سلامة تقول الشعر، وكانت حبابة تتعاطاه فلا تحسن. وأخبرني بذلك المدائني عن جرير.
وحدثني الزبيري قال حدثني من رأى سلامة قال: ما رأيت من قيان المدينة فتاة ولا عجوزا أحسن غناء من سلامة. وعن جميلة أخذت الغناء.
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال: كانت حبابة وسلامة قينتين بالمدينة، أما سلامة فكانت لسهيل بن عبد الرحمن، ولها يقول ابن قيس الرقيات:
لقد فتنت ريا وسلامة الـقـسـا فلم تتركا للقس عقلا ولا نفسـا
فتاتان أما منهما فـشـبـيهة ال هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا وغناه مالك بن أبي السمح. وفيها يقول ابن قيس الرقيات:
أختان إحداهما كالشمس طالـعة في يوم دجن وأخرى تشبه القمرا قال: وفتن القس بسلامة، وفيها يقول:
أهابك أن أقول بذلت نفسي ولو أني أطيع القلب قالا
حياء منك حتى سل جسمي وشق علي كتماني وطالا قال: والقس هو عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وكان منزله بمكة. وكان سبب افتتانه بها فيما حدثني خلاد الأرقط قال سمعت من شيوخنا أهل مكة يقولون: كان القس من أعبد أهل مكة، وكان يشبه بعطاء بن أبي رباح، وأنه سمع غناء سلامة القس على غير تعمد منه لذلك. فبلغ غناؤها منه كل مبلغ، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن أخرجها إليك أو تدخل فتسمع، فأبى. فقال مولاها: أنا أقعدها في موضع تسمع غناءها ولا تراها فأبى، فلم يزل به حتى دخل فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال له: هل لك في أن أخرجها إليك? فأبى. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فتغنت فشغف بها وشغفت به، وعرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوما: أنا والله أحبك.
قال: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله أحب ذاك. قالت: فما يمنعك، فوالله إن الموضع لخال. قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: الأخلاء يؤمئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وأنا أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة. ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النسك، وقال من فوره فيها:
إن التي طرقتك بـين ركـائب تمشي بمزهرها وأنت حـرام
لتصيد قلبـك أو جـزاء مـودة إن الرفيق له عـلـيك ذمـام
باتت تعللنا وتحـسـب أنـنـا في ذاك أيقاظ ونـحـن نـيام
حتى إذا سطع الضياء لناظـر فإذا وذلـك بـينـنـا أحـلام
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها فاعجب لما تـأتـى بـه الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلـم أنـمـا سبل الضلالة والهدى أقـسـام ومن قوله فيها:
ألم ترها لا يبعـد الـلـه دارهـا إذا رجعت في صوتها كيف تصنع
صفحة : 921
تمد نظام الـقـول ثـم تـرده إلى صلصل في صوتها يترجع وفيها يقول:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حين صارت بها النوى جليس لسلمى كلما عج مـزهـر وقال في قصيدة له:
سلام ويحك هل تحيين من ماتـا أو ترجعين على المحزون ما فاتا وقال أيضا:
سلام هل لي منكم ناصر أم هل لقلبي عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدي بكم فمنهم اللائم والـعـاذر في أشعار كثيرة يطول ذكرها.
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الجمحي قال: كانت سلامة وريا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهن غناء. فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيات عندهما، فقال لهما ابن قيس الرقيات: إني أريد أن أمدحكما بأبيات وأصدق فيها ولا أكذب، فإن أنتما غنيتماني بذلك وإلا هجوتكما ولا أقربكما. قالتا: فما قلت? قال قلت:
لقد فتنت ريا وسلامة الـقـسـا فلم تتركا للقس عقلا ولا نفسـا
فتاتان أما منهما فـشـبـيهة ال هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا
تكنان أبشارا رقـاقـا وأوجـهـا عتاقا وأطرافا مخضبة ملـسـا فغنته سلامة واستحسنتاه. وقالتا للأحوص: ما قلت يا أخا الأنصار? قال قلت:
أسلام هـل لـمـتـيم تـنـويل أم هل صرمت وغال ودك غول
لا تصرفي عنـي دلالـك إنـه حسن لدي وإن بخلت جـمـيل
أزعمت أن صبابـتـي أكـذوبة يوما وأن زيارتـي تـعـلـيل - الغناء لسلامة القس خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وحماد. وفيه لإبراهيم لحنان، أحدهما خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وعمرو، والآخر ثقيل أوله استهلال عن الهشامي- فغنت الأبيات. فقال ابن قيس الرقيات: يا سلامة أحسنت والله وأظنك عاشقة لهذا الحلقي فقال له الأحوص: ما الذي أخرجك إلى هذا? قال: حسن غنائها بشعرك، فلولا أن لك في قلبها محبة مفرطة ما جاءها هكذا حسنا على هذه البديهة. فقال له الأحوص: على قدر حسن شعري على شعرك هكذا حسن الغناء به، وما هذا منك إلا حسد، ونبين لك الآن ما حسدت عليه. فقالت سلامة: لولا أن الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردها أحد. قال الأحوص: فأنت من ذلك آمنة. قال أبن قيس الرقيات: كلا قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. قال الأحوص: فرأيك يدلك على أن معرفتك بأن المحكوم عليه أنت? وتفرقا. فلما صار الأحوص إلى منزله جاءه ابن قيس الرقيات فقرع بابه، فأذن له وسلم عليه واعتذر.
ومما قاله الأحوص في سلامة القس وغني به:
أسلام إنك قد ملكت فأسجحي قد يملك الحر الكريم فيسجح
مني على عان أطلت عنـاءه في الغل عندك والعناة تسرح
إني لأنصحكم وأعـلـم أنـه سيان عندك من يغش وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبها قالت أجد منك ذا أم تمـزح الشعر للأحوص. والغناء لابن مسجح في الأول والثاني ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. ولدحمان في الأربعة الأبيات ثقيل أول بالبنصر فيه استهلال. وفيه خفيف ثقيل يقال: إنه لمالك? ويقال: إنه لسلامة القس.
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال: قال أيوب بن عباية: كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وكان فقيها عابدا من عباد مكة، يسمى القس لعبادته، وكانت سلامة بمكة لسهيل، وكان يدخل عليها الشعراء فينشدونها وتنشدهم وتغني من أحب الغناء? ففتن بها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القس، فشاع ذاك وظهر، فسميت سلامة القس بذلك.
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال: سألها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القس أن تغنيه بشعر مدحها به ففعلت، وهو:
ما بال قلبك لا يزال يهيمـه ذكر عواقب غيهن سـقـام
إن التي طرقتك بين ركائب تمشي بمزهرها وأنت حرام
لتصيد قلبك أو جزاء مـودة إن الرفيق له علـيك ذمـام
باتت تعللنا وتحسـب أنـنـا في ذاك أيقاظ ونحـن نـيام
صفحة : 922
حتى إذا سطع الصباح لناظـر فإذا وذلـك بـينـنـا أحـلام
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها فأعجب لما تـأتـي بـه الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلـم إنـمـا سبل الغواية والهدى أقـسـام قال إسحاق وحدثني المدائني قال حدثني جرير قال: لما قدم يزيد بن عبد الملك مكة وأراد شراء سلامة القس وعرضت عليه، أمرها أن تغنيه، فكان أول صوت غنته:
إن التي طرقتك بين ركـائب تمشي بمزهرها وأنت حرام
والبيض تمشي كالبدور والدمى ونواغم يمشين فـي الأرقـام
لتصيد قلبك أو جـزاء مـودة إن الرفيق له علـيك ذمـام فاستحسنه يزيد فاشتراها. فكان أول صوت غنته لما اشتراها:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حين صار بها النـوى جليس لسلمى حيث ما عج مزهر
وإني إذا ما الصوت زال بنفسهـا يزال بنفسي قبلها حين تـقـبـر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها يطير إليها قلبـه حـين ينـظـر
كأن حمـامـا راعـبـيا مـؤديا إذا نطقت من صدرها يتغشمـر فقال لها يزيد: يا حبيبتي، من قائل هذا الشعر? فقصت عليه القصة، فرق له وقال: أحسن وأحسنت.
قال إسحاق وحدثني المدائني قال: لما اشترى يزيد بن عبد الملك سلامة، وكان الأحوص معجبا. بها وبحسن غنائها وبكثرة مجالستها? فلما أراد يزيد الرحلة، قال أبياتا وبعث بها إلى سلامة. فلما جاءها الشعر غنت به يزيد وأخبرته الخبر، وهو:
عاود القلب من سلامة نصـب فلعيني من جوى الحب غـرب
ولقد قلت أيها القلب ذو الـشـو ق، الذي لا يحب حبـك حـب
إنه قد دنـا فـراق سـلـيمـى وغدا مطلب عن الوصل صعب غناه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيه لابن عباد وعلويه رملان. وفيه لدحمان خفيف رمل. هذه الحكايات الثلاث عن الهشامي. وذكر حبش أن لسلامة القس فيه ثاني ثقيل بالوسطى.
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال: كانت سلامة وريا لرجل واحد، وكانت حبابة لرجل، وكانت المقدمة منهن سلامة، حتى صارتا إلى يزيد بن عبد الملك، فكانت حبابة تنظر إلى سلامة بتلك العين الجليلة المتقدمة وتعرف فضلها عليها. فلما رأت أثرتها عند يزيد ومحبة يزيد لها استخفت بها. فقالت لها سلامة أي أخيه نسيت لي فضلي عليك ويلك أين تأديب الغناء وأين حق التعليم أنسيت قول جميلة يوما وهي تطارحنا وهي تقول لك: خذي إحكام ما أطارحك من أختك سلامة، ولن تزالي بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا. قالت: صدقت خليلتي والله لا عدت إلى شيء تكرهينه، فما عادت لها إلى مكروه. وماتت حبابة وعاشت سلامة بعدها دهرا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي الأكبر قال:
صفحة : 923
لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والزنا. فصاح في ذلك وأجل أهلها ثلاثا يخرجون فيها من المدينة. وكان ابن أبي عتيق غائبا، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس. فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلم عليكم. قالوا: ما أغفلك عن أمرنا وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا علي الليلة. فقالوا: نخاف ألا يمكنك شيء وننكظ قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا في السحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان فأذن له، فسلم عليه، وذكر له غيبته وأنه جاءه ليقضي حقه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا، وقال: أرجو ألا تكون عملت عملا هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار به علي أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول- أمتع الله بك- في امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأتى رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده? قال: فإني أدعها لك ولكلامك. قال أبن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها? قال نعم. فجاءه بها وقال لها: اجعلي معك سبحة وتخشعي ففعلت.
فلما دخلت على عثمان حدثته، وإذا هي من أعلم الناس بالناس وأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك. فقال لها أبن أبي عتيق: أقرئي للأمير فقرأت له? فقال لها احدي له ففعلت، فكثر تعجبه. فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها فلم يزل ينزله شيئا شيئا حتى أمرها بالغناء. فقال لها أبن أبي عتيق: غني، فغنت:
سددن خصاص الخيم لما دخلنه بكل لبان واضـح وجـبـين فغنته? فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج. قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون: أقر سلامة وأخرج غيرها. قال: فدعوهم جميعا? فتركوهم جميعا.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن أبي فروة قال: قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار. فلما خرجت من ملك أهلها طلبوا إلى الرسل أن يتركوها عندهم أياما ليجهزوها بما يشبهها من حلي وثياب وطيب وصبغ. فقالت لهم الرسل: هذا كله معنا لا حاجة بنا إلى شيء منه، وأمروها بالرحيل. فخرجت حتى نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك وشيعها الخلق من أهل المدينة، فلما بلغوا السقاية قالت للرسل: قوم كانوا يغشونني ويسلمون علي، ولا بد لي من وداعهم والسلام عليهم، فأذن للناس عليها فانقضوا حتى ملئوا رحبة القصر ووراء ذلك، فوقفت بينهم ومعها العود، فغنتهم:
فارقوني وقد علـمـت يقـينـا ما لمن ذلـق مـيتة مـن إياب
إن أهل الحصاب قد تركـونـي مولعا موزعا بأهل الحـصـاب
أهل بيت تتابعـوا لـلـمـنـايا ما على الدهر بعدهم من عتاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مـو سى إلى النخل من صفي السباب
كم بذاك الحجون من حي صـدق وكـهـول أعـفة وشـبــاب قال عيسى: وكنت في الناس، فلم تزل تردد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها، فما شئت أن أرى باكيا إلا رأيته.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
صفحة : 924
وجه يزيد بن عبد الملك إلى الأحوص في القدوم عليه، وكان الغريض معه، فقال له: اخرج معي حتى آخذ لك جائزة أمير المؤمنين وتغنيه، فإني لا أحمل إليه شيئا هو أحب إليه منك، فخرجا. فلما قدم الأحوص على يزيد جلس له ودعا به. فأنشده مدائح فأستحسنها، وخرج من عنده، فبعثت إليه سلامة جارية يزيد بلطف. فأرسل إليها: إن الغريض عندي فدمت به هدية إليك. فلما جاءها الجواب اشتاقت إلى الغريض وإلى الاستماع منه. فلما دعاها أمير المؤمنين تمارضت وبعثت إلى الأحوص: إذا دعاك أمير المؤمنين فاحتل له في أن تذكر له الغريض. فلما دعا يزيد الأحوص قال له يزيد: ويحك يا أحوص هل لسمعت شيئا في طريقك تطرفنا به? قال: نعم يا أمير المؤمنين، مررت في بعض الطريق فسمعت صوتا أعجبني حسنه وجودة شعره، فوقفت حتى أستقصيت خبره، فإذا هو الغريض، وإذا هو يغنى بأحسن صوت وأشجاه:
ألا هاج التذكر لي سقـامـا ونكس الداء والوجع الغراما
سلامة إنها هـمـي ودائي وشر الداء ما بطن العظاما.
فقلت له ودمع العين يجري على الخدين أربعة سجامـا
عليك لها السلام فمن نصب يبيت الليل يهذي مستهامـا قال يزيد: ويلك يا أحوص أنا ذاك في هوى خليلتي? وما كنت أحسب مثل هذا يتفق، وإن ذاك لما يزيد لها في قلبي. فلما صنعت يا أحوص حين سمعت ذاك قال: سمعت ما لم أسمع يا أمير المؤمنين أحسن منه، فما صبرت حتى أخرجت الغريض معي وأخفيت أمره، وعلمت أن أمير المؤمنين يسألني عما رأيت في طريقي. فقال له يزيد: ائتني بالغريض ليلا وأخف أمره. فرجع الأحوص إلى منزله وبعث إلى سلامة بالخبر. فقالت للرسول: قل له جزيت خيرا، قد انتهى إلي كل ما قلت، وقد تلطفت وأحسنت. فلما وارى الليل أهله بعث إلى الأحوص أن عجل المجيء إلي مع ضيفك. فجاء الأحوص مع الغريض فدخلا عليه. فقال غنني الصوت الذي أخبرني الأحوص أنه سمعه منك- وكان الأحوص قد أخبر الغريض الخبر، وإنما ذلك شعر قاله الأحوص يريد يحركه به على سلامة يحتال للغريض في الدخول عليه- فقال: غنني الصوت الذي أخبرني الأحوص. فلما غناه الغريض دمعت عين يزيد ثم قال: ويحك. هل يمكن أن تصير إلى مجلسي? قيل له: هي صالحة. فأرسل إليها فأقبلت. فقيل ليزيد: قد جاءت، فضرب لها حجاب فجلست، وأعاد عليه الغريض الصوت، فقالت: أحسن والله يا أمير المؤمنين، فاسمعه مني، فأخذت العود فضربته وغنت الصوت، فكاد يزيد أن يطير فرحا وسرورا، وقال: يا أحوص، إنك لمبارك يا غريض غنني في ليلتي هذا الصوت، فلم يزل يغنيه حتى قام يزيد وأمر لهما بمال، وقال: لا يصبح الغريض في شيء من دمشق. فأرتحل الغريض من ليلته، وأقام الأحوص بعده أياما ثم لحق به? وبعثت سلامة إليهما بكسوة ولطف كثير.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني رجل من أهلي من بني نوفل قال: قدمت في جماعة من قريش على يزيد بن عبد الملك، فألفيناه في علته التي مات فيها بعد وفاة حبابة، فنزلنا منزلا لاصقا بقصر يزيد، فكنا إذا أصبحنا بعثنا بمولى لنا يأتينا بخبره، وربما أتينا الباب فسألنا، فكان يثقل في كل يوم. فإنا لفي منزلنا ليلة إذ سمعنا همسا من بكاء ثم يزيد ذلك، ثم سمعنا صوت سلامة القس وهي رافعة صوتها تنوح وقول:
لا تلمنا إن خشعـنـا أو هممنا بخشـوع
قد لعمري بت ليلـي كأخي الداء الوجيع
كلما أبصرت ربعـا خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيد كـا ن لنا غير مضـيع ثم صاحت وا أمير المؤمنين فعلمنا وفاته، فأصبحنا فغدونا في جنازته.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال: قال يزيد بن عبد الملك ما يمر عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهيل الزهري وحبابة جارية آل لاحق المكية? فأرسل فاشتريتا له. فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافـر فلما توفي يزيد رثته سلامة فقالت وهي تنوح عليه هذا الشعر:
لا تلمنا إن خشعنا أو هممنا بخشوع
صفحة : 925
إذ فقدنـا سـيدا كـا ن لنا غير مضـيع
وهو كالليث إذا مـا عد أصحاب الدروع
يقنص الأبطال ضربا في مضي ورجوع أخبرنا الحسين بن يحيى قال حدثنا الزبير والمدائني أن سلامة كانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، فاشتراها يزيد بن عبد الملك، وكانت مغنية حاذقة جميلة ظريفة تقول الشعر، فما رأيت خصالا أربعا اجتمعن في امرأة مثلها: حسن وجهها وحسن غنائها وحسن شعرها. قال: والشعر الذي كانت تغني به:
لا تلمنا إن خشعنـا أو هممنا بخشـوع
للذي حل بنـا الـيو م من الأمر الفظيع وذكر باقي الأبيات مثل ما ذكره غيره.
قال إسحاق وحدثني الجمحي قال حدثنا من رأى سلامة تندب يزيد بن عبد الملك بمرثية رثته بها، فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك ولا أشجى، ولقد أبكت العيون وأحرقت القلوب وأفتنت الأسماع، وهي:
يا صاحب القبر الغريب بالشأم في طرف الكثيب
بالشـأم بـين صـفـائح صم ترصف بالجبـوب
لما سمـعـت أنـينـه وبكاءه عند المـغـيب
أقبلت أطـلـب طـبـه والداء يعضل بالطبـيب الشعر لرجل من العرب كان خرج بابن له من الحجاز إلى الشأم بسبب امرأة هويها وخاف أن يفسد بحبها، فلما فقدها مرض بالشأم وضني فمات ودفن بها. كذا ذكر ابن الكلبي، وخبره يكتب عقب أخبار سلامة القس. والغناء لسلامة ثقيل أول بالوسطى عن حبش. وفيه لحكم رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لحن لابن غزوان الدمشقي من كتاب ابن خرداذبه غير مجنس.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني الجمحي قال: حدثني من حضر الوليد بن يزيد وهو يسأل سلامة أن تغنيه شعرها في يزيد وهي تتنغص من ذلك وتدمع عيناها، فأقسم عليها فغنته،? فما سمعت شيئا أحسن من ذلك. فقال لها الوليد: رحم الله أبي وأطال عمري وأمتعني بحسن غنائك يا سلامة. بم كان أبي يقدم عليك حبابة? قالت: لا أدري والله. قال لها، لكنني والله أدري ذلك بما قسم الله لها. قالت: يا سيدي أجل.
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني عبد الله بن عبد الملك الهدادي عن بعض رجاله عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: سمعت نائحة مدنية تنوح بهذا الشعر:
قد لعمري بت لـيلـي كأخي الداء الوجـيع
ونجي الـهـم مـنـي بات أدنى من ضلوعي
كلما أبصرت ربـعـا دارسا فاضت دموعي
مقفرا مـن سـيد كـا ن لنا غير مـضـيع والشعر للأحوص. والنوح لمعبد، وكان صنعه لسلامة وناحت به سلامة على يزيد. فلما سمعته منها استحسنته واشتهيته ولهجت به، فكنت أترنم به كثيرا. فسمع ذلك مني أبي فقال: ما تصنع بهذا? قلت: شعر قاله الأحوص وصنعه معبد سلامة وناحت به سلامة على يزيد. ثم ضرب الدهر، فلما مات الرشيد إذا رسول أم جعفر قد وافاني فأمرني بالحضور. فسرت إليها، فبعثت إلي: إني قد جمعت بنات الخلفاء وبنات هاشم لننوح على الرشيد في ليلتنا هذه? فقل الساعة أبياتا رقيقة واصنعهن صنعة حسنة حتى أنوح بهن. فأردت نفسي على أن أقول شيئا فما حضرني وجعلت ترسل إلي تحثني، فذكرت هذا النوح فأريت أني أصنع شيئا، ثم قلت: قد حضرني القول وقد صنعت فيه ما أمرت? فبعثت إلي بكنيزة وقالت: طارحها حتى تطارحنيه. فأخذت كنيزة العود ورددته عليها حتى أخذته، ثم دخلت فطارحته أم جعفر، فعبثت إلي بمائة ألف درهم ومائة ثوب.
نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات
لقد فتنت ريا وسلامة الـقـسـا فلم تتركا للقس عقلا ولا نفسـا
فتاتان أما منهما فـشـبـيهة ال هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا الشعر لعبد الله بن قيس الرقيات. والغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن سريح ثقيل أول عن الهشامي. وزعم عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل لحنين الحيري. وقيل: إن الثقيل الأول لدحمان.
ومنها الشعر الذي أوله:
أهابك أن أقول بذلت نفسي
أأثلة جر جيرتك الزيالا وعاد ضمير ودكم خـبـالا
فإني مستقيلك أثـل لـبـي ولب المرء أفضل ما استقالا
صفحة : 926
أهابك أن أقول بذلت نفسي ولو أني أطيع القلب قالا
حياء منك حتى سل جسمي وشق علي كتماني وطالا الشعر للقس. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر. وفيه لمعبد ثقيل أول بالوسطى، أوله:
أهابك أن أقول بذلت نفسي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا بكار بن رباح قال: كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وقد كانت أصابت جده منة من صفوان بن أمية، وكان ينزل مكة، وكان من عباد أهلها، فسمي القس من عبادته. فمر ذات يوم بسلامة وهي تغني فوقف فتسمع غناءها. فرآه مولاها فدعاه إلى أن يدخله إليها فيسمع منها، فأبى عليه. فقال له: فإني أقعدك في مكان تسمع منها ولا تراها. فقال: أما هذا فنعم. فأدخله داره وأجلسه حيث يسمع غناءها? ثم أمرها فخرجت إليه. فلما رآها علقت بقلبه فهام بها، واشتهر وشاع خبره بالمدينة. قال: وجعل يتردد إلى منزل مولاها مدة طويلة. ثم إن مولاها خرج يوما لبعض شأنه وخلفه مقيما عندها فقالت له: أنا والله أحبك فقال لها: وأنا والله الذي لا إله إلا هو. قالت: وأنا والله اشتهي أن أعانقك وأقبلك قال: وأنا والله. قالت: وأشتهي والله أن أضاجعك وأجعل بطني على بطنك وصدري على صدرك قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك من ذلك? فوالله إن المكان لخال. قال: يمنعني منه قول الله عز وجل: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين فأكره أن تحول مودتي لك عداوة ، يوم القيامة. ثم خرج من عندها وهو يبكي? فما عاد إليها بعد ذلك.
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني قال: لما ملك يزيد بن عبد الملك حبابة وسلامة القس تمثل:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافـر ثم قال: ما شاء بعد من أمر الدنيا فليفتني.
وإني ليرضيني قليل نوالـكـم وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم من الوصل إلا عدتم بجمـيل الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء لسليمان الفزاري. ولحنه المختار من الرمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف رمل أوله الثاني ثم الأول، ينسب إلى حكم الوادي وإلى سليمان أيضا. وفيه لحن من الثقيل الأول يقال: إنه لمخارق، ذكر حبش أن لحن مخارق ثاني ثقيل.
أخبار العباس بن الأحنف ونسبه
هو- فيما ذكر ابن النطاح- العثاص بن الأحنف بن الأسود بن طفحة ابن جدان بن كلدة من بني عدي بن حنيفة.
وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل قال سمعت إبراهيم بن العباس يقول: العباس بن الأحنف بن الأسود بن قدامة بن هفيان من بني هفان بن الحارث بن الذهل بن الدول بن حنيفة. قال: وكان حاجب بن قدامة عم العباس من رجال الدولة.
قال محمد بن يحيى وحدثني أبو عبد الله الكندي قال حدثني محمد بن بكر الحنفي الشاعر قال حدثني أبي قال: سمعت العباس بن الأحنف يذكر أن هوذة بن علي الحنفي قد ولده من قبل بعض أمهاته.
وكان العباس شاعرا غزلا ظريفا مطبوعا، من شعراء الدولة العباسية، وله مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق، ولمعانيه عذوبة ولطف. ولم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء، ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني. وقدمه أبو العباس المبرد في كتاب الروضة على نظرائه، وأطنب في وصفه، وقال: رأيت جماعة من الرواة للشعر يقدمونه. قال: وكان العباس من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلا ولم يكن فاسقا، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب شديد التترف، وذلك بين في شعره. وكان قصده الغزل وشغله النسيب، وكان حلوا مقبولا غزلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده، ولم يكن هجاء ولا مداحا.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو ذكوان قال: سمعت إبراهيم بن العباس يصف العباس بن الأحنف، فقال: كان والله ممن إذا تكلم لم يحب سامعه أن يسكت، وكان فصيحا جميلا ظريف اللسان، لو شئت أن تقول كلامه كله شعر لقلت.
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: رأيت نسخا من شعر العباس بن الأحنف بخراسان، وكان عليها مكتوب: شعر الأمير أبي الفضل العباس .
صفحة : 927
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثني صالح بن عبد الوهاب: أن العباس بن الأحنف كان من عرب خراسان، ومنشؤه ببغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا تزال قد ترى له الشيء البارع جدا حتى تلحقه بالمحسنين.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا يموت بن المزرع قال: سمعت خالي يعني الجاحظ يقول: لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه وكثر.
حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: أنشد الحرمازي أبو علي وأنا حاضر للعباس بن الأحنف:
لا جزى الله دمع عيني خيرا وجزى الله كل خير لساني
نم دمعي فليس يكتـم شـيئا ورأيت اللسان ذا كتـمـان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي فاستدلوا عليه بالعـنـوان - الغناء لعريب رمل- ثم قال الحرمازي: هذا والله طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه.
أخبرني محمد قال حدثني حسين بن فهم قال سمعت العطوي يقول: كان العباس بن الأحنف شاعرا مجيدا غزلا، وكان أبو الهذيل العلاف يبغضه ويلعنه لقوله:
إذا أردت سلوا كان ناصركـم قلبي وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكـم فكل ذلك محمول على القدر قال: فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره.
قال محمد بن يحيى: وأنشدني محمد بن العباس اليزيدي شعرا للعباس أظنه يهجو به أبا الهذيل- وما، سمعت للعباس هجاء غيره:
يا من يكذب أخبار الرسول لقـد أخطأت في كل ما تأتي وما تذر
كذبت بالقدر الجاري عليك فقـد أتاك مني بما لا تشتهي القـدر حدثني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن سعيد عن الرياشي قال: قيل للأصمعي- أو قلت له- ما أحسن ما تحفظ للمحدثين? قال: قول العباس بن الأحنف:
لو كنت عاتبة لسكـن روعـتـي أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكـن لـي حـيلة صد الملول خلاف صد العاتـب الغناء للعباس أخي بحر رمل.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن العباس اليزيدي قالا، واللفظ لهاشم، قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: دخل عمي على الرشيد والعباس بن الأحنف عنده، فقال العباسي للرشيد: دعني أعبث بالأصمعي. قال له الرشيد: إنه ليس ممن يحتمل العبث. فقال: لست أعبث به عبثا يشق عليه. قال: أنت أعلم. فلما دخل عمي قال له: يا أبا سعيد، من الذي يقول:
إذا أحببت أن تـص نع شيئا يعجب الناسا
فصور هاهنا فـوزا وصور ثم عبـاسـا
فإن لم يدنوا حـتـى ترى رأسيهما راسا
كذب بها بما قاسـت وكذبه بما قـاسـى فقال له عمي يعرض بأنه نبطي: قاله الذي يقول:
إذا أحببت أن تبـص ر شيئا يعجب الخلقا
فصور هاهنـا دورا وصور هاهنا فلقـا
فإن لم يدنوا حـتـى ترى خلقيهما خلقـا
فكذبها بمـا لاقـت وكذبه بما يلـقـى قال: فخجل العباس، وقال له الرشيد: قد نهيتك فلم تقبل.
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن العباسي للعباس بن الأحنف:
قالت ظلوم سمية الظلـم مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فاقصده أنت العليم بموضع السهم فقلت له: إن أبا حاتم السجستاني حكى عن الأصمعي أنه أنشد للعباس بن الأحنف:
أتأذنون لـصـب فـي زيارتـكـم فعندكم شهوات السمع والبـصـر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به عف الضمير ولكن فاسق النظـر فقال الأصمعي: ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئا، حتى أدخلها فأخرج هذا، ومن أدمن طلب شيء ظفر ببعضه. فقال إبراهيم بن العباس: أنا لا أدري ما قال الأصمعي، ولكن أنشدك للعباس ما لا تدفع أنت ولا غيرك فضله، ثم أنشدني قوله:
صفحة : 928
والله لو أن القلوب كقلبهـا مارق للولد الضعيف الوالد وقوله:
لكن مللت فلم تكن لـي حـيلة صد الملول خلاف صد العاتب وقوله:
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى جائت أمور لا تطاق كـبـار ثم قال: هذا والله ما لا يقدر أحد على أن يقول مثله أبدا.
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال: كنا عند الحسن بن وهب فقال لبنان: غنيني:
أتأذنون لـصـب فـي زيارتـكـم فعندكم شهوات السمع والبـصـر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به عف الضمير ولكن فاسق النظـر قال: فضحكت ثم قالت: فأي خير فيه إن كان كذا أو أي معنى فخجل الحسن من نادرتها عليه، وعجبنا من حدة جوابها وفطنتها.
حدثني الصولي قال: أخبرنا أحمد بن إسماعيل النصيبيني قال سمعت سعيد بن جنيد يقول: ما أعرف أحسن من شعر العباس في إخفاء أمره حيث يقول:
أريدك بالسلام فأتقـيهـم فأعمد بالسلام إلى سواك
وأكثر فيهم ضحكي ليخفى فسني ضاحك والقلب باك حدثني الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي أحمد بن حمدون قال: كان بين الواثق وبين بعض جواريه شر فخرج كسلان، فلم أزل أنا والفتح بن خاقان نحتال لنشاطه، فراني أضاحك الفتح فقال: قاتل الله أبن الأحنف حيث يقول:
عدل من الله أبكاني وأضحكها فالحمد لله عدل كل ما صنعا
اليوم أبكي على قلبي وأندبـه قلب ألح عليه الحب فانصدعا فقال الفتح: أنت والله يا أمير المؤمنين في وضع التمثل موضعه أشعر منه وأعلم وأظرف.
أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: قالت للواثق جارية له كان يهواها وقد جرى بينهما عتب: إن كنت تستطيل بعز الخلافة فأنا أدل بعز الحب. أتراك لم تسمع بخليفة عشق قبلك قط فاستوفى من معشوقه حقه، ولكني لا أرى لي نظيرا في طاعتك. فقال الواثق: لله در ابن الأحنف حيث يقول:
أما تحسبيني أرى للعاشقـين بلى، ثم لست أرى لي نظيرا
لعـل الـذي بـيديه الأمـور سيجعل في الكره خيرا كثيرا حدثني الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال: سمعت الزبير يقول: ابن الأحنف أشعر الناس في قوله:
تعتل بالشغل عنا ما تكلمـنـا الشغل للقلب ليس الشغل للبدن ويقول: لا أعلم شيئا من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بهذا النصف الأخير.
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن سعيد عن حماد بن إسحاق قال: كان أبي يقول: لقد ظرف ابن الأحنف في قوله يصف طول عهده بالنوم:
قفا خبرانـي أيهـا الـرجـلان عن النوم إن الهجر نـهـانـي
وكيف يكون النوم أم كيف طعمه صفا النوم لي إن كنتما تصفان قال: على قلة إعجابه بمثل هذه الأشعار.
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون بن مخلد قال حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: رأيت سلمة بن عاصم ومعه شعر العباس بن الأحنف، فعجبت منه وقلت: مثلك- أعزك الله- يحمل هذا فقال: ألا أحمل شعر من يقول:
أسأت أن أحسـنـت ظـنـي بكم والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الـشـوق فـآتـيكـم والقلب مملوء مـن الـيأس غنى هذين البيتين حسين بن محرز خفيف رمل بالوسطى. وأول الصوت:
يا فوز يا منية عـبـاس واحربا من قلبك القاسي وروى أحمد بن إبراهيم قال: أتاني أعرابي فصيح ظريف، فجعلت أكتب عنه أشياء حسانا، ثم قال: أتشدني لأصحابكم الحضريين. فأنشدته للعباس بن الأخنف:
ذكرتك بالتفاح لما شمـمـتـه وبالراح لما قابلت أوجه الشرب
تذكرت بالتفاح منك سـوالـفـا وبالراح طعما من مقبلك العذب فقال: هذا عندك وأنت تكتب عني لا أنشدك حرفا بعد هذا.
فضل العباس بن الفضل بعض شعره على قول أهل العراق: وحدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب قال سمعت عبد الله بن العباس بن الفضل يقول:
سبحان رب العلا ما كان أغفلني عما رمتني به الأيام والـزمـن
من لم يذق فرقة الأحباب ثم يرى آثارهم بعدهم لم يدر ما الحرن
صفحة : 929
قال أبو بكر: وقد غنى عبد الله بن العباس فيه صوتا خفيف رمل.
حدثني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال: سمعت حسين بن الضحاك يقول: لو جاء العباس بن الأحنف بقوله ما قاله في بيتين في أبيات لعذر، وهو قوله:
لعمرك ما يستريح المحب فقد يكتم المرء أسـراره
حتى يبـوح بـأسـراره فتظهر في بعض أشعاره ثم قال: أما قوله في هذا المعنى الذي لم يتقدمه فيه أحد فهو:
الحب أملك للفؤاد بـقـهـره من أن يرى للستر فيه نصيب
وإذا بدا سر اللبـيب فـإنـه لم يبد إلا والفتى مغـلـوب أخبرني الصولي قال حدثني الغلابي قال حدثني الزبير بن مجار قال قال أبو العتاهية: ما حسدت أحدا إلا العباس بن الأحنف في قوله:
إذا امتنع القريب فلم تنلـه على قرب فذاك هو البعيد فإني كنت أولى به منه وهو بشعري أشبه منه بشعره. فقلت له: صدقت، هو يشبه شعرك.
أخبرني الصولي فال حدثني أبو الحسن الأنصاري قال: سمعت الكندي يقول: العباس بن الأحنف مليح ظريف حكيم جزل في شعره، وكان قليلا ما يرضيني الشعر. فكان ينشد له كثيرا:
ألا تعجبون كما أعـجـب حبيب يسيء ولا يعـتـب
وأبغي رضاه على سخطه فيأبى علي ويستصـعـب
فيا ليت حظي إذا ما أسـأ ت أنك ترضى ولا تغضب كان إبراهيم الموصلي مشغوفا بشعره كثير الغناء فيه: أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كان جدي إبراهيم مشغوفا بشعر العباس، فتغنى في كثير من شعره، فذكر أشعارا كثيرة حفظت منها:
وقد ملئت ماء الشباب كـأنـهـا قضيب من الريحان ريان أخضر
هم كتموني سيرهم حين أزمعـوا وقالوا أتعدنا للرواح وبـكـروا ذكر الهشامي أن اللحن في هذين البيتين لعلوية رمل، وفي كتاب ابن المكي أنه لابن سريح، وهو غلط.
وقد أخبرني الحسن بن علي عن الحسين بن فهم قال: أنشد المأمون قول عباس بن الأحنف:
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا وقالوا أتعدنا للرواح وبكـروا فقال المأمون: سخروا بأبي الفضل.
قال: وحفظت منها:
تمنى رجال ما أحـبـوا وإنـمـا تمنيت أن أشكو إليك وتسمـعـا
أرى كل معشوقين غيري وغيرها قد أستعذبا طول الهوى وتمتعـا الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر. وفيه ثقيل أول بالوسطى ينسب إلى يزيد حوراء وإلى سليم بن سلام.
قال وحفظت منها:
بكت عـينـي لأنـواع من الحـزن وأوجـاع
وأنـي كـل يوم عـن دكم يحظى بي الساعي
أعيش الدهر إن عشت بقلب منـك مـرتـاع
وإن حل بي الـبـعـد سينعاني لك النـاعـي الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفي كتاب إبراهيم بن المهدي الذي رواه الهشامي عنه أن لإبراهيم بن المهدي فيه لحنين: ثقيلا أول وماخوريا. وفيه هزج محدث.
أخبرني الصولي قال حدثنا أصحابنا عن محمد بن الفضل عن حماد بن إسحاق قال: ما غنى جدي في شعر أحد من الشعراء أكثر مما غنى في شعر ذي الرمة وعباس بن الأحنف.
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله التميمي قال: كنا في مجلس ابن الأعرابي، إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سالم كان يلزم ابن الأعرابي، وكان يحبه ويأنس به، فقال له: ما أخرك عني? فاعتذر بأشياء ثم قال: كنت مع مخارق عند بعض بني الرشيد فوهب له مائة ألف درهم على صوت غناه به، فاستكثر ذلك ابن الأعرابي واستهاله وعجب منه، وقال: ما هو? قال: غناه بشعر عباس بن الأحنف:
بكت عـينـي لأنـواع من الحـزن وأوجـاع
وأنـي كـل يوم عـن دكم يحظى بي الساعي فقال ابن الأعرابي: أما الغناء فما أدري ما هو، ولكن هذا والله كلام قريب مليح.
حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن الهيثم قال حدثني محمد بن عمرو الرومي قال: كنا عند الواثق فقال: أريد أن أصنع لحنا في شعر معناه أن الإنسان كائنا من كان لا يقدر على الاحتراس من عدوه، فهل تعرفون في هذا شيئا? فأنشدنا ضروبا من الأشعار فقال: ما جئتم بشيء مثل قول عباس بن الأحنف:
صفحة : 930
قلبي إلى ما ضرني داعـي يكثر أسقامي وأوجـاعـي
كيف احتراسي من عـدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي
أسلمني للحـب أشـياعـي لما سعى بي عندها الساعي
لقلما أبقى عـلـى كـل ذا يوشك أن ينعاني النـاعـي قال: فعمل فيه الواثق لحنه الثقيل الأول، النشيد بالوسطى حدثني الصولي قال حدثني محمد بن موسى أو حدثت به عنه عن علي بن الجهم قال: انصرفت ليلة من عند المتوكل، فلما دخلت منزلي جاءني رسوله يطلبني، فراعني ذلك وقلت: بل تتبعت به بعد انصرافي، فرجعت إليه وجلا، فأدخلت عليه وهو في مرقده. فلما رآني ضحك، فأيقنت بالسلامة، فقال: يا علي، أنا مذ فارقتك ساهر، خطر على قلبي هذا الشعر الذي يغني فيه أخي، قول الشاعر:
قلبي إلى ما ضرني داعي الأبيات. فحرصت أن أعمل مثل هذا فلم يجئني، أو أن أعمل مثل اللحن فما أمكنني? فوجدت في نفسي نقصا، فقلت: يا سيدي، كان أخوك خليفة يغني وأنت خليفة لا تغنى، فقال: قد والله أهديت إلى عيني نوما، أعطوه ألف دينار، فأخذتها وانصرفت.
وجدت في كتاب الشاهيني بغير إسناد: أنشد أبو الحارث جميز قول العباس بن الأحنف.
قلبي إلى ما ضرني داعي الأبيات. فبكى ثم قال: هذا شعر رجل جائع في جارية طباخة مليحة، فقلت له: من أين قلت ذاك? قال: لأنه بدأ فقال: قلبي إلى ما ضرني داعي وكذلك الإنسان يدعوه قلبه وشهوته إلى ما يضره من الطعام والشراب فيأكله، فتكثر علله وأوجاعه، وهذا تعريض، ثم صرح فقال:
كيف احتراسي من عـدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلا معدته، فهي تتلف ماله، وهي سبب أسقامه، وهي مفتاح كل بلاء عليه-، ثم قال:
إن دام لي هجرك يا مالكي أوشك أن ينعاني الناعـي فعلمت أن الطباخة كانت صديقته، وأنها هجرته ففقدها وفقد الطعام، فلو دام ذلك عليه لمات جوعا ونعاه الناعي.
وحدثني الصولي قال حدثني محمد بن عيسى قال: جاء عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع إلى الحسن بن وهب، وعنده بنان جارية محمد بن حماد، وهي نائمة سكرى وهو يبكي عندها. فقال له: مالك? قال: قد كنت نائما فجاءتني فأنبهتني وقالت: اجلس حتى تشرب فجلست، فوالله ما غنت عشرة أصوات حتى نامت وما شربت إلا قليلا، فذكرت قول أشعر الناس وأظرفهم، العباس بن الأحنف.
أبكى الذين أذاقوني مودتـهـم حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا فأنا أبكي وأنشد هذا البيت.
وحدثني الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول: ما رأيت كلاما محدثا أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العباس بن الأحنف:
تعالي نجدد دارس العهد بيننا كلانا على طول الجفاء ملوم قال الصولي: ووجدت بخط عبد الله بن الحسن: أنشد أبو محمد الحسن بن مخلد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس بن الأحنف:
إن قال لم يفعل وإن سيل لـم يبذل وإن عوتب لم يعـتـب
صب بعصياني ولو قال لـي لا تشرب البارد لـم أشـرب
إليك أشكو رب ما حـل بـي من صد هذا المذنب المغضب غنى في هذه الأبيات أحمد بن صدقة هزجا بالوسطى. وفيها لحن آخر لغيره- قال الحسن بن مخلد: ثم قال لي إبراهيم بن العباس: هذا والله الكلام الحسن المعنى، السهل المورد، القريب المتناول، المليح اللفظ، العذب المستمع.
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: سمعت علي بن يحيى يقول: من الشعر المرزوق من المغنين خاصة شعر العباس بن الأحنف، وخاصة قوله:
نائم من أهدى لي الأرقا مستريحا سامني قلقـا فإنه غنى فيه جماعة من المغنين، منهم إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وغيرهما. قال: وكان يستحسن هذا الشعر، وأظن استحسانه إياه حمله على أن قال في رويه وقافيته:
بأبي والله من طرقـا كابتسام البرق إذ خفقا وعمل فيه لحنا من خفيف الثقيل في الإصبع الوسطى. هكذا رواه الصولي.
وأخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: قال أبي: هذا الصوت:
نام من أهدى لي الأرقا
صفحة : 931
من الأشعار المحظوظة في الغناء لكثرة ما فيه من الصنعة واشتراك المغنين في ألحانه. وذكر محمد بن الحسن الكاتب عن علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون أنه قال ذلك ولم يذكره عن إسحاق.
نام من أهدى لي الأرقـا مستريحا زادني قلـقـا
لو يبيت الناس كـلـهـم بسهادي بيض الحـدقـا
كان لي قلب أعيش بـه فاصطلى بالحب فاحترقا
أنا لم أرزق مـودتـكـم إنما للعبـد مـا رزقـا لإسحاق في هذا الشعر خفيف بالوسطى في مجراها. ولأبيه إبراهيم أيضا فيه خفيف ثقيل آخر. ولابن جامع فيه لحنان: رمل مطلق في مجرى الوسطى في الأول والثالث، وخفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى أيضا في الأبيات كلها. وفيه لسليم هزج، وفيه لعلويه ثقيل أول.
بأبي والله من طـرقـا كابتسام البرق إذ خفقـا
زادني شوقا بـزورتـه وملا قلبي به حـرقـا
من لقلـب هـائم دنـف كلما سليتـه قـلـقـا
زارني طيف الحبيب فما زاد أن أغرى بي الأرقا الشعر لعلي بن يحيى، وذكر الصولي أن الغناء له خفيف ثقيل أول بالوسطى.
وذكر أبو العبيس بن حمدون أن هذا الخفيف الثقيل من صنعته. وفيه لعريب ثاني ثقيل بالوسطى أيضا.
حدثني الصولي قال: سمعت عبد الله بن المعتز يقول: لو قيل: ما أحسن شيء تعرفه? قلت: شعر العباس بن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا وفرق الناس فينا قولهم فرقـا
فكاذب قد رمي بالحب غيركـم وصادق ليس يدري أنه صدقا قال: وللمسدود في هذا الشعر لحن. قال: ولم يغن المسدود أحسن من غنائه في شعر العباس بن الأحنف. هكذا ذكر الصولي، ولم يأت بغير هذا. ولإسحاق في هذين البيتين ثقيل أول بالبنصر من نسخة عمرو بن بانة الثانية. ولابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. وليزيد حوراء خفيف ثقيل عنه. وللمسدود رمل. ولعبد الله بن العباس الربيعي خفيف رمل.
وأخبرني الصولي قال حدثني محمد بن سعيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غضب الفضل بن الربيع على جارية له كانت أحب الناس إليه، فتأخرت عن استرضائه، فغمه ذلك، فوجه إلى أبي يعلمه ويشكوها إليه. فكتب إليه أبي: لك العزة والشرف، ولأعدائك الذل والرغم. واستعمل قول العباس بن الأحنف:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبـه وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم
فإنك إلا تغفر الذنب في الهوى يفارقك من تهوى وأنفك راغم فقال: صدقت، وبعث إليها فترضاها.
أخبرني الصولي قال حدثني أبو بكر بن أبي خيثمة قال: قيل لمصعب الزبيري: إن الناس يستبردون شعر العباس بن الأحنف. فقال: لقد ظلموه، أليس الذي يقول:
قالت ظلوم سمية الظلـم مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده أنت العليم بموقع السهم أخبرني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال حدثني أبو عبد الله الهشامي الحسن بن أحمد قال حدثنا عمرو بن بانة قال: كنا في دار أم جعفر جماعة من الشعراء والمغنين، فخرجت جارية لها وكمها مملوء دراهم، فقالت: أيكم القائل:
من ذا يعيرك عينة تبكي بها أرأيت عينا للبكاء تـعـار فأومئ إلى العباس بن الأحنف، فنثرت الدراهم في حجره فنفضها فلقطها الفراشون، ثم دخلت ومعها ثلاثة نفر من الفراشين على عنق كل فراش بدرة فيها دراهم، فمضوا بها إلى منزل العباس بن الأحنف: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى قال: أنشد الرشيد قول العباس بن الأحنف:
من ذا يعيرك عينه تبكي بها فقال: من لا صحبه الله ولا حاطه.
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محقد الكندي قال: كنا مع مخلد الموصلي في مجلس وكان معنا عبد الله بن ربيعة الزقي، فأنشد مخلد الموصلي قصيدة له يقول
كل شيء أقوى عليه ولكن ليس لي بالفراق منك يدان فجعل يستحسنه ويردده، فقال له عبد الله: أنت الفداء لمن ابتدأ هذا المعنى فأحسن فيه حيث يقول:
سلبتني من الشرور ثيابـا وكستني من الهموم ثيابـا
كلما أغلقت من الوصل بابا فتحت لي إلى المنية بابـا
صفحة : 932
عذبيني بكل شيء سوى الص د فما ذقت كالصدود عذابـا قال: فضحك الموصلي. والشعر للعباس بن الأحنف.
وأخبرني الصولي قال حدثني أبو الحسن الأسدي قال: سمع الرياشي يقول، وقد ذكر عنده العباس بن الأحنف: والله لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفيا:
أحرم منكم بما أقـول وقـد نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبـت تضيء للناس وهي تحترق وفي هذين البيتين لحن لعبد الله بن العباس من الثقيل الثاني بالبنصر. وفيه لخزرج رمل أول عن عبد الله بن العباس:
أنت لا تعلمين ما الهم والحزن ولا تعـلـمـين مـا الأرق أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد المبرد قال حدثني بعض مشايخ الأزد عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان الرشيد يقدم أبا العتاهية حتى يجوز الحد في تقديمه، وكنت أقدم العباس بن الأحنف? فاغتابني بعض الناس عند الرشيد وعابني عنده، وقال عقب ذلك: وبحسبك يا أمير المؤمنين أنه يخالفك في العباس بن الأحنف على حداثة سنه وقلة حذقه وتجريبه، ويقدمه على أبي العتاهية مع ميلك إليه. وبلغني الخبر فدخلت على الرشيد، فقال لي ابتداء: أيما أشعر عندك: العباس بن الأحنف أو أبو العتاهية? فعلمت الذي يريد، فأطرقت كأني مستثبت ثم قلت: أبو العتاهية أشعر. قال: أنشدني لهذا ولهذا، قلت: فبأيهما أبدأ? قال: بالعباس. قال: فأنشدته أجود ما أرويه للعباس، وهو قوله:
أحرم منكم بما أقـول وقـد نال به العاشقون من عشقوا فقال لي: أحسن، فأنشدني لأبي العتاهية، فأنشدته أضعف ما أقدر عليه، وهو قوله:
كأن عتابة من حسـنـهـا دمية قس فتنت قـسـهـا
يا رب لو أنسيتنيها بـمـا في جنة الفردوس لم أنسها
إني إذا مثل التي لم تـزل دائبة في طحنها كدسهـا
حتى إذا لم يبق منها سوى حفنة بر قتلت نفـسـهـا قال: أتعيره هذا فأين أنت عن قوله:
قال لي أحمد ولم يدر مـا بـي أتحب الغـداة عـتـبة حـقـا
فتنفست ثم قلـت نـعـم حـب ا جرى في العروق عرقا فعرقا ويحك أتعرف لأحد مثل هذا، أو تعرف أحدا سبقه إلى قوله: فتنفست ثم قلت كذا وكذا اذهب ويحك فاحفظها، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ولو كنت سمعت بها لحفظتها. قال إسحاق: وما أشك إني كنت أحفظ لها حينئذ من أبي العتاهية، ولكني إنما أنشدت ما أنشدت تعصبا.
قال محمد بن يزيد: وحدثت من غير وجه أن الرشيد ألف العباس بن الأحنف? فلما خرج إلى خراسان طال مقامه بها، ثم خرج إلى أرمينية والعباس معه ماشيا إلى بغداد، فعارضه في طريقه فأنشده:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسـانـا
ما أقدر الله أن يدني على شحط سكان دجلة من سكان جيحـان
متى الذي كنت أرجوه وآملـه أما الذي كنت أخشاه فقد كانـا
عين الزمان أصابتنا فلا نظرت وعذبت بصنوف الهجر ألوانـا في هذين البيتين الأخيرين رمل بالوسطى ينسب إلى مخارق وإلى غيره- قال فقال له الرشيد: قد أشتقت يا عباس وأذنت لك خاصة، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن القاسم قال: سمعت مصعبا الزبيري يقول: العباس بن الأحنف وعمرو العراف ما ابتدلا شعرهما في رغبة ولا رهبة، ولكن فيما أحباه، فلزما فنا واحدا لو لزمه غيرهما ممن يكثر إكثارهما لضعف فيه.
توهمت بالخيف رسما محيلا لعزة تعرف منه الطلـولا
تبذل بالحي صوت الصـدى ونوح الحمامة تدعو هديلا عروضه من المتقارب. الخيف الذي عناه كثير ليس بخيف مني، بل هو موضع آخر في بلاد ضمرة. والطلول: جمع طلل، وهو ما كان له شخص وجسم عال من آثار الديار. والرسم ما لم يكن له شخص أو جسم، والصدى هاهنا: طائر، وفي موضع آخر: العطش. ويزعم أهل الجاهلية أن الصدى طائر يخرج من رأس المقتول فلا يزال يصيح أسقوني، حتى يدرك بثأره. قال طرفة:
كريم يروي نفسه في حـياتـه ستعلم إن متنا صدى أينا الصدي
صفحة : 933
والحمام: القماري ونحوها من الطير. والهديل: أصواتها.
الشعر لكثير والغناء لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ونسبه إلى جاريته وكنى عنها، فذكر أن الصنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء وعظم علمه وأتعب نفسه حتى جمع النغم العشر في هذا الصوت، وذكر أن طريقته من الثقيل الأول، وأنه ليس يجوز أن ينسبه إلى موضع إصبع مفردة، لأن ابتداءه على المثنى مطلقا، ثم بسبابة المثنى، ثم وسطى المثنى، ثم بنصر المثنى، ثم خنصر المثنى، ثم سبابة الزير، ثم وسطاه، ثم بنصره، ثم خنصره، ثم النغمة الحادة، وهي العاشرة. وفيه لابن محرز ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر. وفيه لابن الهزبذ رمل بالوسطى عن عمرو، وهذا الصوت من الثقيل الثاني، وهو الذي ذكر إسحاق في كتاب النغم وعللها أن لحن ابن محرز فيه يجمع ثمانيا من النغم العشر، وأنه لا يعرف صوتا يجمعها غيره، وأنه يمكن من كان له علم ثاقب بالصناعة أن يأتي في صوت واحد بالنغم العشر، بعد تعب طويل ومعاناة شديدة. وذكر عبيد الله أن صانع هذا الصوت الذي كنى عنه فعل ذلك وتلطف له حتى أتى بالنغم العشر في هذا متوالية من أولها إلى آخرها، وأتى بها في الصوت الذي بعده متفرقة على غير توال إلا أنها كلها فيه، وذكر أن ذلك الصوت أحسن مسموعا وأحلى. وحكى ذلك أيضا عنه يحيى بن علي بن يحيى في كتاب النغم. وإذ فرغت من حكاية ما ذكره وحكاه عبيد الله في نسبة هذا الصوت فقد ينبغي أخرى الأمر فيه على التقليد دون القول الصحيح فيما ذكره وحكاه. والذي وصفه من جهة النغم العشر متوالية في صوت واحد محال لا حقيقة له، ولا يمكن أحدا بتة أن يفعله. وأنا أبين العلة في ذلك على تقريب، إذ كان استقصاء شرحها طويلا. وقد ذكرته في رسالة إلى بعض إخواني في علل النغم، وشرحت هناك العلة في أن قسم الغناء قسمين وجعل على مجريين: الوسطى والبنصر دون غيرهما، حتى لا يدخل واحدة منهما على صاحبتها في مجراها قرب مخرج الصوت، إذا كان على الوسطى منه أو إذا كان على البنصر وشبهه به. فإذا أراد مريد إلحاق هذا بهذا لم يمكنه بتة على وجه ولا سبب، ولا يوجد في استطاعة حيوان أن يتلو إحداهما بالأخرى. وإذا أتبعت إحداهما بالأخرى في ناي أو آلة من آلات الزمر تفضلت إحداهما بالأخرى. وإنما قلت النغم في غناء الأوائل لأنهم قسموها قسمين بين هاتين الإصبعين، فوجدوهما إذا دخلت إحداهما مع الأخرى في طريقتها لم يكن ذلك إلا بعد أن يفصل بينهما بنغم أخرى للسبابة والخنصر يدخل بينهما حتى تتباعد المسافة بينهما، ثم لا يكون. لذلك الغناء ملاحة ولا طيب للمضادة في المجريين، فتركوه ولم يستعملوه، فإن كان صح لعبيد الله عمل في النغم العشر في صوت، فلعله صح له في الصوت الذي ذكر أنه فرقها فيه? فأما المتوالية- على ما ذكره هاهنا- فمحال، ولست أقدر في هذا الموضع على شرح أكثر من هذا، وهو في الرسالة التي ذكرتها مشروح.
يا دار عبلة من مشارق مأسـل درس الشؤون وعهدها لم ينجل
واستبدلت عفر الظباء كأنـمـا أبعارها في الصيف حب الفلفل ذكر يحيى بن علي أن الشعر لعنترة بن شداد، وليس ذلك بصحيح. وذكر غيره من الرواة أنه لعبد قيس بن خفاف البرجمي، وليس ذلك بصحيح أيضا، والشعر لحارثة بن بدر الغداني من قصيدة له طويلة يفتخر فيها ويذكر سالف أيامه. وقد ذكرت المختار منها بعقب أخبار حارثة وبعد انقضائها. والغناء المختار لأبي دلف العجلي، ولحنه في المختار ثقيل أول، وفيه ألحان كثيرة.
حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة بن يربوع.
وقال خالد بن حبل: حارثة بن بدر بن مالك بن كليب بن غدانة بن يربوع.
وأم حارثة بن بدر امرأة من بني صريم بن الحارث، يقال لها: الصدوف، بنت صدى.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري، قال: مر عمرو بن الأهتم بحارثة بن بدر، والأحنف بن قيس، وزيد بن جبلة، وهم مجتمعون، فسلم عليهم، ثم بقي مفكرا، فقالوا: مالك? فقال: ما في الأرض ثلاثة أنجب من آبائكم، حيث جاؤوا بأمثالكم من أمثال أمهاتكم فضحكوا منه.
قال: وأم الأحنف: الزافرية، واسمها حبى، من باهلة، وأم زيد بن جبلة: عمرة بنت حذلم، من بني الشعيراء. وأم حارثة: الصدوف بنت صدى، من بني صريم بن الحارث.
صفحة : 934
وقد مضى نسب بني يربوع في نسب جرير وغيره أمن عشيرته، من هذا الكتاب.
وفي بني غدانة يقول الفرزدق:
أبني غدانة إنني حررتكـم فوهبتكم لعطيه بن جعـال
لولا عطية لاجتدعت أنوفكم من بين الأم أعين وسبـال وكان عطية استوهب منه أعراضهم لصهر كان بينه ويبنهم، وكان عطية سيدا من سادات بني تميم. فلما سمع هذا الشعر قال: والله لقد أمتن علي أبو فراس بهذه الهبة وما تممها حتى ارتجعها، ووصل الامتنان بتحريرهم بأقبح هجاء لهم.
قال: وكان عطية هذا جوادا وفيه يقول جرير:
إن الجواد على المواطن كلها وابن الجواد عطية بن جعال
يهب النجائب لا يمل عطاءها والمقربات كأنهن سعالـى وحارثة بن بدر من فرسان بني تميم ووجوهها وساداتها أو جودائها، وأحسب أنه قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في حال صباه وحداثته. وهو من ولد بني الأحنف بن قيس، وليس بمعدود في فحول الشعراء، ولكنه كان يعارض نظراءه الشعر، وله من ذلك أشياء كثيرة ليست مما يلحقه بالمتقدمين في الشعر والمتصرفين في فنونه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري،، قال: أنبأنا عمر بن شبة، قال: أنبأنا المدائني، قال: كان زياد مكرما لحارثة بن بدر، قابلا لرأيه، محتملا لما يعلمه من تناوله الشراب. فلما ولي عبيد الله بن زياد أخر حارثة بعض التأخير، فعاتبه على ذلك. فقال له عبيد الله: إنك تتناول الشراب،. فقال له: قد كان أبوك يعلم هذا مني، ويقربني ويكرمني. فقال له: إن أبي كان لا يخاف من القالة في تقريبك ما أخاف، وإن اللسان إلي فيك لأسرع منه إلى أبي. فقال حارثة:
وكم من أمير قد تجبـر بـعـدمـا مريت له الدنيا بسـيفـي فـدرت
إذا ما هي احلولت نفى حق مقسمي وتقسم لي منهـا إذا مـا أمـرت
إذا زبـنـتـه عـن فـواق يريده دعيت ولا أدعـى إذا مـا أقـرت وقال حارثة بن بدر أيضا، وقد شاوره عبيد الله في بعض الأمر:
أهان وأقصى ثم ينتصحـونـنـي ومن ذا الذي يعطى نصيحته قسرا
رأيت أكف المصلتـين عـلـيكـم ملاء وكفي من عطاياكم صفـرا
متى تسألوني ما علي وتمـنـعـوا الذي لي لم أسطع على ذلكم صبرا فقال له عبيد الله: فإني معوضك وموليك، فولاه.
أخبرني يحيى بن علي إجازة، قال: أنبأنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، قال: قال لي أبو اليقظان: حول زياد دعوة حارثة بن بدر وديوانه في قريش، لمكانه منه، فقال فيه، رجل من بني كليب يهجوه بذلك:
شهدت بأن حارثة بن بدر غداني اللهازم والكـلام
سجاح في كتاب الله أدنى له من نوفل وبني هشام يعني سجاح، التي ادعت النبوة وهي امرأة من بني تميم قال أحمد بن يحيى: وقال المدائني: احترقت دار حارثة بن بدر بالبصرة، أحرقها بعض أعدائه من بني عمه، فقال في ذلك:
رأيت المنايا بادئات وعـودا إلى دارنا سهلا إليها طريقها
لها نبعة كانت تقينا فروعهـا فقد تلفت إلا قليلا عروقهـا قال: وكان لحارثة أخ يقال له: دارع، فأحرق مع ابن الحضرمي البصرة وقال أحمد يحيى أيضا: كان عطية بن جعال يهاجي حارثة بن بدر، ثم اصطلحا. وكان أيضا يهاجيه من قومه العكمص، وكانت بنو سليط تروي هجاءه لحارثة بن بدر، فقال حارثة يهجوهم:
أراوية علي بنو سـلـيط هجاء الناس يا لبني سليط
فما لحمي لتأكله سـلـيط شبيها بالذكي ولا العبيط أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن صالح بن سمح بن عمرة الأسدي أبو الحسن، قال: أنبأنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: قال: روح بن السكن: كان أنس بن زنيم الليثي صديقا لعبيد الله بن زياد، فرأى منه جفوة وأثرة لحارثة بن بدر الغداني، فقال:
أهان وأقصى ثم ترجى نصيحتـي وأي امرئ يعطي نصيحته قسرا
رأيت أكف المصلتين عـلـيكـم ملاء وكفي من عطاياكم صفـرا
فإن تسألوني ما علي وتمنعـوا ال ذي لي لم أسطع على ذلكم صبرا
صفحة : 935
رأيتكم تعطون من ترهبـونـه زربية قد وشحت حلقا صفـرا
وإني مع الساعي عليكم بسيفـه إذا عظمكم يوما رأيت به كسرا فقال عبيد الله بن زياد لحارثة بن بدر: أجبه. فاستعفاه لمودة كانت بينهما، فأكرمه على ذلك وأقسم عليه ليجيبنه، فقال:
تبدلت مـن أنـس إنـه كذوب المودة خوانهـا
أراه بصيرا بضر الخليل وخير الأخلاء عورانها فأجابه أنس فقال:
إن الخيانة شر الخـلـيل والكفر عندك ديوانـهـا
بصرت به في قديم الزمان كما بصر العين إنسانهـا فأجابه حارثة بن بدر فقال:
ألـكـنـي إلـى أنـس إنــه عظيم الحواشة عندي مـهـيب
فما أبتغي عثـرات الـخـلـيل ولا أبغين عـلـيه الـوثـوب
وما إن أرى ماله مـغـنـمـا من الدهر إن أعوزتني الكسوب فقال أنس:
أحار بـن بـدر وأنـت أمـرؤ لعمري المتاع إلي الـحـبـيب
متى كان مالك لي مـغـنـمـا من الدهر إن أعوزتني الكسوب
وشر الأخلاء عـنـد الـبـلاء وعنـد الـرزية خـل كـذوب قال: فتهادى أنس وحارثة الشعر عند عبيد الله زمانا، ووقع بينهما شر حتى قدم سلم بن زياد من عند يزيد بن معاوية عاملا على خراسان وسجستان، فجعل ينتخب ناسا من أهل البصرة والكوفة، وكان الذي بين عبيد الله وبين سلم شيئا، فأرسل سلم إلى أنس يعرض عليه صحبته وجعل له أن يستعمله على كورة، فقال له أنس: أمهلني حتى أنظر في أمري، وكتب إلى عبيد الله بن زياد.
ألم ترنـي خـيرت والأمـر واقـع فما كنت لما قلت بـالـمـتـخـير
رضاك على شيء سواه ومـن يكـن إذا اختار ذا حزم من الأمر يظـفـر
فعدت لترضى عن جهاد وصـاحـب شفيق قديم الـود كـان مـوقـري
على أحد الثـغـرين ثـم تـركـتـه وقد كنت في تأميره غير ممـتـري
فأمسكت عن سلم عناني وصحبـتـي ليعرف وجه العذر قبل الـتـعـذر
فان كنت لما تدر ما هي شـيمـتـي فسل بي أكفائي وسل بي معشـري
ألست مع الإحسان والجود ذا غـنـى وبأس إذا ما كفروا في التـسـتـر
ورأي وقد أعصى الهوى خشية الردى وأعرف غب الأمر قبل الـتـدبـر
وما كنت لولا ذاك ترتد بـغـبـتـي على ارتداد المظلم الـمـتـجـبـر قال: ودفعها إلى عبيدالله بن زياد، في صحيفة، فقرأها ثم دفعها إلى حارثة بن بدر، وقال له: أردد على أنس صحيفته فلا حاجة لنا فيها. فقال حارثة:
ألكني إلى من قال هـذا وقـل لـه كذبت فما إن أنت بالـمـتـخـير
وإنك لو صاحبت سلمـا وجـدتـه كعهدك عهد السـوء لـم يتـغـير
أتنصح لي يوما ولست بـنـاصـح لنفسك فاغشش ما بـدا لـك أو ذر
كذبت ولكن أنت رهـن بـخـزية ويوم كـأيام عـبـوس مـذكــر
كأشقر أضحى بين رمحين إن مضى على الرمح ينحر أو تأخر يعـقـر قال: وأعجبت عبيد الله، وقال: لعمري لقد أجبته. على إرادتي وأمسك عبيد الله في يده الصحيفة، فلما دخل عليه أنس دفعها إليه، فنظر فيها، ثم قال لعبيد الله: لقد رد علي من لا أستطيع جوابه. وظن أن عبيد الله قالها، وخرح أنس والصحيفة في يده، فلقيه عبد الرحمن بن رألان فدفعها إليه أنس، فلما قرأها قال: هذا شعر حارثة بن بدر، أعرفه. فقال له أنس: صدقت والله، ثم قال لحارثة:
عجبت لهرج من زمان مضلـل ورأي لألباب الرجال مـغـير
ومن حقبه عوجاء غول تلبسـت على الناس جلد الأربد المتنمـر
فلا يعرف المعروف فيه لأهله وإن قيل فيه منكر لم ينـكـر
لحارثة الهدي الخنى لي ظالمـا ولم أر مثل مدر صيد مـدري
لحار بن بدر قد أتتني مـقـالة فما بال نكر منك من غير منكر
أيروي عليك الناس ما لا تقولـه فتعذر أم أنت أمرؤ غير معذر
صفحة : 936
فإن يك حقـا مـا يقـال فـلا يكـن دبيبا وجاهرني فمـا مـن تـسـتـر
أقلدك إن كنت امرء خان عـرضـه قوافي من باقي الكلام المـشـهـر
وقد كنت قبل اليوم جـزبـت أنـنـي أشق على ذي الشعر والمتـشـعـر
وأن لساني بـالـقـصـائد مـاهـر تعن له غر القـوافـي وتـنـبـري
أصادفها حـينـا يسـيرا وأبـتـغـي لهـا مـرة شـزرا إذا لـم تـيسـر
تناولني بالشتم فـي غـير كـنـهـه فمهلا أبا الخيماء وابـن الـمـعـذر
هجوت وقد ساماك في الشعر خطة ال ذ ليل ولم يفعل كأفعـال مـنـكـر قال: وقال أنس بن زنيم لعبيد الله بن زياد، وفيه غناء:
سل أميري ما الـذي غـيره عن وصالي اليوم حتى ودعه
لا تهني بعد إكـرامـك لـي فشديد عادة مـنـتـزعـه
لا يكن وغدك برقا خـلـبـا إن خير البرق ما الغيث معه أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: زعم عاصم بن الحدثان أن حارثة بن بدر قال لعبيد الله بن ظبيان، وكانا في عرس لابن مسمع: هل لك في شراب? قال: نعم، فأتيا بنبيذ من زبيب وعسل، فأخذ ابن ظبيان العس فكرع فيه حتى كاد يأتي عليه، ثم ناوله حارثة. فقال له حارثة: يا بن ظبيان، إنك لطب بحسوها. فقال: أجل، والله إني لأشربها حلالا وأجاهر بها إذا أخفى غيري شرب الحرام. فقال له حارثة: من غيرك هذا? قال: سائلي عن هذا الأمر. فقال حارثة:
إذا كنت ندماني فخذهـا وسـقـنـي ودع عنك من رآك تكرع في الخمر
فإني امرؤ ولا أشرب الخمر في الدجا ولكنني أحسو النبيذ مـن الـتـمـر
حيا وتـقـا لـلـه والـلـه عـالـم بكل الذي نأتيه في السر والجـهـر
ومثلك قـد جـربـتـه وخـبـرتـه أبا مطر والحين أسبـابـه تـجـري
حساها كمستدمى الغـزال عـتـيقة إذا شعشعت بالماء طيبة الـنـشـر
أقـام عـلـيهـا دهـره كـل لـيلة يشافهها حتى يرى وضح الـفـجـر
فأصبح ميتا ميتة الكلـب صـحـكة لأصحابه حتى يدهده في الـقـبـر
فما إن بـكـاه غـير دن ومـزهـر وغانية كالبدر واضـحة الـثـغـر
وباطـية كـانـت لـه خـدن زنـية يعاقرها والليل معتكـر الـسـتـر أخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني، قال: حدثنا العمري عن عاصم بن الحدثان، قال: عاتب الأحنف بن قيس حارثة بن بدر على معاقرة الشراب وقال له: قد فضحت نفسك وأسقطت قدرك، وأوجعه عتابا. فقال له: إني سأعتبك. فانصرف الأحنف طامعا في صلاحه، فلما أمسى راح إليه فقال له: اسمع يا أبا بحر ما قلت لك. فقال: هات، فأنشده:
يذم أبـو بـحـر أمـورا يريدهـا ويكرهها للأريحـي الـمـسـود
فإن كنت عيابا فـقـل مـا تـريده ودع عنك شربي لست فيه بأوحـد
سأشربها صهباء كالمسك ريحـهـا وأشربها في كل نـاد ومـشـهـد
فنفسك فانصح يا بن قيس وخلـنـي ورأيي فما رأيي بـرأي مـفـنـد
وقائلة يا حار هل أنت ممسك عليك من التبذير قلت لـهـا اقـصـدي
ولا تأمريني بالـشـداد فـإنـنـي رأيت الكثير المال غير مـخـلـد
ولا عيب لي إلا اصطباحي قـهـوة متى يمزجها الماء في الكأس تزبد
معتقة صهباء كالمسـك ريحـهـا إذا هي فاحت أذهبت غلة الصـدي
ألا إنما الرشد المـبـين طـريقـه خلاف الذي قد قلت إذ أنت مرشدي
سأشربها مـا حـج لـلـه راكـب مجاهرة وحدي ومع كل مسـعـد
وأسعد ندماني وأتبـع شـهـوتـي وأبذل عفوا كل ما مـلـكـت يدي
كذا العيش لا عيش ابن قيس وصحبه من الشرب للماء القراح المصـرد فقال له الأحنف: حسبك، فإني أراك غير مقلع عن غيك، ولن أعاتبك بعدها أبدا.
صفحة : 937
قال عاصم: ثم كان بعد ذلك بن الأحنف وحارثة كلام وخصومة، فافترقا عن مجلسهما متغاضبين، فبلغ حارثة أن الأحنف قال: أما والله لولا ما يعلم لقلت فيه ما هو أهله. فقال حارثة: وهل يقدر على أن يذمني بأكثر من الشراب وحبي له? وذلك أمر لست أعتذر منه إلى أحد، ثم قال في ذلك:
وكم لائم لي في الشراب زجـرتـه فقلت له دعني ومـا أنـا شـارب
فلست عن الصهباء ما عشت مقصرا وإن لامني فيها الـلـئام الأشـائب
أأتـرك لـذاتـي وآتـي هـواكـم ألا ليس مثلي يابن قـيس يخـالـب
أنا الليث مـعـدوا عـلـيه وعـاديا إذا سلت البيض الرقاق القواضـب
فأنت حليم تزجر الناس عـن هـوى نفوسهم جهلا وحلـمـك عـازب
فحلمك صنه لا تـذلـه وخـلـنـي وشأني وأركب كل ما أنت راكـب
فإني امرؤ عودت نفـسـي عـادة وكل امرئ لا شك ما اعتاد طالـب
أجود بمالي مـا حـييت سـمـاحة وأنت بخيل يجتويك المـصـاحـب
فما أنت أو ما غي من ثـان غـاويا إذا أنت لم تسدد عليك المـذاهـب أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: أنبأنا أبو الأسود الخليل بن أسد، قال: أنبأنا العمري عن العتبي، قال: أجرى الوليد بن عبد الملك الخيل وعنده حارثة بن بدر الغداني، وهو حينئذ في ألف وستمائة من العطاء، فسبق الولد، فقال حارثة: هذه فرصة. فقام فهناه ودعا له، ثم قال:
إلى الألفين مطلع قريب زيادة أربع لي قد بقينـا
فإن أهلك فهن لكـم وإلا فهن من المتاع لكم سنينا فقال له الوليد: فتشاطرني ذلك: لك مائتان ولي مائتان. فصير عطاءه ألفا وثمانمائة. ثم أجرى الوليد الخيل، فسبق أيضا، فقال حارثة: هذه فرصة أخرى. فقام فهنأه ودعا له، ثم فال:
وما أحتجب الألفان إلا بهـين هما الآن أدنى منهما فبل ذالكا
فجد بهما تفديك نفسي فإننـي معلق آمالي ببعض حبالـكـا فأمر الوليد له بالمائتين، فانصرف وعطاؤه ألفان.
أخبرني محمد بن يحيى، أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا مهدي بن سابق، قال: أنبأنا عبد الرحمن بن شبيب بن شيبة، عن أبيه، قال: قال زياد يوما لحارثة بن بدر: من أخطب الناس، أنا أو أنت? فقال: الأمير أخطب مني إذا توعد ووعد، وأعطى ومنع، وبرق ورعد، وأنا أخطب منه في الوفادة وفي الثناء والتحبير، وأنا أكذب إذا خطبت، فأحشو كلامي بزيادة مليحة شهية، والأمير يقصد إلى الحق وميزان العدل ولا يزيد فيه شعيرة ولا ينقص منه. فقال له زياد: قاتلك الله فلقد أجدت تخليص صفتك وصفتي، من حيث أعطيت نفسك الخطابة كلها وأرضيتني وتخلصت. ثم التفت إلى أولاده فقال: هذا لعمركم البيان الصريح.
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا عن الحرمازي، قال: شرب حارثة بن بدر مع بني زياد ليلة إلى الصبح فأكثر، وصرف ومزجوا، فلما أن غدا على زياد كان وجهه شديد الحمرة، ففطن له زياد، فقال: مالك يا حارثة? فقال: أكلت البارحة رمانا فأكثرت. قال: قد عرفت مع من أكلته، ولكنهم قشروه وأكلته بقشره فأصارك إلى ما ترى.
قال الحرمازي: قال بعض أهل العلم: إن زيادا استعمل حارثة على سرق. فمات زياد وهو بها، ثم إنه بلغه موته، فقال حارثة يرثيه:
إن الرزية في قبـر بـمـنـزلة تجري عليها بظهر الكوفة المور
أدت إليه قريش نعـش سـيدهـا ففيه ضافي الندى والحزم مقبـور
أبا المغـيرة والـدنـيا مـغـيرة وإن من غر بالدنيا لـمـغـرور
قد كان عندك للمعروف مـعـرفة وكان عندك للنكـراء تـنـكـير
وكنت تؤتى فتعطي الخير عن سعة فاليوم بابك دون الهجر مهجـور
ولا تلين إذا عوسرت مقـتـسـرا وكل أمرك ما يوسرت مـيسـور قال: وكان الذي أتاه بنعيه مسعود بن عمرو الأزدي، فقال حارثة:
لقد جاء مسعود أخو الأزد غدوة بداهية غراء باد حجـولـهـا
من الشر ظل الناس فيها كأنهم وقد جاء بالأخبار من لا يحيلها
صفحة : 938
أخبرني الحسن بن علي، قال: أنبأنا العمري عن أحمد بن خالد بن منجوف، عن مؤرج السدوسي، قال: دخل حارثة بن بدر على عبيد الله بن زياد وعنده سعد الرابية أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة، وكان شريرا يضحك ابن زياد ويلهيه، وله يقول الفرزدق:
إني لأبغض سعدا أن أجـاوره ولا أحب بني عمرو بن يربوع
قوم إذا حاربوا لم يخشهم أحـد والجار فيهم ذليل غير ممنوع فلما جلس حارثة قال له سعد: يا حارثة، أينع الكرم? فال: نعم، واستودع ماءه الأصيص، فمه? قال: إني لم أرد بأسا. قال: أجل ولست من أهل البأس: ولكن هل لك علم بالأتان إذا اعتاص رحمها، كيف يسطى عليها، أكما يسطى على الفرس، أم كيف? قال: واحدة بواحدة، والبادي أظلم، سألتني عما لا علم لي به، وسألتك عما تعلم و. قال: أنت بما سألتك عنه أعلم مني بما سألتني عنه، ولكن من شاء جهل نفسه وأنكر ما يعرف. وقال حارثة يهجو سعدا:
لا ترج مني يابـن سـعـد هـوادة ولا صحبة ما أرزمـت أم حـائل
أعند الأمير ابن الأمير تعـيبـنـي وأنت ابن عمرو مضحك في القبائل
ولو غيرنا يا سعد رمت حـريمـه بخسف لقد غودرت لحمـا لآكـل
فشالت بك العنقاء أو صرت لحـمة لأغبس عواء العشـيات عـاسـل أخبرني هاشم بن محمد، قال: أنبأنا الرياشي عن الأصمعي وأبي عبيدة، قالا: كان حارثة بن بدر يجالس مالك بن مسمع فإذا جاء وقت يشرب فيه قام، فأراد مالك أن يعلم من حضره أنه قام ليشرب، فقال له: إلى أين تمضي يا أبا العنبس? قال، أجيء بعباد بن الحصين يفقأ عينك الأخرى - وقال الأصمعي: مضي فأفقأ عين عباد بن الحصين لآخذ لك بثأرك - وكان عباد فقأ عين مالك يوم المرب.
قال: وذكر المدائني أن حارثة بن بدر كان يومئذ - وهو يوم فتنة مسعود - على خيل حنظلة بإزاء بكر بن وائل، فجعل عبس بن مطلق بن ربيعة الصريمي على الخيل بحيال الأزد، ومعه سعد والرباب والأساورة، وقال حارثة بن بدر:
سيكفيك عبس أخو كهمس مقارعة الأزد بالمـربـد
ويكفيك عمرو وأشـياعـه لكيز بن أفصى وما عددوا
وأكفيك بكرا إذا أقبـلـت بطعن يشيب له الأمـرد فلما اصطف الناس، أرسل مالك بن مسمع إلى ضرار بن القعقاع يسأله الصلح على أن يعطيه ما أحب، فقال له حارثة: إنه والله ما أرسل إليك نظرا لك ولا إبقاء عليك، ولكنه أراد أن يغري بينك وبين سعد. فمضى ضرار إلى راية الأحنف فحملها وحمل على مالك فهزمه، وفقئت عينه يومئذ.
أخبرني محمد بن يحيى قال: أنبأنا محمد بن زكريا، عن محمد بن سلام، عن أبي اليقظان قال: مر حارثة بن بدر بالمسجد الذي يقال له مسجد الأحامرة بالبصرة فرأى مشيخة قد خضبوا لحاهم بالحناء فقال: ما هذه الأحامرة? فالمسجد الآن يلقب مسجد الأحامرة منذ يوم قال حارثة هذا القول.
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، عن القحذمي، قال: عرض لحارثة بن بدر رجل من الخلج في أمر كرهه عند زياد، فقال فيه حارثة:
لقد عجبت وكم للدهر من عجب ما تزيد في أنسابها الـخـلـج
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة لم يخلقوا وجدود الناس تعتلـج أخبرني الحسن بن علي، قال: أنبأنا أحمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن عمر بن زياد الكندي، قال: أنبأنا يحيى بن آدم، عن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كنت عند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. فأنشدته لحارثة. بن بدر:
وكان لنا نبع تقـينـا عـروقـه فقد بلغت إلا قليلا حلـوقـهـا
وشيب رأسي واستخف حلومنـا رعود المنايا فوقنا وبروقـهـا
وإنا لتستحلي المنايا نفـوسـنـا ونترك أخرى مرة ما تذوقهـا
رأيت المنـايا بـادئات وعـودا إلى دارنا سهلا إليها طريقهـا
فقد قسمت نفسي فريقين منهمـا فريق مع الموتى وعندي فريقها قال الشعبي: فقال لي ابن جعفر: نحن كنا أحق بهذا الشعر. وجاءه غلامه بدراهم في منديل، فقال له: هذه غلة أرضك بمكان كذا وكذا. فقال: ألقها في حجر الشعبي. فألقاها في حجري.
صفحة : 939
أخبرني الحسن بن علي، قال: أنبأنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، عن مسلمة بن محارب: أن زيادا استعمل حارثة بن بدر على كوار، وهو إذ ذاك عامل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على فارس، وكان حارثة بن بدر صاحب شراب، فكتب زياد إلى حارثة يحثه على جباية الخراج، فكتب إليه علقمة بن معبد المازني:
ألم تر أن حارثة بـن بـدر يصلي وهو أكفر من حمار
وأن المال يعرف من حواه ويعرف بالزواني والعقـار وقال المدائني في خبره هذا: حمل زياد بن أبيه حارثة بن بدر على بغلة يقال لها أطلال كان خرزاذ بن الهربد ابتاعها بأربعة آلاف درهم وأهداها له، فركبها حارثة، وكان فيها نفار، فصرعته عن ظهرها، فقام فركبها، وقال:
ما هاج أطلال بجني حرمه تحمل وضاحا رفيع الحكمه
قرما إذا زاحم قرما زحمه أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا إبراهيم بن عمر عن أبي عبيدة وعبد الله بن محمد، قالا: مر سليمان بن عمرو بن مرثد بحارثة بن بدر وهو بفارس يريد خراسان، فأنزله وقراه وقرى أصحابه، وحملهم وإياه، فلما ركبوا للمسير قال سليمان:
قريت فأحسنت القرى وسـقـيتـنـا معتقة صهباء كالعنبـر الـرطـب
وواسيتنا فيما مـلـكـت تـبـرعـا وكنت ابن بدر نعم منزل الـركـب
وأنت لعمري في تمـيم عـمـادهـا إذا ما تداعت للعلى موضع القطـب
وفارسـهـا فـي كـل يوم كـريهة وملجؤها إن حمل خطب من الخطب
وعندكم نـال الـغـنـى مـن أراده إذا ما خطرتم كالضراغمة الغـلـب
يرى الحلق الماذي فوق حمـاتـهـم إذا الحرب شبت بالمهندة القـضـب
وعند الرخا والأمن غـيث ورحـمة لمن يعتريهم خائفا صولة الـحـرب
وجدتهم جودا صباحـا وجـوهـهـم كراما على العلات في فادح الخطب
كأن دنانيرا علـى قـسـمـاتـهـم إذا جئتهم قد خفت نكبا من النـكـب
فمن مبلغ عني تميمـا فـخـيركـم غدانة حقا قالـه غـير ذي لـعـب فقال حارثة يجيبه:
وأسحم ملآن جررت لـفـتـية كراما أبوهم خير بكر بن وائل
وأطولهم كفا وأصدقـهـم حـيا وأكرمهم عند اختلاف المناصل
من المرثديين الذين إذا انـتـدوا رأيت نديا جده غـير خـامـل
فعالهم زين لهم ووجـوهـهـم تزين الذي يأتونه في المحافـل
فسقيا ورعيا لابن عمرو بن مرثد سليمان ذي المجد التليد الحلاحل
فتى لم يزل يسمو إلى كل نجـدة فيدرك ما أعيت يد المتـنـاول
فحسبك بي علما به وبفضـلـه إذا ذكر الأقوام أهل الفضـائل أخبرني عمي، قال: أنبأنا الكراني، قال: أنبأنا العمري، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان، قال: دخل أنس بن زنيم على عبيد الله بن زياد، وعنده حارثة بن بدر، وكان بينهما تعارض ومقارضة قبل ذلك، فلما خرج أنس قال عبيد الله لحارثة: أي رجل هو أنس عندك? قال: هو عندي- أصلح الله الأمير- كما قلت فيه:
يبيت بطينا من لـحـوم صـديقـه خميصا من التقوى ومن طلب الحمد
ينام إذا ما الـلـيل جـن ظـلامـه ويسري إلى حاجاته نومة الفـهـد
يراعي عذارى قومه كلـمـا دجـا له الليل والسوات كالأسـد الـورد
جريئا على أكل الحرام وفـعـلـه جبانا عن الأقران معترم الـكـرد
صفحة : 940
فلما كان من الغد، دخل أنس على عبيد الله، فقال له عبيد الله، بحضرة حارثة: إني سألت هذا عنك فأخبرني بما كرهته لك، ولم أكن إخالك كما نعت لي- فقال: أصلح الله الأمير، إن يكن قال خيرا فأنا أهله، وإن قال غير ذلك فلم يعد ما هو أولى به مني، أما والله لو كان- أصلح الله الأمير- حقا، لحفظ غيبتي، فلقد أوليته حسن الثناء بما ليس أهله، والله يعلم أني كنت كاذبا، وما إخال ما قاله في إلا عقوبة، فإن عقوبة الكذب حاضرة، وثمرة الكذب الندامة، فقد لعمري أجنيتها بكذبي وقولي فيه ما ليس فيه. وهو عندي كما أقول- أصلح الله الأمير- وأنشد:
يحلي لي الطرف ابن بـدر وإنـنـي لأعرف في وجه ابن بدر لي البغضـا
رآني شجا في حلـقـه مـا يسـيغـه فما إن يزال الدهر يجرض بي جرضا
ومالي من ذنـب إلـيه عـلـمـتـه سوى أن راني في عشيرته محـضـا
وإن ابن بدر في تمـيم مـكـركـس إذا سيم خسفا أو مشنـعة أغـضـى
فعش يابن بدر ما بقـيت كـمـا أرى كثير الخنا لا تسأم الـذل والـغـضـا
تعيب الرجال الصالحين وفـعـلـهـم وتبذل بخلا دون ما نلته الـعـرضـا
وترضى بما لا يرتضي الحر مثـلـه وذو الحلم بالتخييس والذل لا يرضـى قال: وقال أنس في حارثة بن بدر ينسبه إلى الخمر والفجور:
أحـار بـن بـدر بـاكـر الــراح إنها تنسيك ما قدمت في سالف الدهـر
تنسيك أسبابا عظـامـا ركـبـتـهـا وأنت على عمياء في سنـن تـجـري
أتذكر ما أسديت واختـرت فـعـلـه وجئت من المكروه والشر والنـكـر
إذا قلت مهلا نلت عـرضـي فـمـا الذي تعيب على مثلي هبلت أبا عمرو
ألـيس عـظـيمـا أن تـكـايد حـرة مهفهفة الكشحـين طـيبة الـنـشـر
فإن كنت قد أزمعت بشـرك بـالـذي عرفت به إذ أنت تخـزي ولا تـدري
فدغ عنك شرب الخمر وارجع إلى التي بها يرتضي أهل النبـاهة والـذكـر
عليك نبيذ التمـر إن كـنـت شـاربـا فإن نبيذ التمر خير مـن الـخـمـر
ألا إن شرب الخمر يزري بذي الحجى ويذهب بالمال الـتـلاد وبـالـوفـر
فصبرا عن الصهباء وأعلـم بـأنـنـي نصيح وأني قد كبرت عـن الـزجـر
وأنك إن كفكفتـنـي عـن نـصـيحة تركتك يا حار بن بدر إلى الـحـشـر
أأبذل نصحي ثم تعصي نصـيحـتـي وتهجرني عنها هـبـلـت أبـا بـدر أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم.، عن خالد بن سعيد، عن أبيه، قال: لما ولي حارثة بن بدر سوق خرج معه المشيعون من البصرة وفيهم أبو الأسود الدؤلي، فلما انصرف المشيعون دنا منه أبو الأسود فقال له:
أحار بـن بـدر قـد ولـيت إمـارة فكن جرذا فيها تخـون وتـسـرق
ولا تحقرن يا حار شـيئا تـصـيبـه فحظك من ملك العراقـين سـرق
فإن جميع الـنـاس إمـا مـكـذب يقول بما يهـوى وإمـا مـصـدق
يقولون أقـوالا بـظـن وشـبـهـه فإن قيل هاتوا حققوا لم يحـقـقـوا
فلا تعجزن فالعجز أبطـأ مـركـب وما كل من يدعي إلى الرزق يرزق
وكاثر تميما بالغنى إن لـلـغـنـى لسانا به يطسو إلى العيي وينـطـق فقال له حارثة:
جزاك مليك الناس خير جـزائه فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا
أمرت بحزم لو أمرت بـغـيره لألفيتني فيه لـرأيك عـاصـيا
ستلقى أخا يصيفيك بالود حاضرا ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائيا أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن عاصم ابن الحدثان، قال: لما ندب حارثة بن بدر لقتال الأزارقة بدولاب لقيهم، فلما حميت الحرب بينهم واشتدت، قال حارثة لأصحابه:
كرنبوا ودولـبـوا وحيث شئتم فاذهبوا
صفحة : 941
ثم انهزم، فقال غوث بن الحباب يهجوه ويعيره بالفرار، ويعيره بشرب الخمر أو معاقرتها
أحار بن بدر دونك الكـأس إنـهـا بمثلك أولى من قراع الـكـتـائب
عليك بها صهباء كالمسك ريحـهـا يظل أخوها للعـدا غـير هـائب
فدع عنك أقواما وليت قـتـالـهـم فلست صبورا عند وقع القواضب
وخذها كعين الديك تشفي من الجوى وتترك ذا الهمات حصر المذاهب
إذا شعشعت بالماء خلت حبابـهـا نظائم در أو عـيون الـجـنـادب
كأنك إذ تحـسـو ثـلاثة أكـؤس من التيه قرم من قروم المـرازب
ودع عنك أبناء الحروب وشـدهـم إذا خطروا مثل الجمال المصاعب خبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية، قال: حدثني أبي، قال: كانت في تميم حمالتان، فاجتمعوا في مقبرة بني شيبان، فقال لهم الأحنف: لا تعجلوا حتى يحضر سيدكم. فقالوا: من سيدنا غيرك? قال: حارثة بن بدر. قال: وقدم حارثة من الأهواز بمال كثير فبلغه ما قال الأحنف، فقال: اغرمنيها والله ابن الزافرية ثم أتاهم كأنه لم يعلم فيما اجتمعوا، فقال فيم اجتمعتم? فأخبروه،. فقال: لا تلقوا فيهما أحدا فهما علي،، ثم أتى منزله فقال:
خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسودد أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه، قال: خرج أصحاب الحديث إلى سفيان بن عيينة فازدحموا، فقال: لقد هممت ألا أحدثكم شهرا. فقام إليه شاب من أهل العراق، فقال له: يا أبا محمد، ألن جانبك، وحسن قولك، وتأس بصالحي سلفك، وأجمل مجالسة جلسائك، فقد أصبحت بقية الناس، وأمينا لله ورسوله على العلم، والله إن الرجل ليريد الحج فتتعاظمه مشقته حتى يكاد أن يقيم، فيكون لقاؤه إياك وطمعه فيك كثر ما يحركه عليه. قال: فخضع سفيان أو تواضع، ورق وبكى، ثم تمثل بقول حارثة:
خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسودد ثم حدثهم بعد ذلك بكل ما أرادوا إلى أن رحلوا.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين الكندي، قالا: حدثنا الخليل بن أسد، قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة: أن حارثة بن بدر الغداني كان سعى في الأرض فسادا، فأهدر علي ابن أبي طالب عليه السلام دمه، فهرب فاستجار بأشراف الناس، فلم يجره أحد، فقيل له: عليك بسعيد بن قيس الهمداني فلعله أن يجيرك. فطلب سعيدا فلم يجده، فجلس في طلبه حتى جاء، فأخذ بلجام فرسه فقال: أجرني أجارك الله، قال: ويحك، مالك? قال: أهدر أمير المؤمنين دمي. قال: وفيم ذاك? قال: سعيت في الأرض فسادا. قال: ومن أنت? قال: حارثة بن بدر الغداني. قال: أقنم. وانصرف إلى علي عليه السلام فوجده قائما على المنبر يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا? قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. قال: يا أمير المؤمنين، إلا من? قال: إلا من تاب. قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا، وقد أجرته. قال: أنت رجل من المسلمين وقد أجرنا من أجرت. ثم قال علي عليه السلام وهو على المنبر: أيها الناس، إني كنت نذرت دم حارثة بن بدر، فمن لقيه فلا يعرض له. فانصرف إليه سعيد بن قيس فأعلمه وحمله وكساه، وأجازه بجائزة سنية،، فقال فيه حارثة:
الله يجزي سعيد الخير نـافـلة أعني سعيد بن قيس قرم همدان
أنقدني من شفا غبراء مظلـمة لولا شفاعته ألبست أكفـانـي
قالت تميم بن مر لا نخاطـبـه وقد أبت ذلكم قيس بن عـيلان فال الهيثم: لم يكن الحسن بن عمارة يروي من هذا الشعر غير هذه الثلاثة الأبيات، وأخذت الشعر كله من حماد الراوية، فقلت له: ممن أخذته قال: من سماك ابن حرب. وهو:
أساغ في الحلق ريقا كان يجرضني وأظهر الله سري بعد كـتـمـان
إني تداركنـي عـف شـمـائلـه آباؤه حين ينمى خير قـحـطـان
ينميه قيس وزيد والفـتـى كـرب وذو جبائر من أولاد عـثـمـان
صفحة : 942
وذو رعين وسيف وابن ذي يزن وعلقم قبلهم أعني ابن نبهـان قال: فلما أراد الانصراف إلى البصرة شيعه سعيد بن قيس إلى نهر البصريين في ألف راكب، وحمله وجهزه، فقال حارثة:
لقد سررت غداة النهر إذ بـرزت أشياخ همدان فيها المجد والخـير
يقودهم ملك جـزل مـواهـبـه واري الزناد لدى الخيرات مذكور
أعني سعيد بن قيس خير ذي يزن سامي العماد لدى السلطان محبور
ما إن يلين إذا ما سيم مـنـقـصة لكن له غضب فيها وتـنـكـير
أغر أبلج يستسقى الغـمـام بـه جنابه الدهر يضحي وهو ممطور أخبرني محمد بن يحيى، فال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد ابن معاوية الزيادي، عن القحذمي، قال: كان حارثة بن بدر فصيحا بليغا عارفا بأخبار الناس وأيامهم، حلوا شاعرا ذا فكاهة، فكان زياد يأنس به طول حياته، فلما مات وولي عبيد الله ابنه، كان يجفوه، فدخل إليه في جمهور الناس، فجلس متواريا منه حتى خف الناس، ثم قام فأذكره بحقوقه على زياد وأنسه به. فقال له: ما أعرفني بما قلت غير أن أبي كان قد عرفه الناس وعرفوا سيرته، فلم يكن يلصق به من أهل الريبة مثل ما يلحقني، مع الشباب وقرب العهد بالإمارة، فأما إن قلت ما قلت فاختر مجالستي إن شئت ليلا وإن شئت نهارا. فقال: الليل أحب إلي. فكان يدعوه ليلا فيسامره، فلما عرفه استحلاه، فغلب عليه ليله ونهاره حتى كان يغيب فيبعث من يحضره، فجاءه ليلة وبوجهه آثار، فقال له: ما هذا يا حار? قال: ركبت فرسي الأشقر فلجج بي مضيقا فسحجني. قال: لكنك لو ركبت أحد الأشهبين لم يصبك شيء من هذا. يعني: اللبن والماء.
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا محمد ابن معاوية الزيادي، عن القحذمي، عن عمه، قال: خرج حارثة بن بدر إلى سلم بن زياد بخراسان فأوصى رجلا من غدانة أن يتعاهد امرأته الشماء ويقوم بأمرها، فكان الغداني يأتيها فيتحدث عندها ويطيل، حتى أحبها وصبا بها، فكتب إلى حارثة يخبره أنها فسدت عليه وتغيرت، ويشير عليه بفراقها، ويقول له: إنها قد فضحتك من تلعب الرجال بها. فكتب إليها بطلاقها، وكتب في آخر كتابه:
ألا آذنا شماء بالبين إنـه أبى أود الشماء أن يتقوما قال: فلما طلقها وقضت عدتها، خطبها الغداني فتزوجها، وكان حارثة شديد الحب لها، وبلغه ذلك، وما صنعت، فقال:
لعمرك ما فارقت شماء عن قلى ولكن أطلت النأي عنها فملـت
مقيما بمروروذ لا أنـا قـافـل إليها ولا تدنو إذا هي حـلـت أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا مهدي بن سابق، قال: أنبأنا عطاء، عن عاصم بن الحدثان، قال: تزوج حارثة بن بدر ميسة بنت جابر، وكانت تذكر بجمال وعقل ولسان، فلما هلك حارثة تزوجها بشر بن شعاف بعده فلم تحمده، فقالت ترثي حارثة:
بدلت بشرا شقاء أو معـاقـبة من فارس كان قدما غير خوار
يا ليتني قبل بشر كان عاجلنـي داع من الله أو داع من النـار وقالت أيضا فيه:
ما خار لي ذو العرش لما استخرته وعذبني أن صرت لابن شعـاف
فما كان لي بغلا وما كان مثـلـه يكون حلـيفـا أو ينـال إلافـي
فيا رب قد أوقعتني فـي بـلـية فكن لي حضنا منه رب وكـاف
ونح إلهي ربقتي مـن يد امـرئ شتيم محياه لـكـل مـصـافـي
هو السوأة السوأة لا خير عـنـده لطالب خـير أو أحـذ قـوافـي
يرى أكلة إن نلتها قلع ضـرسـه وما تلك زلفى يا آل عبد منـاف
وإن حادث عض الشعافي لم يكـن صلـيبـا ولا ذا تـدرأ وقـذاف أخبرني محمد بن مزيد، قال: أنبأنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عاصم ابن الحدثان، قال: لقي أنس بن زنيم الدئلي حارثة بن بدر فقال له: يا حارثة، قد قفت لك أبياتا فاسمعها. فقال: هاتها، فأنشده:
فحتى متى أنت ابن بـدر مـخـيم وصحبك يحسون الحليب من الكرم
فإن كان شرا فاله عنـه وخـلـه لغيرك من أهل التخبط والظـلـم
صفحة : 943
وإن كنت ذا علم بها واحـتـسـائهـا فما لك تأتي ما يشينك عـن عـلـم
تق الله وأقبل يابن بـدر مـحـلـلا وقلت لي اتركها لأوضعت في الحكم
وأيقنت أن القول ما قلت فانـتـفـع بقولي ولا تجعل كلامي من الجـرم
فرب نصيح الجيب رد انتـصـاحـه عليه بلا ذنب وعوجل بـالـشـتـم فقال له حارثة: لقد قلت فأحسنت، ونصحت فبالغت، جزيت الخير أبا زنيم. فلما رجع إلى منزله، أتاه ندماؤه فذكر لهم ما قال ابن زنيم، فقالوا: والله ما نرى ذلك إلا حسدا. ثم قال حارثة بن بدر لابن زنيم:
يعيب علي الراح مـن لـو يذوقـهـا لجن بها حتى يغيب فـي الـقـبـر
فدعها أو امدحها فـإنـا نـحـبـهـا صراحا كما أغراك ربك بالـهـجـر
علام تذم الراح والراح كـاسـمـهـا تريح الفتى من همه آخـر الـدهـر
فلمني فإن الـلـوم فـيهـا يزيدنـي غراما بها إن الملامة قـد تـغـرى
وبالله أولي صادقا لـو شـربـتـهـا لأقصرت عن عذلي وملت إلى عذري
وإن شئت جربهـا وذقـهـا عـتـيقة لها أرج كالمسك محمودة الـخـبـر
فإن أنت لم تخلع عذارك فانـحـنـي وقل لي لحاك الله من عاجز غـمـر
وقبلك ما قد لامني في اصطباحـهـا وفي شربها بدر فأعرضت عن بـدر
وحاسيتها قومـا كـأن وجـوهـهـم دنانير في اللأواء والزمن الـنـكـر
فدعني من التغذل فـيهـا فـإنـنـي خلقت أبيا لا ألين عـدى الـقـسـر
أجود وأعطي المتفسـات تـبـرعـا وأغلي بها عند اليسارة والـعـسـر
وأشربـهـا حـتـى أخـر مـجـدلا معتقة صهـبـاء طـيبة الـنـشـر
ولولا النهى لم أضح ما عشت سـاعة ولكنني نهنهت نفسي عن الـهـجـر
فقصرت عنها بعـد طـول لـجـاجة وحب لها في سر أمري وفي الهجـر
وحق لمثلي أن يكف عـن الـخـنـى ويقصر عن بعض الغواية والنـكـر أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، عن أبي عبيدة: أن عبيد الله بن زياد استعمل حارثة بن بدر على نيسابور فغاب عنه أشهرا، ثم قدم فدخل عليه، فقال له: ما جاء بك ولم أكتب إليك? قال: استنظفت خراجك وجئت به وليس لي بها عمل، فما مقامي? قال: أو بذلك أمرتك? ارجع فاردد عليهم الخراج وخذه منهم نجوما حتى تنقضي السنة وقد فرغت من ذلك، فإنه أرفق بالرعية وبك، واحذر أن تحملهم على بيع غلاتهم ومواشيهم ولا التعنيف عليهم. فرجع فرد الخراج عليهم، وأقام يستخرجه منهم نجوما حتى مضت السنة.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا الرياشي عن الأصمعي، قال: قال الأحنف بن قيس: ما غبت عن أمر قط فحضره حارثة بن بدر إلا وثقت بإحكامه إياه وجودة عقده له، وكان حارثة بن بدر من الدهاة.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي، قال: كان حارثة بن بدر يصيب من الشراب، وكان حظيا عند زياد، فعوتب زياد على رأيه فيه. فقال: أتلومونني على حارثة? فوالله ما تفل في مجلسي قط، ولا حك ركابه ركابي، ولا سار معي في علاوة الريح فغبر علي، ولا دعوته قط فاحتجت إلى تجشم الالتفات إليه حتى يوازيني، ولا شاورته في شيء إلا نصحني، ولا سألته عن شيء من أمر العرب وأخبارها إلا وجدته به بصيرا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وأحمد بن عبيد الله بن عمار، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا الأصمعي، قال: لما كان يوم دولاب وأفضت الحرب إلى حارثة بن بدر صاح: من جاءنا من الموالي فله فريضة العرب، ومن جاءنا من الأعراب فله فريضة المهاجر. فلما رأى ما يلقى أصحابه من الأزارقة قال:
أير الحمار فريضة لشبابكـم والخصيتان فريضة الأعراب
عض الموالي جلد أير أبيهـم إن الموالي معشر الخـياب ثم قال:
كرنبـوا ودولـبـوا وشرقوا وغـربـوا
وحيث شئتم فاذهبوا يعني بقوله كرنبوا أي خذوا طريق كرنبى، و دولبوا: خذوا طريق دولاب.
صفحة : 944
أخبرني. محمد بن زكريا الصحاف، قال: حدثنا قعنب بن محرز، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، عن المغيرة بن المنتشر، قال: إنا عند عبيد الله بن زياد، وعنده الأحنف ابن قيس، وحارثة بن بدر، وكان حارثة يتهم بالشراب. فقال له عبيد الله: يا حارثة، أي الشراب أطيب? قال: برة طبريه بأقطة عنزبة، بسمنة عربية، بسكرة سوسية فتبسم عبيد الله، ثم قال للأحنف: يا أبا بحر، أي الشراب أطيب? قال: الخمر. فقال له عبيد الله: وما يدريك ولست من أهلها? قال: من يستحلها لا يعدوها إلى غيرها، ومن يحرمها يتأول فيها حتى يشربها. قال: فضحك عبيد الله.
أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي وعمرو بن عبد الله العتكي، قالا: حدثنا الرياشي. وقال العتكي في خبره: عن أبي عبيدة ، ولم تقله الأسدي ولا تجاوز الرياشي به: إن حارثة كان بكوار من أردشير خره يتنزه فقال:
ألم تر أن حارثة بن بدر أقام بدير أبلق من كوارا ثم قال لجند كانوا معه: من أجاز هذا البيت فله حكمه. فقال له رجل منهم: أنا أجيزه على أن تجعل لي الأمان من غضبك، وتجعلني رسولك إلى البصرة، وتطلب لي القفل من الأمير. قال: ذلك لك. قال: ثم رد عليه نشيد البيت، فقال الرجل:
مقيما يشرب الصهباء صرفا إذا ما قلت تصرعه استدارا فقال له حارثة: لك شرطك، ولو كنت قلت لنا شيئا يسرنا لسررناك.
كتب إلي أبو خليفة الفضل بن الحباب، أخبرنا محمد بن سلام، قال: قدم الأبيرد الرياحي على حارثة بن بدر فقال له: اكسني ثوبين أدخل بهما على الأمير. فكساه ثوبين لم يرضهما، فقال فيه:
أحارث أمسك فضل برديك إنما أجاع وأعرى الله من كنت كاسيا
وكنت إذا استمطرت منك سحابة لتمطرني عادت عجاجا وسافـيا
أحارث عاود شربك الخمر إنني رأيت زيادا عنك أصبح لاهـيا فبلغت زيادا، وبلغت حارثة، فقال: قبحه الله لقد شهد علي، بما لم يعلم، ولم أدع جوابه إلا لما أخبرني محمد بن مزيد، قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عاصم ابن الحدثان، قال: كان الحكم بن المنذر بن الجارود يشرب الشراب، فقيل له في ذلك وعوتب، وعرف أن الصلتان العبدي هجاه فقال فيه:
ترك الأشياء طرا وانحنى يشرب الصهباء من ماء العنب
لا يخاف الناس قد أدمنها وفـي تـزري بـالـلـئيم الـمـــؤتـــشـــب
وهـــي بـــالأشـــراف أزرى وإلــــــى غاية الـتـأنـيب تـدعـو ذا الـــحـــســـب
فدع الـخـــمـــر أبـــا حـــرب وســـذ قومـك الأذنـين مـــن بـــين الـــعـــرب فقال: لعنه الله والله ما ترك للصلح موضعا، ولقد صدق، ولولا الشرب لكنت الرجل الكامل، وما يخفي علي قبيحه وسوء القالة فيه، ولكني سمعت حارثة بن بدر الغداني أنشد أبياتا يوما فحملتني على المجاهرة الشراب، وإن كان ذلك إلي بغيضا. قيل له: وما الأبيات? قال: سمعته ينشد:
أذهب عني الغم والهـم والـذي به تطرد الأحداث شرب المروق
فوالله ما أنفك بالراح مـهـتـرا ولولا لام فيها كل حر مـوفـق
فما لائمي فيها وإن كان ناصحـا بأعلم مني بالرحيق المـعـتـق
ولكن قلبي مستهام بـحـبـهـا وحب القيان رأي كل محـمـق
سأشربها صرفا وأسقي صحابتي وأطلب غرات الغزال المنطـق أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عاصم بن الحدثان، قال: كان لحارثة بن بدر نديم من قريش يصيب معه الشراب، ولا يفارقه إذا شرب، وقال فيه.
وأبيض من أولاد سعد بن مـالـك سقيت من الصهباء حتى تقطـرا
وحتى رأى الشخص القريب بسكره شخوصا فنادى يا آل سعد وكبـرا
فقلت أسكران? فقال مـكـابـرا أبى الله لي أن أستخف وأسـكـرا
فقلت له أشـرب هـذه بـابـلـية تخال بها مسكا ذكـيا وعـنـبـرا
فلما حساهـا هـرهـا ثـم إنـه تماسك شيئا واجما مـتـفـكـرا
وقال أعدها قلت صبـرا سـويعة فهوم شيئا ثـم قـام فـبـربـرا
فقلت له نم سـاعة عـل مـا أرى من السكر يبدي منك صرما مذكرا
صفحة : 945
قال إسحاق: قال عاصم بن الحدثان: كان أبو صخر مخارق بن صخر أحد بني ربيعة بن مالك شاعرا، وهو خال أبي حزانة، أو خال أبي جميعة، وكان صديقا لحارثة بن بدر، فدخل عليه يوما. وهو مصطبح، فعاتبه حارثة بن بدر، وقال له،: قد أسقطت الخمر قدرك ومروءتك. قال له: دع عنك هذا الجنون وهلم نتساعد واسمع ما قلت.
قال: هاته، فأنشده:
غدانا ناصحا لم يأل جهدا مخـارق يلوم على شرب السلاف المعتـق
فقلت أبا صخر دع الناس يجهلـوا ودونكها صهـبـاء ذات تـألـق
تراها إذا ما الماء خالط جسمـهـا تخايل في كف الوصيف المنطق
لها أرج كالمسك تذهب ريحـهـا عماية حاسيها بحسـن تـرفـق
وكم لائم فيها بصير بفضـلـهـا رمته بسهم صـائب مـتـزلـق
فظـل لـرياهـا يعـض نـدامة يديه وأرغى بعد طول تمـطـق
وقال لك العذر ابن بدر على التي تسلي هموم المستهام المـشـوق
فلست ابن صخر تاركا شرب قهوة لقول لئيم جاهـل مـتـحـذلـق
يعيب علي الشرب والشرب همـه ليحسب ذا رأي أصيل مـصـدق
فما أنا بالغر ابن صخر ولا الـذي يصمم في شيء من الأمر موبق فقال له مخارق بن صخر: إنما عاتبتك لأن الناس قد كثروا فيك، ورأيت النصيحة لله واجبة علي، وكرهت أن تضع لذتك قدرك، فإن أطعتني في تركها وإلا فلا تجاهر بها، فإنك قادر على أن تبلغ حاجتك في ستر. فقال حارثة: ما عندي غير ما سمعت، فتركه وانصرف.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: أأجأنا الرياشي عن محمد بن سلام، عن يونسى بن حبيب، قال: لما بنى فيل مولى زياد داره بالسبابجة، صنع طعاما ودعا أصحاب زياد، فدخلوا الحمام المعروف بحمام فيل وخرجوا فتغدوا عنده وركب فيل وأصحابه الهمايج والمقاريف والبغال، واجتاز بهم معه على حارثة بن دبر وأبي الأسود الدؤلي وهما جالسان، فقال أبو الأسود:
لعمر أبيك ما حمام كسرى على الثلثين من حمام فيل فقال حارثة:
وما إيجافنا خلف الموالي بسنتنا على عهد الرسول أخبرني محمد بن مزيد، قال: أنبأنا حماد عن أبيه، عن عاصم بن الحدثان، قال: حدثني عمي عن الحارث الهجيمي، قال: ذكر حلم الأحنف بن قيس عند عبيد الله بن زياد وعنده حارثة بن بدر، فنفس عليه حارثة ذلك، فقال لعبيد الله: أيها الأمير، ما يبلغ حلم من لا قدرة له ولا يملك لعدوه ضرا ولا لصديقه نفعا. وإنما يتكلف الدخول فيما لا يعنيه? فبلغ ذلك من قوله. الأحنف فقال: أهون بحارثة وكلامه? وما حارثة ومقداره? أليس الذي يقوك- قبح الله رأيه- في قوله:
إذا ما شربت الراح أبدت مكارمي وجدت بما حازت يداي من الوفر
وإن سبني جهلا نديمـي لـم أزد على أشرب سقاك الله طيبة النشر
أرى ذاك حقا واجبا لمـنـادمـي إذا قال لي غير الجميل من النكر أخبرني عمي، قال: أنبأنا الكراني، قال: أنبأنا الرياشي عن الأصمعي، قال: كان لحارثة بن بدر جارية يقال لها ميسة وكان بها مشغوفا، فلما مات تزوجت بعده بشر بن شغاف. فهؤلاء الشغافيون من ولدها، وفيها يقول حارثة:
خليلي لولا حب ميسة لم أبـل أفي اليوم لاقيت المنية أم غدا
خليلي إن أفشيت سري إليكما فلا تجعلا سري حديثا مبـددا
وإن أنتما أفشيتماه فـلا رأت عيونكما يوم الحساب محمـدا
ولا زلتما في شقوة ما بقيتمـا تذوقان عيشا سيء الحال أنكدا أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: أنبأنا الحسين بن عليل، قال: أنبأنا مسعود بن بشر عن أبي عبيدة، قال:
صفحة : 946
اجتاز حارثة بن بدر الغداني بمجلسي من مجالس قومه من بني تميم ومعه كعب مولاه، فكلما اجتاز بقوم قاموا إليه وقالوا: مرحبا بسيدنا، فلما ولى قال له كعب: ما سمعت كلاما قط أقر لعيني ولا ألذ بسمعي من هذا الكلام الذي لسمعته اليوم. فقال له حارثة: لكني لم أسمع كلاما قط أكره لنفسي وأبغض إلي مما سمعته. قال: ولم قال: ويحك يا كعب إنما سودني قومي حين ذهب خيارهم وأماثلهم، فاحفظ عني هذا البيت:
خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسودد قال: واشتكى حارثة ابن بدر، وأشرف على الموت، فجعل قومه يعودونه فقالوا له: هل لك من حاجة أو شيء تريده? قال: نعم، اكسروا رجل مولاي كعب لئلا يبرح من عندي فإنه يؤنسني. ففعلوا، وأنشد يقول:
يا كعب مهلا فلا تجزع على أحـد يا كعب لم يبق منا غير أجـسـاد
يا كعب ما راح من قوم ولا بكروا إلا وللموت في آثـارهـم حـادي
يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت إلا تـقـرب آجـالا لـمـيعـاد
يا كعب كم من حمى قوم نزلت به على صواعق من زجـر وإيعـاد
فإن لـقـيت بـواد حـية ذكـرا فأذهب ودعني أمارس حية الوادي جاء بعقب هذه الترجمة في الجزء الحادي والعشرين:
عش فحبيك سريعا قـاتـلـي والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشوق بـقـلـب دنـف فيك والسقم بجسـم نـاحـل
فهما بين اكتـئاب وضـنـى تركاني كالقضـيب الـذابـل الشعر لخالد الكاتب، والغناء للمسدود، رمل مطلق في مجرى الوسطى. وذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه، وأنه أول صوت سمعه فكتبه.
ثم جاءت بعد هذا أخبار خالد الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء التاسع
ذكر أخبار كثير ونسبه
نسبه
هو فيما أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سعيد بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو وهو خزاعة بن ربيعة وهو يحيى بن حارثة بن عمرو وهو مزيقيا بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد وهو درء وقيل دراء ممدودا بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وأخبرنا أبو عبد الرحمن أحمد بن محمد بن إسحاق الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو صخر بن أبي الزعراء الخزاعي عن أمه ليلى بنت كثير قالت: هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن مخلد بن سبيع بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. وأمه جمعة بنت الأشيم بن خالد بن عبيد بن مبشر بن رياح بن سيالة بن عامر بن جعثمة بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. وكانت كنية الأشيم جده أبي أمه أبا جمعة، ولذلك قيل له ابن أبي جمعة.
وكان له ابن يقال له ثواب من أشعر أهل زمانه، مات سنة إحدى وأربعين ومائة ولا ولد له.
ومات كثير سنة خمس ومائة في ولاية يزيد بن عبد الملك. وليس له اليوم ولد إلا من بنته ليلى. ولليلى بنته ابن يكنى أبا سلمة الشاعر وهو الذي يقول: صوت
وكان عزيزا أن تبيتـي وبـينـنـا حجاب فقد أمسيت مني على شهر
ففي القرب تعذيب وفي النأي حسرة فيا ويح نفسي كيف أصنع بالدهـر في هذين البيتين غناء لمقاسة. ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر عن حبس.
كنيته وطبقته في الشعراء ونحلته: ويكنى كثير أبا صخر. وهو من فحول شعراء الإسلام، وجعله ابن سلام في الطبقة الأولى منهم وقرن به جريرا والفرزدق والأخطل والراعي. وكان غاليا في التشيع يذهب مذهب الكيسانية ، ويقول بالرجعة والتناسخ، وكان محمقا مشهورا بذلك. وكان آل مروان يعلمون بمذهبه فلا يغيرهم ذلك لجلالته في أعينهم ولطف محله في أنفسهم وعندهم. وكان من أتيه الناس وأذهبهم بنفسه على كل أحد.
الحديث عنه وعلى شعره:
صفحة : 947
أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عبد الله الزهري قال حدثني سليمان بن فليح قال: سمعت محمد بن عبد العزيزيعني ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف يقول ما قصد القصيد ولا نعت الملوك مثل كثير.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال كتب إلي إسحاق بن إبراهيم الموصلي حدثني إبراهيم بن سعد قال: إني لأروي لكثير ثلاثين قصيدة لو رقي بها مجنون لأفاق.
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني بعض أصحاب الحديث قال: كنا نأتي إبراهيم بن سعد وهو خبيث النفس، فنسأله عن شعر كثير فتطيب نفسه، ويحدثنا.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال: من لم يجمع من شعر كثير ثلاثين لامية فلم يجمع شعره. قال الزبير قال المؤملي: وكان ابن أبي عبيدة يملي شعر كثير بثلاثين دينارا. قال وسئل عمي مصعب: من أشعر الناس? فقال: كثير بن أبي جمعة، وقال: هو أشعر من جرير والفرزدق والراعي وعامتهم يعني الشعراء، ولم يدرك أحد في مديح الملوك ما أدرك كثير.
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال: كان كثير شاعر أهل الحجاز، وهو شاعر فحل، ولكنه منقوص حظه بالعراق.
أخبرني أبو خليفة قال أخبرنا ابن سلام قال سمعت يونس النحوي يقول: كثير أشعر أهل الإسلام. قال ابن سلام: وسمعت ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جدا، ويقول: كان يستقصي المديح، وكان فيه مع جودة شعره خطل وعجب.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري قال أخبرني إبراهيم بن إبراهيم بن حسين بن زيد قال: سمعت المسور بن عبد الملك يقول: ما ضر من يروي شعر كثير وجميل إلا تكون عنده مغنيتان مطربتان.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائني عن الوقاصي قال: رأيت كثيرا يطوف في البيت، فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه؛ وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول: طأطئ رأسك لا يصيبه السقف.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائني، وعن ابن حبيب عن أبيه عن جده عن جد أبيه عبد العزيز وأمه جمعة بنت كثير قال: قال جرير لكثير: أي رجل أنت لولا دمامتك فقال كثير:
إن أك قصدا في الرجال فإنني إذا حل أمر ساحتي لطـويل ما كان بينه وبين الحزين الديلي
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائني عن الوقاصي قال، وأخبرنا الحرمي أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن يحيى عن بعض أصحابهم الديليين قال: التقى كثير والحزين الديلي في المدينة في دار ابن أزهر في سوق الغنم، فضمهما المجلس. فقال كثير للحزين: ما أنت شاعر يا حزين، إنما توصل الشيء إلى الشيء. فقال له الحزين: أتأذن لي أن أهجوك?قال نعم. وكان كثير قال قبل ذلك وهو ينتسب إلى بني الصلت بن النضر بن كنانة:
أليس أبي بالنضر أو ليس إخـوتـي بكل هجان من بني الصلت أزهـرا
فإن لم يكونوا من بني الصلت فاتركوا أراكا بأذيال الخـمـائل أخـضـرا قال: فلما أذن كثير للحزين أن يهجوه قال للحزين:
لقد علقت زب الذبـاب كـثـيرا أسـاود لا يطـنـينـه وأراقـم
قصير القميص فاحش عند بـيتـه يعض القراد باستـه وهـو قـائم
وما أنتم منا ولـكـنـكـم لـنـا عبيد العصا ما ابتل في البحر عائم
وقد علم الأقوام أن بني اسـتـهـا خزاعة أذنـاب وأنـا الـقـوادم
ووالله لولا اللـه ثـم ضـرابـنـا بأسيافنا دارت عليها المـقـاسـم
ولولا بنو بكر لذلت وأهـلـكـت بطعن وأفنتها السيوف الصـوارم تهدده أبو الطفيل واستوهبه خندف الأسدي
صفحة : 948
قال: فقام كثير فحمل عليه فلكزه. وكان الحزين طويلا أيدا. فقال له الحزين. أنت عن هذا أعجز، واحتمله فكان في يده مثل الكرة، فضرب به الأرض، فخلصه منه الأزهريون. فبلغ ذلك أبا الطفيل عامر بن واثلة وهو بالكوفة، فأقسم لئن ملأ عينيه من الكثير ليضربنه بالسيف أو ليطعننه بالرمح. وكان خندف الأسدي صديقا لأبي الطفيل، فطلب إلى أبي الطفيل في كثير واستوهبه إياه فوهبه له. والتقيا بمكة وجلسا جميعا مع عمر بن علي بن أبي طالب، فقال: أما الله لولا ما أعطيت خندفا من العهد لوفيت لك. فذلك قول كثير في قصيدته التي يرثي فيها خندفا:
ينال رجالا نفعه وهو منهم بعيد كعيوق الثريا المحلق أنكر على الأحوص ضراعته في الاستجداء أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وجبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قال كثير: في أي شعر أعطى هؤلاء الأحوص عشرة آلاف دينار? قالوا: في قوله فيهم:
وما كان لي طارفا مـن تـجـارة وما كان ميراثا من المال متـلـدا
ولكن عطايا مـن إمـام مـبـارك ملا الأرض معروفا وجودا وسوددا فقال كثير: إنه لضرع قبحه الله ألا قال كما قلت: صوت
دع عنك سلمى إذ فات مطلبها واذكر خليليك من بني الحكم
ما أعطياني ولا سألتـهـمـا إلا وإني لحاجزي كـرمـي
إني متى لا يكن نوالـهـمـا عندي مما قد فعلت أحتشـم
مبدي الرضا عنهما ومنصرف عن بعض ما لو فعلت لم ألم
لا أنزر النائل الـخـلـيل إذا ما اعتل نزر الظؤور لم ترم عروضه من المنسرح. غنى في هذا الشعر يونس ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وغنى فيه الغريض ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة. و فيه لحن من الثقيل الأول ينسب إلى معبد، وليس بصحيح له. قال الزبير بن بكار في تفسير قوله: لا أنزر النائل الخليل يقول: لا ألح عليه بالمسألة، يقال: نزرته أنزره إذا ألححت عليه. والظؤور: المتعطفة على غير أولادها.
حديثه مع عبد الملك في استقطاعه أرضا له: أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثنا المؤملي عن أبي عبيدة، وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال: دخل كثير على عبد الملك بن مروان فقال: ياأمير المؤمنين، إن أرضا لك يقال لها غرب ربما أتيتها وخرجت إليها بولدي وعيالي فأصبنا من رطبها وتمرها بشراء، مرة وطعمة مرة. فإن رأى أمير المؤمنين أن يعمرنيها فعل. فقال له عبد الملك: ذلك لك. فندمه الناس وقالوا له: أنت شاعر الخليفة ولك عنده منزلة، فهلا سألت الأرض قطيعة . فأتى الوليد فقال: إن لي إلى أمير المؤمنين حاجة فأجلسني قريبا من البرذون. فلما استوى عليه عبد الملك قال له: إيه وعلم أن له إليه حاجة. فقال كثير:
جزتك الجوازي عن صديقك نضرة وأدناك ربي في الرفيق المقـرب
فإنك لا يعطى عـلـيك ظـلامة عدو ولا تنأى عن المـتـقـرب
وإنك ما تمنـع فـإنـك مـانـع بحق، وما أعطيت لم تتـعـقـب فقال له: أترغب غربا? قال: نعم ياأمير المؤمنين. قال: اكتبوها له، ففعلوا.
هجاء الحزين له في مجلس ابن أبي عتيق:
صفحة : 949
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال: كان الحزين الكناني قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين في كل شهر، منهم ابن أبي عتيق. فجاءه لأخذ درهميه على حمار له أعجف قال: وكثير مع ابن أبي عتيق فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين. فقال الحزين لابن أبي عتيق: من هذا معك? قال: هذا أبو صخر كثير بن أبي جمعة قال: وكان قصيرا دميما فقال له الحزين: أتأذن لي أن أهجوه ببيت من شعر? قال: لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي، ولكني أشتري عرضه منك بدرهمين آخرين ودعا له بهما. فأخذهما ثم قال: لا بد من هجائه ببيت. قال: أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين، ودعا له بهما. فأخذهما ثم قال: ما أنا بتاركه حتى أهجوه. قال: أو أشتري ذلك منك بدرهمين. فقال له كثير: إيذن له، ما عسى أن يكون في بيت فأذن له ابن أبي عتيق. فقال:
قصير القميص فاحش عند بيته يعض القراد باسته وهو قائم قال: فوثب كثير إليه فلكزه، فسقط هو والحمار، وخلص ابن أبي عتيق بينهما، وقال لكثير قبحك الله أتأذن له وتسفه عليه فقال كثير: أو أنا ظننته أن يبلغ بي هذا كله في بيت واحد ادعى أنه قرشي فرده الشعراء وسبه الكوفيون: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزه، وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن الخضر الخزاعي عن ولد جمعة بنت كثير أنه وجد في كتب أبيه التي فيها شعر كثير: أن عبد الملك بن مروان قال له: ويحك إلحق بقومك من خزاعة، فأخبر أنه من كنانة قريش، وأنشد كثير قوله:
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتـي بكل هجان من بني النضر أزهرا
فإن لم تكونوا من بني النضرفاتركوا أراكا بأذناب القوابـل أخـضـرا
أبيت التي قد سمتني ونكـرتـهـا ولو سمتها قبلي قبـيصة أنـكـرا
لبسنا ثياب العصب فاختلط السـدى بنا وبهم والحضرمي المخـصـرا فقال له عبد الملك: لا بد أن تنشد هذا الشعر على منبري الكوفة والبصرة، وحمله وكتب به إلى العراق في أمره. قال عمر بن شبة في خبره خاصة: فأجابته خزاعة الحجاز إلى ذلك. وقال فيه الأحوص ويقال: بل قاله سراقة البارقي:
لعمري لقد جاء العراق كـثـير بأحدوثة من وحيه المـتـكـذب
أيزعم أني مـن كـنـانة أولـى وما لي من أم هـنـاك ولا أب
فإن كنت حرا أو تخاف مـعـرة فخذ ما أخذت من أميرك واذهب فقال كثير يجيبه وفي خبر الزبير: قال هذا لأبي علقمة الخزاعي:
أيا خبث أكرم كنـانة إنـهـم مواليك إن أمر سما بك معلق وفي رواية الزبير: أبا علقم.
بنو النضر ترمي من ورائك بالحصى أولو حسب فيهم وفـاء ومـصـدق
يفيدونك المال الكثـير ولـم تـجـد لملكهم شبهـا لـو انـك تـصـدق
إذا ركبوا ثارت عـلـيك عـجـاجة وفي الأرض من وقع الأسنة أولق فأجابه الأحوص بقوله:
دع القوم ما حلوا ببطن قـراضـم وحيث تفشى بيضه المـتـفـلـق
فإنك لو قاربت أو قلـت شـبـهة لذي الحق فيها والمخاصم معلـق
عذرناك أو قلنا صدقـت وإنـمـا يصدق بالأقوال من كان يصـدق
ستأبى بنو عمرو عليك وينتـمـي لهم حسب في جذم غسان معـرق
فإنك لا عمرا أباك حـفـظـتـه ولا النضر إن ضيعت شيخك تلحق
ولم تدرك القوم الذين طلبـتـهـم فكنت كما كان السقاء المعـلـق
بجذمة ساق ليس منه لـحـاؤهـا ولم يك عنها قلـبـه يتـعـلـق
فأصبحت كالمهريق فضـلة مـائه لبادي سراب بالمـلا يتـرقـرق
صفحة : 950
قال: فخرج كثير فأتى الكوفة، فرمي به إلى مسجد بارق. فقالوا له: أنت من أهل الحجاز? قال نعم. قالوا: فأخبرنا عن رجل شاعر ولد زنا يدعى كثيرا. قال سبحان الله أما تسمعون أيها المشايخ ما يقول الفتيان قالوا: هو ما قاله لنفسه. فانسل منهم وجاء إلى والي الكوفة حسان بن كيسان، فطيره على البريد. فقال عمر بن شبة في خبره: إن سراقة البارقي هو المخاطب له بهذه الشتيمة وإنه عرفه وقال له: إن قلت هذا على المنبر قتلتك قحطان وأنا أولهم، فانصرف إلى منزله ولم يعد إلى عبد الملك.
نبذة عن سراقة البارقي وقصته مع المختار حين أسر: وكان سراقة هذا شاعرا ظريفا. فأخبرني عمي قال حدثني الكراني عن النضر بن عمر عن الهيثم بن عدي عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان سراقة البارقي من ظرفاء أهل العراق، فأسره المختار يوم جبانة السبيع، وكان للمختار فيها وقعة منكرة، فجاء به الذي أسره إلى المختار فقال له: إني أسرت هذا. فقال له سراقة: كذب ما هو الذي أسرني، إنما أسرني غلام أسود على برذون أبلق عليه ثياب خضر، ما أراه في عسكرك الآن، وسلمني إليه. فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين الملائكة خلوا سبيله فخلوه، فهرب فأنشأ يقول:
ألا أبلغ أبا إسحـاق أنـي رأيت البلق دهما مصمتات
أري عيني ما لم تبصـراه كلانا عالم بالـتـرهـات
كفرت بدينكم وجعلت نذرا علي قتالكم حتى الممـات كان يرى أن ابن الحنفية لم يمت وكان ذلك رأي السيد: أخبرنا الحرمي قال أخبرنا الزبيرقال أخبرنا عمرو ومحمد بن الضحاك قالا: كان كثير يتشيع تشيعا قبيحا، يزعم أن محمد بن الحنفية لم يمت. قال: وكان ذلك رأي السيد، وقد قال فيه يعني السيد شعرا كثيرا، منه:
ألا قل للوصي فدتك نفـسـي أطلت بذلك الجبل المـقـامـا
أضر بمعشـر والـوك مـنـا وسموك الخلـيفة والإمـامـا
وعادوا فيك أهل الأرض طرا مقامك عنهم ستـين عـامـا
وما ذاق ابن خولة طعم مـوت ولا وارت له أرض عظامـا
لقد اوفى بمورق شعب رضوى تراجعه الملائكة الـكـلامـا
وإن له به لـمـقـيل صـدق وأنـدية تـحـدثـه كـرامـا
هدانا اللـه إذ جـرتـم لأمـر به ولديه نلتمس الـتـمـامـا
تمام مودة المـهـدي حـتـى تروا راياتنا تترى نـظـامـا وقال كثير في ذلك:
ألا إن الأئمة من قـريش ولاة الحق أربعة سـواء
علي والثلاثة من بـنـيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمـان وبـر وسبط غيبتـه كـربـلاء
وسبط لا تراه العين حتـى يقود الخيل يقدمها اللـواء
تغيب لا يرى عنه زمانـا برضوى عنده عسل وماء شعره في ابن الحنفية حين سجنه ابن الزبير في سجن عارم: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن محمد عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: كان عبد الله بن الزبير قد أغري ببني هاشم يتبعهم بكل مكروه ويغري بهم ويخطب بهم على المنابر ويصرح ويعرض بذكرهم. فربما عارضه ابن عباس وغيره منهم. ثم بدا له فيهم فحبس ابن الحنفية في سجن عارم ، ثم جمعه وسائر من كان بحضرته من بني هاشم، فجعلهم في محبس وملأه حطبا وأضرم فيه النار. وقد كان بلغه أن أبا عبد الله الجدلي وسائر شيعة ابن الحنفية قد وافوا لنصرته ومحاربة ابن الزبير، فكان ذلك سبب إيقاعه به. وبلغ أبا عبد الله الخبر فوافى ساعة أضرمت النار عليهم فأطفأها واستنقذهم، وأخرج ابن الحنفية عن جوار ابن الزبير منذ يومئذ. فأنشدها محمد بن العباس اليزيدي قال أنشدنا محمد بن حبيب لكثير يذكر ابن الحنفية وقد حبسه ابن الزبير في سجن يقال له سجن عارم:
من ير هذا الشيخ بالخيف من منى من الناس يعلم أنه غير ظـالـم
سمي النبي المصطفى وابن عمه وفكاك أغلال ونـفـاع غـارم
أبي فهو لا يشري هدى بضـلالة ولا يتقي في الـلـه لـومة لائم
ونحن بحمد الله نتلـو كـتـابـه حلولا بهذا الخيف خيف المحارم
صفحة : 951
بحيث الحمام آمن الروع ساكـن وحيث العدو كالصديق المسالـم
فما فرح الدنيا بـبـاق لأهـلـه ولا شدة البلوى بـضـربة لازم
تخبر مـن لاقـيت أنـك عـائذ بل العائذ المظلوم في سجن عارم أنشد علي بن عبد الله شعرا له في ابن الحنفية وحديثه معه: حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا الزبير بن بكار، وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري عن سعيد عن عقبة الجهني عن أبيه قال: سمعت كثيرا ينشد علي بن عبد الله بن جعفر قوله في محمد بن الحنفية:
أقر اللـه عـينـي إذ دعـانـي أمين الله يلطف في الـسـؤال
وأثنى في هواي علـي خـيرا وساءل عن بني وكيف حالـي
وكيف ذكرت حال أبي خبـيب وزلة فعله عـنـد الـسـؤال
هو المهدي خبـرنـاه كـعـب أخو الأحبار في الحقب الخوالي فقال له علي بن عبد الله: ياأبا صخر، ما يثني عليك في هواك خيرا إلا من كان على مثل مذهبك. قال: أجل بأبي أنت وأمي . قال: وكان كثير كيسانيا يرى الرجعة. قال الزبير: أبو خبيب عبد الله بن الزبير، كناه بابنه خبيب وهو أكبر ولده، وكان كثير سيئ الرأي فيه. قال الزبير: فأخبرني عمي قال: لما قال كثير:
هو المهدي خبـرنـاه كـعـب أخو الأحبار في الحقب الخوالي فقيل له: ألقيت كعبا? قال: لا. قيل: فلم قلت خبرناه كعب? قال: بالتوهم.
غلوه في التشيع والقول بالرجعة وأخبار له في ذلك: قال: وكان كثير شيعيا غاليا يزعم أن الأرواح تتناسخ، ويحتج بقول الله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك ويقول: ألا ترى أنه حوله من صورة في صورة .
قال: فحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال: خندف الأسدي الذي أدخل كثيرا في الخشبية.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي عن محمد ابن معن الغفاري قال: كنا بالسيالة في مشيخة نتحدث، إذا بكثير قد طلع علينا متكئا على عصاه.
فقال: كنا ببيداء فأشرف السيالة وبهذه الناحية، فما بقي موضع ببيداء إلا وقد جئته، فإذا هو على حاله ما تغير وما تغيرت الجبال ولا الموضع الذي كنا نطوف فيه، وهذا يكون حتى نرجع إليه. وكان يؤمن بالرجعة.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني يحيى بن محمد قال: دخل عبد الله بن حسن على كثير يعوده في مرضه الذي بات فيه. فقال له كثير: أبشر فكأنك بي بعد أربعين ليلة قد طلعت عليك على فرس عتيق. فقال له عبد الله بن حسن: مالك عليك لعنة الله فوالله لئن مت لا أشهدك ولا أعودك ولا أكلمك أبدا.
كان أبو هاشم يتجسس أخباره
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني يحيى بن محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز أحسبه عن أبن الماجشون قال: وكان أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي قد وضع الأرصاد على كثير فلا يزال يؤتى بالخبر من حبره، فيقول له إذا لقيه: كنت في كذا وكنت في كذا، إلى أن جرى بين كثير وبين رجل كلام فأتي به أبو هاشم. فأقبل به على أدراجه ، فقال له أبو هاشم: كنت الساعة مع فلان فقلت له كذا وكذا وقال لك كذا وكذا. فقال له كثير: أشهد أنك رسول الله.
كان يقول عن الأطفال من آل البيت إنهم الأنبياء الصغار: أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا محمد، وأخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن إسماعيل عن موسى بن عبد الله فيما أحسب قال: نظر كثير إلى بني حسن بن حسن وهم صغار فقال: بأبي أنتم هؤلاء الأنبياء الصغار. وكان يرى الرجعة. وروى علي بن بشر بن سعيد الرازي عن محمد بن حميد عن أبي زهير عبد الرحمن بن مغراء الدوسي عن محمد بن عمارة قال: مر كثير بمعاوية بن عبد الله بن جعفر وهو في المكتب، فأكب عليه يقبله وقال: أنت من الأنبياء الصغار ورب الكعبة .
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا قعنب بن المحرز قال حدثني إبراهيم بن داجة قال:
صفحة : 952
كان كثير شيعيا، وكان يأتي ولد حسن بن حسن إذا أخذ عطاءه، فيهب لهم الدراهم ويقول: وا بأبي الأنبياء الصغار وكان يؤمن بالرجعة. فيقول له محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو أخوهم لأمهم ،: يا عم هب لي، فيقول: لا لست من الشجرة.
كان عمرو بن عبد العزيز يعرف بحبه صلاح بن هاشم و فسادهم: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عثمان بن عبد الرحمن عن إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبيد الله قال: قال عمر بن عبد العزيز: إني لأعرف صلاح بني هاشم من فسادهم بحب كثير: من أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه فهو صالح، لأنه كان خشبيا يقول بالرجعة.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن أبي لهيعة عن رجاء بن حيوة قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: إن مما أعتبر به صلاح بني هاشم وفسادهم حب كثير، ثم ذكر مثله.
قال لعمته إنه يونس بن متى: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا علي بن صالح عن ابن دأب قال: كان كثير يدخل على عمه له برزة فتكرمه وتطرح له وسادة يجلس عليها. قال لها يوما: لا والله ما تعرفينني ولا تكرمينني حق كرامتي قالت: بلى والله إني لأعرفك. فقال: فمن أنا? قالت: ابن فلان وابن فلانة، وجعلت تمدح أباه وأمه. فقال: قد عرفت أنك لا تعرفينني. قالت: فمن أنت? قال: أنا يونس بن متى.
كان عاقا لأبيه: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني أبي قال: كان كثير عاقا لأبيه ، وكان أبوه قد أصابته قرحة في إصبع من أصابع يده. فقال له كثير: أتدري لم أصابتك هذه القرحة في إصبعك? قال: لا أدري قال: مما ترفعها إلى الله في يمين كاذبة.
ضافه مزني وذمه بأنه لم يقم لصلاة الصبح: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد بن معن الغفاري عن أبيه وغيره قال حدثني رجل من مزينة قال: ضفت كثيرا ليلة وبت عنده ثم تحدثنا ونمنا. فلما طلع الفجر تضور ، ثم قمت فتوضأت وصليت وكثير راقد في لحافه. فلما طلع قرن الشمس تضور ثم قال: يا جارية اسجري لي ماء. قال قلت: تبا لك سائر اليوم أو هذه الساعة هذا وركبت راحلتي وتركته. قال الزبير: أسخني لي ماء.
كان يهزأ به ويصدق ما يسمع عن نفسه: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران المحمد بن عبد العزيز عن ابن شهاب عن طلحة بن عبيد الله قال: ما رأيت قط أحمق من كثير. دخلت عليه يوما في نفر من قريش وكنا كثيرا ما نتهزأ به، وكان يتشيع تشيعا قبيحا. فقلت له: كيف تجدك يا أبا صخر? وهو مريض، فقال: أجدني ذاهبا. فقلت: كلا فقال: هل سمعتم الناس يقولون شيئا? فقلت: نعم يتحدثون أنك الدجال. قال: أما لئن قلت ذاك إني لأجد في عيني ضعفا منذ أيام.
كان تياها ويستحمقه فتيان المدينة لذلك: أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران: أن ناسا من أهل المدينة كانوا يلعبون بكثير فيقولون وهو يسمع: إن كثيرا لا يلتفت من تيهه. فكان الرجل يأتيه من ورأه فيأخذ رداءه فلا يلتفت من الكبر ويمضي في قميصه.
سأله عبد الملك عن شيء وحلفه بأبي تراب: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: بلغني أن كثيرا دخل على عبد الملك بن مروان، فسأله عن شيء فأخبره به. فقال وحق علي بن أبي طالب إنه كما ذكرت? قال كثير: يا أمير المؤمنين، لو سألتني بحقك لصدقتك. قال: لا أسألك إلا بحق أبي تراب . فحلف له به فرضي.
تمثل عبد الملك بشعر له حين منعته عاتكة من الخروج لحرب مصعب وحديثه معه عن هذه الحرب: أخبرنا الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني عثمان بن عبد الرحمن، وأخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال، وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة، وأخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا المؤملي عن ابن أبي عبيدة، قالوا جميعا.
صفحة : 953
لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب لاذت به عاتكة بنت يزيد بن معاويه وهي أم ابنه يزيد، وقالت: يا أمير المؤمنين، لا تخرج السنة لحرب مصعب، فإن آل الزبير ذكروا خروجك، وابعث إليها الجيوش، وبكت وبكى جواريها معها. وجلس وقال: قاتل الله ابن أبي جمعة فأين قوله: صوت
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه حصان عليها عقد در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقـه بكت فبكى مما شجاها قطينها غناه ابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والله لكنه يراني ويراك يا عاتكة، ثم خرج. قال محمد بن جعفر النحوي في خبره ووافقه عليه عمر بن شبة: فلما خرج عبد الملك نظر إلى كثير في ناحية عسكره يسير مطرقا، فدعا به وقال: لأعلم ما أسكتك وألقى عليك بثك، فإن أخبرتك عنه أتصدقني? قال نعم قال: وحق أبي تراب لتصدقني، قال: والله لأصدقنك. قال: لا أو تحلف به، فحلف به. فقال تقول: رجلان من قريش يلقي أحدهما صاحبه فيحاربه، القاتل والمقتول في النار، فما معنى سيرى مع أحدهما إلى الآخر ولا آمن سهما عائرا لعله أن يصيبني فيقتلني فأكون معهما قال: والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت. قال: فارجع من قريب، وأمر له بجائزة.
بكى لقتل آل المهلب فزجره يزيد وضحك منه: أخبرنا وكيع قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو تمام الطائي حبيب بن أوس قال حدثني العطاف بن هارون عن يحيى عن حمزة قاضي دمشق قال حدثني حفص الأموي قال: كنت أختلف إلى كثير أتروى شعره. قال: فوالله إني لعنده يوما إذا وقف عليه واقف فقال: قتل آل المهلب بالعقر . فقال: ما أجل الخطب ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف، وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر ثم انتضحت عيناه باكيا. فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فدعا به. فلما دخل عليه قال: عليك لعنة الله أترابية وعصبية وجعل يضحك منه.
سأله عبد الملك عن أشعر الناس فأجابه: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد عن أبيه قال: قال عبد الملك بن مروان لكثير: من أشعر الناس اليوم يا أبا صخر? قال: من يروي أمير المؤمنين شعره. فقال عبد الملك: أما إنك لمنهم.
جواب عبد الملك له وقد سأله عن شعره: أخبرنا وكيع قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا حماد بن إسحاق عن ابن أبي عوف عن عوانة قال: قال كثير لعبد الملك: كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين? قال أراه يسبق السحر، ويغلب الشعر.
كان عبد الملك يروي أولاده شعره: أخبرنا عمي عن الكراني عن النضر بن عمر قال: كان عبد الملك بن مروان يخرج شعر كثير إلى مؤدب ولده مختوما يرويهم إياه ويرده.
نزل مرعي لإبله فضيق عليه أهله فذم جوارهم: أخبرنا الحرمي قال أخبرنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن خالد الجهني: أن كثيرا شب في حجر عم له صالح، فلما بلغ الحلم أشفق عليه أن يسفه، وكان غير جيد الرأي ولا حسن النظر في عواقب الأمور. فاشترى له عمه قطيعا من الإبل وأنزله فرش ملل فكان به، ثم ارتفع فنزل فرع المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن جبل جهينة الأصغر، وكان قبل المسور لبني مالك بن أفصى، فضيقوا على كثير وأساءوا جواره، فانتقل عنهم وقال:
أبت إبلي ماء الـرداة وشـفـهـا بنو العم يحمون النضيح المبـردا
وما يمنعون المـاء إلا ضـنـانة بأصلاب عسرى شوكها قد تخددا
فعادت فلم تجهد على فضل مـائه رياحا ولا سقيا ابن طلق بن أسعدا قال: ويروى أنه أول شعر قاله.
روايته عن بدء قوله الشعر: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال: قال كثير: ما قلت الشعر حتى قولته. قيل له: وكيف ذاك? قال: بينا أنا يوما نصف النهار أسير على بعير لي بالغميم أو بقاع حمدان ، إذا راكب قد دنا مني حتى صار على جنبي، فتأملته فإذا هو صفر وهو يجر نفسه في الأرض جرا. فقال لي: قل الشعر وألقاه عليه. قلت: من أنت? قال: أنا قرينك من الجن. فقلت الشعر.
عزة عشيقته وأول عشقه لها: ونسب كثير لكثرة تشبيبه بعزة الضمرية إليها، وعرف بها فقيل كثير عزة. وهي عزة بنت حميل بن وقاص. أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الحسن قال:
صفحة : 954
أبو بصرة الغفاري المحدث واسمه حميل بن وقاص هو أبو عزة التي كان ينسب بها كثير. وكان ابتداء عشقه إياها على أنه قد قيل: إنه كان في ذلك كاذبا ولم يكن بعاشق، وذلك يذكر بعد خبره معها فيما أخبرني به الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن إبراهيم السعدي قال حدثني إبراهيم بن يعقوب بن جميع الخزاعي: أنه كان أول عشق كثير عزة أن كثيرا مر بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع، فأعطاها كبشا وأعجبته. فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش? قالت: وما تصنع بها هذه دراهمك. قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها. وخرج وهو يقول:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمهـا قال: فكان أول لقائه إياها.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن الخضر بن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبي جندل عن أبيه عبد العزيز الخزاعي وأمه جمعة بنت كثير عن أمه جمعة عن أبيها كثير: أن أول علاقته بعزة أنه خرج من منزله يسوق خلف غنم إلى الجار ، فلما كان بالخبت وقف على نسوة من بني ضمرة فسألهن عن الماء، فقلن لعزة وهي جارية حين كعب ثدياها: أرشديه إلى الماء، فأرشدته وأعجبته. فبينا هو يسقى غنمه إذ جاءته عزة بدراهم، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا بهذه الدراهم كبشا من ضأنك: فأمر الغلام فدفع إليها كبشا، وقال: ردي الدراهم وقولي لهن: إذا رحت بكن اقتضيت حقي.. فلما راح مر بهن، فقلن له: هذا حقك فخذه. فقال: عزة غريمي ، ولست أقتضي حقي إلا منها. فمزحن معه وقلن: ويحك عزة جارية صغيرة وليس فيها وفاء لحقك فأحله إلى إحدانا فإنها أملأ به منها وأسرع له أداء. فقال: ما أنا بمحيل حقي عنها. ومضى لوجهه، ثم رجع إليهن حين فرغ من بيع جلبه فأنشدهن فيها:
نظرت إليها نظرة وهي عاتـق على حين أن شبت وبان نهودها
وقد درعوها وهي ذات مؤصد مجوب ولما يلبس الدرع ريدها
من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها في هذا البيت وأبيات أخر معه غناء يذكر بعد تمام هذا الخبر وما يضاف إليه من جنسه. وأنشدهن أيضا:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمهـا فقلن له: أبيت إلا عزة وأبرزنها إليه وهي كارهة. ثم أحبته عزة بعد ذلك أشد من حبه إياها. قال الزبير: فسألت محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بأبي جندل عن هذا الحديث، فعرفه وحدثنيه عن أبيه عن جده عبد العزيز بن أبي جندل عن أمه جمعة بنت كثير عن أبيها.
سؤال عبد الملك لعزة عن كثير وسبب إعجابه بها: وأخبرني عمي الحسن بن محمد الأصفهاني رحمه الله قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثنا النضر بن عمرو قال حدثني عمر بن عبد الله بن خالد المعيطي، وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم بن إسحاق الطلحي، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني يعقوب بن عبد الله الأسدي وغيره، قال الزبير وحدثني محمد بن صالح الأسلمي قال: دخلت عزة على عبد الملك بن مروان وقد عجزت، فقال لها أنت عزة كثير فقالت: أبا عزة بنت حميل. قال: أنت التي يقول لك كثير:
لعزة نار ما تبـوخ كـأنـهـا إذا ما رمقناها من البعد كوكب فما الذي أعجبه منك? قالت: كلا يا أمير المؤمنين فوالله لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرة. وفي حديث محمد بن صالح الأسلمي: فقالت له: أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيروك خليفة. قال: وكانت له سن سوداء يخفيها، فضحك حتى بدت. فقالت له: هذا الذي أردت أن أبديه. فقال لها: هل تروين قول كثير فيك:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
تغير جسمي والخليفة كالتـي عهدت ولم يخبر بسرك مخبر قالت لا ولكني أروي قوله:
كأني أنادي صخرة حين أعرضـت من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفحة : 955
صفوحا فما تلقاك إلا بـخـيلة فمن مل منها ذلك الوصل ملت فأمر بها فأدخلت على عاتكة بنت يزيد وفي غير هذه الرواية: أنها أدخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لها: أرأيت قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمهـا ما هذا الذي ذكره? قالت: قبلة وعدته إياها. قالت: أنجزيها وعلي إثمها.
قصة غلام له مع عزة وإعتاقه بسبب ذلك: أخبرنا الحسن بن الطيب البجلي الشجاعي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال روى ابن جعدبة عن أشياخه، وأخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو بكر بن يزيد بن عياض بن جعدبة عن أبيه.
أن كثيرا كان له غلام تاجر، فباع من عزة بعض سلعه ومطلته مدة وهو لا يعرفها. فقال لها يوما: أنت والله كما قال مولاي:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمهـا فانصرف عنه خجلة. فقالت له امرأة: أتعرف عزة? قال: لا والله . قالت: فهذه والله عزة. فقال: لا جرم والله لا آخذ منها شيئا ولا أقتضيها. ورجع إلى كثير فأخبره بذلك، فأعتقه ووهب له المال الذي كان في يده.
لقيت قسيمة بنت عياض عزة ووصفتها: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن حكيم السلمي عن قسيمة بنت عياض بن سعيد الأسلمية، وكنيتها أم البنين، قالت: سارت علينا عزة في جماعة من قومها بين يدي يربوع وجهينة، فسمعنا بها، فاجتمعت جماعة من نساء الحاضر أنا فيهن، فجئناها فرأينا امرأة حلوة حميراء نظيفة، فتضاءلنا لها، ومعها نسوة كلهن لها عليهن فضل من الجمال والخلق، إلى أن تحدثت ساعة فإذا هي أبرع الناس وأحلاهم حديثا، فما فارقناها إلا ولها علينا الفضل في أعيننا، وما نرى في الدنيا امرأة تروقها جمالا وحسنا وحلاوة.
سأل عبد الملك كثيرا عن أعجب خبر له مع عزة فذكر له ملاقاتها له مع زوجها إذ أمرها بشتمه: أخبرني عمي قال حدثني الفضل اليزيدي عن إسحاق الموصلي عن أبي نصر شيخ له عن الهيثم بن عدي: أن عبد الملك سأل كثيرا عن أعجب خبر له مع عزة، فقال: حججت سنة من السنين وحج زوج عزة بها، ولم يعلم أحد منا بصاحبه. فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها ببتياع سمن تصلح به طعاما لأهل رفقته، فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم إنها خيمتي، وكنت أبري أسهما لي. فلما رأيتها جعلت أبري وأنا انظر إليها ولا أعلم حتى بريت عظامي مرات ولا أشعر به والدم يجري. فلما تبينت ذلك دخلت إلي فأمسكت يدي وجعلت تمسح الدم عنها بثوبها، وكان عندي نحي من سمن، فحلفت لتأخذنه، فأخذته وجاءت إلى زوجها بالسمن. فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته، حتى حلف لتصدقنه فصدقته، فضربها وحلف لتشتمني في وجهي. فوقفت علي وهو معها فقالت لي: يا بن الزانية وهي تبكي، ثم انصرفا. فذلك حين أقول:
يكلفها الخنزير شتمي وما بها هواني ولكن للمليك استذلت نسبة ما في هذه القصيدة من الغناء: صوت
خليلي هذا رسـم عـزة فـاعـقـلا قلوصيكما ثم ابكـيا حـيث حـلـت
وما كنت أدري قبل عزة ما البـكـى وما موجعات القلب حتـى تـولـت
فليت قلوصي عـنـد عـزة قـيدت بحبل ضعيف بان منها فـضـلـت
وأصبح في القوم المقيمين رحلـهـا وكان لهـا بـاغ سـواي فـبـلـت
فقلت لـهـا ياعـز كـل مـصـيبة إذا وطنت يوما لها النـفـس ذلـت
أسيئي بنا أو أحسـنـي، لا مـلـومة لدينـا ولا مـقـلـية إن تـقـلـت
هنيئا مـريئا غـير داء مـخـامـر لعزة من أعراضنا ما استـحـلـت
تمنيتـهـا حـتـى إذا مـا رأيتـهـا رأيت المنايا شرعـا قـد أظـلـت
كأني أنادي صخرة حين أعـرضـت من الصم لو تمشي بها العصم ذلـت
صفوحا فما تـلـقـاك إلا بـخـيلة فمن مل مها ذلك الوصـل مـلـت
أصاب الردى أن كان يهوى لك الردى وجن اللواتي قلـن عـزة جـنـت
صفحة : 956
عروضه من الطويل. غنى معبد في الخمسة الأول ثقيلا أول بالوسطى. وغنى إبراهيم في الثالث والرابع ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو، وغنى في هنيئا مريئا والذي بعده خفيف رمل بالوسطى. وغنى إبراهيم في الخامس وما بعده ثاني ثقيل. وذكر الهشامي أن لابن سريج في هنيئا مريئا وما بعده ثاني ثقيل بالبنصر. وذكر أحمد بن المكي أن لإبراهيم في كأني أنادي والذي بعده وفي أسيئي بنا أو أحسني هزجا بالسبابة في مجرى البنصر، ولإسحاق فيه هزج آخر به . ولعريب في كأني أنادي أيضا رمل. ولإسحاق في وما كنت أدري ثقيل أول. وله في أصاب الردى ثقيل أول أخر، وقيل: إن لإبراهيم في فقلت لها يا عز خفيف ثقيل ينسب إلى دحمان وإلى سياط.
اجتمعا ذات ليلة ووصف ذلك صديق له: أخبرني الحرمي وحبيب بن نصر قالا حدثنا الزبير قال حدثنا يعقوب بن حكيم عن إبراهيم بن أبي عمرو الجهني عن أبيه قال: سارت علينا عزة في جماعة من قومها، فنزلت حيالنا، فجاءني كثير ذات يوم فقال لي: أريد أن أكون عندك اليوم فاذهب إلى عزة، فصرت به إلى منزلي. فأقام عندي حتى كان العشاء، ثم أرسلني إليها وأعطاني خاتمه وقال: إذا سلمت فاستخرج إليك جارية، فادفع إليها خاتمي وأعلمها مكاني. فجئت بيتها فسلمت فخرجت إلي الجارية فأعطيتها الخاتم. فقالت: أين الموعد? قلت: صخرات أبي عبيد الليلة، فواعدتها هناك، فرجعت إليه فأعلمته. فلما أمسى قال لي: انهض بنا، فنهضنا فجلسنا هناك نتحدث حتى جاءت من الليل فجلست فتحدثا فاطألا، فذهبت لأقوم. فقال لي: إلى أين تذهب? فقلت: أخليكما ساعة لعلكما تتحدثان ببعض ماتكتمان. قال لي: إجلس فوالله ما كان بيننا شيء قط. فجلست وهما يتحدثان وإن بينهما لثمامة عظيمه هي من ورائها جالسة حتى أسحرنا، ثم قامت فانصرفت، وقمت أنا وهو فظل عندي حتى أمسى ثم انطلق.
سامته سكينة بجمله فلما رأى عزة معها تركه لهم: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسحق بن إبراهيم عن عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي قال: خرج كثير في الحاج بجمل له يبيعه، فمر بسكينة بنت الحسين ومعها عزة وهو لا يعرفها. فقالت سكينة: هذا كثير فسوموه بالجمل، فساموه فاستام مائتي درهم فقالت: ضع عنا فأبى. فدعت له بتمر وزبد فأكل، ثم قالت له: ضع عنا كذا وكذا لشيء يسير فأبى. فقالوا: قد أكلت يا كثير بأكثر مما نسألك فقال: ما أنا بواضع شيئا. فقالت سكينة: اكشفوا، فكشفوا عنها وعن عزة. فلما رأهما استحيا وانصرف وهو يقول: هو لكم هو لكم .
قال بعض الرواة أنه لم يكن صادقا في عشقه: من ذكر أن كثيرا كان يكذب في عشقه: أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا ابن سلام قال: كان كثير مدعيا ولم يكن عاشقا، وكان جميل صادق الصبابة والعشق.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال زعم إسحاق بن إبراهيم أنه سمع أبا عبيدة يقول كان جميل يصدق في حبه، وكلن كثير يكذب.
ومما وجدناه في أخباره ولم نسمعه من أحد أنه نظر إلى عزة ذات يوم وهي منتقبة تميس في مشيتها، فلم يعرفها كثير فاتبعها وقال: يا سيدتي قفي حتى أكلمك فاني لم أر مثلك قط، فمن أنت ويحك? قالت: ويحك وهل تركت عزة فيك بقية لأحد? قال: بأبي أنت والله لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك.
قالت: فهل لك في المخاللة? قال: وكيف لي بذلك? قالت: إني وكيف بما قلت في عزة? قال: أقلبه فأحوله إليك. فسفرت عن وجهها ثم قالت: أغدرا يا فاسق وإنك لهكذا فأبلس ولم ينطق وبهت. فلما مضت أنشأ يقول:
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي من السم جدحات بماء الذرارح
فمت ولم تعلم عـلـي خـيانة وكم طالب للريح ليس برابـح
أبوء بذنبي إنني قد ظلمـتـهـا وإنني بباقي سرها غير بـائح لقي عزة في طريقه إلى مصر وتعاتبا: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال زعم ابن الكلبي عن أبي المقوم قال أخبرني سائب راوية كثير قال: خرجت معه نريد مصر، فمررنا بالماء الذي فيه عزة فإذا هي في خباء، فسلمنا جميعا، فقالت عزة: وعليك السلام يا سائب. ثم أقبلت على كثير فقالت: ويحك ألا تتقي الله أرأيت قولك:
صفحة : 957
بآية ما أتيتـك أم عـمـرو فقمت لحاجتي والبيت خالي أخلوت معك في بيت أو غير بيت قط ? قال. لم أقله، ولكنني قلت:
فأقسم لو أتيت البحر يومـا لأشرب ما سقتني من بلال
وأقسم إن حبك إم عمـرو لداء عند منقطع السعـال قالت: أما هذا فنعم. فأتينا عبد العزيز ثم عدنا فقال كثير: عليك السلام يا عزة قالت: عليك السلام يا جمل فقال كثير.
صوت
حيتك عزة بعد الهجر فانصرفت فحي ويحك من حياك يا جمـل
لو كنت حييتها ما زلت ذامـقة عندي وما مسك الإدلاج والعمل
ليت التحية كانت لي فأشكرهـا ما كان يا جمل حييت يا رجـل ذكر يونس أن في هذه الأبيات غناء لمعبد. وذكر الهشامي أن فيها لبثينة خفيف رمل بالبنصر. وذكر حبش أن فيها للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى، ولإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى.
قصته مع أم الحويرث الخزاعية وحديث عشقه لها: أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن محمد البرمكي قال حدثني إبراهيم بن المهدي قال: قدم علي هشام بن محمد الكلبي فسألته عن العشاق يوما فحدثني قال: تعشق كثير امرأة من خزاعة يقال لها أم الحويرث فنسب بها، وكرهت أن يسمع بها ويفضحها كما سمع بعزة، فقالت له: إنك رجل فقير لا مال لك، فابتغ مالا يعفى عليك ثم تعال فاخطبني كما يخطب الكرام. قال: فاحلفي لي ووثقي إنك لا تتزوجين حتى أقدم عليك، فحلفت ووثقت له. فمدح عبد الرحمن بن إبريق الأزدي، فخرج إليه، فلقيته ظباء سوانح ولقي غرابا يفحص التراب بوجهه، فتطير من ذلك حتى قدم على حي من لهب فقال: أيكم يزجر? فقالوا: كلنا، فمن تريد? قال: أعلمكم بذاك. قالوا: ذاك الشيخ المنحني الصلب. فأتاه فقص عليه القصة، فكره ذلك له وقال له: قد توفيت أو تزوجت رجلا من بني عمها. فأنشأ يقول: صوت
تيممت لهبا أبتغي العلـم عـنـدهـم وقد رد علم العائفـين إلـى لـهـب
تيممت شيخـا مـنـهـم ذا بـجـالة بصيرا بزجر الطير منحنى الصلـب
فقلت له ماذا تـرى فـي سـوانـح وصوت غراب يفحص الوجه بالترب
فقال جرى الطير السنيح بـبـينـهـا وقال غراب جد منهمر الـسـكـب
فإلا تكن ماتت فقـد حـال دونـهـا سواك خليل باطن من بني كـعـب غناه مالك من رواية يونس ولم يجنسه قال: فمدح الرجل الأزدي ثم أتاه فأصاب منه خيرا كثيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوجت رجلا من بني كعب، فأخذه الهلاس ، فكشح جنباه بالنار. فلما اندمل من علته وضع يده على ظهره فإذا هو برقمتين، فقال: ما هذا? قالوا: إنه أخذك الهلاس وزعم الأطباء أنه لا علاج لك إلا الكشح بالنار فكشحت بالنار. فأنشأ يقول: صوت
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها علام تعنيني وتكمـي دوائيا
فلو آذنوني قبل أن يرقموا بها لقلت لهم أم الحـويرث دائيا -في هذين البيتين لمالك ثقيل أول بالوسطى. ولآبن سريج رمل بالبنصر كلاهما عن عمر والهشامي. وقيل: إن فيهما لمعبد لحنا وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزاه بالرواية فذكر نحو هذا وقال فيه: إنه قصد ابن الأزرق بن حفص بن المغيرة المخزومي الذي كان باليمن، وإنه فعل ذلك بعد موت عزة. وسائر الخبر متقارب.
سأله ابن جعفر عن سبب هزاله فأجابه: وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري عن محمد بن سليمان بن فليح أو فليح بن سليمان أنا شككت عن أبيه عن جده قال: جاء كثير إلى عبد الله بن جعفر وقد نحل وتغير. فقال له عبد الله: مالي أراك متغيرا يا أبا صخر? قال: هذا ما عملت بي أم الحويرث، ثم ألقى قميصه فإذا به صار مثل القش وإذا به آثار من كي، ثم أنشد:
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها الأبيات.
أغرت عزة به بثينة لتتبين حاله: أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي قال حدثني الحزامي عمن حدثه من أهل قديد : أن عزة قالت لبثينة: تصدي لكثير وأطمعيه في نفسك حتى أسمع ما يجيبك به. فأقبلت إليه وعزة تمشي وراءها مختفية، فعرضت عليه الوصل، فقاربها ثم قال:
صفحة : 958
رمتني على عمد بثينة بعدما تولى شبابي وارججن شبابها وذكر أبياتا أخر سقط من الكتاب ذكرها. فكشفت عزة عن وجهها، فبادرها الكلام ثم قال:
ولكنما ترمين نفسا مريضة لعزة منها صفوها ولبابها فضحكت ثم قالت:أولى لك بها قد نجوت، وانصرفتا تتضاحكان.
قال لأهله إذ بكوا في مرضه سأرجع بعد أيام: أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال: بكى بعض أهل كثير عليه حين نزل به الموت. فقال له كثير: لا تبك، فكأنك بي بعد أربعين ليلة تسمع خشفة نعلى من تلك الشعبة راجعا إليكم.
مات هو وعكرمة في يوم واحد سنة 105: أخبرني الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة و أبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال: مات كثير وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد، فاجتمعت قريش في جنازة كثير، ولم يوجد لعكرمة من يحمله.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن مصعب قال حدثني الواقدي قال حدثني خالد بن القاسم البياضي قال: مات عكرمة مولى ابن عباس وكثير بن عبد الرحمن الخزاعي صاحب عزة في يوم واحد في سنة خمس ومائة، فرأيتهما جميعا صلي عليهما في يوم واحد بعد الظهر في موضع الجنائز، فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.
ما جرى في جنازته بين أبي جعفر الباقر وزينب بنت معيقب: وقال ابن أبي سعد الوراق حدثني رجاء بن سهل أبو نصر الصاغاني قال حدثنا يحيى بن غيلان قال حدثني المفضل بن فضالة عن يزيد بن عروة قال: مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، فأخرجت جنازتاهما، فما علمت تخلفت امرأة بالمدينة ولا رجل عن جنازتيهما. قال: وقيل مات اليوم أشعر الناس وأعلم الناس. قال: وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن عزة في ندبتهن له. قال: فقال أبو جعفر محمد بن علي: افرجوا لي عن جنازة كثير لأرفها. قال: فجعلنا ندفع عنها النساء وجعل يضربهن محمد بن علي بكمه ويقول: تنحين يا صواحبات يوسف. فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا بن رسول الله لقد صدقت، إنا لصواحبات يوسف وقد كنا له خير منكم له. قال: فقال: أبو جعفر لبعض مواليه: احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا. قال: فلما انصرف أتي بتلك المرأة كأنها شرارة النار. فقال لها محمد بن علي: أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا? قالت: نعم تؤمنني غضبك يا بن رسول الله? قال: أنت آمنة من غضبي فأبيني. قالت: نحن يا بن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم يا معشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن. فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف ? فقال محمد: لله درك ولن تغالب إمراة إلا غلبت. ثم قال لها: ألك بعل? قالت: لي من الرجال من أنا بعله. قال: فقال أبو جعفر: صدقت، مثلك من تملك بعلها ولا يملكها. قال: فلما انصرفت قال رجل من القوم: هذه زينب بنت معيقب .
نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء: صوت
نظرت إليها نظرة وهـي عـاتـق على حين أنشبت وبان نـهـدوهـا
نظرت إليها نظـرة مـا يسـرنـي بها حمر أنعام الـبـلاد وسـودهـا
وكنت إذا ما جئت سعدى بأرضـهـا أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جلـيسـهـا إذا ما انقضت أحدوثة لو تعـيدهـا عروضه من الطويل. البيت الأول لكثير. والثاني والثالث لنصيب من قصيدته التي أولها:
لقد هجرت سعدى وطال صدودها غنى في البيت الثاني والثالث جحدر الراعي خفيف رمل بالبنصر. وغنى فيهما الهذلي رملا بالوسطى. وغنى في الثالث والرابع دعامة ثقيلا أول بالبنصر.
عمر الوادي يأخذ صوتا من راعي غنم في شعر له: أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قال عمر الوادي، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني مكين العذري قال: سمعت عمر الوادي يقول: بينا أنا أسير بين الروحاء والعرج إذ سمعت إنسانا يغني غناء لم أسمع قط مثله في بيتي كثير:
وكنت إذا ما جئت سعدى بأرضـهـا أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
صفحة : 959
من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها قال: فكدت أسقط عن راحلتي طربا، وقلت: والله لألتمسن الوصول إلى هذا الصوت ولو بذهاب عضو من أعضائي، فتيممت سمته فإذا راع في غنم، فسألته إعادته عليه. قال: نعم ولو حضرني قرى أقريكه ما أعدته، ولكني أجعله قراك، فربما ترنمت به وأنا غرثان فأشبع، وعطشان فأروى، ومستوحش فآنس، وكسلان فأنشط. قال: فأعادهما عليه حتى أخذتهما، فما كان زادي حتى ولجت المدينة غيرهما.
أخبار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كان عالما ومغنيا ونسب غنائه لجاريته شاجي ترفعا: وهو عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، ويكنى أبا أحمد. وله محل من الأدب والتصرف في فنونه ورواية الشعر و قوله والعلم بالغة وأيام الناس وعلوم الأوائل من الفلاسفة في الموسيقى والهندسة وغير ذلك مما يجل عن الوصف ويكثر ذكره. وله صنعة في الغناء حسنة متقنة عجيبة تدل على ما ذكرناه ها هنا من توصله ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به على فضله فيها وطلبه لها. وكان المعتضد بالله، رحمة الله عليه، ربما كان أراد أن يصنع في بعض الأشعار غناء وبحضرته أكابر المغنين مثل القاسم بن زرزور وأحمد بن المكي ومن دونهما مثل أحمد بن أبي العلاء وطبقتهم، فيعدل عنهم إليه فيصنع فيها أحسن صنعة، ويترفع عن إظهار نفسه بذلك، ويومئ إلى أنه من صنعته جاريته شاجي ، وكانت إحدى المحسنات المبرزات المقدمات؛ وذلك بتخريجه وتأديبه، وكان بها معجبا ولها مقدما.
كان المعتضد يتفقده لما رقت حاله وطلب منه جاريته ليسمع غناءها فأرسلها له: فأخبرني أحمد بن جعفر بن جحظة قال: لما أختلت حال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كان المعتضد يتفقده بالصلات الفينة بعد الفينة. واتفق يوما كان فيه مصطحبا أن غني بصوت الصنعة فيه لشاجي جارية عبيد الله؛ فكتب إليه كتابا يقسم أن يأمرها بزيارته ففعل. قال: فحدثني من حضر من المغنيات ذلك المجلس بعد موت المعتضد قالت: دخلت إلينا وما منا إلا من يرفل في الحلي والحلل وهي في أثواب ليست كثيابنا، فاحتقرناها؛ فلما غنت احتقرنا أنفسنا. ةلم تزل تلك حالنا حتى صارت في أعيننا كالجبل وصرنا كل شيء. قال: ولما انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة. ودخلت إلى مولاها فجعل يسألها عن أمرها وما رأت مما استظرفت وسمعت مما استغربت. فقالت: ما استحسنت هناك شيئا ولا استغربته من غناء ولا غيره إلا عودا من عود محفور فإني استظرفته. قال جحظة: فما قولك فيمن يدخل دار الخلافة فلا يمد عينه لشيء يستحسنه فيها إلا عودا .
كانت شاجي جاريته تلحن للمعتضد بعض الشعر: قال محمد بن الحسن الكاتب وحدثني النوشجاني قال: كان المعتضد إذا استحسن شعرا بعث به إلى شاجي جارية عبيد الله بن طاهر فتغنى فيه. قال: وكانت صنعتها تسمى في عصره غناء الدار.
ماتت شاجي فرثاها قال محمد بن الحسن: وماتت شاجي في حياة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان عليلا، فقال يرثيها وله فيه صنعة من خفيف الثقيل الأول بالوسطى:
يمينا يقينا لو بليت بـفـقـدهـا وبي نبض عرق للحياة أو النكس
لأوشكت قتل النفس قبل فراقهـا ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسـي له كتاب الآداب الرفيعة في الغناء
ومن نادر صنعة عبيد الله وجيد شعره قوله وله فيه لحنان ثقيل أول وهزج، والثقيل الأول أجودهما:
أنفق إذا أيسرت غـير مـقـتـر وأنفق على ماخيلت حين تعسـر
غير الجود يفنى المال والمال مقبل ولا البخل يبقي المال والجد مدبر وأشعاره كثيرة جيدة كثيرة النادر والمختار. وكتابه في النغم وعلل الأغناي المسمى كتاب الآداب الرفيعة كتاب مشهور جليل الفائدة دال على فضل مؤلفه.
قص عليه الزبير بن بكار قصة فاستحسنها وأمر له بمال: أخبرني جحظة قال حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني موسى بن هارون، فيما أرى، قال:
صفحة : 960
كنت عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد جاءه الزبير بن بكار فأعلمه أن المتوكل أو المعتز - وأراه المعتز - بعث إلى أخيه محمد بن عبد الله بن طاهر يأمر بإحضاره وتقليده القضاء. فقال الزبير بن بكار: قد بلغت هذه السن وأتولى القضاء أو بعد ما رويت أن من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين فقال له: فتلحق بأمير المؤمنين بسر من رأى، فقال له: أفعل. فأمر له بمال ينفقه، وبظهر يحمله ويحمل ثقله. ثم قال له إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شيئا قبل أن نفترق قال: نعم انصرفت من عمرة المحرم؛ فبينا أنا بأثاية العرج، إذا أنا بجماعة مجتمعة، فأقبلت إليهم وإذا رجل كان يقنص الظباء وقد وقع ظبي في حبالته فذبحه، فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فنشب القرن فيه فمات. وأقبلت فتاة كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميتا شهقت ثم قالت:
ياحسن لو بطل لكـنـه أجـل على الأثاية ما أودى به البطل
ياحسن جمع أحشائي وأقلقهـا وذاك يا حسن لولا غيره جلل
أضحت فتاة نهـد عـلانـية وبعلها بين أيدي القوم محتمل قال: ثم شهقت فماتت. فما رأيت أعجب من الثلاثة: الظبي مذبوح، والرجل جريح ميت، والفتاة ميتة حرى .
فأمر له عبيد الله بمال آخر. ثم أقبل إليه أخيه محمد بن عبد الله بعد خروج الزبير فقال: أما إن الذي أخذناه من الفائدة في خبر حسن وفي قولها :
أضحت فتاة بني نهد علانية - تريد ظاهرة - أكثر عندي مما أعطيناه من الحباء والصلة. وقد أخبرني الحسين بن علي عن الدمشقي عن الزبير بخبر حسن فقط، ولم يذكر فيه من خبر عبيد الله شيئا.
ومن الأصوات التي تجمع النغم العشر: صوت لحنه في شعر ابن هرمة يجمع النغم العشر: وهو يجمع النغم العشر كلها على غير توال:
وإنك إذ أطعمتني منك بالرضا وأيأستني من بعد ذلك بالغضب
كممكنة من ضرعها كف حالب ودافقة من بعد ذلك ما حلـب عروضه من الطويل. الشعر لإبراهيم بن علي بن هرمة. والغناء في هذا اللحن الجامع للنغم لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها وعليها ابتدأ الصوت.
أثبت في كتابه نقد أبي نواس لشعر لابن هرمة وشعر لجرير: وقال عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات حدثني بعض أصحابنا عن أبي نواس أنه قال: شاعران قالا بيتين وضعا التشبيه فيهما في غير موضعه. فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع بيت الآخر، وأخذ بيت ذاك فجعل مع هذا لصار متفقا معنى وتشبيها. فقلت له: أنى ذلك? فقال: قول جرير للفرزدق:
فإنك إذ تهجو تميما وترتشي تبابين قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ما إن بالفلاة وغره سراب أذاعته رياح السمائم وقول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالـعـراء وملبسة بيض أخرى جناحا فلو قال جرير:
فإنك إذ تهجو تميما وترتشي تبابين قيس أو سحوق العمائم
كتاركة بيضها بـالـعـراء وملبسة بيض أخرى جناحـا لكان أشبه منه ببيته. ولو قال ابن هرمة مع بيته:
وإني وتركي ندى الأكرمين وقدحي بكفي زندا شحاحـا
كمهريق ما إن بالفلاة وغره سراب أذاعته رياح السمائم كان أشبه به. ثم قال: ولكن ابن هرمة قد تلافى ذلك بعد فقال:
وإنك إذ أطعمتني منك بالرضا وأيأستني من بعد ذلك بالغضب
كممكنة من ضرعها كف حالب ودافقة من بعد ذلك ما حلـب وقد أتى عبيد الله بن عبد الله بهذا الكلام بعينه في الآداب الرفيعة . وإنما أخذه من أبي نواس على ما روي عنه.
ومما يجمع النغم العشر صوت ابن أبي مطر في شعر نصيب: ووجدت في كتاب مؤلف في النغم غير مسمى الصانع: أن من الأصوات التي تجمع النغم العشر صوت ابن أبي مطر المكي في شعر نصيب وهو: صوت
ألا أيها الربع المقيم بـعـنـبـب سقتك السوافي من مراح ومعزب
بذي هيدب أما الربى تحت ودقـه فتروي وأما كـل واد فـيزعـب
صفحة : 961
عروضه من الطويل. ويروي الربع الخلاء بعنبب أي الخالي. وعنبب: موضع، ويروي سقتك الغوادي من مراد . والمراد. الموقع الذي يرتاد فيرعى فيه الكلأ. والمراح: الموضع الذي تروح إليه المواشي وتبيت فيه وفي الحديث أنه رخص في الصلاة في مراح الغنم ونهى عنها في أعطان الأبل. والمعزب: الموضع الذي يعزب فيه الرجل عن البيوت والمنازل. وأصل العزوب: البعد يقال عزب عنه رأيه وحلمه أي بعد، والعزب مأخوذ من ذلك وهيدب السماء أطراف تراه في أذنابه كأنه معلق به. قال أوس بن حجر:
دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بـالـراح ويزعب: يطفح، يقال: زعبه السيل إذا ملأه . الشعر لنصيب يقوله في عبد العزيز بن مروان.
وفد نصيب على عبد العزيز بن مروان ومدحه فأجازه: أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني جميع بن علي النميري عن عبد الله بن عبد العزيز بن محجن بن النصيب، قال الزبير وكتب إلي بذلك عبد الله بن عبد العزيز يذكره عن عوضة بنت النصيب قالت: وفد أبي على عبد العزيز بن مروان بمصر، فوقف على الباب فاستأذن فلم يؤذن له. فأرسل إليه حاجبه فقال: استنشده، فإن كان شعره رديئا فاردده، وإن كان جيدا فأدخله. فقال نصيب: قد جلبنا شيئا للأمير، فإن قبله نشرناه عليه وإلا طويناه ورجعنا به. فقال عبد العزيز: إن هذا لكلام رجل ذهن، فأدخله. فلما واجهه أنشد قصيدته التي يقول فيها:
ألاهل أتى الصقر بن مروان أنـنـي أرد لدي الأبواب عنـه وأحـجـب
وأني ثويت اليوم والأمـس قـبـلـه على الباب حتى كادت الشمس تغرب
وأني إذا رمت الـدخـول تـردنـي مهابة قيس والرتاج الـمـضـبـب قال: وكان حاجب عبد العزيز يسمى قيسا. قال: وتشبيب هذه القصيدة:
ألا أيها الربع المقيم بـعـنـبـب سقتك السواقي من مراح ومعزب قال: فلما دخل على عبد العزيز أعجب بشعره وأوجهه ، وقال للفرزدق: كيف تسمع هذا الشعر? قال: حسن إلا من لغته. قال: هذا والله أشعر منك . قال: وقال نصيب فيها أيضا:
وأهلي بأرض نازحـون ومـا لـهـم كاسـب غـيري ولا مـتـقـلــب
فهل تلحقنـيهـم بـعـبـل مـواشـك على الأين من نجب ابن مروان أصهب
أبو بـكـرات إن أردت افـتـحـالـه وذو ثبتات بـالـرديفـين مـتـعـب فقال له عبد العزيز: ادخل على المهاري فخذ منها ما شئت، فلو كنت سألت غيره لأعطيته فدخل فرده الجمال. فقال عبد العزيز: دعه فإنما يأخذ الذي نعت، فأخذه.
قال الزبير وحدثني بعض أصحابنا عن محمد بن عبد العزيز قال: نزل عبد العزيز بن عبد الوهاب على المهدي بعنبب من وادي السراة الذي عنى نصيب بقوله:
ألا أيها الربع الخلاء بعنبب والمهدي هو الذي يقول فيه الشاعر:
اسلمي يا دار من هند بالسويقات إلى المهدي صوت له يجمع ثماني نغم وقد مدحه إسحاق صوت وهو يجمع من النغم ثمانيا:
يا من لقلب مقصـر ترك المنى لفواتهـا
وتظلف النفس التـي قد كان من حاجاتها
وطلابك الحاجات من سلمى ومن جاراتها
كتطرد العنس الذمو ل الفضل من مثناتها قوله: يا من لقلب مقصر تأسف على شبابه، ويدل على ذلك قوله:
وتظلف النفس التي قد كان من حاجاتها يقال:اظلف نفسك عن كذا أي أمنعها منه لئلا يكون لها أثر فيه. وهو مأخوذ من ظلف الأرض وهو المكان الذي لا أثر فيه. قال عوف بن الأحوص:
ألم أظلف عن الشعراء عرضي كما ظلف الوسيفة بالـكـراع الوسيقة: الجماعة من الأبل. يعني أنها تساق فلا يوجد لها أثر في الكراع، وهو منقطع الجبل. قال الشاعر:
أمست كراع الغميم موحـشة بعد الذي قد خلا، من العجب وقوله:
كتطرد العنس الذمو ل الفضل من مثناتها يقول: طلابك هذه الحاجات ضلال وتتابع كتطرد العنس وهي الناقة المذكرة الخلق الفضل من مثناتها. والتطرد: التتبع، ومثله قول الشاعر:
خبطت الصبا خبط البعير خطامه فلم أنتبه للشيب حتى عـلانـيا
صفحة : 962
الشعر لمسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس. والغناء لابن محرز ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وهذا الصوت يجمع من النغم ثمانيا، وكذلك ذكر إسحاق ووصف أنه لم يجمع شيء من الغناء قديمه وحديثه إلى عصره من النغم ما جمعه هذا الصوت، ووصف أنه لو تلطف متلطف لأن يجمع النغم العشر في صوت واحد لأمكنه ذلك، بعد أن يكون فهما بالصناعة طويل المعاناة لها وبعد أن يتعب نفسه في ذلك حتى يصح له. فلم يقدر على ذلك سوى عبيد الله بن عبد الله إلى وقتنا هذا.
ذكر مسافر ونسبه
نسبه وهو أحد السادات المعروفين بأزواد الركب: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، ويكنى أبا أمية. وقد تقدم نسبه وأنساب أهله. وأمه آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهي أم أبي معيط أبان بن عمرو بن أمية. وأبو معيط ومسافر أخوان لأب وأم، وهما أخوا عمومتهما أبي العاصي وأخويه من بني أمية الذين أمهم آمنة، لأن أبا عمرو تزوجها بعد أبيه. وكان سيدا جوادا، وهو أحد أزواد الركب، وإنما سموا بذلك لأنهم كانوا لا يدعون غريبا ولا مار طريق ولا محتاجا يجتاز بهم إلا أنزلوه وتكفلوا به حتى يظعن.
مناقضاته عمارة بن الوليد: وهو أحد شعراء قريش، وكان يناقض عمارة بن الوليد الذي أمر النجاشي السواحر فسحرته. فمن ذلك قول عمارة:
خلق البيض الحسان لـنـا وجـياد الـريط والأزر
كابرا كـنـا أحـق بـه حين صيغ الشمس والقمر وقال مسافر يرد عليه:
أعمار بن الولـيد وقـد يذكر الشاعر من ذكره
هل أخو كأس محققهـا وموق صحبه سكـرة
ومحييهم إذا شـربـوا ومقل فـيهـم هـذره
خلق البيض الحسان لنا وجياد الريط والحبـره
كابرا كنـا أحـق بـه كل حي تابـع آثـره خطب هندا بنت عتبة ولما تزوجت أبا سفيان مرض واعتل حتى مات: وله شعر ليس بالكثير. والأبيات التي فيها الغناء يقولها في هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان يهواها. فخطبها إلى أبيها بعد فراقها الفاكه بن المغيرة، فلم ترض ثروته وماله. فوفد على النعمان يستعينه على أمره ثم عاد، فكان أول ما لقيه أبو سفيان، فأعلمه بتزويجه من هند. فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن أبي سلمة عن هشام، قال ابن عمار وقد حدثناه ابن أبي سعد عن علي بن الصباح عن هشام، قال ابن عمار وحدثنيه علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه دخل حديث بعضهم في بعض: أن مسافر بن أبي عمرو بن أمية كان من فتيان قريش جمالا وشعرا وسخاء. قالوا: فعشق هندا بنت عتبة بن ربيعة وعشقته، فاتهم بها وحملت منه. قال بعض الرواة: فقال معروف بن خربوذ: فلما بان حملها أو كاد قالت له: اخرج، فخرج حتى أتى الحيرة، فأتى عمرو بن هند فكان ينادمه. وأقبل أبو سفيان بن حرب إلى الحيرة في بعض ما كان يأتيها، فلقي مسافرا، فسأله عن حال قريش والناس، فأخبره وقال له فيما يقول: وتزوجت هندا بنت عتبة. فدخله من ذلك ما اعتل معه حتى استسقى بطنه. قال ابن خربوذ: قال مسافر في ذلك:
ألا إن هندا أصبحت منك محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه يقلب بالكفين قوسا وأسهـمـا فدعا له عمرو بن هند الأطباء، فقالوا: لا دواء له إلا الكي. فقال له: ما ترى? قال: افعل. فدعا له الذي يعالجه فأحمى مكاويه، فلما صارت كالنار قال: ادع أقواما يمسكونه. فقال لهم مسافر: لست أحتاج إلى ذلك. فجعل يضع المكاوي عليه. فلما رأى صبره ضرط الطبيب، فقال مسافر:
قد يضرط العير والمكواة في النار لما مات رثاه أبو طالب: فجرت مثلا فلم يزده إلا ثقلا. فخرج يريد مكة. فلما انتهى إلى موضع يقال له هبالة مات فدفن بها، ونعي إلى قريش. فقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثيه:
ليت شعري مسافر بن أبي عم رو وليت يقولها المحـزون
رجع الركب سالمين جميعـا وخليلي في مرمس مدفـون
بورك الميت الغريب كما بـو رك نضر الريحان والزيتون
بيت صدق على هبالة قد حـا لت فياف من دونه وحـزون
صفحة : 963
مدرة يدفع الخصوم بـأيد وبوجه يزينه العـرنـين
كم خليل رزئته وابن عـم وحميم قضت عليه المنون
فتعزيت بالتأسي وبالصب ر وإني بصاحبي لضنين غنى في هذين البيتين يحيى المكي ثاني ثقيل بالوسطى من رواية ابنه والهشامي.
وأنشدنا الحرمي قال أنشدنا الزبير لأبي طالب بن عبد المطلب في مسافر بن أبي عمرو:
ألا إن خير الناس غـير مـدافـع بسرو سحيم غيبتـه الـمـقـابـر
تبكي أباهـا أم وهـب وقـد نـأى وريسان أمسـى دونـه ويحـابـر
على خير حاف من معد ونـاعـل إذا الخير يرجى أو إذا الشر حاضر
تنـادوا ولا أبـو أمـية فـيهــم لقد بلغت كظ النفوس الحنـاجـر قال وقال النوفلي: إن البيتين:
ألا إن هندا أصبحت منك محرما والذي بعده لهشام بن المغيرة، وكانت عنده أسماء بنت مخرمة النهشلية، فولدت له أبا جهل وأخاه الحارث، ثم غضب عليها فجعلها مثل ظهر أمه وكان أول ظهار كان فجعلته قريش طلاقا. فأرادت أسماء الانصراف إلى أهلها، فقال لها هشام: وأين الموعد? قالت: الموسم. فقال لها ابناها: أقيمي معنا فأقامت معهما. فقال المغيرة بن عبد الله وهو أبو زوجها: أما والله لأزوجنك غلاما ليس بدون هشام، فزوجها أبا ربيعة ولده الآخر، فولدت له عياشا وعبد الله. فذلك قول هشام:
تحدثنا أسماء أن سوف نلتقي أحاديث طسم ، إنما أنت حالم وقوله:
ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما قال النوفلي في خبره وحدثني أبي: أنه إنما كان مسافر خرج إلى النعمان بن المنذر يتعرض لإصابة مال ينكح به هندا، فأكرمه النعمان واستظرفه ونادمه وضرب عليه قبة من أدم حمراء. وكان الملك إذا فعل ذلك برجل عرف قدره منه ومكانه عنده. وقدم أبو سفيان بن حرب في بعض تجاراته، فسأله مسافر عن حال الناس بمكة، فذكر له أنه تزوج هندا؛ فاضطرب مسافر حتى مات. وقال بعض الناس: إنه استسقى بطنه فكوي فمات بهذا السبب. قال النوفلي: فهو أحد من قتله العشق.
خبر طلاق هند بنت عتبة من الفاكه بن المغيرة: فأما خبر هند وطلاق الفاكه بن المغيرة إياها، فأخبرني به أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني أبو السكين زكريا بن يحيى بن عمرو بن حصن بن حميد بن حارثة الطائي قال حدثني عمي زحر بن حصن عن جده حميد بن حارثة قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة بارز من البيوت يغشاه الناس من غير إذن. فخلا البيت ذات يوم، فاضطجع هو وهند فيه ثم نهض لبعض حاجته. وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها رجع هاربا، وأبصره الفاكه فأقبل إليها فضربها برجله وقال: من هذا الذي خرج من عندك ? قالت: ما رأيت أحدا ولا أنتبهت حتى أنبهتني. فقال لها: ارجعي إلى أمك. وتكلم الناس فيها، وقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك، فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله فتنقطع عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن. فقالت: لا والله ما هو علي بصادق. فقال له: يا فاكه، إنك قد رميت بنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج عتبة في جماعة من عبد مناف ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد وقالوا غدا نرد على الرجل تنكرت حال هند. فقال لها عتبة: إني أرى ما حل بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك.
صفحة : 964
قالت: لا والله يا أبتاه ما ذاك لمكروه، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون علي سبة. فقال لها: إني سوف أختبره لك، فصفر بفرسه حتى أدلى ، ثم أدخل في إحليله حبة بر وأوكأ عليها بسير. فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحر لهم. فلما قعدوا قال له عتبة: جئناك في أمر وقد خبأت لك خبئا أختبرك به فانظر ما هو? قال: ثمرة في كمرة . قال: إني أريد أبين من هذا. قال: حبة بر في إحليل مهر. قال: صدقت، أنظر في أمر هؤلاء النسوة. فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بيده على كتفها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فقال لها: انهضي غير رسحاء ولا زانية، ولتلدن ملكا يقال له معاوية. فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده وقالت: إليك عني فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان.
وقد قيل: إن بيتي مسافر بن أبي عمرو أعني:
ألا أن هندا أصبحت منك محرما لابن عجلان .
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن علي بن الحسن عن أبي نصر عن الأصمعي عن عبد الله بن أبي سلمة عن أيوب عن ابن سيرين قال: خرج عبد الله بن العجلان في الجاهلية فقال:
ألا إن هندا أصبحت منك محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما
فأصبحت كالمقمور جفن سلاحه يقلب بالكفين قوسا وأسهـمـا شعر لمسافر في الفخر: ثم مد بهما صوته فمات. قال ابن سيرين: فما سمعت أن أحدا مات عشقا غير هذا. ومما يغني فيه من شعر مسافر بن أبي عمرو وهو من جيد شعره قوله يفتخر: صوت
ألم نسق الحجيج ونن حر المذلاقة الرفدا
وزمزم من أرومتنـا ونفقأعين من حسدا
وإن مناقب الخـيرا ت لم نسبق بها عددا
فإن نهلك فلم نملـك وهل من خالد خلدا غناه ابن سريج رملا في الخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لسائب خاثر لحن من خفيف الثقيل الأول بالوسطى من رواية حماد. وفيه للزف ثقيل بالوسطى.
فأما خبر عمارة بن الوليد والسبب الذي من أجله أمر النجاشي السواحر فسحرته ما كان بين عمرو وعمارة لدى النجاشي: فإن الواقدي ذكره عن عبد الله بن جعفر بن أبي عون قال:
صفحة : 965
كان عمارة بن الوليد المخزومي بعدما مشت قريش بعمارة إلى أبي طالب خرج هو وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وكانا كلاهما تاجرين، إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووهجا، وكلاهما مشرك شاعر فاتك وهما في جاهليتهما، وكان عمارة معجبا بالنساء صاحب محادثة ؛ فركبا في السفينة ليالي فأصابا من خمر معهما. فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص: قبليني. فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك فقبلته. فحذر عمرو على زوجته فرصدها ورصدته، فجعل إذا شرب معه أقل عمرو من الشراب وأرق لنفسه بالماء مخافة أن يسكر فيغلبه عمارة على أهله. وجعل عمارة يراودها على نفسها فامتنعت منه. ثم إن عمرا جلس إلى ناحية السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر. فلما وقع فيه سبح حتى أخذ بالقلس فارتفع فظهر على السفينة. فقال له عمارة: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت. فاضطغنها عمرو وعلم أنه أراد قتله. فمضينا على وجههما ذلك حتى قدما أرض الحبشة ونزلاها. وكتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وجميع بني مخزوم. وذلك أنه خشي على أبيه أن يتبع بجريرته وهو يرصد لعمارة ما يرصد. فلما ورد الكتاب على العاص بن وائل مشى في رجال من قومه منهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج إلى بني المغيرة وغيرهم من بني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، وهما غير مأمونين على أنفسهما ولا ندري ما يكون. وإني أبرأ إليكما من عمرو ومن جريرته وقد خلعته. فقالت بنو المغيرة وبنو مخزوم: أنت تخاف عمرا على عمارة وقد خلعنا نحن عمارة وتبرأنا إليك من جريرته، فخل بين الرجلين. فقال السهميون : قد قبلنا، فابعثوا مناديا بمكة أنا قد خلعناهما. وتبرأ كل قوم من صاحبهم ومما جر عليهم، فبعثوا مناديا ينادي بمكة بذلك. فقال الأسود بن المطلب: بطل والله دم عمارة بن الوليد آخر الدهر . فلما اطمأنا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دب لامرأة النجاشي فأدخلته فاختلف إليها. فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره. فجعل عمرو يقول: ما أصدقك أنك قدرت على هذا الشأن، إن المرأة أرفع من ذلك. فلما أكثر على عمرو مما كان يخبره، وقد كان صدقه ولكن أحب التثبت، وكان عمرو يغيب عنه حتى يأتيه في السحر، وكان في منزل واحد معه، وجعل عمارة يدعوه إلى أن يشرب معه فيأبى عمرو ويقول: إن هذا يشغلك عن مدخلك، وكان عمرو يريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشي. فقال له في بعض ما يذكر له من أمرها: إن كنت صادقا فقل لها تدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره فإني أعرفه، لو أتيتني به لصدقتك. ففعل عمارة فجاء بقارورة من دهنه، فلما شمه عرفه. فقال له عمرو عند ذلك: أنت صادق لقد أصبت شيئا ما أصاب أحد مثله قط من العرب ونلت من امرأة الملك شيئا ما سمعنا بمثل هذا وكانوا أهل جاهلية ثم سكت عنه، حتى إذا اطمأن دخل على النجاشي فقال: أيها الملك إن ابن عمي سفيه، وقد خشيت أن يعرني عندك أمره، وقد أردت أن أعلمك شأنه ولم أفعل حتى استثبت أنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر. وهذا من دهنك قد أعطيه ودهنني منه. فلما شم النجاشي الدهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لايكون إلا عند نسائي. ثم دعا بعمارة ودعا بالسواحر، فجردوه من ثيابه فنفخن في إحليله، ثم خلى سبيله فخرج هاربا. فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب. فخرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة وكان اسمه قبل أن يسلم بحيرا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله فرصده على ماء بأرض الحبشة، وكان يرده مع الوحش، فورد، فلما وجد ريح الإنس هرب، حتى إذا أجهده العطش ورد فشرب حتى تملأ وخرجوا في طلبه. فقال عبد الله بن أبي ربيعة: فسعيت إليه فالتزمته، فجعل يقول لي: يا بحير أرسلني يا بحير أرسلني إني أموت إن أمسكتموني. قال عبد الله: وضغطته فمات في يدي مكانه. فواراه ثم انصرف. وكان شعره قد غطى على كل شيء منه.
قال الواقدي عن ابن أبي الزناد: وقال عمرو لعمارة: يا فائد، إن كنت تحب أن أصدقك بهذا أو أقبله منك فأتني بثوبين أصفرين. فلما رأى النجاشي الثوبين قال له عمرو: أتعرف الثوبين? قال نعم.
صفحة : 966
وقال الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبيه، قال النجاشي لعمارة: إني أكره أن أقتل قرشيا، ولو قتلت قرشيا لقتلتك، فدعا بالسواحر.
شعر عمرو بن العاص في عمارة: فقال عمرو بن العاص يذكر عمارة وما صنع به قال الواقدي أخبرني ابن أبي الزناد أنه سمع ذلك من ابن ابنه عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو يذكر لحده:
تعلم عمار أن من شـر شـيمة لمثلك أن يدعى ابن عم له ابنما
وإن كنت ذا بردين أحوى مرجلا فلست براع لابن عمك محرمـا
إذا المرء لم يترك طعاما يحبـه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمـمـا
قضى وطرا منه يسيرا وأصبحت إذا ذكرت أمثالها تملأ الفـمـا
فليس الفتى ولو أتمت عـروقـه بذي كرم إلا بـأن يتـكـرمـا
صحبت من الأمر الرفيق طريقه ووليت غي الأمر من قد تلومـا
من الآن فانزع عن مطاعم جمة وعالج أمور المجد لا تتنـدمـا شعر خولة بنت ثابت في عمارة: قال إسحاق وحدثني الأصمعي: أن خولة بنت ثابت أخت حسان قالت في عمارة لما سحر:
يا ليلتـي لـم أنـم ولـم أكـد أقطعها بالبكـاء والـسـهـد
أبكي على فـتـية رزئتـهـم كانوا جبالي فأوهنوا عضـدي
كانوا جمالي ونصرتي وبهـم أمنع ضيمي وكل مضطهـد
فبعدهم أرقب الـنـجـوم وأذ ري الدمع والحزن والج كبدي قال الأصمعي واجتاز ابن سريج بطويس ومعه فتية من قريش وهو يغنيهم في هذا الصوت، فوقف حتى سمعه، ثم أقبل عليهم فقال: هذا والله سيد من غناه.
هذه الأصوات التي ذكرتها الجامعة للنغم العشر والثماني النغم منها هي المشهورة المعروفة عند الرواة وفي روايات الرواة وعند المغنين.
كان عبيد الله يراسل المعتضد على لسان جواريه: وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يراسل المعتضد بالله إذا استزار جواريه على ألسنتهم ومع ذوي الأنس عنده من رسله: مع أحمد بن الطيب وثابت بن قرة الطائي، يذكر النغم وتفصيل مجاريها ومعانيها حتى فهم ذلك. فصنع لحنا فجمع النغم العشر في قول دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع كان المكتفي يراسله في الغناء: وصنع صنعة متقنة جيدة، منها ما سمعناه من المحسنين والمحسنات ومنها ما لم نسمعه، يكون مبلغها نحو خمسين صوتا. وقد ذكرت من ذلك ما صلح في أغاني الخلفاء. ثم صنع مثل ذلك للمكتفي بالله لرغبته في هذه الصناعة. فوجدت رقعة بخطه كتب بها إلى المكتفي نسختها: قال إسحاق بن إبراهيم حين صاغ عند أبي العباس عبد الله بن طاهر بأمره لحنه في:
يوم تـبـدي لـنـا قـتـيلة عـــن جـــي د تــلـــيع تـــزينـــه الأطـــواق
وشتيت كالأقحوان جلاه الطل فيه عذوبة واتساق إني نظرت مع إبراهيم وتصفحت غناء العرب كله، فلم نجد في جميع غناء العرب صوتا أطول إيقاعا من:
عادك الهـم لـيلة الإيجـاف من غزال مخضب الأطراف ولحنه خفيف ثقيل لابن محرز؛ فإن إيقاعة ستة وخمسون دورا. ثم لحن معبد:
هريرة ودعها وإن لام لائم غداة غد أم أنت للبين واجم وهو أحد سبعته . ولحنه خفيف ثقيل، ودور إيقاعه ستة وخمسون دورا، إلا أن صوت ابن محرز سداسي في العروض من الخفيف، وصوت معبد ثماني من الطويل؛ فصوت ابن محرز أعجب لأنه أقصر. وما زلنا حتى تهيأ لنا شعر رباعي في سيدنا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، دور إيقاعه ستة وخمسون دورا، وهو يجمع من النغم العشر ثمانيا؛ وهذا ظريف جدا بديع لم يكن مثله. وأما الصوت الذي في تهنئة النوروز فلأنفسنا عملناه؛ إذ لم يكن لنا من يدبر مثل هذا معه غيره. وقد كتبنا شعره وشعر الآخر، وإيقاع كل واحد منهما خفيف ثقيل، والصنعة فيهما تستظرف:
جمع الخلائف كلهم لجمـيع مـا بلغوا وأعطوا في الإمام المكتفي
وله الهـدايا ألـف نـوروز وه ذا الشعر منها لحنه لم يعـرف والآخر:
دولة المكتفي الخلي فة تفنى مدى الدول
يوم عيد ويوم عـر س فما بعدها أمل
صفحة : 967
الصنعة في البيت الأول خاصة تدور على ستة وخمسين إيقاعا.
هكذا وجدت في الرقعة بخط عبيد الله. وما سمعت أحدا يغني هذين الصوتين. وقد عرضتهما على غير واحد من المتقدمين ومن مغنيات القصور فما عرفهما أحد منهن. وذكرتهما في الكتاب لأن شريطته توجب ذكرهما.
الأرمال الثلاثة المختارة
الأرمال المختارة والكلام عنها: أخبرني يحيى بن علي ومحمد بن خلف وكيع والحسين بن يحيى قالوا حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي، قال أبو أحمد رحمه الله وأخبرني أبي أيضا عن إسحاق، وأخبرنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبيد الله بن خرداذبة قال قال إسحاق: أجمع العلماء بالغناء أن أحسن رمل غني رمل:
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ثم رمل:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ولو عاش ابن سريج حتى يسمع لحني الرمل:
لعلك إن طالت حياتك أن ترى لاستحيا أن يصنع بعده شيئا. وفي روايتي وكيع وعلي بن يحيى ولعلم أني نعم الشاهد له.
نسبة الأصوات وأخبارها: صوت الصوت الأول من هذه الأرمال في شعر ابن أبي ربيعة:
فلم أر كالتجمير منـظـر نـاظـر ولا كليالي الحج أفلتـن ذا هـوى
فكم من قـتـيل مـا يبـاء بـه دم ومن غلق رهنا إذا لـفـه مـنـى
ومن مالئ عينيه من شـيء غـيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
يسحبن أذيال الـمـروط بـأسـؤق خدال وأعجاز مـآكـمـهـا روا عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج رمل بالبنصر. وقد كان علويه فيما بلغنا صنع فيه رملا، وفي أفاطم مهلا خفيف رمل، وفي لعلك إن طالت حياتك رملا آخر، ولم يصنع شيئا وسقطت ألحانه فيها فما تكاد تعرف. وهذه الأبيات يقولها عمر بن أبي ربيعة في بنت مروان بن الحكم.
ابن أبي ربيعة وأم عمرو بنت مروان
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا ابن كناسة عن أبي بكر بن عياش قال: حجت أم عمرو بنت مروان، فلما قضت نسكها أتت عمر بن أبي ربيعة وقد أخفت نفسها في نساء معها، فحادثته ثم انصرفت، وعادت إليه منصرفها من عرفات وقد أثبتها. فقالت له: لا تذكرني في شعرك، وبعثت إليه بألف دينار. فقبلها واشترى بها ثيابا من ثياب اليمن وطيبا فأهداه إليها فردته. فقال: إذا والله أنهبه الناس فيكون مشهورا؛ فقبلته. وقال فيها:
أيها الرائح المجد ابـتـكـارا قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه الغـداة خـلـيا ففؤادي بالخيف أمسى مطارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا كل يومين حجة واعتـمـارا قال ابن كناسة قال ابن عياش: فلما وجهت منصرفة قال فيها:
فكم من قتيل ما يباء بـه دم ومن غلق رهنا إذا لفه منى قال: ويروى ومن غلق رهن كأنه قال ومن رهن غلق؛ لا يجعل من نعت الرهن. كأنه جعل الإنسان غلقا وجعله رهنا؛ كما يقال: كم من عاشق مدنف، ومن كلف صب.
قال الزبير وحدثني مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب عن أبيه قال: أنشده ابن أبي عتيق فقال: إن في نفس الجمل ما ليس في نفس الجمال.
قال: وقال عبد الله بن عمر، وقد أنشده عمر بن أبي ربيعة شعره هذا: يابن أخي أما اتقيت الله حيث تقول:
ليت ذا الدهر كان حتما علينا كل يومين حجة واعتمـارا فقال له عمر بن أبي ربيعة: بأبي أنت وأمي إني وضعت ليتا حيث لا تغنى.
أمر عمر بن عبد العزيز بنفيه ثم خلاه لما تاب: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، وأخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن عبد الله عن إسحاق، وأخبرني ببعض هذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا مصعب بن عثمان: أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص. فكتب إلى عامله على المدينة: قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر. فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما واحملهما إلي. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه. فأقبل على عمر فقال له هيه
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
صفحة : 968
وكم ماليء عينيه من شـيء غـيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك ثم أمر بنفيه. فقال يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك? قال: وما هو? قال: أعاهد الله ألا أعود إلى مثل هذا الشعر ولا أذكر النساء في شعر أبدا وأجدد توبة على يديك. قال: أو تفعل? قال نعم. فعاهد الله على توبة وخلاه. ثم دعا بالأحوص فقال هيه نفى الأحوص ولم يطلقه إلا يزيد بن عبد الملك:
الله بيني وبين قيمهـا يهرب مني بها وأتبع با الله بين قيمها وبينك ثم أمر بنفيه إلى بيش ، وقيل إلى دهلك وهو الصحيح، فنفي إليها، فلم يزل بها. فرحل إلى عمر عدة من الأنصار فكلموه في أمره وسألوه أن يقدمه وقالوا له: قد عرفت نسبه وقدمه وموضعه وقد أخرج إلى بلاد الشرك، فنطلب إليك أن ترده إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار قومه. فقال لهم عمر: من الذي يقول:
فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أحير - وفي رواية الزبير أجيب مكان أخير قالوا: الأحوص . قال: فمن الذي يقول:
أدور ولولا أن أرى أم جعفـر بأبياتكم ما درت حـيث أدور
وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى إذا لم يزر لا بد أن سـيزور قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:
كأن لبنى صبير غـادية أو دمية زينت بها البيع
الله بيني وبين قيمـهـا يهرب مني بها وأتبـع قالوا: الأحوص. قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول، والله لا أرده ما كان لي سلطان. فمكث هناك بعد ولاية عمر صادرا من ولاية يزيد بن عبد الملك ثم خلاه.
قال: وكتب إلى عمر بن عبد العزيز من موضعه قال الزبير: أنشدنيها عبد الملك بن عبد العزيز ابن بنت الماجشون قال أنشدنيها يوسف بن الماجشون يعني هذه الأبيات:
أيا راكبا إما عرضت فـبـلـغـن هديت أمير المؤمنين رسـائلـي
وقل لأبي حفص إذا ما لـقـيتـه لقد كنت نفاعا قلـيل الـغـوائل
أفي الله أن تدنوا ابن حزم وتقطعوا قوى حرمات بينـنـا ووصـائل
فكيف ترى للعيش طـيبـا ولـذة وخالك أمسى موثقا في الحبـائل
وما طمع الحزمي في الجاه قبلهـا إلى أحد من آل مـروان عـادل
وشى وأطاعـوه بـنـا وأعـانـه على أمرنا من ليس عنا بغـافـل
وكنت أرى أن القـرابة لـم تـدع ولا الحرمات في العصور الأوائل
إلى أحد من آل مروان ذي حجـى بأمر كرهنـاه مـقـالا لـقـائل
يسر بما أنـهـى الـعـدو وإنـه كنافلة لي من خيار الـنـوافـل
فهل ينقصني القوم أن كنت مسلما بريئا بـلائي فـي لـيال قـلائل
ألا رب مسرور بنا سـيغـيظـه لدي غب أمر عضه بـالأنـامـل
رجا الصلح مني آل حزم بن فرتنى على دينهم جهلا ولست بفـاعـل
ألا قد يرجون الهـوان فـإنـهـم بنو حبق ناء عن الـخـير فـائل
على حين حل القول بي وتنظـرت عقوبتهم مني رؤوس الـقـبـائل
فمن يك أمسى سائلا بـشـمـاتة بما حل بي أو شامتا غـير سـائل
فقد عجمت مني العواجم ما جـدا صبورا على عضات تلك التلاتـل
إذا نال لم يفرح ولـيس لـنـكـبة إذا حدثت بالخاضع المتـضـائل قال الزبير: وقال الأحوص أيضا:
هل أنت أمير المؤمنين فإنني بودك من ود العباد لقـانـع
متمم أجر قد مضى وصنـيعة لكم عندنا أو ما تعد الصنـائع
فكم من عدو سائل ذي كشاحة ومنتظر بالغيب ما أنت صانع فلم يغن عنه ذلك ولم يخل سبيل عمر، حتى ولي يزيد بن عبد الملك فأقدمه وقد غنته حبابة بصوت في شعره.
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال قال هشام بن حسان:
صفحة : 969
كان السبب في رد يزيد بن عبد الملك الأحوص أن جميلة غنته يوما:
كريم قريش حين ينسب والذي أقرت له بالملك كهلا وأمردا فطرب يزيد وقال: ويحك من كريم قريش هذا? قالت: أنت يا أمير المؤمنين، ومن عسى أن يكون ذلك غيرك قال: ومن قائل هذا الشعر في? قالت: الأحوص وهو منفي. فكتب برده وحمله إليه وأنفذ إليه صلات سنية. فلما قدم إليه أدناه وقربه وأكرمه. وقال له يوما في مجلس حافل: والله لو لم تمت إلينا بحق ولا صهر ولا رحم إلا بقولك:
وإني لأستحـييكـم أن يقـودنـي إلى غيركم من سائر الناس مطمع لكفاك ذلك عندنا. قال: ولم يزل ينادمه وينافس به حتى مات. وأخبار الأحوص في هذا السبب وغيره قد مضت مشروحة في أول ما مضى من ذكره وأخباره؛ لأن الغرض ها هنا ذكر بقية خبره مع عمر بن أبي ربيعة في الشعرين اللذين أنكرهما عليهما عمر بن عبد العزيز وأشخصا من أجلهما.
سليمان بن عبد الملك ونفيه ابن أبي ربيعة إلى الطائف: أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن زهير قال: مصعب بن عبد الله قال: حج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: ألست القائل:
فكم من قـتـيل مـا يبـاء بـه دم ومن غلق رهنا إذا لـفـه مـنـى
ومن مالئ عينيه من شـيء غـيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
يسحبن أذيال الـمـروط بـأسـؤق خدال وأعجاز مـآكـمـهـا روا
أوانس يسلـبـن الـحـلـيم فـؤاده فيا طول ما شوق ويا طول مجتلى قال نعم. قال لا جرم والله لا تحضر الحج العام مع الناس فأخرجه إلى الطائف.
ابن أبي عتيق وغناء ابن سريج
أخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي حدثني أبن الكلبي عن أبي مسكين وعن صالح بن حسان قال: قدم ابن أبي عتيق إلى مكة فسمع غناء ابن سريج:
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى فقال: ما سمعت كاليوم قط، وما كنت أحسب أن مثل هذا بمكة، وأمر له بمال وحدره معه إلى المدينة، وقال: لأصغرن إلى معبد نفسه ولأهدين إلى المدينة شيئا لم ير أهلها مثله حسنا وظرفا وطيب مجلس ودماثة خلق ورقة منظر ومقة عند كل أحد. فقدم به المدينة وجمع بينه وبين معبد. فقال لابن سريج: ما تقول فيه? قال: إن عاش كان مغني بلاده.
أبو السائب وابن سريج
وقال إسحاق وحدثني المدائني عن جرير قال: قال لي أبو السائب يوما ما معك من مرقصات ابن سريج? فغنيته:
فلم أر كالتجمير منظر ناظر فقال: كما أنت حتى أنحرم لهذا بركعتين.
الوليد بن عبد الملك يأمر والي المدينة أن يشخص إليه ابن سريج: حدثني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي وحدثني أبو عبد الله الزبيري قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلي ابن سريج. فورد الرسول إلى الوالي، فمر في بعض طريقه على ابن سريج وهو جالس بين قرني بئر وهو يغني:
فلم أر كالتجمير منظر ناظر فقال له الرسول: تالله ما رأيت كاليوم قط ولا رأيت أحمق ممن يتركك ويبعث إلى غيرك. فقال له ابن سريج: أما والله ما هو بقدم ولا ساق، ولكنه بقسم وأرزاق. ثم مضى الرسول فأوصل الكتاب، وبعث الولي إلى ابن سريج فأحضره. فلما رآه الرسول قال: قد عجبت أن يكون المطلوب غيرك.
عبد الله بن الزبير يعجب لسماع غناء ابن سريج: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال رقي عبد الله بن أبا قبيس ليلا، فسمع غناء فنزل هو وأصحابه يتعجبون وقال: لقد سمعت صوتا إن كان من الإنس إنه لعجب، وإن كان من الجن لقد أعطوا شيئا كثيرا. فاتبعوا الصوت فإذا ابن سريج يتغنى في شعر عمر:
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ومن هذه الأرمال الثلاثة:
ثاني الأرمال الثلاثة
في شعر امرئ القيس:
صوت
أفاطم مهلا بعـض هـذا الـتـدلـل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك منـي أن حـبـك قـاتـلـي وإنك مهما تأمري القلـب يفـعـل
صفحة : 970
الشعر لامرئ القيس. والغناء في هذين البيتين من الرمل المختار لإسحاق بالبنصر. وفي هذين البيتين مع أبيات أخرى من هذه القصيدة ألحان شتى لجماعة نذكرها ها هنا ومن غنى فيها، ثم نتبع ما يحتاج إلى ذكره منها، وقد يجمع سائر ما يغنى فيه من القصيدة معه: شيء من معلقته وشرحه
قفا نبك من ذكرى حبـيب ومـنـزل بسقط اللوى بين الدخول فحـومـل
فتوضخ فالمقراة لمن يعف رسمـهـا لما نسجتها من جـنـوب وشـمـأل
أفاطم مهلا بعـض هـذا الـتـدلـل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن كنت قد ساءتك منـي خـلـيفة فسلي ثيابي من ثـيابـك تـنـسـل
أغرك منـي أن حـبـك قـاتـلـي وإنك مهما تأمري القلـب يفـعـل
وما ذرفت عيناك إلا لـتـضـربـي بسهميك في أعشار قلب مـقـتـل
تسلت عمايات الرجال عن الـصـبـا وليس فؤادي عن هواك بمنـسـلـي
ألا أيها الليل الـطـويل ألا انـجـل بصبح وما الإصباح فيك بـأمـثـل
وبـيض خـدر لا يرام خـبـاؤهـا تمتعت من لهو بها غير مـعـجـل
تجاوزت أحراسا إليهـا ومـعـشـرا علي حراصا لو يسرون مقـتـلـي
ألا رب يوم صالح لـك مـنـهـمـا ولا سـيمـا يوم بـدارة جـلـجـل
ويوم عقرت للعـذارى مـطـيتـي فواعجبي من رحلها المـتـحـمـل
وقد أغتدي والطير في وكـنـاتـهـا بمنـجـرد قـيد الأوابـد هـيكـل
مكر مفر مقـبـل مـدبـر مـعـا كجملود صخر حطه السيل من عـل
فقلت لها سيري وأرخـي زمـامـه ولا تبعدين من جنـاك الـمـعـلـل عروضه من الطويل. وسقط اللوى منقطعه. واللوى: المستدق من الرمل حيث يستدق فيخرج منه إلى اللوى.
والدخول وحومل وتوضح والمقراة: مواضع ما بين إمرة إلى أسود العين. وقال أبو عبيدة في سقط اللوى وسقط الولد وسقط النار سقط وسقط وسقط ثلاث لغات. وقال أبو زيد: اللوى: أرض تكون بين الحزن والرمل فصلا بينهما. وقال الأصمعي: قوله بين الدخول فحومل خطأ ولا يجوز إلا بواو وحومل؛ لأنه لا يجوز أن يقال: رأيت فلانا بين زيد فعمرو، إنما يقال وعمرو؛ ويقال: رأيت زيدا فعمرا إذا رأى كل واحد منهما بعد صاحبه. وقال غيره: يجوز فحومل كما يقال: مطرنا بين الكوفة فالبصرة، كأنه قال: من الكوفة إلى البصرة، يريد أن المطر لم يتجاوز ما بين هاتين الناحيتين؛ وليس هذا مثل بين زيد فعمرو. ويعف رسمها: يدرس. ونسجتها: ضربتها مقبلة و مدبرة فعفتها. يعني أن الجنوب تعفي هذا الرسم إذا هبت وتجيء الشمأل فتكشفه. وقال غير أبي عبيدة: المقراة ليس اسم موضع إنما هو الحوض الذي يجمع فيه الماء. والرسم: الأثر الذي لا شخص له. ويروي لما نسجته يعني الرسم. ويقال عفا يعفو عفوا وعفاء؛ قال الشاعر:
على أثار من ذهب العفاء يعني محو الأثر. وفاطمة التي خاطبها فقال أفاطم مهلا بنت العبيد بن ثعلبة بن عامر بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة، وهي التي يقول فيها:
لا وأبيك ابنة العامري وأزمعت صرمي، يقال أزمعت وأجمعت وعزمت وكله سواء. يقول: إن كنت عزمت على الهجر فأجملي. ويقول الأسير: أجملوا في قتلي، قتلة أحسن من هذه، أي على رفق وجميل. والصرم: القطيعة والصرم المصدر؛ يقال: صرمته أصرمه صرما مفتوح إذا قطعته، ومنه سيف صارم أي قاطع، ومنه الصرام ، ومنه الصرائم وهي القطع من الرمل تنقطع من معظمه. قوله: سلي ثيابي من ثيابك كناية، أي اقطعي أمري من أمرك. وقوله تنسل: تبني عنها ويقال للسن إذا بانت فسقطت والنصل إذا سقط: نسل ينسل، وهو النسيل والنسال.
وقال قوم: الثياب: القلب. وقوله: وما ذرفت عيناك أي ما بكيت إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل. قال الأصمعي: يعني أنك ما بكيت إلا لتخرقي قلبا معشرا، أي مكسرا شبهه بالبرمة إذا كانت قطعا، ويقال: برمة أعشار. قال: ولم أسمع للأعشار واحدا. يقول: لتضربي بسهميك أي بعينيك فتجعلي قلبي مخرقا فاسدا كما يخرق الجابر أعشار البرمة؛ فالبرمة تنجبر إذا أخرقت وأصلحت، والقلب لا ينجبر. قال: ومثله قوله:
رمتك أبنة البكري عن فرع ضالة
صفحة : 971
أي نظرت إليك فأفرحت قلبك. وقال غير الأصمعي وهو قول الكوفيين: إنما هذا مثل أعشار الجزور وهي تنقسم على عشر انصباء، فضربت فيها بسهميك المعلي وله سبعة انصباء والرقيب وله ثلاثة انصباء، فأراد أنها ذهبت بقلبه كله. مقتل أي مذلل، يقال بعير مقتل أي مذلل، تسلت: ذهبت. يقال: سلوت عنه وسليت عنه إذا طابت نفسك بتركه. وقال: رؤية:
لو أشرب السلوان ما سليت والعمايات: الجهالات. عد الجهل عمي. والصبا: اللعب. قال ابن السكيت: صبا يصبو صبوا وصبو وصباء وصبا. انجل: انكشف. والأمر الجلي المنكشف. وقوله: أنا ابن جلا أي أنا ابن المكشوف الأمر المشهور غير المستور، ومنه جلاء العروس وجلاء السيف. وقوله فيك بأمثل يقول: إذا جاءني الصباح وأنا فيك فليس ذلك بأمثل لأن الصبح قد يجيء والليل مظلم بعد. يقول: ليس الصبح بأمثل وهو فيك، أي يريد أن يجيء منكشفا منجليا لا سواد فيه ولو أراد أن الصباح فيك أمثل من الليل لقال: منك بأمثل ومثله قول حميد بن ثور في ذكر مجيء الصبح والليل باق:
فلما تجلى الصبح عنها وأبصـرت وفي غبش الليل الشخوص الأباعد غبش الليل: بقيته. هذا قول يعقوب بن السكيت. وبيضة خدر شبه المرأة بالبيضة لصفائها ورقتها. غير معجل أي لم يعجلني أحد عما أريده منها. والخباء: ما كان على عمودين أو ثلاثة. البيت: ما كان على ستة أعمدة إلى تسعة. والخيمة: من الشعر. وقوله: يسرون مقتلي قال الأصمعي: يسرون، وروى غيره: يشرون بالشين المعجمة أي يظهرونه، وقال الشاعر:
فما برحوا حتى أتى الله نصره وحتى أشرت بالأكف الأصابع أي أظهرت. وقال غيرهما: لو يسرون من الإسرار أي لويستطيعون قتلي لأسروه من الناس وقتلوني. قال أبو عبيدة: دارة جلجل في الحمى، وقال ابن الكلبي: هي عند عين كندة. ويروى سيما مخففا وسيما مشدده ويقال: رب رجل ورب رجل وربت رجل. ومن القراء من يقرأ ربما يود الذين كفروا مخففة. وقرأ عليه رجل ربما فقال له: أظنك يعجبك الرب .
ويروى:
فيا عجبا من رحلها المحتمل أي يا عجبا لسفه وسبابي يومئذ ويروي:
وقد أغتدي والطير في وكراتها بالراء. قال أبو عبيدة: والأكنات في الجبال كالتماريد في السهل، والواحدة أكنة وهي الوقنات، والواحدة أقنة، وقد وقن يقن. وقال الأصمعي: إذا أوى الطير إلى وكره قيل وكر يكر ووكن يكن، ويقال: إنه جاءنا والطير وكن ما خرجنا. والمنجرد: القصير الشعرة، وذلك من العتق. والأوابد: الوحش، وتأبدت: توحشت، وتأبد الموضع إذا توحش وقيد الأوابد: يعني الفرس. يقول: هو قيد لها لأنها لا تفوته كأنها مقيدة. والهيكل: العظيم من الخيل ومن الشجر؛ ومنه سمي بيت النصارى الهيكل. وقال أبو عبيدة يقال: قيد الأوابد وقيد الرهن، وهو الذي كأن طريدة في قيد له إذا طلبها، وكأن مسابقه في الرهان مقيد. قال أبو عبيدة: وأول من قيدها: امرئ القيس. والمنجرد: القصير الشعرة الصافي الأديم. والهيكل الذكر، والأنثى هيكلة، والجمع هياكل وهو العظيم العبل الكثيف اللين. وقوله مكر مفر يقول: إذا شئت أن أكر عليه وجدته، وكذلك إذا أردت أن أفر عليه أو أقبل أو أدبر. والجلمود الصخرة. ووصفها بأن السيل حطها من عل لأنها إذا كانت في أعلى الجبل كان أصلب لها. من عل: من فوق.
ويقال من عل عل ومن علوا ومن عال ومن علو ومن معال. وقوله سيري وأرخي زمامه أي هوني عليك الأمر ولا تبالي اعقر أم سلم. وجناك كل شيء اجتنيتيه من قبلة وما أشبه ذلك من الجنى، وهو من الإنسان مثل الجنى من الشجر أي ما أجتني من ثمره. هو المعلل: الملهي.
غنى في قفا نبك، وأفاطم مهلا، وأغرك و وما ذرفت عيناك معبد لحنا من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى. وغنى معبد أيضا في الأول من هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى وغنى سعيد بن جابر في الأربعة الأبيات رملا وغنت عريب في:
أغرك مني أن حبك قاتلي وبعده شعر ليس منه وهو:
فلا تحرجي من سفك مهجة عاشق بلى فاقتلي ثم اقتلي ثم فاقتـلـي
فلا تدعي أن تفعلـي مـا أردتـه بنا، ما أراك الله من ذاك فافعلـي
صفحة : 972
ولحنها فيها خفيف رمل. وغنى ابن محرز في تسلت عمايات الرجال وبعده ألا أيها الليل الطويل ثاني ثقيل بالوسطى. وغنى فيهما عبد الله بن العباس الربيعي ثاني ثقيل آخر بالسبابة في مجرى البنصر. وغنت جميلة تسلت عمايات الرجال وبعده ألا رب يوم لك لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي. وغنت عزة الميلاء في تسلت عاميات الرجال وبعده ويوم عقرت للعذارى مطيتي ثقيلا أول عن الهشامي. وغنت حميدة جارية ابن تفاحة في وبيضة خدر وتجاوزت أحراسا لحنا من الثقيل الأول بالوسطى. ولطويس في قفا نبك وبعده فتوضح فالمقراة ثقيل أول أخر. وفي وأفاطم مهلا و أغرك مني أن حبك قاتلي ليزيد بن الرحال هزج. ولأبي عيسى بن الرشيد في وقد أغتدي و مكر مفر أول ثقيل. ولفليح في قفا نبك وبعده أغرك مني رمل.
وقيل: إن لمعبد في وبيضة خدر لحنا من الثقيل ألاول، وقيل: هو لحن حميدة. ولعريب في هذين البيتين خفيف ثقيل، من رواية أبي العبيس. وغنى سلام بن الغسال وقيل بل عبيدة أخوه في وقد كنت قد ساءتك مني و أغرك مني رملا بالوسطى. وغنى في فقلت لها سيري وأرخي زمامه سعدويه بالنصر ثاني ثقيل. وغنى في قفا نبك وبعده فتوضح فالمقراة إبراهيم الموصلي فقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن ابن المكي. وزعم حبش إن لإسحاق فيهما ثقيلا. وغنى في أغرك مني و وما ذرفت ابن سريج خفيف رمل بالوسطى من رواية ابن المكي، وقيل: بل هو من منحوله. وغنى بديح مولى ابن جعفر فيه وما ذرفت عيناك بيتا واحدا ثقيلا أول مطلقا في مجرى الوسطى عن ابن المكي. فجميع ما جمع في هذه المواضع مما وجد في شعر فقا نبك من الأغاني صحيحها والمشكوك فيه منها اثنان وعشرون لحنا: منها في الثقيل الأول تسعة أصوات، وفي الثقيل الثاني ثلاثة أصوات، وفي الرمل أربعة أصوات، وفي خفيف الرمل صوتان، وفي الهزج صوت، وفي خفيف الثقيل ثلاثة أصوات.
ذكر أمرئ القيس ونسبه وأخباره
نسبه من قبل أبويه: قال الأصمعي: هو أمرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمر وبن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور وهو كندة. وقال ابن الأعرابي: هو أمرؤ القيس بن حجر بن عمرو ابن معاوية بن الحارث بن ثور وهو كندة. وقال محمد بن حبيب: هو أمرؤ القيس بن حجر بن الحارث الملك بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة. وقال بعض الرواة: هو أمرؤ القيس بن السمط بن أمرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور وهو كندة. وقالوا جميعا: كندة هو كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نو ح. وقال ابن الأعرابي: ثور هو كندة بن مرتع بن عفير بن الحارث بن مرة بن عدي بن أدد ابن زيد بن عمرو بن مسمع بن عريب بن عمرو بن زيد بن كهلال.
وأم أمرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين. وقال من زعم أنه أمرؤ القيس بن السمط: أمه تملك بنت عمرو بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب.
قال من ذكر هذا وأمه تملك: قد ذكر ذلك امرؤ القيس في شعره فقال:
ألا هل أتاها والحوادث جـمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا بيقر أي جاء العراق والحضر. ويقال: بيقر الرجل إذا هاجر. وقال يعقوب بن السكيت: أم حجر أبي امرئ القيس أم قطام بنت سلمى امرأة من عنزة .
كنيته ولقبه: ويكنى امرؤ القيس، على ما ذكره أبو عبيدة، أبا الحارث. وقال غيره: يكنى أبا وهب. وكان يقال له الملك الضليل، وقيل له أيضا ذو القروح وإياها عنى الفرزدق بقوله:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو زيد وذو القروح و جـرول يعني بأبي يزيد المخبل السعدي، وجرول الحطيئة.
مولده ومنزله: قال: وولد ببلاد بني أسد. وقال ابن حبيب:كان ينزل المشقر من اليمامة. ويقال:بل كان ينزل في حصن بالبحرين.
سبب تسمية آبائه بأسمائهم
صفحة : 973
وقال جميع من ذكرنا من الرواة: إنما سمي كندة لأنه كند أباه أي عقه. وسمي مرتع بذلك لأنه كن يجعل لمن أتاه من قومه مرتعا له ولماشيته. وسمي حجر آكل المرار بذلك لأنه لما أتاه الخبر بأن الحارث بن جبلة كان نائما في حجر امرأته هند وهي تفليه جعل يأكل المرار وهو نبت شديد المرارة من الغيظ وهو لا يدري. ويقال: بل قلت هند للحارث وقد سألها: ما ترين حجرا فاعلا? قالت: كأنك به قد أدركك الخيل وهو كأنه بعير قد أكل المرار.
قال: وسمي عمرو المقصور لأنه قد قصر على ملك أبيه أي أقعد فيه كرها.
قصة جده الحارث بن عمرو مع قباذ وابنه أنوشروان: أخبرني بخبره، على ما قد سقته ونظمته. أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزه، وروى بعضه عن علي بن الصباح بن هاشم بن الكلبي، وأخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن علي بن الصباح عن هشام بن الكلبي، قال ابن أبي سعد وأخبرني دارم بن عقال بن حبيب الغساني أحد ولد السموءل بن عادياء عن أشياخه، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف عن عمه إسماعيل ،وأضفت إلى ذلك رواية ابن الكلبي مما لم أسمعه من أحد ورواية الهيثم بن عدي ويعقوب بن السكيت والأثرم وغيرهم، لما في ذلك من الاختلاف، ونسبت رواية كل راو إذا خالف رواية غيره إليه، قالوا: كان عمر بن حجر وهوالمقصور ملكا بعد أبيه، وكان أخوه معاوية وهو الجون على اليمامة، وأمهما شعبة بنت أبي معاهر بن حسان بن عمرو بن تبع. ولما مات ملك بعده ابنه الحارث، وكان شديد الملك بعيد الصيت. ولما ملك قباذ بن فيروز خرج في أيام ملكه رجل يقال له مزدك فدعا الناس إلى الزندقة وإباحة الحرم وألا يمنع أحد منهم أخاه مايريده من ذلك. وكان المنذر بن ماء السماء يومئذ عاملا على الحيرة ونواحيها. فدعاه قباز إلى الدخول معه في ذلك فأبى. فدعا الحارث بن عمرو فأجابه؛ فشدد له ملكه وأطرد المنذر عن مملكته وغلب على ملكه. وكانت أم أنوشروان بين يدي قباذ يوما، فدخل عليه مزدك. فلما رأى أم أنوشروان قال القباذ: ادفعها لي لأقضي حاجتي منها؛ فقال: دونكها. فوثب إليه أنوشروان فلم يزل يسأله ويضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله فتركها له؛ فكانت تلك في نفسه. فهلك قباذ على تلك الحال، وملك أنوشروان فجلس في مجلس الملك. وبلغ المنذر هلاك قباذ فأقبل إلى أنوشروان وقد علم خلافه على أبيه فيما كانوا دخلوا فيه. فأذن أنوشروان للناس، فدخل عليه مزدك ثم دخل عليه المنذر. فقال أنوشروان: إني كنت تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله قد جمعهما لي. فقال مزدك: وما هما أيها الملك? قال: تمنيت أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف يعني المنذر وأن أقتل هؤلاء الزنادقة. فقال له مزدك: أو تستطيع أن تقتل الناس كلهم ? قال: إنك لها هنا يابن الزانية والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا وأمر به فقتل وصلب، وأمر بقتل الزنادقة فقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم؛ وسمي يومئذ أنوشروان. وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو؛ فبلغه ذلك وهو بالأنبار، وكان بها منزله - وإنما سميت الأنبار لأنه كان يكون بها أهراء الطعام وهي الأنابير - فخرج هاربا في هجائنه وماله وولده فمر بالثوية ؛ وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياد، فلحق بأرض كلب فنجا، وانتهبوا ماله وهجائنه. وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار؛ فقدم بهم على المنذر فضرب رقابهم بحفر الأملاك في ديار بني مرينا العباديين بين دير هند والكوفة. فذلك قول عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب والسبـايا وأبنا بالملوك مصفدينا وفيهم يقول امرؤ القيس: س
ملوك من بني حجر بن عمرو يساقون العشية يقـتـلـونـا
فلو في يوم معركة أصيبـوا ولكن في ديار بني مـرينـا
ولم تغسل جماجمهم بغـسـل ولكن في الدماء مرملـينـا
تظل الطير عاكفة علـيهـم وتنتزع الحواجب والعـيونـا
صفحة : 974
قالوا: ومضى الحارث فأقام بأرض كلب. فكلب يزعمون أنهم قتلوه. وعلماء كندة تزعم أنه خرج إلى الصيد فألظ بتيس من الظباء فأعجزه، فآلا ألية ألا يأكل أولا إلا من كبده. فطلبته الخيل ثلاثا فأتي بعد ثالثة وقد هلك جوعا، فشوي له بطنه، فتناول فلذة من كبده فأكلها حارة فمات. وفي ذلك يقول الوليد بن عدي الكندي في أحد بني بجيلة:
فشووا فكان شواؤهم خبطا له إن المنية لا تجـل جـلـيلا وزعم ابن قتيبة أن أهل اليمن يزعمون أن قباذ بن فيروز لم يملك الحارث بن عمرو وأن تبعا الأخير هو الذي ملكه. قال: ولما أقبل المنذر إلى الحيرة هرب الحارث وتبعته خيل فقتلت ابنه عمرا وقتلوا ابنه مالكا بهيت . وصار الحارث إلى مسحلان فقتلته كلب. وزعم غير ابن القتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه.
الحارث بن عمرو وتمليكه أولاده على قبائل العرب: وقال الهيثم بن عدي حدثني حماد الراوية عن سعيد بن عمرو بن سعيد عن سعية بن عريض من يهود تيماء قال: لما قتل الحارث بن أبي شمر الغساني عمرو بن حجر ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو، وأمه بنت عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان ونزل الحيرة. فلما تفاسدت القبائل من نزار أتاه أشرافهم فقالوا: إنا في دينك ونحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض. ففرق ولده في قبائل العرب، فملك ابنه حجرا على بني أسد وغطفان وملك ابنه شرحبيل قتيل يوم الكلاب على بكر بن وائل بأسرها وبني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم والرباب. وملك ابنه معد يكرب وهو غلفاء سمي بذلك لأنه كان يغلف رأسه على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن مالك بن حنظلة والصنائع وهم بنو رقية قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب. وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمة على قيس.
مقتل حجر أبي امرئ القيس: وقال ابن الكلبي حدثني أبي: أن حجرا كان في بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة مؤقتة؛ فغبر ذلك دهرا. ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم، فمنعوه ذلك وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله وضرجوهم ضرجا شديدا قبيحا. فبلغ ذلك حجرا؛ فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فجعل يقتلهم بالعصا - فسموا عبيد العصا - وأباح الأموال، وصيرهم إلى تهامة وآلى بالله ألا يساكنوهم في بلد أبدا، وحبس منهم عمرو بن مسعود بن كندة بن فزارة الأسدي وكان سيدا، وعبيد بن الأبرص الشاعر. فسارت بنو أسد ثلاثا. ثم إن عبيد بنم الأبرص قام فقال: أيها الملك اسمع مقالتي:
يا عين فابكي مـا بـنـي أسد فهم أهل الـنـدامـه
أهل القباب الحمر والـن عم المؤبل والـمـدامـه
وذوي الـجـياد الـجـرد والأسل المثقفة المقامـه
حلا أبـيت الـلـعـــن حلا إن فيما قلـت آمـه
في كـل واد بـــين يث رب فالقصور إلى اليمامه
تطـريب عـان أوصـيا ح محرق أو صوت هامه
ومنعتهـم نـجـدا فـقـد حلوا على وجل تهـامـه
برمت بنـو أسـد كـمـا برمت ببيضتها الحمامـه
جعلت لهـا عـودين مـن نشيم وآخر من ثمـامـه
إما تركت تركـت عـف وا أو قتلت فلا مـلامـه
أنت المـلـيك عـلـيهـم وهم العبيد إلى القـيامـه
ذلوا لسوطك مـثـل مـا ذل الأشيقر ذو الخزامـه
صفحة : 975
قال:فرق لهم حجر حين سمع قوله، فبعث في أثرهم فأقبلوا. حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة بن سوادة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، فقال لبني أسد: يا عبادي قالوا لبيك ربنا. قال: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب، هذا دمه ينعثب ، وهذا غدا أول من يسلب. قالوا: من هو يا ربنا? قال: لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتو على عسكر حجر فهجموا على قبته وكان حجابه من بني الحارث بن سعد يقال لهم بنو خدان بن خنثر منهم معاوية بن الحارث وشبيب ورقية ومالك وحبيب، وكان حجر قد اعتق أباهم من القتل. فلما نظروا إلى القوم يريدون قتله خيموا عليه ليمنعوه ويجيروه. فاقبل عليهم علباء بن الحارث الكاهلي، وكان حجر قد قتل أباه، فطعنه من خللهم فأصاب نساه فقتله.
فلما قتلوه قالت بنو أسد: يا معشر كنانة وقيس، أنتم إخواننا وبنو عمنا، والرجل بعيد النسب منا ومنكم، وقد رأيتم ما كان يصنع بكم هو وقومه. فانتهبوهم فشدوا على هجائنه فمزقوها ولفوه في ريطة بيضاء وطرحوه على ظهر الطريق. فلما رأته قيس وكنانة انتهبوا أسلابه. ووثب عمرو بن مسعود فضم عياله وقال: أنا لهم جار قال ابن الكلبي: وعدة قبائل من أسد يدعون قتل حجر ويقولون: إن علباء كان الساعي في قتله وصاحب المشورة ولم يقتله هو.
قال ابن حبيب: خدان في بني أسد وخدان في بني تميم وفي بني جديلة بالخاء المفتوحة، وخدان مضمومة في الأزد، وليس في العرب غير هؤلاء.
قال أبو عمرو الشيباني: بل كان حجر لما خاف من بني أسد استجار عوير بن شجنةأحد بني عطارد بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم لبنته هند بنت حجر وعياله. وقال لبني أسد لما كثروه: أما إذا كان هذا شأنكم فإني مرتحل عنكم ومخليكم وشأنكم؛ فواعدوه على ذلك. ومال على خالد بن خدان أحد بني سعد بن ثعلبة. فأدركه علباء بن الحارث أحد بني كاهل فقال: يا خالد اقتل صاحبك لا يفلت فيعرك وإيانا بشر، فامتنع خالد. ومر علباء بقصدة رمح مكسورة فيها سنانها، فطعن بها في خاصرة حجر وهو غافل فقتله. ففي ذلك يقول الأسدي:
وقصدة علباء بن قيس بن كاهل منية حجر في جوار ابن خدان وذكر الهيثم بن عدي أن حجرا لما استجار عوير بن شجنة لبنيه وقطينه تحول عنهم فأقام في قومه مدة، وجمع لبني أسد جمعا عظيما من قومه وأقبل مدلا بمن معه من الجنود. فتآمرت بنو أسد بينها وقالوا: والله لئن قهركم هذا ليحكمن عليكم حكم الصبي فما خيرعيش يكون بعد قهر وأنتم بحمد الله أشد العرب فموتوا كراما.
فساروا إلى حجر وقد ارتحل نحوهم فلقوه فاقتتلوا قتالا شديدا. وكان صاحب أمرهم علباء بن الحارث، فحمل على حجر فطعنه فقتله، وانهزمت كندة وفيهم يومئذ امرؤ القيس فهرب على فرس له شقراء وأعجزهم، وأسروا من أهل بيته رجالا و قتلوا وملئوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواري حجر ونساءه وما كان معه من شيء فاقتسموه بينهم.
صفحة : 976
وقال يعقوب بن السكيت حدثني خالد الكربي قال: كان سبب قتل حجر أنه كان وفد إلى أبيه الحارث بن عمرو في مرضه الذي مات فيه وأقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعا إلى بني أسد وقد كان أغار عليهم في النساء وأساء ولايته، وكان يقدم بعض ثقله أمامه ويهيأ نزله ثم يجيء وقد هيىء له من ذلك ما يعحبه فينزل، ويقدم مثل ذلك إلى ما بين يديه من المنازل فيضرب له في المنزلة الأخرى. فلما دنا من بلاد بني أسد وقد بلغهم موت أبيه طمعوا فيه. فلما أظلهم وضربت قبابه أجتمعت بنو أسد إلى نوفل بن ربيعة بن الخدان، فقال: يا بني أسد من يتلقى هذا الرجل منكم فيقتطعه? فإن قد أجمعت على الفتك به فقال له القوم: ما لذلك أحد غيرك. فخرج نوفل في خيله حتى أغار على الثقل فقتل من وجد فيه، وساق الثقل وأصاب جاريتين قينتين لحجر، ثم أقبل حتى أتى قومه. فلما رأو ما قد حدث وأتاهم به عرفوا أن حجرا يقاتلهم وأنه لا بد من القتال، فحشد الناس لذلك، وبلغ حجرا أمرهم، فأقبل نحوهم. فلما غشيهم ناهضوه القتال وهم بين أبرقين من الرمل في بلادهم يدعيان اليوم أبرقي حجر، فلم يلبثوا حجرا أن هزموا أصحابه وأسروه فحبسوه وتشاور القوم في قتله، فقال لهم كاهن من كهنتهم بعد أن حبسوه ليروا فيه رأيهم: أي قوم لا تعجلوا بقتل الرجل حتى أزجر لكم. فانصرف عن القوم لينظر لهم في قتله. فلما رأى ذلك علباء خشي أن يتوكلوا في قتله؛ فدعا غلاما من بني كاهل، وكان ابن أخته وكان حجر قتل أباه زوج أخت علباء، فقال: يا بني، أعندك خير فتثأر بأبيك وتنال شرف الدهر وإن قومك لن يقتلوك ?. فلم يزل بالغلام حتى حربه ، ودفع إليه حديدة وقد شحذها وقال: أدخل عليه مع قومك ثم أطعنه في مقتله: فعمد الغلام إلى الحديدة فخبأها ثم دخل على حجر في قبته التي حبس فيها. فلما رأى الغلام غفلة وثب عليه فقتله، فوثب القوم على الغلام. فقالت بنو كاهل: ثأرنا وفي أيدينا. فقال الغلام: إنما ثأرت بأبي، فخلوا عنه. وأقبل كاهنهم المزدجر فقال: أي قوم قتلتموه ملك شهر ، وذل دهر. أما والله لا تحظون عند الملوك بعده أبدا.
وصيته لبنيه عند موته
قال ابن السكيت: ولما طعن الأسدي حجرا ولم يجهز عليه، أوصى ودفع كتابه إلى رجل وقال له: أنطلق إلى ابني نافع - وكان أبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه، واستقرهم واحدا واحدا حتى تأتي امرأة القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع فدفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره. فأنطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه: فأخذ التراب فوضعه على رأسه. ثم استقراهم واحدا واحدا فكلهم فعل ذلك، حتى اتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد؛ فقال له: قتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه فقال له امرؤ القيس: أضرب فضرب. حتى إذا فرغ قال ما كنت أفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله فأخبره. فقال: الخمر علي والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة. وفي ذلك يقول:
أرقت ولم يأرق لما بي نـافـع وهاج لي الشوق الهموم الروادع وقال ابن الكلبي: حدثني أبي عن ابن الكاهن الأسدي أن حجرا كان طرد امرأ القيس وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون من أرض اليمن، أتاه به رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور أخو الوصاف. فلما أتاه بذلك قال:
تطاول الليل على دمون دمون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلها محبـون ثم قال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا. لا صحو اليوم ولا سكر غدا. اليوم خمر، وغدا أمر فذهبت مثلا. ثم قال:
خليلي لا في اليوم مصحى لشارب ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب
صفحة : 977
ثم شرب سبعا. فلما صحا آلى ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة، حتى يدرك بثأره. فلما جنة الليل رأى برقا فقال:
أرقت لبرق بلـيل أهـل يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكـذبـتـه بأمر تزعزع منه القلـل
بقتل بني أسـد ربـهـم ألا كل شيء سواه جلـل
فأين ربيعة عن ربـهـا وأين تميم وأين الخـول
ألا يحضرون لدي بـابـه كما يحضرون إذا ما أكل وروى الهيثم عن أصحابه أن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلاما قد ترعرع، وكان في بني حنظلة مقيما لأن ظئرة كانت امرأة منهم. فلما بلغه ذلك قال:
يا لـهـف هـنـد إذ خـطـئن كـــاهـــلا الـقـاتـلـين الـمـلـك الـحـــلاحـــلا
تالـلـه لا يذهـب شـيخـــي بـــاطـــلا يا خـير شـيخ حـــســـبـــا ونـــائلا
وخيرهم قد علموا فواضلايحملننا والأسل النواهلا
وحي صعب والوشيج الذابلا مسـتـثـفـرات بـالـحـصـى جـوافـــلا يعني صعب بن علي بن بكر بن وائل. معنى قوله مستثفرات بالحصى: يريد أنها أثارت الحصى بحوافرها لشدة جريها حتىارتفع إلى أثفارها فكأنها استثفرت به.
وقال الهيثم بن عدي: لما قتل حجر انحازت بنته وقطينه إلى عوير بن شجنة. فقال له قومه: كل أموالهم فإنهم مأكولون، فأبى. فلما كان الليل حمل هندا وقطينها وأخذ بخطام جملها وأشأم بهم في ليلة طخياء مدلهمة. فلما أضاء البرق أبدى عن ساقيه وكانت حمشتين . فقالت هند: ما رأيت كاليلة ساقي واف. فسمعها فقال ياهند: هما ساقا غادر شر. فرمى بها النجاد حتى أطلعها نجران، وقال لها: إني لست أغني عنك شيئا وراء هذا الموضع، وهؤلاء قومك، وقد برئت خفارتي. فمدحه امرؤ القيس بعدة قصائد، منها قوله في قصيدة له:
ألا إن قوما كنتم أمس دونـهـم هم منعوا جاراتكم آل غـدران
عوير ومن مثل العوير ورهطه أبر بميثاق وأوفـى بـجـيران
هم أبلغوا الحي المضيع أهـلـه وساروا بهم بين الفرات ونجران وقوله:
ألا قبح الله البراجم كـلـهـا وجدع يربوعا وعفر دارمـا
فما فعلوا فعل العوير ورهطه لدى باب حجر إذ تجرد قائما وقال ابن قتيبة في خبره: إن القصة المذكورة عن عوير كانت مع أبي حنبل وجارية ابن مر. قال ويقال: بل كانت مع عامر بن جوين الطائي وإن ابنته أشارت عليه بأخذ مال حجر وعياله، فقام ودخل الوادي ثم صاح: ألا إن عامر ابن جوين غدر، فأجابه الصدى مثل قوله، فقال ما أقبح هذا من قول ثم صاح: ألا إن عامر بن جوين وفى، فأجابه الصدى بمثل قوله، فقال: ما أحسن هذا ثم دعا ابنته بجذعة من غنم فاحتلبها وشرب واستلقى على قفاه وقال: والله لا أغدر ما أجزأتني جذعة. ثم نهض وكانت ساقاه حمشتين، فقالت ابنته: والله ما رأيت كاليوم ساقي واف. فقال: وكيف بهما إذا كانتا ساقي غادر هما والله حينئذ أقبح.
امرؤ القيس يستعدي بكرا وتغلب على بني أسد: وقال ابن الكلبي عن أبيه ويعقوب بن السكيت عن خالد الكلابي: إن امرأ القيس ارتحل حتى نزل بكرا وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد. فبعث العيون على بني أسد فنذروا بالعيون ولجئوا إلى بني كنانة. وكان الذي أنذرهم بهم علباء بن الحارث. فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد تعلمون والله إن عيون امرئ القيس قد أتتكم ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة، ففعلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب حتى انتهى إلى بني كنانة وهو يحسبهم بني أسد فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر، نحن من كنانة، فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد شاروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم تلك -فقال في ذلك:
ألا يالهف هند إثـر قـوم هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبـيهـم وبالأشقين ما كان العقـاب
وأفلتهن علبـاء جـريضـا ولو أدركنه صفر الوطاب
صفحة : 978
يعني ببني ابيهم بني كنانة، لأن أسدا وكنانة ابني خزيمة أخوان.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: سمعت رجلا سأل يونس عن قوله صفر الوطاب ، فقال: سألنا رؤبة عنه فقال: لو أدركوه قتلوه وساقوا إبله فصفرت وطابه من اللبن. وقال غيره: صفر الوطاب أي أنه كان يقتل فيكون جسمه صفرا من دمه كما يكون الوطاب صفرا من اللبن.
وأدركهم ظهرا وقد تقطعت خيله وقطع أعناقهم العطش، وبنو أسد جامون على الماء، فنهد إليهم فقاتلهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدا. قالوا: بلى، ولكنك رجل مشئوم. وكرهوا قتالهم بني كنانة وانصرفوا عنه. ومضى هاربا لوجهه حتى لحق بحمير.
يلجأ إلى عمرو بن المنذر: وقال ابن السكيت حدثني خالد الكلابي: أن امرأ القيس لما أقبل من الحرب على فرسه الشقراء لجأ إلى ابن عمته عمرو بن المنذر وامه هند بنت عمرو بن حجر بن آكل المرار، وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه وتفرق ملك أهل بيته، وكان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر ببقة وهي بين الأنبار وهيت فمدحه وذكر صهره ورحمه وأنه قد تعلق بحباله ولجأ إليه. فأجاره، ومكث عنده زمانا. ثم بلغ المنذر مكانه عنده فطلبه، وأنذره عمرو فهرب حتى أتى حمير.
يستنصر أزد شنوءة
وقال ابن الكلبي والهيثم بن عدي وعمر بن شبة وابن قتيبة: فلما امتنعت بكر بن وائل وتغلب من اتباع بني أسد خرج من فوره ذلك إلى اليمن فاستنصر أزدشنوءة، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا.
ومرثد الخير الحميري: فنزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري، وكانت بينهما قرابة، فستنصره واستمده على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير؛ ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم.
وقرمل بن الحميم: وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له قرمل بن الحميم وكانت أمه سوداء، فردد امرأ القيس وطول عليه حتى هم بالانصراف وقال:
وإذ نحن ندعو مرثد الخير ربنا وإذ نحن لا ندعى عبيدا لقرمل فأنفذ له ذلك الجيش؛ وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالا، فسار بهم إلى بني أسد. ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمه يقال له ذو الخلصة ؛ فاستقسم عنده بقداحة وهي ثلاثة الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: مصصت بظر أمك لو أبوك قتل ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد ويقال: إنه ما استقسم عند ذي الخلصة بعد ذلك بقدح حتى جاء أمر الله بالإسلام وهدمه جرير بن عبد الله البجلي.
طلبه المنذر فهرب
ونزل بالحارث بن شهاب:
قالوا: وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه الجيوش في طلبه من إياد وبهراء وتنوخ ولم تكن له طاقة، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه. وتفرقت حمير ومن كان معه عنه. فنجا في عصبة من بني آكل المرار حتى نزل بالحارث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة، ومع امرئ القيس أدراع خمسة: الفضفاضة والضيافة والمحصنة والخربق وأم الذيول كن لبني آكل المرار يتوارثونها ملكا عن ملك. فقلما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب إن لم يسلم إليه بني آكل المرار فأسلمهم؛ ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند بنت امرئ القيس والأدرع والسلاح ومال كان بقي معه. فخرج على وجهه حتى وقع في أرض طيئ.
ثم نزل على سعد بن الضباب الإيادي: وقيل: بل نزل قبلهم على سعد بن الضباب الإيادي سيد قومه فأجازه.
قال ابن الكلبي: وكانت أم سعد بن الضباب تحت حجر أبي امرئ القيس فطلقها وكانت حاملا وهو لا يعرف، فتزوجها الضباب فولدت سعدا على فراشه، فلحق نسبه به. فقال امرؤ القيس يذكر ذلك:
يفاكهنا سعد وينـعـم بـالـنـا ويغدو علينا بالجفان وبالجـزر
ونعرف فيه من أبيه شـمـائلا ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سمـاحة ذا وبـر ذا ووفـاء ذا ونائل ذا إذا صحا وإذا سـكـر
صفحة : 979
ثم تحول عنه فوقع في أرض طيىء فنزل برجل من بني جديلة يقال له المعلى بن تيم. ففي ذلك يقول:
كأني إذ نزلت على المعـلـى نزلت على البواذخ من شمـام
فما ملك العراق على المعلـى بمقتـدر ولا مـلـك الـشـآم
أقر حشى امرئ القيس بن حجر بنو تيم مصـابـيح الـظـلام قالوا: فلبث عنده واتخذ إبلا هنالك. فغدا قوم من بني جديلة يقال لهم بنو زيد فطردوا الأبل. وكانت لامرئ القيس رواحل مقيدة عند البيوت خوفا من أن يدهمه أمر ليسبق عليهن. فخرج حينئذ فنزل ببني نبهان من طيىء، فخرج نفر منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا له الأبل فأخذتهن جديلة، فرجعوا إليه بلا شيء. فقال في ذلك:
وأعجبني مشي الحزقة خـالـد كمشي أتان حلئت بالمنـاهـل
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديثا ما حديث الرواحل ففرقت عليه بنو نبهان فرقا من معزى يحلبها. فأنشأ يقول:
إذا ما لم تجد إبلا فمعـزى كأن قرون جلتها العصـى
إذا ما قام حالبـهـا أرنـت كأن القوم صبحهم نـعـي
فتملأ بيتنا أقطا وسـمـنـا وحسبك من غنى شبع وري ثم نزل بي عامر بن جوين: فكأن ما عندهم ما شاء الله. ثم خرج فنزل بعامر بن جوين وأتخذ عنده إبلا، وعامر يومئذ أحد الخلعاء الفتاك قد تبرأ قومه من جرائره، فكان عنده ما شاء الله، ثم هم أن يغلبه على أهله وماله، ففطن امرؤ القيس بشعر كان عامر ينطق به وهو قوله:
فكم بالصعيد من هجان مـؤبـلة تسير صحاحا ذات قيد ومرسلـه
أردت بها فتكا فلم أرتمـض لـه ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله وكان عامر أيضا يقول يعرض بهند بنت امرئ القيس:
ألا حي هندا وأطلالـهـا وتظعان هند وتحلا لـهـا
هممت بنفسي كل الهمومي فأولى لنفسي أولى لـهـا
ساحمل نفسي عـلـى آلة فإما عليهـا وإمـا لـهـا هكذا روى ابن أبي سعد عن دارم بن عقال. ومن الناس من يروي هذه الأبيات للخنساء في قصيدتها:
ألا ما ليعيني ألا ما لهـا لقد أخضل الدمع سربالها ثم بحارثة بن مر: قالوا: فلما عرف امرؤ القيس ذلك منه وخافه على أهله وماله، تغفله وأنتقل إلى رجل من بني ثعل يقال له حارثة بن مر فاستجار به. فوقعت الحرب بين عامر وبين الثعلي، فكانت في ذلك أمور كثيرة. قال دارم بن عقال في خبره: فلما وقعت الحرب بين طيىء من أجله، خرج من عندهم فنزل برجل من بني فزارة يقال له عمرو بن جابر بن مازن، فطلب منه الجوار حتى يرى ذات عيبه . فقال له الفزاري: يابن حجر، إني أراك في خلل من قومك وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف، وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طيئ، وأهل البادية أهل بر لا أهل حصون تمنعهم، وبينك وبين أهل اليمن ذؤبان من قيس، أفلا أدلك على بلد فقد جئت قيصر وجئت النعمان فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه. قال: من هو وأين منزله? قال: السموءل بتيماء، وسوف أضرب لك مثله، هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات عيبك، وهو في حصن حصين وحسب كبير. فقال له امرؤ القيس: وكيف لي به? قال: أوصلك إلى من يوصلك إليه؛ فصحبه إلى رجل من بني فزارة يقال له الربيع بن ضبع الفزاري ممن يأتي السموءل فيحمله ويعطيه. فلما صار إليه قال له الفزاري: إن السموءل يعجبه الشعر. فتعال نتناشد له أشعارا. فقال امرؤ القيس: قل حتى أقول. فقال الربيع:
قل للمنية أي حين نـلـتـقـي بفناء بيتك في الحضيض المزلق وهي طويلة يقول فيها:
ولقد أتيت بني المصاص مفاخرا وإلى السموءل زرته بالأبلـق
فأتيت أفضل من تحمل حـاجة إن جئته في غارم أو مرهـق
عرفت له الأقوام كل فـضـيلة وحوى المكارم سابقا لم يسبـق قال: فقال امرؤ القيس:
طرقتك هند بعد طول تجنب وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دونها في ديوانه أحد من الثقات؛ وأحسبها مما صنعه دارم لأنه من ولد السموءل ومما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تكتب هنا .
صفحة : 980
قال فوفد الفزاري بأمرئ القيس إليه. فلما كانوا ببعض الطريق إذا هم ببقرة وحشية مرمية. فلما نظر إليها أصحابه قاموا فذكوها. فبينما هم كذلك إذا هم بقوم قناصين من بني ثغل . فقالوا لهم: من أنتم? فانتسبوا لهم، وإذا هم من جيران السموءل فانصرفوا جميعا وقال امرؤ القيس:
رب رام من بني ثغـل مخرج كفيه من قتره
عارض زوراء من نشم مع باناة علـى وتـره هكذا في رواية ابن دارم. ويروى غير باناة و تحت باناة:
إذ أتته الـوحـش واردة فتثنى النزع في يسـره
فرماها في فرائصـهـا بإزاء الحوض أو عقره
برهيش من كـنـانـتـه كتلظي الجمر في شرره
راشه من ريش ناهـضة ثم أمهاه عل حـجـره
فهو لا تنمـي رمـيتـه ماله لا عد مـن نـفـر طلب إلى السموءل أن يكتب له إلى الحارث ليوصله إلى قيصر: قال: ثم مضى القوم حتى قدموا على السموءل، فأنشده الشعر، وعرف لهم حقهم، فأنزل المرأة في قبة أدم وأنزل القوم في مجلس له براح؛ فكان عنده ما شاء الله. ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر بن الغساني بالشأم ليوصله إلى قيصر؛ فاستنجد له رجلا، واستودع عنده المرأة والأدراع والمال، وأقام معها يزيد بن معاوية بن الحارث ابن عمه. فمضى حتى انتهى إلى قيصر؛ فقبله وأكرمه وكانت له عنده منزلة.
لما وصل إلى قيصر دس له عنده الطماح حتى سمه بحلة خلعها عليه: فاندس رجل من بني أسد يقال له الطماح، وكان امرؤ القيس قد قتل أخا له من بني أسد، حتى أتى إلى بلاد الروم فأقام مستخفيا ثم إن قيصر ضم إليه جيشا كثيفا وفيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما فصل قال لقيصر قوم من أصحابه: إن العرب قوم غدر ولا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثت معه. وقال ابن الكلبي: بل قال له الطماح: إن امرأ القيس غوي عاهر وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث إليه بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها؛ فأسرع فيه السم وسقط جلده؛ فلذلك سمي ذا القروح، وقال في ذلك:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ليلبسني مما يلـبـس أبـؤسـا
فلو أنها نفس لـمـوت سـوية ولكنها نفس تساقط أنـفـسـا قال: فلما صار إلى بلدة من بلاد الروم تدعى أنقرة احتضر بها؛ فقال:
رب خطبة مسحنفره وطعنة مثعنجـره
وجفنة مـتـحـيره حلت بأرض أنقره ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك فدفنت في سفح جبل يقال له عسيب؛ فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال:
أجارتنا إن المزار قـريب وإني مقيم ما اقام عسـيب
أجارتنا إنا غريبان ها هنـا وكل غريب للغريب نسيب ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك.
عبد الملك بن عمير يحدث عمر بن هبيرة بحديث عنه فيسر به ويجيزه: أخبرني محمد بن القاسم عن مجالد بن سعيد بن عبد الملك بن عمير قال:
صفحة : 981
قدم علينا عمر بن هيبرة الكوفة، فأرسل إلى عشرة أنا أحدهم من وجوه الكوفة فسمروا عنده، ثم قال: ليحدثني كل رجل منكم أحدوثة وابدأ أنت يا أبا عمر . فقلت أصلح الله الأمير أحديث الحق أم حديث الباطل? قال: بل حديث حق. قلت: إن امرأ القيس آلى بألية ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة وثنتين؛ فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر. فبينما هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تمامه، فأعجبته. فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان? فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة. وأما الرابعة فأخلاف الناقة. وأما اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها. وشرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وأن يسوق لها مائة من الإبل وعشر أعبد وعشرة وصائف وثلاثة أفراس ففعل ذلك. ثم أن بعث عبدا له إلى المرأة وأهدى إليها نحيا من سمن ونحيا من عسل وحلة من عصب. فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بعشرة فانشقت، وفتح النحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف . فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها. فقالت له أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره. فقال: أما قولها إن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، فإن أباها ذهب يحالف قوما على قومه. وأما قولها ذهبت أمي تشق النفس نفسين، فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء. وأما قولها إن أخي يراعي الشمس،فإن أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. وأما قولها: إن سماءكم انشقت، فإن البرد الذي بعثت به انشق. وأما قولها إن وعاءيكم نضبا، فإن النحيين الذي بعثت بهما نقصا، فأصدقني. فقال: يا مولاي، إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني عن نسبي فأخبرتهم إني ابن عمك، ونشرت الحلة فانشقت وفتحت النحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك .
ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام، فنزلا منزلا. فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز؛ فأعانه امرؤ القيس؛ فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى المرأة بالإبل وأخبرهم أنه زوجها. فقيل لها: قد جاء زوجك. فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها ففعلوا. فقالت: اسقوه لبنا حارزا وهو الحامض فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عن الفرث والدم، ففرشوا له فنام فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك. فقال: سلي عما شئت. فقالت: مما تختلج شفتاك? قال: لتقبيلي إياك. قالت: فمم يختلج كشحاك? قال: لالتزامي إياك. قالت: فمما يختلج فخذاك? قال: لتوركي إياك. قالت: عليكم العبد فشدوا أيديكم به، ففعلوا. قال: ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، فاستاق مائة من الإبل وأقبل إلى امرأته. فقيل لها قد جاء زوجك. فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا، ولكن انحروا له جزورا فأطعموه من كرشها وذنبها ففعلوا. فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام والملحاء فأبى أن يأكل. فقالت: اسقوه لبنا حازرا. فأبى أن يشربه وقال: فأين الصريف والرثيئة . فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم. فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا عليها خباء. ثم ارسلت إليه: هلم شربطتي عليك في المسائل الثلاث. فأرسل إليها أن سلي عما شئت. فقالت: مما تختلج شفتاك. قال: لشرب المشعشعات. قالت: فمما يختلج كشحاك، قال: للبسي الحبرات. قالت: فمما تختلج فخذاك? قال: لركضي المطهمات. فقالت: هذا زوجي لعمري فعليكم به، واقتلوا العبد، فقتلوه. ودخل امرؤ القيس بالجارية. فقال ابن هبيرة: حسبكم فلا خير في الحديث في سائر الليلة بعد حديثك يا أبا عمرو؛ ولن تأتينا بأعجب مه فقمنا وانصرفنا. وأمر لي بجائزة.
مفاوضات امرئ القيس وقبائل أسد بعد موت حجر: نسخت من كتاب جدي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه رحمه الله حدثني الحسن بن سعيد عن أبي عبيدة قال: أخبرني سيبويه النحوي أن الخليل بن أحمد أخبره قال:
صفحة : 982
قدم على امرئ القيس بن حجر بعد مقتل أبيه رجال من قبائل بني أسد كهول وشبان، فيهم المهاجر بن خداش ابن عم عبيد بن الأبرص، وقبيصة بن نعيم، وكان في بني أسد مقيما وكان ذا بصيرة بمواقع الأمور وردا وإصدارا يعرف ذلك له من كان محيطا بأكناف بلده من العرب. فلما علم بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم، واحتجب عنهم ثلاثا. فسألوا من حضره من رجال كندة فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن حجر من السلاح والعدة. فقالوا: اللهم غفرا، إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف ونستدرك به ما فرط، فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء؛ وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في الترات. فلما نظروا إليه قاموا له، وبدر إليه قبيصة: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتتنقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، ورجوع عن هفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح في الذي كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته نزارا واليمن، ولم تخصص كندة بذلك دوننا للشرف البارع. كان لحجر التاج والعمة فوق الجبين الكريم وإخاء الحمد وطيب الشيم. ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك ولفديناه منه، ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه ولا يلحق أقصاه أدناه. فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا فقدناه إليك بنسعه تذهب مع شفرات حسامك قصدته فيقول رجل امتحن بهلك عزيز فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح من بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الإحن على البرءاء؛ وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الأزر ونعقد الخمر فوق الرايات. قال: فبكى ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، وإني لن أعتاض به جملا أو ناقة فأكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد. وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك، تحمل القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا :
إذا جالت الخيل في مأزق تصافح فيه المنايا النفوسا أتقيمون أم تنصرفون? قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار لمكروه وأذية، وحرب وبلية. ثم نهضوا عنه، وقبيصة يقول متمثلا:
لعلك أن تستوخم الموت إن غدت كتائبنا في مأزق الموت تمطر فقال امرؤ القيس: لا والله لا أستوخمه، فرويدا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير. ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي إن كنت نازلا بربعي؛ ولكنك قلت فأجبت. فقال قبيصة: ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: فهو ذاك.
أصوات معبد المعروفة بألقابها وهي خمسة أصوات معبد الخمسة وألقابها: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه، وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبة عن إسحاق: أن معبد كان يسمي صوته:
هريرة ودعها وإن لام لائم الدوامة لكثرة ما فيه من الترجيع. ويسمى صوته:
عاود القلب من تذكر جمل المنمنم. ويسمى صوته:
أمن آل ليلى بالملا متربع معقصات القرون أي يحرك خصل الشعر. ويسمي صوته:
جعل الله جعفرا لك بعلا المتبختر. ويسمي صوته:
ضوء برق بدا لعينيك أم شبت بذي الأثل من سلامة نار مقطع الأثفار .
نسبة هذه الأصوات وأخبارها
هريرة ودعهـا وإن لام لائم غداة غد أم أنت للبين واجـم
لقد كان في حول ثواء ثويته تقضى لبانات ويسـأم سـائم
مبتلة هيفاء رود شبـابـهـا لها مقلتا ريم وأسود فاحـم
ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الحلي لبات لها ومعاصم
صفحة : 983
الواجم: الساكت المطرق من الحزن، يقال: وجم يجم وجوما. وقوله: لقد كان في حول ثواء ثويته: قال الكوفيون: أراد لقد كان في ثواء حول ثويته، فجعل ثواء بدلا من حول. فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام عن يونس قال: كان أبو عمرو بن العلاء يعيب قول الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته جدا ويقول: ما أعرف له معنى ولا وجها يصح. قال أبو خليفة: وأما عبيدة فإنه قال: معناه لقد كان في ثواء حول ثويته. والبانات والمآرب والحوائج والأوطار واحد. والمبتلة: الحسنة الخلق. والهيفاء: اللطيفة الخصر. والرئم: الظبي. والفاحم: الشديد السواد. وقال: لبات لها وإنما لها لبة واحدة ولكن العرب تقول ذلك كثيرا؛ يقال: لها لبات حسان، يراد اللبة وما حولها. والمعاصم: موضع الأسورة، وواحدها معصم.
الشعر للأعشى. والغناء لمعبد، وله فيه لحنان، أحدهما وهو الملقب بالدوامة خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، والأخر ثقيل عن الهشامي وابن خرداذبة.
أخبار الأعشى ونسبه
نسبه وكنيته: الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويكنى أبا بصير.
لقب أبيه قتيل الجوع: وكان يقال لأبيه قيس بن جندل قتيل الجوع، وسمي بذلك لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدت فم الغار فمات فيه جوعا. فقال فيه جهنام واسمه عمرو وهو من قومه من بني قيس بن ثعلبة يهجوه وكانا يتهاجيان:
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل وخالك عبد من خماعة راضع شاعر جاهلي: وهوأحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم وتقدم على سائرهم، وليس ذلك بمجمع عليه لا فيه ولا في غيره.
أشعر الناس إذا طرب: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال سألت يونس النحوي: من أشعر الناس? قال: لا اوميء إلى رجل بعينه ولكني أقول: امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.
قبيلته أشعر القبائل عند حسان: أخبرني ابن عمار عن ابن مهرويه عن حذيفة بن محمد عن ابن سلام بمثله.
أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين.
أن حسان سئل: من أشعر الناس? فقال: أشاعر بعينه أم قبيلة? قالوا: بل قبيلة. قال: الزرق من بني قيس بن ثعلبة، وهذا حديث يروى أيضا عن غير حسان.
فاخر ابن شفيع بقبيلته بني ثعلبة عبد العزيز بن زرارة: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن ابن مهرويه قال حدثنا عبدة بن عصمة عن فراس بن خندف عن علي بن شفيع قال: إني لواقف بسوق حجر إذ أنا برجل من هيئته وحاله عليه مقطعات خز وهو على نجيب مهري عليه رحل لم أر قط أحسن منه وهو يقول: من يفاخرني من ينافرني ببني عامر بن صعصعة فرسانا وشعراء وعددا وفعالا ? قلت: أنا. قال: بمن? قلت: ببني ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. فقال: أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنافرة? ثم ولى هاربا. قلت: من هذا? قيل: عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان الكلابي.
هو صناجة العرب: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قال أبو عبيدة: من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره. ويقال: هو أول من سأل بشعره، وانتجع به أقاصي البلاد. وكان يغنى في شعره، فكانت العرب تسميه صناجة العرب.
أخبرني المهلبي والجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال: سمعت خلادا الأرقط يقول سمعت خلفا الأحمر يقول: لا يعرف من أشعر الناس كما لايعرف من أشجع الناس ولا من كذا ولا من كذا، لأشياء ذكرها خلف ونسيتها أنا. أبو زيد عمر بن شبة يقول هذا.
كان أبو عمرو بن العلاء يقدمه: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف قال حدثني عمي إسماعيل بن أبي محمد قال أخبرني أبي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقدم الأعشى.
سئل مروان بن أبي حفصة عن أشعر الناس فقدمه بشعره:
صفحة : 984
وقال هشام بن الكلبي أخبرني أبو قبيصة المجاشعي أن مروان ابن أبي حفصة سئل: من أشعر الناس? قال: الذي يقول:
كلا أبويكم كان فرع دعـامة ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا يعني الأعشى.
قدمه حماد على جميع الشعراء حين سأله المنصور عن ذلك: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي قال قال سلمة بن نجاح أخبرني يحيى بن سليم الكاتب قال: بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة إلى حماد الراوية أسأله عن أشعر الشعراء. قال: فأتيت باب حماد فاستأذنت وقلت: يا غلام فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار: فقال: من أنت? فقلت: يحيى بن سليم رسول أمير المؤمنين. قال: ادخل رحمك الله فدخلت أتسمت الصوت حتى وقفت على باب البيت، فإذا حماد عريان على فرجه دستجة شاهسفرم. فقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس. فقال: نعم ذلك الأعشى صناجها.
أوصى أبو عمرو بن العلاء الناس بشعره: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال سمعت أبا عبيدة يقول سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عليكم بشعر الأعشى، فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركي.
وضعه جني في المرتبة الثالة بعد امرئ القيس وطرفة: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال سمعت أبا عبيدة يقول: بلغني أن رجلا من أهل البصرة حج وروى هذا الحديث ابن الكلبي عن شعيب بن عبد الرحمن أبي معاوية النحوي عن رجلا من أهل البصرة أنه حج قال فإني لأسير في ليلة إضحيانة إذ نظرت إلىرجل شاب راكب على ظليم قد زمه بخطامه وهو يذهب عليه ويجيء، وهو يرتجز ويقول:
هل يبلغنيهم إلى الصباح هقل كأن رأسه جماح الجماح: أطراف النبت الذي يسمى الحلي وهو سنبلة، إلا أنه ليس بخشن يشبه أذناب الثعالب . قال: والجماح أيضا سهيم يلعب به الصبيان يجعلون مكان زجه طينا قال: فعلمت بأنه ليس بإنسي، فاستوحشت منه. فتردد علي ذاهبا وراجعا حتى أنست به؛ فقلت: من أشعر الناس يا هذا? قال: الذي يقول:
وما ذرفت عيناك إلى لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل قلت: ومن هو? قال: امرؤ القيس. قلت: فمن الثاني? قال: الذي يقول:
تطرد القر بحر سـاخـن وعكيك القيظ إن جاء بقر قلت: ومن يقوله? قال: طرفة. قلت: ومن الثالث? قال الذي يقول:
وتـبـرد بـرد رداء الـعـرو س بالصيف رقرقت فيه العبيرا قلت: ومن يقوله? قال: الأعشى، ثم ذهب به.
هو أستاذ الشعراء في الجاهلية وجرير أستاذهم في الإسلام: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أبو عدنان قال وقال لي يحيى بن الجون العبدي راوية بشار: نحن حاكة الشعر في الجاهلية والإسلام ونحن أعلم الناس به، أعشى بني قيس بن ثعلبة أستاذ الشعراء في الجاهلية. وجرير بن الخطفي أستاذهم في الإسلام.
حديث الشعبي عنه: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال: قال الشعبي: الأعشى أغزل الناس قي بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس قي بيت. فأما أغزل بيت فقوله:
غراء فرعاء مصقول عـوارضـهـا تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل وأما أخنث بيت فقوله:
قالت هريرة لما جئت زائرها ويلي عليك وويلي منك يارجل وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا الطراد فقلنا تلك عاداتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل حماد الراوية يسأل عن أشعر العرب فيجيب من شعره: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد قال ذكر الهيثم بن عدي أن حماد الراوية سئل عن أشعر العرب، قال الذي يقول:
نازعتهم قضب الريحان متئكا وقهوة مزة راووقها خضل كان قدريا وكان لبيد مثبتا: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أبو علي العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثني رجل عن أبان بن تغلب عن سماك بن حرب قال قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانيا عباديا وكان معمرا قال: كان الأعشى قدريا وكان لبيد مثبتا. قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البا ومن شاء أضـل وقال الأعشى.
إستأثر الله بالوفـاء وبـال عدل وولى الملانة الرجلا
صفحة : 985
قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه? قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك.
هريرة عشيقته: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو شراعة في مجلس الرياشي قال حدثنا مشايخ بني قيس بن ثعلبة قالوا: كانت هريرة التي يشبب بها الأعشى أمة سوداء لحسان بن عمرو بن مرثد.
وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن فراس بن الخندف قال: كانت هريرة وخليدة أختين قينتين كانتا لبشر بن عمرو بن مرثد، وكانتا تغنيانه النصب ، وقدم بهما اليمامة لما هرب من النعمان. قال ابن دريد فأخبرني عمي عن ابن الكلبي بمثل ذلك.
مدح المحلق الكلابي وذكر بناته فتزوجن: وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي مما أجازه له عن العتبي عن رجل من قيس عيلان قال: كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الكلابي مئناثا مملقا. فقالت له امرأته: يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيرا. قال: ويحك ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل . قالت: الله يخلفها عليك. قال: فهل له بد من الشراب والمسوح ? قالت: إن عندي ذخيرة لي ولعلي أن أجمعها. قال: فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحد وابنه يقوده فأخذ الخطام؛ فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا? قال: المحلق. قال: شريف كريم، ثم سلمه إليه فأناخه؛ فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها، ثم سقاه، وأحاطت بناته به يغمزنه ويمسحنه. فقال: ما هذه الجواري حولي? قال: بنات أخيك وهن ثمان شريدتهن قليلة. قال: وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئا. فلما وافى سوق عكاظ إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى ينشدهم.
لعمري لقد لاحت عيون كثـيرة إلى ضوء نار باليفاع تحـرق
تشب لمقرورين يصطليانـهـا وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تحالـفـا بأسحم داج عوض لا نتفـرق فسلم عليه المحلق؛ فقال له: مرحبا يا سيدي بسيد قومه. ونادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم . قال: فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها. وفي أول القصيدة عناء وهو: صوت
أرقت وما هذا السهاد الـمـؤرق وما بي من سقم وما بي معشـق
ولكن أرانـي لا أزال بـحـادث أغادى بما لم يمس عندي وأطرق غناه ابن محرز خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لحن ليونس من كتابه غير مجنس. وفيه لابن سريج ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو.
اسم المحلق الكلابي وسبب كنيته وسبب اتصاله بالأعشى: أخبرني أبو العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: اسم المحلق عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد وهو أبو بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وإنما سمي محلقا لأن حصانا له عضه في وجنته فحلق فيه حلقة.
قال: وأنشد الأعشى قصيدته هذه كسرى ففسرت له؛ فلما سمعها قال: إن كان هذا سهر لغير سقم ولا عشق فما هو إلا لص.
وذكر علي بن محمد النوفلي في خبر المحلق مع الأعشى غير هذه الحكايات، وزعم أن أباه حدثه عن بعض الكلابيين من أهل البادية قال:
صفحة : 986
كان لأبي المحلق شرف فمات وقد أتلف ماله، وبقي المحلق وثلاث أخوات له ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود حبرة كان يشهد فيهما الحقوق . فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه. فأقبلت عمة المحلق فقالت: يابن أخي هذا الأعشى قد نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلا رفعهم، ولم يهج قوما إلا وضعهم؛ فانظر ما أقول لك واحتل في زق من خمر من عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردي أبيك؛ فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردين، ليقولن فيك شعرا يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة، وأنا أتوقع رسلها . فأقبل يدخل ويخرج ويهم ولا يفعل؛ فكلما دخل على عمته حضته؛ حتى دخل عليها فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك مولى له أسود شيخ فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائبا عن الماء عند نزوله إياه، وأنك لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه؛ فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه؛ فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه فخرج يتبعه؛ فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمنفوحة اليمامة فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيخا فهم يشربون منه، إذ قرع الباب فقال: انظروا من هذا? فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا. فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: ويحكم أعرابي والذي أرسل إلي لا قدر له والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعرا لم أقل قط مثله. فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة ثم أتيناك فلم تطعمنا لحما وسقيتنا الفضيخ واللحم والخمر ببابك، لا نرضى بدا منك. فقال: ائذنوا له؛ فدخل فأدى الرسالة وقد أناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. قال: أقره السلام وقل له: وصلتك رحم، سيأتيك ثناؤنا. وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها وجلدها عن سنامها ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق حتى انتهى إلى قوله:
أيا مسمع سار الذي قد فعلـتـم فأنجد أقوام به ثـم أعـرقـوا
هب تعقد الأحمال في كل منزل وتعقد أطراف الحبال وتطلـق قال: فسار الشعر وشاع في العرب. فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف.
وذكر الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن معقل عن أبي بكر الهلالي قال: خرج الأعشى إلى اليمن يريد قيس بن معد يكرب، فمر ببني كلاب، فأصابه مطر في ليلة ظلماء، فأوى إلى فتى من بني بكر بن كلاب، فبصر به المحلق وهو عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد بن كلاب وهو يومئذ غلام له ذؤابة، فأتى أمه فقال: يا أمه رأيت رجلا أخلق به أن يكسبنا مجدا. قالت: وما تريد يا بني? قال: نضيفه الليلة. فأعطته جلبابها فاشترى به عشيرا من جزور وخمرا؛ فأتى الأعشى، فأخذه إليه، فطعم وشرب واصطلى، ثم اصطبح فقال فيه:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق والرواية الأولى أصح.
سألته امرأة أن يشبب ببناتها فشبب بهن فزوجهن: أخبرني أحمد بن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا قعنب بن المحرز عن الأصمعي قال حدثني رجل قال: جاءت امرأة إلى الأعشى فقالت: إن لي بنات قد كسدن علي، فشبب بواحدة منهن لعلها أن تنفق. فشبب بواحدة منهن، فما شعر الأعشى إلا بجزور قد بعث به إليه. فقال: ما هذا? فقالوا: زوجت فلانة. فشبب بالأخرى فأتاه مثل ذلك، فسأل عنها فقيل: زوجت. فما زال يشبب بواحدة فواحدة منهن حتى زوجن جميعا.
أسره رجل من كلب كان قد هجاه فاستوهبه منه شريح بن السموءل: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن أبي سعيد الأموي عن محمد بن السائب الكلبي قال: هجا الأعشى رجلا من كلب فقال:
صفحة : 987
بنو الشهر الحرام فلست منهم ولست من الكرام بني عبيد
ولا من رهط جبار بن قرط ولا من رهط حارثة بن زيد - قال: وهؤلاء كلهم من كلب فقال الكلبي: لا أبا لك أنا أشرف من هؤلاء. قال: فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى إياه، وكان متغيظا عليه. فأغار على قوم قد بات فيهم الأعشى فأسر منهم نفرا وأسر الأعشى وهو لا يعرفه، ثم جاء حتى نزل بشريح بن السموءل بن عادياء الغساني صاحب تيماء بحصنه الذي يقال له الأبلق. فمر شريح بالأعشى؛ فناداه الأعشى:
شريح لا تتركني بعد ما علـقـت حبالك اليوم بعد القد أظـفـاري
قد جلت ما بين بانقيا إلـى عـدن وطال في العجم تردادي وتسياري
فكان أكرمهم عهدا وأوثـقـهـم مجدا أبوك بعزف غير إنـكـار
كالغيث ما استمطروه جاد وابلـه وفي الشدائد كالمستأسد الضـاري
كن كالسموءل إذ طاف الهمام بـه في جحفل كهزيع اللـيل جـرار
إذ سامه خطتي خسف فقـال لـه قل ما تشاء فإني سـامـع حـار
فقال غدر وثكل أنت بـينـهـمـا فاختر وما فيهما حظ لمخـتـار
فشك غير طـويل ثـم قـال لـه اقتل أسيرك إني مانـع جـاري
وسوف يعقبنيه إن ظـفـرت بـه رب كريم وبيض ذات أطـهـار
لا سرهن لـدينـا ذاهـب هـدرا وحافظات إذا استودعن أسراري
فاختار أدراعه كي لا يسب بـهـا ولم يكن وعده فيهـا بـخـتـار قال: وكان امرؤ القيس بن حجر أودع السموءل بن عادياء أدراعا مائة، فأتاه الحارث بن ظالم ويقال الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه، فتحصن منه السموءل؛ فأخذ الحارث ابنا له غلاما وكان في الصيد، فقال: إما أن سلمت الأدراع إلي وإما أن قتلت ابنك. فأبى السموءل أن يسلم إليه الأدراع؛ فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه قطعتين، فيقال: إن جريرا حين قال للفرزدق:
بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم إنما عني هذه الضربة. فقال السموءل في ذلك:
وفيت بذمة الكنـدي إنـي إذا ما ذم أقـوام وفـيت
وأوصى عاديا يوما بأن لا تهدم يا سموءل ما بنـيت
بنى لي عاديا حصنا حصينا وماء كلما شئت استقـيت قال: فجاء شريح إلى الكلبي فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور. فقال: هو لك، فأطلقه. وقال: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك. فقال له الأعشى: إن من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقة نجيبة وتخليني الساعة. قال: فأعطاه ناقة فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى. فأرسل إلى شريح: ابعث إلى الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه. فقال: قد مضى. فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.
مدح عامر بن الطفيل وهجا علقمة بن علاثة: حدثنا ابن علاثة عن محمد العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد بن يحيى الأموي عن محمد بن السائب قال: أتى الأعشى الأسود العنسي وقد امتدحه فاستبطأ جائزته. فقال الأسود: ليس عندنا عين ولكن نعطيك عرضا، فأعطاه خمسمائة مثقال دهنا وبخمسمائة حللا وعنبرا. فلما مر ببلاد بني عامر خافهم على ما معه، فأتى علقمة بن علاثة فقال له: أجرني، فقال: قد أجرتك. قال: من الجن والإنس? قال نعم. قال: ومن الموت? قال لا. فأتى عامر بن الطفيل فقال: أجرني، قد أجرتك. قال: من الجن والإنس? قال نعم قال: ومن الموت? قال نعم. قال: وكيف تجيرني من الموت? قال: إن مت وأنت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. فقال: الآن علمت أنك قد أجرتني من الموت. فمدح عامرا وهجا علقمة. فقال علقمة: لو علمت الذي أراد كنت أعطيته إياه.
قال الكلبي: ولم يهج علقمة بشيء أشد عليه من قوله:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا فرفع علقمة يده وقال: لعنه الله إن كان كاذبا أنحن نفعل هذا بجاراتنا . وأخبار الأعشى وعلقمة وعامر تأتي مشروحة في خبر منافرتهما إن شاء الله تعالى.
تزوج امرأة من عنزة ثم طلقها وقال فيها شعرا:
صفحة : 988
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل وغيره من أصحابه: أن الأعشى تزوج امرأة من عنزة ثم من هزان قال: وعنزة هو ابن أسد بن ربيعة بن نزار فلم يرضها ولم يستحسن خلقها، فطلقها وقال فيها:
بيني حصان الفرج غير ذمـيمة وموموقة فينا كذاك ووامـقـه
وذوقي فتى قـوم فـإنـي ذائق فتاة أناس مثل ما أنـت ذائقـه
لقد كان في فتيان قومك منكـح وشبان هزان الطوال الغرانقه
فبيني فإن البين خير من العصا وإلا تري لي فوق رأسك بارقه
وما ذاك عندي أن تكوني دنـيئة ولا أن تكوني جئت عندي ببائقه
ويا جارتا بيني فإنك طـالـقـه كذاك أمور الناس غاد وطارقه أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الحسين بن إبراهيم بن الحر قال حدثنا المبارك بن سعيد عن سفيان الثوري قال: طلاق الجاهلية طلاق. كانت عند الأعشى امرأة فأتاها قومها فضربوه وقالوا: طلقها فقال:
أيا جارتا بيني فإنك طـالـقـه كذاك أمور الناس غاد وطارقه وذكر باقي الأبيات مثل ما تقدم.
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا عثمان البرقي في إسناد له قال: أخذ قوم الأعشى فقالوا له: طلق امرأتك؛ فقال:
أيا جارتا بيني فإنك طـالـقـه كذاك أمور الناس غاد وطارقه ثم ذكر نحو الخبر الذي قبله على ما قدمناه.
في هذه الأبيات غناء نسبته: صوت
فبيني فإن البين خير من العصا وإلا تري لي فوق رأسك بارقه
وما ذاك عندي أن تكوني دنـيئة ولا أن تكوني جئت عندي ببائقه
ويا جارتا بيني فإنك طـالـقـه كذاك أمور الناس غاد وطارقه الشعر للأعشى. والغناء للهذلي خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.
وفيه لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي. قال الهشامي: وفيه لفليح خفيف ثقيل بالوسطى لا يشك فيه من غنائه. وذكر حبش أن الثقيل الثاني لآبن سريج وذكر عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أن الخفيف الثاني المنسوب إلى فليح لأبيه عبد الله بن طاهر. وهذا الصوت يغنى في هذا الزمان على ما سمعناه:
أيا جارتا دومي فإنك صـادقـه وموموقة فينا كذاك ووامـقـه
ولم نفترق أن كنت فينـا دنـيئة ولا أن تكوني جئت عندي ببائقه وأحسبه غير في دور الطاهرية على هذا.
فخر الأخطل بشعر له في الخمر فرد عليه الشعبي بشعره: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثي سوار بن أبي شراعة قال حدثني أبي عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال: دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان وقد شرب خمرا وتضمخ بلخالخ وخلوق وعنده الشعبي. فلما رآه قال: يا شعبي، ناك الأخطل أمهات الشعراء جميعا. فقال له الشعبي: بأي شيء? قال حين يقول:
وتظل تنصفنا بهـا قـروية إبريقها برقاعه مـلـثـوم
فإذا تعاورت الأكف زجاجها نفحت فشم رياحها المزكوم فقال الأخطل : سمعت بمثل هذا يا شعبي? قال: إن أمنتك قلت لك. قال: أنت آمن. فقلت له: أشعر والله منك الذي يقول:
وأدكن عاتق حجل ربـحـل صبحت براحه شربا كراما
من اللائي حملن على المطايا كريح المسك تستل الزكامـا فقال الأخطل: ويحك ومن يقول هذا? قلت: الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة. فقال: قدوس قدوس ناك الأعشى أمهات الشعراء جميعا وحق الصليب .
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة والهيثم بن عدي، وحدثني الصولي قال حدثني الغلابي عن العتبي عن أبيه، وذكر هارون بن الزيات عن حماد عن أبيه عن عبد الله بن الوليد عن جعفر بن سعيد الضبي، قالوا جميعا: قدم الأخطل الكوفة، فأتاه الشعبي يسمع من شعره. قال: فوجدته يتغدى، فدعاني أتغدى فأتيته، فوضع الشراب فدعاني إليه فأتيته. فقال ما حاجتك? قلت: أحب أن أسمع من شعرك، فأنشدني قوله:
صرمت أمامة حبلنا ورعوم حتى انتهى إلى قوله:
صفحة : 989
فإذا تعاورت الأكف ختامها نفحت فشم رياحها المزكوم فقال: يا شعبي، ناك الأخطل أمهات الشعراء بهذا البيت. قلت: الأعشى أشعر منك يا أبا مالك . قال: وكيف? قلت: لأنه قال:
من خمر عانة قد أتى لختامها حول تسل غمامة المزكـوم فضرب بالكأس الأرض وقال: هو والمسيح أشعر مني ناك والله الأعشى أمهات الشعراء إلا أنا.
مدح سلامة ذا فائش فأجازه: حدثني وكيع قال حدثني محمد بن إسحاق المعولي عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن حرب قال: قال الاعشى: أتيت سلامة ذا فائش فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه فأنشدته:
إن مـحـلا وإن مـرتـحـلا وإن في السفر من مضى مهلا
استأثر الله بـالـوفـاء وبـال عدل وولى الملامة الـرجـلا
الشعـر قـلـدتـه سـلامة ذا فائش والشيء حيث ما جعـلا فقال: صدقت، الشيء حيث ما جعل، وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللا وأعطاني كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا وقال: إياك أن تخدع عما فيها. فأتيت الحيرة فبعتها بثلثمائة ناقة حمراء.
أراد أن يفد على النبي ليسلم فردته قريش بجائزة فعثر به بعيره فمات: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال قال هشام بن القاسم الغنوي وكان علامة بأمر الأعشى: إنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مدحه بقصيدته التي أولها:
الم تغتمض عيناك ليلة أرمـدا وعادك ما عاد السليم المسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهـددا وفيها يقول لناقته:
فآليت لا أرثي لها مـن كـلالة ولا من حفا حتى تزور محمدا
نبي يرى ما لا تـرون وذكـره أغار لعمري في البلاد وأنجـدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضلـه يدا فبلغ خبره قريشا فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب، ما مدح أحدا قط إلا رفع في قدره: فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير? قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها بك رافق ولك موافق. قال: وما هن? فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا: قال: لقد تركني الزنا ومما تركته؛ ثم ماذا? قال القمار. قال: لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار؛ ثم ماذا? قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا ادنت؛ ثم ماذا? قالوا: الخمر. قال: أوه أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به? قال: وما هو? قال: نحن وهو الآن في هدنة ،فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مائة من الإبل، ففعلوا؛ فأخذها وانطلق إلى بلده. فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله.
قبره بمنفوحة يتنادم عليه الفتيان: أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة قال. قبر الأعشى بمنفوحة وأنا رأيته؛ فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره فشربوا عنده وصبوا عنده فضلات الأقداح. أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا علي بن سليمان النوفلي قال حدثنا أبي قال: أتيت اليمامة واليا عليها، فمررت بمنفوحة وهي منزل الأعشى التي يقول فيها:
بشط منفوحة فالحاجر فقلت: أهذه قرية الأعشى? قالوا نعم. فقلت: أين منزله? قالوا: ذاك واشاروا إليه. قلت: فأين قبره? قالوا: بفناء بيته. فعدلت إليه بالجيش فانتهيت إلى قبره فإذا هو رطب. فقلت: ما لي أراه رطبا? فقالوا: إن الفتيان ينادمونه فيجعلون قبره مجلس رجل منهم، فإذا صار إليه القدح صبوه عليه لقوله: أرجع إلى اليمامة فأشبع من الأطيبين الزنا والخمر.
صوت معبد المسمى بالدوامة في شعره: وأخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا الأطروش بن إسحاق بن إبراهيم عن أبي: أن ابن عائشة غنى يوما:
صفحة : 990
هريرة ودعها وإن لام لائم فأعجبته نفسه ورآه ينظر في أعطافه. فقيل له: لقد أصبحت اليوم تائها فقال: وما يمنعني من ذلك وقد أخذت عن أبي عباد معبد أحد عشر صوتا منها:
هريرة ودعها وإن لام لائم وأبو عباد مغني أهل المدينة وإمامهم .
قال: وكان معبد يقول والله لقد صنعت صوتا لا يقدر أن يغنيه شبعان ممتلئ، ولا يقدر متكئ على أن يغنيه حتى يجثو، ولا قائم حتى يقعد. قيل: وما هو يا أبا عباد? قال إسحاق فأخبرني بذاك محمد بن سلام الجمحي أنه بلغه أن معبدا قاله. وأخبرني بهذا الخبر إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى قال: قال معبد: والله لأغنين صوتا لا يغنيه مهموم ولا شبعان ولا حامل حمل، ثم غنى:
ولقد قلت والضـم ير كثير البلابـل
ليت شعري تمنـيا والمنى غير طائل
هل رسول مبلـغ فيؤدي رسائلـي لحن معبد هذا خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس. وفيه ثقيل أول ينسب إليه أيضا، ويقال: إنه لأهل مكة.
صوت معبد المسمى بالمنمنم.
ومنها الصوت المسمى بالمنمنم.
صوت
هاج ذا القلب من تذكر جمـل ما يهيج المتيم المـحـزونـا
إذ تراءت على البلاط فلـمـا واجهتنا كالشمس تعشي العيونا
ليلة السبت إذ نظرت إلـيهـا نظرة زادت الفؤاد جنـونـا الشعر لإسماعيل بن يسار. والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى. وفيه لدحمان ثاني ثقيل بالبنصر، ذكر الهشامي أنه لا يشك فيه من غنائه. وقد مضت أخبار إسماعيل بن يسار في المائة المختارة فاستغنى عن إعادتها ها هنا.
صوت صوت معبد المسمى بمعقصات القرون:
آمن آل ليلى بالملا مـتـربـع كما لاح وشم في الذراع مرجع
سأتبع ليلى حيث سارت وخيمت وما النـاس إلا ألـف ومـودع الشعر لعمرو بن سعيد بن زيد، وقيل: إنه لمجنون وإن مع هذين البيتين أخر وهي:
وقفت لليلى بعد عشرين حجة بمنزلة فانهلت العين تدمـع
فأمرض قلبي حبها وطلابهـا فيا آل ليلى دعوة كيف أصنع
سأتبع ليلى حيث حلت وخيمت وما الناس إلا آلف ومـودع
كأن زماما في الفؤاد معلقـا تقود به حيث استمرت وأتبع والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى. وقد ذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أن هذا الصوت منحول إلى معبد وأنه مما يشبه غناءه. وذكر ابن الكلبي عن محمد بن يزيد أن معبدا أخذ لحن سائب خاثر في:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل فغنى فيه:
أمن آل ليلى بالملا متربع
عمرو بن سعيد بن زيد وأخباره
نسبه، وشيء عن أبيه سعيد بن زيد: هو عمرو بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. وسعيد بن زيد يكنى أبا الأعور، وهو أحد العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء فرجف بهم، فقال: أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد.
أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال حدثني الهيثم بن سفيان عن أبي مسكين قال: جلس الوليد بن يزيد يوما للمغنين وكانوا متوافرين عنده وفيهم معبد وابن عائشة؛ فقال لابن عائشة: يا محمد. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: إني قد قلت شعرا فغني فيه. قال: وما هو? فأنشده إياه، وترنم به محمد ثم غناه فأحسن، وهو: صوت
عللاني وأسـقـيانـي من شراب أصبهانـي
من شراب الشيخ كسرى أو شراب الـقـيروان
إن في الكأس لمسـكـا أو بكف من سقـانـي
أو لقد غـودر فـيهـا حين صبت في الدنـان
كللانـي تـوجـانـي وبشعري غـنـيانـي
أطلقانـي بـوثـاقـي وأشدداني بعـنـانـي
إنمـا الـكـأس ربـيع يتعاطى بـالـبـنـان
وحميا الـكـأس دبـت بين رجلي ولسـانـي
صفحة : 991
الغناء لابن عائشة هزج بالبنصر من رواية حبش قال: فأجاد ابن عائشة واستحسن غناءه من حضر؛ فالتفت إلى معبد فقال: كيف ترى يا أبا عباد? فقال له معبد: شنت غناءك بصلفك. فقال ابن عائشة: يا أحول والله لولا أنك شيخنا وأنك في مجلس أمير المؤمنين لأعلمتك من الشائن لغنائه أنا بصلفى أم أنت بقبح وجهك. وفطن الوليد بحركتهما فقال: ما هذا? فقال: خير يا أمير المؤمنين، لحن كان معبد طارحنيه فأنسيته فسألته عنه لأغني فيه أمير المؤمنين. فقال:وما هو? فقال:
آمن آل ليلى بالملا مـتـربـع كما لاح وشم في الذراع مرجع فقال: هات يا معبد، فغناه إياه؛ فأستحسنه الوليد وقال: أنت والله سيد من غنى. وهذا الخبر أيضا مما يدل على أن ما ذكره حماد من هذا الصوت منحول لمعبد لا حقيقة له.
أحمد بن أبي العلاء يغني المعتضد بشعر الوليد فيجيزه: أخبرني محمد بن إبراهيم قريض قال حدثني أحمد بن أبي العلاء المغني قال: غنيت المعتضد صوتا في شعر له ثم أتبعته بشعر الوليد بن يزيد:
كللاني توجانـي وبشعري غنياني فقال: أحسن والله هكذا تقول الملوك المترفون، وهكذا يطربون، وبمثل هذا يشيرون، وإليه يرتاحون أحسنت يا أحمد الأختيار لما شاكل الحال، وأحسنت الغناء، أعد؛ فأعدته، فأمر لي بعشرة ألآف درهم وشرب رطلا استعاده فأعدته، وفعل مثل ذلك حتى استعاده ست مرات وشرب ستة أرطال وأمر لي بعشرة الآف درهم وقال مرة أخرى بستمائة دينار ثم سكر. وما رئي قبل ذلك ولا بعده أعطي مغنيا هذه العطية. وفي الخبر زيادة وقد ذكرته في موضعت آخر يصلح له.
وقد ذكر محمد بن الحسن الكاتب عن أحمد بن سهل النوشجاني أنه حضر أحمد بن أبي العلاء وقد غنى المعتضد هذا الصوت في هذا المجلس وأمر له بهذا المال بعينه ولم يشرح القصة كما شرحها أحمد.
ومنها صوت وهو المتبختر: صوت معبد المسمى بالمتبختر:
جعل الله جعفرا لك بعـلا وشفاء من حادث الأوصاب
إذ تقولين للوليدة قـومـي فانظري من ترين بالأبواب الشعر للأحوص. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر. وذكر حماد عن أبيه في كتاب معبد أنه منحول إلى معبد وأنه لكردم.
صوت وهو المسمى مقطع الأثفار
ضوء نار بدا لعينك أم شـب ت بذي الأثل من سلامة نار
تلك بين الرياض والأثل والبا نات منا ومن سـلامة دار
وكذاك الزمان يذهب بالـنـا س وتبقى الرسوم والأثـار الشعر للأحوص. والغناء لمعبد خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. وذكر يونس أن فيه صوتين لمعبد وعمر الوادي رمل عن الهشامي. وفيه لعبد الله بن العباس خفيف رمل بالوسطى.
الأحوص وموسى شهوات
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمي قال: مدح موسى شهوات أبا بكر بن عبد العزيز بن مروان بقصيدة أحسن فيها وأجاد وقال فيها:
وكذاك الزمان يذهب بالنا س وتبقى الديار والأثار فقام الأحوص ودخل منزله وقال قصيدة مدح فيها أبا بكر بن عبد العزيز أيضا وأتى فيها بهذا البيت بعينه وخرج فأنشدها. فقال له موسى شهوات: ما رأيت يا أحوص مثلك ?? قلت قصيدة مدحت فيها الأمير فسرقت أجود بيت فيها وجعلته في قصيدتك. فقال له الأحوص: ليس الأمر كما ذكرت، ولا البيت لي ولا لك، هو للبيد سرقناه جميعا منه، إنما ذكر لبيد قومه فقال:
فعفا آخر الزمان عليهـم فعلى آخر الزمان الدبار
وكذاك الزمان يذهب بالنا س وتبقى الرسوم والأثار قال: فسكت موسى شهوات فلم يحر جوابا كأنما ألقمه حجرا.
حديث سلامة مع الأحوص وعبد الرحمن بن حسان وهو كما يرى أبو الفرج موضوع: ونسخت من كتاب أحمد بن سعيد الدمشقي خبر الأحوص مع سلامة التي ذكرها في هذا الشعر وهو موضوع لا أشك فيه لأن شعره المنسوب إلى الأحوص شعر ساقط سخيف لا يشبه نمط الأحوص، والتوليد بين فيه يشهد على أنه محدث. والقصة أيضا باطلة لا أصل لها؛ ولكني ذكرته في موضعه على ما فيه من سوء العهدة. قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو محمد الجزري قال:
صفحة : 992
كانت بالمدينة سلامة من أحسن الناس وجها وأتمهن عقلا وأحسنهن حديثا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وقالت الشعر، وكان عبد الرحمن بن حسان والأحوص بن محمد يختلفان إليها فيرويانها الشعر ويناشدانها إياه. فعلقت الأحوص وصدت عن عبد الرحمن. فقال لها عبد الرحمن يعرض لها بما ظنه من ذلك:
أرى الإقبال منك على خليلي ومالي في حديثكم نصـيب فأجابته:
لأن الله علـقـه فـؤادي فحاز الحب دونكم الحبيب فقال الأحوص:
خليلي لا تلمها في هواهـا ألذ العيش ما تهوى القلوب قال: فأضرب عنها ابن حسان وخرج ممتدحا ليزيد بن معاوية فأكرمه وأعطاه. فلما أراد الانصراف قال له: يا أمير المؤمنين، عندي نصيحة، قال: وما هي? جارية خلفتها بالمدينة لامرأة من قريش من أجمل الناس وأكملهم وأعقلهم ولا تصلح أن تكون إلا لأمير المؤمنين وفي سماره: فأرسل إليها يزيد فاشتريت له وحملت إليه؛ فوقعت منه موقعا عظيما وفضلها على جميع من عنده. وقدم عبد الرحمن المدينة فمر بالأحوص وهو قاعد على باب داره وهو مهموم، فأراد أن يزيده إلى ما به فقال:
يا مبتلى بالحب مفـدوحـا لاقى من الحب تبـاريحـا
ألجمه الحب فما ينـثـنـي إلا بكأس الشوق مصبوحا
وصار ما يعجبه مغلـقـا عنه وما يكره مفتـوحـا
قد حازها من أصبحت عنده ينال منها الشم والـريحـا
خليفة الله فسـل الـهـوى وعز قلبا منك مجروحـا فأمسك الأحوص عن جوابه. ثم أن شابين من بني أمية أرادا الوفادة إلى يزيد، فأتاهما الأحوص فسألهما أن يحملا له كتابا ففعلا. فكتب إليها معهما:
سلام ذكرك ملصق بلـسـانـي وعلى هواك تعودني أحـزانـي
ما لي رأيتك في المنام مطـيعة وإذا انتبهت لججت في العصيان
أبدا محبك مـمـسـك بـفـؤاده يخشى اللجاجة منك في الهجران
إن كنت عاتبة فإنـي مـعـتـب بعد الإساءة فاقبلي إحـسـانـي
لا تقتلي رجلا يراك لـمـا بـه مثل الشراب لغلة الـظـمـآن
ولقد أقول لقاطنين من اهـلـنـا كانا على خلـق مـن الإخـوان
يا صاحبي على فؤادي جـمـرة وبرى الهوى جسمي كما تريان
أمرقيان إلى سـلامة أنـتـمـا ما قد لقيت بها وتحـتـسـبـان
لا أستطيع الصبر عنهـا إنـهـا من مهجتي نزلت لكل مـكـان قال: ثم غلبه جزعه فخرج إلى يزيد ممتدحا له. فلما قدم عليه قربه وأكرمه وبلغ لديه كل مبلغ. فدست إليه سلامة خادما وأعطته مالا على أن يدخله إليها. فأخبر الخادم يزيد بذلك؛ فقال: امض برسالتها. ففعل ما أمره به وأدخل الأحوص، وجلس يزيد بحيث يراهما فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فألقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة الشوق. فلم يزالا يتحدثان إلى السحر ويزيد يسمع كلامهما من غير أن تكون بينهما ريبة. حتى إذا هم بالخروج قال:
أمسى فؤادي في هم وبـلـبـال من حب من لم أزل منه على بال فقالت:
صحا المحبون بعد النأي إذ يئسوا وقد يئست وما أصحو على حال فقال:
من كان يسلو بيأس عن أخي ثقة فعن سلامة ما أمسيت بالسالي فقالت:
والله والله لا أنساك يا سـكـنـي حتى يفارق مني الروح أوصالي فقال:
والله ما خاب من أمسى وأنت له يا قرة العين في أهل وفي مال ثم ودعها وخرج. فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان جرى بينكما في ليلتكما واصدقاني. فأخبراه وأنشداه ما قالاه، فلم يخرما حرفا ولا غيرا شيئا مما سمعه. فقال له يزيد: أتحبها يا أحوص? قال: إي والله يا أمير المؤمنين.
حبا شديدا تليدا غير مـطـرف بين الجوانح مثل النار يضطرم فقال لها: أتحبينه? قالت: نعم يا أمير المؤمنين.
حبا شديدا جرى كالروح في جسدي فهل يفرق بين الروح والجـسـد
صفحة : 993
فقال يزيد: إنكما لتصفان حبا شديدا خذها يا أحوص فهي لك، ووصله بصلة سنية، وانصرف بها وبالجارية إلى الحجاز وهو من أقر الناس عينا. مضى الحديث.
أصوات معبد المسماة مدن معبد وتسمى أيضا حصون معبد مدن معبد أو حصونه: أخبرني ابن أبي الأزهر والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه، قال حسين في خبره واللفظ له عن إسماعيل بن جامع عن يونس الكاتب قال: قال معبد وقد سمع رجلا يقول: إن قتيبة بن مسلم فتح سبعة حصون أو سبع مدن لخراسان فيها سبعة حصون صعبة المرتقى والمسالك ولم يوصل إليها قط. فقال: والله لقد صنعت سبعة ألحان كل لحن منها أشد من فتح تلك الحصون. فسئل عنها فقال:
لعمري لئن شطت بعثمة دارها
هريرة ودعها وإن لام لائم
رأيت عرابة الأوسي يسمو
كم بذاك الحجون من حي صدق
لو تعلمين الغيب أيقنت أنني
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
ودع هريرة إن الركب مرتحل ومن الناس من يروي مدن معبد:
تقطع من ظلامة الوصل أجمع
خمصانة قلق موشحها
يوم تبدي لنا قتيلة مكان:
كم بذاك الحجون من حي صدق
لو تعلمين الغيب أيقنت أنني
يا دار عبلة بالجواء تكلمي نسبة هذه الأصوات وأخبارها صوت
لعمري لئن شطت بعثمة دارها لقد كدت من وشك الفراق أليح
أروح بهم ثم أغدو بـمـثـلـه ويحسب أني في الثياب صحيح عروضه من الطويل. شطت: بعدت. ووشك الفراق: دنوه وسرعته. وأليح: أشفق وأجزع. والشعر لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة الفقيه. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر من رواية يونس وإسحاق وعمرو وغيرهم. وفيه رمل يقال: إنه لابن سريج.
ذكر عبيد الله بن عبد الله ونسبه
نسبه، وعداده في بني زهرة: هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فأر بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وهوفي حلفاء بني زهرة من قريش وعداده فيهم.
كان لجده صحبة وليس بدريا: وعتبة بن مسعود وعبد الله بن مسعود البدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوان، ولعتبة صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس من البدريين.
استعمل أباه عمر بن الخطاب: وكان ابنه عبد الله أبو عبيد الله بن عبد الله رجلا صالحا، واستعمله عمر بن الخطاب فأحمده.
أخواه عون وعبد الرحمن
ولعبيد الله بن عبد الله أخوان عون وعبد الرحمن.
وكان عون من أهل الفقه والأدب، وكان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه. وقال وكان شاعرا:
فأول ما أفارق غير شـك أفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من آل جور وليس المؤمنون بجائرينـا
وقالوا مؤمن دمه حـلال وقد حرمت دماء المؤمنينا وخرج مع ابن الأشعث، فلما هزم هرب، وطلبه الحجاج؛ فأتى محمد بن مروان بن الحكم بنصيبين فأمنه وألزمه ابنيه مروان بن محمد وعبد الرحمن بن محمد. فقال له: كيف رأيت ابني أخيك? قال: أما عبد الرحمن فطفل، وأما مروان فأني إن أتيته حجب، وإن قعدت عنه عتب، وإن عاتبته صخب، وإن صاحبته غضب. ثم تركه ولزم عمر بن عبد العزيز فلم يزل معه. ذكر ذلك كله ومعانيه الأصمعي عن أبي نوفل الهذلي عن أبيه: ولعون يقول جرير:
يا أيها القارئ المرخي عمامـتـه هذا زمانك إني قد مضى زمنـي
أبلغ خليفتـنـا إن كـنـت لاقـيه إني لدى الباب كالمصفود في قرن وخبره يأتي في أخبار جرير .
كان فقيها، وهوأحد السبعة بالمدينة: وأما عبد الرحمن فلم تكن له نباهة أخويه وفضلهما فسقط ذكره.
وأما عبيد الله فإنه أحد وجوه الفقهاء الذين روي عنهم الفقه والحديث. وهو أحد السبعة من أهل المدينة، وهم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخازجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار. وكان عبيد الله ضريرا. وقد روى عن جماعة من وجوه الصحابة مثل ابن عباس وعبد الله بن مسعود عمه وأبي هريرة. وروى عنه الزهري وابن أبي الزناد وغيرهما من نظرائهما.
صفحة : 994
كان يؤثره ابن عباس: وكان عبد الله بن عباس يقضمه ويؤثره.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبي قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا حماد بن زيد عن معمر عن الزهري قال: كان عبيد الله بن عبد الله يلطف لابن عباس فكان يعزه عزا.
حديث الزهري عنه
وكان كثير الاتصال به: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن عن مالك بن أنس عن ابن شهاب الزهري قال: كنت أخدم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حتى إن كنت لأستقي الماء المالح وإن كان ليسأل جاريته فتقول: غلامك الأعمش.
أخبرني وكيع قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أدركت أربعة بحور، عبيد الله بن عبد الله أحدهم.
أخبرني وكيع قال حدثنا محمد قال حدثنا حامد بن يحيى عن أبي عيينة عن الزهري قال: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فلما لقيت عبيد الله بن عبد الله كأني كنت في شعب من الشعاب فوقعت في الوادي؛ وقال مرة: صرت كأني لم أسمع من العلم شيئا.
أثنى عليه عمر بن عبد العزيز: أخبرني وكيع قال حدثني بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي عن ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: كان عمر بن العزيز يقول: ليت لي مجلسا من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بدية.
أخبرني وكيع قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال حدثني عمي عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن حمزة بن عبد الله قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حيا ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم من عبيد الله غرما. قال ذلك في خلافته.
ما جرى بين عمر بن عبد العزيز وعروة في شأن عائشة وابن الزبير أمامه، ثم شعره لعمر حين أرسل إليه: أخبرنا محمد بن جرير الطبري وعم أبي عبد العزيز بن أحمد ومحمد بن العباس اليزيدي والطوسي ووكيع والحرمي بن أبي العلاء وطاهر بن عبد الله الهاشمي، قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وابن أخيه يحيى بن محمد بن طلحة جميعا عن عثمان بن عمر بن موسى عن الزهري قال: دخل عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة على عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة. فقال عروة لشيء حدث به من ذكر عائشة وعبد الله بن الزبير: سمعت عائشة تقول: ما أحببت أحدا حبي عبد الله بن الزبير لا أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبوي. فقال عمر: إنكم لتنتحلون عائشة لابن الزبير انتحال من لا يرى لكم مسلم معه فيها نصيبا.
فقال عروة: بركة عائشة كانت أوسع من ألا يرى لكم مسلم فيها حق، ولقد كان عبد الله منها بحيث وضعته الرحم والمودة التي لا يشرك كل واحد منهما فيه عند صاحبه أحد. فقال عمرو: كذبت. فقال عروة: هذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يعلم أني غير كاذب، وإن من أكذب الكاذبين من كذب الصادقين. فسكت عبيد الله ولم يدخل بينهما في شيء. فأفف بهما عمرو وقال: أخرجا عني. ثم لم يلبث أن بعث إلى عبيد الله بن عبد الله رسولا يدعوه لبعض ما كان يدعوه إليه. فكتب إليه عبيد الله:
لعمر ابن ليلى وابن عائشة التـي لمروان أدته، أب غـير زمـل
لو أنهم عـمـا وجـدا ووالـدا تأسوا فسنوا سنة المتـعـطـل
عذرت أبا حفص وإن كان واحدا من القوم يهدي هديهم ليس يأتلي
ولكنهم فاتوا وجئت مـصـلـيا تقرب إثر السابق المتـمـهـل
وعمت فإن تسبق فضنء مبـرز جواد وإن تسبق فنفسك فاعـذل
فمالك بالسلطان أن تحمل القـذى جفون عيون بالقذى لم تكـحـل
وما الحق أن تهوى فتعسف بالذي هويت إذا ما كان ليس بأعـدل
أبى الله والأحساب أن ترأم الخنى نفوس كرام بالخنا لـم تـوكـل قال الزبير في خبره وحده: الضنء والضنء: الولد. قال: وأنشد الخليل بن أسد قال أنشدني دهثم:
ابن عجوز ضنؤها غير أمـر لو نحرت في بيتها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعـتـذر تغدو على الحي بعود من سمر
حتى يفر أهلها كـل مـفـر
صفحة : 995
حجبه عمر بن عبد العزيز فقال فيه شعر ثم اعتذر فعذره: أخبرني الحسن بن علي ووكيع قالا حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير، وأخبرناه الحرمي بن أبي العلاء إجازة قال حدثنا الزبير عن ابن أبي أويس عن بكار بن حارثة عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة: إن عبيد الله بن عبد الله جاء إلى عمر بن عبد العزيز فاستأذن عليه، فرده الحاجب وقال له: عنده عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو مختل به، فانصرف غضبان. وكان في صلاحه ربما صنع الأبيات، فقال لعمر:
أبن لي فكن مثلي أو ابتغ صاحبا كمثلك إني تابع صاحبا مثـلـي
عزيز إخائي لا ينـال مـودتـي من الناس إلا مسلم كامل العقـل
وما يلبث الفتيان أن يتـفـرقـوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل قال: فأخبر عمر بأبياته؛ فبعث إليه أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وعراك بن مالك يعذرانه عنده ويقولان:إن عمر يقسم بالله ما علم بأبياتك ولا برد الحاجب إياك، فعذره. قال الزبير وقد أنشدني محمد بن الحسن قال أنشدني محزر بن جعفر لعبيد الله بن عبد الله هذه الأبيات وزاد فيها وهو أولها:
وإني امرؤ من يصفني الود يلفـنـي وإن نزحت دار بـه دائم الـوصـل
عزيز إخـائي لا ينـال مـودتــي من الناس إلا مسلم كامل الـعـقـل
ولولا اتقائي اللـه قـلـت قـصـيدة تسير بها الركبان أبردهـا يغـلـي
بها تنقض الأحلاس في كل مـنـزل وينفي الكرى عنه بها صاحب الرحل
كفاني يسير إذ أراك بـحـاجـتـي كليل اللسان ما تمر وما تـحـلـي
تلاوذ بالأبواب مـنـي مـخـافة ال ملامة والإخلاف شر من البـخـل وذكر الأبيات الأول بعد هذه.
شعره في عراك وابن حزم حين علم أنهما مرا عليه ولم يسلما: أخبرني وكيع قال حدثني علي بن حرب الموصلي قال حدثنا إسماعيل بن ريان الطائي قال سمعت ابن إدريس يقول: كان عراك بن مالك وأبو بكر بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة يتجالسون بالمدينة زمانا. ثم أن ابن حزم ولي إمرتها وولي عراك القضاء، وكانا يمران بعبيد الله فلا يسلمان عليه ولا يقفان، وكان ضريرا فأخبر بذلك، فأنشأ يقول:
ألا أبلغا عني عراك بـن مـالـك ولا تدعا أن تثنيا بـأبـي بـكـر
فقد جعلت تبدو شواكل منـكـمـا كأنكما بي موقران من الصخـر
وطاوعتما بي داعكا ذا مـعـاكة لعمري لقد أزرى وما مثله يزري
ولولا اتقائي ثم بقـياي فـيكـمـا للمتكما لوما أحر من الـجـمـر صوت
فمسا تراب الأرض منها خلقتمـا ومنها المعاد والمصير إلى الحشر
ولا تأنفا أن تسـألا وتـسـلـمـا فما خشي الإنسان شرا من الكبر
فلو شئت أن ألفي عدوا وطاعنـا لألفيته أو قال عندي في الـسـر
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنـكـمـا ضحكت له حتى يلج ويستشـري عروضه من الطويل. غني في:
فمسا تراب الأرض منها خلقتما والذي بعده لحن من الثقيل الأول بالبنصر من رواية عمرو بن بانة وابن المكي ويونس وغيرهم. وزعم ابن شهاب الزهري أن عبيد الله قال هذه الأبيات في عمر بن عبد العزيز وعمرو بن عثمان، يعني أن الأبيات الأول ليست منها في شيء، وإنما أدخلت فيها لاتفاق الروي والقافية.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن ابن شهاب قال: جئت عبيد الله بن عبد الله يوما في منزله فوجدته ينفخ وهو مغتاظ؛ فقلت له: ما لك? قال: جئت أميركم آنفا يعني عمر بن عبد العزيز فسلمت عليه وعلى عبد الله بن عمرو بن عثمان، فلم يردا علي، فقلت:
فمسا تراب الأرض منها خلقتما وذكر الأبيات الأربعة. قال فقلت له: رحمك الله أتقول الشعر في فضلك ونسكك قال: إن المصدور إذا نفث برأ.
قال أبو زيد حدثنا إبراهيم بن المنذر، وأنشدني هذه الأبيات عبد العزيز بن أبي ثابت عن ابن أبي الزناد له وذكر مثل ذلك وأنها في عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عمرو، وزاد فيها:
صفحة : 996
وكيف يريدان ابن تـسـعـين حـجة على ما أتى وهو ابن عشرين أوعشر شيء من شعره: ولعبيد الله بن عبد الله شعر فحل جيد ليس بالكثير. ومنه قوله:
إذا كان لي سر فحدثته الـعـدا وضاق به صدري فللناس أعذر
وسرك ما استودعته وكتمـتـه وليس بسر حين يفشو ويظهـر وقوله لابن شهاب الزهري:
إذا قلت أما بعد لم يثن منطقي فحاذر إذا ما قلت كيف أقول
إذا شئت أن تلقى خليلا مصافيا لقيت وإخوان الثقات قـلـيل استحسن جامع بن مرخية شعره فأجازه: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: أنشد عبيد الله بن عبد الله جامع بن مرخية الكلابي لنفسه:
لعمر أبي المحصين أيام نلـتـقـي لما لا نلاقيها من الدهـر أكـثـر
يعدون يوما واحـدا إن أتـيتـهـا وينسون ما كانت على الدهر تهجر
وإن أولع الواشون عمدا بوصلـنـا فنحن بتجديد الـمـودة أبـصـر قال: فأعجبت أبياته هذه جامعا، فسر ذلك عبيد الله فكساه وحمله.
جامع بن مرخية هذا من شعراء الحجاز، وهو الذي يقول:
سألت سعيد بن المسيب مفـتـى ال مدينة هل في حب ظمياء من وزر
فقال سعيد بن الـمـسـيب إنـمـا تلام على ما تستطيع مـن الأمـر فبلغ قوله سعيدا، فقال: كذب والله ما سألني ولا أفتيته بما قال. أخبرني بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير.
مختارات من شعره: ومن جيد شعر عبيد الله وسهله:
أعاذل عاجل ما أشتـهـي أحب من الآجل الـرائث
سأنفق مالي على لـذتـي وأوثر نفسي على الوارث
أبادر إهلاك مستـهـلـك لمالي أو عبث العـابـث وقوله يفتخر في أبيات:
إذا هي حلت وسط عوذ ابن غالب فذلـك ود نـازح لا أطـالـعـه
شددت حيازيمي على قلب حـازم كتوم لما ضمت عليه أضالـعـه
أداجي رجالا لست مطلع بعضهـم على سر بعض إن صدري واسعه
بنى لي عبد الله في ذروة الـعـلا وعتبة مجدا لا تنال مصـانـعـه وقوله وفيه غناء: صوت
إن يك ذا الدهر قد أضر بنا من غير ذحل فربما نفعـا
أبكي على ذلك الزمـان ولا أحسب شيئا قد فات مرتجعا
إذ نحن في ظل نعمة سلفت كانت لها كل نعمة تبـعـا عروضه من المنسرح. غنت فيها عريب خفيف رمل عن الهشامي.
قدمت المدينة مكية فتنت الناس فشبب بها: حدثنا محمد بن جرير الطبري والحرمي بن أبي العلاء ووكيع قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إسماعيل بن يعقوب عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: قدمت المدينة امرأة من ناحية مكة من هذيل، وكانت جميلة فخطبها الناس وكادت تذهب بعقول أكثرهم فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
أحبك حبا لو عملت ببعضـه لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبك يا أم الصبي مدلـهـي شهيدي أبو بكر وأي شهـيد
ويعلم وجدي القاسم بن محمد وعروة ما ألقى بكم وسعـيد
ويعلم ما أخفي سليمان علمـه وخارجة يبدي لـنـا ويعـيد
متى تسألي عما أقول فتخبري فللحب عندي طارف وتلـيد فبلغت أبياته سعيد بن المسيب، فقال: والله لقد أمن أن تسألنا وعلم أنها لو استشهدت بنا لم نشهد له بالباطل عندها.
وقال الزبير: أبو بكر الذي ذكر والنفر المسمون معه: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وهم الفقهاء الذين أخذ عنهم أهل المدينة.
عتب على زوجة عثمة في بعض الأمر فطلقها وشعره فيها: أخبرني وكيع قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أحمد بن سعيد الفهري عن إبراهيم بن المنذر بن عبد الملك بن الماجشون: أن أبيات عبيد الله بن عبد الله بن عتبة التي أولها:
صفحة : 997
لعمري لئن شطت بعثمة دارها لقد كدت من وشك الفراق أليح قالها في زوجة له كانت تسمى عثمة، فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها. وله فيها أشعار كثيرة، منها هذه الأبيات، ومنها قوله يذكر ندمه على طلاقها:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ولامك أقوام ولومهـم ظـلـم وأخبرني الحرمي بن ابي العلاء قال حدثنا الزبير قال قال لي عمي: لقيني علي بن صالح فأنشدني بيتا وسألني من قائله? وهل فيه زيادة? فقلت: لا أدري، وقد قدم ابن أخي أعنيك وقلما فاتني شيء إلا وجدته عنده. قال الزبير: فأنشدني عمي البيت وهو:
غراب وظبي أعضب القرن ناديا بصرم وصردان العشي تصـيح فقلت له: قائله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وتمامها:
لعمري لئن شطت بعثمة دارها لقد كنت من وشك الفراق أليح
أروح بهم ثم أغدو بمـثـلـه ويحسب أني في الثياب صحيح فكتبهما عمي عني وانصرف بهما إليه.
صوت
ألا من لنفس لا تموت فينقضي عناها ولا تحيا حياة لها طعـم
أأترك إتيان الحبـيب تـأثـمـا ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها قد كنت تزعم أنه رشاد ألا يا ربما كذب الزعـم عروضه من الطويل. غنى يونس في هذه الأبيات الثلاثة لحنا ماخوريا وهو خفيف الثقيل الثاني من رواية إسحاق ويونس وابن المكي وغيرهم. وغنت عريب في:
أأترك إتيان الحبيب تأثما لحنا من الثقيل الأول، وأضافت إليه بعده على الولاء بيتين ليسا من هذا الشعر وهما:
وأقبل أقوال الوشاة تجـرمـا ألا إن أقوال الوشاة هي الجرم
وأشتاق لي إلفا على قرب داره لأن ملاقاة الحبيب هي الغنـم ومما قاله عبيد الله أيضا في زوجته هذه وغني فيه: صوت
عفت أطلال عثمة بالـغـمـيم فأضحت وهي موحشة الرسوم
وقد كنا نحـل بـهـا وفـيهـا هضيم الكشح جائلة الـبـريم عروضه من الوافر. عفت. درست. والأطلال: ما شخص من آثار الديار. والرسوم: ما لم يكن له شخص منها ولا ارتفاع وإنما هو أثر. والهضيم الكشح الخميص الحشى والبطن. والبريم: الخلخال، وقيل: بل هو اسم لكل ما يلبس من الحلي في اليدين والرجلين. والجائل: ما يجول في موضعه لا يستقر. غنى في هذين البيتين قفا النجار. ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر.
ومما قاله في زوجته عثمة وفيها غناء: صوت
تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافـي يسـير
تغلغل حيث لم يبلغ شـراب ولا حزن ولم يبلغ سـرور
صدعت القلب ثم ذررت فيه هواك فليم والتأم الفطـور
أكاد إذا ذكرت العهد منهـا أطير لو ان إنسانـا يطـير
غني النفس أن أزداد حـبـا ولكني إلى صـلة فـقـير
وأنفذ جارحاك سواد قلبـي فأنت علي ما عشنا أمـير لمعبد في الأول والثاني من الأبيات هزج بالبنصر عن حبش، وذكر أحمد بن عبيد الله أنه منحول من المكي. وفي الثالث ثم الثاني لأبي عيسى بن الرشيد رمل.
قال ابن أبي الزناد في الخبر الذي تقدم ذكره عن عبيد الله وما قاله من الشعر في عثمة وغيرها: فقيل له: أتقول في مثل هذا ? قال: في اللدود راحة المفئود .
بلغه أن رجالا يقع ببعض الصحابة فجفاه: أخبرني وكيع قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال حدثنا بن وهب عن يعقوب يعني ابن عبد الرحمن عن أبيه قال:
صفحة : 998
كان رجل يأتي عبيد الله بن عبد الله ويجلس إليه. فبلغ عبيد الله أنه يقع ببعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه الرجل فلم يلتفت إليه عبيد الله. وكان الرجل شديد العقل، فقال له: يا أبا محمد، إن لك لشأنا، فإن رأيت لي عذرا فاقبل عذري. فقال له: أتتهم الله في علمه? قال: أعوذ بالله. قال: أتتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه? قال: أعوذ بالله. قال: يقول الله عز وجل: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة وأنت تقع في فلان وهو ممن بايع، فهل بلغك أن الله سخط عليك بعد أن رضي عنه ? قال: والله لا أعود أبدا. قال: والرجل عمر بن عبد العزيز .
صوته: أخبرني وكيع عن أحمد بن زهير عن يحيى بن معين قال: مات عبيد الله بن عبد الله سنة اثنتين ومائة، ويقال سنة تسع وتسعين وأخبرني محمد بن جرير الطبري والحسن بن علي عن الحارث عن ابن سعد عن معن عن محمد بن هلال: إن عبيد الله توفي بالمدينة سنة ثمان وتسعين.
صوت من أصوات معبد المعروفة بالمدن: ومنها : صوت
ودع هريرة إن الركـب مـرتـحـل وهل تطبـق وداعـا أيهـا الـرجـل
غراء فرعاء مصقول عـوارضـهـا تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
تسمع للحلي وسواسا إذا انـصـرفـت كما استعان بـريح عـشـرق زجـل
علقتها عـرضـا وعـلـقـت رجـلا غيري وعلق أخرى غيرها الـرجـل
قالت هـريرة لـمـا جـئت زائرهـا ويلي عليك وويلـي مـنـك يا رجـل
لم تمش ميلا ولم تركب علـى جـمـل ولم تر الشمس إلا دونهـا الـكـلـل
أقول للركب في درنى وقد ثـمـلـوا شيموا وكيف يشيم الشارب الـثـمـل
كناطح صخـرة يومـا لـيفـلـقـهـا فلم يضرها وأوهى قرنـه الـوعـل
أبلـغ يزيد بـنـي شـيبـان مـألـكة أبا ثبـيت أمـا تـنـفـك تـأتـكـل
إن تركبوا فركوب الخـيل عـادتـنـا أو تنزلون فـإنـا مـعـشـر نـزل
وقد غدوت إلى الحانوت يتـبـعـنـي شاو نشول مشـل شـلـشـل شـول
في فتية كسيوف الهند قـد عـلـمـوا أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الـحـيل
نازعتهم قضب الـريحـان مـتـكـئا وقهـوة مـزة راووقـهـا خـضـل غنى معبد في الأول والثاني في لحنه المذكور في مدن معبد لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكرت دنانير أن فيهما لابن سريج أيضا صنعة. ولمعبد أيضا في الرابع والخامس والثالث ثقيل أول، ذكره حبش، وقيل له: بل هو لحن ابن سريج، وذلك الصحيح. ولابن محرز في الثقيل في إن تركبوا وفي كناطح صخرة ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. ولحنين الحيري في أبلغ يزيد بني شيبان و إن تركبوا ثاني ثقيل آخر. وذكر أحمد بن المكي أن لابن محرز في ودع هريرة و تسمع للحلي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر. وفي وقد غدوت وما بعده رمل لابن سريج و مخارق عن الهشامي. ولابن سريج في تسمع للحلى وقبله ودع هريرة رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وللغريض في قالت هريرة و علقتها عرضا رمل. وفي هذه الأبيات بعينها هزج ينسب إليه أيضا وإلى غيره. وفي تسمع للحلى و قالت هريرة هزج لمحمد بن حسن بن مصعب. وفي لم تمش ميلا و أقول للركب لابن سريج خفيف الثقيل الأول بالبنصر عن حبش وفي قالت هريرة و تسمع للحلى لحن لابن سريج. وإن لحنين في البيتين الآخرين لحنا آخر. وقد مضت أخبار هريرة مع الأعشى في:
هريرة ودعها وإن لام لائم
صفحة : 999
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال قلت لأعرابية: ما الغراء? قالت: التي بين حاجبيها بلج وفي جبهتها اتساع تتباعد قصتها عن حاجبيها فيكون بينهما نفنف . وقال أبو عبيدة: الفرعاء: الكثيرة الشعر. والعوارض: الأسنان. والهوينى: تصغير الهونى، والهونى: مؤنث الأهون. والوجي: الظالع وهو الذي قد حفي فليس يكاد يستقل على رجله. والوحل: الذي وقع في الوحل. والعشرق: نبت يبس فتحركه الريح؛ شبه صوت حليها بصوته. الزجل: المصوت من العشرق. وعلقتها: أحببتها. وعرضا: على غير موعد. والوعل: التيس الجبلي، والجمع أوعال. مألكة: رسالة والجمع مآلك. ما تنفك: ما تزال. وتأتكل: تتحرق. وقال أبو عبيدة: الشاوي: الذي يشوي اللحم: والنشول: الذي ينشل اللحم من القدر. ومشل: سواق سريع يسوق به. وشلشل: خفيف. وشول: طيب الريح.
ما وقع بين بني كعب وبني همام
وقصيدة الأعشى في ذلك:
الشعر للأعشى وقد تقدم نسبه وأخباره. يقول هذه القصيدة ليزيد بن مسهر أبي ثابت الشيباني. قال أبو عبيدة: وكان من حديث هذه القصيدة أن رجلا من بني كعب بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، يقال له ضبيع، قتل رجلا من بني همام يقال له زاهر بن سيار بن أسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان ضبيع مطروقا ضعيف العقل. فنهاهم يزيد بن مسهر أن يقتلوا ضبيعة بزاهر وقال: اقتلوا به سيدا من بني سعد بن مالك بن ضبيعة، فحض بني سيار بن أسعد على ذلك وأمرهم به. وبلغ بني قيس مما قاله، فقال الأعشى هذه الكلمة يأمره أن يدع بني سيار وبني كعب ولا يعين بني سيار ؛ فإنه إن أعانهم أعانت قبائل بني قيس بني كعب، وحذرهم أن تلقى شيبان منهم مثل ما لقوا يوم العين عين محلم بهجر.
يوم عين محلم: قال أبو عبيدة: وكان من حديث ذلك اليوم، كما زعم عمر بن هلال أحد بني سعد بن قيس بن ثعلبة، أن يزيد بن مسهر كان خالع أصرم بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان عوف أبو بني الأصرم يقال له الأعجف والضيعة له وهي قرية باليمامة. فلما خلع يزيد أصرم من ماله خالعه على أن يرهنه ابنيه أفلت وشهابا ابني أصرم، وأمهما فطيمة بنت شرحبيل بن عوسجة بن ثعلبة بن سعد بن قيس، وأن يزيد قمر أصرم فطلب أن يدفع إليه ابنيه رهينة، فأبت أمهما وأبى يزيد إلا أخذهما. فنادت قومها، فحضر الناس للحرب، فاشتملت فطيمة على ابنيها بثوبها، وفك قومها عنها وعنهما. فذلك قول الأعشى:
نحن الفوارس يوم العين ضاحية جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل قال: فانهزمت بنو شيبان، فحذر الأعشى أن يلقى مسهر مثل تلك الحال.
قال أبو عبيدة: وذكر عامر ومسمع عن قتادة الفقيه أن رجلين من بني مروان تنازعا في هذا الحديث، فجردا رسولا في ذلك إلى العراق حتى قدم إلى الكوفة فسأل فأخبر أن فطيمة من بني سعد بن قيس كانت عند رجل من بني شيبان، وكانت له زوجة أخرى من بني شيبان، فتعايرتا فعمدت الشيبانية، فحلت ذوائب فطيمة، فاهتاج الحيان فاقتتلوا، فهزمت بنو شيبان يومئذ.
مسحل رئي الأعشى: أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن محمد القصير قال حدثنا محمد بن صالح قال حدثني أبو اليقظان قال حدثني جويرية عن يشكر بن وائل اليشكري، وكان من علماء بكر بن وائل وولد أيام مسيلمة فجيء به إليه فمسح له على رأسه فعمي، قال جويرية فحدثني يشكر هذا قال حدثني جرير بن عبد الله البجلي قال: سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه، فجعلت أريده على أن يتقدم فوالله ما يتقدم، فتقدمت فدنوت من الماء وعقلته، ثم أتيت الماء فإذا قوم مشوهون عند الماء فقعدت. فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويها منهم فقالوا: هذا شاعرهم. فقالوا له: يا فلان أنشد هذا فإنه ضيف؛ فأنشد:
ودع هريرة إن الركب مرتحل فلا والله ما خرم منها بيتا واحدا حتى انتهى إلى هذا البيت.
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجـل فأعجب به. فقلت: من يقول هذه القصيدة? قال: أنا. قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران. قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه وأنا مسحل صاحبه، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس:
صفحة : 1000
رأيت عرابة الأوسي يسمـو إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمـجـد تلقاها عـرابة بـالـيمـين عروضه من الوافر. الشعر للشماخ. والغناء لمعبد خفيف الثقيل الأول بالوسطى. وذكر إسحاق أنه من الأصوات القليلة الأشباه. وذكر ابن المكي أن له فيه لحنا آخر من خفيف الثقيل. وقد أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة عن محمد بن يحيى أبي غسان قال غنى أبو نؤي:
رأيت عرابة الأوسي يسمـو إلى الخيرات منقطع القرين فنسبه الناس إلى معبد. ولعله يعني اللحن الآخر الذي ذكره ابن المكي. وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أخبرني حماد عن ابن أبي جناح قال: الناس ينسبون هذا الصوت إلى معبد.
ذكر الشماخ ونسبه وخبره
نسبه من قبل أبويه: هو، فيما ذكر لنا أبو خليفة بن محمد بن سلام، الشماخ بن ضرار بن سنان بن أمية بن عمرو بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان. وذكر الكوفيون أنه الشماخ بن ضرار بن حرملة بن صيفي بن إياس بن عبد بن عثمان بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. وأم الشماخ أنمارية من بنات الخرشب ويقال: إنهن أنجب نساء العرب، واسمها معاذة بنت بجير بن خالد بن إياس.
مخضرم، وهو أحد من هجا عشيرته: والشماخ مخضرم ممن أدرك الجاهلية والإسلام، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم.
تعلم رسول الله أنا كأنـنـا أفأنا بأنمار ثعالب ذي غسل يعني أنمار بن بغيض وهم قومه. وهو أحد من هجا عشيرته وهجا أضيافه ومن عليهم بالقرى. والشماخ: لقب واسمه معقل، وقيل الهيثم ، والصحيح معقل. قال جبل بن جوال له في قصة كانت بينهما:
لعمري لعل الخير لو تعلمانه يمن علينا مـعـقـل ويزيد
منيحة عنز أو عطاء فطيمة ألا أن نيل الثعلبـي زهـيد له أخوان جزء ومزرد: وللشماخ أخوان من أمه وأبيه شاعران، أحدهما مزرد وهو مشهور، واسمه يزيد وإنما سمي مزردا لقوله:
فقلت تزردها عبيد فـإنـنـي لدرد الشيوخ في السنين مزرد والآخر جزء بن ضرار، وهو الذي يقول يرثي عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
علك سلام من أمير وبـاركـت يد الله في ذاك الأديم الممـزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق ناحت الجن على عمر بشعر فنحل لجزء أخيه: وقد أخبرني أحمد بن عبد العزيزالجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا شهاب بن عباد قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا مسعر عن عبد الملك بن عمير عن الصقر بن عبد الله بن عروة عن عائشة قالت: ناحت الجن على عمر قبل أن يقتل بثلاث فقالت:
أبعد قتيل بالمـدينة أظـلـمـت له الأرض تهتز العضاه بأسؤق
جزى الله خيرا من إمام وباركت يد الله في ذلك الأديم المـمـزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما حاولت بالأمس يسبـق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدهـا بوائق في أكمامها لم تـفـتـق
وما كنت أخشى أن تكون وفاتـه بكفي سبنتى أزرق العين مطرق أخبرني أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا سليمان بن داود الهاشمي قال أخبرنا إبراهيم بن سعد الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق: أن عائشة حدثتها أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يحججن في آخر حجة حجها عمر. قال: فلما ارتحل عمر من المحصب أقبل رجل متلثم فقال وأنا أسمع: هذا كان منزله، فأناخ في منزل عمر ثم رفع عقيرته يتغنى:
عليك سلام من أمير وبـاركـت يد الله في ذاك الأديم الممـزق
فمن يجر أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدمت بالأمس يسبـق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدهـا بوائق من أكمامها لم تـفـتـق
صفحة : 1001
قالت عائشة: فقلت لبعض أهلي: اعلموا لي علم هذا الرجل، فذهبوا فلم يجدوا في مناخه أحدا. قالت عائشة فوالله إني لأحسبه من الجن. فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو جماع بن ضرار. هكذا في الخبر، وهو جزء بن ضرا ر.
وضعه ابن سلام في الطبقة الثالثة: وجعل محمد بن سلام في الطبقة الثالثة الشماخ وقرنه بالنابغة ولبيد وأبي ذؤيب الهذلي، ووصفه فقال: كان شديد متون الشعر أشد كلاما من لبيد، وفيه كزازة ، ولبيد أسهل منه منطقا. أخبرنا بذلك أبو خليفة عنه.
قال الحطيئة إنه أشعر غطفان: وقد قال الحطيئة في وصيته: أبلغوا الشماخ أنه أشعر غطفان، قد كتب ذلك في شعر الحطيئة .
هو أوصف الناس للحمير: وهو أوصف الناس للحمير. أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن ابن الكلبي قال: أنشد الوليد بن عبد الملك شيئا من شعر الشماخ في صفة الحمير فقال: ما أوصفه لها إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارا.
أخبرني إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال: كان الشماخ يهجو قومه ويهجو ضيفه ويمن عليه بقراه. وهو أوصف الناس للقوس والحمار وأرجز الناس على البديهة.
حديث الشماخ ومزرد مع أمهما: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: قال مزرد لأمه: كان كعب بن زهير لا يهابني وهو اليوم يهابني. فقالت: يا بني نعم إنه يرى جرو الهراش موثقا ببابك. تعني أخاه الشماخ. وقد ذكر محمد بن الحسن الأحول هذا الخبر عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: قالت معاذة بنت بجير بن خلف للشماخ ومزرد: عرضتماني لشعراء العرب الحطيئة وكعب بن زهير. فقال: كلا لا تخافي. قالت: فما يؤمنني? قالا: إنك ربطت بباب بيتك جروي هراش لا يجترىء أحد عليهما. يعنيان أنفسهما.
منازعته قوم امرأته إلى كثير بن الصلت: أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني شعيب بن صخر قال: كانت عند الشماخ امرأة من بني سليم أحد بني حرام بن سماك، فنازعته وادعته طلاقا وحضر معها قومها فاختصموا إلى كثير بن السلط - وكان عثمان بن عفان أقعده للنظر بين الناس، وهو رجل من كندة وعداده في بني جمح وقد ولدتهم بني جمح ثم تحولوا إلى بني العباس فهم فيهم اليوم - فرأى كثير عليهم يمينا، فالتوى الشماخ باليمين يحرضهم عليها، ثم حلف وقال:
أتتني سليم قضها وقضـيضـهـا تمسح حولي بالبقيع سبـالـهـا
يقولون لي يا احلف ولست بحالف أخاتلهم عنها لكيمـا أنـالـهـا
ففرجت هم النفس عني بحـلـفة كما شقت الشقراء عنها جلالهـا أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال: قدم ناس من بهز المدينة يستعدون على الشماخ وزعموا أنه هجاهم ونفاهم، فجحد ذلك الشماخ. فأمر عثمان كثير بن الصلت أن يستحلفه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم: ما هجاهم. فانطلق به كثير إلى المسجد ثم انتحاه دون بني بهز - وبهز: اسمه تيم بن سليم بن منصور - فقال له: ويلك يا شماخ إنك لتحلف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حلف به آثما يتبوأ مقعده من النار قال: فكيف أفعل فداؤك أبي وأمي? قال: إني سوف أحلفك ما هجوتهم، فاقلب الكلام علي وعلى ناحيتي فقال: والله ما هجوتكم، فأردني وناحيتي بذلك، وإني سأدفع عنك. فلما وقف حلف كما قال له وأقبل كثير فقال: ما هجوتكم. فقالت بهز: ما عنى غيركم، فأعد اليمين عليه. فقال: ما لي أتأوله هل استحلفته إلا لكم وما اليمين إلا مرة واحدة انصرف يا شماخ. فانصرف وهو يقول:
أتتني سليم قضها وقضـيضـهـا تمسح حولي بالبقيع سبـالـهـا
يقولون لي يا احلف ولست بحالف أخادعهم عنها لكيمـا أنـالـهـا
فلولا كثير نعـم الـلـه بـالـه أزلت بأعلى حجتيك نعـالـهـا
ففرجت هم الموت عني بحلـفة كما شقت الشقراء عنها جلالهـا سألته امرأة لا تعرفه عن قصته مع زوجه، وشعره في ذلك: ونسخت هذا الخبر على التمام من كتاب يحيى بن حازم قال حدثني علي بن صالح صاحب المصلى قال قال القاسم بن معن:
صفحة : 1002
كان الشماخ تزوج امرأة من بني سليم فأساء إليها وضربها وكسر يدها. فعرضت امرأة من قومها، يقال لها أسماء ذات يوم للطريق تسأل عن صاحبتها. فاجتاز الشماخ وهي لا تعرفه: فقالت له: ما فعل الخبيث شماخ? فقال لها: وما تريدين منه? قالت: إنه فعل بصاحبة لنا كيت وكيت. فتجاهل عليها وقال: لا أعلم له خبرا، ومضى وتركها وهو يقول:
تعارض أسماء الرفاق عـشـية تسائل عن ضغن النساء النواكـح
وماذا عليها إن قلوص تمرغـت بعدلين أو ألقتهما بالصحـاصـح
فإنك لو أنكحت دارت بك الرحـا وألقيت رحلي سمحة غير طامح
أأسماء إني قد أتانـي مـخـبـر بفيقة ينبي منطقا غير صـالـح
بعجت إليه البطن ثم انتصحـتـه وما كل من يفشى إليه بناصـح
وإني من قوم على أن ذممتـهـم إذا أولموا لم يولموا بـالأنـافـح
وإنك من قوم تحـن نـسـاؤهـم إلى الجانب الأقصى حنين المنائح ثم دخل المدينة في بعض حوائجه، فتعلقت به بنو سليم يطلبونه بظلامة صاحبتهم، فأنكر. فقالوا: احلف، فجعل يطلب إليهم ويغلظ عليهم أمر اليمين وشدتها عليه ليرضوا بها منه حتى رضوا، فحلف لهم وقال:
ألا أصبحت عرسي من البيت جامحا بغير بـلاء أي أمـر بـدا لـهـا
على خيرة كانت أم العرس جامـح فكيف وقد سقنا إلى الحي ما لهـا
سترجع غضبى رثة الحال عنـدنـا كما قطعت منا بليل وصـالـهـا فذكر بعد هذه الأبيات قوله:
أتتني سليم قضها وقضيضها إلى آخر الأبيات.
خطب امرأة فتزوجها أخوه جزء فماتا متهاجرين: وقال ابن الكلبي: كان الشماخ يهوى امرأة من قومه يقال لها كلبة بنت جوال أخت جبل بن جوال الشاعر ابن صفوان بن بلال بن أصرم بن إياس بن عبد تميم بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة، وكان يتحدث إليها ويقول فيها الشعر؛ فخطبها فأجابته وهمت أن تتزوجه. ثم خرج إلى سفر له فتزوجها أخوه جزء بن ضرار، فآلى الشماخ ألا يكلمه أبدا، وهجاه بقصيدته التي يقول فيها:
لنا صاحب قد خان من أجل نظرة سقيم الفؤاد حب كلبة شاغـلـه فماتا متهاجرين.
استنشد المهدي بن دأب من أشعر ما قالت العرب فأنشده من شعره: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثني أحمد بن محمد بن بكر الزبيري قال حدثنا الحسن بن موسى بن رباح مولى الأنصار عن أبي غزية الأنصاري قال: كنت على باب المهدي يوما، فخرج حاجبه فقال: أين ابن دأب? فقال: هأنذا. فقال: ادخل؛ فدخل ثم خرج فجلس. فقلت: يابن دأب، ما جرى بينك وبين أمير المؤمنين? قال قال لي: أنشدني أبياتا من أشعر ما قالت العرب؛ فأردت أن أنشده قول صاحبك أبي صرمة الأنصاري التي يقول فيها:
لنا صور يؤول الحق فيهـا وأخلاق يسود بها الفـقـير
ونصح للعشيرة حيث كانـت إذا ملئت من الغش الصدور
وحلم لا يصوب الجهل فـيه وإطعام إذا قحط الصبـير
بذات يد على ما كان فيهـا نجود به قلـيل أو كـثـير فتركتها وقلت: إن من أشعر ما قالت العرب قول الشماخ:
وأشعث قد قد السفار قـمـيصـه يجر شواء بالعصا غير منضـج
دعوت إلى ما نابني فأجـابـنـي كريم من الفتيان غـير مـزلـج
فتى يملأ الشيزي ويروي سنانـه ويضرب في رأس الكمي المدجج
فتى ليس بالراضي بأدنى معـيشة ولا في بيوت الحي بالمـتـولـج فقال: أحسنت ثم رفع رأسه إلى عبد الله بن مالك فقال: هذه صفتك يا أبا العباس. فأكب عليه عبد الله فقبل رأسه وقال: ذكرك الله بخير الذكر يا أمير المؤمنين. قال أبو غزية فقلت له: الأبيات التي تركت والله أشعر من التي ذكرت.
عرابة الذي مدحه ونسبه: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال:
صفحة : 1003
عرابة الذي عناه الشماخ بمدحه هو أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو عرابة بن أوس بن قيظي بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج. وإنما قال له الشماخ: عرابة الأوسي، وهو من الخزرج، نسبة إلى أبيه أوس بن قيظي. ولم يصنع إسحاق في هذا القول شيئا. عرابة من الأوس لا من الخزرج؛ وفي الأوس رجل يقال له الخزرج ليس هذا هو الجد الذي ينتهي إليه الخزرجيون الذي هو أخو الأوس، هذا الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس، وهكذا نسبه النسابون.
أتى عرابة النبي في غزاة أحد مع غلمة فردهم: وأخبرني به الحرمي بن أبي العلاء عن عبد الله بن جعفر بن مصعب عن جده مصعب الزبيري عن ابن القداح: وأتى النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة أحد ليغزو معه؛ فرده في غلمة استصغرهم:منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وأسيد بن حضير و البراء بن عازب وعرابة بن أوس وأبو سعيد الخدري.
أخبرني بذلك محمد بن جرير الطبري عن الحارث بن سعد عن الواقدي عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق.
قصة أبي عرابة وعمه مع النبي: وأوس بن قيظي أبو عرابة من المنافقين الذين شهدوا أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال له: إن بيوتنا عورة. وأخوه مربع بن قيظي الأعمى الذي حثا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب لما خرج إلى أحد وقد مر في حائطه وقال له: إن كنت نبيا فما أحل لك أن تدخل في حائطي. فضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسه فشجه وقال: دعني يا رسول الله أقتله فإنه منافق. فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه فإنه أعمى القلب أعمى البصر . فقال أخوه أوس بن قيظي أبو عرابة: لا والله ولكنها عداوتكم يا بني الأشهل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والله ولكنه نفاقكم يا بني قيظي .
كان عرابة سيدا في قومه وأبوه من وجوه المنافقين: أخبرنا بذلك الحرمي عن عبد الله بن جعفر الزبيري عن جده مصعب عن ابن القداح: أن عرابة كان سيدا من سادات قومه وجوادا من أجوادهم، وكان أبوه أوس بن قيظي من وجوه المنافقين.
لقي الشماخ بالمدينة فأكرمه فمدحه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن جعدبة، وأخبرني علي بن سليمان عن محمد بن يزيد، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم: أن الشماخ خرج يريد المدينة، فلقيه عرابة بن أوس فسأله عما أقدمه المدينة، فقال: أردت أن أمتار لأهلي. وكان معه بعيران فأوقرهما له برا وتمرا وكساه وبره وأكرمه. فخرج عن المدينة وامتدحه بهذه القصيدة التي يقول فيها:
رأيت عرابة الأوسي يسمـو إلى الخيرات منقطع القرين سأله معاوية بأي شيء سدت فأجابه: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال: قال معاوية لعرابة بن أوس: بأي شيء سدت قومك? فقال: أعفو عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حاجاتهم، فمن فعل كما أفعل فهو مثلي، ومن قصر عنه فأنا خير منه، ومن زاد فهو خير مني. قال الأصمعي: وقد انقرض عقب عرابة فلم يبق منهم أحد.
اعترض عليه ابن دأب في شعره لابن جعفر: أخبرني أحمد بن يحيى بن محمد بن سعيد الهمداني قال قال يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال ابن دأب وسمع قول الشماخ بن ضرار في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:
إنك يابن جعفر نعم الـفـتـى ونعم مأوى طـارق إذا أتـى
وجار ضيف طرق الحي سرى صادف زادا وحديثا ما اشتهى
إن الحديث طرف من القرى فقال ابن دأب: العجب للشماخ يقول مثل هذا لابن جعفر ويقول لعرابة:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمـين ابن جعفر كان أحق بهذا من عرابة .
نقد أبو نواس بيتا له ووازنه بشعر الفرزدق: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني الكراني محمد بن سعد قال حدثني طائع قال أخبرني أبو عمرو الكيس قال قال لي أبو نواس: ما أحسن الشماخ في قوله:
إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين لا كما قال الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتـي وخير الناس كلهم أمامي
صفحة : 1004
متى تردي الرصافة تستريحي من التهجير والدبر الدوامـي قلت أنا: وقد أخذ معنى قول الفرزدق هذا داود بن سلم في مدحه قثم بن العباس فأحسن فقال:
نجوت من حلي ومن رحلـتـي يا ناق إن أدنيتنـي مـن قـثـم
إنـك إن أذنـيت مـنـه غــدا حالفنا اليسـر ومـات الـعـدم
في كفه بحـر وفـي وجـهـه بدر وفي العرنين منـه شـمـم
أصم عن قيل الخنـا سـمـعـه وما عن الخير به من صـمـم
لم يدر ما لا و بلى قد درى فعافها واعتاض منها نـعـم ??نقد عبد الملك بن مروان شعره: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال: أنشد عبد الملك قول الشماخ في عرابة بن أوس:
إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين فقال: بئست المكافأة كافأها حملت رحله وبلغته بغيته فجعل مكافأتها نحرها .
المهلب والشعراء: قال الخراز: ومثل هذا ما حدثناه المدائني عن ابن دأب أن رجلا لقي المهلب فنحر ناقته في وجهه؛ فتطير من ذلك وقال له: ما قصتك? فقال:
إني نذرت لئن لقيتك سالمـا أن تستمر بها شفار الجازر فقال المهلب: فأطعمونا من كبد هذه المظلومة، ووصله.
قال المدائني: ولقيته امرأة من الأزد وقد قدم من حرب كان نهض إليها، فقالت: أيها الأمير، إنني نذرت إن وافيتك سالما أن أقبل يدك وأصوم يوما وتهب لي جارية صغدية وثلثمائة درهم. فضحك المهلب وقال: قد وفينا لك بنذرك فلا تعاودي مثله، فليس كل أحد يفي لك به.
المهدي وأبو دلامة: وأخبرني الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني بعض أصحابنا عن القحذمي: أن أبا دلامة لقي المهدي لما قدم بغداد، فقال له:
إني نذرت لئن رأيتـك واردا أرض العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محـمـد ولتملأن دراهما حـجـري فقال له: أما النبي فصلى الله على النبي محمد وآله وسلم، وأما الدراهم فلا سبيل إليها. فقال له: أنت أكرم من أن تعطيني أسهلهما عليك وتمنعني الأخرى. فضحك وأمر له بما سأل. وهذا مما ليس يجري في هذا الباب ولكن يذكر الشيء بمثله.
لطيفة الأعرابي على مائدة عبد الملك بن مروان بسسب بيت له: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا مسعود بن عيسى العبدي قال حدثني أحمد بن طالب الكناني كنانة تغلب، وأخبرني به محمد بن أحمد بن الطلاس عن الخراز عن المدائني لم يتجاوزه به قال: نصب عبد الملك بن مروان الموائد يطعم الناس؛ فجلس رجل من أهل العراق على بعض تلك الموائد. فنظر إليه خادم لعبد الملك فأنكره، فقال له: أعراقي أنت? قال: نعم. قال: أنت جاسوس? قال: لا. قال: بلى. قال: ويحك دعني أتهنأ بزاد أمير المؤمنين ولا تنغصني به. ثم إن عبد الملك وقف على تلك المائدة فقال من القائل:
إذا الأرطى توسد أبـرديه خدود جوازىء برمل عين وما معناه ومن أجاب فيه أجزناه، والخادم يسمع. فقال العراقي للخادم: أتحب أن أشرح لك قائله وفيم قاله? قال: نعم. قال: يقوله عدي بن زيد في صفة البطيخ الرمسي. فقال ذلك الخادم. فضحك عبد الملك حتى سقط. فقال له الخادم: أخطأت أم أصبت? فقال: بل أخطأت. فقال: ياأمير المؤمنين، هذا العراقي فعل الله به وفعل لقننيه. فقال: أي الرجال هو? فأراه إياه. فعاد إليه عبد الملك وقال: أنت لقنته هذا? قال: نعم. قال: أفخطا لقنته أم صوابا? قال: بل خطأ. قال: ولم? قال: لإني كنت متحرما بمائدتك فقال لي كيت وكيت، فأردت أن أكفه عني وأضحكك. قال: فكيف الصواب? قال: يقوله الشماخ بن ضرار الغطفاني في صفة البقرة الوحشية قد جزأت بالرطب عن الماء. قال: صدقت وأجازه، ثم قال له: حاجتك? قال: تنحي هذا عن بابك فإنه يشينه.
سأل كثير يزيد بن عبد الملك عن معنى بيت له نسبه: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال كتب إلي إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن أبا عبيدة حدثه عن غير واحد من أهل المدينة:
صفحة : 1005
أن يزيد بن عبد الملك لما قدم عليه الأحوص وصله بمائة ألف درهم. فأقبل إليه كثير يرجو أكثر من ذلك، وكان قد عوده من كان قبل يزيد من الخلفاء أن يلقي عليهم من بيوت الشعر ويسألهم عن المعاني. فألقى على يزيد بيتا وقال: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشماخ بقوله:
فما أروى وإن كرمت علينا بأدنى من موقفة حـرون
تطيف على الرماة فتتقيهم بأوعال معطفة القـرون فقال يزيد: وما يضر يا ماص بظر أمه ألا يعلم أمير المؤمنين هذا وإن احتاج إلى علمه سأل عبدا مثلك عنه فندم كثير وسكته من حضر من أهل بيته، وقالوا له: إنه قد عوده من كان قبلك من الخلفاء أن يلقى عليه أشباه هذا، وكانوا يشتهونه منه ويسألونه إياه؛ فطفئ عنه غضبه. وكانت جائزته ثلاثين ألفا، وكان يطمع في أكثر من جائزة الأحوص.
وأخبرنا أبو خليفة بهذا الخبر عن محمد بن سلام فذكر أنه سأل يزيد عن قول الشماخ:
وقد عرقت مغابنها وجادت بدرتها قرى حجن قتـين فسكت عنه يزيد، فقال يزيد: وما على أمير المؤمنين لا أم لك ألا يعرف هذا هو القراد أشبه الدواب بك .
تمثل ابن الزبير ببيت له في حواره لمعاوية: نسخت من كتاب يحيى بن حازم حدثنا علي بن صالح صاحب المصلى قال حدثنا ابن دأب قال: قال معاوية لعبد الله بن الزبير وهو عنده بالمدينة في أناس: يابن الزبير، ألا تعذرني في حسن بن علي ما رأيته مذ قدمت المدينة إلا مرة. قال: دع عنك حسنا، فأنت والله وهو كما قال الشماخ:
أجامل أقواما حياء وقـد أرى صدورهم تغلي علي مراضها والله لو يشاء حسن أن يضربك بمائة ألف سيف ضربك والله لأهل العراق أرأم له من أم الحوار لحوارها. فقال معاوية رحمه الله: أردت أن تغريني به والله لأصلن رحمه ولأقبلن عليه، وقال:
ألا أيها المرء المحرش بـينـنـا ألا اقتل أخاك لست قاتـل أربـد
أبى قربه مني وحـسـن بـلائه وعلمي بما يأتي به الدهر في غد والشعر لعروة بن قيس فقال ابن الزبير: أما والله إني وإياه ليد عليك بحلف الفضول. فقال معاوية: من أنت لا أعرض لك وحلف الفضول والله ما كنت فيها إلا كالرهينة تثخن معنا وتردى هزيلا، كما قال أخو همدان:
إذا ما بعير قام علق رحلـه وإن هو أبقى بالحياة مقطعا صوت من مدن معبد
صوت معبد في شعر كثير بن كثير
وهو الذي أوله:
كم بذاك الحجون من حي صدق
أسعداني بعبرة أسراب من شؤون كثيرة التـسـكـاب
إن أهل الحصاب قد تركـونـي موزعا مولعا بأهل الحـصـاب
كم بذاك الحجون من حي صـدق وكـهـول أعـفة وشـبــاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مـو سى إلى النخل من صفي السباب
فارقوني وقد علـمـت يقـينـا ما لمـن ذاق مـيتة مـن إياب
فلي الويل بعدهـم وعـلـيهـم صرت فردا وملني أصحـابـي عروضه من الخفيف. الشؤون: الشعب التي يتداخل بعضها في بعض من عظام الرأس، واحدها شأن مهموزا. والجزع: منعطف الوادي. وصفي السباب: جمع صفاة وهي الحجارة. ولقبت صفي السباب لأن قوما من قريش ومواليهم كانوا يخرجون إليها بالعشيات يتشاتمون ويذكرون المعايب والمثالب التي يرمون بها؛ فسميت تلك الحجارة صفي السباب.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال يقال: صفا السباب وصفي السباب بفتح الفاء وكسرها جميعا، وهو شعب من شعاب مكة فيها صفا أي صخر مطروح. وكانت قريش تخرج فتقف على ذلك الموضع فيفتخرون ثم يتشاتمون وذلك في الجاهلية فلا يفترقون إلا عن قتال؛ ثم صار ذلك في صدر من الإسلام أيضا حتى نشأ سديف مولى عتبة بن أبي سديف وشبيب مولى بني أمية، فكان هذا يخرج في موالي بني هاشم وهذا في موالي بني أمية، فيفتخرون ثم يتشاتمون ثم يتجالدون بالسيوف. وكان يقال لهم السديفية والشبيبية. وكان أهل مكة مقتسمين بينهما في العصبية؛ ثم درس ذلك فصارت العصبية بمكة بين الجزارين والحناطين، فهي بينهم إلى اليوم، وكذلك بالمدينة في القمار وغيره.
صفحة : 1006
الشعر لكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، وقيل: بل هو لكثير عزة. وقد روي في ذلك خبر نذكره. والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أن فيه ثقيلا أول بالخنصر للغريض ولحنا آخر لابن عباد ولم يجنسه. ولابن جامع في الخامس والسادس رمل بالوسطى. ولابن سريج في الأربعة الأول ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. ولابن أبي دباكل الخزاعي فيها ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وأبي أيوب المدني وحبش. فمن روى هذا الشعر لكثير عزة يرويه:
إن أهل الخضاب قد تركوني ويزعم أن كثيرا قاله في خضاب خضبته عزة به.
ابن عائشة يذكر بحادثة لكثير وعزة فيغني بشعر: أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزه، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني الزبيري قال حدثني بهذا الخبر أيضا وفيه زيادة وخبره أحسن وأكثر تلخيصا وأدخل في معنى الكتاب، قال الزبيري حدثني أبي قال: خرجت إلى ناحية فيد متنزها، فرأيت ابن عائشة يمشي بين رجلين من آل الزبير وإحدى يديه على يد هذا والأخرى على يد هذا، وهو يمشي بينهما كأنه امرأة تجلى على زوجها. فلما رأيتهم دنوت فسلمت وكنت أحدث القوم سنا، فاشتهيت غناء ابن عائشة فلم أدر كيف أصنع. وكان ابن عائشة إذا هيجته تحرك. فقلت: رحم الله كثيرا وعزة ما كان أوفاهما وأكرمهما وأصونهما لأنفسهما لقد ذكرت بهذه الأودية التي نحن فيها خبر عزة حين خضبت كثيرا. فقال ابن عائشة: وكيف كان حديث ذلك? قلت: حدثني من حضره بذلك ومن ها هنا تتفق رواية عمر بن شبة والزبيري - قال: خرج كثير يريد عزة وهي منتجعة بالصواري وهي الأودية بناحية فدك، فلما كان منها قريبا وعلم أن القوم جلسوا عند أنديتهم للحديث بعث أعرابيا فقال له: اذهب إلى ذلك الماء فإنك ترى امرأة جسيمة لحيمة تبالط الرجال الشعر قال إسحاق: المبالطة: أن تنشد أول الشعر وآخره - فإذا رأيتها فناد: من رأى الجمل الأحمر? مرارا. ففعل. فقالت له: ويحك قد أسمعت فانصرف إليه فأخبره. فلم يلبث أن أقبلت جارية معها طست وتور وقربة ماء حتى انتهت إليه، ثم جاءت بعد ذلك عزة فرأته جالسا محتبيا قريبا من ذراع راحلته. فقالت له: ما على هذا فارقتك . فركب راحلته وهي باركة وقامت إلى لحيته فأخذت التور فخضبته وهو على ظهر جمله حتى فرغت من خضابه، ثم نزل فجعلا يتحدثان حتى علق الخضاب، ثم قامت إليه فغسلت لحيته ودهنته، ثم قام فركب وقال:
إن أهل الخضاب قد تركوني موزعا مولعا بأهل الخضاب وذكر باقي الأبيات كلها. وإلى ها هنا رواية عمربن شبة. فقال ابن عائشة: فأنا والله أغنيه وأجيده، فهل لكم في ذلك? فقلنا: وهل لنا عنه مدفع فاندفع يغني بالأبيات، فخيل إلي أن الأودية تنطق معه حسنا. فلما رجعنا إلى المدينة قصصت القصة، فقيل لي: إن ذلك أحسن صوت يغنيه ابن عائشة? فقلت: لا أدري إلا أني سمعت شيئا وافق محبتي.
معبد وابن سريج يبكيان أهل مكة بغنائهما
وقال عبد الله بن أبي سعد حدثني عبد الله بن الصباح عن هشام بن محمد عن أبيه قال: زار معبد ابن سريج والغريض بمكة؛ فخرجا به إلى التنعيم ثم صاروا إلى الثنية العليا ثم قالوا: تعالوا حتى نبكي أهل مكة؛ فاندفع ابن سريج فغنى صوته في شعر كثير بن كثير السهمي:
أسعديني بعبرة أسـراب من دموع كثيرة التسكاب فأخذ أهل مكة بالبكاء وأنوا حتى سمع أنينهم. ثم غنى معبد: صوت
يا راكبا نحو المدينة جـسـرة أجدا تلاعب حلقة وزمـامـا
اقرأ على أهل البقيع من امرئ كمد على أهل البقيع سلامـا
كم غيبوا فيه كريمـا مـاجـدا شهما ومقتبل الشباب غلامـا
ونفيسة في أهلهـا مـرجـوة جمعت صباحة صورة وتماما فنادوا من الدروب بالويل والحرب والسلب، وبقي الغريض لا يقدر من البكاء والصراخ أن يغني.
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى، وذكر عمرو بن بانة أنه ليحيى المكي، وقد غلط. وذكر حبش أن لعلوية فيه ثقيلا أول آخر.
صوت من مدن معبد في شعر قيس بن ذريح: ومن مدن معبد.
صوت
صفحة : 1007
وقد أضيف إليه غيره من القصيدة:
سلي هل قلاني من عشير صحبته وهل ذم رحلي في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الكرام صحابتي إذا اغبر مخشي الفجاج عمـيق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنـنـي لكم والهدايا المشعرات صـديق
تكاد بلاد الـلـه يا أم مـعـمـر بما رحبت يوما علي تـضـيق
أذود سوام الطرف عنك وهل لها إلـى أحـد إلا إلـيك طـريق
وحدثتني يا قلب أنـك صـابـر على البين من لبنى فسوف تذوق
مت كمدا أو عش سقيما فإنـمـا تكلفنـي مـا لا أراك تـطـيق
بلبنى أنادى عـنـد أول غـشـية ولو كنت بين الـعـائدات أفـيق
إذا ذكرت لبنى تجلـتـك زفـرة ويثني لك الداعي بها فـتـفـيق عروضه من الطويل. الشعر لقيس بن ذريح. والغناء لمعبد في اللحن المذكور ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق في الأول والثاني والثالث. وذكر في موضع. آخر وافقته دنانير أن لمعبد ثقيلا أول بالبنصر في مجرى الوسطى أوله: صوت
أتجمع قلبا بالعـراق فـريقـه ومنه بأطلال الأراك فـريق
فكيف بها لا الدار جامعة النوى ولا أنت يوما عن هواك تفيق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أننـي لكم والهدايا المشعرات صديق البيتان الأولان يرويان لجرير وغيره، والثالث لقيس بن ذريح أضافه إليهما معبد. وذكر عمرو ويونس أن لحن معبد الأول في خمسة أبيات أولى من الشعر. وذكر عمرو بن بانة أن لبذل الكبيرة خفيف رمل بالوسطى في الرابع من الأبيات وبعده:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء وهن صـديق وبعده الخامس من الأبيات وهو أذود سوام الطرف . وزعم حبش أن في لحن معبد الثاني الذي أوله: أتجمع قلبا لابن سريج خفيف رمل بالبنصر، وذكر أيضا أن للغريض في الأول والثاني والسابع ثاني ثقيل بالبنصر، ولابن مسجح خفيف رمل بالبنصر. وفي السادس وما بعده لحكم الوادي ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر حبش أن للغريض فيها ثقيلا أول بالوسطى.
ذكر قيس بن ذريح ونسبه وأخباره
نسبه: هو، فيما ذكر الكلبي والقحذمي وغيرهما، قيس بن ذريح بن سنة بن حذافة بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة وهو علي بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وذكر أبو شراعة القيسي أنه قيس بن ذريح بن الحباب بن سنة؛ وسائر النسب متفق. واحتج بقول قيس:
فإن يك تهيامي بلبنى غـواية فقد يا ذريح بن الحباب غويت وذكر القحذمي أن أمه بنت سنة بن الذاهل بن عامر الخزاعي، وهذا هو الصحيح؛ وأنه كان له خال يقال له عمرو بن سنة شاعر، وهو الذي يقول:
ضربوا الفيل بالمغمس حتى ظل يحبو كأنه محـمـوم وفيه يقول قيس:
أنبئت أن لخالي هجمة حبـسـا كأنهن بجنب المشعر النـصـل
قد كنت فيما مضى قدما تجاورنا لا ناقة لك ترعاها ولا جـمـل
ما ضر خالي عمرا لو تقسمهـا بعض الحياض وجم البئر محتفل هو رضيع الحسين بن علي: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال حدثني أحمد بن القاسم بن يوسف قال حدثني جزء بن قطن قال حدثنا جساس بن محمد بن عمرو أحد بني الحارث بن كعب عن محمد بن أبي السري عن هشام بن الكلبي قال حدثني عدد من الكنانيين: أن قيس بن ذريح كان رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، أرضعته أم قيس.
أول عشقه لبنى ثم زواجه بها
صفحة : 1008
أخبرنا بخبر قيس ولبنى امرأته جماعة من مشايخنا في قصص متصلة ومنقطة وأخبار منثورة ومنظومة، فألفت ذلك أجمع ليتسق حديثه إلا ما جاء مفردا وعسر إخراجه عن جملة النظم فذكرته على حدة. فممن أخبرنا بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزه إلى غيره، وإبراهيم بن محمد بن أيوب عن ابن قتيبة، والحسن بن علي عن محمد بن موسى بن حماد البربري عن أحمد بن القاسم بن يوسف عن جزء بن قطن عن جساس بن محمد عن محمد بن أبي السري عن هشام بن الكلبي وعلى روايته أكثر المعول. ونسخت أيضا من أخباره أيضا المنظومة أشياء ذكرها القحذمي عن رجاله، وخالد بن كلثوم عن نفسه ومن روى عنه، وخالد بن جمل ونتفا حكاها اليوسفي صاحب الرسائل عن أبيه عن أحمد بن حماد عن جميل عن ابن أبي جناح الكعبي. وحكيت كل متفق فيه متصلا، وكل مختلف في معانيه منسوبا إلى راويه. قالوا جميعا: كان منزل قومه في ظاهر المدينة، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة. وذكر خالد بن كلثوم أن منزله كان بسرف واحتج بقوله:
الحمد لله قد أمست مـجـاورة أهل العقيق وأمسينا على سرف قالوا: فمر قيس لبعض حاجته بخيام بني كعب بن خزاعة، فوقف على خيمة منها والحي خلوف والخيمة خيمة لبنى بنت الحباب الكعبية، فاستسقى ماء، فسقته وخرجت إليه به، وكانت امرأة مديدة القامة شهلاء حلوة المنظر والكلام. فلما رآها وقعت في نفسه، وشرب الماء. فقالت له: أتنزل فتتبرد عندنا? قال: نعم. فنزل بهم. وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. فانصرف قيس وفي قلبه من لبنى حر لا يطفأ، فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع وروي. ثم أتاها يوما آخر وقد اشتد وجده بها، فسلم فظهرت له وردت سلامه وتحفت به؛ فشكا إليها ما يجد بها وما يلقى من حبها، وشكت إليه مثل ذلك فأطالت؛ وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه. فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها. فأبى عليه وقال: يا بني، عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك. وكان ذريح كثير المال موسرا، فأحب ألا يخرج ابنه إلى غريبة. فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه أبوه به. فأتى أمه فشكا ذلك إليها واستعان بها على أبيه، فلم يجد عندها ما يحب. فأتى الحسين بن علي بن أبي طالب وابن أبي عتيق فشكا إليهما ما به وما رد عليه أبوه. فقال له الحسين: أنا أكفيك. فمشى معه إلى أبي لبنى. فلما بصر به أعظمه ووثب إليه، وقال له: يابن رسول الله، ما جاء بك? ألا بعثت إلي فأتيتك قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك وقد جئتك خاطبا ابنتك لبنى لقيس بن ذريح. فقال: يا بن رسول الله، ما كنا لنعصي لك أمرا وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمر إلينا أن يخطبها ذريح أبوه علينا وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف إن لم يسع أبوه في هذا أن يكون عارا وسبة علينا. فأتى الحسين رضي الله عنه ذريحا وقومه وهم مجتمعون، فقاموا إليه إعظاما له وقالوا له مثل قول الخزاعيين. فقال لذريح: أقسمت عليك إلا خطبت لبنى لابنك قيس. قال: السمع والطاعة لأمرك. فخرج معه في وجوه من قومه حتى أتوا لبنى فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها فزوجه إياها، وزفت إليه بعد ذلك.
أبواه يغريانه بطلاقها ويأبى هو
صفحة : 1009
فأقامت معه مدة لا ينكر أحد من صاحبه شيئا. وكان أبر الناس بأمه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت امه في نفسها وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري؛ ولم تر للكلام في ذلك موضع حتى مرض مرضا شديدا. فلما برأ من علته قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس وما يترك خلفا وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة ، فزوجه بغيرها لعل الله يرزقه ولدا، وألحت عليه في ذلك. فأمهل قيسا حتى إذا اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلة فخفت عليك ولا ولد لك ولا لي سواك. وهذه المرأة ليست بولود؛ فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يهب لك ولدا تقر به عينك وأعيننا. فقال قيس: لست متزوجا غيرها أبدا. فقال له أبوه: فإن في مالي سعة فتسر بالإماء. قال: ولا أسوءها بشيء أبدا والله. قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها. فأبى وقال: الموت والله علي أسهل من ذلك، ولكني أخيرك خصلة من ثلاث خصال. قال: وما هي? قال: تتزوج أنت فلعل الله أن يرزقك ولدا غيري. قال: فما في فضلة لذلك. قال: فدعني أرتحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعا لو مت في علتي هذه. قال: ولا هذه. قال ك فأدع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة أنها في خيالي. قال: لا أرضى أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف بيت أبدا حتى يطلق لبنى ،فكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصلى هو بحر الشمس حتى يفيء الفيء فينصرف عنه، ويدخل إلى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك فتهلك وتهلكني. فيقول: ما كنت لأطيع أحدا فيك أبدا. فيقال: إنه مكث كذلك سنة وقال. خالد بن كلثوم: ذكر ابن عائشة أنه أقام على ذلك أربعين يوما ثم طلقها. وهذا ليس بصحيح.
طلاقه لبنى ثم ندمه على فراقها
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني يحيى بن معين قال حدثنا عبد الرزاق قال اخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمر بن أبي سفيان عن ليث بن عمرو: أنه سمع قيس بن ذريج يقول لزيد بن سليمان: هجرني أبواي في لبنى عشر سنين أستأذن عليهما فيرداني حتى طلقتها. قال ابن جريح: وأخبرت أن عبد الله بن صفوان الطويل لقي ذريحا أبا قيس فقال له: ما حملك على أن فرقت بينهما? أما علمت أن عمر بن الخطاب قال: ما أبالي أفرقت بينهما أو مشيت إليهما بالسيف. وروى هذا الحديث إبراهيم بن يسار الزمادي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قال الحسين بن علي رضي الله عنهما لذريح بن سنة أبي قيس: أحل لك أن فرقت بين قيس ولبنى? أما إني سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أفرقت بين الرجل وامرأته أو مشيت إليهما بالسيف. قالوا: فلما بانت لبنى بطلاقه إياها وفرغ من الكلام، لم يلبث حتى استطير عقله وذهب به ولحقه مثل الجنون. وتذكر لبنى وحالها معه فأسف وجعل يبكي وينشج أحر نشيج. وبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، وقيل: بل أقامت حتى انقضت عدتها وقيس يدخل عليها. فأقبل أبوها بهودج على ناقة وبإبل تحمل أثاثها. فلما رأى ذلك قيس أقبل على جاريتها فقال: ويحك ما دهاني فيكم? فقالت: لا تسألني وسل لبنى. فذهب ليلم بخبائها فيسألها، فمنعه قومها. فأقبلت عليه امرأة من قومه فقالت له: ما لك ويحك تسأل كأنك جاهل أو تتجاهل هذه لبنى ترتحل الليلة أو غدا. فسقط مغشيا عليه لا يعقل ثم أفاق وهو يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبـكـا حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بـلـيلة فراق حبيب لم يبن وهو بـائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي بكفيك إلا أن ما حـان حـائن في هذه الأبيات غناء ولها أخبار قد ذكرت في أخبار المجنون. قال وقال قيس:
يقولون لبنى فتنة كنت قـبـلـهـا بخير فلا تندم علـيهـا وطـلـق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي وأقررت عين الشامت المتخـلـق
وددت وبيت الله أني عصـيتـهـم وحملت في رضوانها كل موبـق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر أبيت على أثباج مـوج مـغـرق
كأني أرى الناس المحبين بعـدهـا عصارة ماء الحنظل المتـفـلـق
صفحة : 1010
فتنكر عيني بعدها كل منظـر ويكره سمعي بعدها كل منطق قال: وسقط غراب قريبا منه فجعل ينعق مرارا، فتطير منه وقال:
لقد نادى الغراب ببين لبـنـى فطار القلب من حذر الغراب
وقال غدا تتباعد دار لبـنـى وتنأى بعـد ود واقـتـراب
فقلت تعست ويحك من غراب وكان الدهر سعيك في تباب وقال أيضا وقد منعه قومه من الإلمام بها: صوت
ألا يا غراب البين ويحك نبني بعلمك في لبنى وأنت خبـير
فإن أنت لم تخبر بما قد علمته فلا طرت إلا والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فـيهـم كما قد تراني بالحبيب أدور غنى سليمان أخو حجبة رملا بالوسطى.
قالوا: وقال أيضا وقد دخلت هودجها ورحلت وهي تبكي ويتبعها:
ألا يا غراب البين هل أنت مخبـري بخير كما خبرت بالنـأي والـشـر
وقلت كذاك الدهر مازال فاجـعـا صدقت وهل شيء بباق على الدهر غنى فيهما ابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي. وذكر حبش أن لقفا النجار فيهما ثقيلا أول بالوسطى. قالوا: فلما ارتحل قومها اتبعها مليا، ثم علم أن أباها سيمنعه من المسير معها، فوقف ينظر إليهم ويبكي حتى غابوا عن عينه فكر راجعا. ونظر إلى أثر خف بعيرها فأكب عليه يقبله ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها. فليم على ذلك وعنفه قومه على تقبيل التراب؛ فقال:
وما أحببت أرضكم ولكن أقبل إثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى بلاء ما أسيغ به الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى عييت فما أطيق له جوابا وقال وقد نظر إلى آثارها: صوت
ألا يا ربع لبنى مـا تـقـول أبن لي اليوم ما فعل الحلـول
فلو أن الديار تجـيب صـبـا لرد جوابي الربع المـحـيل
ولو أني قدرت غداة قـالـت غدرت وماء مقلتهـا يسـيل
نحرت النفس حين سمعت منها مقالتها وذاك لـهـا قـلـيل
شفيت غليل نفسي من فعالـي ولم أغبر بلا عقـل أجـول غنى فيه حسين بن محرز خفيف ثقيل من روايتي بذل وقريض. وتمام هذه الأبيات:
كأني واله بفـراق لـبـنـى تهيم بفقد واحدهـا ثـكـول
ألا يا قلب ويحك كن جلـيدا فقد رحلت وفات بها الذميل
فإنك لا تطيق رجوع لبـنـى إذا رحلت وإن كثر العـويل
وكم قد عشت كم بالقرب منها ولكن الفراق هو السـبـيل
فصبرا كل مؤتلفـين يومـا من الأيام عيشهـمـا يزول قال: فلما جن عليه الليل وانفرد وأوى إلى مضجعه لم يأخذ القرار وجعل يتململ فيه تململ السليم، ثم وثب حتى أتى موضع خبائها، فجعل يتمرغ فيه ويبكي ويقول: صوت
بت والهم يا لبينى ضـجـيعـي وجرت مذ نأيت عني دموعـي
وتنفست إذ ذكـرتـك حـتـى زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
أتناسـاك كـيف يريغ فـؤادي ثم يشتد عنـد ذاك ولـوعـي
يا لبينى فدتك نفسـي وأهـلـي هل لدهر مضى لنا من رجوع غنت في البيتين الأولين شارية خفيف رمل بالوسطى. وغنى فيهما حسين بن محرز ثاني ثقيل، هكذا ذكر الهشامي؛ وقد قيل إنه لهاشم بن سليمان.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال زبير بن بكار حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن محمد بن معن الغفاري عن أبيه عن عجوز لهم يقال حمادة بنت أبي مسافر قالت: جاورت آل ذريح بقطيع لي فيه الرائمة وذات البو والحائل والمتبع. قال: فكان قيس بن ذريح إلى شرف في ذلك القطيع ينظر إلى ما يلقين فيتعجب. فقلما لبث حتى عزم عليه أبوه بطلاق لبنى فكاد يموت، ثم آلى أبوه لئن أقامت لا يساكن قيسا. فظعنت فقال:
أيا كبدا طارت صدوعا نوافـذا ويا حسرتا ماذا تغلغل في القلب
فأقسم ما عمش العيون شوارف روائم بو حائمات على سقـب
تشممنه لو يستطعنس ارتشفنـه إذا سفنه يزددن نكبا على نكب
صفحة : 1011
رئمن فما تنحاش مـنـهـن شـارف وحالفن حبسا في المحول وفي الجدب
بأوجد مني يوم ولـت حـمـولـهـا وقد طلعت أولى الركاب من النقـب
وكل ملمات الـزمـان وجـدتـهـا سوى فرقة الأحباب هينة الخـطـب أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال سمعت ابن عائشة يقول: قال إسحاق بن الفضل الهاشمي: لم يقل الناس في هذا المعنى مثل قول قيس بن ذريح:
وكل مصيبات الزمان وجدتـهـا سوى فرقة الأحباب هينة الخطب قال وقال ابن النطاح قال أبو دعامة: خرج في فتية إلى بلادها حتى رآها، وشعره في ذلك: خرج قيس في قتية من قومه واعتل على أبيه بالصيد، فأتى بلاد لبنى، فجعل يتوقع أن يراها أو يرى من يرسل إليها. فاشتغل الفتيان بالصيد؛ فلما قضوا وطرهم منه رجعوا إليه وهو واقف، فقالوا له: لقد عرفنا ما أردت بإخراجنا معك وأنت لم ترد الصيد وأنما أردت لقاء لبنى، وقد تعذر عليك فانصرف الآن. فقال:
وما حائمات حمن يومـا ولـيلة على الماء يغشين العصي حوان
عوافي لا يصدرن عنه لوجـهة ولا هن من برد الحـياض دوان
يرين حبات الماء والموت دونـه فهن لأصوات الـسـقـاة روان
بأجهد مني حر شـوق ولـوعة عليك ولكن الـعـدو عـدانـي
خليلي إنـي مـيت أو مـكـلـم لبينى بسري فامضـيا وذرانـي
أنل حاجتي لوحدي ويا رب حاجة قضيت على هول وخوف جنان
فإن أحق النـاس ألا تـجـاوزا وتطرحا من لو يشاء شفـانـي
ومن قادني للموت حتى إذا صفت مشاربه السم الذعاف سقـانـي قال: فأقاموا معه حتى لقيها، فقالت له: يا هذا، إنك متعرض لنفسك وفاضحي. فقال لها:
صدعت القلب ثم زرت فيه هواك فليم فالتأم الفطـور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور أبو السائب المخزومي وشعر قيس: وقال القحذمي حدثني أبو الوردان قال حدثني أبي قال: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس:
صدعت القلب ثم زرت فيه هواك فليم فالتأم الفطـور فصاح بجارية له سندية تسمى زبدة، فقال: أي زبدة عجلي. فقالت: أنا أعجن. فقال: ويحك تعالي ودعي العجين. فجاءت فقال لي: أنشد بيتي قيس فأعدتهما. فقال لها: يا زبدة، أحسن قيس وإلا فأنت حرة إرجعي الآن إلى عجينك أدركيه لا يبرد.
حسرته على فراقها وتأنيبه نفسه
قالوا: وجعل قيس يعاتب نفسه في طاعته أباه في طلاقه لبنى ويقول: فألا رحلت بها عن بلده فلم أر ما يفعل ولم يرني فكان إذا فقدني أقلع عما يفعله وإذا فقدته لم أتحرج من فعله وما كان علي لو اعتزلته وأقمت في حيها أو في بعض بوادي العرب، أو عصيته فلم أطعه هذه جنايتي على نفسي فلا لوم على أحد وهأنذا ميت مما فعلته، فمن يرد روحي إلي وهل لي سبيل إلى لبنى بعد الطلاق وكلما قرع نفسه وأنبها بلون من التقريع والتأنيب بكى أحر بكاء وألصق خده بالأرض ووضعه على آثارها ثم قال: صوت
ويلي وعولي ومالي حين تفلتـنـي من بعد ما أحرزت كفي بها الظفرا
قد قال قلبي لطرفي وهو يعـذلـه هذا جزاؤك مني فاكدم الحـجـرا
قد كنت أنهاك عنها لو تطاوعـنـي فاصبر فما لك فيها أجر من صبرا غناه الغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن حبش. وفي الثالث والأول خفيف رمل يقال إنه لابن الهربذ.
قالوا وقال أيضا:
بانت لبينى فأنت اليوم متـبـول والرأي عندك بعد الحزم مخبول
أستودع الله لبنى إذ تفـارقـنـي بالرغم مني وقول الشيخ مفعول
وقد أراني بلبنى حق مقـتـنـع والشمل مجتمع والحبل موصول قال خالد بن كلثوم وقال:
ألا ليت لبنى في خلاء تزورني فأشكو إليها لوعتي ثم ترجـع
صحا كل ذي لب وكل مـتـيم وقلبي بلبنى ما حييت مـروع
فيامن لقلب ما يفيق من الهوى ويامن لعين بالصبابة تـدمـع قالوا وقال في ليلته تلك:
صفحة : 1012
قد قلت للقلب لا لبناك فاعـتـرف واقض اللبانة ما قضيت وانصرف
قد كنت أحلف جهدا لا أفارقـهـا أف لكثرة ذاك القيل والحـلـف
حتى تكنفني الواشون فافتـلـتـت لا تأمنن أبدا من غش مكتـنـف
هيهات هيهات قد أمست مجـاورة أهل العقيق وأمسينا على سـرف -قال: وسرف على ستة أميال من مكة. والعقيق: واد باليمامة-
حي يمانون والبطحاء منزلنـا هذا لعمرك شمل غير مؤتلف من شعره في لبنى وقد سنحت له ظبية: قالوا: فلما أصبح خرج متوجها نحو الطريق الذي سلكته يتنسم روائحها، فسنحت له ظبية فقصدها فهربت منه فقال:
ألا يا شبه لبنى لا تراعي ولا تتيممي قلل القلاع وهي قصيدة طويلة يقول فيها:
فوا كبدي وعاودني رداعي وكان فراق لبنى كالخداع
تكنفني الوشاة فأزعجونـي فيا لله للواشي المـطـاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي على شيء وليس بمستطاع
كمغبون يعض علـى يديه تبين غبنه بعـد الـبـياع
بدار مضيعة تركتك لبنـى كذاك الحين يهدى للمضاع
وقد عشنا نلذ العيش حينـا لو أن الدهر للإنسان داع
ولكن الجميع إلى افتـراق وأسباب الحتوف لها دواع غناه الغريض من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي. ولشارية في البيتين الأولين ثقيل أول آخر بالوسطى. ولابن سريج رمل بالوسطى عن الهشامي في:
بدار مضيعة تركتك لبنى وقبله:
فوا كبدي وعاودني رداعي ولسياط في البيتين الأولين خفيف رمل بالبنصر عن حبش.
أغرت أمه فتيات الحي بأن يعبن عنده لبنى ليسلوها فلم يسل، وشعره في ذلك: حدثني عمي عن الكراني عن العتبي عن أبيه قال: بعثت أم قيس بن ذريح بفتيات من قومه إليه يعبن إليه لبنى ويعبنه بجزعه وبكائه ويتعرضن لوصاله، فأتينه فاجتمعن حواليه وجعلن يمازحنه ويعبن لبنى عنده ويعيرنه ما يفعله. فلما أطلن أقبل عليهن وقال: صوت
يقر بعيني قـربـهـا ويزيدنـي بها كلفا من كان عندي يعيبهـا
وكم قائل قد قال تب فعصـيتـه وتلك لعمري توبة لا أتوبـهـا
فيا نفس صبرا لست والله فاعلمي بأول نفس غاب عنها حبيبـهـا - غناه دحمان ثقيلا أول بالوسطى. وفيه هزج بالبنصر لسليم، وذكر حبش أنه لإسحاق - قال: فانصرفن عنه إلى أمه فأيأسنها من سلوته. وقال سائر الرواة الذين ذكرتهم: اجتمع إليه النسوة فأطلن الجلوس عنده ومحادثته وهو ساه عنهن، ثم نادى: يا لبنى فقلن له: ما لك ويحك فقال: خدرت رجلي، ويقال: إن دعاء الإنسان باسم أحب الناس إليه يذهب عنه خدر الرجل فناديتها لذلك. فقمن عنه، وقال:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها فناديت لبنى باسمهـا ودعـوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني لفارقتها من حبهـا وقـضـيت
برت نبلها للصيد لبنى وريشـت وريشت أخرى مثلهـا وبـريت
فلما رمتني أقصدتني بسهمـهـا وأخطأتها بالسهم حـين رمـيت
وفارقت لبنى ضلة فكـأنـنـي قرنت إلى العيوق ثـم هـويت
فيا ليت أني مت قبل فراقـهـا وهل ترجعن فوت القضية ليت
فصرت وشيخي كالذي عثرت به غداة الوغى بين العداة كمـيت
فقامت ولم تضرر هناك سـوية وفارسها تحت السنابـك مـيت
فإن يك تهيامي بلبـنـى غـواية فقد يا ذريح بن الحباب غـويت
فلا أنت ما أملـت فـي رأيتـه ولا أنا لبنى والـحـياة حـويت
فوطن لهلكي منك نفسا فإنـنـي كأنك بي قد يا ذريح قـضـيت حديثه في مرضه مع عواده ومع طبيبه عن لبنى، وشعره في ذلك: وقال خالد بن كلثوم: مرض قيس، فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه ويحدثنه لعله أن يتسلى أو يعلق بعضهن، ففعلن ذلك. ودخل إليه طبيب ليداويه والفتيات معه، فلما اجتمعن عنده جعلن يحادثنه وأطلن السؤال عن سبب علته، فقال: صوت
صفحة : 1013
عيد قيس من حب لبنى ولبنى داء قيس والحب داء شـديد
وإذا عادني الـعـوائد يومـا قالت العين لا أرى من أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضـي إنها لا تعود فيمـن يعـود
ويح قيس لقد تضمن منـهـا داء خبل فالقلب منه عمـيد - غناه ابن سريج خفيف رمل عن الهشامي. وفيه للحجبي ثقيل أول بالوسطى. وفيه ليحيى المكي رمل - قالوا: فقال له الطبيب: منذ كم هذه العلة? ومنذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت? فقال: صوت
تعلق روحي روحها قبل خلقنـا ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبـح نـامـيا وليس إذا متنا بمنصرم العـهـد
ولكنه باق علـى كـل حـادث وزائرنا في ظلمة القبر واللحـد - غناه الغريض ثقيلا أول بالوسطى من رواية حبش - قالوا: فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تتذكر ما فيها من المساوئ والمعايب وما تعافه النفس من أقذار بني آدم؛ فإن النفس تنبو حينئذ وتسلو ويخف ما بها. فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طـالـعـا وحسبك من عيب لها شبه البـدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما على ألف شهر فضلت ليلة القدر صوت
إذا ما مشت شبرا من الأرض أرجفت من البهر حتى ما تزيد على شـبـر
لها كفل يرتج مـنـهـا إذا مـشـت ومتن كغصن اللبان مضطمر الخصر - غنى في هذين البيتين ابن المكي خفيف رمل بالوسطى. وفيهما رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى ابن طنبورة عن الهشامي - قالوا: ودخل أبوه وهو يخاطب الطبيب بهذه المخاطبة، فأنبه ولامه وقال له: يا بني الله الله في نفسك فإنك ميت إن دمت على هذا فقال:
وفي عروة العذري إن مت أسـوة وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند
وبي مثل ما ماتا به غـير أنـنـي إلى أجل لم يأتني وقـتـه بـعـد صوت
هل الحب إلا عبرة بعد زفـرة وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهـل إذا بـدا لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو غنى في هذين البيتين زيد بن الخطاب مولى سليمان بن أبي جعفر، وقيل: إنه مولى سليمان بن علي، ثقيلا أول بالوسطى عن الهشامي.
إعجاب أبي السائب المخزومي بشعر له: وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير، وأخبرنا اليزيدي عن ثعلب عن الزبير قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس قال: جلست أنا وأبو السائب في النبالين، فأنشدني قول قيس بن ذريح:
عيد قيس من حب لبنى ولبنى داء قيس والحب داء شـديد
ليت لبنى تعودني ثم أقضـي إنها لاتعود فـيمـن يعـود قال: فأنشدته أنا لقيس:
تعلق روحي روحها قبل خلقنـا ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كما زدنا وأصبـح نـامـيا وليس إذا متنا بمنتقض العـهـد
ولكنه باق علـى كـل حـادث وزائرنا في ظلمة القبر واللحـد فحلف لا يزال يقوم ويقعد حتى يرويها. فدخل زقاق النبالين وجعلت أرددها عليه ويقوم ويقعد حتى رواها.
رجع الخبر إلى سياقته.
زوجه أبوه غيرها ليسلوها فتزوجت لبنى، وما قال في ذلك من الشعر: وقال خالد بن جمل: فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه بأن يزوجه امرأة جميلة فلعله أن يسلو بها عن لبنى. فدعاه إلى ذلك فأباه وقال:
لقد خفت ألا تقنع النفس بعدهـا بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وأزجر عنها النفس إذ حيل دونها وتأبى إليها النفس إلا تطلـعـا
صفحة : 1014
فأعلمهم أبوه بما رد عليه. قالوا: فمره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم فلعل عينه أن تقع على امرأة تعجبه. فأقسم عليه أبوه أن يفعل. فسار حتى نزل في حي من فزارة، فرأى جارية حسناء قد حسرت برقع خز عن وجهها وهي كالبدر ليلة تمه، فقال لها: ما اسمك يا جارية? قالت: لبنى. فسقط على وجهه مغشيا عليه، فنضحت على وجهه ماء وارتاعت لما عراه، ثم قالت: إن لم يكن هذا قيس بن ذريح إنه لمجنون فأفاق فنسبته فانتسب. فقالت: قد علمت أنك قيس، ولكن نشدتك بالله وبحق لبنى إلا أصبت من طعامنا. وقدمت إليه طعاما، فأصاب منه بإصبعه. وركب فأتى على أثره أخ لها كان غائبا، فرأى مناخ ناقته، فسألهم عنه فأخبروه، فركب حتى رده إلى منزله، وحلف عليه ليقيمن عنده شهرا. فقال له: لقد شققت علي، ولكني سأتبع هواك، والفزاري يزداد إعجابا بحديثه وعقله وروايته، فعرض عليه الصهر. فقال له: يا هذا إن فيك لرغبة، ولكني في شغل لا ينتفع بي معه. فلم يزل يعاوده والحي يلومونه ويقولون له: قد خشينا أن يصير علينا فعلك سبة. فقال: دعوني، ففي مثل هذا الفتى يرغب الكرام. فلم يزل به حتى أجابه وعقد الصهر بينه وبينه على أخته المسماة لبنى، وقال له: أنا أسوق عنك صداقها. فقال: أنا والله يا أخي أكثر قومي مالا، فما حاجتك إلى تكلف هذا? أنا سائر إلى قومي وسائق إليها المهر. ففعل وأعلم أباه الذي كان منه، فسره وساق المهر عنه. ورجع إلى الفزاريين حتى أدخلت عليه زوجته، فلم يروه هش إليها ولا دنا منها ولا خاطبها بحرف ولا نظر إليها. وأقام على ذلك أياما كثيرة. ثم أعلمهم أنه يريد الخروج إلى قومه أياما فأذنوا له في ذلك، فمضى لوجهه إلى المدينة. وكان له صديق من الأنصار بها؛ فأتاه فأعلمه الأنصاري أن خبر تزويجه بلغ لبنى فغمها وقالت: إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم، وقد كان أبوها شكى قيسا إلى معاوية وأعلمه تعرضه لها بعض الطلاق. فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه إن تعرض لها، وأمر أباها أن يزوجها رجلا يعرف بخالد بن حلزة من بني عبد الله بن غطفان - ويقال: بل أمره بتزويجها رجلا من آل كثير بن الصلت الكندي حليف قريش فزوجها أبوها منه قال: فجعل نساء الحي يقلن ليلة زفافها:
لبينى زوجها أصب ح لا حر بـواديه
له فضل على الناس بما باتت تنـاجـيه
وقيس مـيت حـي صريع في بواكيه
فلا يبعـده الـلـه وبعدا لـنـواعـيه قال: فجزع قيس جزعا شديدا وجعل ينشج أحر نشيج ويبكي أحر بكاء. ثم ركب من فوره حتى أتى محلة قومها، فناداه النساء: ما تصنع الآن ها هنا قد نقلت لبنى إلى زوجها . وجعل الفتيان يعارضونه بهذه المقالة وما أشبهها وهو لا يجيبهم حتى أتى موضع خبائها فنزل عن راحلته وجعل يتمعك في موضعها ويمرغ خده على ترابها ويبكي أحر بكاء. ثم قال: صوت
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكـا إلى الله فقـد الـوالـدين يتـيم
يتيم جفاه الأقربون فـجـسـمـه نحيل وعهـد الـوالـدين قـديم
بكت دارهم من نأيهم فتهلـلـت دموعي فاي الجـازعـين ألـوم
أمستعبرا يبكي من الشوق والهوى أم آخر يبكـي شـجـوه ويهـيم لابن جامع في البيتين الأولين ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. ولعريب فيهما ثاني ثقيل. وفي الثالث والرابع لمياسة خفيف رمل بالبنصر عن عمرو وحبش والهشامي وتمام هذه الأبيات، وليست فيها صنعة، قوله:
تهيضني من حب لبنى عـلائق وأصناف حب هولهن عـظـيم
ومن يتعلق حب لبـنـى فـؤاده يمت أو يعش ما عاش وهو كليم
فإني وإن أجمعت عنك تجـلـدا على العهد فيما بيننا لـمـقـيم
وإن زمانا شتت الشمل بـينـنـا وبينكم فيه الـعـدا لـمـشـوم
أفي الحق هذا أن قلبـك فـارغ صحيح وقلبي في هواك سقـيم وقد قيل: إن هذه الأبيات ليست لقيس وإنما خلطت بشعره. ولكنها في هذه الرواية منسوبة إليه.
قال: وقال أيضا في رحيل لبنى عن وطنها وانتقالها إلى زوجها بالمدينة وهو مقيم في حيها: صوت
صفحة : 1015
بانت لبينى فهاج القلب من بانا وكان ما وعدت مطلا وليانـا
وأخلفتك منى قد كنت تأملهـا فأصبح القلب بعد البين حيرانا
الله يدري وما يدري بـه أحـد ماذا أجمجم من ذكراك أحيانا
يا أكمل الناس من قرن إلى قدم وأحسن الناس ذا ثوب وعريانا
نعم الضجيع بعيد النوم تجلبـه إليك ممتلئا نوما ويقـظـانـا للغريض في هذه الأبيات ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وعمرو. وذكر الهشامي أن فيه لابن محرز ثاني ثقيل آخر. وقال أحمد بن عبيد: فيه لحنان ليحيى المكي وعلويه. وتمام هذه القصيدة:
لا بارك الله فيمن كان يحسـبـكـم إلا على العهد حتى كان ما كانـا
حتى استفقت أخيرا بعد ما نكحـت كأنما كان ذاك القلـب حـيرانـا
قد زراني طيفكم ليلا فـأرقـنـي فبت للشوق أذري الدمع تهتـانـا
إن تصرمي الحبل أو تمسي مفارقة فالدهر يحدث للإنسـان ألـوانـا
وما أرى مثلكم في الناس من بشر فقد رأيت بـه حـيا ونـسـوانـا شكاه أبوها إلى معاوية فأهدر دمه، وشعره في ذلك:
وقال ابن قتيبة في خبره عن الهيثم بن عدي، ورواه عمر بن شبة أيضا: أن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكا إليه قيسا وتعرضه لابنته بعد طلاقه إياها. فكتب معاوية إلى مروان أبو سعيد بن العاص يهدر دمه إن ألم بها وأن يشتد في ذلك. فكتب مروان أو سعيد في ذلك إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتابا وكيدا، ووجهت لبنى رسولا قاصدا إلى قيس تعلمه ما جرى وتحذره. وبلغ أباه الخبر فعاتبه وتجهمه وقال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك فقال: صوت
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقـالة واش أو وعـيد أمــير
فلن يمنعوا عيني من دائم البـكـا ولن يذهبوا ما قد أجن ضمـيري
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ومن حرق تعتـادنـي و زفـير
ومن حرق للحب في باطن الحشى وليل طويل الحزن غير قصـير
سأبكي على نفسي بعـين غـزيرة بكاء حزين في الـوثـاق أسـير
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهـوى بأنعم حالـي غـبـطة وسـرور
فما برح الواشون حتى بدت لهـم بطون الهوى مقلوبة لـظـهـور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الـدنـيا مـتـاع غـرور -هكذا في هذا الخبر أن الشعر لقيس بن ذريح. وذكر الزبير بن بكار أنه لجده عبد الله بن مصعب - غنى يزيد حوراء في الأول و الثاني والسادس والثالث من هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى. وغنى إبراهيم في الأول والثاني لحنا من كتابه غير مجنس. وذكر حبش أن فيهما لإسحاق خفيف ثقيل بالوسطى. وفي الخامس وما بعده لعريب ثقيل أول ابتداؤه نشيد. وقال ابن الكلبي في خبره: قال قيس في اهدار معاوية دمه إن زارها:
إن تك لبنى قد أتى دون قربهـا حجاب منيع ما إلـيه سـبـيل
فإن نسيم الجو يجمـع بـينـنـا ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا باليل في الحي تلتقـي ونعلم أنا بـالـنـهـار نـقـيل
وتجمعنا الأرض القرار وفوقنـا سماء نرى فيها النجوم تـجـول
إلى أن يعود الدهر سلما وتنقضي تراث بغاها عنـدنـا وذحـول شعره فيما حين صادفها في موسم الحج: ومما وجد في كتاب لابن النطاح قال العتبي حدثني أبي قال: حج قيس بن ذريح، واتفق أن حجت لبنى في تلك السنة، فرآها ومعها امرأة من قومها، فدهش وبقي واقفا مكانه ومضت لسبيلها. ثم أرسلت إليه بالمرأة تبلغه السلام وتسأله عن خبره؛ فألفته جالسا وحده ينشد ويبكي:
ويوم منى أعرضت عني فلم أقل بحاجة نفس عند لبنى مقالـهـا
وفي اليأس للنفس المريضة راحة إذا النفس رامت خطة لا تنالهـا
صفحة : 1016
فدخلت خباءه وجعلت تحدثه عن لبنى ويحدثها عن نفسه مليا، ولم تعلمه أن لبنى أرسلتها إليه. فسألها أن تبلغها عنه السلام، فامتنعت عليه؛ فأنشأ يقول:
إذاطلعت شمس النهار فـسـلـمـي فآية تسليمي علـيك طـلـوعـهـا
بعشر تحيات إذا الشمـس أشـرقـت وعشر إذا اصفرت وحان رجوعهـا
ولو أبلغتها جارة قولـي اسـلـمـي بكت جزعا وارفض منها دموعهـا
وبان الذي تخفي من الوجد في الحشى إذا جاءها عني حـديث يروعـهـا غنى في البيتين الأولين علويه خفيف رمل بالوسطى - قال: وقضى الناس حجهم وانصرفوا. فمرض قيس في طريقه مرضا شديدا أشفى منه على الموت، فلم يأته رسولها عائدا لأن قومها رأوه وعلموا به؛ فقال:
ألبنى لقد جلت عليك مصيبـتـي غداة غد إذ حـل مـا أتـوقـع
تمنينني نيلا وتـلـوينـنـي بـه فنفسي شوقا كل يوم تـقـطـع
وقلبك قط ما يلـين لـمـا يرى فواكبدي قد طال هذا التضـرع
ألومك في شأني وأنت مـلـيمة لعمري وأجفى للمحب وأقطـع
أخبرت أني فيك ميت حسرتـي فما فاض من عينيك للوجد مدمع
ولكن لعمري قد بكيتك جـاهـدا وإن كان دائي كله منك أجمـع
صبيحة جاء العائدات يعدنـنـي فظلت علي العائدات تـفـجـع
فقائلة جئنا إلـيه وقـد قـضـى وقائلة لا، بل تركـنـاه ينـزع وروى القحذمي ها هنا:
فما غشيت عينيك من ذاك عبرة وعيني على ما بي بذكراك تدمع
إذا أنت لم تبكي علـي جـنـازة لديك فلا تبكي غدا حين أرفـع قال: فبلغتها الأبيات، فجزعت جزعا شديدا وبكت بكاء كثيرا. ثم خرجت إليه ليلا على موعد فاعتذرت وقالت: إنما أبقي عليك وأخشى أن تقتل، فأنا أتحاماك لذلك، ولو هذا لما افترقنا. وودعته وانصرفت.
???شعره فيها وقد بلغه أنها كذبت مرضه: وقال خالد بن كلثوم: فبلغه أن أهلها قالوا لها: إنه عليل لما به وإنه سيموت في سفره هذا. فقالت لهم لتدفعهم عن نفسها: ما أراه إلا كاذبا فيما يدعي ومتعللا لا عليلا. فبلغه ذلك فقال:
تكاد بـلاد الـلـه يا أم مـعـمـر بما رحبت يوما علـي تـضـيق
تكذبني بالود لـبـنـى ولـيتـهـا تكلف منـي مـثـلـه فـتـذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنـت أنـنـي لكم والهدايا المشعـرات صـديق
تتوق إليك الـنـفـس ثـم أردهـا حياء ومثلي بـالـحـياء حـقـيق
أذود سوام النفس عـنـك ومـالـه على أحـد إلا عـلـيك طـريق
فإني وإن حاولت صرمي وهجرتي عليك من أحداث الردى لشـفـيق
ولم أر أيامـا كـأيامـنـا الـتـي مررن علينـا والـزمـان أنـيق
ووعدك إيانا، ولو قلت عـاجـل ، بعيد كما قد تعلـمـين سـحـيق
وحدثتني ياقـلـب أنـك صـابـر على البين من لبنى فسوف تـذوق
فمت كمدا أو عش سقيما فـإنـمـا تكلفـنـي مـالا أراك تـطـيق
أطعت وشاة لم يكـن لـك فـيهـم خليل ولا جار عـلـيك شـفـيق
فإن تك لما تسل عنهـا فـإنـنـي بها مغرم صب الفـؤاد مـشـوق
بلبنى أنـادى عـنـد أول غـشـية ويثني بها الداعي لـهـا فـأفـيق
شهدت على نفسي بـأنـك غـادة رداح وأن الوجه منـك عـتـيق
وأنك لا تجزينـنـي بـصـحـابة ولا أنا للهجران منـك مـطـيق
وأنك قسمت الفـؤاد فـنـصـفـه رهين ونصف في الحبـال وثـيق
صبوحي إذا ما ذرت الشمس ذكركم ولي ذكركم عند المساء غـبـوق
إذا أنا عزيت الهوى أو تـركـتـه أتت عبرات بالـدمـوع تـسـوق
كأن الهوى بين الحيازيم والحشـى وبين التراقي والـلـهـاة حـريق
فإن كنت لما تعلمي العلم فاسألـي فبعض لبعض في الفعال فـؤوق
صفحة : 1017
سلي هل قلاني من عشير صحبته وهل مل رحلي في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الكرام صحابتي إذا اغبر مخشي الفجاج عمـيق
وأكتم أسرار الهوى فـأمـيتـهـا إذا باح مـزاح بـهـن بـروق
سعى الدهر والواشون بيني وبينها فقطع حبل الوصل وهـو وثـيق
هل الصبر إلا أن أصد فـلا أرى بأرضـك إلا أن يكـون طـريق قصته مع لبنى وزوجها وقد باعه ناقة وهو لا يعرفه: قال: ثم أتى قومه فاقتطع قطعة من إبله وأعلم أباه أنه يريد المدينة ليبيعها ويمتار لأهله بثمنها. فعرف أبوه أنه إنما يريد لبنى، فعاتبه وجزره عن ذلك؛ فلم يقبل منه وأخذ إبله وقدم بها المدينة. فبينا هو يعرضها إذ ساومه زوج لبنى بناقة منها وهما لا يتعارفان، فباعه إياها. فقال له: إذا كان غد فأتني في كثير بن الصلت فاقبض الثمن؛ قال: نعم. ومضى زوج لبنى إليها فقال لها: إني ابتعت ناقة من رجل من أهل البادية وهو يأتينا غدا ليقبض ثمنها، فأعدي له طعاما، ففعلت. فلما كان من الغد جاء قيس فصوت بالخادم: قولي لسيدك: صاحب الناقة بالباب. فعرفت لبنى نغمته فلم تقل شيئا. فقال زوجها للخادم: قولي له: ادخل، فدخل فجلس. فقالت لبنى للخادم: قولي له: يا فتى، مالي أراك أشعث أغبر? فقالت له ذلك. فتنفس ثم قال لها: هكذا تكون حال من فارق الأحبة واختار الموت على الحياة، وبكى. فقالت لها لبنى: قولي له: حدثنا حديثك. فلما ابتدأ يحدث به كشفت الحجاب وقالت: حسبك قد عرفنا حديثك وأسبلت الحجاب. فبهت ساعة لايتكلم ثم انفجر باكيا ونهض فخرج. فناداه زوجها: ويحك ما قصتك? ارجع اقبض ثمن ناقتك، وإن شئت زدناك. فلم يكلمه وخرج فاغترز في رحله ومضى. وقالت لبنى لزوجها: ويحك هذا قيس بن ذريح. فما حملك على ما فعلت به? قال: ما عرفته. وجعل قيس يبكي في طريقه ويندب نفسه ويوبخها على فعله ثم قال: صوت
أتبكي على لبنى وأنت تركتـهـا وأنت عليها بالملا أنـت أقـدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقـلـبـت علي فللدنيا بطـون وأظـهـر
لقد كان فيها للأمانة مـوضـع وللكف مرتاد وللعين منـظـر
وللحائم العطشان ري بريقـهـا وللمرح المختال خمر ومسكـر
كأني لها أرجوحة بين أحـبـل إذا ذكرة منها على القلب تخطر للغريض في البيتين الأولين ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي وفيها لعريب رمل. ولشارية خفيف رمل من رواية أبي العبيس.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال: تزوج رجل من أهل المدينة يقال له أبو درة امرأة كانت قبله عند رجل آخر من أهل المدينة يقال له أبو بطينة؛ فلقيه زوجها الأول فضربه ضربة شلت يده منها. فلقيه أبو السائب المخزومي فقال له: يا أبا درة أضربك أبو بطينة في زوجته? قال: نعم. أما إني أشهد أنها ليست كما قال قيس بن ذريح في زوجته لبنى:
لقد كان فيها للأمانة موضـع وللكف مرتاد وللعين منظـر
وللحائم العطشان ري بريقهـا وللمرح المختال خمر ومسكر قال: وكانت زوجة أبي درة هذه سوداء كأنها خنفساء.
مرضه بعد هذه الحادثة: قال: وعاد إلى قومه بعد رؤيته إياها وقد أنكر نفسه وأسف ولحقه أمر عظيم؛ فأنكروه وسألوه عن حاله فلم يخبرهم، ومرض مرضا شديدا أشرف منه على الموت. فدخل إليه أبوه ورجال قومه فكلموه وعاتبوه وناشدوه الله. فقال: ويحكم أتروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوة بعد اليأس فاخترت الهم والبلاء، أو لي في ذلك صنع هذا ما اختاره لي أبواي وقتلاني به. فجعل أبوه يبكي ويدعو به بالفرج والسلوة. فقال قيس:
لقد عذبتني يا حب لبنـى فقع إما بموت أو حـياة
فإن الموت أروح من حياة تدوم على التباعد والشتات
وقال الأقربون تعز عنهـا فقلت لهم إذا حانت وفاتي دست إليه رسولا يسأله لم تزوج حتى تزوجت هي:
صفحة : 1018
قال: ودست إليه لبنى بعد خروجه رسولا وقالت له: استنشده، فإن سألك عن سبتك فانتسب له خزاعيا، فإذا أنشدك فقل له: لم تزوجت بعدها حتى أجابت إلى أن تتزوج بعدك? واحفظ ما يقول لك حتى ترده علي. فأتاه الرسول فسلم وانتسب خزاعيا، وذكر أنه من أهل الشام واستنشده؛ فأنشده قوله:
فأقسم ما عمش العيون شوارف روائم بو حانيات على سقـب وقد مضت هذه الأبيات فقال له رجل: فلم تزوجت بعدها? فأخبره الخبر، وحلف له أن عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوجها، وأنه لو رأها في نسوة ما عرفها، وأنه ما مد يده إليها ولا كلمها ولا كشف لها عن ثوب. فقال له الرجل: فأنني جار لها وإنها من الوجد بك على حال قد تمنى زوجها معها أن تكون بقربها لتصلح حالها بك؛ فحملني إليها ما شئت أؤده إليها. قال: تعود إلي إذا أردت الرحيل، فعاد إليه لما أراد الرحيل. فقال تقول لها:
ألا حي لبنى اليوم إن كنت غـاديا وألمم بها من قبل أن لا تـلاقـيا
وأهد لها منك النصـيحة إنـهـا قليل ولا تخشى الوشـاة الأدانـيا
وقل إنني والراقصات إلى منـى بأجبل جمع يتظرون الـمـنـاديا
أصونك عن بعض الأمور مضنة وأخشى عليك الكاشحين الأعـاديا
تساقط نفسي حين ألقاك أنفـسـا يردن فما يصـدرن إلا صـواديا
فإن أحيا أو أهلك فلسـت بـزائل لكم حافظا ما بل ريق لـسـانـيا
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت بها زفرة تعتادني هي مـا هـيا
وبين الحشى والنحر مني حـرارة ولوعة وجد تترك القلب ساهـيا
ألا ليت لبنى لم تكـن لـي خـلة ولم ترني لبنى ولم أدر مـا هـيا
سلي الناس هل خبرت سرك منهم أخا ثقة أو ظاهر الغـش بـاديا
يقول لي الواشون لما تظـاهـروا عليك وأضحى الحبل للبين واهيا
لعمري لقبل اليوم حملت ما تـرى وأنذرت من لبنى الذي كنت لاقيا
خليلي مالي قد بـلـيت ولا أرى لبينى على الهجران إلا كما هـيا
ألا يا غراب البين مالك كـلـمـا ذكرت لبينى طرت لي عن شماليا
أعندك علم الغيب أم لست مخبري عن الحي إلا بالذي قد بـدا لـيا
جزعت عليها لو أرى لي مجزعا وأفنيت دمع العين لو كان فانـيا
حياتك لا تغلب علـيهـا فـإنـه كفى بالذي تلقى لنفسك نـاهـيا
تمر الليالي والشـهـور ولا أرى ولوعي بهـا يزداد إلا تـمـاديا
فما عن نوال من لبينـى زيارتـي ولا قلة الإلمام أن كنـت قـالـيا
ولكنها صدت وحملت من هـوى لها ما يؤود الشامخات الرواسـيا وهذه القصيدة تخلط بقصيدة المجنون التي في وزنها وعلى قافيتها لتشابههما، فقلما يتميزان.
غنى الحسين بن محرز في البيت الأول والبيت الخامس من هذه القصيدة ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من روايتي بذل والهشامي.
أنب لبنى زوجها لافتضاح أمره بشعر قيس فغضبت: حدثني المدائني عن عوانة عن يحيى بن علي الكناني قال: شهر أمر قيس بالمدينة وغنى في شعره الغريض ومعبد ومالك وذووهم، فلم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك فأطربه وحزن لقيس مما به. وجاءها زوجها فأنبها على ذلك وعاتبها وقال: قد فضحتني بذكرك. فغضبت وقالت: يا هذا، إني والله ما تزوجتك رغبة فيك ولا فيما عندك ولا دلس أمري عليك، ولقد علمت أني كنت زوجته قبلك وأنه أكره على طلاقي. ووالله ما قبلت التزويج حتى أهدر دمه إن ألم بحينا، فخشيت أن يحمله ما يجد على المخاطرة فيقتل، فتزوجتك. وأمرك الأن إليك، ففارقني فلا حاجة بي إليك. فأمسك عن جوابها وجعل يأتيها بجواري المدينة يغنينها بشعر قيس كيما يستصلحها بذلك؛ فلا تزداد إلا تماديا وبعدا، ولا تزال تبكي كلما سمعت شيئا من ذلك أحر بكاء وأشجاه.
وسط بريكة في لقائها، وشعره في ذلك: رجع الحديث إلى سياقته.
صفحة : 1019
وقال الحرمازي وخالد بن جمل: كانت امرأة من موالي بني زهرة يقال لها بريكة من أظرف النساء وأكرمهن، وكان لها زوج من قريش له دار ضيافة. فلما طالت علة قيس قال له أبوه: إني لأعلم أن شفاءك في القرب من لبنى فارحل إلى المدينة. فرحل إليها حتى أتى دار الضيافة التي لزوج بريكة. فوثب غلمانه إلى رحل قيس ليحطوه. فقال: لا تفعلوا فلست نازلا أو ألقى بريكة فإني قصدتها في حاجة؛ فإن وجدت لها عندها موضعا نزلت بكم وإلا رحلت. فأتوها فأخبروها. فخرجت إليه فسلمت عليه ورحبت به وقالت: حاجتك مقضية كائنة ما كانت، فانزل. فنزل ودنا منها فقال: أذكر حاجتي? قالت: إن شئت. قال: أنا قيس بن ذريح. قالت: حياك الله وقربك إن ذكرك لجديد عندنا في كل وقت. قال: وحاجتي أن أرى لبنى نظرة واحدة كيف شئت. قالت: ذلك لك علي. فنزل بهم وأقام عندها وأخفت أمره، ثم أهدى لها هدايا كثيرة وقال: لاطفيها وزوجها بهذا حتى يأنس بك. ففعلت وزارتها مرارا، ثم قالت لزوجها: أخبرني عنك: أنت خير من زوجي? قال: لا. قالت: فلبنى خير مني? قال: لا. قالت: فما بالي أزورها ولا تزورني? قال: ذلك إليها. فأتتها وسألتها الزيارة وأعلمتها أن قيسا عندها. فتسارعت إلى ذلك وأتتها. فلما رأها ورأته بكيا حتى كادا يتلفان. ثم جعلت تسأله عن خبره وعلته فيخبرها، ويسألها فتخبره. ثم قالت: أنشدني ما قلت في علتك؛ فأنشدها قوله:
أعالج من نفسي بقايا حشـاشة على رمق والعائدات تـعـود
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها كما هش للثدي الدرور ولـيد
أجيب بلبنى من دعاني تجـلـدا وبي زفرات تتجلى وتـعـود
تعيد إلى روحي الحياة وإننـي بنفسي لوعاينـتـنـي لأجـود قال: وفي هذه القصيدة يقول: صوت
ألا ليت أياما مـضـين تـعـود فإن عدن يوما إنني لـسـعـيد
سقى دار لبنى حيث خلت وخيمت من الأرض منهل الغمام رعود في هذين البيتين لعريب خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى، وقيل: إنه لغيرها. وتمام هذه القصيدة:
على كل حال إن دنت أو تباعـدت فإن تدن منـا فـالـدنـو مـزيد
فلا اليأس يسليني ولا القرب نافعي ولبنى منوع ما تـكـاد تـجـود
كأني من لبنى سلـيم مـسـهـد يظل على أيدي الـرجـال يمـيد
رمتني لبينى في الفؤاد بسهمـهـا وسهم لبينى لـلـفـؤاد صـيود
سلا كل ذي شجو علمت مكـانـه وقلبي للبنـى مـا حـييت ودود
وقائلة قـد مـات أو هـو مـيت وللنفس مني أن تفـيض رصـيد
أعالج من نفسي بقـايا حـشـاشة على رمق والعـائدات تـعـود وقال الحرمازي في خبره خاصة: وعاتبته على تزوجه؛ فحلف أنه لم ينظر إليها ملء عينيه ولا دنا منها فصدقته.
وقال: صوت
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني علق بقلبي من هـواك قـديم
يبقى على حدث الزمان وريبه وعلى جفائك، إنـه لـكـريم
فصرمته وصححت وهو بدائه شتان بين مصحـح وسـقـيم
واربته زمنا فعاد بحـلـمـه إن المحب عن الحبيب حلـيم لعريب في هذه الأبيات خفيف ثقيل، وللدرامي خفيف رمل من رواية الهشامي. ومن الناس من ينسب خفيف الثقيل إليه وخفيف الرمل إليها قالوا: فلم يزل يومه معها يحدثها ويشكو إليها أعف شكوى وأكرم حديث حتى أمسى؛ فانصرفت ووعدته بالرجوع إليه من غد فلم ترجع. وشاع خبره فلم ترسل إليه رسولا. فكتب لها الأبيات في رقعة ودفعها إلى بريكة وسألها أن توصلها إليها، ورحل متوجها إلى معاوية. والأبيات: صوت
بنفسي من قلبي له الـدهـر ذاكـر ومن هو عني معرض القلب صابر
ومن حـبـه يزداد عـنـدي جـدة وحبي لديه مخلق العـهـد داثـر شكا إلى يزيد ما به وامتدحه فحقن دمه:
صفحة : 1020
-غنت في هذين البيتين ضنين جارية خاقان بن حامد خفيف رمل قالوا: ثم ارتحل إلى معاوية، فدخل إلى يزيد فشكا ما به إليه وامتدحه؛ فرق له وقال: سل ما شئت، إن شئت أن أكتب إلى زوجها فأحتم عليه أن يطلقها فعلت. قال: لا أريد ذلك، ولكن أحب أن أقيم بحيث تقيم من البلاد، أتعرف أخبارها وأقنع بذلك من غير أن يهدر دمي. قال: لو سألت هذا من غير أن ترحل إلينا فيه لما وجب أن تمنعه، فأقم حيث شئت؛ وأخذ كتاب أبيه له بأن يقيم حيث شاء وأحب ولا يعترض عليه أحد، وأزال ما كان كتب له في إهدار دمه؛ فقدم إلى بلده؛ وبلغ الفزاريين خبره وإلمامه بلبنى، فكاتبوه في ذلك وعاتبوه. فقال للرسول: قل للفتى يعني أخا الجارية التي تزوجها: يا أخي ما غررتك من نفسي ،ولقد أعلمتك أني مشغول عن كل أحد، وقد جعلت أمر أختك إليك فأمض فيه من حكمك ما رأيت. فتكرم الفتى على أن يفرق بينهما، فمكثت في حباله مدة ثم ماتت.
?لقيه عياش السعدي ذاهلا شارد اللب وأنشده من شعره فيها: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي عن أبيه قال: أقبلت ذات يوم من الغابة ؛ فلما كنت بالمذاد ، إذا ربع حديث العهد بالساكن، وإذا رجل مجتمع في جانب ذلك الربع يبكي ويحدث نفسه. فسلمت فلم يرد علي سلاما. فقلت في نفسي: رجل ملتبس به فوليت عنه. فصاح بي بعد ساعة: وعليك السلام، هلم هلم إلي يا صاحب السلام فأتيته فقال: أما والله لقد فهمت سلامك ولكني رجل مشترك اللب يضل عني أحيانا ثم يعود إلي. فقلت ومن أنت? قال: قيس بن ذريح الليثي. قلت صاحب لبنى? قال: صاحب لبنى لعمري وقتيلها ثم أرسل عينيه كأنهما مزادتان؛ فما أنسى حسن قوله:
أبائنة لبنى ولم تقطـع الـمـدى بوصل ولا صرم فييأس طامـع
نهاري نهار الوالهـين صـبـابة وليلي تنبو فيه عني المضـاجـع
وقد كنت قبل اليوم خلوا وإنـمـا تقسم بين الهالكين الـمـصـارع
فلولا رجاء القلب أن تسعف النوى لما حبسته بينـهـن الأضـالـع
له وجبات إثر لبـنـى كـأنـهـا شقائق برق في السماء لـوامـع
أبى الله أن يلقى الرشـاد مـتـيم ألا كل أمـر حـم لابـد واقـع
هما برحابي معولين كـلاهـمـا فؤاد وعين جفنها الدهـر دامـع عبد الله بن مسلم بن جندب ينشد من شعره: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا الزبير قال، وأخبرنا به وكيع عن أبي أيوب المديني، قال الزبير قال حدثتني ظبية قالت: سمعت عبد الله بن مسلم بن جندب ينشد زوجي قول قيس بن ذريح:
إذا ذكرت لبنى تأوه واشتـكـى تأوه محموم عليه الـبـلابـل
يبيت ويضحي تحت ظل منـية به رمق تبكي عليه القـبـائل
قتيل للبنى صدع الحب قلـبـه وفي الحب شغل للمحبين شاغل فصاح زوجي:أوه واحرباه واسلباه . ثم أقبل على ابن جندب فقال: ويلك أتنشد هذا كذا قال: فكيف أنشده? قال: لم لا تتأوه كما يتأوه وتشتكي كما يشتكي.
استنشده ابن أبي عتيق أحر ما قال في لبنى: وقال القحذمي: قال ابن أبي عتيق لقيس يوما: أنشدني أحر ما قلت في لبنى. فأنشده قوله:
وإني لأهوى النوم في غير حينه لعل لقاء في المـنـام يكـون
تحدثني الأحـلام أنـي أراكـم فيا ليت أحلام المـنـام يقـين
شهدت بأني لم أحل عن مـودة وأني بكم لو تعلمين ضـنـين
وأن فؤادي لا يلين إلى هـوى سواك وإن قالوا بلى سـيلـين فقال له بن أبي عتيق: لقل ما رضيت به منها يا قيس. قال: ذلك جهد المقل.
غنى في البتين الأولين قفا النجار ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.
أنشد ثعلب من شعره وكان يستحسنه: أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لقيس بن ذريح وكان يستحسن هذه الأبيات من شعره:
سقى طلل الداري التي أنتم بهـا حيا ثـم وبـل صـيف وربـيع
مضى زمن والناس يستشفعون بي فهل لي إلى لبنى الغداة شفـيع
صفحة : 1021
سأصرم لبنى حبلك اليوم مجمـلا وإن كان صرم الحبل منك يروع
وسوف أسلي النفس عنك كما سلا عن البلد النأي البـعـيد نـزيع
وإن مسني للضر مـنـك كـآبة وإن نال جسمي للفراق خشـوع
يقولون صب بالنسـاء مـوكـل وما ذاك من فعل الرجال بـديع
ندمت على ما كان منـي نـدامة كما ندم المغبـون حـين يبـيع
فقدتك من نفس شعاع ألـم أكـن نهيتك عن هذا وأنـت جـمـيع
فقربت لي غير القريب وأشرفت هناك ثنايا ما لـهـن طـلـوع
إلى الله أشكو نية شقت العـصـا هي اليوم شتى وهي أمس جميع
فيا حجرات الدار حيث تحمـلـوا بذي سلـم لا جـادكـن ربـيع صوت
فلو لم يهجني الظاعنون لها جني حمائم ورق في الـديار وقـوع
تداعين فاستبكين من كان ذا هوى نوائح لم تقطر لـهـن دمـوع -غنى في هذين البيتين ابن سريج خفيف ثقيل أول عن الهشامي - صوت
إذا أمرتني العاذلات بهجرها أبت كبد عما يقلـن صـديع
وكيف أطيع العاذلات وذكرها يؤرقني والعاذلات هجـوع غنى في هذين البيتين إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.
فكاهات لأبي السائب في شعره
وفي سيرته:
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس بن ذريح: صوت
أحبك أصنافا من الحـب لـم أجـد لها مثلا في سائر الناس يوصـف
فمنهن حب للـحـبـيب ورحـمة بمعرفتي منه بـمـا يتـكـلـف
ومنهن ألا يعرض الدهر ذكرهـا على القلب إلا كادت النفس تتلـف
وحب بدا بالجسم واللون ظـاهـر وحب لدى نفسي من الروح ألطف قال أبو السائب: لا جرم والله لأخلصن له الصفاء ولأغضبن لغضبه ولأرضين لرضاه. غنى في البيتين الأولين الحسين بن محرز خفيف ثقيل عن الهشامي وبذل.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا الملك بن عبد العزيز عن أبي السائب المخزومي أنه أخبره أنه كان مع عبد الرحمن بن عبد الله بن كثير في سقيفة دار كثير، إذ مر بجنازة؛ فقال لي: يا أبا السائب، جارك ابن كلدة، إلا تقوم بنا فنصلي عليه قال: قلت: بلى والله فديتك فقمنا حتى إذا كنا عند دار أويس إذ ذكرت أن جده كان تزوج لبنى ونزل بها المدينة، فرجعت فطرحت نفسي بالسقيفة وقلت: لا يراني الله أصلي عليه. فرجع الكثيري فقال: أكنت جنبا? قلت: لا والله. قال: فعلى غير وضوء? قلت: لا والله. قال: فما لك? قلت: ذكرت أن جده كان تزوج لبنى وفرق بينها وبين قيس بن ذريح لما ظعن بها من بلادها، فما كنت لأصلي عليه.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني هارون بن موسى الفروي قال أخبرنا الخليل بن سعيد قال: مررت بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضا، فاطلعت فإذا أبو السائب المخزومي قائم على غراب يباع وقد أخذ بطرف ردائه وهو يقول للغراب: يقول لك قيس بن ذريح:
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي أحاذر من لبنى فهل أنت واقـع لم لا تقع ويضربه بردائه والغراب يصيح. قال: فقال قائل له: أصلحك الله يا أبا السائب ليس هذا ذاك الغراب. فقال: قد علمت، ولكن آخذ البريء حتى يقع الجريء .
آلت لبنى ألا ترى غرابا إلا قتلته لبيت قاله من قصيدة، وذكر المختار منها: وقال الحرمازي في خبره: لم بلغ لبنى قول قيس:
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي أحاذر من لبنى فهل أنت واقـع آلت ألا ترى غرابا إلا قتلته؛ فكانت كلما رأته أو رأته خادم لها أو جارة ابتيع ممن هو معه وذبحته.
وهذه القصيدة العينية أيضا من جيد شعر قيس. والمختر منها قوله:
أتبكي على لبنى وأنت تركتهـا وكنت كآت حتفه وهو طـائع
فيا قلب صبرا واعترافا لما ترى ويا حبها قع بالذي أنت واقـع
ويا قلب خبرني إذا شطت النوى بلبنى وبانت عنك ما أنت صانع
صفحة : 1022
أتصبر للبين المشت مع الجـوى أم أنت امرؤ ناسي الحياء فجازع
كأنك بدع لم ترى الناس قبلـهـا ولم يطلعك الدهر فيمن يطالـع
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي أحاذر من لبنى فهل أنت واقـع
فليس محب دائمـا لـحـبـيبـه ولا ثقة إلا له الدهـر فـاجـع
كان بلاد الله ما لم تكـن بـهـا وإن كان فيها الناس قفر بلاقـع
فما أنت إذ بانت لبينى بهـاجـع إذا ما اطمأنت بالنيام المضاجـع صوت
أقضي نهاري بالحديث وبالـمـنـى ويجمعني والهم بالـلـيل جـامـع
نهاري نهار الناس حـتـى إذا دجـا لي الليل هزتني إليك المضـاجـع
لقد رسخت في القلب منـك مـودة كما رسخت في الراحتين الأصابـع
أحال علي الهم مـن كـل جـانـب ودامت فلم تبرح علي الـفـواجـع
ألا إنما أبـكـي لـمـا هـو واقـع فهل جزعي من وشك ذلك نـافـع
وقد كنت أبكي والنوى مـطـمـئنة بنا وبكم من علم ما البـين صـانـع
وأهجركم هجر البغيض وحـبـكـم على كبدي منـه كـلـوم صـوادع
وأعمد للأرض الـتـي لا أريدهـا لترجعني يومـا إلـيك الـرواجـع
وأشفق من هجرانكم وتـروعـنـي مخافة وشك البين والشمل جـامـع
فما كل ما منتك نـفـسـك خـالـيا تلاقي ولا كل الهوى أنـت تـابـع
لعمري لمن أمسى ولبنى ضجـيعـه من الناس ما اختيرت عليه المضاجع
فتلك لبينى قد تـراخـى مـزارهـا وتلك نواها غـربة مـا تـطـاوع
وليس لأمر حاول الـلـه جـمـعـه مشت ولا ما فرق الـلـه جـامـع
فلا تبكين في إثر لـبـنـى نـدامة وقد نزعتهـا مـن يديك الـنـوازع غنى الغريض في الثالث والرابع والأول والعشرين وهو لعمري لمن أمسى ولبنى ضجيعه ثقيلا أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وغنى إبراهيم الموصلي في العاشر وهو: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى والحادي عشر والثاني عشر رملا بالوسطى عن عمرو. وقد قيل: إن ثلاثة أبيات من هذه وهي: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى والبيتان اللذان بعده لابن الدمينة الخثعمي؛ وهو الصحيح؛ وإنما أدخلها الناس من هذه الأبيات لتشابهها.
مصير قيس ولبنى وهل ماتا زوجين أو مفترقين: وقد اختلف في آخر أمر قيس ولبنى؛ فذكر أكثر الرواة أنهما ماتا على افتراقهما، فمنهم من قال: إنه مات قبلها وبلغها ذلك فماتت أسفا عليه. ومنهم من قال: بل ماتت قبله ومات أسفا عليها، وممن ذكر ذلك اليوسفي عن علي بن صالح المصلى؛ قال قال لي أبو عمرو المدني: ماتت لبنى، فخرج قيس ومعه جماعة من أهله فوقف على قبرها فقال:
ماتت لبينى فموتهـا مـوتـي هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مـكـتـئب قضى حياة وجدا على مـيت ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه؛ فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلا لا يفيق ولا يجيب مكلما ثلاثا حتى مات فدفن إلى جنبها.
صفحة : 1023
وذكر القحذمي وابن عائشة وخالد بن جمل أن ابن أبي عتيق صار إلى الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم وجماعة من قريش، فقال لهم: إن لي حاجة إلى رجل أخشى أن يردني فيها، وإني أستعين بجاهكم وأموالكم فيها عليه. قالوا: ذلك لك مبتذل منا. فاجتمعوا ليوم وعدهم فيه، فمضى بهم إلى زوج لبنى. فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه وأكبره. فقالوا: لقد جئناك بأجمعنا في حاجة لابن أبي عتيق. قال: هي مقضية كائنة ما كانت. قال ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت من ملك أو مال أو أهل? قال نعم. قال: تهب لهم ولي لبنى زوجتك وتطلقها. قال: فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثا. فاستحيا القوم واعتذروا وقالوا: والله ما عرفنا حاجته، ولو علمنا أنها هذه ما سألناك إياها. وقال ابن عائشة: فعوضه الحسن من ذلك مائة ألف درهم وحملها ابن أبي عتيق إليه. فلم تزل عنده حتى انقضت عدتها. فسأل القوم أباها فزوجها قيسا، فلم تزل معه حتى ماتا. قالوا: فقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي على الإحسان خيرا من صديق
فقد جربت إخواني جـمـيعـا فما ألفيت كابن أبي عـتـيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ورأي حدت فيه عن الطـريق
وأطفأ لوعة كانت بـقـلـبـي أغصتني حرارتهـا بـريقـي قال: فقال له ابن أبي عتيق: يا حبيبي أمسك عن هذا المديح؛ فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا. مضى الحديث.
صوت من مدن معبد في شعر عنترة: ومن مدن معبد وهو الذي أوله:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وقد جمع معه سائر ما يغنى فيه من القصيدة.
منها: صوت
هل غادر الشعراء من مـتـردم أم هل عرفت الدار بعد توهـم
يا دار عبلة بالجواء تكـلـمـي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
وتحل عبلة بالجواء وأهـلـنـا بالحزن فالصمان فالمتـثـلـم
كيف القرار وقد تربع أهلـهـا بعنيزتين وأهلنـا بـالـغـيلـم
حييت من طلل تقـادم عـهـده أقوى وأقفر بعد أم الـهـيثـم
ولقد نزلت فلا تظـنـي غـيره مني بمنزلة المحب المـكـرم
ولقد خشيت بأن أموت ولم تـدر للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهمـا والناذرين إذا لم القهمـا دمـي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمـهـا قيل الفوارس ويك عنتر فاقـدم
ما زلت أرميهم بثغرة نـحـره ولبانه حتى تسـربـل بـالـدم
هلا سألت الخيل يابـنة مـالـك إن كنت جاهلة بما لم تعلـمـي
يخبرك من شهد الوقيعة أنـنـي أغشى الوغى وأعف عند المغنم
يدعون عنتر والرماح كـأنـهـا أشطان بئر في لبـان الأدهـم
فشككت بالرمح الطويل ثـيابـه ليس الكريم على القنا بمحـرم
فإذا شربت فإنني مستـهـلـك مالي، وعرضي وافر لم يكلـم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلي وتكرمـي
صفحة : 1024
الشعر لعنترة بن شداد العبسي، وقد تقدمت أخباره ونسبه. وغنى في البيت الأول، على ما ذكره ابن المكي، إسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى، وما وجدت هذا في رواية غيره. وغنى معبد في البيت الثاني والثالث خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، وهو الصوت المعدود في مدن معبد. وغنى سلام الغسال في السابع والثامن والثالث والعاشر رملا بالسبابة في مجرى البنصر، ووجدت في بعض الكتب أن له ايضا في السابع وجده ثاني ثقيل أيضا، وذكر عمرو بن بانة أن هذا الثقيل الثاني بالوسطى لمعبد ووافقه يونس، وذكر ابن المكي أن هذا الثقيل الثاني للهذلي، وذكر غيره أنه لابن محرز. وذكر أحمد بن عبيد أن في السابع ثقيلا أول للهذلي، ووافقه حبش. وذكر حبش أن في الثاني لمعبد ثقيلا أول، وأن لابن سريج فيه رملا آخر غير رمل ابن الغسال، وأن لابن مسجح أيضا فيه خفيف ثقيل بالوسطى. وفي كتاب أبي العبيس: له في الثالث لحن. وفي كتاب أبي أيوب المديني: لابن جامع في هذه الأبيات لحن. ولمعبد في الحادي عشر والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا. ولعلوية في السادس والرابع ثاني ثقيل، وله أيضا في الرابع عشر والثالث عشر رمل. وفي كتاب هارون بن الزيات لعبد آل في الخامس ثقيل أول؛ وقد نسب الثقيل الثاني المختلف فيه لابن محرز. وفي كتاب هارون: لأحمد النصبي في الرابع والخامس لحن.
هل غادر الشعراء البيت، يدفع أكثر الرواة أن يكون لعنترة؛ وممن يدفعه الأصمعي وابن الأعرابي. وأول القصيدة عندهما يا دار عبلة . فذكر أبو عمرو الشيباني أنه لم يكن يرويه حتى سمع أبا حزام العكلي يرويه له.
قوله: هل غادر الشعراء من متردم يقول: هل تركوا شيئا ينظر فيه لم ينظروا فيه?. والمتردم: المتعطف، وهو مصدر. يقول: هل تركوا شيئا يتردم عليه أي يتعطف؛ ويقال: تردمت الناقة على ولدها إذا تعطفت عليه، وثوب مردم وملدم إذا سدت خروقه بالرقاع. والربع: المنزل، سمي ربعا لارتباعهم فيه؛ والربيعة: الصخرة حكى أبو نصر أنه يقول: هل ترك الشعراء من خرق لم يرقعوه وفتق لم يرتقوه وهو أشبه بقوله من متردم. وقال غيره: يعني بقوله من متردم البناء وهو الردم، أي لم يتركوا بناء إلا بنوه؛ قال الله عز وجل أجعل بينكم وبينهم ردما يعني بناء؛ وردم فلان حائطه أي بناه. والجواء: بلد بعينه؛ والجواء أيضا: جمع جو وهو البطن الواسع من الأرض. عمي صباحا، وانعمي صباحا: تحية. تربع أهلها: نزلوا في الربيع. وعنيزتين: أكمة سوداء بين البصرة ومكة. والغيلم: موضع. والطلل: ما كان له شخص من الدار مثل أثفية أو وتد أو نؤي، وتقول العرب: حيا الله طللك، أي شخصك. وابنا ضمضم: حصين وهرم المريان. وثغرة نحره: موضع لبته. واللبان: مجرى لببة من صدره وهو الصدر نفسه. ويروى بغرة وجهه . وتسربل، أي صار له سربال من الدم. وقوله: هلا سألت الخيل يريد فرسان الخيل ؛كما قال الله تعالى: واسأل القرية . والوقيعة: الوقعة. والوغى والوحى: أصوات الناس وجلبتهم في الحرب؛ وقال الشاعر:
وليل كساج الحميري أدرعته كأن وغى حافاته لغط العجم والأشطان: الحبال، واحدها شطن. شبه اختلاف الرماح في صدر فرسه بالأشطان. وشككت بالرمح: نظمت. وقال أبو عمرو: يعني بثياب قلبه. والعرض: موضع المدح والذم من الرجل؛ يقال: طيب العرض أي طيب ريح الجسم. والكلوم: الجراح. والوافر: التام. وشمائلي: أخلاقي، واحدها شمال. يقال: فلان حلو الشمائل والنحائت والضرائب والغرائز.
عنترة يقول معلقته لأن رجلا سبه وعيره سواده: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال قال أبو عمرو الشيباني:
صفحة : 1025
قال عنترة هذه القصيدة لأن رجلا من بني عبس سابه فذكر سواده وسواد أمه وإخوته وعيره ذلك. فقال عنترة: والله إن الناس ليترافدون بالطعمة، فوالله ما حضرت مرفد الناس أنت ولا أبوك ولا جدك قط. وإن الناس ليدعون في ا لفزع فما رأيتك في خيل قط، ولا كنت في أول النساء. وإن اللبس يعني الاختلاط ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أحد من أهل بيتك لحظة فيصل قط، وكنت فقعا بقرقرة . ولو كنت في مرتبتك ومغرسك التي أنت فيه ثم ما جدتك لمجدتك، أو طاولتك لطلتك، ولو سألت أمك وأباك عن هذا لأخبراك بصحته. وإني، وأوفى المنغم، وأعف عن المسألة واجود بما ملكت، وأفضل الخطة الصمعاء . فقال له الآخر: أنا أشعر منك. فقال: ستعلم . وكان عنترة لا يقول من الشعر إلى البيت أو البيتين في الحرب فقال هذه القصيدة. ويزعمون أنها أول قصيدة قالها. وكانت العرب تسميها المذهبة.
بقية مدن معبد
نسبة الأصوات التي جعلت مكان بعض هذه الأصوات في مدن معبد، وهن: صوت من مدنه في شعر كثير عزة: صوت
تقطع من ظلامة الوصل أجمع أخيرا على أن لم يكن يتقطـع
وأصبحت قد ودعت ظلامة التي تضر وما كانت مع الضر تنفع الشعر لكثير. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ويونس.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن البكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال قال السائب راوية كثير، وأخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال زعم ابن الكلبي عن أبي المقوم قال حدثني سائب راوية كثير قال: كنت مع كثير عند ظلامة فأقمنا أياما. فلما أردنا الانصراف عقدت له في علاقة سوطه عقدا وقالت: أحفظها ثم انصرفنا فمررنا على ماء لبنى ضمرة، فقال: إن في هذه الأخبية جارية ظريفة ذات جمال، فهل لك أن تستبرزها? فقلت: ذاك إليك. قال: فملنا إليهم فخرجت إلينا جاريتها فأخرجتها إلينا، فإذا هي عزة، فجلس معها يحادثها، وطرح سوطه بينه وبينها إلى أن غلبته عيناه، وأقبلت عزة على تلك العقد تحلها واحدة واحدة. فلما استيقظ انصرفنا. فنظر إلى علاقة سوطه فقال: أحلتها? قلت: نعم فلا وصلها الله والله إنك لمجنون. قال: فسكت عني طويلا ثم رفع السوط فضرب به واسط رحله وأنشأ يقول:
تقطع من ظلامة الوصل أجمع أخيرا على أن لم يكن يتقطـع
وأصبحت قد ودعت ظلامة التي تضر وما كانت مع الضر تنفع
وقد سد من أبواب ظلامة التـي لنا خلف للنفس منها ومقـنـع ثم وصل عزة بعد ذلك وقطع ظلامة.
ومنها: وهو الذي أوله: خمصانة قلق موشحها .
صوت من مدنه في شعر الحارث
ابن خالد:
صوت
أقوى من آل ظليمة الحزم فلغمرتان فأوحش الخطـم
فجنوب أثبرة فملحـدهـا فلسدرتان فما حوى دسـم
وبما أرى سخصا به حسنا في القوم إذا حيتكم نـعـم
إذا ودها صاف و رؤيتهـا أمنية وكلامـهـا غـنـم
لفاء مملوء مخلخـلـهـا عجزاء ليس لعظمها حجم
خمصانة قلق موشحـهـا رؤد الشباب على بها عظم
وكأن غالية تبـاشـرهـا تحت أثياب إذا صغا النجم
أظليم إن مصابكـم رجـلا أهدى السلام تحية ظـلـم
اقصيته وأراد سلـمـكـم فليهنه إذ جاءك السـلـم عروضه من الكامل. الشعر للحارث بن خالد المخزومي. والغناء لمعبد، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر. قال: ولحن معبد :
خمصانة قلق موشحها وأول لحن مالك:
أقوى من آل ظليمة الحزم
ذكر الحارث بن خالد
ونسبه وخبره في هذا الشعر
الحارث بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم؛ وقد تقدم ذكره وأخباره في كتاب المائة المختارة في بعض الأغاني المختارة التي شعرها له وهو:
إن امرأ تعتاده ذكر تزوج حميدة بنت النعمان بن بشير ثم طلقها: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال:
صفحة : 1026
بلغني أن الحارث بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة -ويقال: بل خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة -كان تزوج حميدة بنت النعمان بن بشير بدمشق لما قدم على عبد الملك بن مروان. فقالت فيه:
نكحت المديني إذ جـاءنـي فيالك من نـكـحة غـاويه
كهول دمشق وشـبـانـهـا أحب إلينا مـن الـجـالـيه
صنان لهم كصنـان الـتـيو س أعيا على المسك والغاليه فقال الحارث يجيبها: صوت
أسنا ضوء نار ضمرة بالقـف رة أبصرت أم سنا ضوء برق
قاطنات الحجون أشهى إلى قل بي من ساكنات دور دمشـق
يتضو عن لو تضمخن بالمـس ك صنانا كأنـه ريح مـرق غناه مالك بن أبي السمح خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر من رواية إسحاق. وفيه لابن محرز لحن من رواية عمرو بن بانة ثقيل أول بالوسطى.
رجعت الرواية إلى خبر الحارث قال: وطلقها الحارث؛ فخلف عليها روح بن زنباع. قال: وكان الحارث خطب أمة لمالك بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وخطبها عبد الله بن مطيع. فتزوجها عبد الله ثم طلقها أو مات عنها، فتزوجها الحارث بن خالد بعد ذلك وقال فيها قبل أن يتزوج:
أقوى من آل ظليمة الحزم فالغمرتان فأوحش الخطم الأبيات التي فيها الغناء.
قال وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة بهذا الخبر فذكر مثله، ولم يذكر أن الحارث هو المتزوجها، وفسر قولها:
أحب إلينا من الجاليه وقال: الجاليه أهل الحجاز، كان أهل الشام يسمونهم بذلك لأنهم كانوا يجلون عن بلادهم إلى الشام. وقال في الحديث: فبلغ عبد الملك قولها فقال: لولا أنها قدمت الكهول على الشبان لعاقبتها.
قتل مصعب أختها عمرة بعد قتل زوجها المختار: قال عوانة: وكانت لحميدة أخت يقال لها عمرة، وكانت تحت المختار بن أبي عبيد الثقفي، فأخذها مصعب بعد قتله المختار وأخذ امرأته الأخرى وهي بنت سمرة بنت جندب، فأمرهما بالبراءة من المختار. أما بنت سمرة فبرئت منه، وأبت ذلك عمرة. فكتب به مصعب إلى أخيه عبد الله. فكتب إليه: إن أبت أن تبرأ منه فاقتلها.
فأبت فحفر لها حفيرة وأقيمت فيها فقتلت. فقال عمر بن أبي ربيعة في ذلك:
إن من أعجب العجائب عندي قتل بيضاء حرة عطـبـول
قتلت حرة على غير جـرم إن لله درها مـن قـتـيل
كتب القتل والقتال عـلـينـا وعلى الغانيات جر الـذيول رجع الحديث إلى رواية عمر بن شبة قال أبو زيد وحدثني ابن عائشة عن أبيه بهذا الخبر ونحوه، وزاد فيه أن الحارث لما تزوجها قالت فيه:
نكحت المديني إذ جاءني فيالك من نكحة غاويه تهاجي حميدة مع زوجها روح بن زنباع: وذكر الأبيات المتقدمة. وقال عمر بن شبة فيه: وتزوجها روح بن زنباع؛ فنظر إليها يوما تنظر إلى قومه جذام، وقد اجتمعوا عنده فلامها. فقالت: وهل أرى إلا جذام فوالله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام .
وقالت تهجوه:
بكى الخز من روح وأنكر جلـده وعجت عجيجا من جذام المطارف
وقال العبا قد كنت حينا لباسـكـم وأكـسـية كـردية وقـطـائف فقال روح:
إن تبك منا تبك ممن يهينهـا وإن تهوكم تهو اللئام المقارفا وقال روح:
أثني علي بما علمت فإنـنـي مثن عليك لبئس حشو المنطق فقالت:
أثني عليك بأن باعك ضـيق وبأن أصلك في جذام ملصق فقال روح:
أثني علي بما علمت فإنـنـي مثن عليك بمثل ريح الجورب فقالت:
فثناؤنا شر الثناء عـلـيكـم أسوا وأنتن من سلاح الثعلب وقالت:
وهل أنا إلا مـهـرة عـربـية سليلة أفراس تجللـهـا بـغـل
فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى وإن يك إقراف فما أنجب الفحل فقال روح:
فما بال مهر رائع عرضـت لـه أتان فبالت عند جحفلة البـغـل
إذا هو ولى جانبا ربـخـت لـه كما ربخت قمراء في دمس سهل وقالت عمرة لأخيها أبان بن النعمان:
صفحة : 1027
أطال الله شأوك من غلام متى كانت مناكحنا جذام
أترضى بالأكارع والذنابى وقد كنا يقر بنا السـنـام وقال ابن عم لروح:
رضي الأشياخ بالفطيون فحلا وترغب للحماقة عن جـذام
يهودي له بضع الـعـذارى فقبحا للكهـول ولـلـغـلام
تزف إليه قبل الـزوج خـود كأن شمسا تدلت من غمـام
فأبقى ذلكـم عـارا وخـزيا بقاء الوحي في صم السـلام
يهود جمعوا مـن كـل أوب وليسوا بالغطاريف الكـرام وقالت:
سميت روحا وأنت الغم قد علموا لا روح الله عن روح بن زنباع فقال روح:
لا روح الله عمن ليس يمنعنا مال رغيب وبعل غير ممناع
كشافع جونة ثجل مخاصرها دبابة شثنة الكفـين جـبـاع قال: والجباع: القصيرة. والجباع من السهام: الذي لا نصل له. والجباع: الرصف . وقالت:
تكحل عينيك برد العشـي كأنك مـسـومة زانـيه
وآية ذلك بعد الخـفـوق تغلف رأسك بالغـالـيه
وأن بنيك لريب الـزمـا ن أمست رقابهم حالـيه
فلو كان أوس لهم حاضرا لقال لهم إن ذا مـالـيه وأوس رجل من جذام يقال له: أنه استودع روحا مالا فلم يرده عليه. فقال لها روح:
إن يكن الخلع من بـالـكـم فليس الخلاعة من بـالـيه
وإن كان من قد مضى مثلكم فأف وتف على المـاضـيه
وما إن برا الله فاستيقـنـي ه من ذات بعل ومن جاريه
شبيها بك اليوم فيمن بـقـي ولا كان في الأعصر الخاليه
فبعدا لمحياك إذ مـا حـييت وبعدأ لأعظمك الـبـالـيه تزوجها بعده الفيض بن محمد بن الحكم: وقال روح في بعض ما يتنازعان فيه: اللهم إن بقيت بعدي فابتلها ببعل يلطم وجهها ويملئ حجرها قيئا: فتزوجها بعده الفيض بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وكان شابا جميلا يصيب من الشراب فأحبته. فكان ربما أصاب من الشراب مسكرا فيلطم وجهها ويقيء في حجرها؛ فتقول: يرحم الله أبا زرعة قد أجيبت دعوته في. وقالت لفيض:
سميت فيضا وما شيء تفيض بـه إلا سلاحك بين الـبـاب والـدار
فتلك دعوة روح الخير أعرفـهـا سقى الإله صداه الأوطف الساري وقالت لفيض أيضا:
ألا يا فيض كنت أراك فيضا فلا فيضا أصبت ولا فراتا وقالت:
وليس فيض بفياض العطـاء لـنـا لكن فيضا لنا بـالـقـيء فـياض
ليث الليوث علينـا بـاسـل شـرس وفي الحروب هيوب الصدر جياض تزوج ابنتها من الفيض الحجاج بن يوسف: فولدت من الفيض ابنة فتزوجها الحجاج بن يوسف؛ وقد كانت قبلها عند الحجاج أم أبان بنت النعمان بنت بشير فقالت حميدة للحجاج:
إذا تذكـرت نـكـاح الـحـجـاج من النهار أو مـن الـلـيل الـداج
فاضت له العـين بـدمـع ثـجـاج وأشعل القـلـب بـوجـد وهـاج
لو كان نعـمـان قـتـيل الأعـلاج مستوي الشخص صـحـيح الأوداج
لكنت منها بـمـكـان الـنـسـاج قد كنت أرجو بعض ما يرجو الراج
أن تنكحـيه مـلـكـا أو ذا تـاج فقدمت حميدة على ابنتها زائرة. فقال لها الحجاج: يا حميدة، إني كنت احتمل مزاحك مرة ، وأما اليوم فإني بالعراق وهو قوم سوء فإياك . فقالت: سأكف حتى أرحل.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثنا المدائني عن مسلمة بن محارب قال:
صفحة : 1028
قالت حميدة بنت النعمان لزوجها روح بن زنباع، وكان أسود ضخما: كيف تسود وفيك ثلاث خصال: أنت من جذام، وأنت جبان، وأنت غيور. فقال: أما جذام فأنا في أرومتها ، وبحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه. وأما الجبن فإنما لي نفس واحدة، ولو كان لي نفسان لجدت بإحداهما. وأما الغيرة فهو أمر لا أحب أن أشارك فيه، وإن المرء لحقيق بالغيرة على المرأة مثلك الحمقاء الورهاء لا يأمن أنت تأتي بولد من غيره فتقذفه في حجره. ثم ذكر باقي خبرها مثل ما تقدم، وقال فيه فخلف بعده عليها الفيض بن محمد عم يوسف بن عمر، فكان يشرب ويلطمها ويقيء في حجرها فقالت:
سميت فيضا وما شيء تفيض به إلا سلاحك بين الباب والـدار قال المدائني: وتمثل فيض يوما بهذا البيت:
إن كنت ساقية يوما على كـرم صفو المدامة فاسقيها بني قطن ثم تحرك فضرط. فقالت: واسق هذه بني قطن .
أبو عثمان المازني والواثق: وهذا الصوت أعني:
أقوى من آل ظليمة الحزم هو الصوت الذي أشخص الواثق له أبا عثمان المازني بسبب بيت منه اختلف في إعرابه بحضرته، وهو قوله:
أظليم أن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم وقال آخرون: رجل. حدثني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان، وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا القاسم بن إسماعيل وعون بن محمد وعبد الواحد بن العباس بن عبد الواحد والطيب بن محمد الباهلي، يزيد بعضهم على بعض، قالوا حدثنا أبو عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي أن مخارقا غنى في مجلسه:
أظليم أن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم فغناه مخارق رجل فتابعه بعض القوم وخالفه أخرون. فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين فذكرت له، فأمر بحملي. فاما وصلت إليه قال: ممن الرجل? قلت: من بني مازن. قال: أمن مازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة أم مازن اليمن? قلت: من مازن ربيعة. فقال لي با اسمك? يريد ما اسمك وهي لغة كثيرة في قومنا فقلت على القياس: مكر أي بكر فضحك فقال : اجلس واطبئن: يريد: اطمئن فجلست. فسألني عن البيت. فقلت: إن مصابكم رجلا فقال: أين خبر إن ? قلت: ظلم وهو الحرف الذي في آخر البيت. وقال الأخفش في خبره: وقلت له: إن معنى مصابكم إصابتكم، مثل ما تقول: إن قتلكم رجلا حياكم ظلم. ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إن البيت كله معلق لا معنى له حتى يتم بقوله ظلم . ألا ترى أنه لو قال: أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية، لما احتيج إلى ظلم ولا كان له معنى، إلا أن يجعل التحية بالسلام ظلما، وذلك محال، ويجب حينئذ أن يقول:
أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية ظلما ولا معنى لذلك، ولا هو، لم كان له وجه، معنى قول الشاعر في شعره. فقال: صدقت، ألك ولد? قلت: بنية لا غير. قال: فما قالت حين ودعتها? قال قلت: أنشدت شعر الأعشى:
تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواء ومن قـد يتـم
أبانا فما رمت من عندنـا فإنا بخـير إذا لـم تـرم
أرانا إذا أضمرتك الـبـلا د نجفى وتقطع منا الرحم قال: فما قلت لها? قال: قلت لها قول جرير:
ثقي بالله ليس له شـريك ومن عند الخليفة بالنجاح فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى. إن ها هنا قوما يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان منهم عالما ينتفع به ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصورة قطعناه عنهم. فأمر فجمعوا إلي فامتحنتهم فما وجدت فيهم طائلا؛ وحذروا ناحيتي، فقلت: لا بأس على أحد. فلما رجعت إليه قال: كيف رايتهم? قلت: يفضل بعضهم بعضا في علوم، ويفضل الباقون في غيرها، وكل يحتاج إليه. فقال لي الواثق: إني خاطبت منهم واحدا فكان في نهاية من الجهل في خطابه ونظره. فقلت: يا أمير المؤمنين، أكثر من تقدم منهم بهذه الصفة؛ ولقد أنشدت فيهم:
إن المعلم لا يزال مضعفـا ولو ابتنى فوق السماء بناء
من علم الصبيان أضنوا عقله مما يرقي غدوة ومـسـاء مضى الحديث:
صوت من مدن معبد في شعر الأعشى
ومنها: صوت
صفحة : 1029
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي د أسيل تزينه الأطـواق
وشيت كالأقحوان جلاه ال طل فيه عذوبة واتسـاق الشعر للأعشى. والغناء لمعبد. وذكر إسحاق أن لحنه خفيف ثقيل من أصوات قليلات الأشباه، وذكر عمرو بن بانة أن لحنه من الثقيل الأول بالبنصر. ولإسحاق لحن من الثقيل أيضا وهو مما عارض فيه معبدا فانتصف منه، ومن أوائل أغانيه وصدورها.
أخبرنا إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال ذكر الحسن بن عتبة اللهبي المعروف بفورك قال: قتيلات معبد: قال لي الوليد بن يزيد: أريد الحج، فما يمنعني منه إلا أن يلقاني أهل المدينة بقتيلات معبد وبقصره ونخله فأفتضح به طربا. يعني ثلاثة أصوات لمعبد من شعر الأعشى في قتيلة هذه، ونسبتها تأتي بعد. ويعني بقصره ونخله لحنه:
القصر فالنخل فالجماء بينهما قال أبو زيد قال إسحاق وحدثني عبد الملك بن هلال: وبلغني أن فتنة من قريش دخلوا إلى قينة ومعهم روح بن حاتم المهلبي، فتماروا فيما يختارونه من الغناء. فقالت لهم: أغني لكم صوتا يزيل الاختلاف ويوقع بينكم الاجتماع، فرضوا بها. فغنت:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي د أسيل تزينه الأطـواق فرضوا به واتفقوا على أنه أحسن صوت يعرفونه، وأقاموا عندها أسبوعا لا يسمعونه غيره.
نسبة أصوات معبد في قتيلة الصوتان الباقيان من قتيلات معبد في شعر الأعشى: منها:
أثوى وقـصـر لـيلة لـيزودا فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
يجحدن ديني بالنهار وأقتضـي ديني إذا وقذ النعاس الـرقـدا
وأرى الغواني لا يواصلن أمرأ فقد الشباب وقد يصلن الأمردا الشعر للأعشى. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو شراعة في مجلس الرياشي قال: حدثت أن رجلا نظر إلى الأعشى يدور بين البيوت ليلا؛ فقال له: يا أبا بصير، إلى أين في هذا الوقت? فقال:
يجحدن ديني بالنهار وأقتضي ديني إذا وقذ النعاس الرقدا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني أبي قال: غنيت بين يدي الرشيد وستارته منصوبة:
وأرى الغواني لا يواصلن أمرأ فقد الشباب وقد يصلن الأمردا فطرب واستعاده وأمر لي بمال. فلما أردت أن أنصرف قال لي: يا عاض كذا وكذا أتغني بهذا الصوت وجواري من وراء ستارة يسمعنه لولا حرمتك لضربت عنقك . فتركته والله حتى أنسيته.
ومنها: صوت
ألم خيال من قتيلة بـعـدمـا وهى حبلها من حبلنا فتصرما
فبت كأني شارب بعد هجـعة سخامية حمراء تحسب عندما الشعر للأعشى. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. وفيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عنه وعن ابن المكي.
سبعة ابن سريج
فأما السبعة التي جعلت لابن سريج بإزار سبعة معبد فإني قرأت خبرها في كتاب محمد بن الحسن، قال حدثني الحسين بن أحمد الأكثمي عن أبيه قال: ذكرنا عند إسحاق يوما أصوات معبد السبعة فقال: والله ما سبعة ابن سريج بدونهن. فقلنا له: وأي سبعة? فقال: إن مغني المكيين لما سمعوا بسبعة معبد وشهرتها لحقتهم لذلك غيرة، فاجتمعوا فاختاروا من غناء ابن سريج سبعة فجعلوها بإزاء سبعة معبد، ثم خايروا أهل المدينة فانتصفوا منهم. فسألوا إسحاق عن السبعة السريجية؛ فقال: منها.
تشكى الكميت الجري لما جهدته وقد مضت نسبته في الثلاثة الأصوات المختارة.
و لقد حببت نعم إلينا بوجهـهـا
و قرب جيراننا جـمـالـهـم
و أرقت وما هذا السهاد المؤرق وقد مضى في أخبار الأعشى المذكورة في مدن معبد -
و بينا كذاك إذا عجاجة موكب
و فلم أر كالتجمير منظر ناظر - وقد مضى في الأرمال المختارة -
و تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت - وقد ذكر في المائة مع غيره في شعر النميري -
و إن جاء فليأت على بغلة نسبة ما لم تمض نسبته من هذه الأصوات إذ كان بعضها قد مضى متقدما الكلام على ما لم يمض الكلام عليه من هذه السبقة:
صفحة : 1030
فمنها: صوت
لقد حببت نعم إلينا بـوجـهـهـا مساكن ما بين الوتائر فالنـقـع
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقتي أكلفها سير الكلال مع الظـلـع عروضه من الطويل. والشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر. وذات الخال التي عناها ها هنا عمر امرأة من ولد أبي سفيان بن حرب، كان عمر يكني عنها بذلك.
عمر بن أبي ربيعة وذات الخال: حدثني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الزهيري والمسيبي ومحمد بن سلام والمدائني، وأخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي ولم يتجاوزه: أن عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق كانا جالسين بفناء الكعبة، إذ مرت بهما امرأة من آل أبي سفيان، فدعا عمر بكتف فكتب إليها وكنى عن اسمها: صوت
ألما بذات الخال فاستطلعا لـنـا على العهد باق ودها أم تصرما
وقولا لها إن النوى أجـنـبـية بنا وبكم قد خفت أن تتيمـمـا غناه ابن سريج خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق - قال فقال له ابن أبي عتيق: سبحان الله ما تريد إلا امرأة مسلمة محرمة أن تكتب إليها مثل هذا قال: فكيف بما قد سيرته في الناس من قولي:
لقد حببت نعـم إلـينـا بـوجـهـهـا مساكن ما بين الـوتـائر والـنـقـع
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقـتـي أكلفها سير الكـلال مـع الـظـلـع
ومن أجل ذات الخال يوم لـقـيتـهـا بمندفع الأخباب أخضلـنـي دمـعـي
ومن أجل ذات الخـال آلـف مـنـزلا أحـل بـه لا ذا صــديق ولا زرع
ومن أجل ذات الخال عدت كـأنـنـي مخامر سقـم داخـل أو أخـو ربـع
ألما بـذات الـخـال إن مـقـامـهـا لدى الباب زاد القلب صدعا على صدع
وأخرى لدى البيت العتيق نظـرتـهـا إليها تمشت في عظامي وفي سمعـي وقال الحرمي في خبره: أما ترى ما سار لي من الشعر ما علم الله أني طلعت حراما قط ثم انصرفنا. فلما كان من الغد التقينا. فقال عمر: أشعرت أن ذلك الإنسان قد رد الجواب? قال: وما كان من رده? قال: كتب.
صوت
أمسى قريضك بالهوى نماما فاربع هديت وكن له كتاما
واعلم بأن الخال حين وصفته قعد العدو به عليك وقامـا
لا تحسبن الكاشحين عدمتهم عما يسوءك غافلين نيامـا
لا تمكنن من الدفينة كاشحـا يتلو بها حفظا عليك إمامـا غنى فيه سليم خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. قال: وفيه لفريدة وإبراهيم لحنان.
وفي بعض النسخ: لإسحاق فيه ثقيل أول غير منسوب. وذكر حبش أن خفيف الرمل لفريدة.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام، قال وأخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام قال: سألت عمر بن خليفة العبدي -وكان عابدا وكان يعجبه الغناء -أي القوم كان أحسن غناء? قال: ابن سريج إذا تمعبد -يريد: إذا غنى في مذهب معبد من الثقيل -قلت: مثل ماذا? قال: مثل صوته : صوت
لقد حببت نعم إلينا بوجههـا مساكن ما بين الوتائر فالنقع وقال حماد بن إسحاق حدثني أبي قال حدثني أبو محمد العامري قال: جلس معبد والأبجر وجماعة من المغنين فتذاكروا ابن سريج وما اشتهاه الناس من غنائه، فقالوا: ماهو إلا من غناء الزفاف والمخنثين. فنمي الحديث إلى ابن سريج فغنى:
لقد حببت نعم إلينا بوجهها فلما جاء معبد وأصحابه واجتمعوا غناهم إياه. فلما سمعوه قاموا هاربين، وجعل ابن سريج يصفق خلفهم ويقول: إلى أين? إنما هو ابن ليلته فكيف لو اختمر . قال فقال معبد: دعوه مع طرائقه الأول ولا تهيجوه على طرائقكم، وإلا لم يدع لكم والله خبزا تأكلونه.
قال الزبير في خبره عن عمه: وعلق نعما هذه فقال فيها شعرا كثيرا. ونحن نذكر ها هنا ما فيه غناء من ذلك. فمنه قوله:
خطرت لذات الخال ذكرى بعدما سلك المطي بنا على الأنصـاب
أنصاب عمرة والمطي كأنـهـا قطع القطا صدرت عن الأحباب
صفحة : 1031
فاهل دمعي في الرداء صبابة فسترته بالبرد عن أصحابي
فرأى سوابق دمعة مسكـوبة بكر فقال بكى أبو الخطـاب عروضه من الكامل. بكر الذي ذكره ها هنا عمر هو ابن أبي عتيق وهو يسميه في شعره ببكر وبعتيق، وإياه يعني بقوله:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي إن بي يا عتيق ما قد كفانـي الغناء في خطرت لذات الخال للغريض، ولحنه ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أن فيه ثقيلا أول بالبنصر لأبي سعيد مولى فائد.
وأخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عمي: أن عمر بن أبي ربيعة وافقها وهي تستلم الركن فقرب منها. فلما رأته تأخرت وبعثت إليه جاريتها. فقالت له: تقول لك ابنة عمك: إن هذا مقام لابد منه كما ترى، وأنا أعلم أنك ستقول في موقفنا هذا فلا تقولن هجرا. فأرسل إليها: لست أقول إلا خيرا. ثم تعرض لها وهي ترمي الجمار، فأعرضت عنه واستترت؛ فقال: صوت
دين هذا القلب من نعـم بسقام ليس كالـسـقـم
إن نعما أقصدت رجـلا آمنا بالخيف إذ ترمـي
اسمعي منا تحـاورنـا واحكمي رضيت بالحكم
بشتيت نـبـتـه رتـل طيب الأنياب والطعـم
يأتكم منه بـحـجـتـه فله العتبى ولا أحمـي عروضه من المديد. الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وفيها لمالك ثقيل أول من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق. وفيه لابن سريج رمل بالبنصر عن حبش. وفيه لابن مسجح ثقيل أول بالوسطى عن حبش أيضا. وذكر الهشامي أن الصوت مما يشك فيه أنه لمعبد أو غيره.
قال: وقال فيها أيضا: صوت
أبيني اليوم أي نـعـم أوصل منك أو صرم
فإن يك صرم عاتـبة فقد نغنى وهو سلـم
تلومك في الهوى نعم وليس لها به عـلـم
صحيح لو رأى نعما لخالط جسمه سقـم عروضه من الهزج. غناه مالك ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لمتيم خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق ، وذكر أن فيه أيضا صنعة لابن سريج.
ومما يغنى فيه مما قاله فيها - وهو من قصيدة طويلة -: صوت
فقلت لجناد خذ السيف واشـتـمـل عليه بحزم وانظر الشمس تغـرب
وأسرج لنا الدهماء واعجل بممطري ولا تعلمن خلقا من الناس مذهبـي عروضه من الطويل. غناه زرزور غلام المارقي خفيف ثقيل بالبنصر.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمي قال: قيل لعمر بن أبي ربيعة: ما أحب شيء أصبته إليك? قال: بينا أنا في منزلي ذات ليلة إذ طرقني رسول مصعب بن الزبير بكتابه يقول: إنه قد وقعت عندنا أثواب مما يشبهك، وقد بعثت بها إليك وبدنانير ومسك وطيب وبغلة. قال: فإذا بثياب من وشي وخز العراق لم أر مثلها قط وأربعمائة دينار ومسك وطيب كثير وبغلة. فلما أصبحت لبست بعض تلك الثياب وتطيبت وأحرزت الدنانير وركبت البغلة وأنا نشيط لا هم لي قد أحرزت نفقة سنتي؛ فما أفدت فائدة كانت أحب إلي منها. وقلت في ذلك:
ألا أرسلت نـعـم إلـينـا أن ائتـنـا فأحبب بها من مرسل متـغـضـب
فأرسلت أن لا أستطيع فـأرسـلـت تؤكد أيمان الحـبـيب الـمـؤنـب
فقلت لجناد خذ السـيف واشـتـمـل عليه بحزم وانظر الشمس تـغـرب
وأسرج لنا الدهماء واعجل بممطري ولا تعلمن خلقا من الناس مذهـبـي
وموعدك البطحاء أو بـطـن يأجـج أو الشعب بالممروخ من بطن مغرب
فلما التقينا سلـمـت وتـبـسـمـت وقالت مقال المعرض المتـجـنـب
أمن أجل واش كـاشـح بـنـمـيمة مشى بيننا صدقـتـه لـم تـكـذب
قطعت وصال الحبل منا ومن يطـع بذي وده قول المـحـرش يعـتـب
فبات وسادي ثني كف مـخـضـب معاود عذب لم يكـدر بـمـشـرب
إذا ملت مالت كالـكـثـيب رخـيمة منعمة حسـانة الـمـتـجـلـبـب أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال:
صفحة : 1032
بلغ عمر بن أبي ربيعة أن نعما اغتسلت في غدير؛ فنزل عليه ولم يزل يشرب منه حتى نضب.
قال الزبير قال عمي: وقال فيها أيضا: صوت
طال ليلي وعادني اليوم سقم وأصابت مقاتل القلب نعم
وأصابت مقاتلي بسـهـام نافذات وما تبـين كـلـم
حرة الوجه والشمائل والجو هر تكليمها لمن نال غنـم
هكذا وصف ما بدا لي منها ليس لي بالذي تغيب علـم
غير أني أرى الثياب ملاء في يفاع يزين ذلك جسـم
وحديث بمثله تنزل العـص م رخيم يشوب ذلك حلـم عروضه من الخفيف. غنى ابن سريج في الأربعة الأبيات لحنا ذكره إسحاق وأبو أيوب المديني في جامع غنائه ولم يجنسه، وذكر حبش أنه خفيف رمل بالبنصر.
مناقشة بين إسحاق وإبراهيم بن المهدي في معبد وابن سريج: أخبرني عمي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال حدثني عمرو بن بانة قال: كنت حاضرا مع إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند إبراهيم بن المهدي. فتفاوضنا حديث المغنين، ثم انتهوا إلى أن حكى إسحاق قول عمر بن أبي خليفة: إذا تمعبد ابن سريج كان أحسن الناس غناء . فقال إبراهيم لإسحاق: حاشاك يا أبا محمد أم تقول هذا فقد رفع الله علمك وقدر ابن سريج عن مثل هذا القول، وأغنى ابن سريج بنفسه عن أن يقال له تمعبد؛ وما كان معبد يضع نفسه هذا الموضع؛ وكيف ذلك وهو إذا أحسن يقول: أصبحت اليوم سريجيا. وما قد أنصف أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي معبدا في هذا القول؛ لأن معبدا وإن كان يعظم ابن سريج ويوفيه حقه فليس بدونه ولا هو بمرذول عنده. وقد مضى في صدر الكتاب خبر ابن سريج لما قدم المدينة مع الغريض ليستمنحا أهلها، فسمعاه وهو يصيد الطير يغني لحنه:
القصر فالنخل فالجماء بينهما فرجع ابن سريج ورد الغريض وقال: لاخير لنا عند قوم هذا غناء غلام فيهم يصيد الطير، فكيف بمن داخل الجونة .
تعظيم ابن سريج لمعبد وأخذه عنه: وأظرف ذلك من أخباره وأدل على تعظيم ابن سريج معبدا ما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن سليمان النوفلي، قال حدثني أبي قال: التقى ابن سريج ومعبد ليلة بعد افتراق طويل وبعد عهد؛ فتساءلا عما صنعا من الأغاني بعد افتراقهما؛ فتغنى هذا وتغنى هذا؛ ثم تغنى ابن سريج لحنه في:
أنا الهالك المسلوب مهجة نفسـه إذا جاوزت مرا وعسفان عيرها فغناه مرسلا لا صيحة فيه. فقال له معبد: أفلا حسنته بصيحة قال: فأين أضعها? قال: في:
غدت سافرا والشمس قد ذر قرنها قال: فصح أنت فيه حتى أسمع منك. قال: فصاح فيه معبد الصيحة التي يغنى بها فيه اليوم. فاستعاده ابن سريج حتى أخذه فغنى صوته كما رسمه معبد فحسن به جدا. وفي هذا دليل يبين فيه التحامل على معبد في الحكاية.
صوت
غدت سافرا والشمس قد ذر قرنهـا فأغشى شعاع الشمس منها سفورها
وقد علمت شمس النهار بـأنـهـا إذا ما بدت يوما سيذهب نـورهـا
أنا الهالك المسلوب مهجة نفـسـه إذا جاوزت مرا وعسفان عيرهـا
أهاجتك سلمى إذ أجد بـكـورهـا وهجر يوما للـرواح بـعـيرهـا الشعر يقال: إنه لطريف العنبري. والغناء لابن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن ابن المكي، وذكر عمرو أنه لسياط. ولإبراهيم في الثالث والأول والرابع خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو. وفيه لبسباسة ثقيل أول بالبنصر عن حبش. وفيه لابن جامع لحن عن حبش من رواية أبي أيوب المديني.
ومن سبعة ابن سريج
صوت أصوات من سبعة ابن سريج في شعر ابن أبي ربيعة:
قرب جيراننا جـمـالـهـم ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا
ما كنت أدري بوشك بينهـم حتى رأيت الحداة قد طلعوا
على مصكين من جمالـهـم وعنتريسين فيهما شـجـع
يا نفس صبرا فإنـه سـفـه بالحر أن يستفزه الـجـزع
صفحة : 1033
الشعر لعمر بن ابي ربيعة. والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. وذكر حبش أن فيه للغريض ثقيلا أول بالبنصر. وذكر ابن أبي حسان أن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي حدثه عن أبيه عن ابن جامع قال: عيب على ابن سريج خفة غنائه، فأخذ أبيات عمر بن أبي ربيعة:
قرب جيراننا جمالهم فغنى فيها في كل إيقاع لحنا. فجميع ما فيها من الألحان له.
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني منصور بن أبي مزاحم قال حدثني رزام أبو قيس مولى خالد بن عبد الله قال: قال لي إسماعيل بن عبد الله: يا أبا قيس، أي رجل أنت لولا أنك تحب السماع . قلت: أصلحك الله أما والله لو سمعت فلانة تغنيك:
قرب جيراننا جـمـالـهـم ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا لعذرتني. فقال: يا أبا قيس، لا عاتبتك بعد هذا أبدا.
ومنها: صوت
بينا كذلك إذ عجـاجة مـوكـب رفعوا ذميل العيس في الصحراء
قالت أبو الخطـاب أعـرف زيه ولباسه لا شـك غـير خـفـاء الشعر لابن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر، وذكر الهشامي وأبو العبيس أنه لمعبد؛ وليس الأمر كما ذكرا.
ومنها: صوت وهو الذي أوله:
إن جاء فليأت على بغـلة
سلمى عديه سرحتي مالك أو الربا دونهمـا مـنـزلا
إن جاء فليأت على بـغـلة إني أخاف المهر أن يصهلا الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج من رواية يحيى بن المكي والهشامي ثقيل أول بالبنصر، وذكر يونس أنه للغريض، وذكره إسحاق في أغاني الغريض ولم يجنسه.
أغاني الخلفاء وأولادهم
من ثبت عنه من الخلفاء أنه غنى ومن لم يثبت عنه ذلك: قال مؤلف هذا الكتاب: المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره، لا سيما ما حكاه ابن خرداذبة فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر أنه تغنى في هذا البيت:
كأن راكبها غصن بمروحة ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحدا بعد واحد، حتى كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة أو ركن من أركان الإمامة لابد منه ولا معدل عنه، يخبط خبط العشواء ويجمع جمع حاطب الليل. فاماعمر بن الخطاب فلو جاز هذا أن يروى عن كل أحد لبعد عنه؛ وإنما روي أنه تمثل بهذا البيت وقد ركب ناقة فاستوطأها، لا أنه غنى به، ولا كان الغناء العربي أيضا عرف في زمانه إلا ما كانت العرب تستعمله من النصب والحداء، وذلك جار مجرى الإنشاد إلا أنه يقع بتطريب وترجيع يسير ورفع للصوت. والذي صح من ذلك عن رواة هذا الشأن فأنا ذاكر منه ما كان متقن الصنعة لاحقا بجيد الغناء قريبا من صنعة الأوائل وسالكا مذاهبهم لا ما كان ضعيفا سخيفا، وجامع منه ما اتصل به خبر له يستحسن ويجري مجرى هذا الكتاب وما تضمنه.
فأول من دونت له صنعة منهم عمر بن عبد العزيز؛ فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها كلها؛ فبعضها عرفت الشاعر القائل له فذكرت خبره، وبعضها لم أعرف قائله فأتيت به كما وقع إلي. فإن مر بي بعد وقتي هذا أثبته في موضعه وشرحت من أخباره ما اتصل بي، وإن لم يقع لي ووقع إلى بعض من كتب هذا الكتاب فمن أقل الحقوق عليه أن يتكلف إثباته ولا يستثقل تجشم هذا القليل فقد وصل إلى فوائد جمة تجشمناها له ولنظرائه في هذا الكتاب، فحظي بها من غير نصب ولا كدح؛ فإن جمال ذلك موفر عليه إذا نسب إليه، وعيبه عنا ساقط مع اعتذارنا عنه إن شاء الله.
ومن الناس ممن ينكر أن تكون لعمر بن عبد العزيز هذه الصنعة ويقول: إنها أصوات محكمة العمل لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق الغناء ومهر فيه وتمكن منه. ولم يوجد عمر بن عبد العزيز في وقت من الأوقات ولا حال من الحالات اشتهر بالغناء ولا عرف به ولا بمعاشرة أهله، ولا جالس من ينقل ذلك عنه ويؤديه؛ وإنما هو شيء يحسن المغنون نسبته إليه. وروي من غير وجه خلاف لذلك وإثبات لصنعته إياها، وهو أصح القولين؛ لأن الذين أنكروا ذلك لم يأتوا على إنكارهم بحجة أكثر من هذا الظن والدعوى، ومخالفوهم قد أيدتهم أخبار رويت.
عمر بن عبد العزيز والغناء
صفحة : 1034
أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال حدثني أبي عن أبيه وعن إسماعيل ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب عن شهدة أم عاتكة بنت شهدة عن كردم بن معبد عن أبيه: أن عمربن عبد العزيز طارحه لحنه في:
ألما صاحبي نزر سعادا ونسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن الحسين الكاتب قال حدثني أبو يعلى زرقان غلام أبي الهذيل وصاحب أحمد بن أبي داود قال حدثني محمد بن يونس قال حدثني هاتف أراه قال أم ولد المعتصم قالت حدثتني علية بنت المهدي قالت حدثتني عاتكة بنت شهدة عن أمها شهدة عن كردم قال: طرح علي عمر بن عبد العزيز لحنه:
علق القلب سـعـادا عادت القلب فعـادا
كلما عوتب فـيهـا أو نهي عنها تمادى
وهو مشغوف بسعدى قد عصى فيها وزادا قال كردم: وكان عمر أحسن خلق الله صوتا، وكان حسن القراءة للقرآن.
ونسخت من كتاب ابن الكرنبي بخطة حدثني أحمد بن الفتح الحجاجي في مجلس حماد بن إسحاق قال أخبرني احمد بن الحسين قال: رأيت عمر بن عبد العزيز في النوم وعليه عمامة ورأيت الشجة في وجهه تدل على أنها ضربة حافر، فسمعته يقول: قال عمر بن الخطاب: لا تعلموا نساءكم الخلع . قال حدثني محمد بن الحسين: فأقبلت عليه في نومي فقلت له: يا أمير المؤمنين، صوت يزعم الناس أنك صنعته في شعر جرير:
ألما صاحبي نـزر سـعـادا لوشك فراقها وذرا البعـادا
لعمرك إن نفع سعاد عنـي لمصروف ونفعي عن سعادا
إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى ومروان الذي رفع العمـادا فتبسم عمر ولم يرد علي شيئا.
نسبة هذين الصوتين ???????????صوت
ألما صاحبي نـزر سـعـادا لوشك فراقها وذرا البعـادا
لعمرك إن نفع سعاد عنـي لمصروف ونفعي عن سعادا
إلىالفاروق ينتسب ابن ليلـى ومروان الذي رفع العمـادا الشعر لجرير يمدح عمربن عبد العزيز بن مروان. والغناء لعمر بن عبد العزيز ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر. وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد.
?صوت
علق القلب سـعـادا عادت القلب فعـادا
كلما عوتب فـيهـا أو نهي عنا تمـادى
وهو مشغوف بسعدى قد عصى فيها وزادا الغناء لعمر بن عبد العزيز خفيف ثقيل. وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى الهذلي.
?????ذكر عمر بن عبد العزيز وشيء من أخباره هو أشج بني مروان: عمر بن عبد العزيز مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. ويكنى أبا حفص. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان يقال له أشج قريش؛ لأنه كان في جبهته أثر يقال إنه ضربة حافر. فذكر يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه أن عبد الملك بن مروان كان يؤثر عمر بن عبد العزيز ويرق عليه ويدينه، وإذا دخل عليه رفعه فوق ولده جميعا إلا الوليد. فعاتبه بعض بنيه على ذلك، فقال له: أو ما تعلم لم فعلت ذلك? قال لا. قال: إن هذا سيلي الخلافة يوما وهو أشج بني مروان الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن تملأ جورا، فمالي لا أحبه وأدنيه ???????.
أخبرني محمد بن يزيد قال حدثنا الرياشي قال حدثنا سالم بن عجلان قال: خرج عمر بن عبد العزيز يلعب فرمحته بغلة على جبينه. فبلغ الخبر أمه أم عاصم، فخرجت في خدمها ،وأقبل عبد العزيز بن مروان إليها فقالت: أما الكبير فيخدم، وأما الصغير فيكرم، وأما الوسط فيضيع لما لا تتخذ لابني حاضنا حتى أصابه ما ترى فجعل عبد العزيز يمسح الدم عن وجهه، ثم نظر إليها وقال لها: ويحك إن كان أشج بني مروان، أو أشج بني أمية، إنه لسعيد .
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن أحمد المقدمي قال حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ضمرة قال سمعت ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال: دخل عمر بن عبد العزيز وهو غلام إصطبل أبيه، فضربه فرس على وجهه، فأوتي به أبوه يحمل. فجعل أبوه يمسح الدم عن وجهه ويقول: لئن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد.
أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب:
صفحة : 1035
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا مصعب الزبيري قال: كانت بنت لعبيد الله بن عمر بن الخطاب تحت إبراهيم بن نعيم النحام فماتت، فأخذ عاصم بن عمر بيده فأدخله منزله، وأخرج إليه ابنتيه حفصة وأم عاصم، فقال له: اختر فأختار حفصة فزوجها إياه. فقيل له تركت أم عاصم وهي أجملهما فقال: رأيت جارية رأئعة، وبلغني أن آل مروان ذكروها فقلت: علهم أن يصيبوا من دنياهم. فتزوجها عبد العزيز بن مروان، فولدت له أبا بكر وعمر وكانت عنده. وقتل إبراهيم بن نعيم يوم الحرة. وماتت أم عاصم عند عبد العزيز بن مروان؛ فتزوج أختها حفصة بعدها، فحملت إليه بمصر؛ فمرت بأيلة وبها مخنث أو معتوه وقد كان أهدى لأم عاصم حين مرت به فأثابته. فلما مرت به حفصة أهدى لها فلم تثبه. فقال: ليست حفصة من رجال أم عاصم فذهبت مثلا.
لما ولي بدأ بأهل بيته وأخذ ما كان في أيديهم وسمى أعمالهم المظالم: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أبو بكر الرمادي وسليمان بن أبي شيخ قالا حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال حدثني الليث قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز، بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما كان في أيديهم وسمى أعمالهم المظالم. ففزعت بني أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته. فأرسلت إليه: إنه قد عناني أمر لا بد من لقائك فيه. فأتته ليلا فأنزلها عن دابتها. فلما أخذت مجلسها قال: يا عمة، أنت أولى بالكلام لأن الحاجة لك فتكلمي. قالت: تكلم يا أمير المؤمنين. فقال: إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة، لم يبعثه عذابا، إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه، وترك لهم نهرا شربهم فيه سواء. ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله. ثم ولي عمر فعمل على عمل صاحبه، فلما ولي عثمان اشتق من ذلك النهر نهرا. ثم ولي معاوية فشق منه الأنهار. ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إلي، وقد يبس النهر الأعظم ولن يروى أصحاب النهر حتى يعود إليهم النهر الأعظم إلى ما كان عليه. فقالت له: قد أردت كلامك ومذاكرتك. فأما إذ كانت هذه مقالتك فلست بذاكرة لك شيئا أبدا. ورجعت إليهم فأبلغتهم كلامه.
وقال سليمان بن أبي شيخ في خبره: فلما رجعت إلى بني أمية قالت لهم: ذوقوا مغبة أمركم في تزويجكم آل عمر بن الخطاب.
كثير والأحوص ونصيب عند عمر بن عبد العزيز: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد الله بن دينار مولى بني نصر بن معاوية قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهيل عن حماد الراوية، وأخبرني محمد بن حسين الكندي خطيب القادسية قال حدثنا الرياشي قال حدثنا شيبان بن مالك قال حدثنا عبد الله بن إسماعيل الجحدري عن حماد الراوية، والروايتان متقاربتان وأكثر اللفظ للرياشي، قال:
صفحة : 1036
دخلت المدينة ألتمس العلم، فكان أول من لقيت كثيرعزة. فقلت: يا أبا صخر، ما عندك من بضاعتي? قال: عندي ما عند الأحوص ونصيب. قلت: وما هو? قال: هما أحق بإخبارك. فقلت له: إن لم نحث المطي نحوكم شهرا نطلب ما عندكم إلا ليبقى لكم ذكر، وقل من يفعل ذلك، فأخبرني عما سألتك ليكون ما تخبرني به حديثا آخذه عنك. فقال: إنه لما كان من أمر عمر بن عبد العزيز ما كان، قدمت أنا ونصيب والأحوص وكل واحد منا يدل بسابقته عند عبد العزيز وإخائه لعمر. فكان أول من لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب، وكل واحد منا ينظر في عطفيه لا يشك أنه شريك الخليفة في الخلافة، فأحسن ضيافتنا وأكرم مثوانا، ثم قال: أما علمتم أن إمامكم لا يعطي الشعراء شيئا? قلنا: قد جئنا الآن، فوجه لنا في هذا الأمر وجها. فقال: إن كان ذو دين من آل مروان قد ولي الخلافة فقد بقي ذوي دنياهم من يقضي حوائجكم ويفعل بكم ما أنتم له أهل. فأقمنا على بابه أربعة أشهر لا نصل إليه، وجعل مسلمة يستأذن لنا فلا يؤذن. فقلت: لو أتيت المسجد يوم الجمعة فتحفظت من كلام عمر شيئا . فأتيت المسجد فأنا أول من حفظ كلامه سمعته يقول في خطبة له: لكل سفر زاد لا محالة، فهتزودوا من الدنيا إلى الآخرة التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فعمل طلبا لهذا وخوفا من هذا. ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم. واعلموا أنه إنما يطمئن بالدنيا من وثق بالنجاة من عذاب الله في الآخرة. فأما من لا يداوي جرحا إلا أصابه جرح من ناحية أخرى، فكيف يطمئن بالدنيا أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى نفسي عنه فتخسر صفقتي، وتبدو عيلتي، وتظهر مسكنتي يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق. فارتج المسجد بالبكاء، وبكى عمر حتى بل ثوبه، حتى ظننا أنه قاض نحبه. فبلغت إلى صاحبي فقلت: جددا لعمر من الشعر غير ما أعددناه، فليس الرجل بدنيوي. ثم إن مسلمة استأذن لنا يوم جمعة بعد ما أذن للعامة. فدخلنا فسلمنا عليه بالخلافة فرد علينا. فقلت له: يا أمير المؤمنين، طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب. فقال: يا كثير، أما سمعت إلى قول الله عز وجل في كتابه إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم أفمن هؤلاء أنت? فقلت له وأنا ضاحك: أنا ابن سبيل ومنقطع به. قال: أولست ضيف أبي سعيد? قلت بلى. قال: ما أحسب من كان ضيف أبي سعيد ابن سبيل ولا منقطعا به. ثم أستأذنته في الإنشاد، فقال: قل ولا تقل إلا حقا؛ فإن الله سائلك. فقلت:
وليت فلم تشتم عليا ولـم تـخـف بريا ولم تتبـع مـقـالة مـجـرم
وقلت فصدقت الذي قلت بـالـذي فعلت، فأضحى راضيا كل مسلـم
ألا إنما يكفي الفتى بـعـد زيغـه من الأود الباقي ثقاف الـمـقـوم
لقد لبست لبس الهلـوك ثـيابـهـا وأبدت لك الدنيا بكف ومعـصـم
وتومض أحيانا بـعـين مـريضة وتبسم عن مثل الجمان المنـظـم
فأعرضت عنها مشمئزا كـأنـمـا سقتك مدوفا من سمام وعـلـقـم
وقد كنت من أجبالها في مـمـنـع ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
وما زلت سباقا إلـى كـل غـاية صعدت بها أعلى البناء المـقـدم
فلما أتاك الملك عفـوا ولـم يكـن لطالب دنيا بعـده مـن تـكـلـم
تركت الذي يفنى وإن كان مونـقـا وآثرت ما يبقى برأي مـصـمـم
فاضررت بالفاني وشمرت لـلـذي أمامك في يوم من الهوال مظلـم
ومالك أن كنت الخـلـيفة مـانـع سوى الله من مال رغـيب ولا دم
سما لك هم في الـفـؤاد مـؤرق صعدت به أعلى المعالي بسـلـم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصـيح وأعـجـم
يقول: أمير المؤمنين ظلمـتـنـي بأخـذ لـدينـار ولا أخـذ درهـم
ولا بسط كف لامرئ ظـالـم لـه ولا السفك منه ظالما ملء محجـم
فلو يستطيع المسلمون تقـسـمـوا لك الشطر من أعمارهم غير نـدم
صفحة : 1037
فعشت به ما حج لله راكـب مغذ مطيف بالمقام وزمـزم
فأربح بها من صفقة لمبـايع وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم فقال لي: يا كثير، إن الله سائلك عن كل ما قلت. ثم تقدم إليه الأحوص فأستأذنه فقال: قل ولا تقل إلا حقا؛ فإن الله سائلك. فأنشده:
وما الشعر إلا خطبة من مؤلـف بمنطق حق أو بمنطق بـاطـل
فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضـى ولا ترجعنا كالنسـاء الأرامـل
رأيناك لم تعدل عن الحـق يمـنة ولا يسرة فعل الظلوم المجـادل
ولكن أخذت القصد جهدك كـلـه وتقفوا مثال الصالحـين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بـدا لـنـا ومن ذا يرد الحق من قول عاذل
ومن ذا يرد السهم بعد مـروقـه على فوقه إن عار من نزع نابل
ولولا الذي قد عودتنـا خـلائف غطاريف كانت كالليوث البواسل
لما وخدت شهرا برحلي جسـرة تفل متون البيد بين الـرواحـل
ولكن رجونا منك مثل الـذي بـه صرفنا قديما من ذويك الأفاضل
فإن لم يكن للشعر عندك موضـع وإن كان مثل الدر من قول قائل
وكان مصيبا صادقـا لا يعـيبـه سوى أنه يبنى بناء الـمـنـازل
فإن لنا قربى ومـحـض مـودة وميراث آباء مشوا بالمنـاصـل
فذادوا عدو السلم عن عقر دارهم وأرسوا عمود الدين بعد تمـايل
فقلبلك ما أعطى الهـنـيدة جـلة على شعر كعبا من سديس وبازل
رسول الإله المصطفى بنـبـوة عليه سلام بالضحى والأصـائل
فكل الذي عددت يكفيك بعـضـه ونيلك خير من بحور الـسـوائل فقال له عمر: يا أحوص، إن الله سائلك عن كل ما قلت. ثم تقدم إليه نصيب فأستأذن في الإنشاد، فأبى أن يأذن له وغضب غضبا شديدا، وأمره باللحاق بدابق . وأمر لي وللأحوص لكل واحد بمائة وخمسين درهما.
وقال الرياشي في خبره: فقال لنا: ما عندي ما أعطيكم، فانتظروا حتى يخرج عطائي فأواسيكم منه. فانتظرنا حتى خرج فأمر لي وللأحوص بثلثمائة درهم، وأمر لنصيب بمائة وخمسين درهما. فما رأيت أعظم بركة من الثلاث المائة التي أعطاني، ابتعت بها وصيفة فعلمتها الغناء فبعتها بألف دينار.
خبر دكين الراجز معه: أخبرني عمي عبد العزيز بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: قال دكين الراجز: امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم، فكرهت أن أرمي بهن الفجاج، ولم تطب نفسي ببيعهن. فقدمت علينا رفقة من مصر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: ذاك إليك، ونحن نخرج الليلة، فأتيته فودعته وعنده شيخان لا أعرفهما. فقال لي: يا دكين إن لي نفسا تواقة، فإن صرت إلى أكثر مما أنا فيه فأتني ولك الإحسان. قلت: أشهد لي بذلك. قال: أشهد الله به. قلت: ومن خلقه? قال: هذين الشيخين. فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت أعرفك? قال: سالم بن عبد الله بن عمر. فقلت له لقد استسمنت الشاهد. وقلت للآخر: من أنت? قال: أبو يحيى مولى الأمير. فخرجت إلى بلدي بهن، فرمى الله في أذنابهن بالبركة حتى اعتقدت منهن الإبل والعبيد. فإني لبصحراء فلج إذا ناع ينعى سليمان. قلت: فمن القائم بعده? قال: عمر بن عبد العزيز. فتوجهت نحوه، فلقيني جرير متصرفا من عنده. فقلت: يا أبا حزرة، من أين? فقال: من عند من يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء. فانطلقت فإذا هو في عرصة دار وقد أحاط الناس به، فلم أخلص إليه فناديت:
يا عمر الخيرات والمكـارم وعمر الدسائع العـظـائم
إني امرؤ من قطن بن دارم طلبت ديني من أخي مكارم
إذ تنتحي والليل غـير نـائم عند أبي يحيى وعند سالـم
صفحة : 1038
فقام أبو يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، فقال: أعرفها، أدن يا دكين، أنا كما ذكرت لك، إن نفسي لم تنل شيئا قط إلا تاقت لما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا فنفسي تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أموال الناس شيئا، ولا عندي إلا ألف درهم، فخذ نصفها. قال: فوالله ما رأيت ألفا كان أعظم بركة منه. قال: ودكين الذي يقول:
إذا المرء يدنس من اللؤم عرضه فكـل رداء يرتـديه جـمـيل
وإن هو لم يرفع عن اللؤم نفسه فليس إلى حسن الثناء سـبـيل زهده بعد أن ولي الخلافة: أخبرني الحرمي عن الزبير عن هارون بن صالح عن أبيه قال: كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب فيها يعني المسك. قال: ثم رأيت ثيابه بعد ذلك وقد ولي الخلافة فرأيت غير ما كنت أعرف.
حبه آل البيت: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن نافع بن أبي نعيم قال: قدم عبد الله بن الحسن بن الحسن على عمر بن عبد العزيز فقال: إنك لا تغنم أهلك شيئا خيرا من نفسك فارجع، وأتبعه حوائجه.
قال الرياشي وحدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أحمد محمد بن الزبير الأسدي عن سعيد بن أبان قال.
رأيت عمر بن عبد العزيز آخذا بسرة عبد الله بن حسن وقال: اذكرها عندك تشفع لي يوم القيامة.
حدثني أبو عبيد الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال حدثنا عبد الله بن عمر القواريري قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبان القرشي قال: دخل عبد الله بن حسن على عمر بن عبد العزيز وهو حديث السن وله وفرة ، فرفع مجلسه وأقبل عليه وقضى حوائجه، ثم أخذ عكنة من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال له: أذكرها عندك للشفاعة. فلما خرج لامه أهله وقالوا: فعلت هذا بغلام حديث السن فقال: إن الثقة حدثني حتى كأني اسمعه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بابنها. قالوا: فما معنى غمزك بطنه وقولك ما قلت? قال: إنه ليس أحد من بني هاشم إلا وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا.
أكرم يزيد بن عيسى لأنه مولى علي: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي قال أخبرني يزيد بن عيسى بن مورق قال: كنت بالشام زمن ولي عمر بن عبد العزيز، وكان بخناصرة ، وكان يعطي الغرباء مائتي درهم. قال فجئته فأجده متكئا على إزار وكساء من صوف. فقال لي: ممن أنت? قلت: من أهل الحجاز. قال: من أيهم? قلت: من أهل المدينة. قال: من أيهم? قلت من قريش. قال: من أي قريش? قلت: من بني هاشم. قال: من أي بني هاشم? قلت: مولى علي. قال: من علي? فسكت. قال: من ? فقلت ابن أبي طالب. فجلس وطرح الكساء ثم وضع يده على صدره وقال: وأنا والله مولى علي، ثم قال: أشهد على عدد ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه . أين مزاحم ? كم تعطي مثله? قال: مائتي درهم. قال: أعطه خمسين دينارا لولائه من علي. ثم قال: أفي فرض أنت? قلت لا. قال: وافرض له، ثم قال: الحق بلادك فإنه سيأتيك إن شاء الله ما يأتي غيرك.
سمى عمر بن علي نحله غلامه مورقا: قال أبو زيد فحدثني عيسى بن عبد الله قال حدثني أبي عن أبيه قال قال أبي: ولد لي غلام يوم قام عمربن عبد العزيز، فغدوت عليه فقلت له: ولد لي في هذه الليلة غلام. فقال لي: ممن? قلت: من التغلبية. قال: فهب لي اسمه. قلت نعم. قال: قد سميته اسمي ونحلته غلامي مورقا، وكان نوبيا فأعتقه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك؛ فولده اليوم موالينا.
كان يكرم عبد الله بن الحسن: أخبرني محمد بن العباس قال حدثنا عمر قال حدثنا عيسى بن عبد الله قال أخبرني موسى بن عبد الله بن حسن عن أبيه قال: كان عمر بن عبد العزيز يراني إذا كانت لي حاجة أتردد إلى بابه. فقال لي: ألم أقل لك: إذا كانت لك حاجة فارفع بها إلي فوالله إني لأستحي من الله أن يراك على بابي.
لم يفد من ولا يته شيئا وخلف ولده فقراء:
صفحة : 1039
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن العتبي عن أبيه قال: لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة جمع ولده حوله، فلما رآهم استغبر ثم قال: بأبي ولأمي من خلفتهم بعدي فقراء . فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، فتعقب فعلك وأغنهم، فما يمنعك أحد في حياتك ولا يرتجعه الوالي بعدك. فنظر إليه نظر مغضب متعجب فقال: يا مسلمة، منعتهم إياه في حياتي وأشقى به بعد وفاتي إن ولدي بين رجلين: إما مطيع لله فالله مصلح له شأنه ورازقه ما يكفيه، أو عاص له فما كنت لأعينه على معصيته. يا مسلمة، إني حضرت أباك لما دفن فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت؛ وقد اجتهدت في ذلك طول حياتي، وأرجو أن أفضي إلى عفو من الله وغفران. قال مسلمة: فلما دفن حضرت دفنه، فما فرغ من شأنه حتى حملتني عيني، فرأيته فيما يرى النائم وهو في روضة خضراء نضرة فيحاء وأنهار مطردة وعليه ثياب بيض، فأقبل علي فقال: يا مسلمة، لمثل هذا فليعمل العاملون. هذا أو نحوه، فإن الحكاية تزيد أو تنقص.
رثاء مسلمة بن عبد الملك: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن يحيى بن سعيد الأموي قال: لما مات عمر بن عبد العزيز وقف مسلمة عليه بعد أن أدرج في كفنه فقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين فقد أورثت صالحينا بك اقتداء وهدى، وملأت قلوبنا بمواعظك وذكرك خشية وتقى، وأثلت لنا بفضلك شرفا وفخرا، وأبقيت لنا في الصالحين بعدك ذكرا.
كتابه إلى أسارى قسطنطينية: أخبرني الحسن قال أخبرنا الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأسارى بقسطنطينية: أما بعد، فإنكم تعدون أنفسكم أسارى ولستم أسارى. معاذ الله أنتم الحبساء في سبيل الله. واعلموا أني لست أقسم شيئا بين رعيتي إلا خصصت أهلكم بأوفر ذلك وأطيبه. ولقد بعثت إليكم خمسة دنانير، خمسة دنانير. ولولا أني خشيت إن زدتكم أن يحبسه عنكم طاغية الروم لزدتكم. وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما يسأل، فأبشروا ثم أبشروا.
كتاب الحسن البصري له ورده عليه: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال زعم لنا سليمان بن أرقم قال: كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، وكان يكاتبه، فلما استخلف كتب إليه: من الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز . فقيل له إن الرجل قد ولي وتغير. فقال: لو علمت أن غير ذلك أحب إليه لاتبعت محبته. ثم كتب: من الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز. أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل . قال: فمضيت إليه بالكتاب فقدمت عليه به. فإني عنده أتوقع الجواب إذ خرج يوما غير يوم جمعة حتى صعد المنبر واجتمع الناس. فلما كثروا قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم في أسلاب الماضين، وسيرثكم الباقون حتى تصيروا إلى خير الوارثين. كل يوم تجهزون غاديا إلى الله ورائحا، قد حضر أجله، وطوي عمله، وعاين الحساب، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد. ثم وضع يديه على وجهه فبكى مليا ثم رفعهما فقال: يا أيها الناس، من وصل إلينا منكم بحاجته لم نأله خيرا، ومن عجز فوالله لوددت أنه وآل عمر في العجز سواء. قال: ثم نزل. فأرسل إلي فدخلت إليه؛ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنك لست بأول من كتب عليه الموت، وقد مات. والسلام .
آخر خطبة له: أخبرني ابن عمار قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا أبو مطرف المغيرة بن مطرف عن شعيب بن صفوان عن أبيه:
صفحة : 1040
أن عمر بن عبد العزيز خطب بخناصرة خطبة لم يخطب بعدها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى؛ وإن لكم معادا يتولى الله فيه الحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع قليلا بكثير، ونافذا بباق، وخوفا بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفها من بعدكم الباقون، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين. ثم إنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا إلى الله ورائحا، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، ثم تضعونه في صدع من الأرض في بطن لحد، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، ووجه للحساب، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدم. وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة ولا أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي، وأستغفر الله لي ولكم. وما يبلغنا أحد منكم حاجته يسعها ما عندنا إلا سددنا من حاجته ما قدرنا عليه، ولا أحد يتسع له ما عندنا إلا وددت أن بدئ بي وبلحمتي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وايم الله لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به مني ناطقا ذلولا عالما بأسبابه، ولكنه من الله عز وجل كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيهما على طاعته ونهى فيهما عن معصيته. ثم بكى فتلقى دموعه بطرف ردائه؛ ثم نزل فلم ير على تلك الأعواد بعد حتى قبضه الله إليه. رحمة الله عليه.
?اشترى موضع قبره بعشرة دنانير: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو سلمة المديني. عن إبراهيم بن ميسرة: أن عمر بن عبد العزيز اشترى موضع قبره بعشرة دنانير.
?وفاته: أخبرني اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو سلمة المديني قال أخبرني ابن مسلمة بن عبد الملك قال حدثني أبي مسلمة قال: كنا عند عمر في اليوم الذي توفي فيه أنا وفاطمة بنت عبد الملك؛ فقلنا له: يا أمير المؤمنين، إنا نرى أنا قد منعناك النوم، فلو تأخرنا عنك شيئا عسى أن تنام ?? قال: ما أبالي لو فعلتما. قال: فتنحيت أنا وهي وبيننا وبينه ستر. قال: فما نشبنا أن سمعناه يقول: حي الوجوه حي الوجوه. فابتدرناه أنا وهي فجئناه وقد أغمض ميتا، فإذا هاتف يهتف في البيت لا نراه: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين .
من أصواته في سعاد: ومن أصوات عمر في سعاد صوت
ألا يا دين قلبك من سليمـى كما قد دين قلبك من سعادا
هما سبتا الفؤاد وأصبـتـاه ولم يدرك بذلـك مـا أرادا
قفا نعرف منازل من سليمى دوارس بين حومل أو عرادا
ذكرت بها الشباب وآل ليلى فلم يرد الشباب بها مـرادا
فإن تشـب الـذؤابة أم زيد فقد لاقـيت أيامـا شـدادا عروضه من الوافر. الشعر لأشهب بن رميلة فيما ذكر ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني. وحكى ابن الأعرابي أنه سمع بعض بني ضبة يذكر أنها لابن أبي رميلة الضبي. والغناء لعمر بن عبد العزيز رمل بالوسطى عن الهشامي وحبش وغيرهما. وفي نسخة عمرو بن بانة الثانية: لخزرج رمل بالبنصر.
نسب الأشهب بن رميلة وأخباره نسبه: رميلة أمه، وهي أمة لخالد بن الملك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم بن عمرو بن تميم. وهو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد الدار بن جندل بن نهشل بن دارم في النسب. قال أبو عمرو: وولدها يزعمون أنها سبية من سبايا العرب، فولدت لثور بن أبي حارثة أربعة نفر، وهم رباب، وحجناء، والأشهب، وسويد.
إخوته وعزهم في الجاهلية والإسلام: فكانوا من أشد إخوة في العرب لسانا ويدا، وأمنعهم جانبا. وكثرت أموالهم في الإسلام. وكان أبوهم ثور ابتاع رميلة في الجاهلية، وولدتهم في الجاهلية، فعزوا عزا عظيما، حتى كانوا إذا وردوا ماء من مياه الصمان حظروا على الناس ما يريدون منه. وكانت لرميلة قطيفة حمراء، فكانوا يأخذون الهدب من تلك القطيفة فيلقونه على الماء، أي قد سبقنا إلى هذا، فلا يرده أحد لعزهم، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه ويدعون ما يستغنون عنه.
يوم الصمان بينهم وبين أبناء عمومتهم:
صفحة : 1041
فوردوا في بعض السنين ماء من مياه الصمان وورد معهم ناس من بني قطن بن نهشل. وكانت بنو قطن بن نهشل وبنو زيد بن نهشل وبنو مناف بن درام حلفاء. وكانت الأعجاز حلفاء عليهم، وهم جندل وجرول وصخر بنو نهشل. فأورد بعضهم بعيره فأشرعه حوضا قد حظروا عليه. وبلغهم ذلك فغضبوا منه واجتمعوا وأحلافهم، واجتمعت الأحلاف عليهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فضرب رباب بن رميلة رأس نسير بن صبيح المعروف بأبي بدال، وأمه بنت أبي الحمام بن قراد بن مخزوم. وقال رباب في ذلك:
ضربته عشية الـهـلال أول يوم عد من شـوال
ضربا على رأس أبي بدال ثمت ما أبت ولا أبالـي
ألا يؤوب آخر الليالـي فجمع كل واحد منهما لصاحبه. فقالت بنو قطن: يا بني جرول ويا بني صخر ويا بني مناف ، ضرب صاحبكم صاحبنا ضربة لا ندري أيموت منها أم يعيش، فأنصفونا؛ فأبى القوم أن يفعلوا؛ فاقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل.
وكان أبي بن أشيم أخو بني جرول وهو سيدهم خرج في حاجة له، فلقيه بعض بني قطن فأسره وأتى به أصحابه. فقال نهشل بن حري: يا بني قطن، أطيعوني اليوم وأعصوني أبدا. قالوا: نعم، فقل. فقال: إن هذا لم يشهد شركم ولا حربكم، ولا يحل لكم دمه، وإن قومه أحر من يقاتلكم وشوكتهم؛ فخذوا عليه العهد أن يصرفهم عنكم وخلوا سبيله. قالوا: افعل ما رأيت. فأتاه نهشل بن حري فقال له: با أبا أسماء، إن قومك قد حالوا بيننا وبين حقنا وقاتلوا دونه، وقد أمكننا الله منك، وأنت والله أوفى دما عندنا من بني رميلة، فوالله لأقتلنك أو تعطيني ما أسألك. قال: سل. قال: تجعل أن تصرف بني جرول جميعا، فإن لم يطيعوك انصرفت ببني أشيم، فإن لم يطيعوك أتيتنا. قال: نعم. فخلي سبيله تحت الليل. فأتاهم وهم بحيث يرى بعضهم بعضا فقال: يا بني جرول انصرفوا؛ أتعترضون على قوم يريدون حقهم ألا تتقون الله والله لقد أسرني القوم ولو أرادوا قتلي لكان فيه وفاء بحقهم، ولكنهم يكرهون حربكم فلا تبغوا عليهم. فانصرف منهم أكثر من سبعين رجلا. فلما رأى ذلك بنو صخر وبنو جرول قالوا: والله إن لنظلم قومنا إن قاتلناهم؛ وانصرفوا، وتخاذل القوم. فلما رأى ذلك الأشهب بن رميلة قال: ويلكم أفي ضربة من عصا لم تصنع شيئا تسفكون دماءكم والله ما به من بأس، فأعطوا قومكم حقهم. فقال حجناء ورباب: والله لننصرفن فلنلحقن بغيركم ولا نعطي ما بأيدينا. فجعل الأشهب بن رميلة يقول: ويلكم أتخربون دار قومكم في ضربة عصا لم تبلغ شيئا فلم يزل بهم حتى جاؤوا برباب فدفعوه إلى بني قطن، وأخذوا منهم أبا بدال وهو المضروب فمات في تلك الليلة في أيديهم؛ فكتموه، وأرسلوا إلى عباد بن مسعود، ومالك بن ربعي، ومالك بن عوف، والقعقاع بن معبد، فعرضوا عليهم الدية. فقالوا: وما الدية وصاحبنا حي قالوا: فإن صاحبكم ليس بحي. فأمسكوا وقالوا: ننظر. ثم جاؤوا إلى رباب فقالوا: أوصنا بما بدا لك. قال: دعوني أصلي. قالوا: صل. فصلى ركعتين ثم قال: أما والله إني إلى ربي لذو حاجة، وما منعني أن أزيد في صلاتي إلا أن تروا أن ذلك فرق من الموت، فليضربني منكم رجل شديد الساعد حديد السيف. فدفعوه إلى أبي خزيمة بن نسير المكني بأبي بدال فضرب عنقه، فدفنوه؛ وذلك في الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفان. فقال الأشهب يرثي أخاه ويلوم نفسه في دفعه إليهم لتسكن الحرب:
أعيني قلت عبرة مـن أخـيكـمـا بأن تسهرا ليل التمام وتـجـزعـا
وباكية تبـكـي الـربـاب وقـائل جزى الله خيرا ما أعف وأمنـعـا
وأضرب في الهيجا إذا حمس الوغى وأطعم إذا أمسى المراضيع جوعـا
إذا ما اعترضنا من أخينا أخـاهـم روينا ولم نشف الغليل فينـقـعـا
قرونا دما والضيف منتظر القـرى ودعوة داع قد دعانا فـأسـمـعـا
مردنا وكانت هفوة من حلـومـنـا بثدي إلى أولاد ضمرة أقـطـعـا
وقد لامني قومي ونفسي تلومـنـي بما فال رأيي في رباب وضـيعـا
فلو كان قلبـي مـن حـديد أذابـه ولو كان من صم الصفا لتصـدعـا مضى الحديث.
أصوات عمر في سعاد
صفحة : 1042
ونسخت من كتاب محمد بن الحسن الكاتب حدثني محمد بن أحمد ين يحيى المكي عن أبيه قال: لعمر بن عبد العزيز في سعاد سبعة ألحان.
منها:
يا سعاد التي سبتني فـؤادي ورقادي هبي لعيني رقادي ولحنه رمل مطلق.
ومنها:
حظ عيني من سعاد أبدا طول السهـاد ولحنه رمل بالسبابة في مجرى البنصر.
ومنها:
سبحان ربي برا سعـادا لا تعرف الوصل والوداد ولحنه خفيف رمل.
ومنها:
لعمري لئن كانت سعاد هي المنى وجنة خلد لا يمـل خـلـودهـا ولحنه ثقيل أول.
ومنها:
أسعاد جودي لا شقيت سعادا وأجزي محبك رأفة وودادا ولحنه خفيف رمل.
ومنها:
ألما صاحبي نزر سعادا ومنها:
ألا يا دين قلبك من سليمى وقد ذكرت طريقتهما.
كان محدثا وفقيها وراويا: وقد روي عن عمر بن عبد العزيز حديث كثير وفقه، وحمل عنه أهل العلم.
أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا عمران بن بكار الكلاعي قال حدثنا خالد بن علي قال حدثنا بقية بن الوليد عن مبشر بن إسماعيل عن بشر بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عمر عن جده عبد العزيز عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن تمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار .
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا حدثنا العنزي قال حدثني وزير بن محمد أبو هاشم الغساني قال حدثني محمد بن أيوب بن سعيد السكري عن عمر بن عبد العزيز عن أمه عن أبيها عاصم بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الإدام الخل .
غناء يزيد بن عبد الملك
وممن حكي عنه أنه صنع في شعره غناء يزيد بن عبد الملك، ولم يأت ذلك برواية عمن يحصل قوله كما حكي عن عمر بن عبد العزيز، وإنما وجد في الكتب أنه صنع لحنا في شعره، وذكره من لا يوثق به، ولم نروه عن أحد فلم نأت بأخباره ها هنا مشروحة، وأتيت بها في أخباره مع حبابة بحيث يصلح. وأما اللحن الذي ذكر أنه صنعه فهو:
صوت
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطـر ما للفؤاد سوى ذكراكم وطـر
إن سار صحبي لم أملل بذكركم أو غرسوا فهموم النفس والفكر في هذين البيتين ثقيل أول يقال إنه ليزيد بن عبد الملك. وذكر ابن المكي أنه لحبابة.
وحكي عن الهيثم بن عدي أن يزيد بن عبد الملك لما رأى حبابة تعلقها ولم يقدر على ابتياعها خوفا من أخيه سليمان أو من عمر بن عبد العزيز، وقال فيها هذين البيتين وهو راحل عن الحجاز، وغناه فيهما معبد، فوصله بعد ذلك بما كان يغنيه، وأخذته حبابة وغيرها عنه. وذكر الهشامي أنه مما لا يشك فيه من غناء معبد. وقد مضت أخبار يزيد بن عبد الملك وحبابة في صدر هذا الكتاب فاستغني عن إعادتها هنا.
غناء الوليد بن يزيد
وممن غنى منهم الوليد بن يزيد: وله أصوات صنعها مشهورة، وقد كان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز. أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن الفطراني عن محمد بن جبر قال حدثني من سمع خالد صامة يقول: كنت يوما عند الوليد بن يزيد وأنا أغنيه:
أراني الله يا سلمى حياتي وهو يشرب حتى سكر. ثم قال لي: هات العود، فدفعته إليه، فغناه أحسن غناء؛ فنفست عليه إحسانه، ودعوت بطبل فجعلت أوقع عليه وهو يضرب حتى دفع العود وأخذ الطبل فجعل يوقع به أحسن إيقاع، ثم دعا بدف فأخذه ومشى به وجعل يغني أهزاج طويس حتى قلت قد عاش، ثم جلس وقد انبهر. فقلت: يا سيدي، كنت أرى أنك تأخذ عنا ونحن الآن نحتاج إلى الأخذ عنك فقال: اسكت ويلك فوالله أن سمع هذا منك أحد ما دمت حيا لأقتلنك. فوالله ما حكيته عنه حتى قتل.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرنا أبو أيوب المديني قال ذكر أبو الحسن المدائني أن يحيى مولى العبلات المعروف بفيل وهو الذي غنى:
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا
صفحة : 1043
كان مقيما بمكة. فلما قدمها الوليد بن يزيد سأل عن أحسن الناس غناء وحكاية لابن سريج؛ فقيل له: فيل. فدعاه وقال له: امش لي بالدف، ففعل. ثم قال له الوليد: هاته حتى أمشي به، فإن أخطأت فقومني. فمشى به أحسن من مشية فيل. فقال له يحيى: جعلت فداءك إيذن لي حتى أختلف إليك لأتعلم منك.
فمن مشهور صنعته في شعره:
وصفراء في الكأس كالزعفران سباها التجيبي من عسـقـلان
تريك القذاة وعـرض الأنـاء ستر لها دون لمس الـبـنـان لحنه فيه خفيف رمل. وفيه لأبي كامل ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس. ولعمر الوادي فيه ثقيل أول بالوسطى عن يونس والهشامي. وقد مضت أخباره مشروحة في المائة الصوت المختارة.
غناء الواثق
وممن دونت صنعته من خلفاء بني العباس الواثق بالله.
ولم نعلمه حكي ذلك عن أحد منهم قبله إلا ما قدمنا سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبة؛ فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء وأتى فيها بأشياء غثة لا يحسن لمحصل ذكرها.
غنى الواثق في شعر لأبي العتاهية بحضرة إسحاق ووصله: وأخبرني يحيى بن محمد الصولي قال حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت يوما دار الواثق بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا. فسمعت صوت عود من بيت وترنما لم أسمع أحسن منه قط، فأطلع خادم رأسه ثم رده وصاح بي فدخلت فإذا الواثق. فقال: أي شيء سمعت? فقلت: الطلاق لازم لي وكل مملوك لي حر لقد سمعت ما لم أسمع مثله قط حسنا فضحك فقال: وما هو إنما هذه فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمهم والتابعون بعدهم وكثر في حرم الله ومهاجر رسول الله. أتحب أن تسمعه مني? قلت: إي والذي شرفني بخطابك وجميل رأيك. فقال: يا غلام، هات العود وأعط إسحاق رطلا. فدفع الرطل إلي وضرب وغنى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه:
أضحت قبورهم من بعـد عـزهـم تسفي عليها الصبا والحرجف الشمل
لا يدفعون هواما عن وجـوهـهـم كأنهم خشب بالـقـاع مـنـجـدل فشربت الرطل ثم قمت فدعوت له؛ فأجلسني وقال: أتشتهي أن تسمعه ثانية? فقلت: إي والله، فغنانيه ودعا لي برطل، ففعلت كما فعلت ثانية ثم ثالثة. وصاح ببعض خدمه وقال له: إحمل إلى إسحاق ثلثمائة ألف درهم. ثم قال: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك ليسروا بسرورك؛ فانصرفت بالدراهم.
صنع مائة صوت ليس فيها صوت ساقط: أخبرني محمد قال سمعت أحمد بن محمد بن الفرات يقول سمعت عريب تقول: صنع الواثق مائة صوت ما فيها صوت ساقط. ولقد صنع في هذا الشعر:
هل تعلمين وراء الحب منزلة تدني إليك فإن الحب أقصاني
هذا كتاب فتى طالت بلـيتـه يقول يا مشتكى بثي وأحزاني لحنا من الرمل تشبه فيه بصنعة الأوائل.
نسبة هذا الصوت الشعر ليعقوب بن إسحاق الربعي المخزومي. والغناء للواثق رمل بالوسطى من رواية الهشامي.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي والحرمي بن أبي العلاء وعلي بن سليمان الأخفش قالوا حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال قال الزبير بن بكار: كتب ابن أبي مسرة المكي إلى أهل المدينة بيتين وهما:
هذا كتاب فتى طالت بلـيتـه يقول يا مشتكى بثي وأحزاني
هل تعلمين وراء الحب منزلة تدني إليك فإن الحب أقصاني قال الزبير: وكنت غائبا، فلما قدمت قال لي أهل المدينة ذلك. فقلت لهم: أيكتب إليكم صاحبكم يعاتبكم فلا تجيبونه .
شعر يعقوب بن إسحاق الربعي: أنشدني يعقوب بن إسحاق الربعي المخزومي لنفسه:
قال الوشاة لهند عن تـصـارمـنـا ولست أنسى هوى هند وتنسـانـي
يعقوب ليس بمتـبـول ولا كـلـف ويح الوشاة فإن الداء أضـنـانـي
ما بي سوى الحب من هند وإن بخلت حبي لهند برى جسمـي وأبـلانـي
قد قلت حين بدا لي بخـل سـيدتـي وقد تتابع بـي بـثـي وأحـزانـي
هل تعلمين وراء الحـب مـنـزلة تدني إليك فإن الحب أقـصـانـي
صفحة : 1044
قالت نعم قلت ما ذاكم أسيدتـي وطاعة الحب تنفي كل عصيان
قالت فدعنا بلا صرم ولا صـلة ولا صدود ولا في حال هجران
حتى يشك وشاة قد رموك بنـا وأعلنوا بك فـينـا أي إعـلان ومن غناء الواثق بالله: صوت غناؤه في شعر لذي الرمة:
خليلي عوجا من صدور الرواحـل بجرعاء حزوى وأبكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعـقـب راحة من الوجد أو يشفي نجي البلابـل الشعر لذي الرمة. والغناء للواثق بالله رمل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي. ولإسحاق فيهما رمل بالسبابة في مجرى البنصر. ولحن الواثق منهما الذي أوله البيت الثاني وهو اللحن المحثوث المسجح وله ردة في لعل . ولحن إسحاق أوله البيت الأول ثم الثاني وهو أشدهما إمساكا وفيه صياح.
غنى إسحاق الموصلي بحضرته صوتا أخذته عنه شاجى فأجازه: أخبرنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي: أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهري وقد كان تكلم له في حاجة فقضيت. فقال له: أعطاك الله أيها الأمير ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة. قال: فاشتهي هذا الكلام فاستعاده فأعدته. قال: ثم مكثنا ما شاء الله؛ وأرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإشخاصي إليه في الصوت الذي أمرني أن أتغنى فيه وهو:
لقد بخلت حتى لو اني سألتها فأمر لي بمائة ألف درهم. فأقمت ما شاء الله ليس أحد من مغنيهم يقدر على أن يأخذ هذا الصوت مني. فلما طال مقامي قلت: يا أمير المؤمنين، ليس أحد من هؤلاء المغنين يقدر على أن يأخذ هذا الغناء مني. فقال لي: ولم ويحك? قلت: لأني لا أصححه ولا تسخو نفسي لهم به. فلما فعلت يا أمير المؤمنين في الجارية التي أخذتها مني ? يعني شجا، وهي التي كان أهداها إلى الواثق وعمل لها المصنف الذي في أيدي الناس لإسحاق . قال: وكيف? فقلت: لأنها تأخذه مني وأطيب به لها نفسا، وهم يأخذونه منها. قال: فأمر بها فأخرجت وأخذته على المكان. فأمر لي بمائة ألف درهم أخرى، وأذن لي في الانصراف. وكان إسحاق بن إبراهيم الطاهري حاضرا عنده، فقلت له عند وداعي إياه: أعطاك الله يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة. فالتفت إلي إسحاق بن إبراهيم فقال لي: ويحك يا إسحاق تعيد الدعاء فقلت: إي والله أعيده قاص أنا أو مغن. فانصرفت إلى بغداد وأقمت، حتى قدم إسحاق فجئته مسلما. فقال: ويلك يا إسحاق أتدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده? قلت: لا، أيها الأمير. قال: قال لي: ويحك كنا أغنى الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا فيفسده علينا. هذه رواية أبي أيوب.
تقدير إسحاق لغناء الواثق: قال أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى وأخبرني أبي رحمه الله عن إسحاق أنه قال: لما صنعت لحني في:
خليلي عوجا من صدور الرواحل غنيته الواثق فاستحسنه وعجب من صحة قسمته، ومكث صوته أياما ثم قال لي: يا إسحاق، قد صنعت لحنا في صوتك وفي إيقاعه، وأمر فغنيت به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، بغضت إلي لحني وسمجته عندي. وقد كنت استأذنته مرات في الانحدار إلى بغداد بعد أن ألقيت اللحن الذي كان أمرني بصنعه في:
لقد بخلت حتى لو اني سألتها فمنعني ودافعني بذلك. فلما صنع لحنه الرمل في:
خليلي عوجا من صدور الرواحل قلت له: يا أمير المؤمنين، قد والله اقتصصت وزدت؛ فأذن لي بعد ذلك. قال أبو الحسن علي بن يحيى قلت لإسحاق: فأيهما أجود الآن لحنك فيه أو لحنه? فقال: لحني أجود قسمة وأكثر عملا، ولحنه أظرف، لأنه جعل ردته من نفس قسمته، فليس يقدر على أدائه إلا متمكن من نفسه. قال أبو الحسن: فتأملت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق. قال وقال لي إسحاق: ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بالغناء.
فأما نسبة هذين الصوتين، فإن أحدهما قد مضى ومضت نسبته. والآخر: صوت
أيا منشر الموتى أقدني مـن الـتـي بها نهلت نفسي سقـامـا وعـلـت
لقد بخلت حتى لو اني سـألـتـهـا قذى العين من ضاحي التراب لضنت
صفحة : 1045
الشعر لأعرابي رواه إسحاق عنه ولم يذكر اسمه، والناس يغلطون فينسبونه إلى كثير ويظنونه من قصيدته التي أولها:
خليلي هذا رسم عزة فاعقلا قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت وهذا خطأ ممن قال ذلك. والغناء للواثق ثاني ثقيل بالوسطى. ولإسحاق في البيت الثاني وبعده بيت ألحقه به ليس من الشعر ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى. والبيت الذي ألحقه إسحاق به من شعره:
فإن بخلت فالبخل منها سجـية وإن بذلت أعطت قليلا وأكدت كان يعرض غناءه على إسحاق فيدلي فيه برأيه: أخبرني عمي رحمه الله قال حدثني أبو جعفر بن الدهقانة النديم قال: كان الواثق إذا أراد أن يعرض صنعته على إسحاق نسبها إلى غيره وقال: وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز ما سمعه أحد، ويأمر من يغنيه إياه. وكان إسحاق يأخذ نفسه في ذلك بقول الحق أشد أخذ، فإن كان جيدا من صناعته قرظه ووصفه واستحسنه، وإن كان مطرحا أو فاسدا أو متوسطا ذكر ما فيه. فربما كان للواثق فيه هوى فيسأله عن تقويمه وإصلاح فساده، وربما اطرحه بقول إسحاق فيه؛ إلى أن صنع لحنا في قول الشاعر:
لقد بخلت حتى لو اني سـألـتـهـا قذى العين من ضاحي التراب لضنت كان عنده مخارق لإسحاق فجفاه وأصلحت بينهما فريدة: فأعجب به واستحسنه، وأمر المغنين فغنوا فيه، وأمر بإشخاص إسحاق إليه من بغداد ليسمعه.
فكاده مخارق عنده وقال: يا أمير المؤمنين ،إن إسحاق شيطان خبيث داهية، وإن قولك له فيما تصنعه: هذا صوت وقع إلينا، لا يخفى عليه به أن الصوت لك ومن صنعتك ولا يوقع في فهمه أنه قديم، فيقول لك وبحضرتك ما يقارب هواك، فإذا خرج عن حضرتك قال لنا ضد ذلك. فأحفظ الواثق قوله وغاظه، وقال له: أريد على هذا القول منك دليلا. قال: أنا أقيم عليه الدليل إذا حضر. فلما قدم به وجلس في أول مجلس اندفع مخارق يغني لحن الواثق:
لقد بخلت حتى لون اني سألتها فزاد فيه زوائد أفسدت قسمته فسادا شديدا وخفيت على الواثق لكثرة زوائد مخارق في غنائه. فسأله الواثق عنه؛ فقال: هذا غناء فاسد غير مرضي عندي. فغضب الواثق وأمر بإسحاق فسحب حتى أخرج من المجلس. فلما كان من الغد قالت فريدة للواثق: يا أمير المؤمنين، إن إسحاق رجل يأخذ نفسه بقول الحق في صناعته على كل حال ساءته أو سرته، لا يخاف في ذلك ضررا ولا يرجو نفعا؛ وما لك منه عوض. وقد كاده مخارق عندك فزاد في صدر الصوت من زوائده التي تعرف، وتركه في المصراع الثاني على حاله، ونقص من البيت الثاني، وقد تبينت ذلك. وأنا أعرضه على إسحاق وأغنيه إياه على صحته، واسمع ما يقول. ومازالت تلطف للواثق حتى رضي عنه وأمر بإحضاره. فغنته إياه فريدة كما صنعه الواثق. فلما سمعه قال: هذا صوت صحيح الصنعة والقسمة والتجزئة، وما هكذا سمعته في المرة الأولى. ثم أخبر الواثق عن مواضع فساده حينئذ، وأبان ذلك له بما فهمه. وغنته فريدة عدة أصوات من القديم والحديث كلها يقول فيها بما عنده من مدح لبعضها وطعن على بعض. فاستحسن الواثق ذلك وأجازه يومئذ وحباه، وجفى مخارق مدة لما فعله به.
أخبرني جحظة قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال: كان الواثق إذا صنع شيئا من الغناء أخبر إسحاق به وعرضه عليه حتى يصلح ما فيه ثم يظهره.
وقد أخبرني الحسن بن علي عن يزيد بن محمد المهلبي بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكرته ها هنا وفي ألفاظه اختلاف. وقد تقدم ذكره وابتدأناه في أخبار إسحاق. والأبيات الثانية التي غنى فيها الواثق وإسحاق أنشدنيها علي بن سليمان الأخفش وعلي بن هارون بن علي بن يحيى جميعا عن هارون بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق لأعرابي، وأنشدناها محمد بن عباس اليزيدي قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لبعض الأعراب:
ألا قاتل اللـه الـحـمـامة غـدوة على الغصن ماذا هيجت حين غنت
فغنت بصوت أعجمي فـهـيجـت هواي الذي كانت ضلوعي أكنـت
فلو قطرت عين امرئ من صبـابة دما قطرت عيني دمـا وألـمـت
فما سكتت حتى أويت لصـوتـهـا وقلت أرى هذي الحمامة جـنـت
ولي زفرات لم يدمن قتـلـنـنـي بشوق إلى نادي التي قد تـولـت
صفحة : 1046
إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضـت فمن لي بأخرى في غد قد أظـلـت
أيا منشر الموتى أعني على الـتـي بها نهلت نفسي سقـامـا وعـلـت
لقد بخلت حتى لو اني سـألـتـهـا قذى العين من سافي التراب لضنت
فقلت ارحلا يا صاحبي فـلـيتـنـي أرى كل نفس أعطيت ما تمـنـت
حلفت لهـا بـالـلـه مـا أم واحـد إذا ذكـرتـه آخـر الـلـيل أنـت
وما وجد أعرابـية قـذفـت بـهـا صروف النوى من حيث لم تك ظنت
إذا ذكرت ماء العـضـاه وطـيبـه وبطن الحصى من بطن خبت أرنت
بأعظم من وجدي بها غـير أنـنـي أجمجم أحشائي على مـا أجـنـت غناه إسحاق فوصله وشعره فيه: أخبرني جحظة وابن أبي الأزهير ويحيى بن علي والحسين بن يحيى قالوا جميعا أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه، وقد جمعت روايتهم في هذا الخبر وزدت فيه ما نقصه كل واحد منهم حتى كملت ألفاظه، قال: ما وصلني أحد من الخلفاء بمثل ما وصلني به الواثق؛ وما أحد منهم يكرمني إكرامه. ولقد غنيته لحني:
لعلك إن طالت حياتك أن ترى بلادا بها مبدى لليلى ومحضر فاستعاده مني ليلة لا يشرب على غيره، ثم وصلني بثلثمائة ألف درهم. ولقد قدمت عليه في بعض قدماتي، فقال لي: ويحك يا إسحاق أما اشتقت إلي فقلت: بلى والله ياسيدي وقلت في ذلك أبياتا إن أمرتني أنشدتها. قال: هات؛ فأنشدته:
أشكو إلى الله بعدي عن خليفـتـه وما أقاسيه من هم ومـن كـبـر
لا أستطيع رحيلا إن هممـت بـه يوما إليه ولا أقوى على السـفـر
أنوي الرحيل إليه ثم يمـنـعـنـي ما أحدث الدهر والأيام في بصري ثم استأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي؛ فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:
لما أمرت بإشخاصي إلـيك هـوى قلبي حنينا إلـى أهـلـي وأولادي
ثم اعتزمت فلم أحفل بـبـينـهـم وطابت النفس عن فضل وحـمـاد
كم نعمة لأبيك الـخـير أفـردنـي بها وخص بأخرى بعـد إفـرادي
فلو شكرت أياديكم وأنـعـمـكـم لما أحاط بها وصفـي وتـعـدادي
لأشكرنك ما غار الـنـجـوم ومـا حدا على الصبح في إثر الدجى حاد قال علي بن يحيى خاصة في خبره: فقال لي أحمد بن إبراهيم: يا أبا الحسن، أخبرني لو قال الخليفة لإسحاق: أحضر لي فضلا وحمادا أليس كان يفتضح إسحاق يعني من دمامة خلقتهما وتخلف شاهدهما.
خرج معه إسحاق إلى النجف، وشعره فيها وفي حنينه إلى ولده: قال إسحاق: ثم انحدرت مع الواثق إلى النجف، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد قلت في النجف قصيدة. فقال هاتها؛ فأنشدته قولي:
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقـف نحي دارا لسعدى ثم نـنـصـرف
لم ينزل الناس في سهل ولا جبـل أصفى هواء ولا أغذى من النجف
حفت ببر وبحر في جـوانـبـهـا فالبر في طرف والبحر في طرف
ما إن يزال نسـيم مـن يمـانـية يأتيك منهـا بـريا روضة أنـف حتى انتهيت إلى مديحه فقلت وقد انتهيت إلى قولي فيه:
لا يحسب الجود يفني مـالـه أبـدا ولا يرى بذل ما يحوي من السرف فقال لي: أحسنت يا أبا محمد فكناني، وأمر لي بألف درهم. وانحدرنا إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس:
فالصالحية من أكناف كلواذا وذكرت الصبيان وبغداد فقلت:
أتبكي على بـغـداد وهـي قـريبة فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعـدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قـلـى لو أن وجدنا من فراق لـهـا بـدا
إذا ذكرت بغداد نفسي تقـطـعـت من الشوق أو كادت تموت بها وجدا
كفى حزنا أن رحت لم تستطع لهـا وداعا ولم تحدث لساكنهـا عـهـدا فقال لي: يا موصلي لقد اشتقت إلى بغداد فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن اشتقت إلى الصبيان، وقد حضرني بيتان. فقال: هاتهما. فقلت:
صفحة : 1047
حننت إلى الأصبية الصغار وشاقك منهم قرب المزار
وكل مفارق يزداد شوقـا إذا دنت الديار من الـديار فقال لي: يا إسحاق، سر إلى بغداد فأقم شهرا مع صبيانك ثم عد إلينا، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم.
امتياز إسحاق على المغنين في مجلسه: أخبرني جحظة عن ابن حمدون: أن إسحاق كان يحضر مجالس الخلفاء إذا جلسوا للشرب في جملة المغنين وعوده معه إلى أيام الواثق، فإنه كان إذا قدم عليه يحضر مع الجلساء بغير عود، ويدنيه الواثق ولا يغني حتى يقول له: غن، فإذا قال له غن جاؤوه بعود فغنى به، وإذا فرغ العود من بين يديه إكراما من الواثق له.
برز إسحاق عليه في لحن اشتركا فيه: أخبرني الحسين بن يحيى عن وسواسة بن الموصلي عن حماد بن إسحاق قال: كتب حمدون بن إسماعيل إلى أبي: إن أمير المؤمنين الواثق يأمرك ان تصنع لحنا في هذا الشعر:
لقد بخلت حتى لو اني سألتها وقد كان الواثق غنى فيه غناء أعجبه، فغنى فيه أبي. فلما سمعه الواثق قال: أفسد علينا إسحاق ما كنا أعجبنا به من غنائنا. قال حماد: ثم لم أعلم أن أبي صنع بعده غناء حتى مات.
ومن مشهور أغاني الواثق: صوت
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله غزالان مكحولان مؤتلـفـان
أرغتهما ختلا فلم أستطعهـمـا ورميا ففاتاني وقد رمـيانـي ولحنه فيه من الثقيل الأول. ولإسحاق فيه رمل.
قصة لأعرابي عاشق مع إسحاق بن سليمان بن علي: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال أخبرني محمد بن منصور بن علية القرشي قال أخبرني جعفر بن عبيد الله بن جعفر الهاشمي عن إسحاق بن سليمان بن علي قال: لقيت أعرابيا بالسمية فصيحا، فاستخففته وتأملته فإذا هو مصفر شاحب ناحل الجسم، فاستنشدته فأنشدني الشيء بعد الشيء على استكراه مني له. فقلت له ما بالك? فوالله إنك لفصيح فقال: أما ترى الجبلين? قلت بلى. قال: في ظلالهما والله يمنعني من إنشادك ويشغلني ويذهلني عن الناس. قلت: وما ذاك? قال: بنت عم لي قد تيمتني وذهبت بعقلي، والله إنه لتأتي علي ساعات ما أدري أفي السماء أنا أم في الأرض، ولا أزال ثابت العقل مالم يخامر ذكرها قلبي، فإذا خامره بطلت حواسي وعزب عني لبي. قلت: فما يمنعك منها? أقلة ما في يديك? قال: والله ما يمنعني منها غير ذلك. قلت: وكم مهرها? قال: مائة ناقة. قلت: فأنا ادفعها إليك إذا لتدفعها إليها. قال: والله لئن فعلت ذلك إنك لأعظم الناس علي منة. فوعدته بذلك واستنشدته ما قال فيها. فأنشدني أشياء كثيرة منها قوله:
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله غزالان مكحولان مؤتلـفـان البيتان. فقلت له: يا أعرابي، والله لقد قتلتني بقولك ففاتاني وقد قتلاني وأنا بريء من العباس أن لم أقم بأمرك. ثم دعوت بمركوب فركبته وحملت معي الأعرابي، فصرنا إلى أبي الجارية في جماعة من أهلي و موالي حتى زوجته إياها وضمنت عنه الصداق واشتريت له مائة ناقة فسقتها عنه؛ وأقمت عندهم ثلاثا ونحرت لهم ثلاثين جزورا، ووهبت للأعرابي عشرة آلاف درهم وللجارية مثلها، وقلت: استعينا بهذا على اتصالكما وانصرفت. فكان الأعرابي يطرقنا في كل سنة وامرأته معه فأهب له وأصله وينصرف.
غناؤه في شعر حسان: ومن أغانيه - أخبرني به ذكاء وجه الرزة عن أحمد بن العلاء عن مخارق وأنه أخذه عنه -: صوت
إن التي عاطيتني فرددتـهـا قتلت قتلت فهاتها لم تقـتـل
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصـل يروي: كلتاهما جلب العصير و حلب العصير . ويروي: للمفصل و للمفصل . والمفصل: الواحد من المفاصل، والمفصل هو اللسان. ذكر ذلك علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي.
الشعر لحسان بن ثابت. والغناء للواثق خفيف رمل بالبنصر. وفيه لإبراهيم الموصلي رمل مطلق في مجرى الوسطى. وهذه الأبيات من قصيدة حسان المشهورة التي يمدح بها بني جفنة، وأولها:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل وهي من فاخر المديح، منها قوله:
أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم قبر ابن مارية الكريم المفضل
صفحة : 1048
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
بيض الوجوه كريمة أنسابهـم شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهـم لا يسألون عن السواد المقبـل تفسير القاضي عبيد الله بن الحسن لهذا الشعر: نسخت من كتاب الشاهيني: حدثني ابن علي العنزي قال حدثني أحمد بن عبد الملك بن أبي السمال السعدي قال حدثني أبو ظبيان الحماني قال: اجتمعت جماعة من الحي على شراب لهم، فتغنى رجل منهم بشعر حسان:
إن التي عاطيتها فرددتـهـا قتلت قتلت فهاتها لم تقـتـل
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصـل فقال رجل من القوم: ما معنى قوله إن التي عاطيتني فجعلها واحدة، ثم قال: كلتاهما حلب العصير فجعلهما اثنتين? فلم يعلم أحد منا الجواب. فقال الرجل من القوم: امرأته طالق ثلاثا إن بات أو يسأل القاضي عبيد الله بن الحسن عن تفسير هذا الشعر. قال أبو ظبيان: فحدثني بعض أصحابنا السعديين قال: فأتيناه نتخطى إليه الأحياء حتى أتيناه وهو في مسجده يصلي بين العشاءين. فلما سمع حسنا أوجز في صلاته، ثم أقبل علينا وقال: ما حاجتكم? فبدأ رجل منا كان احسننا بقية فقال: نحن، أعز الله القاضي، قوم نزعنا إليك من طرف البصرة في حاجة مهمة فيها بعض الشيء. فإن أذنت لنا قلنا. قال: قولوا. فذكر يمين الرجل والشعر. فقال: أما قوله إن التي ناولتني هي الخمرة. وقوله: قتلت يعني مزجت بالماء. وقوله: كلتاهما حلب العصير يعني به الخمر و مزاجها، فالخمر عصير العنب، والماء عصير السحاب؛ قال الله عز وجل: وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا انصرفوا إذا شئتم.
غناؤه لحنا على مثال لحن لمخارق: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: غنى مخارق يوما بحضرة الواثق:
حتى إذا الليل خبا ضوءه وغابت الجوزاء والمرزم
خرجت والوطء خفي كما ينساب من مكمنه الأرقم فاستملح الواثق الشعر واللحن، فصنع في نحوه:
قالت إذا الليل دجا فـأتـنـا فجئتها حين دجـا الـلـيل
خفي وطء الرجل من حارس ولو درى حل بـي الـويل ولحنه فيه من الرمل. وصنع فيه الناس ألحانا بعده: منها لعريب خفيف رمل، ومنها ثقيل أول لا أعلم لمن هو؛ وسمعت ذكاء ومحمد بن إبراهيم قريضا يغنيانه وذكرا أنهما أخذاه عن أحمد بن أبي العلاء، ولا أدري لمن هو.
تحدث إسحاق إليه بقصة أعرابي عاشق وغنى في شعره فوصله ووصل الأعرابي: حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حمدا بن إسحاق قال حدثني أبي قال: سرت إلى سر من رأى بعد قدومي من الحج، فدخلت إلى الواثق فقال: بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم? فقلت: يا أمير المؤمنين، جلس إلي فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وأدبا. فاستنشدته فأنشدني:
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله غزالان مكحولان مؤتلـفـان
إذا أمنا التفا بجـيدي تـواصـل وطرفاهما للريب مستـرقـان
أرغتهما ختلا فلم أستطعهـمـا ورميا ففاتاني وقد قـتـلانـي ثم تنفس تنفسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه. فقلت: ما لك بأبي أنت? فقال: أن لي وراء هذين الجبلين شجنا، وقد حيل بيني وبين المرور به ونذروا دمي، وأنا أتمتع بالنظر إلى الجبلين تعللا بهما إذا قدم الحاج، ثم يحال بيني وبين ذلك. فقلت له: زدني مما قلت في ذلك. فأنشدني:
إذا ما وردت الماء في بعض أهله حضور فعرض بي كأنك مازح
فإن سألت عني حضور فقل لهـا به غبر من دائه وهو صـالـح
صفحة : 1049
فأمرني الواثق فكتبت له الشعرين. فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا الشعرين لحنا فاسمعه، فإن ارتضيته أظهرناه وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحته. فغني لنا من وراء الستار، فكان في نهاية الجودة، وكذلك كان يفعل إذا صنع شيئا. فقلت له: أحسن والله صانعه يا أمير المؤمنين ما شاء . فقال: بحياتي? فقلت: وحياتك، وحلفت له بما وثق به، وأمر لي برطل فشربته، ثم أخذ العود فغناه ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف دلاهم. فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع أيضا عندنا في الشعر الآخر، وأمر فغني به؛ فكانت حالي فيه مثل الحال في الأول. فلما استحسنته وحلفت له على جودته ثلاث مرات، سقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم. ثم قال لي: هل قضيت حق هديتك? فقلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ فأطال الله بقاءك، وتمم نعمتك، ولا أفقدنيها منك وبك. ثم قال: لكنك لم تقض حق جليسك الأعرابي ولا سألتني معونته على أمره، وقد سبقت مسألتك وكتبت بخبره إلى صاحب الحجاز وأمرته بإحضاره، وخطبت المرأة له وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالي. فقبلت يديه وقلت: السبق إلى المكارم لك، وأنت أولى بها من عبدك ومن سائر الناس.
نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني: منها الصوتان اللذان في الأخبار المتقدمة.
صوت
حتى إذا الليل خبا ضوءه وغابت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفي كمـا ينساب من مكمنه الأرقم ذكر يحيى المكي أن اللحن لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر، وذكر الهشامي أنه منحول.
طرب شيخ لسماع مغنية فرمى بنفسه في الفرات: فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وإسماعيل بن يونس وغيرهما قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن ابن كناسة قال: إصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات ومعه مغنية. فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ: معنا جارية لبعضنا وهي مغنية، فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت لنا فعلنا. قال: أنا أصعد إلى طلل السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم فصعد، وأخذت الجارية عودها فغنت:
حتى إذا الصبح بدا ضوءه وغابت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفي كمـا ينساب من مكمنه الأرقم فطرب الشيخ وصاح ثم رمى بنفسه بثيابه في الفرات، وجعل يغوص في الفرات ويطفو ويقول: أنا الأرقم أنا الأرقم فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأي ما استخرجوه، وقالوا له: يا شيخ، ما حملك على ما صنعت? فقال: إليكم عني فإني والله أعرف من معاني الشعر ما لا تعرفون. وقال إسماعيل في خبره فقلت له: ما أصابك? فقال: دب شيء من قدمي إلى رأسي كدبيب النمل ونزل في رأسي مثله، فلما وردا على قلبي لم أعقل ما عملت.
وأما ما في الخبر من الصنعة في: قالت إذا الليل دجا فإن لحن الواثق هو المشهور، وما وجدت في كتب الأغاني غيره، بل سمعت محمد بن إبراهيم المعروف بقريض وذكاء وجه الرزة يغنيان فيه لحنا من الثقيل الأول المذموم فسألتهما عن صانعه فلم يعرفاه، وذكرا جميعا أنهما أخذاه عن أحمد بن أبي العلاء.
علمه بالغناء وعدد أصواته وذكر المشهور منها: وأخبرني الصولي عن أحمد بن محمد بن إسحاق عن حماد بن إسحاق قال: كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء، وبلغت صنعته مائة صوت، وكان أحذق من غنى بضرب العود، قال: ثم ذكرها فعد منها:
يفرح الناس بالسماع وأبـكـي أنا حزنا إذا سمعت السـمـاع
ولها في الفؤاد صـدع مـقـيم مثل صدع الزجاج أعيا الصناعا الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء للواثق خفيف ثقيل. وفيه لأبي دلف خفيف رمل.
ومنها:
ألا أيها النفس التي كادها الهـوى أفأنت إذا رمت السلو غـريمـي
أفيقي فقد أفنيت صبري أو اصبري لما قد لقيتـيه عـلـي ودومـي الشعر والغناء للواثق خفيف رمل ومنها:
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله غزالان مكحولان مؤتلـفـان
أرغتهما ختلا فلم أستطعهـمـا ورميا ففاتاني وقد قـتـلانـي الغناء للواثق ثقيل أول. وفيه لإسحاق رمل وهو من غريب صنعته، يقال إنه صنعه بالرقة.
ومنها:
صفحة : 1050
كل يوم قـطـيعة وعـتـاب ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
فاصبر النفس لا تكونن جزوعا إنما الحب حسـرة وعـذاب فيه للواثق رمل، ولزرزور ثقيل أول، ولعريب هزج.
ومنها:
ولم أر ليلى بعد مـوقـف سـاعة بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت بـه من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظـر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك صدى أينما تذهب به الريح يذهب الصنعة في هذا الشعر ثقيل أول وهو لحن الواثق فيما أرى. ونسبه حبش، وهو قليل التحصيل، إلى ابن محرز في موضع، وإلى سليم في موضع آخر، و إلى معبد في موضع ثالث.
ومنها:
أمست وشاتك قد دبت عقاربهـا وقد رموك بعين الغش وابتدروا
تريك أعينهم ما في صدورهـم إن الصدور يؤدي غيبها النظر الشعر للمجنون. والغناء للواثق ثاني ثقيل. وفيه لمتيم ثقيل أول. وقد نسب لحن كل واحد منهما إلى الآخر.
ومنها:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينهـا فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر الغناء للواثق رمل. وفيه لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى، ولابن سريج ثقيل أول بالبنصر، ولعريب ثقيل أول آخر.
ومنها:
كأن شخصي وشخصه حكيا نظام نسرينتين في غصـن
فليت ليلـي ولـيلـه أبـدا دام ودمنا به فلـم نـبـن الشعر أظنه لعلي بن هشام أو لمراد . ولحن الواثق فيه ثقيل أول. وفيه لعريب ثقيل أول آخر. وفيه لأبي عيسى بن الرشيد ولمتيم لحنان لم يقع إلي جنسهما.
ومنها:
أهابك إجلالا وما بك قـدرة علي ولكن ملء عين حبيبها
وما فارقتك النفس يا ليل أنها قلتك ولكن قل منك نصيبها لحن الواثق فيه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى. وفيه لغيره لحن.
ومنها:
في فمي ماء وهل ين طق من في فيه ماء
أنا مملوك لمـمـلـو ك عليه الـرقـبـاء
كنت حرا هـاشـمـيا فاسترقتنـي الإمـاء
وسباني مـن لـه كـا ن على الكره السبـاء
أحمد الله عـلـى مـا ساقه نحوي القضـاء
ما بـعـينـي دمـوع أنفد الدمع الـبـكـاء الغناء للواثق رمل.
ومنها :
أي عون على الهموم ثلاث مترعات من بعدهن ثلاث
بعدها أربع تتمة عـشـر لا بطاء لكنهن حـثـاث فيه رمل ينسب إلى الواثق وإلى متيم.
ومنها :
أيا عبرة العينين قد ظمئ الحـد فما لكما من أن تلمـا بـه بـد
ويا مقلة قد صار يبغضها الكرى كأن لم يكن من قبل بينهمـا ود
لئن كان طول العهد أحدث سلوة فموعد بين العين والعبرة الوجد
وما أنا إلا كاللذين تـخـرمـوا على أن قلبي من قلوبهم فـرد الشعر والغناء للواثق رمل. وفيه لأبي حشيشة هزج، ذكر ذلك الهشامي الملقب بالمسك، وأخبرني جحظة أنه للمسدود. وأخبرني جحظة أن من صنعة أبي حشيشة في شعر الواثق خفيف رمل وهو:
سألته حـويجة فـأعـرضـا وعلق القلب به ومـرضـا
فاستل مني سيف عزم منتضى فكان ما كان وكابرنا القضـا قال: وفي هذا الشعر أيضا للواثق رمل، ولقلم الصالحية فيه هزج. وقد غلط جحظة في هذا الشعر، وهو لسعيد بن حميد مشهور، وله فيه خبر قد ذكرناه في موضعه .
غاضبه خادم له فقال فيه شعرا غنى فيه: أخبرني عمي عن علي بن محمد بن نصر عن جده ابن حمدون عن أبيه حمدون بن إسماعيل قال: كان الواثق يحب خادما له كان أهدي إليه من مصر، فغاضبه يوما وهجره، فسمع الخادم يحدث صباحا له بحديث أغضبه عليه، إلى أن قال له: والله إنه ليجهد منذ أمس على أن أصالحه فما أفعل. فقال الواثق في ذلك:
صفحة : 1051
يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخـرا هل أنت إلا مليك جار إذ قدرا
لولا الهوى لتجازينا على قـدر وإن أفق مرة منه فسوف ترى قال: وغنى الواثق وعلويه فيه لحنين، ذكر الهشامي أن لحن الواثق خفيف ثقيل، وفي أغانيه علويه: لحنه في هذا الشعر خفيف رمل.
غنى في شعر لعلي بن الجهم: حدثني الصولي قال حدثني بن أبي العيناء عن أبيه عن إبراهيم بن الحسن بن سهل قال: كنا وقوفا على رأس الواثق في أول مجالسه التي جلسها لما ولي الخلافة، فقال: من ينشدنا شعرا قصيرا مليحا? فحرصت على أن أعمل شيئا فلم يجئني، فأنشدته لعلي بن الجهم:
لو تنصلـت إلـينـا لوهبنا لك ذنـبـك
ليتني أملك قلـبـي مثلما تملك قلـبـك
أيها الواثـق بـالـل ه لقد ناصحت ربك
سيدي ما أبغض العي ش إذا فارقت قربك
أصبحت حجتك العلي ا وحزب الله حزبك فاستحسنها وقال: لمن هذه? فقلت: لعبدك علي بن الجهم. فقال: خذ ألف دينار لك وله؛ وصنع فيه لحنا كنا نغني به بعد ذلك.
يوم له مع المغنين بسر من رأى: أخبرني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني أبي قال: لما خرج المعتصم إلى عمورية استخلف الواثق بسر من رأى، فكانت أموره كلها كأمور أبيه. فوجه إلى الجلساء والمغنين أن يبكروا إليه يوما حدد لهم، ووجه إلى إسحاق، فحضر الجميع. فقال لهم الواثق: إني عزمت على الصبوح، ولست أجلس على سرير حتى أختلط بكم ونكون كالشيء الواحد، فاجلسوا معي حلقة، وليكن كل جليس إلى جانبه مغن، فجلسوا كذلك. فقال الواثق: أنا أبدأ؛ فأخذ عودا فغنى وشربوا وغنى من بعده، حتى انتهي إلى إسحاف فأعطي العود فلم يأخذه. فقل: دعوه. ثم غنوا دورا آخر. فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغن، وفعل هذا ثلاث مرات. فوثب الواثق فجلس على سريره وأمر الناس فأدخلوا، فما قال لأحد منهم: اجلس. ثم قال: علي بإسحاق . فلما رآه قال: يا خوزي يا كلب أتنزل لك وأغني و ترتفع عني أترى لو أني قتلتك كان المعتصم يقيدني بك ابطحوه فبطح فضرب ثلاثين مقرعة ضربا خفيفا، وحلف ألا يغني سائر يومه سواه. فاعتذر وتكلمت الجماعة فيه، فأخذ العود وما زال يغني حتى انقضى ذلك اليوم، وعاد الواثق إلى مجلسه.
شعره في خادم يهواه: وجدت في بعض الكتب عن ابن المعتز قال: كان الواثق يهوى خادما له فقال فيه:
سأمنع قلبي مـن مـودة غـادر تعبدني خبثا بمكر مـكـاشـر
خطبت إليه الوصل خطبة راغب فلاحظني زهوا بطرف مهاجر قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: وللواثق في هذا الشعر لحن من الثقيل الأول.
ألقى على غلمانه صوتا فأخذوه عنه: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال حدثني عبد أم غلام الواثق قال: دعى بنا الواثق مع صلاة الغداة وهو يستاك فقال: خذوا هذا الصوت، ونحن عشرون غلاما كلنا يغني ويضرب، ثم ألقى علينا:
أشكو إلى الله ما ألقى من الكمد حسبي بربي فلا أشكو إلى أحد فما زال يردده حتى أخذناه عنه.
نسبة هذا الصوت:
أشكو إلى الله ما ألقى من الكمد حسبي بربي فلا أشكو إلى أحد
أين الزمان الذي قد كنت ناعمة مهلة بدنوي منـك يا سـنـدي
وأسأل الله يوما منك يفرحـنـي فقد كحلت جفون العين بالسهد
شوقا إليك وما تدرين ما لقـيت نفسي عليك وما بالقلب من كمد الغناء للواثق ثقيل أول بالبنصر. وفيه لعريب أيضا ثقيل أول بالوسطى.
كان إسحاق يصحح له غناءه: أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال: كان الواثق يعرض صنعته على إسحاق، فيصلح الشيء بعد الشيء مما يخفى على الواثق؛ فإذا صححه أخرجه إلينا وسمعناه.
أمر مخارقا وعلويه وعريب أن يعارضوا لحنا له: حدثنا جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق قال حدثني مخارق قال: لما صنع الواثق لحنه في:
حوراء ممكورة منعمة كأنما شف وجهها نزف
صفحة : 1052
وصنع لحنه في سأذكر سربا طال ما كنت فيهم أمرني وعلويه وعريب أن نعارض صنعته فيهما، ففعلنا واجتهدنا ثم غنيناه. فضحك فقال: أمنا معكم أن نجد من يبغض إلينا صنعتنا كما بغض إسحاق إلينا أيا منشر الموتى . قال حماد: هذا آخر لحن صنعه أبي. يعني الذي عارض به لحن الواثق في أيا منشر الموتى .
غناه إسحاق صوتا فتطير به: أخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت يوما إلى الواثق وهو مصطبح، فقال لي: غني يا إسحاق بحياتك عليك صوتا غريبا لم أسمعه منك حتى أسربه بقية يومي. فكإن الله أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت:
يا دار إن كان البلى قد محاك فإنه يعجـبـنـي أن أراك
أبكي الذي قد كان لي مألفـا فيك فأتي الدار من أجل ذاك -والغناء في هذا اللحن للأبجر رمل بالوسطى عن ابن المكي وهو الصواب، وذكر عمرو بن بانة أنه لسليم - قال فتبينت الكراهية في وجهه، وندمت على ما فرط مني. وتجلد فشرب رطلا كان في يده، وعدلت عن الصوت إلى غيره. فكان والله ذلك اليوم آخر جلوسي معه.
وممن حكي عنه أنه صنع في شعره وشعر غيره المنتصر
غناء المنتصر
فإني ذكرت ما روي عنه أنه غنى فيه على سوء العهدة في ذلك وضعف الصنعة، لئلا يشذ عن الكتاب شيء قد روي وقد تداوله الناس. فمما ذكر عنه أنه غنى فيه: صوت
سقيت كأسا كشفت عن ناظريه الخمرا
فنشطتنـي ولـقـد كنت حزينا خاثـرا الشعر للمنتصر، وهو شعر ضعيف ركيك إلا أنه يغني فيه.
كان متحلفا في قول الشعر ومتققدما في غيره وكان يغني قبل الخلافة: وحدثني الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: كان طبع المنتصر متخلفا في قول الشعر وكان متقدما في كل شيء غيره؛ فكان إذا قال شعرا صنع فيه وأمر المغنين بإظهاره، وكان حسن العلم بالغناء. فلما ولي الخلافة قطع ذلك وأمر بستر ما تقدم منه. من ذلك صنعته في شعره وهو من الثقيل الأول المذموم:
سقيت كأسا كشفت عن ناظريه الخمرا قال: ومن شعره الذي غنى فيه ولحنه ثاني ثقيل: صوت
متى ترفع الأيام من وضعنـه وينقاد لي دهر علي جمـوح
أعلل نفسي بالرجاء وإنـنـي لأغدو على ما ساءني وأروح قال: وكان أبي يستجيد هذين البيتين ويستحسنهما. ونذكر ها هنا شيئا من أخبار المنتصر في هذا المعنى دون غيره أسوة ما فعلناه في نظرائه.
أراد الشرب علانية فجاء الناس ليروه فقال شعرا فتفرقوا: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني أبي قال: أراد المنتصر أن يشرب في الزقاق، فوافى الناس من كل وجه ليروه ويخدموه؛ فوقف على شاطئ دجلة وأقبل على الناس فقال:
لعمري لقد أسحرت خيلنا بأكناف دجلة للملعـب والشعر بأكناف دجلة للمصعب ولكنه غيره لأنه تطير من ذكر المصعب -
فمن يك منا يبـت آمـنـا ومن يك من غيرنا يهرب قال: فعلم أنه يريد الخلوة بالندماء والمغنين، فانصرفوا، فلم يبق معه إلا من يصلح للأنس والخدمة.
جفا يزيد المهلبي لاختصاصه بالمتوكل ثم عفا عنه وأكرمه: حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: كان أبي أخص الناس بالمنتصر، وكان يجالسه قبل مجالسته المتوكل. فدخل المتوكل يوما على المنتصر على غفلة، فسمع كلامه فاستحسنه، فأخذه إليه وجعله في جلسائه. وكان المنتصر يريد منه أن يلازمه كما كان، فلم يقدر على ذلك لملازمته أباه؛ فعتب عليه لتأخره عنه على ثقة بمودة وأنس به. فلما أفضت إليه الخلافة استأذن عليه؛ فحجبه وأمر بأن يعتقل في الدار فحبس أكثر يومه. ثم أذن له فدخل وسلم وقبل الأرض بين يديه ثم قبل يده، فأمره بالجلوس؛ ثم التفت إلى بنان بن عمرو وقال: غن، وكان العود في يده:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ورمت بديلا بي ولـم أتـبـدل
صفحة : 1053
- قال: والشعر للمنتصر - فغناه بنان. وعلم أبي أنه أراده بذلك فقام فقال: والله ما اخترت خدمة غيرك ولا صرت إليها إلا بعد إذنك. فقال: صدقت؛ إنما قلت هذا مازحا؛ أتراني أتجاوز بك حكم الله عز وجل إذ يقول: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما . ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده:
ألا يا قوم قد بـرح الـخـفـاء وبان الصبر منـي والـعـزاء
تعجب صاحبي لضياع مثـلـي ولـيس لـداء مـحـروم دواء
جفانـي سـيد قـد كـان بـرا ولم أذنب فما هذا الـجـفـاء
حللت بداره وعـلـمـت أنـي بدار لا يخيب بهـا الـرجـاء
فلما شـاب رأسـي فـي ذراه حجبت بعقب ما بعد اللـقـاء
فإن تنأى ستـور الإذن عـنـا فما نأت المحـبة والـثـنـاء
وإن يك كادني ظلـمـا عـدو فعند البحث ينكشف الغـطـاء
ألـم تـر أن بـالآفـاق مـنـا جماجم حشو أقبرها الـوفـاء
وقد وصف الزمان لـنـا زياد وقال مقـالة فـيهـا شـفـاء
ألا يا رب مغموم سـيحـظـى بدولتـنـا ومـسـرور يسـاء
أمنتصر الخلائف جدت فـينـا كما جادت على الأرض السماء
وسعت الناس عدلا فاستقـامـوا بأحكام عـلـيهـن الـضـياء
وليس يفوتنا ما عـشـت خـير كفانا أن يطول لك الـبـقـاء قال: فقال له المنتصر: والله إنك لمن ذوي ثقتي وموضع اختياري، ولك عندي الزلفى، فطب نفسا. قال ووصلني بثلاثة آلاف دينار.
شعر الحسين بن الضحاك فيه: حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال: لما ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحاك فهنأه بالخلافة وأنشده:
تجددت الدنيا بملـك مـحـمـد فأهلا وسهلا بالزمان المـجـدد
هي الدولة الغراء راحت وبكرت مشهرة بالرشد في كل مشهـد
لعمري لقد شدت عرا الدين بيعة أعز بها الرحمن كل مـوحـد
هنتك أمير المؤمـنـين خـلافة جمعت بها أهواء أمة محـمـد قال: فأظهر إكرامه والسرور به، وقال له: إن في بقائك بهاء بالملك، وقد ضعفت عن الحركة، فكاتبني بحاجاتك ولا تحمل على نفسك بكثرة الحركة. ووصله بثلاثة آلاف دينار ليقضي بها دينا بلغه أنه عليه.
قال: وقال الحسين بن الضحاك فيه وقد ركب الظهور وراءه الناس، وهو آخر شعر قاله:
ألا ليت شعري أبـدر بـدا نهارا أم الملك المنتصـر
إمام تـضـمـن أثـوابـه على سرجه قمرا من بشر
حمى الله دولة سلطـانـه بجند القضاء وجند القـدر
فلا زال ما بـقـيت مـدة يروح بها الدهر أو يبتكر قال: وغنى فيه بنان وعريب.
شعر يزيد المهلبي فيه: حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: أول قصيدة أنشدها أبي في المنتصر بعد أن ولي الخلافة:
ليهنك ملك بالـسـعـادة طـائره موارده محمـودة ومـصـادره
فأنت الذي كنا مرجي فلم نـخـب كما يرتجى من واقع الغيب باكره
بمنتصر باللـه تـمـت أمـورنـا ومن ينتصر بالله فالله نـاصـره فأمر المنتصر عريب أن تغني نشيدا في أول الأبيات وتجعل البسيط في البيت الأخير؛ فعملته وغنته به.
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد قال: صلى المنتصر بالناس في الأضحى سنة سبع وأربعين ومائتين؛ فأنشده أبي لما انصرف:
ما استشرف الناس عيدا مثل عيدهم مع الإمام الذي بالله ينـتـصـر
غدا بجمع كجنح اللـيل يقـدمـه وجه أغر كما يجلو الدجى القمر
يأمهم صادع بالحـق أحـكـمـه حزم وعلم بمـا يأتـي ومـا يذر
لو خير الناس فاختاروا لأنفسـهـم أحظ منك لما نالـوه مـا قـدروا قال: فأمر لهم بألف دينار، وتقدم إلى ابن المكي أن يغني في الأبيات.
غناه بنان بن عمرو بشعر مروان فأمره ألا يغني في شعر آل أبي حفصة:
صفحة : 1054
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني بنان بن عمرو المغني قال: غنيت يوما بين يدي المنتصر:
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هـلالـهـا فقال لي: إياك وأن تغني بحضرتي هذا الصوت وأشباهه، فما أحب أن أغنى إلا في أشعار آل أبي حفصة خاصة.
غناء المعتز بالله
وممن هذه سبيله في صنعة الغناء المعتز بالله: فإني لم أجد له منها شيئا إلا ما ذكره الصولي في أخباره؛ فأتيت بما حكاه للعلة التي قدمتها من أني كرهت أن يخل الكتاب بشيء قد دونه الناس وتعارفوه. فمما ذكر أنه غنى فيه: صوت
لعمري لقد أصحرت خيلنا بأكناف دجلة للمصعـب
فمن يك منا يبـت آمـنـا ومن يك من غيرنا يهرب الشعر لعدي بن الرقاع. والغناء للمعتز خفيف رمل. وهذه الأبيات من قصيدة لعدي يقولها في الوقعة التي كانت بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير بطسوج مسكن، فقتل فيها مصعب بقرية من مسكن يقال لها دير الجاثليق، وذكرته الشعراء في هذه الأبيات:
لعمري لقد أصحرت خيلنا بأكناف دجلة للمصعـب
يهزون كل طويل القـنـا ة لدن ومعتدل الثعـلـب
فداؤك أمي وأبـنـاؤهـا وإن شئت زدت عليها أبي
وما قلتها رهـبة إنـمـا يحل العقاب على المذنب
إذا شئت نازلت مستقتـلا أزاحم كالجمل الأجـرب
فمن يك منا يبـت آمـنـا ومن يك من غيرنا يهرب أخبار عدي بن الرقاع ونسبه نسبه: هو عدي بن زيد بن مالك بن عدي بن الرقاع بن عصر بن عك بن شعل بن معاوية بن الحارث وهو عاملة بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. وأم معاوية بن الحارث عاملة بنت وديعة من قضاعة، وبها سموا عاملة. ونسبه الناس إلى الرقاع، وهو جد جده، لشهرته؛ أخبرني بذلك أبو خليفة عن محمد بن سلام.
شاعر أموي اختص بالوليد بن عبد الملك جعله ابن سلام في الطبقة الثالثة: وكان شاعرا مقدما عند بني أمية مداحا لهم خاصا بالوليد بن عبد الملك. وله بنت شاعرة يقال لها سلمى، ذكر ذلك ابن النطاح. وجعله محمد بن سلام في الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام. وكان منزله بدمشق. وهو من حاضرة الشعراء لا من باديتهم. وقد تعرض لجرير وناقضه في مجلس الوليد بن عبد الملك، ثم لم تتم بينهما مهاجاة، إلا أن جريرا قد هجاه تعريضا في قصيدته:
حي الهدملة من ذات المواعيس ولم يصرح لأن الوليد حلف إن هو هجاه أسرجه وألجمه وحمله على ظهره، فلم يصرح بهجائه.
ما جرى بينه وبين جرير في حضرة الوليد بن عبد الملك: أخبرني أبو خليفة إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو الغراف قال: دخل جرير على الوليد بن عبد الملك وهو خليفة وعنده عدي بن الرقاع العاملي. فقال الوليد لجرير: أتعرف هذا? قال: لا يا أمير المؤمنين. فقال الوليد: هذا عدي بن الرقاع. فقال جرير: فشر الثياب الرقاع، قال: ممن هو? قال: العاملي. فقال جرير: هي التي يقول فيها الله عز وجل عاملة ناصبة تصلى نارا حامية . ثم قال:
يقصر باع العاملي عن الندى ولكن أير العاملي طـويل فقال له عدي بن الرقاع:
أأمك كانت أخبرتك بطـولـه أم انت امرؤ لم تدر كيف تقول فقال لا بل أدري كيف أقول. فوثب العاملي إلى رجل الوليد فقبلها وقال: أجرني منه. فقال الوليد لجرير: لئن شتمته لأسرجنك ولألجمنك حتى يركبك فيعيرك الشعراء بذلك. فكنى جرير عن اسمه فقال:
إني إذا الشاعر المغرور حربنـي جار لقبر على مران مرمـوس
قد كان أشوث آبـاء فـورثـنـا شغبا على الناس في أبنائه الشوس
أقصر فإن نزارا لن يفاضـلـهـا فرع لئيم وأصل غير مغـروس
وابن اللبون إذا ما لز فـي قـرن لم يستطع صولة البزل القناعيس أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة:
صفحة : 1055
دخل جرير على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي. فقال له الوليد: أتعرف هذا? قال: لا، فمن هو? قال: هذا ابن الرقاع. قال فشر الثياب الرقاع، فممن هو? قال: من عاملة. قال: أمن التي قال الله تعالى فيها: عاملة ناصبة تصلى نارا حامية . فقال الوليد: والله ليركبنك لشاعرنا ومادحنا والراثي لأمواتنا تقول هذه المقالة يا غلام بإكاف ولجام. فقام إليه عمر بن الوليد فسأله أن يعفيه فأعفاه. فقال: والله لئن هجوته لأفعلن ولأفعلن. فلم يصرح بهجائه وعرض، فقال قصيدته التي أولها:
حي الهدملة من ذات المواعيس وقال فيها يعرض به:
قد جربت عركتي في كل معترك غلب الأسود فما بال الضغابيس فضل جرير عليه كثيرا في مجلس بعض الخلفاء: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعديب قال: ذكر كثير وعدي بن الرقاع العاملي في مجلس بعض خلفاء بني أمية، فامتروا فيهما أيهما أشعر وفي المجلس جرير. فقال جرير: لقد قال كثير بيتا هو أشهر وأعرف في الناس من عدي بن الرقاع نفسه؛ ثم أنشد قول كثير:
أأن زم أجمال وفـارق جـيرة وصاح غراب البين أنت حزين قال: فحلف الخليفة لئن كان عدي بن الرقاع أعرف في الناس من بيت كثير ليسرجن جريرا وليلجمنه وليركبن عدي بن الرقاع على ظهره. فكتب إلى واليه في المدينة: إذا فرغت من خطبتك فسل الناس من الذي يقول:
أأن زم أجمال وفـارق جـيرة وصاح غراب البين أنت حزين وعن نسب ابن الرقاع. فلما فرغ الوالي من خطبته قال: إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أسألكم من الذي يقول:
أأن زم أجمال وفارق جيرة قال: فابتدروا من كل وجه يقولون: كثير كثير. ثم قال: وأمرني أن أسأل عن نسب ابن الرقاع؛ فقالوا: لا ندري؛ حتى قام أعرابي من مؤخر المسجد فقال: هو من عاملة.
نقد محمد بن المنجم بيتا من شعره: أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال قال لي محمد بن المنجم: ما أحد ذكر لي فأحببت أن أراه فإذا رأيته أمرت بصفعه إلا عدي بن الرقاع. قلت: ولم ذلك? قال: لقوله:
وعلمت حتى ما أسائل عالما عن علم واحدة لكي أزدادها فكنت أعرض عليه أصناف العلوم، فكلما مر به شيء لا يحسنه أمرت بصفعه.
جاءه شعراء ليعارضوه فردت عليهم بنته فأفحمتهم: حدثني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال: كان عدي بن الرقاع ينزل بالشام، وكانت له بنت تقول الشعر. فأتاه ناس من الشعراء ليماتنوه وكان غائبا؛ فسمعت بنته وهي صغيرة لم تبلغ دور وعيدهم، فخرجت إليهم وأنشأت تقول:
تجمعتم من كل أوب وبـلـدة على واحد لا زلتم قرن واحد فأفحمتهم.
كان من أوصف الشعراء للمطية: وقال عبد الله بن مسلم: ومما ينفرد به ويقدم فيه وصف المطية؛ فإنه كان من أوصف الشعراء لها.
استحسن أبو عمرو شعره: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال: كنت عند أبي عمرو أعرض أو يعرض عليه رجل بحضرتي من شعر عدي بن الرقاع، وقرأت أو قرأ هذه الأبيات:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارهـا عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بـنـائم فقال أبو عمرو: أحسن والله . فقال رجل كان يحضر مجلسه أعرابي كأنه مدني: أما والله لو رأيته مشبوحا بين أربعة وقضبان الدفلى تأخذه لكنت أشد له استحسانا. يعني إذا كان يغني به على العود.
استحسن أبو عبيدة بيتا له: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن علي بن المغيرة قال: كان أبو عبيدة يستحسن بيت عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنـائم جدا ويقول: ما قال أحد في مثل هذا المعنى أحسن منه في هذا الشعر. وفي هذا الشعر غناء، نسبته: صوت
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارهـا عينيه أحور من جآذر جاسم
صفحة : 1056
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بـنـائم
ألمم على طلل عفا متقـادم بين الذؤيب وبين غيب الناعم عروضه من الكامل. الجآذر: جمع جؤذر وهي أولاد البقر الوحشية. وجاسم: موضع. ويروى في هذا الشعر عاسم مكان جاسم . والوسنان: النائم، والوسن النوم، الواحدة منه سنة. والترنيق: الدنو من الشيء يريد أن يفعله، يقال: رنقت العقاب لصيدها إذا دنت منه، وترنيقها أيضا أن تقصر عن الخفقان بجناحيها. ويقال: طير مرنقة إذا جاءت تطير ثم أرادت الوقوع ومدت أجنحتها فلم تخفق وترجحت. ويقال للقوم إذا قصروا في سيرهم، وللسابح إذا قصر في الخفق بيديه ورجليه: قد رنقوا ترنيقا. الشعر لعدي بن الرقاع. والغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيه ثقيل أول بالبنصر ينسب إليه أيضا وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى بن المكي إليه.
استحسن أبو عمرو شعره واستحسن مدني الغناء به: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو قال: كنت عند أبي ورجل يقرأ عليه شعر عدي بن الرقاع. فلما قرأ عليه القصيدة التي يقول فيها:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم قال أبي: أحسن والله عدي بن الرقاع . قال: وعنده شيخ مدني جالس، فقال الشيخ: والله لئن كان عدي أحسن لما أساء أبو عباد. قال أبي: ومن هو أبو عباد? قال: معبد. والله لو سمعت لحنه في هذا الشعر لكان طربك أشد واستحسانك له أكثر. فجعل أبي يضحك.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن جرير عن محمد بن سلام قال: عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الرحمن عن الأردن وضربه وحلقه وأقامه للناس وقال للمتوكلين به: من أتاه متوجعا وأثنى عليه فأتوني به. فأتى عدي بن الرقاع، وكان عبيدة إليه محسنا فوقف عليه وأنشأ يقول:
فما عزلوك مسبوقا ولكـن إلى الخيرات سباقا جوادا
وكنت أخي وما ولدتك أمي وصولا باذلا لي مسترادا
وقد هيضت لنكبتك القدامى كذاك الله يفعل مـا أرادا فوثب المتوكلون به إليه، فأدخلوه إلى الوليد واخبروه بما جرى. فتغيظ عليه الوليد وقال له: أتمدح رجلا قد فعلت به ما فعلت . فقال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إلي محسنا ولي مؤثرا، وبي برا؛ ففي أي وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم فقال: صدقت وكرمت فقد عفوت عنك وعنه لك فخذه وانصرف. فانصرف به إلى منزله.
عده جرير أنسب الشعراء لشعر له: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال نوح بن جرير لأبيه: يا أبت، من أنسب الشعراء? قال له: أتعني ما قلت? قال: إني لست أريد من شعرك إنما أريد من شعر غيرك. قال: ابن الرقاع في قوله:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم الثلاثة الأبيات. ثم قال لي: ما كان يبالي أن لم يقل بعدها شيئا.
عجب جرير من توفيقه في تشبيه دقيق: أخبرني الحسن بن علي عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: قال جرير: سمعت عدي بن الرقاع ينشد:
تزجي أغن كأن إبرة روقه فرحمته من هذا التشبيه فقلت: بأي شيء يشبهه ترى فلما قال:
قلم أصاب من الدواة مدادها رحمت نفسي منه.
تابع روح بن زنباع ثم خالفه وتابع نائل بن قيس في نسبهم: أخبرني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن أبي عبيدة قال: مال روح بن زنباع الجذامي إلى يزيد بن معاوية لما فصل بين الخطبتين فقال: يا أمير المؤمنين، ألحقنا بإخوتنا من معد فإنا معديون، والله ما نحن من قصب الشأم ولا من زعاف اليمن. فقال يزيد: إن أجمع قومك على ذلك جعلناك حيث شئت. فبلغ ذلك عدي بن الرقاع فقال:
إنا رضينا وإن غابت جماعتنـا ما قال سيدنا روح بن زنبـاع
يرعى ثمانين ألفا كان مثلـهـم مما يخالف أحيانا على الراعي
صفحة : 1057
قال: فبلغ ذلك نائل بن قيس الجذامي، فجاء يركض فرسه حتى دخل المقصورة في الجمعة الثانية، فلما قام يزيد على المنبر، وثب فقال: أين الغادر الكاذب روح بن زنباع? فأشاروا إلى مجلسه. فأقبل عليه وعلى يزيد ثم قال: يا أمير المؤمنين، قد بلغني ما قال لك هذا، وما نعرف شيئا منه ولا نقر به، ولكنا قوم من قحطان يسعنا ما يسعهم ويعجز عنا ما يعجز عنهم. فأمسك روح ورجع حن رأيه. فقال عدي بن الرقاع في ذلك:
أضلال ليل ساقط أكـنـافـه في الناس أعذر أم ضلال نهار
قحطان والدنا الذي ندعـى لـه وأبو خزيمة خندف بن نـزار
أنبيع والدنا الذي نـدعـى لـه بأبي معاشر غائب مـتـواري
تلك التجارة لا زكاء لمثلـهـا ذهـب يبـاع بـآنـك وإبـار فقال له يزيد: غيرت يابن الرقاع. قال: إن ناثلا والله علي أعزهما سخطا، وأنصحما لي ولعشيرتي. قال أبو عبيدة: الإبار: جمع إبرة.
ما كان بينه وبين ابن سريج في حضرة الوليد بن عبد الملك: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم: أن الأحوص و ابن سريج قدما المدينة ، فنزلا في بعض الخانات ليصلحا من شأنهما، وقد قدم عدي بن الرقاع وكانت هذه حاله، فنزل عليهما. فلما كان في بعض الليل أفاضوا في الأحادث؛ فقال عدي بن الرقاع لابن سريج: والله لخروجنا كان لأمير المؤمنين أجدى علينا من المقام معك يا مولى بني نوفل. قال: وكيف ذلك? قال: لأنك توشك أن تلهينا فتشغلنا عما قصدنا له. فقال له ابن سريج: أو قلة شكر أيضا فغضب عدي وقال: أنك لتمن علينا أن نزلنا عليك؛ وإني أعاهد الله ألا يظلني وإياك سقف إلا أن يكون بحضرة أمير المؤمنين. وخرج من عندهما. وقدم الوليد من باديته فأذن لهما فدخلا. وبلغه خبر ابن الرقاع وما جرى بينه وبين ابن سريج؛ فأمر بابن سريج فأخفي في بيت ودعا بعدي فأدخله؛ فأنشد قصيدة امتدحه بها. فلما فرغ، أومأ إلى بعض الخدم فأمر ابن سريج فغنى في شعر عدي بن الرقاع يمدح الوليد:
عرف الديار توهما فاعتادها من بعدها شمل البلى أبلادها فطرب عدي وقال: لا والله ما سمعت يا أمير المؤمنين بمثل هذا قط ولا ظننت أن يكون مثله طيبا وحسنا. ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت طائف من الجن. أيأذن لي أمير المؤمنين أن أقول? قال: قل. قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين وهو يبعث إلى ابن سريج يتخطى به قبائل العرب فيقال: ابن سريج المغني مولى بني نوفل بعث أمير المؤمنين إليه . فضحك ثم قال للخادم: أخرجه فخرج. فلما رآه عدي أطرق خجلا ثم قال: المعذرة إلى الله وإليك يا أخي، فما ظننت أنك بهذه المنزلة، وإنك لحقيق أن تحتمل على كل هفوة وخطيئة. فأمر لهم الوليد بمال سوى بينهم فيه، ونادمهم يومئذ إلى الليل.
نسبة هذا الصوت المذكور في هذا الخبر وسائر ما مضى في أخبار عدي قبله من الأشعار التي فيها غناء: صوت
عرف الدار توهما فاعتادهـا من بعد ما شمل البلى أبلادها
إلا رواكد كلهن قد اصطلـى حمراء أشعل أهلهـا إيقـادا عروضه من الكامل. الشعر لعدي بن الرقاع. والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
أفحمه كثير في حضرة الوليد بن عبد الملك: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: أنشد عدي بن الرقاع الوليد بن عبد الملك قصيدته التي أولها:
عرف الديار توهما فاعتادها وعنده كثير وقد كان يبلغه عن عدي أنه يطعن على شعره ويقول: هذا شعر حجازي مقرور إذا أصابه قر الشأم جمد وهلك. فأنشده إياها حتى أتى على قوله:
وقصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوم ميلها وسنادها فقال له كثير: لو كنت مطبوعا أو فصيحا أو عالما لم تات فيها بميل ولا سناد فتحتاج إلى أن تقومها. ثم أنشد:
نظر المثقف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه مـنـآدهـا فقال له كثير: لا جرم أن الأيام إذا تطاولت عليها عادت عوجاء، ولأن تكون مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف أجود لها. ثم أنشد:
وعلمت حتى ما أسائل واحدا عن علم واحدة لكي أزدادها
صفحة : 1058
فقال كثير: كذبت ورب البيت الحرام فليمتحنك أمير المؤمنين بأن يسألك عن صغار الأمور دون كبارها حتى يتبين جهلك. وما كنت قط أحمق منك الآن حين تظن هذا بنفسك. فضحك الوليد ومن حضر، وقطع بعدي بن الرقاع حتى ما نطق.
أخبار المعتز في الأغاني ومع المغنين وما جرى هذا المجرى شعره في جارية يهواها: حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني جدي حمدون بن إسماعيل قال: اصطبح المعتز في يوم ثلاثاء ونحن بين يديه ثم وثب فدخل، واعترضته جارية كان يحبها ولم يكن ذلك اليوم من أيامها فقبلها وخرج؛ فحدثني بما كان وأنشدني لنفسه في ذلك: صوت
إني قمرتك يا سؤلـي ويا أمـلـي أمرا مطاعا بلا مطل ولا عـلـل
حتى متى يا حبيب النفس تمطلنـي وقد قمرتك مرات فلم تـف لـي
يوم الثلاثاء يوم سـوف أشـكـره إذ زارني فيه من أهوي على عجل
فلم أنل منه شيئا غـير قـبـلـتـه وكان ذلك عند أعظـم الـنـفـل قال: وعمل فيه لحن خفيف وشربنا عليه سائر يومنا. الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل عن الهشامي. ولأبي العبيس في الثالث والرابع هزج.
طارحه بنان المغني في بيت من الشعر وتغنى فيه: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال: كان المعتز يشرب على بستان مملوء من النمام وبين النمام شقائق النعمان، فدخل إليه يونس بن بغا وعليه قباء أخضر؛ فقال المعتز: صوت
شبهت حمرة خده في ثوبه بشقائق النعمان في النمام ثم قال: أجيزوا. فابتدر بنان المغني، وكان ربما عبث بالبيت بعد البيت، فقال:
والقد منه إذا بدا في قرطـق كالغصن في لين وحسن قوام فقال له المعتز: فغن فيه الآن، فعمل فيه لحنا. لحن بنان في هذين البتيين من خفيف الثقيل الثاني وهو الماخوري.
أخبر بوفاة أم يونس بن بغا ففتر المجلس ثم عاد أحسن ما كان: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال: شرب المعتز ويونس بن بغا بين يديه يسقيه والجلساء والمغنون بين يديه وقد أعد الخلع والجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا أمير المؤمنين، والدة عبدك يونس في الموت وهي تحب أن تراه؛ فأذن له فخرج. وفتر المعتز ونعس بعده، وقام الجلساء وتفرق المغنون، إلى أن صليت المغرب، وعاد المعتز إلى مجلسه، ودخل يونس وبين يديه الشموع. فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه وسقى يونس رطلا وغناه المغنون، وعاد المجلس أحسن ما كان؛ فقال المعتز: صوت
تغيب فـلا أفـرح فليتك ما تـبـرح
وإن جئت عذبتنـي بأنك لا تـسـمـح
فأصبحت ما بين ذي ن لي كبد تجـرح
على ذاك يا سـيدي دنوك لي أصلـح ثم قال: غنوا فيه، فجعلوا يفكرون. فقال المعتز لسليمان بن القصار الطنبوري: ويلك ألحان الطنبور أملح وأخف فغن فيه أنت؛ فغنى فيه لحنا؛ فدفع إليه دنانير الخريطة وهي مائة دينار مكية ومائتان مكتوب على كل دينار منها ضرب هذا الدينار بالجوسق بخريطة أمير المؤمنين المعتز بالله ثم دعا بالخلع والجوائز لسائر الناس، فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس.
لحن سليمان بن القصار في هذه الأبيات رمل مطلق.
لما قتل بغا هنأه الناس بالظفر: حدثني الصولي قال حدثني محمد بن عبد السميع الهاشمي قال حدثني أبي قال: لما قتل بغا دخلنا فهنأنا المعتز بالظفر، فاصطبح ومعه يونس بن بغا، وما رأينا قط وجهين اجتمعا أحسن من وجهيهما. فما مضت ثلاث ساعات حتى سكر، ثم خرج علينا المعتز فقال:
ما إن ترى منظرا إن شئته حسنـا إلا صريعا يهادى بين سـكـرين
سكر الشراب وسكر من هوى رشأ تخاله والذي يهـواه غـصـنـين ثم أمر فتغنى فيه بعض المغنين.
قصة المعتز ويونس بن بغا مع ديراني: حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق الخراساني قال حدثني الفضل بن العباس بن المأمون قال:
صفحة : 1059
كنت مع المعتز في الصيد، فانقطع عن الموكب وأنا ويونس بن بغا معه، ونحن بقرب قنطرة وصيف، وكان هناك دير فيه ديراني يعرفني وأعرفه، نظيف ظريف مليح الأدب واللفظ. فشكا المعتز العطش. فقلت: يا أمير المؤمنين، في هذا الدير ديراني أعرفه خفيف الروح لا يخلو من ماء بارد، أفترى أن نميل إليه? قال نعم. فجئناه فأخرج لنا ماء باردا وسألني عن المعتز ويونس فقلت: فتيان من أبناء الجند؛ فقال: بل مفلتان من حور الجنة. فقلت له: هذا ليس في دينك. فقال: هو الآن في ديني. فضحك المعتز. فقال لي الديراني: أتأكلون شيئا? قلت نعم. فأخرج شطيرات وخبزا وإداما نظيفا، فأكلنا أطيب أكل، وجاءنا بأطراف أشنان. فاستظرفه المعتز وقال لي: قل له فيما بينك وبينه: من تحب أن يكون معك من هذين لا يفارقك. فقلت له، فقال: كلاهما وتمرا . فضحك المعتز حتى مال على حائط الدير. فقلت للديراني: لا بد من أن تختار. فقال: الأختيار والله في هذا دمار، وما خلق الله عقلا يميز بين هذين. ولحقهما الموكب، فارتاع الديراني. فقال له المعتز: بحياتي لا تنقطع عما كنا فيه، فإني لمن ثم مولى ولمن ها هنا صديق. فمزحنا ساعة؛ ثم أمر له بخمسمائة ألف درهم. فقال : والله ما أقبلها إلا على شرط. قال: وما هو? قال: يجيب أمير المؤمنين دعوتي مع من أراد. قال: ذلك لك. فاتعدنا ليوم جئناه فيه، فلم يبق غاية، وأقام للموكب كله ما احتاج إليه، وجاءنا بأولاد النصارى يخدموننا. ووصله المعتز يومئذ صلة سنية؛ ولم يزل يعتاده ويقيم عنده.
ولي الخلافة وله سبع عشرة سنة، وشعره في ذلك: حدثني الصولي قال حدثنا عبد الله بن المعتز قال: بويع للمعتز بالخلافة وله سبع عشرة سنة كاملة وأشهر. فلما انقضت البيعة قال:
توحدني الرحمن بالعز والعلا فأصبحت فوق العالمين أميرا هكذا ذكر الصولي في قافية الشعر. ووجدته في أغاني بنان مرفوع القافية، وله فيه صنعة. ولعل المعتز قال البيت، فأضاف بنان إليه آخر وجعل المخاطبة عن نفسه للمعتز فقال: صوت
توحدك الرحمن بالعز والعـلا فأنت على كل الأنـام أمـير
تقاتل عنك الترك والخزر كلها كأنهـم أسـد لـهـن زئير الغناء لبنان لحنان خفيف ثقيل وخفيف رمل. ومما قاله المعتز وغنى فيه قوله - ذكر الصولي أن عبد الله بن المعتز أنشده إياه لأبيه -: صوت
ألا حي الحبيب فدته نفسي بكأس من مدامة خانقينـا
فإني قد بقيت مع الليالـي أقاسي الهم في يده سنينا الغناء فيه لعريب خفيف رمل، ولبنان هزج.
وممن ذكر أن له صنعة من الخلفاء المعتمد.
غناء المعتمد
قال محمد بن يحيى الصولي ذكر عبد الله بن المعتز عن القاسم بن زرزور أن المعتمد ألقى عليه لحنا صنعه في هذا الشعر وهو:
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا الشعر للفرزدق. والغناء للمعتمد، ولحنه فيه خفيف ثقيل. هذه حكاية الصولي. وفي غناء عريب: لها في هذا البيت خفيف ثقيل. ولا أعلم لمن هو منهما على صحة، إلا أن المشهور في أيدي الناس أنه لعريب. ولم أسمع للمعتمد غناء إلا من هذه الجهة التي ذكرتها.
ذكر أخبار الفرزدق في هذا الشعر خاصة
دون غيره
لأن أخباره كثيرة جدا، فكرهت أن أثبتها ها هنا في غناء مشكوك فيه، فذكرت نسبه وخبره في هذا الشعر خاصة، وأخباره تأتي بعد هذا في موضع مفرد يتسع لطول أحاديثه نسبه: الفرزدق لقب غلب عليه. واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
هو وجرير والأخطل أشعر طبقات الإسلاميين: وهو وجرير والأخطل أشعر طبقات الإسلاميين والمقدم في الطبقة الأولى منهم. وأخباره تذكر مفردة في موضع آخر يتسع لها، ونذكر ها هنا في هذا المعنى. فأخبرني خبره في ذلك جماعة. فممن أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة، وأخبرني به أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام، وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي، قال عمر بن شبة خاصة في خبره حدثني محمد بن يحيى قال حدثني أبي:
صفحة : 1060
حديث الفرزدق والنوار وذمه بني قيس وزهيرا وبني أم النسير لمعاونتهم إياها: أن عبد الله بن الزبير تزوج تماضر بنت منظور بن زبان، وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة، فخاصم الفرزدق امرأته النوار إلى ابن الزبير. هكذا ذكر محمد بن يحيى ولم يذكر السبب في الخصومة، وذكرها عمر بن شبة ولم يروها عن أحد، وذكرها ابن حبيب عن أصحابه، وذكرها أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة: أن رجلا من بني أمية خطب النوار بنت أعين المجاشعية، فرضيته وجعلت أمرها إلى الفرزدق. فقال: أشهدي لي بذلك على نفسك شهودا ففعلت، واجتمع الناس لذلك. فتكلم الفرزدق ثم قال: اشهدوا أني قد تزوجتها وأصدقتها كذا وكذا، فأنا ابن عمها وأحق بها. فبلغ ذلك النوار فأبته واستترت من الفرزدق وجزعت ولجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري. فقال فيها:
بني عاصم لا تلجئوها فإنكـم ملاجئ للسوءات دسم العمائم
بني عاصم لولا كان حيا أبوكم للام بنيه اليوم قيس بن عاصم فقالوا: والله لئن زدت على هذين البيتين لتقتلنك غيلة. فنافرته إلى عبد الله بن الزبير وأرادت الخروج إليه؛ فتحامى الناس كراءها. ثم إن رجلا من بني عدي يقال له زهير بن ثعلبة وقوما يعرفون ببني أم النسير أكروها؛ فقال الفرزدق:
ولولا أن تقول بني عدي أليست أم حنظلة النوار
أتتكم يابني ملكان عنـي قواف لا تقسمها التجار يعني بالنوار ها هنا بنت جل بن عدي بن عبد مناة وهي أم حنظلة بن مالك بن زيد مناة وهي إحدى جداته. وقال فيها أيضا:
سرى بالنوار عوهجي يسـوقـه عبيد قصير الشبر نائي الأقارب
تؤم بلاد الأمـن دائبة الـسـرى إلى خير وال من لؤي بن غالب
فدونك عرسي تبتغي نقض عقدتي وإبطال حقي باليمين الـكـواذب وقال أيضا:
ولولا أن أمـي مـن عـدي وأني كاره سخط الربـاب
إذا لأتى الدواهي من قريب جزاء غير منصرف العقاب
وصلت على بني ملكان مني بجيش غير منتظـر الإياب وقال لزهير أيضا:
لبئس العبء يحمله زهير على أعجاز صرمته نوار
لقد أهدت وليدتنا إلـيكـم عوائر لا تقسمها التجـار وقال لبني أم النسير:
لعمري لقد أردى النوار وسـاقـهـا إلى الغور أحلام خفاف عقولـهـا
أطاعت بني أم النسير فأصـبـحـت على قتب يعلو الـفـلاة دلـيلـهـا
وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى به قبلها الأزواج خاب رحـيلـهـا
وإن امرأ أمسى تحبـب زوجـتـي كماش إلى أسد الشرى يستبـيلـهـا
ومن دون أبـوال الأسـود بـسـالة وبسطة أيد يمنع الضيم طـولـهـا
وإن أمير الـمـؤمـنـين لـعـالـم بتأويل ما أوصى العباد رسـولـهـا
فدونكها يابـن الـزبـير فـإنـهـا مولعة يوهي الحجـارة قـيلـهـا استشفعت النوار إلى ابن الزبير امرأته فاستشفع هو بابنه حمزة: فلما قدمت مكة نزلت على بنت منظور بن زبان، واستشفعت بها إلى زوجها عبد الله. وانضم الفرزدق إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير وأمه بنت منظور هذه، ومدحه فقال:
أصبحت قد نزلت بحمزة حاجتي إن المنوه باسمه الـمـوثـوق الأبيات. وقال فيه أيضا:
يا حمز هل لك في ذي حاجة غرضت أنضاؤه بمكـان غـير مـمـطـور
فأنت أحرى قريش أن تكـون لـهـا وأنت بين أبي بـكـر ومـنـظـور
بين الحواري والصديق في شـعـب نبتنا في طـيب الإسـلام والـخـير هذه الأبيات كلها من رواية أبي زيد خاصة. قالوا جميعا: وقال في النوار:
هلمي لابن عمك لا تكونـي كمختار على الفرس الحمارا وقال فيها ايضا:
تخاصمني النوار وغاب فيها كرأس الضب يلتمس الجرادا قال أبو زيد في خبره خاصة: فجعل أمر الفرزدق يضعف وأمر النوار يقوى. وقال الفرزدق:
أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم وشفعت بنت منظور بن زبانا صوت
صفحة : 1061
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا - غنت في هذا البيت عريب خفيف ثقيل أول بالبنصر - فبلغ ابن الزبير هذا فدعا النوار فقال: إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبدا، وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو. فقالت: ما أريد واحدة منهما. قال: فإنه ابن عمك وهو فيك راغب، أفأزوجه إياك? قالت نعم. فزوجه إياها. فكان الفرزدق يقول: خرجنا متباغضين فرجعنا متحابين.
هدده ابن الزبير وعيره جلاء قومه تميم عن البيت فقال في ذلك شعرا: أخبرني أحمد قال حدثني عمرو بن شبة قال قال عثمان بن سليمان: شهدت الفرزدق يوم نازع النوار فتوجه القضاء عليه، فأشفق من ذلك وتعرض لابن الزبير بكلام أغضبه، وكان ابن الزبير حديدا. فقال له ابن الزبير: أيا ألأم الناس وهل أنت وقومك إلا جالية العرب وأمر به فأقيم. واقبل علينا فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه؛ وأجمعت العرب عليها لما انتهكت ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة. فلما كان في طائفة من ذلك اليوم لقيني الفرزدق فقال: هيه أيعيرنا ابن الزبير جلاءنا عن البيت اسمع ثم قال:
فإن تغضب قريش ثم تغضب فإن الأرض ترعاها تمـيم
هم عدد النجوم وكـل حـي سواهم لا تعد لهم نـجـوم
فلولا بنت مـر مـن نـزار لما صح المنـابـت والأديم
بها كثر العديد وطاب منكـم وغيركم أحذ الـريش هـيم
فمهلا عن تذلل من عززتـم بخولته وعز به الـحـمـيم
أعبد الله مهلا عـن أذاتـي فإني لا الضعيف ولا السؤوم
ولكني صفـاة لـم تـؤبـس تزل الطير عنها والعصـوم
أنا ابن العاقر الخور الصفايا بصوءر حيث فتحت العكوم وذكر الزبير بن بكار عن عمه أن عبد الله بن الزبير لما حكم على الفرزدق قال: إنما حكمت علي بهذا لأفارقها فتثب عليها؛ وأمر به فأقيم، وقال له ما قال في بني تميم. قال: ثم خرج عبد الله بن الزبير إلى المسجد فرأى الفرزدق في بعض طرق مكة وقد بلغته أبياته التي قالها، فقبض ابن الزبير على عنقه فكاد يدقها، ثم قال:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا ولو رضيت رمح استه لاستقرت قال الزبير: وهذا الشعر لجعفر بن الزبير.
ماكان بينه وبين ابن الزبير بعد ما قال له ما حاجتك بالنوار وقد كرهتك: أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا ابن سلام قال أخبرنا إبراهيم بن حبيب الشهيد قال: قال ابن الزبير للفرزدق: ما حاجتك بها وقد كرهتك كن لها أكره وخل سبيلها. فخرج وهو يقول: ما أمرني بطلاقها إلا ليثب عليها. فبلغ ذلك ابن الزبير فخرج وقد استهل هلال ذي الحجة ولبس ثياب الإحرام يريد البيت الحرام، فألفى الفرزدق بباب المسجد عند الباعة، فأخذ بعنقه فغمزها حتى جعل رأسه بين ركبتيه وقال:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا ولو رضيت رمح استه لاستقرت قال الزبير: وهذا البيت لجعفر بن الزبير.
هجاه جعفر بن الزبير فنهاه أخوه عن ذلك: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى عن أبيه قال: لما قال الفرزدق في ابن الزبير:
أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم وشفعت بنت منظور بن زبانا قال جعفر بن الزبير:
ألا تلكم عرس الفرزدق جامحـا ولو رضيت رمح استه لاستقرت فقال عبد الله بن الزبير: أتجزرنا كلبا من كلاب بني تميم لئن عدت لم أكلمك أبدا.
قال: وتماضر التي عناها الفرزدق أم خبيب وثابت ابني عبد الله بن الزبير. وماتت عند عبد الله، فتزوج أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا.
قال: وفي أم هاشم يقول الفرزدق يستعينها على ابن الزبير ويشكو طول مقامه:
تروحت الركبان يا أم هاشم وهن مناخات لهن حـنـين
وخيسن حتى ليس فيهن نافق لبيع ولا مركوبهن سمـين قال: وهذا يدل على أن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتماضر.
فلما أذنت النوار في تزويجها منه استعان في مهرها سلم بن زيد فأعانه:
صفحة : 1062
فما أذنت النوار لعبد الله في تزويجها بالفرزدق حكم لها عليه بمهر مثلها عشرة آلاف درهم. فسأل: هل بمكة أحد يعينه? فدل على سلم بن زياد، وكان ابن الزبير حبسه، فقال فيه:
دعي مغلقي الأبواب دون فعالهمومري تمشي بي هبلت إلى سلم
إلى من يرى المعروف سهلا سبيله ويفـعـل أفـعـال الـكـرام الـتــي تـــنـــمـــي ثم دخل على سلم فأنشده. فقال له: هي لك ومثلها نفقتك، ثم أمر له بعشرين ألفا فقبضها. فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاصي الثقفية: أعطي عشرين ألفا وأنت محبوس فقال:
ألا بكرت عرسي تلـوم سـفـاهة على ما مضى مني وتأمر بالبخـل
فقلت لها و الجود مـنـي سـجـية وهل يمنع المعروف سؤاله مثلـي
ذريني فإني غير تارك شـيمـتـي ولا مقصر عن السماحة والـبـذل
ولا طارد ضيفي إذا جاء طـارقـا فقد طرق الأضياف شيخي من قبلي
أأبخل إن البخل ليس بـمـخـلـد ولا الجود يدنيني إلى الموت والقتل
أبيع بـنـي حـرب بـآل خـويلـد وما ذاك عند الله في البيع بالعـدل
وأشري ابن مروان الخليفة طـائعـا بنجل بني العوام قبح من نـجـل
فإن تظهروا لي البخل آل خـويلـد فما دلكم دلي ولا شكلكم شكـلـي
وإن تقهروني حيث غابت عشيرتـي فمن عجب الأيام أن تقهروا مثلـي لم تحسن النوار عشرته فتزوج عليها حدراء بنت زيق ومدحها وذم النوار: قال دماذ في خبره: ثم اصطلحا ورضيت به، وساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن تخرج من مكة ثم خرج بها وهما عديلان في محمل. فكانت لا تزال تشاوره وتخالفه، لأنها كانت صالحة حسنة الدين وكانت تكره كثيرا من أمره. فتزوج عليها حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، فتزوجها على مائة من الإبل. فقالت له النوار: ويلك تزوجت أعرابية دقيقة الساقين بوالة على عقبيها على مائة بعير . فقال الفرزدق يفضلها عليها ويعيرها إنها كانت تربيها أمة:
لجارية بين السلـيل عـروقـهـا وبين أبي الصهباء من آل خـالـد
أحق بإغلاء المهور مـن الـتـي ربت وهي تنزو في حجور الولائد ومدحها أيضا فقال:
عقيلة من بني شيبان ترفعـهـا دعائم للعلا مـن آل هـمـام
من آل مرة بين المستضاء بهـم من رهط صيد مصاليت وحكام
بين الأحاوص من كلب مركبها وبين قيس بن مسعود وبسطـام وقال أيضا يمدحها ويعرض بالنوار:
لعمري لأعرابية في مظـلـمة تظل بأعلى بيتها الريح تخفـق
كأم غـزال أو كـدرة غـائص إذا ما أنت مثل الغمامة تشـرق
أحب إلينا من ضنـاك ضـفـنة إذا وضعت عنها المراوح تعرق فقال بعض باهلة يجيبه:
أعوذ بالله من غـول مـغـولة كأن حافرها في الحد ظنبـوب
تستروح الشاة من ميل إذا ذبحت حب اللحام كما يستروح الذيب هاجاه جرير بإغراء النوار: وأغضب الفرزدق النوار بمدحه إياها، فقالت: والله لأخزينك يا فاسق وبعثت إلى جرير فجاءها؛ فقالت: ألا ترى ما قال لي الفاسق وشكت إليه. فقال:
فلا أنا معطي الحكم عن شف منصب ولا عن بنات الحنظـلـيين راغـب
وهن كماء المزن يشفى به الصـدى وكانت ملاحا غيرهن المـشـارب
لقد كنت أهلا أن تـسـوق دياتـكـم إلـى آل زيق أن يعـيبـك عـائب
وما عدلت ذات الصلـيب ظـعـينة عتيبة والردفان منـهـا وحـاجـب
ألا ربما لم نعط زيقـا بـحـكـمـه وأدى إلينا الحكـم والـغـل لازب
حوينـا أبـا زيق وزيقـا وعـمـه وجده زيق قد حوتها الـمـقـانـب فأجابه الفرزدق بقصيدة منها:
ألست إذ القعساء أنسل ظهرها إلى آل بسطام بن قيس بخاطب
فنل مثلها من مثلهم ثم لمـهـم بملكك من مال مراح وعازب
صفحة : 1063
فلو كنت من أكفاء حدراء لم تلم على دارمي بين ليلى وغالـب
وإني لأخشى إن خطبت إليهـم عليك التي لاقى يسار الكواعب - يسار كان عبدا لبني غدانة، فأراد مولاته على نفسها، فنهته مرة بعد مرة، وألح فوعدته، فجاء فقالت له: إني أريد أن أبخرك فإن رائحتك متغيرة، فوضعت تحته مجمرة وقد أعدت له حديدة حادة، فأدخلت يدها فقبضت على ذكره وهو يرى أن ذلك لشيء، فقطعته بالموسى؛ فقال: صبرا على مجامر الكرام فذهبت مثلا - عاد الشعر:
ولو قبلوا مني عطية سـقـتـه إلى آل زيق من وصيف مقارب
هم زوجوا قبلي ضرارا وأنكحوا لقيطا وهم أكفاؤنا في المناسـب
ولو تنكح الشمس النجوم بناتـهـا إذا لنكحناهن قبل الـكـواكـب وقال جرير:
يا زيق أنكحت قينا بـاسـتـه حـمـم يا زيق ويحك من أنـكـحـت يا زيق
غاب المثنى فلم يشـهـد نـجـيكـمـا والحوفزان ولم يشـهـدك مـفـروق
أين الألى أنزلوا النعمان مـقـتـسـرا أم أين أبنـاء شـيبـان الـغـرانـيق
يارب قـائلة بـعـد الـبـنـاء بـهـا لا الصهر راض و لا ابن القين معشوق وقال الفرزدق لجرير في هذا:
إن كان أنفك قد أعياك محمـلـه فأركب أتانك ثم اخطب إلى زيق قال: ولامه الحجاج وقال: أتزوجت ابنة نصراني على مائة ناقة? قال: وما هي في جود الأمير قال: فاشترى الإبل وساقها.
رأى في طريقه إلى حدراء كبشا مذبوحا فتشاءم بموتها وشعره حين أخبر بوفاتها: فلما كان في بعض الطريق ومعه أوفى بن خنزير أحد بني التيم بن شيبان بن ثعلبة دليله رأى كبشا مذبوحا، فقال: يا أوفى، هلكت والله حدراء . قال: ما لك بذلك من علم . فلما بلغ قال له بعض قومها: هذا البيت فانزل، وأما حدراء فهلكت. وقد عرفنا الذي يصيبكم في دينكم من ميراثها وهو النصف فهو لك عندنا. فقال: لا والله لا أرزأ منه قطميرا، وهذه صدقتها فاقبضوها. فقال: يا بني دارم والله ما صاهرنا أكرم منكم. قال: وفي هذه القصة يقول الفرزدق:
عجبت لحادينا المقـحـم سـيره بنا موجفات من كلال وظلعـا
ليدنينا مـمـن إلـينـا لـقـاؤه حبيب ومن دار أردنا لتجمعـا
ولو يعلم الغيب الذي من أمامنـا لكر بنا حادي المطي فأسرعـا
يقولون زر حدراء والترب دونها وكيف بشيء وصله قد تقطعـا
وما مات عند ابن المراغة مثلها ولا تبعته ظاعنا حـيث ودعـا
يقول ابن خنزير بكيت ولم تكـن على امرأة عينا أخيك لتدمعـا
وأهون رزء لامرئ غير جازع رزية مرتج الروادف أفرعـا استعان الحجاج في مهر حدراء فعذله فشفع له عنبسة بن سعيد: وقال ابن سلام فيما أخبرنا به أبو خليفة عنه قال حدثني حاجب بن زيد وأبو الغراف قالا: تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين وهو عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان على حكم أبيها فاحتكم مائة من الإبل. فدخل على الحجاج فعذله فقال: أتزوجتها على حكمها وحكم أبيها مائة بعير وهو نصرانية وجئتنا متعرضا أن نسوقها عنك أخرج ما لك عندنا شيء . فقال عنبسة بن سعيد بن العاصي وأراد نفعه: أيهل الأمير، إنها من حواشي إبل الصدقة؛ فأمر له بها. فوثب عليه جرير فقال:
يا زيق قد كنت من شيبان في حسب يا زيق ويحك من أنكحـت يا زيق
أنكحت ويحك قينا باستـه حـمـم يازيق ويحك هل بارت بك السوق ثم ذكر باقي القصيدة بمثل رواية دماذ.
أراد أن تحمل حدراء فاعتلوا بموتها وشعر لجرير في ذلك: قال ابن سلام: وأراد الفرزدق أن تحمل؛ فاعتلوا عليه وقالوا: ماتت، كراهة أن يهتك جرير أعراضهم. فقال جرير:
وأقسم ما ماتت ولكنه الـتـوى بحدراء قوم لم يروك لها أهلا
رأوا أن صهر القين عار عليهم وأن لبسطام على غالب فضلا
صفحة : 1064
إذا هي حلت مسحلان وحاربـت بشيبان لاقى القوم من دونها شغلا وحدراء هذه هي التي ذكرها الفرزدق في أشعاره. ومن ذلك قوله: صوت
عزفت بأعشاش وما كـدت تـعـزف وأنكرت من حدراء ما كانت تعـرف
ولج بك الهجران حـتـى كـأنـمـا ترى الموت في البيت الذي كنت تألف عروضه من الطويل. عزفت عن الشيء انصرفت عنه، عزف يعزف عزوفا. الشعر للفرزدق. والغناء لسلسل، ثاني ثقيل بالوسطى. وفيه لحن للغريض من الثقيل الأول بالبنصر من رواية حبش.
قصة ما كان بينه وبين ابن أبي بكر بن حزم حين أنشده من شعر حسان في المسجد: أخبرني علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب وأبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال اليربوعي: قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري:قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان. قال: فإني والفرزدق وكثيرا لجلوس في المسجد نتناشد الأشعار، إذ طلع علينا غلام شخت آدم في ثوبين ممصرين أي مصبوغين بصفرة غير شديدة ثم قصد نحونا حتى جاء إلينا فلم يسلم، فقال: أيكم الفرزدق? فقلت مخافة أن يكون من قريش: أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها فقال: لو كان كذلك لم أقل هذا له. فقال له الفرزدق: ومن أنت لا أم لك? قال: رجل من بني الأنصار ثم من بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم. بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب وتزعم مضر ذلك لك، وقد قال صاحبنا حسان شعرا فأردت أن أعرضه عليك وأؤجلك سنة؛ فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب وإلا فأنت كذاب منتحل.
ثم أنشده قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا
متى ما تزرنا من معد عصـابة وغسان نمنع حوضنا أن يهدما - قيل إن قوله: وغسان ها هنا قسم أقسم به، لأن غسان لم تكن تغزوهم مع معد -
أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا وقائلنا بالعـرف إلا تـكـلـمـا
ولدنا بني العنقاء وابني مـحـرق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنـمـا فأنشده القصيدة إلى آخرها وقال له: إني قد أجلتك فيها حولا، ثم انصرف. وانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه ما يدري أي طريق يسلك، حتى خرج من المسجد. قال: فأقبل كثير علي فقال: قاتل الله الأنصاري ما أفصح لهجته، وأوضح حجته، وأجود شعره . قال فلم نزل في حديث الفرزدق والأنصاري بقية يومنا. حتى إذا كان الغد خرجت من منزلي إلى مجلسي الذي كنت فيه بالأمس؛ وأتاني كثير فجلس معي. فإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول: ليت شعري ما فعل، إذ طلع علينا في حلة أفواف يمانية موشاة، له غديرتان، حتى جلس في مجلسه بالأمس، ثم قال: ما فعل الأنصاري? قال: فنلنا منه وشتمناه. فقال: قاتله الله ما رميت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقتكما فأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر، فلكأني مفحم أو لم أقل قط شعرا حتى ناد المنادي بالفجر، فرحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ذبابا ، ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أبا لبنى - وقال سعدان : أبا ليلى - فجاش صدري كما يجيش المرجل، ثم عقلت ناقتي وتوسدت ذراعها؛ فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتا. فبينا هو ينشدنا، إذ طلع علينا الأنصاري حتى انتهى إلينا فسلم ثم قال: أما إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك، ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك عما صنعت. فقال: اجلس، ثم أنشده:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف فلما فرغ الفرزدق من إنشاده قام الأنصاري كئيبا. فلما توارى طلع أبوه وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في مشيخة من الأنصار، فسلموا علينا وقالوا: يا أبا فراس، قد عرفت حللنا ومكاننا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته بنا. وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا تعرض لك، فنسألك بالله لما حفظت فينا وصية النبي صلى الله عليه وسلم ووهبتنا له ولم تفضحنا.
قال إبراهيم بن محمد: فأقبلت أكلمه أنا وكثير؛ فلما أكثرنا عليه قال: اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي.
قال: وقد كان جرير قال:
ألا أيها القلب الطروب المكلف أفق ربما ينأى هواك ويسعف
صفحة : 1065
ظللت وقد خبرت أن لست جازعا لربع بسلمانين عـينـك تـذرف فجعل الفرزدق هذه القصيدة نقيدة لها نسبة ما في الخبر من الأصوات منها: صوت
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نحدة دمـا
ولدنا بني العنقاء وابني محـرق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنمـا عروضه من الطويل. الشعر لحسان بن ثابت. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة.
ما كان بين النابغة وحسان بسوق عكاظ حين مدح النابغة الخنساء: أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثني محمد بن سعد الكراني عن أبي عبد الرحمن الثقفي، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة: أن نابغة بني ذبيان كان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده شعره وأنشدته الخنساء قولها:
قذى بعينك أما بالعين عوار حتى انتهت إلى قولها:
وإن صخرا لتأتم الهداة بـه كأنه علم في رأسه ثـار
وإن صحرا لمولانا وسيدنا وإن صخرا إذا نشتو لنحار فقال: لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس أنت والله أشعر من كل ذات مثانة . قالت: والله ومن كل ذي خصيتين. فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها. قال: حيث تقول ماذا? قال: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا
ولدنا بني العنقاء وابني محـرق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنمـا فقال: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت الجفنات فقللت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقلت يلمعن في الضحى ولو قلت يبرقن بالدجى . لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. وقلت: يقطرن من نجدة دما فدللت على قلت القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسرا منقطعا.
مما يغني فيه من قصيدة الفرزدق الفائية قوله: صوت
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا فيه رمل بالوسطى، يقال: إنه لابن سريج، وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى المكي.
انتحل بيتا لجميل: أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو مسلمة موهوب بن رشيد الكلابي قال: وقف الفرزدق على جميل والناس مجتمعون عليه وهو ينشد:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا فأشرع إليه رأسه من وراء الناس وقال: أنا أحق بهذا البيت منك. قال: أنشدك الله يا أبا فراس . فمضى الفرزدق وانتحله.
عرض هو وكثير كل منهما للآخر أنه سرق بيتا من جميل: أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني أبي عن جدي: أن الفرزدق لقي كثيرا فقال له: ما أشعرك يا كثير في قولك:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل فعرض له بسرقته إياه من جميل:
أريد لأنسى ذكرها فكأنـمـا تمثل لي ليلى على كل مرقب فقال له كثير: أنت يا فرزدق أشعر مني في قولك:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا - قال: وهذا البيت لجميل سرقه الفرزدق - فقال الفرزدق لكثير: هل كانت أمك ترد البصرة? قال: لا ولكن نزيلا لأمك.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن ابن شهاب عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: لقي الفرزدق كثيرا بقارعة البلاط وأنا وهو نمشي؛ فقال له الفرزدق: يا أبا صخر أنت أنسب العرب حيث تقول:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل قال: وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
صفحة : 1066
-قال عبد العزيز: وهذان البيتان جميعا لجميل، سرق أحدهما الفرزدق، وسرق الآخر كثير - فقال له الفرزدق: يا أبا صخر، هل كانت أمك ترد البصرة? قال: لا ولكن أبي كان كثيرا يردها. قال طلحة: فوالذي نفسي بيده لقد تعجبت من كثير وجوابه، وما رأيت أحدا قط أحمق منه؛ لقد دخلت عليه يوما في نفر من قريش، وكنا كثيرا نهزأ به، وكان يتشيع تشيعا قبيحا، فقلنا له: كيف تجدك يا أبا صخر فقال: بخير. هل سمعتم الناس يقولون شيئا? قلت: نعم يتحدثون أنك الدجال. قال: والله إن قلت ذلك إني لأجد في عيني هذه ضعفا منذ أيام .
ولجرير قصيدة يناقض بها هذه القصيدة في أولها غناء نسبته:
ألا أيها القلب الطروب المكلـف أفق ربما ينأى هواك ويسعـف
ظللت وقد خبرت أن لست جازعا لربع بسلمانين عـينـك تـذرف الشعر لجرير. والغناء لمحمد بن الأشعث الكوفي ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو بن بانة. وقال حبش: فيه ثقيل أول بالوسطى. وليس ذلك بصحيح.
رجع الحديث إلى سياقه حديث الفرزدق والنوار: تزوج رهيمة بنت غنيم اليربوعية: قال دماذ: وتزوج الفرزدق على النوار امرأة من اليرابيع، وهم بطن من النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد القيني، وقد انتسبوا فيه. فقالت له النوار: وما عسى أنت تكون القينية? فقال:
أرتك نجوم الليل والشمس حـية زحام بنات الحارث بن عـبـاد
نساء أبوهن الأغر ولم تـكـن من الحت في أجبالهـا وهـداد
ولم يكن الجوف الغموض محلها ولا في الهجاريين رهـط زياد
أبوها الذي أدنى النعامة بعدمـا أبت وائل في الحرب غير تماد -يعني بأبيها الذي أدنى النعامة الحارث بن عباد، وأراد قوله:
قربا مربط النعامة منـي
عدلت بها ميل النوار فأصبحت مقاربة لي بعد طول بعاد
وليست وإن أنبأت أني أحبها إلى دارميات النجار جـياد وقال أبو عبيدة حدثني أعين بن لبطة قال: تزوج الفرزدق، مضارة للنوار، امرأة يقال لها رهيمة بنت غنيم بن درهم من اليرابيع، قوم من النمر بن قاسط في بني الحارث بن عباد. وأمها الحميضة من بني الحارث. فنافرته الحميضة فاستعدت عليه. فأنكرها الفرزدق وقال: أنا بريء منها، وطلق ابنتها وقال:
إن الحميضة كانت لي ولابنتها مثل الهراسة بين النعل والقدم
إذا أتت أهلها مني مطـلـقة فلن أرد عليها زفرة الـنـدم مضى الحديث. ولم أجد لأحد من الخلفاء الذين ذكرتهم والذين لم أذكرهم، بعد الواثق، صنعة يعتد بها إلى المعتضد، فإنه صنع صنعة متقنة عجيبة، أبرت على صنعة سائر الخلفاء سوى الواثق، وفضل فيها أكثر أهل الزمان الذي نشأ فيه. وإنما ذكرت صنعة من بينهما، لأنها قد رويت، فأما حقيقة الغناء الجيد فليس بينهما مثلهما. وذكر عبيد الله بن عبد الله بن طاهر صنعة المعتضد فقرظها، وقال: لم أجد لحنا قديما قد جمع من النغم ما جمعه لحن ابن محرز في شعر مسافر بن أبي عمرو وهو:
يا من لقلب مقصر ترك المنى لفواتها فإنه جمع من النغم العشر ثمانيا، ولحن ابن محرز ايضا في شعر كثير:
توهمت بالخيف رسما محيلا لعزة تعرف منه الطلـولا وهو أيضأ يجمع ثمانيا من النغم. وقد تلطف بعض من له دربة وحذقة بهذه الصناعة حتى جمع النغم العشر في هذا الصوت الأخير متوالية، وجمعها في صوت آخر غير متوالية، وهو في شعر ابن هرمة:
فإنك إذ أطمعتني منك بالرضا وأيأستني من بعد ذلك بالغضب
صفحة : 1067
وأعجب من ذلك ما عمله أمير المؤمنين المعتضد بالله؛ فإنه صنع في رجز دريد بن الصمة يا ليتني فيها جذع لحنا من الثقيل الأول يجمع النغم العشر، فأتى به مستوفى الصنعة محكم البناء، صحيح الأجزاء والقسمة، مشبع المفاصل، كثير الأدوار، لاحقا بجيد صنعة الأوائل، وإنما زاد فضله على من تقدمه لأنه عمله في ضرب من الرجز قصيرا جدا، واستوفى فيه الصنعة كلها على ضيق الوزن، فصار أعجب مما تقدمه؛ إذ تلك عملت في أوزان تامة وأعاريض طوال يتمكن الصانع فيها من الصنعة ويقتدر على كثرة التصرف؛ وليس هذا الوزن في تمكنه من ذلك فيه مثل تلك.
نسبة هذا اللحن صوت
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صـدع الشعر لدريد بن الصمة. والغناء للمعتضد، ولحنه ثقيل أول يجمع النغم العشر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء العاشر
أخبار دريد بن الصمة ونسبه
نسبه
هو دريد بن الصمة. واسم الصمة، في ما ذكر أبو عمرو، معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة وقيل علقمة، بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. وأما أبو عبيدة فقال: هو دريد بن الصمة، واسمه معاوية بن الحارث بن بكر بن علقة ولم يذكر معاوية. وقال ابن سلام: الحارث بن معاوية بن بكر بن علقة.
صفاته
ودريد بن الصمة فارس شجاع شاعر فحل، وجعله محمد بن سلام أول شعراء الفرسان. وقد كان أطول الفرسان الشعراء غزوا، وأبعدهم أثرا، وأكثرهم ظفرا، وأيمنهم نقيبة عند العرب، وأشعرهم دريد بن الصمة.
قتل يوم حنين
وقال أبو عبيدة: كان دريد بن الصمة سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم وكان مظفرا ميمون النقيبة، وغزا نحو مائة غزاة ما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وخرج مع قومه في يوم حنين مظاهرا للمشركين، ولا فضل فيه للحرب، وإنما أخرجوه تيمنا به وليقتبسوا من رأيه، فمنعهم مالك بن عوف من قبول مشورته، وخالفه لئلا يكون له ذكر، فقتل دريد يومئذ على شركه. وخبره يأتي بعد هذا.
إخوته
وكان لدريد أخوة وهم عبد الله الذي قتله غطفان، وعبد يغوث قتله بنو مرة، وقيس قتله بنو أبي بكر بن كلاب، وخالد قتله بنو الحارث بن كعب، أمهم جميعا ريحانة بنت معد يكرب الزبيدي أخت عمرو بن معد يكرب كان الصمة سباها ثم تزوجها فأولدها بنيه. وإياها يعني أخوها عمرو بقوله في شعره:
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
إذا لم تستطع شيئا فدعـه وجاوزه إلى ما تستطـيع ابنه وبنته شاعران: وكان لدريد ابن يقال له سلمة، وكان شاعرا وهو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله وارتجز فقال:
إن تسألوا عني فإنـي سـلـمـه ابن سمادير لـمـن تـوسـمـه
أضرب بالسيف رؤوس المسلمه وكانت لدريد أيضا بنت يقال لها عمرة وكانت شاعرة، ولها فيه مراث كثيرة.
شعره في الصبر على النوائب
أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني به محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، وأخبرني بأخبار له مجموعة ومتفرقة جماعة من شيوخنا أذكرهم في مواضعهم، وأخبرني أيضا بخبره محمد بن خلف بن المرزبان عن صالح بن محمد بن أبي عمرو الشيباني وقد بينت رواية كل واحد منهم في موضعها، قال أبو عبيدة سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة حيث يقول:
تقول ألا تبكي أخـاك وقـد أرى مكان البكا لكن بنيت على الصبر
لمقتل عبد الله والـهـالـك الـذي على الشرف الأعلى قتيل أبي بكر
وعبد يغوث أو خلـيلـي خـالـد وعز مصابا حثو قبر على قـبـر
أبى القتل إلا آل الصـمة إنـهـم أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر
فإما تـرين مـا تـزال دمـاؤنـا لدى واتر يشقى بها آخر الدهـر
فإن للحم السـيف غـير نـكـيرة ونلحمه حينا وليس بـذي نـكـر
يغار علينا واتـرين فـيشـتـفـى بنا إن أصبنا، أو نغير على وتـر
صفحة : 1068
بذاك قسمنا الدهر شطرين قسمة فما ينقضي إلا ونحن على شطر وأخبرني ابن عمار قال: حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني محمد بن القاسم الأسدي عن صاعد مولى الكميت بن يزيد يقول: أحسن شعره قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة، وذكر هذه الأبيات.
يوم اللوى ومقتل أخيه وما رثاه به
قال أبو عبيدة: فأما عبد الله بن الصمة فإن السبب في مقتله أنه كان غزا غطفان ومعه بنو جشم وبنو نصر أبناء معاوية فظفر بهم وساق أموالهم في يوم يقال له يوم اللوى ومضى بها. ولما كان منهم غير بعيد قال: انزلوا بنا، فقال له أخوه دريد: يا أبا فرعان - وكانت لعبد الله ثلاث كنى: أبو فرعان، وأبو ذفافة، وأبو أوفى، وكلها قد ذكرها دريد في شعره -: نشدتك الله ألا تنزل فإن غطفان ليست بغافلة عن أموالها، فأقسم لا يريم حتى يأخذ مرباعه وينقع نقيعه ، فيأكل ويطعم ويقسم البقية بين أصحابه، فبينا هم في ذلك وقد سطعت الدواخن، إذا بغبار قد ارتفع أشد من دخانهم، وإذا عبس وفزارة وأشجع قد أقبلت فقالوا لربيئتهم : انظر ماذا ترى? فقال: أرى قوما جعادا كأن سرابيلهم قد غمست في الجادي قال: تلك أشجع، ليست بشيء. ثم نظر فقال: أرى قوما كأنهم الصبيان، أسنتهم عند آذان خيولهم. قال: تلك فزارة. ثم نظر فقال: أرى قوما أدمانا كأنما يحملون الجبل بسوادهم، يخدون الأرض بأقدامهم خدا، ويجرون رماحهم جرا، قال: تلك عبس والموت معهم فتلاحقوا بالمنعرج من رميلة اللوى فاقتتلوا فقتل رجل من بني قارب وهم من بني عبس عبد الله بن الصمة فتنادوا: قتل أبو ذفافة فعطف دريد فذب عنه فلم يغن شيئا وجرح دريد فسقط فكفوا عنه وهم يرون أنه قيل، واستنقذوا المال ونجا من هرب. فمر الزهدمان وهما من بني عبس، وهما زهدم وقيس ابنا حزن أنه بن وهب بن رواحة وإنما فقيل لهم الزهدمان تغليبا لأشهر الاسمين عليهما، كما قيل العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والقمران للشمس والقمر. قال دريد: فسمعت زهدما العبسي يقول لكردم الفزاري إني لأحسب دريدا حيا فانزل فأجهز عليه، قال: قد مات، قال: انزل فانظر إلى سبته هل ترمز? قال دريد: فسددت من حتارها أي من شرجها، قال فنظر فقال: هيهات، أي قد مات، فولى عني، قال: ومال بالزج في شرج دريد فطعنه فيه فطعنه فيه فسال دم كان قد احتقن في جوفه، قال دريد فعرفت الخفة حينئذ فأمهلت، حتى إذا كان الليل مشيت وأنا ضعيف قد نزفني الدم حتى ما أكاد أبصر، فجزت بجماعة تسير فدخلت فيهم، فوقعت بين عرقوبي بعير ظعينة، فنفر البعير فنادت: نعوز بالله منك، فانتسبت لها فاعلمت الحي بمكاني، فغسل عني الدم وزودت زادا وسقاء فنجوت، وزعم بعض الغطفانيين أن المرأة كانت فزارية وأن الحي كان علموا بمكانه فتركوه فداوته المرأة حتى برأ ولحق بقومه، قال: ثم حج كردم بعد ذلك في نفر من بني عبس فلما قاربوا ديار دريد تنكروا خوفا ، ومر بهم فأنكرهم، فجعل يمشي فيهم ويسألهم من هم? فقال له كردم: عمن تسأل? فدفعه دريد، وقال: أما عنك وعمن معك فلا أسأل أبدا، وعانقه، وأهدي إليه فرسا وسلاحا، وقال له: هذا بما فعلت بي يوم اللوى.
وقال دريد يرثي أخاه عبد الله:
أرث جديد الحبل من أم معبد بعاقبة وأخلفت كل مـوعـد
وبانت ولم أحمد إليك جوارها ولم ترج منا ردة اليوم أو غد وهي طويلة وفيها يقول:
أعاذلتي كل امـرئ وابـن أمـه متاع كزاد الراكب الـمـتـزود
أعاذل إن الرزء أمـثـال خـالـد ولا رزء مما أهلك المرء عن يد
نصحت لعارض وأصحاب عارض ورهط بني السوداء والقوم شهدي
فقلت لهم ظنوا بألـفـي مـدجـج سراتهم في الفارسي الـمـسـرد
أمرتهم أمري بمنعـرج الـلـوى فلم يستبينوا الرجد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقـد أرى غوايتهم وأننـي غـير مـهـتـد
وهل أنا إلى من غزية إن غـوت غويت، وإن ترشد غـزية أرشـد
دعاني أخي والخيل بيني وبـينـه فلما دعاني لم يجدنـي بـقـعـدد
صفحة : 1069
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسـا فقلت أعبد الله ذلـكـم الـردي
فإن يك عبد الله خلى مـكـانـه فلم يك وقافـا ولا طـائش الـيد
ولا برما إذا الرياح تـنـاوحـت برطب العضاه والهشيم المعضد
نظرت إليه والرماح تـنـوشـه كوفع الصياصي في النسيج المدد
فطاعنت عنه الخيل حتى تبـددت وحتى علاني أشقر اللون مزبـد
فما رمت حتى خرقتني رماحهـم وغودرت أكبو في القنا المتقصد
قتال امرئ واسى أخاه بنفـسـه وأيقن أن المرء غير مـخـلـد
صبور على وقع المصائب حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد في بعض هذه الأبيات غناء وهو: صوت
تمثل علي عليه السلام بشعـره:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرجد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غـير مـهـتـد
وهل أنا إلى من غزية إن غـوت غويت، وإن ترشد غزية أرشـد الغناء ليحيى المكي ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر من رواية ابنه أحمد، وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحمد. وهذه الأبيات تمثل بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند منصرفه من صفين.
حدثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي قال حدثنا حسين بن نضر بن مزاحم قال حدثنا عمر بن سعيد عن أبي مخنف عن رجاله أن عليا عليه السلام لما اختلفت كلمة أصحابه في أمر الحكمين وتقرقت الخوارج وقالوا له ارجع عن أمر الحكمين وتب واعترف بأنك كفرت إذ حكمت، ولم يقبل ذلك منهم، وخالفوه وفارقوه تمثل بقول دريد:
أمرتهم أمري بمنعـرج الـلـوى فلم يستبينوا الرجد إلى ضحى الغد الأبيات: أخوه عبد الله وأسماؤه وكناه: قال أبو عبيدة: كانت لعبد الله بن الصمة ثلاثة أسماء وثلاث كنى: عبد الله ومعبد وخالد. ويكنى أبا ذفافة وأبا فرعان وأبا أوفى.
وقال دريد:
أبا ذفافة من لـلـخـيل إذ طـردت فاضطرها الطعن في وعث وإيجاف
يا فارس الخيل في الهيجاء إذ شغلت كلتـا الـيدين درورا غـير وقـاف له أفضل بيت في الصبر على النوائب: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس أنه كان يقول: أفضل بيت قالته العرب في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة:
قليل التشكي للمصيبات حـافـظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد عاتبته زوجته أم معبد على بكائه أخاه فطلقها وقال شعرا: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن أبي المهاجر، وذكر مثله أبو عمرو الشيباني، أن أم معبد التي ذكرها دريد في شعره هذا كانت امرأته فطلقها، لأنها رأته شديد الجزع على أخيه، فعاتبته على ذلك وصغرت شأن أخيه وسبته، فطلقها وقال فيها:
أرث جديد الحبل من أم معبد بعاقبة وأخلفت كل مـوعـد
وبانت ولم أحمد إليك جوارها ولم ترج منا ردة اليوم أو غد فقالت له أم معبد: بئس والله ما أثنيت علي يا أبا قرة لقد أطعمتك مأدومي، وبثثتك مكتومي، وأتيتك باهلا غير ذات صرار وما استفرمت قبلك إلا من حيض.
وقال أبو عبيدة في خبره: بلغ دريد بن الصمة أن زوجته سبت أخاه فطلقها وألحقها بأهلها وقال في ذلك:
أعبد الله إن سبتك عـرسـي تقدم بعض لحمي قبل بعض
إذا عرس امرئ شتمت أخاه فليس فؤاد شانئه بحمـض
معاذ الله أن يشتمن رهطـي وأن يملكن إبرامي ونقضي حارب غطفان يوم الغدير طلبا بثأر أخيه وقال شعرا: أخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال:
صفحة : 1070
أغار دريد بن الصمة بعد مقتل أخيه عبد الله على غطفان يطالبهم بدمه، فاستقراهم حيا حيا، وقتل من بني عبس ساعدة بن مر، وأسر ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب، أسره مرة بن عوف الجشمي. فقالت بنو جشم: لو فاديناه فأبى ذلك دريد عليهم، وقتله بأخيه عبد الله وقتل من بني فزارة رجلا يقال له حزام وأخوة له، وأصاب جماعة من بني مرة ومن بني ثعلبة بن سعد ومن أحياء غطفان، وذلك في يوم الغدير. وفي هذا اليوم وفي من قتل فيه منهم يقول:
تأبد من أهله مـعـشـر فجو سويقة فالأصـفـر
فجزع الحليف إلى واسط فذلك مبدى وذا محضـر
فأبلغ سليمى وألفافـهـا وقد يعطف النسب الأكبر
بأني ثأرت بأخـوانـكـم وكنت كأني بهم مخفـر
صبحنا فزارة سمر القنـا فمهلا فزارة لا تضجروا
وأبلغ لديك بنـي مـازن فكيف الوعيد ولم تقرروا
فإن تقتلوا فتـية أفـردوا أصابهم الحين أو تظفروا
فإن حزاما لدى معـرك وأخوته حولهم أنـسـر
ويوم يزيد بنـي نـاشـب وقبل يزيدكـم الأكـبـر
أثرنا صريخ بني ناشـب ورهط لقيط فلا تفخروا
تجر الضباع بأوصالـهـم ويلحقن منهم ولم يقبروا ويقول قي ذلك أيضا دريد بن الصمة في قصيدة له أخرى:
جزينا بني عـبـس جـزاء مـوفـرا بمقـتـل عـبـد الـلـه يوم الـذئاب
و لولا سواد اللـيل أدرك ركـضـنـا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب
قتلنا بـعـبـد الـلـه خـير لـداتـه ذؤاب بن أسماء بـن زيد بـن قـارب قال أبو عبيدة: أنشد عبد الملك بن مروان شعر دريد بن صمة هذا فقال: كاد دريد أن ينسب ذؤاب بن أسماء إلى آدم. فلما بلغ المنشد قوله:
و لولا سواد اللـيل أدرك ركـضـنـا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب قال عبد الله: ليت الشمس كانت بقيت له قليلا حتى يدركه.
قال أبو عبيدة وقال دريد أيضا في هذه الواقعة:
قتلنا بعبد الـلـه خـير لـداتـه وخير شباب الناس لو ضم أجمعا
ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب منيته أجرى إليهـا وأوضـعـا
فتى مثل متن السيف يهتز للندى كعالية الرمح الردينـي أروعـا أغرته أمه بالاستعانة بأخواله في ثأر أخيه فأبى وقتل ذؤاب بن أسماء: وقال ابن الكلبي: قالت ريحانة بنت معد يكرب لدريد بن الصمة بعد حول من مقتل أخيه: يا بني إن كنت عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرته من زبيد، فأنف من ذلك وحلف لا يكتحل ولا يدهن ولا يمس طيبا ولا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، فغزا هذه الغزاة وجاءها بذؤاب بن أسماء فقتله بفنائها، وقال: هل بلغت ما في نفسك? قالت: نعم متعت بك وروي عن ابن الكلبي لريحانة في هذا المعنى أبيات لم تحضرني وقد كتبت خبرها.
أخوه قيس بن الصمة ومقتله: وأما قتيل أبي بكر الذي ذكره دريد فإنه أخوه قيس بن الصمة، قتله بنو أبي بكر بن كلاب. وكان السبب في ذلك، فيما أخبرني به هاشم بن محمد عن دماذ عن أبي عبيدة، أنه غزا في قومه بني خزاعة من بني جشم، فأغاروا على إبل لبني كعب بن أبي بكر بن كلاب، فانطلقوا بها. وخرج بنو أبي بكر بن كلاب في طلبها حتى إذا دنوا منهم قال عمرو بن سفيان الكلابي، وكان حازما عاقلا، امكثوا، ومضى هو متنكرا حتى لقي رجلا من بني خزاعة فسلم عليه واستسقاه فسقاه وانتسب له هلاليا، فسأله عن قومه وأين مرعى إبلهم، وأعلمه أنه جاء رائدا لقومه يريد مجاورتهم، فخبره الرجل بكل ما أراد، فرجع إلى قومه وقد عرف بغيته، فصبح القوم فظفرت بهم بنو كلاب وقتلوا قيس بن الصمة، وذهبوا بإبل بني خزاعة وارتجعوا إبلهم . وكان يقال لعمروبن سفيان ذو السيفين، لأنه كان يلقى الحرب ومعه سيفان خوفا من أن يخونه أحدهما. وإياه عنى دريد بن الصمة بقوله:
إن امرءا بات عمرو بين صرمتـه عمرو بن سفيان ذو السيفين مغرور
يا آل سفيان ما بالي وبـالـكـمـو هل تنتهون وباقي القول مأثـور?
صفحة : 1071
يا آل سفيان ما بالي وبـالـكـمـو أنتم كبير وفي الأحلام عصـفـور
هلا نهيتم أخاكم عن سـفـاهـتـه إذ تشربون وغاوي الخمر مدحور ?
لا أعـرفـن لـمة سـوداء داجـية تدعوا كلابا وفيها الرمح مكسـور
لن تسبقوني ولو أمهلتكـم شـرفـا عقبى إذا أبطأ الفحج المخـاصـير خبر الحرب بين بني عامر وبني جشم وبين أسد وغطفان: وأخبرنا بخبر ابتداء هذه الحروب محمد بن العباس اليزيدي قال قرأت على أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: أغارت بنو عامر بن صعصعة وبنو جشم بن معاوية على أسد وغطفان، وكان دريد بن الصمة وعمرو بن سفيان بن ذي اللحية متساندين ، فدريد على بني جشم بن معاوية، وعمرو بن سفيان على بني عامر. فقال عبد الله بن الصمة لأخيه: إني غير معطيك الرياسة، ولكن لي في هذا اليوم شأنا. ثم اشترك عبد الله وشراحيل بن سفيان، فلما أغار القوم أخذ عبد الله من نعم بني أسد ستين وأصاب القوم ما شاءوا. وأدرك رجل من بني جذيمة عبد الله بن الصمة فقال له عبد الله بن الصمة: ارجع فإني كنت شاركت شراحيل بن سفيان، فإن استطاع دريد فليأته وليأخذ مالي منه. وأقام دريد في أواخر الحي فقال له عمرو: ارتحل بالناس قبل أن يأتيك الصراخ ، فقال: إني أنتظر أخي عبد الله. حتى إذا أطال عليه قال له: إن أخاك قد أدرك فوارس من الحليفيين يسوقون بظعنهم فقتلوه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيث يفترقون قال دريد لشراحيل : إن عبد الله أنبأني ولم يكذبني قط إن له شركة مع شراحيل فأدوا إلينا شركته. فقالوا له: ما شاركناه قط. فقال دريد: ما أنا بتارككم حتى أستحلفكم عند ذي الخلصة وثن من أوثانهم . فأجابوه إلى ذلك وحلفوا، ثم جاء عبد الله بغنيمة عظيمة فجاءوه ينشدونه الشرك. فقال لهم دريد: ألم أحلفكم حين ظننتم أن عبد الله قد قتل. فقالوا: ما حلفنا وجعلوا يناشدون عبد الله أن يعطيهم، فقال: لا، حتى يرضى دريد، فأبى أن يرضى فتوعدوه أن يسرقوا إبله. فقال دريد في ذلك:
هل مثل قلبك في الأهواء معذور والحب بعد مشيب المرء مغرور وذكر الأبيات التي تقدمت في الخبر قبل هذا وزاد فيها:
إذا غلبتم صديقا تبطـشـون بـه كما تهدم في الماء الجمـاهـير
وأنتم معشر في عرقكم شـنـج بزخ الظهور وفي الأستاه تأخير
قد علم القوم أني من سراتـهـم إذا تقبض في البطن المذاكـير
وقد أروع سوام القوم ضـاحـية بالجرد يركضها الشعث المغاوير
يحملن كل هجان صـارم ذكـر وتحتهم شزب قب مضـامـير
أوعدتمو إبلي كلا سمينـعـهـا بنو غزية لا مـيل ولا صـور أخوه عبد يغوث ومقتله وما رثاه به: وأما عبد يغوث بن الصمة وخبر مقتله فإنه كان ينزل بين أظهر بني الصادر فقتلوه. قال أبو عبيدة في خبره: قتله مجمع بن مزاحم أخو شجنة بن مزاحم وهو من بني يربوع بن غيظ بن مرة. فقال دريد بن الصمة:
أبلغ نعيما وأوفى إن لقيتـهـمـا إن لم يكن كان في سمعيهما صمم
فما أخي بأخي سوء فينـقـصـه إذا تقارب بابن الصادر القـسـم
ولن يزال شهابا يستـضـاء بـه يهدي المقانب ما لم تهلك الصمم
عاري الأشاجع معصوب بلمـتـه أمر الزعامة، في عرنينه شمـم خالد بن الصمة ومقتله: قال أبو عبيدة: أما قوله أو نديمي خالد ، فإنه يعني خالد بن الصمة؛ فإن بني الحارث بن كعب غزت بني جشم بن معاوية، فخرجوا إليهم فقاتلوهم فقتلت بنو الحارث خالد بن الصمة، وإياه عنى. وقال غير أبي عبيدة: خالد بن الحارث الذي عناه دريد هو عمه خالد بن الحارث أخو الصمة بن الحارث قتلته أحمس بطنا من شنوءة ، وكان دريد بن الصمة أغار عليهم في قومه فظفر بهم واستاق إبلهم وأموالهم وسبى نساءهم وملأ يديه وأيدي أصحابه، ولم يصب أحد ممن كان معه إلا خالد بن الحارث عمه، رماه رجل منهم بسهم فقتله؛ فقال دريد بن الصمة يرثيه:
يا خالدا خالد الأيسار والنادي وخالد الريح إذ هبت بصراد
صفحة : 1072
وخالد القول والفعل المعيش بـه و خالد الحرب إذ عضت بأزراد
وخالد الركب إذ جد السفار بهـم و خالد الحي لما ضن بـالـزاد وقال أبو عبيدة: قال دريد يرثي أخاه خالدا:
أميم أجدي عافي الرزء واجشمـي وشدي على رزء ضلوعك وابأسي
حرام عليها أن ترى في حياتـهـا كمثل أبي جعد فعودي أو اجلسي
أعف وأجدى نـائلا لـعـشـيرة وأكرم مخلود لدى كل مجـلـس
وألين منه صـفـحة لـعـشـيرة وخيرا أبا ضيف وخيرا لمجلـس
تقول هلال خارج مـن غـمـامة إذا جاء يجري في شليل وقونـس
يشد متـون الأقـربـين بـهـاؤه ويخبث نفس الشانئ المتـعـبـس
وليس بمكباب إذا الـلـيل جـنـه نؤوم إذا ما أدلجوا في المعـرس
ولكنـه مـدلاج لـيل إذا سـرى يند سراه كـل هـاد مـمـلـس هذه رواية أبي عبيدة.
يوم ثيل: وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عمه العباس بن هشام عن أبيه أن خالد بن الصمة قتل في غارة أغارتها بنو الحارث بن كعب على بني نصر بن معاوية في يوم يقال له يوم ثيل ، فأصابوا ناسا من بني نصر. وبلغ الخبر بني جشم فلحقوهم، ورئيس بني جشم يومئذ مالك بن حزن، فاستنقذوا ما كان في أيديهم من غنائم بني نصر، فأصابوا ذا القرن الحارثي أسيرا وفقئوا عين شهاب بن أبان الحارثي بسهم، وقتل يومئذ خالد بن الصمة وكان مع مالك بن حزن، وأصابت بنو جشم منهم ناسا، وكان رئيس بني الحارث بن كعب يومئذ شهاب بن أبان، ولم يشهد دريد بن الصمة ذلك اليوم؛ فلما رجعوا قتلوا ذا القرن بخالد بن الصمة، ولما قدم لتضرب عنقه، صاح بأوس بن الصمة، وكان له صديقا، ولم يكن أوس حاضرا، فلم ينفعه ذلك وقتل. فلما قدم أوس غضب وقال: أقتلتم رجلا استجار باسمي فقال عوف بن معاوية في ذلك:
نبئت أوسا بكى ذا القرن إذ شربا على عكاظ بكاء غال مجهودي
إني حلفت بما جمعت من نشب وما ذبحت على أنصابك السود
لتبكين قتيلا منك مـقـتـربـا إني رأيتك تبكي لـلأبـاعـيد قصة زواجه بامرأة وجدها ثيبا: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة، وأخبرني عبد الله بن مالك النحوي الضرير قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: تزوج دريد بن الصمة امرأه فوجده ثيبا، وكانوا قالوا له إنها بكر، فقام عنها قبل أن يصل إليها، وأخذ سيفه فأقبل به إليها ليضر بها، فتلقته أمها لتدفعه عنها، فوقف يديها أي حزهما ولم يقطعهما ، فنظر إليها بعد ذلك وهي معصوبة فقال:
أقر العين أن عصبت يديهـا وما إن تعصبان على خضاب
فأبقـاهـن أن لـهـن جـدا وواقية كواقـية الـكـلاب قالوا: يريد أن الكلب يصيبه الجرح فيلحس نفسه فيبرأ.
ما جرى بينه وبين عياض الثعلبي: قال أبو عبيدة وابن الأعرابي جميعا في هذه الرواية: أسر دريد بن الصمة عياضا الثعلبي أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فأنعم عليه. ثم إن دريدا أتاه بعد ذلك يستثيبه. فقال له: إيت رحلك حتى أبعث إليك بثوابك؛ فانصرف دريد. فبعث إليه بوطب نصفه لبن ونصفه بول. فغضب دريد ولم يلبث إلا قليلا حتى أغار على بني ثعلبة، واستاق إبل عياض، وافلت عياض منه جريحا؛ فقال دريد في ذلك من قصيدة:
فإن تنج يدمى عارضاك فـإنـنـا تركنا بنيك للضباع ولـلـرخـم
جزيت عياضا كفره وعـقـوقـه وأخرجته من المدفـأة الـدهـم
ألا هل أتاه ما ركبنا سـراتـهـم وما قد عقرنا من صفي ومن قرم هجا عبد الله بن جدعان ثم مدحه: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: هجا دريد بن الصمة عبد الله بن جدعان التيمي تيم قريش فقال:
هل بالحوادث والأيام من عجب أم بابن جدعان عبد الله من كلب
إست حميت وهي في عكم ربته في يوم حر شديد الشر والهرب
صفحة : 1073
إذا لقيت بني حـرب وأخـوتـهـم لا يأكلون عطين الجلـد والأهـب
لا ينكلون ولا تشـوي رمـاحـهـم من الكماة ذوي الأبدان والجـبـب
فاقعد بطينا مع الأقوام ما قـعـدوا وإن غزوت فلا تبعد من النصـب
فلو ثقفتك وسط القوم تـرصـدنـي إذا تلبس منك العرض بالـحـقـب
وما سمعت بصقـر ظـل يرصـده من قبل هذا بجنب المرج من خرب قال: فلقيه عبد الله بن جدعان بعكاظ فحياه وقال له: هل تعرفني يا دريد? قال لا. قال: فلم هجوتني? قال: ومن أنت? قال: أنا عبد الله بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت امرأ كريما، فأحببت أن أضع شعري موضعه. فقال له عبد الله: لئن كنت هجوت لقد مدحت؛ وكساه وحمله على ناقة برحلها. فقال دريد يمدحه:
إليك ابن جدعان أعملـتـهـا مخففة للسرى والـنـصـب
فلا خفض حتى تلاقي امـرأ جواد الرضا وحليم الغضـب
وجلدا إذا الحرب مـرت بـه يعين عليها بجزل الحـطـب
رحلت البلاد فـمـا إن أرى شبيه ابن جدعان وسط العرب
سوى ملك شامـخ مـلـكـه له البحر يجري وعين الذهب تغزل في الخنساء وخطبها فامتنعت وتهاجيا: أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام موقوفا عليه لم يتجاوزه إلى غيره، وحدثني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة عن الأصمعي وأبي عبيدة، وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن المغيرة عن أبي عبيدة، وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري قال حدثني ابن نوبة عن أبي عمرو الشيباني، وأخبرني عمي قال حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ، وقد جمعت أخبارهم على اختلاف ألفاظهم في هذا الموضع، أن دريد بن الصمة مر بالخنساء بنت عمرو بن الشريد، وهي تهنأ بعيرا لها وقد تبذلت حتى فرغت منه، ثم نضت عنها ثيابها فاغتسلت ودريد بن الصمة يراها وهي لا تشعر به فأعجبته؛ فانصرف إلى رحله وأنشأ يقول:
حيوا تماضر واربعوا صحبـي وقفوا فإن وقوفكم حـسـبـي
أخناس قد هام الـفـؤاد بـكـم وأصابه تـبـل مـن الـحـب
ما إن رأيت ولا سمـعـت بـه كاليوم طـالـي أينـق جـرب
متبـذلا تـبـدو مـحـاسـنـه يضع الهناء مواضع النـقـب
متحسرا نضح الـهـنـاء بـه نضح العبير بريطة العـصـب
فسليهـم عـنـي خـنـاس إذا عض الجميع الخطب ما خطبي - قالوا: وتماضر اسمها. والخنساء لقب غلب عليها - فلما أصبح غدا على أبيها فخطبها إليه. فقال له أبوها: مرحبا بك أبا قرة إنك للكريم لايطعن في حسبه، والسيد لا يرد عن حاجته، والفحل لا يقرع أنفه. - وقال أبو عبيدة خاصة مكان لا يطعن في حسبه لا يطعن في عيبه - ولكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها، وأنا ذاكرك لها وهي فاعلة. ثم دخل إليها وقال لها: يا خنساء، أتاك فارس هوزان وسيد بني جشم دريد بن الصمة يخطبك وهو من تعلمين، ودريد يسمع قولهما. فقالت: يا أبت، أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح وناكحة شيخ بني جشم هامة اليوم أو غد . فخرج إليه أبوها فقال: يا أبا قرة قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعد. فقال: قد سمعت قولكما، وانصرف. هذه رواية من ذكرت. وقال ابن الكلبي: قالت لأبيها: أنظرني حتى أشاور نفسي، ثم بعثت خلف دريد وليدة فقالت لها: انظري دريدا إذا بال، فإن وجدت بوله قد خرق الأرض ففيه بقية، وإن وجدته قد ساح على وجهها فلا فضل فيه. فاتبعته وليدتها ثم عادت إليها فقالت: وجدت بوله قد ساح على وجه الأرض، فأمسكت. وعاود دريد أباها فعاودها فقالت له هذه المقالة المذكورة؛ ثم أنشات تقول:
أتخطبني، هبلت، على دريد وقد أطردت سيد آل بدر
معاذ الله ينكحني حبركـى يقال أبوه من جشم بن بكر
ولو أمسيت في جشم هـديا لقد أمسيت في دنس وفقر فغضب دريد من قولها وقال يهجوها:
صفحة : 1074
وقاك الله يابـنة آل عـمـرو من الفتيان أمثالي ونـفـسـي
فلا تلدي ولا ينكحك مـثـلـي إذا ما ليلة طرقت بـنـحـس
لقد علم المراضع في جمـادى إذا استعجلن عن حز بنـهـس
بأني لا أبـيت بـغـير لـحـم وأبدأ بالأرامل حين أمـسـي
وأني لا ينال الحـي ضـيفـي ولا جاري يبيت خبيث نفـس
إذا عقب القدور تـكـن مـالا تحت حلائل الأبرام عرسـي
وأصفر من قداح النبع صلـب خفي الوسم في ضرس ولمس
دفعت إلى المفيض إذا استلقوا على الركبات مطلع كل شمس
فإن أكدى فـتـامـكة تـؤدى وإن أربى فإني غير نـكـس
وتزعم أنـنـي شـيخ كـبـير وهل خبرتها أني ابـن أمـس
تريد شرنبث القدمين شـثـنـا يبادر بالجـدائر كـل كـرس
وما قصرت يدي عن عظم أمر أهم به ولا سهمي بـنـكـس
وما أنا بالمزجى حين يسـمـو عظيم في الأمور ولا بوهـس قال: فقيل للخنساء: ألا تجيبينه? فقالت: لا أجمع عليه أن أرده وأهجوه.
آخر أيامه وشعره بعد أن أسن وضعف جسمه: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: لما أسن دريد جعل له قومه بيتا مفردا عن البيوت، ووكلوا به أمة تخدمه، فكانت إذا أرادت أن تبعد في حاجة قيدته بقيد الفرس. فدخل إليه رجل من قومه فقال له: كيف أنت يا دريد? فأنشأ يقول:
أصبحت أقذف أهداف المنون كـمـا يرمي الدريئة أدنى فـوقـه الـونـر
في منصف من مدى تسعين من مـائة كرمية الكاعب العذراء بالـحـجـر
في منزل نازح ممن الحي منـتـبـذ كمربط العير لا أدعى إلـى خـبـر
كأننـي خـرب قـصـت قـوادمـه أو جثة من بغاث فـي يدي خـصـر
يمضون أمرهم دونـي ومـا فـقـدوا مني عزيمة أمر ما خـلا كـبـري
ونومة لست أقضيهـا وإن مـتـعـت وما مضى قبل من شأوي ومن عمري
وأنني رابنـي قـيد حـبـسـت بـه وقد أكون وما يمشى عـلـى أثـري
إن السنـين إذا قـربـن مـن مـائة لوين مـرة أحـوال عـلـى مـرر أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: قالت امرأة دريد له: قد أسننت وضعف جسمك وقتل أهلك وفني شبابك، ولا مال لك ولا عدة، فعلى أي شيء تعول إن طال بك العمر أو على أي شيء تخلف أهلك إن قتلت? فقال دريد: صوت
أعاذل إنما أفـنـى شـبـابـي ركوبي في الصريخ إلى المنادي
مع الفتيان حتى كل جـسـمـي وأقرح عاتقي حمل الـنـجـاد
أعـاذل إنـه مـال طــريف أحـب إلـي مـن مـال تـلاد
أعاذل عدتي بدنـي ورمـحـي وكل مقلص شـكـس الـقـياد
ويبقى بعد حلم القوم حـلـمـي ويفنى قبـل زاد الـقـوم زادي هذا الشعر رواه أبو عبيدة لدريد، وغيره يرويه لعمرو بن معد يكرب، وقول أبي عبيدة أصح. لابن محرز في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أن لابن سريج فيها ثاني ثقيل بالبنصر. وخلط المغنون بهذا الشعر قول عمرو بن معد يكرب في هذين اللحنين:
أريد حياته ويريد قـتـلـي عذيرك من خليلك من مراد
ولو لاقيتني ومعي سلاحـي تكشف شحم قلبك عن سواد قتلت بنو يربوع الصمة أباه فغزاهم: وقال أبو عبيدة فيما رويناه عن دماذ عنه: قتلت بنو يربوع الصمة أبا دريد غدرا، وأسروا ابن عم له؛ فغزاهم دريد ببني نصر فأوقع ببني يربوع وبني سعد جميعا، فقتل فيهم. وكان فيمن قتل عمار بن كعب؛ وقال فيهم:
دعوت الحي نصرا فاستهلوا بشبان ذوي كـرم وشـيب
على جرد كأمثال السعالـي ورجل مثل أهمية الكثـيب
فما جبنوا ولكنا نصـبـنـا صدور الشرعبية للقلـوب
فكم غادرن من كاب صريع يمج نجيع جـائفة ذنـوب
صفحة : 1075
وتلكم عادة لبـنـي ربـاب إذا ما كان موت من قريبي
فأجلوا والسوام لنا مـبـاح وكل كريمة خو عـروب
وقد ترك ابن كعب في مكر حبيسا بين ضبعـان وذيب كان أبوه شاعرا: قال أبو عبيدة: وكان الصمة أبو دريد شاعرا، وهو الذي يقول في حرب الفجار التي كانت بينهم وبين قريش:
لاقت قريش غداة العـقـي ق أمرا لها وجدته وبـيلا
وجئنا إليهم كمـوج الأتـي يعلو النجاد ويملا المسـيلا
وأعددت للحرب خـيفـانة ورمحا طويلا وسيفا صقيلا
ومحكمة من دروع الـقـيو ن تسمع للسيف فيها صليلا وكان أخوه مالك شاعرا
قال: وكان أخوه مالك بن الصمة شاعرا؛ وهو القائل يرثي أخاه خالدا:
أبني غزية إن شلـوا مـاجـدا وسط البيوت السود مدفع كركر
لاتسقني بيديك إن لم ألـتـمـس بالخيل بين هبولة فالـقـرقـر تحالف مع معاوية بن عمرو بن الشريد ورثاه: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: تحالف دريد بن الصمة ومعاوية بن عمرو بن الشريد وتواثقا إن هلك أحدهما أن يرثيه الباقي بعده، وإن قتل أن يطلب بثأره. فقتل معاوية بن عمرو بن الشريد، قتله هاشم بن حرملة بن الأشعر المري. فرثاه دريد بقصيدته التي أولها:
ألا هبت تلوم بـغـير قـدر وقد أحفظتني ودخلت ستري
وإلا تتركي لومي سفـاهـا تلمك عليه نفسك غير عصر وفيها يقول:
فإن الرزء يوم وقفت أدعـو فلم أسمع معاوية بن عمرو
ولو أسمعته لأتاك يسـعـى حثيث السعي أو لأتاك يجري
بشكة حازم لا غـمـز فـيه إذا لبس الكماة جلود نـمـر
عرفت مكانه فعطفت زورا وأين مكان زور يابن بكـر
على إرم وأحجـار ثـقـال وأغصان من السلمات سمر
وبنيان القبور أتى عـلـيهـا طوال الدهر شهرا بعد شهر حديث عارض الجشمي عنه وقد خرف: أخبرني عبد الله بن مالك النحوي قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: وقف عارض الجشمي على دريد وقد خرف وهو عريان وهو يكوم كوم بطحاء بين رجليه يلعب بذلك؛ فجعل عارض يتعجب مما صار إليه دريد. فرفع رأسه دريد إليه وقال:
كأنني رأس حضـن في يوم غيم ودجن
يا ليتني عهد زمـن أنفض رأسي وذقن
كأنني فحل حصـن أرسل في حبل عنن
أرسل كالظبي الأرن ألصق أذنـا بـأذن قال: ثم سقط؛ فقال له عارض: انهض دريد فقال:
لا نهض في مثل زماني الأول محنب الساق شديد الأعصـل
ضخم الكراديس خميص الأشكل ذي حنجر رحب وصلب أعدل خرج في حرب حنين وهو شيخ ونصح مالك بن عوف فخالفه: حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال:
صفحة : 1076
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقام بها خمس عشرة ليلة يقصر ، وكان فتحها في عشر ليال بقين من شهر رمضان. قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما سمعت به هوزان جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمعت إليه ثقيف مع هوزان، ولم يجتمع إليه من قيس إلا هوزان وناس قليل من بني هلال، وغابت عنها كعب وكلاب، فجمعت نصر وجشم وسعد وبنو بكر وثقيف واحتشدت، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير فان ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخا مجربا، وفي ثقيف في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. فلما أجمع مالك المسير حط مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. فلما نزلوا بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به. فقال لهم دريد: بأي واد أنتم? قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، ليس بالحزن الضرس ولا السهل الدهس . ما لي أسمع رغاء الإبل ونهيق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاء? قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. فقال: أين مالك? فدعي له به. فقال له: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام . ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وبكاء الصبيان وثغاء الشاء? قال: سقت مع الناس نساءهم وأبناءهم وأموالهم. قال: ولم? قال: أردت أن أجعل مع كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: فانقض به ووبخه ولامه، ثم قال: راعي ضأن والله أي أحمق وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب? قال: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب ولوددت أنكم فعلتم مثل ما فعلوا. فمن شهدها منهم? قالوا: بنو عمرو بن عامر وبنو عوف بن عامر قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران. ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئا. ارفعهم إلى أعلى بلادهم وعلياء قومهم ثم الق القوم بالرجال على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك ولم تفضح في حريمك. قال: لا والله ما أفعل ذلك أبدا إنك قد خرفت وخرف رأيك وعلمك. والله لتطيعنني يا معشر هوزان أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من وراء ظهري - فنفس على دريد أن يكون له في ذلك اليوم ذكر ورأي - فقالوا له: أطعناك وخالفنا دريدا. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه. ثم قال:
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صـدع قال: فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزم المشركون فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة ، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك نخلة، فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي أحد بني يربوع بن سمال بن عوف دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان في شجار له، فأناخ به فإذا هو برجل شيخ كبير ولم يعرفه الغلام. فقال له دريد: ماذا تريد? قال: أقتلك. قال: ومن أنت? قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي. فأنشأ دريد يقول:
ويح ابن أكـمة مـاذا يريد من المرعش الذاهب الأدرد
فأقسـم لـو أن بـي قـوة لولت فرائصـه تـرعـد
ويا لهف نفسي ألا تـكـون معي قوة الشارخ الأمـرد
صفحة : 1077
ثم ضربه السلمي بسيفه فلم يغن شيئا. فقال له: بئس ما سلحتك أمك خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في القراب فاضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أفعل بالرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك . فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته بالسيف سقط فانكشف، فإذا عجانه وبطن فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل أعراء . فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه؛ فقالت له: لقد أعتق قتيلك ثلاثا من أمهاتك. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري ابن عم أبي موسى الأشعري، فهزمهم الله عز وجل وفتح عليه. فيزعمون أن سلمة بن دريد بن الصمة رماه بسهم فأصاب ركبته فقتله يعني أبا عامر .
فقالت عمرة بنت دريد ترثيه:
جزى عنا الإله بني سـلـيم وأعقبهم بما فعلوا عـقـاق
وأسقانا إذا سـرنـا إلـيهـم دماء خيارهم يوم التلاقـي
فرب منوه بك مـن سـلـيم أجيب وقد دعاك بلا رمـاق
ورب كريمة أعتقت منـهـم وأخرى قد فككت من الوثاق وقالت عمرة ترثيه أيضا:
قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا وظل دمعي على الخدين يبتدر
لولا الذي قهر الأقوام كلـهـم رأت سليم وكعب كيف تأتمر
إذا لصبحهم غبـا وظـاهـرة حيث استقر نواهم جحفل ذفر استحثه قومه على الأخذ بثأر أخيه خالد من بني الحارث فقال شعرا وأجابه عبد الله بن عبد المدان: ونسخت من كتاب مترجم بأنه نسخ من نسخة عمرو بن أبي عمرو الشيباني يأثره عن أبيه قال قال محمد بن السائب الكلبي: كان دريد بن الصمة يوما يشرب مع نفر من قومه، فقالوا له: يا أبا ذفافة - وكان يكنى بأبي ذفافة وبأبي قرة - أينجو بنو الحارث بن كعب منك وقد قتلوا أخاك خالدا ? فقال لهم: إن القوم جمرة مذحج، وهم أكفاء جشم، ولا يجمل بي هجاؤهم. فأحفظوه بكثرة القول وأغضبوه، فقال:
يابني الحارث أنتم معـشـر زندكم وار في الحرب بهـم
ولكم خيل عـلـيهـا فـتـية كأسود الغاب يحمين الأجـم
ليس في الأرض قبيل مثلكـم حين يرفض العدا غير جشم
لست للصمة إن لـم آتـكـم بالخناذيذ تبارى في اللـجـم
فتقر العين مـنـكـم مـرة بانبعاث الحر نوحا تـلـتـدم
وترى نجران منكم بلـقـعـا غير شمطاء وطفل قد يتـم
فانظروها كالسعالي شـزبـا قبل رأس الحول إن لم أخترم قال: فنمي قوله إلى عبد الله بن عبد المدان، فقال يجيبه:
نبئت أن دريدا ظل مـعـتـرضـا يهدي الوعيد إلى نجران من حضن
كالكلب يعوي إلى بيداء مقـفـرة من ذا يواعدنا بالحرب لـم يحـن
إن تلق حي بني الديان تـلـقـهـم شم الأنوف إليهم عـزة الـيمـن
ما كان في الناس للديان من شبـه إلا رعــــين وإلا آل ذي يزن
أغمض جفونك عما لست نـائلـه نحن الذين سبقنا الناس بـالـدمـن
نحن الذين تركنا خالـدا عـطـبـا وسط العجاج كأن المرء لم يكـن
إن تهجنا تهج أنجـادا شـرامـحة بيض الوجوه مرافيدا على الزمن
أورى زياد لنـا زنـدا ووالـدنـا عبد المدان وأورى زنده قـطـن رده أسماء بن زنباع عن ظعينته زينب وطعنه فأصاب عينه: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو بكر العامري عن ابن الأعرابي قال: أغار دريد بن الصمة في نفر من أصحابه، فمروا بأسماء بن زنباع الحارثي ومعه ظعينته زينب، فأحاطوا به لينتزعوها في يده، فقاتلهم دونها فقتل منهم وجرح، ثم اختلف هو ودريد طعنتين: فطعنه دريد فأخطأه، وطعنه أسماء فأصاب عينه، وانهزم دريد ولحق بأصحابه؛ فقال دريد في ذلك:
شلت يميني ولا أشرب معتـقة إذ أخطأ الموت أسماء بن زنباع قصته مع أنس بن مدركة الخثعمي ويزيد بن عبد المدان وشعره في ذلك:
صفحة : 1078
ونسخت من كتاب أبي عمرو الشيباني الذي ذكرته يأثره عن محمد بن السائب الكلبي قال: جاور رجل من ثمالة عبد الله بن الصمة، فهلك عبد الله وأقام الرجل في جوار دريد. وأغار أنس بن مدركة الخثعمي على بني جشم، فأصاب مال الثمالي وأصاب ناسا من ثمالة كانوا جيرانا لدريد؛ فكف دريد عن طلب القوم وشغل بحرب من يليه، وقال لجاره ذلك: أمهلني عامي هذا. فقال الثمالي: قد أمهلتك عامين. وخرج دريد ليلة لحاجته وقد أبطأ في أمر الثمالي، فسمعه يقول:
كساك دريد الدهـر ثـوب خـزاية وجدعك الحامي حقـيقـتـه أنـس
دع الخيل والسمر الطوال لخثـعـم فما أنت والرمح الطويل وما الفرس
وما أنت والغزو المتابـع لـلـعـدا وهمك سوق العود والدلو والمرس
فلو كان عبد الـلـه حـيا لـردهـا وما أصبحت إبلي بنجران تحتبـس
ولا أصبحت عرسي بأشقى معـيشة وشيخ كبير من ثمالة فـي تـعـس
يراعي نجوم الليل من بعد هـجـعة إلى الصبح محزونا يطاوله النفـس
وكنت وعبد اللـه حـي ومـا أرى أبالي من الأعداء من قام أو جلـس
فأصبحت مهضوما حزينا لـفـقـده وهل من نكير بعد حولين تلتـمـس قال: فضاق دريد ذرعا بقوله، وشاور أولي الرأي من قومه؛ فقالوا له: ارحل إلى يزيد بن عبد المدان؛ فإن أنسا قد خلف المال والعيال بنجران للحرب التي وقعت بين خثعم، وإن يزيد يردها عليك. فقال دريد: بل أقدم إليه قبل ذلك مدحة ثم أنظر ما موقعي من الرجل، فقال هذه القصيدة وبعث بها إلى يزيد:
بني الديان ردوا مال جـاري وأسرى في كبولهم الثقـال
وردوا السبي إن شئتم بمـن وإن شئتم مفـاداة بـمـال
فأنتم أهل عـائدة وفـضـل وأيد في مواهبكـم طـوال
متى ما تمنعوا شيئا فليسـت حبائل أخذه غير الـسـؤال
وحربكم بني الـديان حـرب يغص المرء منها بالـزلال
وجارتكم بني الديان بـسـل وجاركم يعد مع الـعـيال
حذا عبد المدان لكـم حـذاء مخصرة الصدور على مثال
بني الـديان إن بـنـي زياد هم أهل التكرم والفـعـال
فأولوني بني الـديان خـيرا أقر لكم به أخرى الليالـي قال: فلما بلغ يزيد شعره قال: وجب حق الرجل فبعث إليه أن اقدم علينا. فلما قدم عليه أكرمه وأحسن مثواه. فقال: له دريد يوما: يا أبا النضر، إني رأيت منكم خصالا لم أرها من أحد من قومكم: إني رأيت أبنيتكم متفرقة، ونتاج خيلكم قليلا، وسرحكم يجيء معتما، وصبيانكم يتضاغون من غير جوع. قال: أجل أما قلة نتاجنا فنتاج هوازن يكفينا وأما تفرق أبنيتنا فللغيرة على النساء. وأما بكاء صبياننا فإنا نبدأ بالخيل قبل العيال. وأما تمسينا بالنعم فإن فينا الغرائب والأرامل، تخرج المرأة إلى مالها حيث لا يراها أحد. قال: وأقبلت طلائعهم على يزيد، فقال شيخ منهم:
أتتك السلامة فارع النـعـم ولا تقل الدهـر إلا نـعـم
وسرح دريدا بنعمى جـشـم وإن سالك المرء إحدى القحم فقال له دريد: من أين جاء هؤلاء? فقال: هذه طلائعنا لا نسرح ولا نصطبح حتى يرجعوا إلينا. فقال له: ما ظلمكم من جعلكم جمرة مذجح. ورد يزيد عليه الأسارى من قومه وجيرانه، ثم قال له: سلني ما شئت؛ فلم يسأله شيئا إلا أعطاه إياه. فقال دريد في ذلك:
مدحت يزيد بن عبد المـدان فأكرم به من فتى ممتـدح
إذا المدح زان فتى معشـر فإن يزيد يزين الـمــدح
حللت به دون أصـحـابـه فأورى زنادي لمـا قـدح
ورد النساء بأطـهـارهـا ولو كان غير يزيد فضـح
وفك الرجال وكـل امـرئ إذا أصلح الله يوما صـلـح
وقلت له بعد عتق النـسـاء وفك الرجال ورد اللـقـح
أجر لي فوارس من عامـر فأكرم بنفحتـه إذا نـفـح
وما زلت أعرف في وجهه بكري السؤال ظهور الفرح
صفحة : 1079
رأيت أبا النضر في مذحج بمنزلة الفجر حين اتضح
إذا قارعوا عنه لم يقرعوا وإن قدموه لكبش نـطـح
وإن حضر الناس لم يخزهم وإن وازنوه بقرن رجـح
فذاك فتاها وذو فضلـهـا وإن نابح بفخـار نـبـح قصته مع مسهر بن يزيد الحارثي وشعره: قال وقال ابن الكلبي: خرج دريد بن الصمة في فوارس من قومه في غزاة له، فلقيه مسهر بن يزيد الحارثي، الذي فقأعين عامر بن الطفيل، يقود بامرأته أسماء بنت حزن الحارثية. فلما رآه القوم قالوا: الغنيمة، هذا فارس واحد يقود ظعينة، وخليق أن يكون الرجل قرشيا. فقال دريد: هل منكم رجل يمضي إليه فيقتله ويأتينا به وبالظعينة? فانتدب إليه رجل من القوم فحمل عليه، فلقيه مسهر فاختلفا طعنتين بينهما، فقتله مسهر بن الحارث. ثم حمل عليه آخر فكانت سبيله سبيل صاحبه؛ حتى قتل منهم أربعة نفر. وبقي دريد وحده فأقبل إليه؛ فلما رآه ألقى الخطام من يده إلى المرأة وقال: خذي خطامك؛ فقد أقبل إلي فارس ليس كالفرسان الذين تقدموه؛ ثم قصد إليه وهو يقول:
أما ترى الفارس بعد الفارس أرداهم عامل رمح يابـس فقال له دريد: من أنت لله أبوك? قال: رجل من بني الحارث بن كعب. قال: أنت الحصين? قال لا. قال: فالمحجل هوذة? قال لا. قال: فمن أنت? قال: أنا مسهر بن يزيد. قال: فانصرف دريد وهو يقول:
أمن ذكر سلمى ماء عينك يهمـل كما انهل خزر من شعيب مشلشل
وماذا ترجي بالسلامة بـعـدمـا نأت حقب وابيض منك المرجـل
وحالت عوادي الحرب بيني وبينها وحرب تعل الموت صرفا وتنهل
قراها إذا باتت لـدي مـفـاضة وذو خصل نهد المراكل هيكـل
كميش كتيس الرمل أخلص متنـه ضريب الخلايا والنقيع المعجـل
عتـيد لأيام الـحـروب كـأنـه إذا انجاب ريعان العجاجة أجـدل
يجاوب جردا كالسراحين ضمـرا ترود بأبواب البيوت وتصـهـل
على كل حي قد أطلت بـغـارة ولا مثل ما لاقى الحماس وزعبل - الحماس وزعبل: قبيلتان من بني الحارث بن كعب -
غداة رأونا بالغريف كـأنـنـا حبي أدرته الصبا متـهـلـل
بمشعلة تدعو هوازن، فوقهـا نسيج من الماذي لأم مرفـل
لدى معرك فيها تركنا سراتهم ينادون، منهم موثق ومجـدل
نجذ جهارا بالسيوف رؤوسهـم وأرماحنا منهم تعل وتنـهـل
ترى كل مسود العذارين فارس يطيف به نسر وعرفاء جيأل قال مؤلف هذا الكتاب: هذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبي موضوعة كلها، والتوليد بين فيها وفي أشعارها، وما رأيت شيئا منها في ديوان دريد بن الصمة على سائر الروايات. وأعجب من ذلك هذا الخبر الأخير؛ فإنه ذكر فيه ما لحق دريدا من الهجنة والفضيحة في أصحابه وقتل من قتل معه وانصرافه منفردا، وشعر دريد هذا يفخر فيه بأنه ظفر ببني الحارث وقتل أمائلهم؛ وهذا من أكاذيب ابن الكلبي. وإنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس وتداولوه.
أخبار المعتضد في صنعة هذا اللحن
وغيره من الأغاني - دون أخباره في غير ذلك لأنها كثيرة تخرج عن حد الكتاب - وشيء من أخباره مع المغنين وغيرهم يصلح لما ها هنا: راسل عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في أمر النغم العشر حتى فهمها وجمعها في صوت: حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أن المعتضد بعث إليه - لما صنعت جاريته شاجي اللحن الذي يجمع النغم العشر - بظبي وحبيب جاريتي أخيه سليمان بن عبد الله بن طاهر حتى أخذتا اللحن عنه ونقلتاه إليه وألقتاه على جواريه. قال: ولم يزل يراسلني مع عبد الله بن أحمد بن حمدون في أمر النغم العشر ويسألني عنها وأشرحها له، حتى فهمها جيدا وجمعها في صوت صنعه في شعر دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
صفحة : 1080
وألقاه عليهما حتى أدتاه إلي مستعلما بذلك هل هو صحيح القسمة والأجزاء أم لا، فعرفته صحته ودللته على ذلك حتى تيقنه فسر بذلك؛ وهو لعمري من جيد الصنعة ونادرها. وقد صنع المعتضد ألحانا في عدة أشعار قد صنع فيها الفحول من القدماء والمحدثين وعارضهم بصنعته فأحسن وشاكل وضاهى، فلم يعجز ولا قصر ولا أتى بشيء يعتذر منه. فمن ذلك أنه صنع في:
أما القطاة فإني سوف أنعتهـا نعتا يوافق نعتي بعض ما فيها لحنا في الثقيل الأول بالبنصر في نهاية الجودة، سمعت إبراهيم بن القاسم بن زرزور يغنيه، فكان من أحسن ما صنع في هذا الصوت على كثرة الصنعة فيه واشتراك القدماء والمحدثين في صنعته مثل معبد ونشيط ومالك وابن محرز وسنان وعمر الوادي وابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وعلويه. وأظرف من ذلك أنه صنع في:
تشكى الكميت الجري لما جهدته وبين لو يستطيع أن يتكلـمـا لحنا من الثقيل الأول بالوسطى، وقد صنع قبله ابن سريج لحنا هو من الألحان الثلاثة المختارة من الغناء كله، فما قصر في صنعته ولا عجز عن بلوغ الغاية فيها؛ هذا بعد أن صنع إسحاق فيها لحنا من الثقيل الثاني عارض ابن سريج به في لحنه؛ فما امتنع من أن يتلو مثل هذين ولا نظير لهما في القدماء والمحدثين، ثم جود غاية التجويد فيما اتبعهما به وعارضهما فيه. هذا مع أصوات لها صنعتها تزاهي المائة صوت، ما فيها ساقط ولا مرذول، وسأذكر منها ما يصلح ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ومن نادر صنعة المعتضد: صوت
أناة فإن تغن عقـب بـعـدهـا وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه الشعر لإبراهيم بن العباس، والغناء للمعتضد ثقيل أول. هذا بيت قاله إبراهيم وهو لا يعلم أنه شعر، وإنما كتب به في رسالة عن المعتصم إلى بعض أصحاب الأطراف فقال في فصل منه: وإن عند أمير المؤمنين في أمرك أناة، فإن لم تغن عقب بعدها وعيدا، فإن لم يغن أغنت عزائمه . فلما تأمله أنه شعر وأنه بيت نادر فأخرجه في شعره.
أخبار إبراهيم بن العباس ونسبه
نسبه، وشيء عن آبائه: إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول، وكان صول رجلا من الأتراك، ففتح يزيد بن المهلب بلده وأسلم على يديه، فهم موالي يزيد. ولما دعا يزيد إلى نفسه لحق به صول لينصره فصادفه قد قتل. وكان يقاتل كل من بينه وبين يزيد من جيش بني أمية ويكتب على سهامه: صول يدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه. فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك، فاغتاظ وجعل يقول: ويلي على ابن الغلفاء وماله وللدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه ولعله لا يفقه صلاته . وكان ابنه محمد بن صول من رجال الدولة العباسية ودعاتها، وقد كان بعض أهليهم ادعوا أنه عرب وأن العباس بن الأحنف خالهم. وأما صول فإن خالد بن خداش ذكر عن أهله قالوا: كان صول وفيروز أخوين ملكا على جرجان، وكانا تركيين تمجسا وتشبها بالفرس. فلما حضر يزيد بن المهلب جرجان أمنهما، فأسلم صول على يديه ولم يزل معه حتى قتل يوم العقر . وكان محمد بن صول يكنى أبا عمارة، أحد الدعاة، وقتله عبد الله بن علي لما خالف مع مقاتل بن حكيم العكي وعدة آخرين.
كان يقول الشعر ثم يختاره: وأما إبراهيم بن العباس وأخوه عبد الله فإنهما كانا من وجوه الكتاب، وكان عبد الله أسنهما وأشدهما تقدما، وكان إبراهيم آدبهما وأحسنهما شعرا، وكان يقول الشعر ثم يختاره، ويسقط رذله، ثم يسقط الوسط، ثم يسقط ما يسبق إليه، فلا يدع من القصيدة إلا اليسير، وربما لم يدع منها إلا بيتا أو بيتين؛ فمن ذلك قوله:
ولكن الجواد أبا هـشـام وفي العهد مأمون المغيب وهذا إبتداء يدل على أن قبله غيره؛ وقوله في أخيه:
ولكن عبد الله لما حوى الغنى وصار له من بين إخوته مال وهذا أيضا إبتداء يدل على أن قبله غيره. وكان إبراهيم وأخوه عبد الله من صنائع ذي الرياستين، اتصلا به فرفع منهما. وتنقل إبراهيم في الأعمال الجليلة والدواوين إلى أن مات وهو يتقلد ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى في سنة ثلاث وأربعين ومائتين للنصف من شعبان.
قال محمد بن داود وحدثني أحمد بن سعيد بن حسان قال حدثني ابن إبراهيم قال سمعت دعبلا يقول:
صفحة : 1081
لو تكسب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا في غير شيء. قال: ثم أنشدنا له، وكان يستحسن ذلك من قوله:
إن امرأ ضن بمـعـروفـه عني لمبـذول لـه عـذري
ما أنا بالراغب في عـرفـه إن كان لا يرغب في شكري هجاؤه محمد بن عبد الملك الزيات وتشفيه بموته: وكان إبراهيم بن العباس صديقا لمحمد بن عبد الملك الزيات، ثم آذاه وقصده وصارت بينهما شحناء عظيمة لم يمكن تلافيها، فكان إبراهيم يهجوه؛ فمن قوله فيه:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة وقصر قليلا من مدى غلوائكا
لئن كان هذا اليوم يوم حـويتـه فإن رجائي في غد كرجائكـا وله فيه أيضا:
دعوتك في بلوى ألمت صروفها فأوقدت من ضغن علي سعيرها
فإني إذا أدعوك عنـد مـلـمة كداعية عند القبور نصـيرهـا وقال فيه لما مات:
لما أتاني خـبـر الـزيات وإنه قد صار في الأموات
أيقنت أن موته حـياتـي هجره صديقه الحارث بن بسخنر مرضاة لمحمد بن عبد الملك الزيات فقال في ذلك شعرا: أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال: لما انحرف محمد بن عبد الملك الزيات عن إبراهيم تحاماه الناس أن يلقوه، وكان الحارث بن بسخنر صديقا له مصافيا، فهجره فيمن هجره من إخوانه؛ فكتب إليه:
تغير لي فيمن تغـير حـارث وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما غنينا وما بيني وبينك ثـالـث وقد قيل: إن هذه الأبيات لإسحاق بن إبراهيم الموصلي.
ومن جيد قوله إبراهيم بن العباس وفيه غناء: صوت
خل النفـاق لإهـلـه وعليك فالتمس الطريقا
واذهب بنفسك إن ترى إلا عدوا أو صـديقـا الغناء لأبي العبيس بن حمدون ثقيل أول قصة عشقه لقينة وانكماشه لتأخرها وشعره فيها: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال: كان إبراهيم بن العباس يهوى قينة بسر من رأى، فكان لا يكاد يفارقها. فجلس يوما للشرب ومعه إخوان له، ودعا جماعة من جواري القيان، ودعاها فأبطأت، فتنغص عليهم يومهم لما رأوا من شغل قلبه بتأخرها، ثم وافت فسري عنه وطابت نفسه وشرب وطرب، ثم دعا بدواة فكتب:
ألم ترنا يومـنـا إذ نـأت فلم تأت من بين أترابهـا
وقد غمرتنا دواعي السرور بإشعالها وبإلـهـابـهـا
ومدت علينا سماء النـعـيم وكل المنى تحت أطنابهـا
ونحن فتور إلى أن بـدت وبدر الدجى بين أثوابهـا
فلما نأت كيف كنـا لـهـا ولما دنت كيف صرنا بها وأمر من حضر فقرأ عليها الأبيات؛ فتجنت وقالت: ما القصة كما وصفت، وقد كنتم في قصفكم مع من حضر. وإنما تجملتم لي لما حضرت. فأنشأ يقول:
يا من حنينـي إلـيه ومن فـؤادي لـديه
ومن إذا غاب من بي نهم أسفت عـلـيه
إذا حضرت فما من هم من أصبو إلـيه
من غاب غيرك منهم فأمـره فـي يديه قال: فرضيت عنه، وأتمننا يوما على أحسن حال.
أجازه دعبل في شعر: وقال محمد بن داود حدثني محمد بن القاسم قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال حدثني إبراهيم بن العباس - قال حدثني به دعبل أيضا فكانا متفيقين في الرواية - قال: كنا نطلب جميعا بالشعر، فخرجنا وكنا في محمل، فابتدأت أقول في المطلب بن عبد الله بن مالك:
أمطلب أنت مستعذب فقال دعبل:
لسم الأفاعي ومستقتل فقلت:
فإن أشف منك تكن سبة فقال دعبل:
وإن أعف عنك فما تفعل روى له الأخفش أبياتا كان يفضلها ويستجيدها: أنشدني الأخفش لإبراهيم بن العباس وكان يفضلها ويستجيدها:
أميل مع الذمام على ابن أمي وآخذ للصديق من الشقـيق
وإن ألفيتني حرا مطـاعـا فإنك واجدي عبد الصـديق
أفرق بين معروفي ومنـي وأجمع بين مالي والحقـوق جوابه لأبي أيوب: أخبرني عمي قال حدثني أبو الحسن بن أبي البغل قال حدثني عمي قال:
صفحة : 1082
اجتاز محمد بن علي برد الخيار على أبي أيوب ابن أخت الوزير وهو متولي ديار مضر فلم يتلقه، ونزل الرقة فلم يصل إليه ولم يبره، وخرج عنها فلم يشيعه. فلامه إخوانه وقالوا: يشكوك إلى إبراهيم بن العباس فكتب إلى إبراهيم يعتذر مما جرى بعلة.
فكتب إليه إبراهيم على ظهر كتابه:
أبدا معـتـذر لا يعـذر وركوب للتي لا تغفـر
وملقى بمسـاو كـلـهـا منه تبدو وإليه تـصـدر
هي من كل الورى منكرة وهي منه وحده لا تنكر كان يهوى جارية اسمها سامر أهدت له جاريتين: أخبرني عمي قال حدثني ابن برد الخيار عن أبيه قال: كان إبراهيم بن العباس يهوى جارية لبعض المغنين بسر من رأى يقال لها سامر، وشهر بها، فكان منزله لا يخلو منها. ثم دعيت في وليمة لبعض أهلها فغابت عنه أياما ثم جاءته ومعها جاريتان لمولاتها. وقالت له: قد أهديت صاحبتي إليك عوضا من مغيبي عنك؛ فأنشأ يقول: صوت
أقبلنا يحففن مثل الشمس طالعة قد حسن الله أولاها وأخراهـا
ما كنت فيهن إلا كنت واسطة وكن دونك يمناها ويسراهـا الغناء لسلسل مولى بني هاشم، ثاني ثقيل بالوسطى مطلق. وليس لسلسل خبر يدون ولا هو من المشهورين ولا ممن خدم الخلفاء أو دون له حديث. وذكر حبش أنه لسلسل مولاة محمد بن حرب الهلالي. وسلسل هذه كانت من أحسن الناس وجها وغناء، وكانت لبعض المغنين بالبصرة، وكان محمد بن حرب هذا يتعشقها ولم تكن مولاته. فأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني حماد بن إسحاق قال: أتى أبان بن عبد الحميد الشاعر رجلا بالبصرة وله قينة يقال لها سلسل، فصادف عندها محمد بن قطن الهلالي وعثمان بن الحكم بن صخر الثقفي فقال:
فتنت سلسل قلب ابن قطن ثم ثنت بابن صخر فافتتن
فأتيت اليوم كي أنقـذهـم فإذا نحن جميع في قرن فأظن الغلط وقع على حبش من ها هنا أو سمع هذا الخبر فتوهم أنها مولاة محمد بن حرب.
ذهابه مع دعبل ورزين وركوبهم حمير أهل الشوك وشعرهم في ذلك: أخبرني عمي ووكيع قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عيسى بن عبد الرحمن قال: خرج إبراهيم بن العباس ودعبل بن علي وأخوه رزين في نظرائهم من أهل الأدب رجالة إلى بعض البساتين في خلافة المأمون، فلقيهم قوم من أهل السواد من أصحاب الشوك، فأعطوهم شيئا وركبوا تلك الحمير فأنشأ إبراهيم يقول:
أعيضت بعد حمل الشو ك أحمالا من الحرف
نشاوى لا من الصهبـا ء بل من شدة الضعف فقال رزين:
فلو كنتم عـلـى ذاك تؤولون إلى قصـف
تساوت حالكـم فـيه ولم تبقوا على خسف فقال دعبل:
وإذا فات الـذي فـات فكونوا من بني الظرف
ومروا نقصـف الـيوم فإنـي بـائع خـفـي فانصرفوا معه فباع خفه وأنفقه عليهم.
رثاؤه لابنه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال قال لي علي بن الحسين الإسكافي: كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع، وكان معجبا به فأعتل علة لم تطل ومات؛ فرثاه بمرات كثيرة، وجزع عليه جزعا شديدا فمما رثاه به قوله:
كنت السواد لمقلتـي فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحـاذر فيه رمل لابن القصار. ومن مراثيه إياه قوله:
وما زلت مذلد أعـطـيتـه أدافع عنه حـمـام الأحـل
أعـوذه دائبـا بـالـقـران أرمي بطرفي إلى حيث حل
فأضحت يدي قصدها واحـد إلى حيث حل فلم يرتـحـل عاتبه أبو وائلة في لهوه فقال شعرا: وقال أحمد بن أبي طاهر حدثني أبو وائلة قال: قلت لإبراهيم بن العباس: قد أخملت نفسك ورضيت أن تكون تابعا أبدا لاقتصارك على القصف واللعب؛ فأنشأ يقول:
إنما المـرء صـورة حيث حلت تناهـت
أنا مذ كنت في التص رف لي حال ساعتي وهبه أخوه عبد الله ثلث ماله وأخته الثلث الآخر وشعره في ذلك: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثني ابن السخي قال:
صفحة : 1083
وهب عبد الله بن العباس لأخيه إبراهيم ثلث ماله، ووهب لأخته الثلث الأخر، فسار مساويا لهما في الحال؛ فقال إبراهيم:
ولكن عبد الله لما حوى الغـنـى وصار له من بين إخوته مـال
رأى خلة منهم تسـد بـمـالـه فساهمهم حتى استوت بهم الحال وهذا مما عيب على إبراهيم قوله ابتداء ولكن عبد الله وقد كرره في شعره فقال:
ولكن الجواد أبـا هـشـام وفي العهد مأمون المغيب
بطيء عنك ما استغنيت عنه وطلاع عليك مع الخطوب والسبب في ذلك اختياره شعره وإسقاطه ما لم يرضه منه.
عزله عن الأهواز: وقرأت في بعض الكتب: لما عزل إبراهيم بن العباس عن الأهواز في أيام محمد بن عبد الملك الزيات اعتقل بها وأوذي، وكان محمد قبل الوزارة صديقه، وكان يؤمل منه يسامحه ويطلقه، فكتب إليه:
فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب وسلط أعداء وغاب نـصـير
تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمـور
وإني لأرجو بعد هذا محمـدا لأفضل ما يرجى أخ ووزير فأقام محمد على قصده وتكشفه والإساءة إليه حتى بلغ منه كل مكروه. وانفرجت الحال بينهما على ذلك، وهجاه إبراهيم هجاء كثيرا.
أرسل ابن الزيات أبا الجهم للكنايه به: واخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو عبد الله الباقطاني أو الطالقاني قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال: وجه محمد بن عبد الملك بأبي الجهم أحمد بن سيف إلى الأهواز ليكشف إبراهيم بن العباس، فتحامل عليه تحاملا شديدا. فكتب إبراهيم إلى محمد بن عبد الملك يعرفه ذلك ويشكوه إليه ويقول له: أبو الجهم كافر لا يبالي ما عمل، وهو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
وأقبلت تسـعـى إلـى واحـدي ضرارا كأني قتلت الـرسـولا
تركت عبـيد بـنـي طـاهـر وقد ملئوا الأرض عرضا وطولا
فسوف أدين بـتـرك الـصـلاة وأصطبح الخمر صرفا شمـولا فكان محمد لعصبيته على إبراهيم وقصده له يقول: ليس هذا الشعر لأبي الجهم، إنما إبراهيم قاله ونسب إليه.
مدح المتوكل ببيتين وغنى بهما جعفر بن رفعة: أخبرني أحمد بن جعفر بن رفعة قال حدثني أبي قال دعاني إبراهيم بن العباس وقال: قد مدحت أميرالمؤمنين المتوكل ببيتين، فغن فيهما وأشعهما، ودع لي بطيب كثير فأعطانيه، وخلع علي خلعة سرية، فغنيت فيهما. والبيتان:
صوت
ما واحد مـن واحـد أولى بفضل أو مروه
ممـن أبـوه وجـده بين الخلافة والنبـوه واشعتها وغنى فيهما المتوكل فاستحسنهما ووصله صلة سنية.
لحن جعفر بن رفعة في هذين البيتين رمل بالبنصر.
مدح الرضا لما عقدت ولاية العهد فأجازه: أخبرني محمد بن يونس الأنباري قال حدثني أبي: أن إبراهيم بن العباس الصولي دخل على الرضا لما عقد له المأمون وولاه العهد، فأنشده قوله:
أزالت عزاء القلب بعد التجلد مصارع أولاد النبي محمـد - صلى الله عليه وسلم - فوهب له عشرة آلاف درهم من الدراهم التي ضربت باسمه، فلم تزل عند إبراهيم، وجعل منها مهور نسائه، وخلف بعضها لكفنه وجهازه إلى قبره.
آذى إسحاق ابن أخي زيدان فهدده فكف عنه: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو العباس بن الفرات والباقطاني قالا: كان إسحاق بن إبراهيم ابن أخي زيدان صديقا لإبراهيم بن العباس، فأنسخه شعره في مدح الرضا، ثم ولي إبراهيم ين العباس في أيام المتوكل ديوان الضياع، فعزله عن ضيع كانت بيده بحلوان، وطالبه بمال وجب عليه، وتباعد بينهما. فقال إسحاق لبعض من يثق به: قل لإبراهيم بن العباس: والله لئن لم يكفف عما يفعله في لأخرجن قصيدته في الرضا بخطه إلى المتوكل. فأحجم عنه إبراهيم وتلافاه، ووجه من ارتجع القصيدة منه وجعله على ثقة من أنه لا يظهرها، ثم أفرج عنه وأزال ما كان يطالبه به.
نادرته في ثقيل: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا إبراهيم بن المدبر قال:
صفحة : 1084
راكبت إبراهيم بن العباس، فلقينا رجل كان إبراهيم يستثقله، فسلم عليه، فلما مضى قال: يا أبا إسحاق إنه جرمي. فقلت: ما كان عندي إلا أنه من أهل السواد. فضحك وقال: إنما أردت قول الشاعر:
تسائل عن أخي جرم ثقيل والذي خلقـه كتابه في شفاعة لرجل
إلى بعض إخوانه:
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن السخي قال حدثني الحسن بن عبد الله الصولي قال: كتب عمي إبراهيم بن العباس شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه: فلان ممن يزكو شكره، ويحسن ذكره، ويعني أمره، والصنيعة عنده واقعة موقعها وسالكة طريقها.
وأفضل ما يأتيه ذو الدين والحجا إصابة شكر لم يضع معه أجر مدحه عبيد الله بن يحيى عند المتوكل: أخبرني عمي عن أبي العيناء قال: كان عبيد الله بن يحيى يقول للمتوكل: يا أمير المؤمنين، إن إبراهيم بن العباس فضيلة خبأها الله لك، وذخيرة ذخرها لدولتك.
طلب إليه المتوكل وصف القدور الإبراهيمية ومجونهما في ذلك: وذكر عن علي بن يحيى: أن المتوكل بعث إلى إبراهيم بن العباس يأمره أن يصف له القدور الإبراهيمية، وكان ابتدعها؛ فكتب له صفتها، وكتب في آخرها في ذكر الأبازير: ووزن دانق ونسي أن يكتب من أي شيء. فلما وصلت إليه الصفة اغتاظ ثم قال لعلي بن يحيى: احلف بحياتي أن تقول له ما آمرك به، ففعل. فقال له: قل وزن دانق من أي شيء? أمن بظر أمك قال علي بن يحيى: فدخلت إليه فقلت: إني جئتك في رسالة عزيز علي أن أؤديها؛ فقال: هاتها، فأديتها. قال: فارجع إليه وقل له عني: يا سيدي، أن علي بن يحيى أخي وصديقي وقد أدى الرسالة؛ فإن رأيت أن تجعل وزن الدانق من بظر أمي وبظر أمه جمعا تفضلت بذلك. فقلت: قبحك الله وأنا أيش ذنبي قال: قد أديت الرسالة وهذا جوابها. فدخلت إلى المتوكل فقال: إيه ما قال لك? فقلت: قبح الله ما جئتك به وأخبرته بالجواب؛ فضحك حتى فحص برجله وجعل يشرب عليه بقية يومه. وإذا لقيته قال لي: يا علي، وزن دانق أيش فأقول: لعنة الله على إبراهيم.
داعب الحسن بن وهب وشعره في ذلك: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: دعا الحسن بن وهب إبراهيم بن العباس؛ فقال له: أركب وأجيئك عشيا فلا تنتظرني بالغداة. فأبطأ عليه، وأسرع الحسن في شربه فسكر ونام، وجاء إبراهيم فرآه على تلك الحالة، فدعا بدواة وكتب:
رحنا إليك وقد راحت بك الراح وأسرعت فيك أوتار وأقـداح قال: وحدثني محمد بن موسى قال: نظر إبراهيم بن العباس الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له:
عيناك قد حكتـا مـبـي تك كيف كنت وكيف كانا
ولـرب عـين قـد أرت ك مبيت صاحبها عيانـا فأجابه الحسن بن وهب بعشرين بيتا وطالبه بمثلها؛ فكتب إليه بأربعة أبيات وطالبه بأربعين بيتا. وأبيات إبراهيم:
أأبا علي خير قولـك مـا حصلت أنجعه ومختصره
ما عندنا في البيع من غبن للمستقل بواحد عـشـرة
أنا أهل ذلك غير محتشـم أرضى القديم وأقتفي أثره
ها نحن وفينـاك أربـعة والأربعون لديك منتظره أخبرني الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل قال: سمعت إبراهيم بن العباس وقد لبس سواده يوما يقول: يا غلام هات ذلك السيف الذي ما ضر الله به أحدا قط غيري.
كان يستثقل ابن أخيه وحكايات عنه في ذلك: قال: وسأل يوما عن ابن أخيه طماس وهو أحمد بن عبد الله بن العباس فقيل له: هو مشغول بطبيب ومنجم عنده، وكان يستثقله، فقال قل له يا غلام: والله مالكا في الناس طبع؛ ولا في السماء نجم، فما لك تكلف هذا التكلف.
أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن السخي قال: أمر إبراهيم بن العباس أن يجمع كل أعور يمر في الطريق، فجمعوهم ووقفوهم وخرج ومعه طماس، فلم رأى العور مجتمعين قال لطماس: كلهم مثلك، فاترك هذا الصلف فإنه داعية إلى التلف.
أخبرني الصولي قال حدثني ميمون بن موسى قال: قال الحسن بن وهب لإبراهيم بن العباس: تعال حتى نعد البغضاء؛ قال: ابدأ بي أولا من أجل ابن أخي طماس ثم ثن بمن شئت.
أمر الحسن بن مخلد بأمر فأبطأ فيه فقال شعرا: أخبرني الصولي قال قال جعفر بن محمود:
صفحة : 1085
ركبت بين يدي إبراهيم بن العباس. فأمر الحسن بن مخلد بأمر فاستبطأه فيه فنظر إليه فقال:
معجب عند نفـسـه وهو لي غير معجب
إن أقل لا يقل نـعـم عاتب غير معتـب
مولع بالخلاف لـي عامدا والتـجـنـب
قلت فيه بضـد مـا قيل في أم جـنـدب يريد قول امرئ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب أي فأنا لا أريد أن أمر بك.
تنادر بابن الكلبي عند المتوكل لما جاء كتابه: قال وأخبرني الصولي قال حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: كان المتوكل قد ولى ابن الكلبي البريد، وأحلفه بالطلاق ألا يكتمه شيئا من أمر الناس جميعا ولا من أمره هو في نفسه. فكتب إليه يوما أن امرأته خرجت مع حبتها في نزهة، وأن حبتها عربدت عليها فجرحتها في صدغها. فقرأه إبراهيم بن العباس على المتوكل ثم قال له: يا أمير المؤمنين، قد صحف ابن الكلبي، إنما هو: جرحتها في سرمها ، فضحك المتوكل وقال: صدقت. ما أظن القصة إلى هكذا. قال: ولم يكن ابن الكلبي هذا من العرب، إنما كان أبوه يلقب كلب الرحل فقيل له الكلبي.
استعطافه محمد بن عبد الملك الزيات: أخبرني عمي قال حدثنا ميمون بن هارون قال: كتب إبراهيم بن العباس إلى محمد بن عبد الملك يستعطفه: كتبت إليك وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام بك علي، بعد عدوي بك عليها، وكان أسوأ ظني وأكثر خوفي، أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عند أذاها، فصرت علي أضر منها، وكف الصديق عن نصرتي خوفا منك، وبادر إلي العدو تقربا إليك. وكتب تحت ذلك:
أخ بين وبـين الـده ر صاحب أينا غلبـا
صديقي ما استقام فإن نبا دهر علي نـبـا
وثبت على الزمان به فعاد به وقد وثـبـا
ولو عاد الزمان لنـا لعاد به أخا حـدبـا قال وكتب إليه: أما والله لو أمنت ودك لقلت؛ ولكني أخاف منك عتب لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لاتحتملها لي. وما قد قدر فهو كائن، وعن كل حادثة أحدوثة. وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطا حالة أنا في مكروهها وألمها أشد علي من أني فزعت إلي ناصري عند ظلم لحقني، فوجدت من يظلمني أخف نية في ظلمي منه، وأحمد الله كثيرا. ثم كتب في أسفلها:
وكنت أخي بإخاء الزمـان فلما نبا صرت حربا عوانا
وكنت أذم إلـيك الـزمـان فأصبحت فيك أذم الزمانـا
وكنت أعدك لـلـنـائبـات فأصبحت أطلب منك الأمانا ?هجا محمد بن عبد الملك وكان قد أغرى به الواثق: أخبرني الصولي قال أخبرني الحسين بن فهم قال: كان محمد بن عبد الملك قد أغرى الواثق بإبراهيم بن العباس، وكان إبراهيم يعاتبه على ذلك ويداريه، ثم وقف الواثق على تحامله عليه فرفع يده عنه وأمر أن يقبل منه ما رفعه، ورده إلى الحضرة مصونا، فلما أحس إبراهيم بذلك بسط لسانه في محمد، وحس ما بينه وبين ابن أبي داود. وهجا محمد بن عبد الملك هجاء كثيرا؛ منه قوله:
قدرت فنم تضرر عدوا بـقـدرة وسمت بها أخوانك الذل والرغما
وكنت مليئا بالتي قد يعـافـهـا من الناس من يأبى الدنيئة والذما تمادح هو وأبي تمام: أخبرني الصولي قال حدثنا ابن السخي قال حدثني الحسين بن عبد الله: قال: سمعت إبراهيم بن العباس حدثنا يقول لأبي تمام الطائي وقد أنشده شعرا له في المعتصم: يا أبا تمام، أمراء الكلام رعية لإحسانك. فقال له أبو تمام: ذلك لأني أستضيء بك وأرد شريعتك.
اعتذر له إبراهيم بن المدبر عن أخيه فقال شعرا: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال سمعت إبراهيم بن المدبر يقول: جرى بين إبراهيم بن العباس وبين أخي أحمد بن المدبر شيء وكان يودني دون أخي؛ فلقيته فأعتذرت إليه عنه؛ فقال لي: يا أبا إسحاق: صوت
خل النفـاق لإهـلـه وعليك فالتمس الطريقا
واذهب بنفسك إن ترى إلا عدوا أو صـديقـا الغناء لأبي العبيس.
احتال على المتوكل لينجي بعض عماله من العقوبة:
صفحة : 1086
أخبرني الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل قال: انصرف إبراهيم بن العباس يوما من دار المتوكل وقال لنا: أنا والله مسرور بشيء مغموم منه. فقلنا له: وما ذاك أعزك الله? قال: كان أحمد بن المدبر رفع إلى أمير المؤمنين أن بعض عمالي اقتطع مالا، وصدق في الذي قاله، وكنت قد رأيت هلال الشهر ونحن مع أمير المؤمنين على وجهه فدعوت له، وضحك إلي فقال لي: إن أحمد قد رفع على عاملك كذا وكذا فاصدقني عنه؛ فضاقت علي الحججة، وخفت أن أحقق قوله إن اعترفت، ثم لا أرجع منه إلى شيء فيعود علي الغرم، فعدلت عن الحجة إلى الحيلة فقلت: أنا في هذا يا أمير المؤمنين كما قلت فيك: صوت
رد قولي وصدق الأقـوال وأطاع الوشالة والعـزالا
أتراه يكون شهـر صـدود وعلى وجهه راأيت الهلالا قال: والله لا يكون ذلك بحياتي يا إبرااهيم رو هذا الشعر بنانا حتى يغنيني به. فقلت: نعم يا سيدي على ألا يطالب صاحبي بقول أحمد. فقال للوزير: تقبل قول صاحبه في هذا المال. فسررت بالظفر، واغتممت ببطلان هذا المال وذهابه بمثل هذه الحيلة، ولعله قد جمع في زمن طويل وتعب شديد.
سرق ابن دريد وابن الرومي شعره: أنشدت عمي رحمه الله أبياتا لأبن دريد يمدح رجلا من أهل البصرة:
يا من يقبل كف كل مخـرق هذا ابن يحيى ليس بالمخراق
قبل أنامله فلسـنـا أنـامـلا لكنهن مـقـاتـح الأرزاق فقال: يا بني هذا سرقه هو وابن الرومي جميعا من إبراهيم بن العباس؛ قال إبراهيم بن العباس يمدح الفضل بن سهل:
لفضل بن سهل يد تقاصر عنها الأمل
فباطنها لـلـنـدى وظاهرها للقبـل
وبستطها للغـنـى وسطوتها للأجـل وسرقه ابن الرومي فقال:
أصبحت بين خصاصة ومذلة والحر بينهما يموت هزيلا
فأمدد إلي يدا تعود بطنـهـا بذل الندم وظهورها التقبيلا قال ثعلب إنه كان أشعر المحدثين: أخبرني الصولي قال سمعت أحمد بن يحيى ثعلبا يقول: كان إبراهيم بن العباس أشعر المحدثين. قال: وما روى ثعلب شعر كاتب قط قال: وكتن يستحسن كثيرا قوله:
لنا إبل كوم يضيق بها الفـضـا ويفتر عنها أرضها وسماؤهـا
فمن دونها أن تستباح دمـاؤنـا ومن دوننا أن تستباح دماؤهـا
حنى وقرى فالموت دون مرامها وأيسر خطب يوم حق فناؤهـا ثم قال: والله لو كان هذا لبعض الأوائل لا ستجيد له.
مدح الحسن بن سهل: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال سمعت الحسن بن رجاء يقول: كنا بفم الصلح أيام بني المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل؛ فقدم إبراهيم بن العباس علينا ودخل إلى الحسن بن سهل فأنشده:
ليهنئك أصهار أذلت بـعـزهـا خدودا وجدعت الأنوف الرواغما
جمعت بها الشملين من آل هاشم وحزت بها للأكرمين الأكارمـا
بنوك غدوا آل النبي ووارثـو ال خلافة والحاون كسرى وهاشما فقال له الحسن: شنشنة أعرفها من أخرم أي إنك لم تزل تمدحنا، ثم قال له: أحسن الله عنا جزاءك يا أبا إسحاق؛ فما الكثير من فعلنا بك بجزاء لليسير من حقك.
قال شعرا في قينة اسمها سامر كان يهواها فغضبت عليه: أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس لنفسه في قينة اسمها سامر كان يهواها فغضبت عليه:
وعلمتني كيف الهوى وجهـلـتـه وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم ما لي عنـدكـم فـيردنـي هواي إلى حهل فأقصر عن علمي شعره في قصر الليل: أخبرني الصولي قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يقول: لا يعلم لقديم و لا لمحدث في قصر الليل أحسن من قول إبراهيم بن العباس:
وليلة من الليالي الـزهـر قابلت فيها بدرهـا بـبـدر
لم تك غير شفـق وفـجـر حتى تولت وهي بكر الدهر تنكر له ابن الزيات لصلته بابن أبي دواد فاعتذر له بشعر:
صفحة : 1087
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني أحمد بن بشر المرثدي قال: كان إبراهيم بن العباس يوما عند أحمد بن أبي دواد، فلما خرج من عنده لقيه محمد بن عبد الملك الزيات وهو خارج من داره؛ فتبين إبراهيم في وجه محمد الغضب فلم يخاطبه في العاجل بشيء. فلما انصرف إلى منزله كتب إليه.
دعني أواصل من قطـع ت يراك بي إذ لا يراكا
إني متى أهجـر لـهـج رك لا أضربه سـواك
وإذا قطعتك فـي أخـي ك قطعت فيك غدا أخاكا
حتى أرى متـقـسـمـا يومي لذا وغدي لذاكـا مسح المداد بكم ثوبه وشعره في ذلك: أخبرني الصولي قال حدثني أبو العيناء قال: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتابا، فنقط من القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه؛ فتعجبت من ذلك؛ فقال: لا تعجب، المال فرع والقلم أصل، ومن هذا السواد جاءت هذه الثياب، والأصل أحوج إلى المراعاة من الفرع. ثم فكر قليلا وقال:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظ وأسلمه الوجود إلى العيان
وهو شاه فنمنمـه مـسـد فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منتشـرات تجلى بينها صور المعاني اتهمه المأمون بإفشاء سر مقتل الفضل بن سهل ثم عفى عنه بشفاعة هشام الخطيب: أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح قال: لما عزم المأمون على الفتك بالفضل بن سهل، وندب له عبد العزيز بن عمران الطائي، ومؤنسا البصري، وخلفا المصري، وعلي بن أبي سعد ذا القلمين، وسراجا الخادم، نمي الخبر إلى الفضل، فأظهره للمأمون وعاتبه عليه. فلما قتل الفضل وقتل المأمون قتلته، سأل من أين سقط الخبر إلى الفضل? فعرف أنه من جهة إبراهيم بن العباس، فطلبه قاستتر. وكان إبراهيم عرف هذا الخبر من جهة عبد العزيز بن عمران، وكان الفضل استكتب إبراهيم لعبد العزيز بن عمران، فأحبر به الفضل. قال: وتحمل إبراهيم بالناس على المأمون، وجرد في أمره هشاما الخطيب المعروف بالعباسي وكان جريئا على المأمون لأنه رباه، وشخص إليه إلى خراسان في فتنة إبراهيم بن المهدي، فلم يجبه المأمون إلى ما سأل. فلقيه إبراهيم مستترا وسأله عما عمل في حاجته. فقال له هشام: قد وعدني في أمرك بما تحب. فقال له إبراهيم: أظن أن الأمر على غير هذا قال: وما تظن? قال: محلك عند أمير المؤمنين أجل من أن يعدك شيئا فترضى بتأخيره، وهو أكرم من أن يعد مثلك شيئا فيؤخره، ولكنك سمعت ما لا تحب في فكرهت أن تغمني به فقلت لي هذا القول، وأحسن الله على كل الأحوال جزاءك، فمضى هشام إلى المأمون فعرفه خبر إبراهيم، فعجب من فطنته وعفا عنه. قال: وفي هشام يقول إبراهيم بن العباس:
من كانت الأموال ذخرا له فإن ذخري أملي في هشام
فتى يقي اللامة عن عرضه وأنهب المال قضاء الزمام مدح الفضل بن سهل: أخبرني عمي قال حدثني أبو الحسين بن أبي البغل قال: دخل إبراهيم بن العباس على الفضل بن سهل فاستأذنه في الإنشاد، فقال هات، فأنشده:
يمضي الأمور على بديهتـه وتريه فكرته عواقـبـهـا
فيظل يصدرهـا ويوردهـا فيعم حاضرها وغائبـهـا
وإذا ألمت صعبة عظمـت فيها الرزية كان صاحبهـا
المستقل بها وقد رسـبـت ولوت على الأيام جانبـهـا
وعدلتها بالحق فاعتـدلـت ووسعت راغبها وراهبهـا
وإذا الحروب غلت بعثت لها رأيا تفل به كـتـائبـهـا
رأيا إذا نبت السيوف مضى عزم بها فشفى مضاربهـا
أجرى إلى فئة بدولـتـهـا وأقام في أخرى نوادبـهـا
وإذا الخطوب تأثلت ورست هدت فواصله نـوائبـهـا
وإذا جرت بضـمـيره يده أبدت به الدنيا مناقـبـهـا وأنشدني عميلإبراهيم بن العباس في الفضل بن سهل وفيه غناء: صوت
فلو كان للشكر شخص يبين إذا ما تأملـه الـنـاظـر
لمثلته لـك حـتـى تـراه فتعلم أني امرؤ شـاكـر
صفحة : 1088
الغناء لأبي العبيس ثقيل أول. وفيه لرذاذ ثاني ثقيل. حدثني أبو يعقوب النوبختي قال حدثني جماعة من عمومتي وأهلنا أن رذاذا صنع في هذين البيتين لحنا أعجب به الناس ةاستحسنوه، فلما كثر ذلك صنع فيه أبو العبيس لحنا آخر، فسقط لحن رذاذ واختار الناس لحن أبي العبيس.
مدح المتوكل وولاة العهود فأجازوه: أخبرني حنظلة قال حدثني ميمون بن هارون قال: لما عقد المتوكل لولاة العهود من ولده ركب بسر من رأى ركبة لم ير أحسن منها، وركب ولاة العهود بين يديه، والأتراك بين أيديهم أولادهم يمشون بين يدي المتوكل بمناطق الذهب، في أيديهم الطبرزينات المحلاة بالذهب، ثم نزل بالماء فجلس فيه والجيش معه في الجوانحيات وسائر السفن، وجاء حتى نزل في القصر الذي يقال له العروس، وأذن للناس فدخلوا إليه فلما تكاملوا بين يديه، مثل إبراهيم بن العباس بين الصفين، فاستأذن في الإنشاد فأذن له، فقال:
ولما بدا جعفر في الخـمـي س بين المطل وبين العروس
بدا لابـسـا بـهـمـا حـلة أزيلت بها طالعات النحوس
ولما بـدا بـين أحـبـابـه ولاة العهود وعز النفـوس
غدا قمـرا بـين أقـمـاره وشمسا مككلة بالشـمـوس
لإيقـاد نـار وإطـفـائهـا ويوم أنـيق ويوم عـبـوس ثم أقبل على ولاة العهود فقال:
أضحت عرى الإسلام وهي منوطة بالنصـر والإعـزاز والـتـأييد
بخـلـيفة مـن هـاشـم وثـلاثة كنف الخلافة مـن ولاة عـهـود
قمر توافـت حـولـه أقـمـاره فحففن مطلع سعـده بـسـعـود
رفعتهـم الأيام وارتـفـعـوا بـه فسعوا فأكـرم أنـفـس وجـدود قال: فأمر له المتوكل بمائة ألف درهم، وأمر له ولاة العهود بمثلها.
فضل ابن برد الخيار شعره على شعر محمد بن عبد الملك الزيات: أخبرني عمي قال: اجتمعت أنا وهارون بن محمد بن عبد الملك وابن برد الخيار في مجلس عبيد الله بن سليمان قبل وزارته، فجعل هارون ينشد من أشعار أبيه محاسنها، ويفضلها ويقدمها. فقال له ابن برد الخيار: إن كان لأبيك مثل قول إبراهيم بن العباس:
أسد ضار إذا هـيجـتـه وأب بر إذا مـا قـدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ولا يعرف الأدنى إذا افتقرا أو مثل قوله:
تلج السنون بيوتهم وترى لهـم عن جار بيتهم ازورار مناكب
وتراهم بسيوفهم وشفـارهـم مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهـم نهب العفاة ونهزة للراغـب فاذكره وافخر به، وإلا فأقلل من الافخار والتطاول بما لاطائل فيه؛ فحجل هارون. وقال عبيد الله بن سليمان: لعمري ما في الكتاب أشعر من أبي إسحاق وأبي علي، يعني عمه الحسن بن وهب ثم أمر بعض كتابه بكتب المقطوعتين اللتين أنشدهما ابن برد الخيار.
هنأ الحسن بن سهل بصهر المأمون: أنشدني علي بن سليمان الأخفش لإبراهيم بن العباس يهنأ الحسن بن سهل بصهر المأمون:
هنتك أكرومة جللت نعمتهـا أعلت وليك واجتثت أعاديكـا
ما كان يحيا بها إلا الإمام وما كانت إذا قرنت بالحق تعدوكا هجا محمد بن عبد الملك الزيات: أخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني أبو محمد الحسن بن مخلد قال: أودع محمد بن عبد الملك الزيات مالا عظيما وجوهرا نفيسا، وقد راى تغيرا من الواثق فخافه وفرق ذلك في ثقاته من أهل الكرخ ومعامليه من التجار. وكان إبراهيم بن العباس يعاديه ويرصد له بالمكاره لإساءته إليه، فقال أبياتا وأشاعها حتى بلغت الواثق يغريه به:
نصيحة شانـهـا وزير مستحفظ سارق مغـير
ودائع جـمة عـظـام قد أسبلت دونها الستور
تسعة آلاف ألف ألـف خلالها جوهر خطـير
بجانب الكرخ عند قـوم أنت بما عندهم خبـير
والملك اليوم في أمـور تحدث من بعدها أمور
قد شغلته مـحـقـرات وصاحب الكارة الوزير مدح المعتز بشعره:
صفحة : 1089
أنشدني علي بن سليمان الأخفش لإبراهيم بن العباس يمدح المعتز وفيه غناء: صوت
سحور محاجر الحدقه مليح والذي خلـقـه
سواء في رعـايتـه مجانبه ومن عشقـه
لعيني في محاسـنـه رياض محاسن أنقه
فأحيانـا أنـزهـهـا وطورا في دم غرقه يقول فيها في مدح المعتز بالله:
فيا قمرا أضـاء لـنـا يلألئ نـوره أفـقـه
يشبهه سنا المـعـتـز ذو مـقة إذا رمـقـه
أمير قـلـد الـرحـم ن أمر عباده عنـقـه
وفـضـلـه وطـيبـه وطهر في الورى خلقه في الأربعة الأبيات الأول رمل ذكر الهشامي أنه لابن القصار، ووجدته في بعض الكتب لعريب.
هنأه أحمد بن المدبر وكان يحرض عليه فقال شعرا: أنشدني الأخفش لإبراهيم بن العباس يقولها لأحمد بن المدبر وقد جاءه بعد خلاصة من النكبة مهنئا، وكان استعان به في أمر نكبته فقعد عنه، وبلغه أنه كان يحرض عليه ابن الزيات:
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا نبوت فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبال عددتـك طـائلا ولا يوم إدبار عددتك في وتـر
وما كنت إلا مثل أحلامنا نـائم كلا حالتيك من وفاء ومن غدر وأنشدني الصولي له في أحمد بن المدبر أيضا وقد عاتبه أحمد بن المدبر على شيء بلغه فقال:
هب الزمان رماني الشأن في الخـلان
فيمن رماني لـمـا رأى الزمان رماني
ومن ذخرت لنفسي فصار ذخر الزمان
لو قيل لي خذ أمانا من أعظم الحدثـان
لما أخـذت أمـانـا إلا مـن الإخـوان ومن أخبار الجارية مجرى هذا الكتاب.
المعتضد وغلامه بدر: حدثني عمي عن جدي رحمهما الله قال قال لي عبيد الله بن سليمان، وكان يأنس بي أنسا شديدا لقديم الصحبة وائتناف المنشأ: دعاني المعتضد يوما فقال: ألا تعاتب بدرا على ما لا يزال يستعمله من التخرق في النفقات والإثابات والزيادات والصلات وجعل يؤكد القول علي في ذلك؛ فلم أخرج عن حضرته حتى دخل إليه بدر فجعل يستأمره في إطلاقات مسرفة ونفقات واسعة وصلات سنية وهو يأذن له في ذلك كله. فلما خرج رأى في وجهي إنكارا لما فعله بعدما جرى بيني وبينه؛ فقال لي: يا عبيد الله قد عرفت ما في نفسك، وأنا وإياه كما قال الشاعر: صوت
في وجهه شافع يمحو إساءته من القلوب مطاع حيثما شفعا
مستقبل الذي يهوى وإن كثرت منه الإساءة منفور لما صنعا وفي هذين البيتين خفيف رمل.
كان المعتضد يطرب لغناء ابن العلاء في شعر الوليد بن يزيد: حدثني محمد بن إبراهيم قريض قال حدثني أحمد بن العلاء قال: غنيت المعتضد:
كلللاني توجانـي وبشعري غنياني
أطلقاني من وثاقي واشدداني بعناني فاستحسنه جدا، ثم قال لي: ويحك يا أحمد أما ترى زهو الملك في شعره وقوله:
كللاني توجانـي وبشعري غنياني واستعاده مرارا، ثم وصلني كل مرة استعاده بعشرة آلاف درهم، وما وصل بها مغنيا قبلي ولا بعدي. قال: واستعاده مني ست مرات ووهب لي ستين ألفا، وقال النوشجاني: بل وصله بعشرة آلاف درهم مرة واحدة.
صنعة أولاد الخلفاء الذكور منهم والإناث
صفحة : 1090
فأولهم وأتقنهم صنعة وأشهرهم ذكرا في الغناء إبراهيم بن المهدي؛ فإنه كان يتحقق به تحققا شديدا ويبتذل نفسه ولا يستتر منه ولا يحاشي أحدا. وكان في أول أمره لا يفعل ذلك إلا من وراء ستر وعلى حال تصون عنه وترفع، إلا أن يدعوه إليه الرشيد في خلوة والأمين بعده. فلما أمنه المأمون تهتك بالغناء وشرب النبيذ بحضرته والخروج من عنده ثملا ومع المغنين، خوفا منه وإظهارا له أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه وهتك ستره فيها حتى صار لا يصلح لها. وكان من اعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطبعهم في الغناء وأحسنهم صوتا. وهو من المعدودين في طيب الصوت خاصة؛ فإن المعدودين منهم في الدولة العباسية: ابن جامع وعمرو بن أبي الكنات وإبراهيم ابن المهدي ومخارق. وهؤلاء من الطبقة الأولى، وإن كان بعضهم يتقدم. وكان إبراهيم مع علمه وطبعه مقصرا عن أداء الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته، فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفا شديدا ويخففها على قدر ما يصلح له ويفي بأدائه. فإذا عيب ذلك عليه قال: أنا ملك وابن ملك، أغني كما أشتهي وعلى ما ألتذ. فهو أول من أفسد الغناء القديم، وجعل للناس طريقا إلى الجسارة على تغييره. فالناس إلى الآن صنفان: من كان منهم على مذهب إسحاق وأصحابه ممن ينكر تغيير الغناء القديم ويعظم الإقدام عليه ويعيب من فعله، فهو يغني الغناء القديم على جهته أو قريبا منها. ومن أخذ بمذهب إبراهيم بن المهدي أو اقتدى به مثل مخارق وشارية وريق ومن أخذ عن هؤلاء إنما يغني الغناء القديم كما يشتهي هؤلاء لا كما غناه من ينسب إليه، ويجد على ذلك مساعدين ممن يشتهي أن يقرب عليه مأخذ الغناء ويكره ما ثقل وثقلت أدواره، ويستطيل الزمان في أخذ الغناء الجيد على جهته بقصر معرفته. وهذا إذا اطرد فإنما الصنعة لمن غنى في هذا الوقت لا للمتقدمين؛ لأنهم إذا غيروا ما أخذوه كما يرون وقد غيره من أخذوه عنه وأخذ ذلك أيضا عمن غيره، حتى يمضي على هذا خمس طبقات أو نحوها. لم يتأد إلى الناس في عصرنا هذا من جهة الطبقة غناء قديم على الحقيقة البتة. وممن أفسد هذا الجنس خاصة بنو حمدون بن إسماعيل فإن أصلهم فيه مخارق، وما نفع الله أحدا قط بما أخذ عنه، وزرياب الواثقية فإنها كانت بهذه الصورة تغير الغناء كما تريد، وجواري شارية وريق. فهذه الطبقة على ما ذكرت. ومن عداهم من الدور بمثل دور غريب ودور جواريها والقاسم بن زرزور وولده ودور بذل الكبرى ومن أخذ عنها، وجواري البرامكة وآل هاشم وآل يحيى بن معاذ ودور آل الربيع ومن جرى مجراهم ممن تمسك بالغناء القديم وحمله كما سمعه، فعسى أن يكون قد بقي ممن أخذ بذلك المذهب قليل من كثير، وعلى أن الجميع من الصحيح والمغير قد انقضى في عصرنا هذا.
فمن مشهور غناء إبراهيم بن المهدي
صوت
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هـلالـهـا
أو تدفعون مقالة مـن ربـكـم جبريل بلغها النبي فقـالـهـا
طرقتك زائرة فحي خـيالـهـا زهراء تخلط بالدلال جمالهـا الشعر لمروان بن أبي حفصة. والغناء لإبراهيم بن المهدي، ثقيل أول بالبنصر، وذكر حبش أن فيه لابن جامع لحنا ماخوريا.
أخباؤر مروان بن أبي حفصة ونسبه
نسبه وشيء من أخبار آبائه:
صفحة : 1091
هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة. ويكنى أبا الصمت. واسم أبي حفصة يزيد. وذكر النوفلي عن أبيه أنه كان يهوديا، فأسلم على يدي مروان بن الحكم. وأهله ينكرون ذلك ويذكرون أنه من سبي إصطخر ، وإن عثمان اشتراه فوهبه لمروان بن الحكم. وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا محمد بن إدريس بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة بمثل ذلك. قال: وشهد أبو حفصة الدار مع مولاه مروان بن الحكم، وقاتل قتالا شديدا وقتل رجلا من أسلم يقال له بنان. وجرح مروان يومئذ، أصابته ضربة قطعت علباءه فسقط، فوثب عليه أبو حفصة واحتمله، فجعل يحمله مرة على عنقه ومرة يجره، فيتأوه؛ فيقول له: اسكت واصبر؛ فإنه إن علموا أنك حي قتلت. فلم يزل به حتى أدخله دار امرأة من عنزة فداواه فيها حتى برىء؛ فأعتقه مروان ونزل له عن أم ولد له يقال لها سكر كانت له منها بنت يقال لها حفصة؛ فحضنها، فكني أبا حفصة؛ فحفصة بنت مروان. قال: وكان مروان إذا ولي المدينة وجه أبا حفصة إلى اليمامة - وكانت مضافة إلى المدينة - ليجمع ما فيها من المال ويحمله إليه. قال: فمر أبو حفص بقرية من قرى اليمامة يقال لها العرض، فوقف على باب فاستسقى ماء فخرجت إليه جارية معصر فسقته فأعجبته؛ فسأل عنها ليشتريها؛ فقيل له: هي حرة، وهي مولاة لبني عامر بن حنيفة. فمضى حتى قدم حجر ، ثم تبعتها نفسه فتزوجها، فلم يخرج من اليمامة حتى حملت بيحيى بن أبي حفصة، ثم حملت بمحمد ثم بعبد الله ثم بعبد العزيز. فلما وقعت فتنة ابن الزبير خرج أبو حفصة مع مروان إلى الشام.
قال محمد بن إدريس وحدثني أبي قال كان مروان بن أبي الجنوب يقول: أم يحيى بن أبي حفصة لحناء بنت ميمون من ولد النابغة الجعدي، وإن الشعر أتى آل أبي حفصة بذلك السبب. قال: وشهد أبو حفصة مع مروان يوم الجمل وقاتل قتالا شديدا فلما ظفر علي بن ابي طالب رضي الله عنه، لجأ مروان إلى مالك بن مسمع فدخل داره ومعه أبو حفصة، فقال لمالك: أغلق بابك. فقال له مالك: إن لم أمنعك والباب مفتوح لم أمنعك والباب مغلق. فطلب علي رضي الله عنه مروان منه، فلم يدفعه إليه إلا برهينة، فدفع مالك الرهينة إلى أبي حفصة، ومضى مروان إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال لأبي حفصة: إن حدث حدث بصاحبك فعليك بالرهينة. فلما أتى مروان عليا كساه كسوة، فكساها مروان أبا حفصة، فغدا فيها أبو حفصة. وبلغ عليا رضي الله عنه ذلك فغضب وقال: كسوته كسوة فكساها عبدا . وشهد أبو حفصة مع مروان مرج راهط، وكان له بلاء. وكان أبو حفصة شاعرا.
قال أبو أحمد قال لي محمد بن إدريس أخبرني أبي أن أبا الصمت مروان بن أبي الجنوب أنشده لأبي حفصة يوم الدار:
وما قلت يوم الدار للقوم صالـحـوا أجل لا، ولا أخترت الحياة على القتل
ولكنني قد قلت لـلـقـوم جـالـدوا بأسيافكم لا يخلصن إلى الـكـهـل قال: وأنشدني لأبي حفصة أيضا:
لست على الزحام بالأصر إني لوراد حياض الشر
معاود للكر بعد الكـر قال يحيى وأخبرني محمد بن إدريس قال:
صفحة : 1092
عكل تدعي أن أبا حفصة منهم، يقولون: هو من كنانة بن عوف بن عبد مناة بن طابخة بن إلياس بن مضر، وقد كانوا استعدوا عليه مرروان بن الحكم، وقالوا: إنما باعته عمته لمجاعة؛ فأبى هو أن يقر لهم بذلك. ثم استعدوا عليه عبد الملك بن مروان أيضا؛ فأبى إلا أنه رجل من العجم من سبي فارس، نشأ في عكل وهو صغير. قال محمد بن إدريس: وولد السموءل بن عادياء يدعونه والسموءل من غسان. قال محمد: وزعم أهل اليمامة وعكل وغيرهم أن ثلاثة نفر أتوا مروان بن الحكم وهم أبو حفصة ورجل من تميم ورجل من سليم، فباعوا أنفسهم منه في مجاعة نالتهم؛ فاستعدى أهل بيوتاتهم عليهم، فأقر أحدهم وهو السليمي أنه إنما أتى مروان فباعه نفسه وأنه من العرب؛ فدس إليه مروان من قتله. فلما رأى ذلك الآخران ثبتا على أنهما موليان لمروان. فأخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: زعم المدائني أنه كان لأبي حفصة ابن يقال له مروان سماه مروان بن الحكم باسمه، وليس بالشاعر، وإنه كان شجاعا مجربا، وأمد به عبد الملك بن مروان الحجاج وقال له: قد بعثنا إليك مولاي ابن أبي حفصة وهو يعدل ألف رجل. فشهد معه ومحاربة ابن الأشعث، فأبلى بلاء حسنا وعقرت تحته عدة خيول، فأحتسب بها الحجاج عليه من عطائه. فشكاه إلى عبد الملك وذم الحجاج عنده؛ فعوضه مكان ما أغرمه الحجاج. وكان يحيى جد مروان بن سليمان جوادا ممدحا.
جرير يودع ابنه يحيى بن أبي حفصة: أخبرنا محمد العباس اليزيدي قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: أراد جرير أن يوجه ابنه بلال بن جرير إلى الشام في بعض أمره ،فأتى يحيى بن أبي حفصة فأودعه إياه، ثم بلغ بلالا أن بعض بني أمية يريد الخروج، فقال لأبيه: لو كلفت هذا القرشي أمري فقال له جرير:
أزادا سوى يحيى تريد وصاحبـا ألا إن يحيى نعم زاد المسافـر
وما تأمن الوجناء وقعة سـيفـه إذا انفضوا أو قل ما في الغرائر يحيى بن أبي حفصة يتزوج بنت زياد بن هوذة: أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال: تزوج يحيى بن أبي حفصة بنت زياد بن هوذة بن شماس بن لأي بن أنف الناقة؛ فاستعدى عليه عماها عبد الملك بن مروان وقالا: أينكح إبراهيم بن عدي وهو من كنانة منك وإليك بنتها، وينكح هذا العبد هذه . فقال عبد الملك: بل العبد ابن العبد والله إبراهيم بن عدي - وكان مغمور النسب في الإسلام - والله لهذا أشرف منه، وإن لأبيه من البلاء في الإسلام ما ليس لأبيها ولا لأبيكما، وما أحب أن لي بيحيى ألفا منكما. والله لو تزوج بنت قيس بن عاصم ما نزعتها منه. ومن زوجه فقد زوج ابني هذا، وأشار إلى ابنه سليمان. فخرجا وتخلف يحيى بعدهما، فقال: يا أمير المؤمنين، إنهما قد أنضيا ركابهما وأخلقا ثيابهما والتزما مؤونة في سفرهما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعوضهما عوضا فقال: أبعد ما قالا فيك قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: بل أعطيك أنت ما سألت لهما وتعطيهما ما شئت. فكساه ووصله وحمله. فخرج يحيى إليهما ففرق ذلك عليهما، وزوج ابنه سليمان بنت أحدهما، وولدت بنت زياد منه أولادا.
يهنئ الوليد بن عبد الملك ويعزيه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الفضل اليزيدي قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني مروان بن أبي حفصة قال: ودخل يحيى بن أبي حفصة على الوليد بن عبد الملك لما بويع له بالخلافة بعد أبيه، فهنأه وعزاه وأنشده:
إن المنايا لا تغادر واحـدا يمشي ببزته ولا ذا جـنة
لو كان خلق للمنايا مفلتـا كان الخليفة مفلتا منهنـه
بكت المنابر يوم مات وإنما بكت المنابر فقد فارسهنه
لما علاهن الوليد خلـيفة قلن ابنه ونظيره فسكنـه
لو غيره قرع المنابر بعده لنكرنه فطرحنه عنهنـه زوج بنيه من بنات مقاتل المنقري فهجاه القلاح فرد عليه: أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العنزي قال:
صفحة : 1093
خطب يحيى بن أبي حفصة إلى مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري ابنته وأختيه، فأنعم له بذلك. فبعث يحيى إلى بنيه سليمان وعمر وجميل، فأتوه بالجفر فزوجهن بنيه ثلاثتهم، ودخلوا بهن ثم حملوهن إلى حجر. فقال القلاح بن حزن المنقري في ذلك:
سلام على أوصال قيس بن علصم وإن كن رمسا في التراب بواليا
أضيعتموا خيلا عرابا فأصبحـت كواسد لا ينكحن إلا الـمـوالـيا
فلم أرى أبرادا أجـر لـخـزية وألأم مكـسـوا وألأم كـاسـيا
من الخز واللائي بحجر عليكـم نشرنا فكن المخزيات البـواقـيا فقال يحيى يرد عليه:
ألا قبح اللـه الـفـلاح و نـسـوة على البئر يعطشن الكلاب من النتن
نكحنا بنات القرم قيس بن عـاصـم وعمدا رغبنا عن بنات بني حـزن
أبا كان خـيرا مـن أبـيك أرومة وأوسط في سعد وأرجح في الوزن
لبيت بني حزن مـن الـذل وهـنة كوهنة بيت العنكبوت التي تبـنـي
ولم تر حزنيا، ولو ضـم أربـعـا وأبرز ، في فرج يعف ولا بطـن
وضيف بني حزن يجوع وجارهـم إذا أمن الجيران ناء مـن الأمـن يذكر خروج ابن المهلب: أخبرنا يحيى بن علي قال أنشدني محمد بن إدريس ليحيى يذكر خروج يزيد بن المهلب ويتأسف على الحجاج:
لا يصلح الناس إلا السيف إذا فتنوا لهفي عليك ولا حجـاج لـلـدين
لو كان حيا غداة الأزد إذ نكـثـوا لم يحص قتالهم حـسـاب ديرين
لم تأتيه الأزد عند الباب تربصـه مثل الجراد تنزى في التبـابـين
من كل أفحج ذي حنف مخـالـفة أرفت به السفن علجا غير مجنون قال أبو أحمد: وأنشدني لليحيى في سفيان بن عمرو وإلى اليمامة:
لقد عصاني ابن عمرو إذ نصحت له ولو أطعت لما زلت بـه الـقـدم
لو كنت أنفخ في فحم لقـد وقـدت ناري ولكن رماد ما لـه حـمـم بخل مروان بن أبي حفصة ونوادر له في ذلك: وليحيى أشعار كثيرة؛ وإنما ذكرنا ها هنا منها ماذكرنا لنعرف أعراق مروان في الشعر. وكان مروان أبخل الناس على يساره وكثرة ما أصابه من الخلفاء، لا سيما من بني العباس، فإنه كان رسمهم أن يعطوه بكل بيت يمدحهم به ألف درهم.
أخبرنا أحمد بن عمار وقال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يقول: كان المهدي يعطي مروان وسلما الخاسر عطية واحدة، وكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون قيمته عشرة آلاف درهم، والسرج واللجام المقذوذين ؛ ولباسه الخز والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان، ورائحة المسك والغالية والطيب تفوح منه، ويجيء مروان وعليه فرو كبش، وقميص كرابيس وعمامة كرابيس، وخفا كبل وكساء غليظ منتن الرائحة، وكان لا يأكل اللحم بخلا حتى يقرم إليه، فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأسا فأكله. فقيل له: نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك? قال: نعم الرأس أعرف سعره، ولا يستطيع الغلام أن يغببني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، إن مس عينا أو أذنا أو خدا وقفت عليه، فآكل منه ألوانا، آكل عينيه لونا، وأذنيه لونا، وغلصمته لونا، وأكفى مؤنة طبخه، فقد اجتمعت لي فيه مرافق.
أخبرنا يحيى بن علي قال أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر عن أبي العلاء المنقري قال حدثني موسى بن يحيى قال: أوصلنا إلى مروان بن أبي حفصة في وقت من الأوقات سبعين ألف درهم، وجمع إليها مالا حتى تمت مائة وخمسين ألف درهم، وأودها يزيد بن مزيد.
قال: فبين نحن عند يحيى بن خالد إذ دخل يزيد بن مزيد، وكانت فيه دعابة، فقال: يا أبا علي أودعني مروان خمسين ومائة ألف درهم وهو يشتري الخبز من البقال. قال فغضب يحيى ثم قال: علي بمروان، فأتي به. فقال له: أخبرني أبو خالد لما أودعته من المال وما تبتاعه من البقال، والله لما يرى من أثر البخل عليك أضر من الفقر لو كان بك.
صفحة : 1094
أخبرنا يحيى قال وحدثني عمر بن شبة عن أبي العلاء المنقري عن موسى بهذا الخبر، إلا أنه قال: فقال له يحيى: يا مروان، والله لا بالبخل أسوأ عليك أثرا من الفقر لو صرت إلي، فلا تبخل.
أخبرنا يحيى قال حدثني عمر بن شبة قال: بلغني أن مروان بن أبي حفصة قال ما فرحت بشيء قط فرحي بمائة ألف وهبها لي أمير المؤمنين المهدي، فوزنتها فزاد درهما فاشتريت به لحما.
أخبونا يحيى قال حكى أبو غسان عن أبي عبيدة عن جهم بن خلف قال: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة، فأطعمنا تمرا، وأرسل غلامه بفلس وسكرجة ليشتري له زيتا. فلما جاء بالزيت قال لغلامه: خنتني قال: من فلس كيف أخونك قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت.
أخبرنا يحيى قال أخبرنا أصحاب التوزي عنه قال: مر مروان بن أبي خفصة في بعض سفراته وهو يريد منى بأمرأة من العرب فأضافته، فقال: لله علي إن وهب لي الأمير مائة ألف أن أهب لكي درهما، فأعطاه ستين ألف درهم، فأعطاها أربعة دوانق.
أخبرنا يحيى قال أخبرني أبي عن أبي دعامة قال: اشترى مروان لحما بنصف درهم، فلما وضعه في القدر وكاد أن ينضج، دعاه صديق له، فرده على القصاب بنقصان دانق. فشكاه القصاب وجعل ينادي: هذا لحم مروان، وظن أنه يأنف لذلك. فبلغ الرشيد ذلك فقال: ويلك ما هذا قال: أكره الإسراف.
قصة له مع أبي الشمقمق: أخبرنا يحيى قال أخبرني أبي عن أبي دعامة قال: أنشدت لرجل من بني بكر بن وائل في مروان:
وليس لمروان على العرس غيرة ولكن مروانا يغار على القـدر أخبرنا يحيى قال أخبرني أبو هفان قال حدثني يحيى بن الجون العبدي قال: فرق المهدي على الشعراء جوائز، فأعطى مروان ثلاثين ألفا. فجاءه أبو الشمقمق فقال له: أجزني من الجائزة. فقال له: أنا وأنت نأخذ ولا نعطي. قال: فاسمع مني بيتين. قال: هات. فقال أبو الشمقمق:
لحية مروان تقي عنبـرا خالط مسكا خالصا أذفرا
فما يقيمان بهـا سـاعة إلا يعودان جميعا خـرا فأمر له بدرهمين. وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة عن أبي هفان فذكر مثل الخبر الماضي وزاد فيه. فأعطاه عشرة دراهم، فقال له خذ هذه ولا تكن رواية الصبيان.
مدح الهادي فداعيه في المعجل والمؤجل ووصله: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن جدي عبد الله بن مصعب قال: دخل مروان بن أبي حفصة على موسى الهادي، فأنشده قوله فيه:
تشابه يوما بأسـه ونـوالـه فما أحد يدري لأيهما الفضل فقال له الهادي: أيما أحب إليك: أثلاثون ألفا معجلة أم مائة ألف تدون في الدواوين? فقال له: يا أمير المؤمنين أنت تحسن ما هو خير من هذا ولكنك نسيته، أفتأذن لي أن أذكرك? قال نعم. قال: تعجل لي الثلاثين ألفا وتدون المائة الألف في الدواوين. فضحك وقال: بل يعجلان جميعا؛ فحمل المال إليه أجمع.
مدح المهدي فلحنه اليزيدي فاعترض على سوء أدبه: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني سليمان بن جعفر قال حدثني أحمد بن عبد الأعلى قال: اجتمع مروان بن أبي حفصة وأبو محمد اليزيدي عند المهدي؛ فابتدأ مروان ينشد:
طرقتك زائرة فحي خيالها فقال اليزيدي: لحن والله وأنا أبو محمد. فقال له مروان: يا ضعيف الرأي أهذا لي يقال ثم قال:
بيضاء تخلط بالجمال دلالها فقال له بعض من حضر: يا أمير المؤمنين أيتكنى في مجلسك يعني اليزيدي فقال: اعذروا شيخنا، فإن له حرمة.
سأله الرشيد عن الوليد بن يزيد فأجابه:
صفحة : 1095
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال أخبرني مروان بن أبي حفصة قال قال لي الرشيد: هل دخلت على الوليد بن يزيد? فقلت: نعم دخلت مع عمومتي إليه. قال: فأخبرني عنه. قال فذهبت أتزحزح. فقال لي: إن أمير المؤمنين لا يكره ما تقول، فقل ما شئت. فقلت: يا أمير المؤمنين، كان من أجمل الناس وأشدهم وأشعرهم وأجودهم. دخلت عليه مع عمومتي ولي لمة فينانة، فجعل يغمز القضيب فيها ويقول: ولدتك سكر? - وهي أم ولد لمروان بن الحكم فوهبها لجدي أبي حفصة فولدت منه - فقلت له: نعم. قال لي الرشيد: فهل تحفظ من شعره شيئا? قلت: نعم، سمعته ينشد في خلافته وذكر هشاما وتحامله عليه وما كان يريد من نقض أمره وولايته:
ليت هشاما عاش حتى يرى مكتله الأوفر قد أتـرعـا
كلنا له الصاع التي كالهـا وما ظلمناه بها أصـوعـا
وما أتينا ذاك عـن بـدعة أحله الفرقان لي أجمعـا فقال الرشيد: يا غلام، الدواة والقرطاس، فؤتي بهما، فأمر الأبيات فكتبت.
فضل خلف الأحمر شعرا له على شعر للأعشى: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني خلاد الأرقط قال: جاءنا مروان بن أبي حفصة إلى حلقة يونس، فأخذ بيد خلف الأحمر فأقامه، وأخذ خلف بيدي فقمنا إلى دار أبي عمير فجلسنا في الدهليز. فقال مروان لخلف: نشدتك الله يا أبا محرز إلا نصحتني في شعري فإن الناس يخدعون في أشعارهم، وأنشده قوله:
طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالجمال دلالها فقال له: أنت أشعر من الأعشى في قوله:
رحلت سمية غدوة أجمالها فقال له مروان: أتبلغ بي الأعشى هكذا ولا كل ذا قال: ويحك إن الأعشى قال في قصيدته هذه:
فأصاب حبة قلبها وطحالها والطحال ما دخل قط في شيء إلا أفسده، وأنت قصيدتك سليمة كلها. فقال له مروان: إني إذا أردت أن أقول القصيدة رفعتها في حول أقولها في أربعة أشهر، وأنتخلها في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر.
عرض شعرا له على يونس فمدحه وفضله على شعر للأعشى: وأخبرني بهذا الخبر هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن محمد بن سلام قال أبو دلف هاشم بن محمد وحدثني به الرياشي عن الأصمعي قال: جاء مروان بن أبي حفصة إلى حلقة يونس، فسلم ثم قال لنا: أيكم يونس? فأومأنا إليه. فقال له: أصلحك الله إني أرى قوما يقولون الشعر، لأن يكشف أحدهم سوءته ثم يمشي كذلك في الطريق أحسن له من أن يظهر مثل ذلك الشعر. وقد قلت شعرا أعرضه عليك، فإن كان جيدا أظهرته، وإن كان رديئا سترته. فأنشده قوله:
طرقتك زائرة فحي خيالها فقال له يونس: يا هذا اذهب فأظهر هذا الشعر فأنت والله فيه أشعر من الأعشى في قوله:
رحلت سمية غدوة أجمالها فقال له مروان: سررتني وسؤتني. فأما الذي سررتني به فارتضاؤك الشعر. وأما الذي ساءني فتقديمك إياي على الأعشى وأنت تعرف محله. فقال: إنما قدمتك عليه في تلك القصيدة لا في شعره كله لأنه قال فيها:
فأصاب حبة قلبها وطحالها والطحال لا يدخل في شيء إلا أفسده، وقصيدتك سليمة من هذا وشبهه.
قال الأصمعي إنه مولد ولا علم له باللغة: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني العباس بن ميمون طالع قال: سمعت الأصمعي ذكر مروان بن أبي حفصة فقال: كان مولدا، لم يكن له علم باللغة.
أنشد شعر جماعة من الشعراء فقال عن كل واحد منهم إنه أشعر الناس: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني أحمد بن عبيد الله عن العتبي قال حدثني بعض أصحابنا قال: أنشدنا مروان بن أبي حفصة يوما شعر زهير ثم قال: زهير والله أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال: الأعشى أشعر الناس، ثم أنشد شعرا لامرئ القيس فقال: امرؤ القيس أشعر الناس، ثم قال: والناس والله أشعر الناس. أي إن أشعر الناس من أنشدت له فوجدته قد أجاد، حتى ينتقل إلى شعر غيره.
اشترى من أعرابي شعرا مدح به مروان بن محمد فمدح هو به معن بن زائدة فأكرمه: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال:
صفحة : 1096
إجتاز مروان بن أبي حفصة برجل من باهلة من أهل اليمامة وهو ينشد قوما كان جالسا إليهم شعرا مدح به مروان بن محمد، وإن قتل قبل أن يلقاه وينشده إياه، أوله:
مروان يابن محمد أنت الذي زيدت به شرفا بنو مروان فأعجبته القصيدة، فأمهل الباهلي حتى أقام من مجلسه، ثم أتاه في منزله فقال له: إني سمعت قصيدتك وأعجبتني، ومروان قد مضى ومضى أهله وفاتك ما قد رمته عنده؛ أتبيعني القصيدة حتى أنتحلها، فإنه خير لك من أن تبقى عليك وأنت فقير? قال نعم. قال: بكم? قال: بثلثمائة درهم. قال: ابتعتها؛ فأعطاه الدراهم وحلفه بالطلاق ثلاثا وبالأيمان المحرجة ألا ينتحلها أبدا ولا ينسبها إلى نفسه ولا ينشدها، وانصرف بها إلى منزله، فغير منها أبياتا وزاد فيها، وجعلها في معن، وقال في ذلك البيت:
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان ووفد بها إلى معن بن زائدة فملأ يديه، وأقام عنده مدة حتى أثرى واتسعت حاله. فكان معن أول من رفع ذكره ونوه به. قال: وله فيه مدائح بعد ذلك شريفة ومراث حسنة.
نقل قصة فرار معن أن عبدا أسود طلقه تكرما بعد ما عرفه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن نعيم البلخي أبو يونس قال حدثني مروان بن أبي حفصة وكان لي صديقا قال: كان المنصور قد طلب معن بن زائدة طلبا شديدا، وجعل فيه مالا؛ فحدثني معن بن زائدة باليمن أنه اضطر لشدة الطلب إلى أن أقام في الشمس حتى لوحت وجهه، وخفف عارضيه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب جملا من الجمال النقالة ليمضي إلى البادية فيقيم بها، وكان قد أبلى في حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بلاء حسنا غاظ المنصور وجد في طلبه. قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلدا سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام جملي فأناخه وقبض عليه؛ فقلت له: ما لك? قال: أنت طلبة أمير المؤمنين. قلت: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين قال: معن بن زائدة. فقلت: يا هذا اتق الله وأين أنا من معن قال: دع هذا عنك فأنا والله أعرف به منك. فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول فهذا جوهر حملته معي يفي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي. قال: هاته فأخرجته إليه؛ فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت قط مالك كله? قلت لا. قال: فنصفه? قلت لا. قال: فثلثه? قلت لا. حتى بلغ العشر فاستحييت فقلت: أظن أني قد فعلت هذا. فقال: ما أراك فعلته أنا والله راجل، ورزقي من أبي جعفر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور عنك بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك، فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله، ولا تتوقف عن مكرمة. ثم رمى بالعقد في حجري وخلى خطام البعير وانصرف. فقلت: يا هذا قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإني غني عنه. فضحك ثم قال: أردت أن تكذبني في مفامي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ بمعروف ثمنا أبدا، ومضى. فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبرا وكأن الأرض ابتلعته.
سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة:
صفحة : 1097
قال: وكان سبب رضا المنصور عن معن أنه لم يزل مستترا حتى كان يوم الهاشيمية ، فلما وثب القوم على المنصور وكادوا يقتلونه، وثب معن وهو متلثم فانتضى سيفه وقاتل فأبلى بلاء حسنا، وذب القوم عنه حتى نجا وهم يحاربونه بعد، ثم جاء والمنصور راكب على بغلة ولجامها بيد الربيع؛ فقال لهم: تنح فإني أحق باللجام منك في هذا الوقت وأعظم فيه غناء. فقال له المنصور: صدق فادفعه إليه؛ فأخذه ولم يزل يقاتل حتى انكشفت تلك الحال. فقال له المنصور: من أنت لله أبوك? قال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة. قال: قد أمنك الله على نفسك ومالك، ومثلك يصطنع. ثم أخذه معه وخلع عليه وحباه وزينه. ثم دعا به يوما وقال له: إني قد أملتك لأمر، فكيف تكون فيه? قال: كما يحب أمير المؤمنين - قال: قد وليتك اليمن، فابسط السيف فيهم حتى ينقض حلف ربيعة واليمن - قال: أبلغ من ذلك ما يحب أمير المؤمنين. فولاه اليمن وتوجه إليها فابسط السيف فيهم حتى أسرف.
عاتب المنصور معنا على إكرامه له فأجابه إنما أكرمه لمدحه هو: قال مروان: وقدم معن بعقب ذلك فدخل على المنصور فقال له بعد كلام طويل: قد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء لولا مكانك عنده ورأيه فيك لغضب عليك. قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين? فوالله ما تعرضت لك منك، قال: إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان
إن عد أيام الفعال فـإنـمـا يوماه يوم ندى ويوم طعـان فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغته لهذا الشعر، وإنما أعطيته لقوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلما بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه من وقع كل مهند وسنـان فاستحيا المنصور وقال: إنما أعطيته ما أعطيته لهذا القول? قال: نعم يا أمير المؤمنين والله لو لا مخافة النقمة عندك لأمكنته من مفاتيح بيوت المال وأبحته إياها، فقال له المنصور: لله درك من أعرابي ما أهون عليك ما يعز على الرجال وأهل الحزم مدح المهدي فرده لمدحه معنا ثم مدحه العام المقبل فأحازه مائة ألف درهم: أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن محمد بن موسى قال أخبرني محمد بن موسى بن حمزة قال أخبرني الفضل بن الربيع قال: رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على المهدي بعد وفاة معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فيهم سلم الخاسر وغيره، فأنشده مديحا فيه، فقال له: ومن أنت? قال: شاعرك يا أمير المؤمنين وعبدك مروان بن أبي حفصة. فقال له المهدي: ألست القائل:
أقمنا باليمامة بعد مـعـن مقاما لا نريد بـه زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معـن وقد ذهب النوال فلا نوالا قد ذهب النوال فيما زعمت، فلم جئت تطلب نوالنا? لا شيء لك عندنا، جروا برجله؛ فجروا برجله حتى أخرج. قال: فلما كان من العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء - وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كل عام مرة - فمثل بين يديه وأنشده بعد رابع أو بعد خامس من الشعراء:
طرقتك زائرة فحي خيالهـا بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فآستقاد ومثلهـا قاد القلوب إلى الصبا فأمالها قال: فأنصت الناس لها حتى بلغ إلى قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هـلالـهـا
أو تجحدون مقالة عن ربـكـم جبريل بلغها النبي فقـالـهـا
شهدت من الأنـفـال آخـر آية بتراثهم فأردتـم إبـطـالـهـا قال: فرأيت المهدي قد زحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجابا بما سمع، ثم قال: كم هي? قال:مائة بيت. فأمر له بمائة ألف درهم. فكانت أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام بني العباس.
مدح الرشيد فرده لمدحه معنا ثم مدحه بعد أيام فأجازه لكل بيت ألفا:
صفحة : 1098
قال: ومضت الأيام وولي هارون الرشيد الخلافة، فدخل إليه مروان؛ فرأيته واقفا مع الشعراء ثم أنشده قصيدة امتدحه بها. فقال له: من أنت? قال: شاعرك وعبدك يا أمير المؤمنين مروان بن أبي حفصة. قال له: ألست القائل في معن بن زائدة وأنشده البيتين اللذين أنشده إياهما المهدي، ثم قال: خذوا بيده فأخرجوه، لا شيء لك عندنا، فأخرج. فلما كان بعد ذلك بأيام تلطف حتى دخل؛ فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
لعمرك ما أنسى غداة المحصب إشارة سلمى بالبنان المخضب
وقد صدر الحجاج إلى أقلهـم مصادر شتى موكبا بعد موكب قال: فأعجبته، فقال: كم قصيدتك من بيت? فقال: ستون أو سبعون. فأمر له بعدد أبياتها ألوفا. فكان ذلك رسم مروان عندهم حتى مات.
مدح المهدي في الرصافة فأجازه: أخبرني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال: دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي في أول سنة قدم عليه. قال: فدخلت عليه في قصره بالرصافة فأنشدته قولي:
أمروا وأحلى ما بلا الناس طعمه عذاب أمير المؤمنين ونـائلـه
فإن طليق الله من أنت مطـلـق وإن قتيل الله من أنت قاتـلـه
كأن أمير المؤمنين مـحـمـدا أبو جعفر في كل أمر يحاولـه قال: فأعجب بها، وأمر لي بمال عظيم؛ فكانت تلك الصلة أول صلة سنية وصلت إلي في أيام بني هاشم.
مدح المهدي وذم عنده يعقوب بن داود فأجازه من خالص ماله: أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي الراوية قال حدثني حسين بن الضحاك قال حدثني مروان بن أبي حفصة قال: دخلت على المهدي في قصر السلام، فلما سلمت عليه، وذلك بعقب سخطه على يعقوب بن داود؛ قلت : يا أمير المؤمنين إن يعقوب رجل رافضي وإنه سمعني أقول في الوراثة:
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام فذلك الذي حمله على عداوتي. ثم أنشدته:
كأن أمير المؤمنـين مـحـمـدا لرأفته بالناس لـلـنـاس والـد
على أنه من خالف الحق منـهـم سقته يد الموت الحتوف الرواصد ثم أنشدته:
أحيا أمير المؤمنين محمـد سنن النبي حرامها وحلالها قال فقال لي المهدي: والله ما أعطيك إلا من صلب مالي فاعذرني، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، وكساني جبة ومطرفا، وفرض لي على أهل بيته ومواليه ثلاثين ألفا أخرى.
مدح معنا فأعطاه عطايا سنية لم يستكثرها عليه ابن الأعرابي: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا ابن الأعرابي أن مروان بن أبي حفصة أخبره أنه وفد على معن بن زائدة فأنشده قوله:
بنو مطر يوم اللـقـاء كـأنـهـم أسود لها في بطن خفان أشـبـل
هم يمنعون الجار حتى كـأنـمـا لجارهم بين السماكـين مـنـزل
لهاميم ، في الإسلام سادوا ولم يكن كأولهم فـي الـجـاهـلـية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعـالـهـم وإن أحسنوا في النائبات وأجملـوا قال: فأمر لي بصلة سنية وخلع علي وحملني وزودني. قال ثم قال لنا ابن الأعرابي: لو أعطاه كل ما يملك لما وفاه حقه. قال: وكان ابن الأعرابي يختم به الشعراء، وما دون لأحد بعده شعرا.
سئل عن جرير والفرزدق أيهما أشعر فأجاب بشعر: أخبرني حبيب بن نصر قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال أخبرني أحمد بن موسى بن حمزة قال: رأيت مروان بن أبي حفصة في أيام محمد بن زبيدة في دار الخلافة وهو شيخ كبير، فسألته عن جرير والفرزدق أيهما أشعر، فقال لي: قد سئلت عنهما في أيام المهدي وعن الأخطل قبل ذلك، فقلت فيهم قولا عقدته في شعر ليثبت. فسألته عنه فأنشدني:
ذهب الفرزدق بالهجاء وإنما حلوا القريض ومره الجريد
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب وحوى النها ببيانه المشهـور
كل الثلاثة قد أجاد فمـدحـه وهجاؤه قد سار كل مسـير
صفحة : 1099
ولقد جريت ففت غير مهـلـل بجراء لا قرف ولا مبـهـور
إني لآنف أن أحـبـر مـدحة أبدا لـغـير خـلـيفة ووزير
ما ضرني حسد اللئام ولـم يزل ذو الفضل يحسده ذوو التقصير قال: فلم ير أن يقدم على نفسه غيرها. وكتبت الأبيات عن فيه.
مدح معنا فسأله عن أمله فأعطاه إياه واستقله له: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم السجستاني قال حدثني العنسي قال: لما قدم معن بن زائدة من اليمن ،دخل عليه مروان بن أبي حفصة والمجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب وأنشأ يقول:
وما أحجم الأعداء عنك بقـية عليك ولن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما أبى الله إلا أن تضرا وتنفعـا قال فقال له معن:احتكم، قال: عشرة آلاف درهم. فقال معن: ربحنا عليك تسعين ألفا قال: أقلني. قال: لا أقال الله من يقيلك.
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبي قال: لما قدم معن بن زائدة من اليمن استقبله الناس وتلقاه مروان بن أبي حفصة، فأنشده قصيدة يهنئه فيها بقدومه وبرأي المنصور فيه، وتلقاه فيمن تلقاه أبو القاسم محرز فجعل يقول له: سفكت الدماء، وظلمت الناس، وتعديت طورك بذلك. فلما أكثر على معن التفت إلي ثم قال له: يا محرز أخبرني بأي خفيك تضرب اليوم:أبا السباعي أم بالثماني? قال: فانقطع وسكت خجلا.
ودخل معن على المنصور، فلما سلم عليه وسأله قال له: يا معن، أعطيت ابن حفصة مائة ألف درهم عن قوله فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان فقال له: كلا يا أمير المؤمنين بل أعطيته لقوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلما بالسيف دون خليفة الرحمن فاستحيا المنصور من تهجينه إياه فتبسم وقال: أحسنت يا معن في فعلك.
ترك يحيى بن منصور الشعر فلما سمع بكرم معن مدحه وقال مروان في ذلك شعرا: أخبرني الحسن بن علي المصري قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن ثور قال حدثني أبو العباس العدوي قال: لما ولي معن بن زائدة اليمن كان يحيى بن منصور الذهلي قد تنسك وترك الشعر. فلما بلغته أفعال معن وفد إليه ومدحه، فقال مروان بن أبي حفصة:
لا تعدموا راحتي معن فإنهمـا بالجود أفتنتا يحيى بن منصور
لما رأى راحتي معن تدفقـتـا بنائل من عطاء غير منـزور
ألقى المسوح التي كان يلبسهـا وظل للشعر ذا رصف وتحبير تزوجت امرأة من أهله في بني مطر فلم يرضهم وقال شعرا: أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال: ورد على مروان بن أبي حفصة كتاب وهو بالمدينة أن امرأة من أهله تزوجت في قوم لم يرض صهرهم يقال لهم بنو مطر؛ فقال في ذلك لأخيها:
لو كنت أشبهت يحيى في مناكحه لما تنقيت فحلا جـده مـطـر
لله در جياد كنـت سـائسـهـا ضيعتها وبها التحجيل والغـرر
نبئت خولة قالت يوم أنكجـهـا قد طالما كنت منك العار أنتظر تهكم بالجنى الشاعر فهجاه ولم يعف عنه حتى حقره: أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحسن بن علي المعروف بحدان عن محمد بن حفص بن عمرو بن الأيهم الحنفي قال: مر مروان بن أبي حفصة برجل من تيم اللات بن ثعلبة يعرف بالجني، فقال له مروان: زعموا أنك تقول الشعر. فقال له: إن شئت عرفتك ذلك. فقال له مروان: ما أنت والشعر، ما أرى ذلك من طريقتك ولا مذهبك ولا تقوله فقال الجني: اجلس واسمع فجلس؛ فقال الجني يهجوه:
ثوى اللؤم في العجلان يوما وليلة وفي دار مروان ثوى آخر الدهر
غدا اللؤم يبغي مطرحا لرحـالـه فنقب في بر البلاد وفي البحـر
فلما أتى مـروان خـيم عـنـده وقال رضينا بالمقام إلى الحشـر
وليست لمروان على العرس غيرة ولكن مروانا يغار على الـقـدر
صفحة : 1100
فقال له مروان: ناشدتك الله إلا كففت، فأنت أشعر الناس. فحلف الجني بالطلاق ثلاثا أنه لا يكف حتى يصير إليه بنفر من رؤساء أهل اليمامة ثم يقول بحضرتهم: قاق في استي بيضة. فجلبهم إليه مروان وفعل ذلك بحضرتهم، وكان فيهم جدي يحيى بن الأيهم، فانصرفوا وهم يضحكون من فعله.
عزى الهادي في المهدي ببيتين تناقلهما الناس: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أبو عبد الله بن سليمان بن زيد الدوسي قال حدثني الفضل بن العباس بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي قال حدثنا محمد بن حرب بن قطن بن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: لما مات المهدي وفدت العرب على موسى يهنئونه بالخلافة ويعزونه عن المهدي؛ فدخل مروان بن أبي حفصة فأخذ بعضادتي الباب ثم قال:
لقد أصبحت تختال في كل بلدة بقبر أمير المؤمنين المقابـر
ولو لم تسكن بابنه في مكانـه لما برحت تبكي عليه المنابر قال فخرج الناس بالبيتين.
مدح عمرو بن مسعدة في مرضه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال: مرض عمرو بن مسعدة، فدخل عليه مروان بن أبي حفصة وقد أبل من مرضه فأنشأ يقول:
صح الجسم يا عمرو لك التمحيص والأجر
والله علينـا الـحـم د والمنة والشـكـر
فقد كان شكا شـوقـا إليك النهي والأمـر قال فنحا نحوه مسلم بن الوليد فقال:
قالوا أبو الفضل محموم فقلت لهم نفسي الفداء له من كل محذور
يا ليت علته بـي غـير أن لـه أجر العليل وأني غير مأجـور رأى الغول في بعض سفراته ففزع: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثني رجل من بني سليم في مسجد الرصافة قال أخبرني مروان بن أبي حفصة قال: وفدت في ركب إلى الرشيد فصرنا في أرض موحشة قفر، وجن علينا الليل فسرنا لنقطعها، فلم نشعر إلى بامرأة تسوق بنا إبلنا وتحدو في آثارنا، فإذا هي الغول. فلما لاح الفجر عدلت عنا وأخذت عرضا وجعلت تقول:
يا كوكب الصبح إليك عني فلست من صبح وليس مني قال: فما أذكر أني فزعت من شيء قط فزعي ليلتئذ.
عارضه التغلبي في شعره في وراثة بني العباس: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الكوفي قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي مرة التغلبي قال: مررت بجعفر بن عفان الطائي يوما وهو على باب منزله، فسلمت عليه، فقال لي: مرحبا يا أخا تغلب، اجلس فجلست. فقال لي: أما تعجب من أن ابن أبي حفصة لعنه الله حيث يقول:
أنى يكن وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام فقلت بلى والله إنى لأتعجب منه وأكثر اللعن له، فهل قلت في ذلك شيئا? فقال: نعم قلت:
لم لا يكـون وإن ذاك بـكـائن لبني البنـات وراثة الأعـمـام
للبنات نصف كامل من مـالـه والعم متروك بغـير سـهـام
ما للطليق وللـتـراث وإنـمـا صلى الطريق مخافة الصمصام لازمه صالح بن عطية الأضجم أياما ثم قتله: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني صالح بن عطية الأضجم قال: لما قال مروان:
أنى يكن وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام لزمته وعهدت الله أن أغتاله فأقتله في أي وقت أمكنني ذلك، وما زلت ألاطفه وأبره وأكتب أشعاره حتى خصصت به، فأنس بي جدا وعرفت ذلك بنو حفصة جميعا فأنسوا بي، ولم أزل أطلب له غرة حتى مرض من حمة أصابته، فلم أزل أظهر الجزع عليه وألازمه وألاطفه، حتى خلا لي البيت يوما فوثبت عليه فأخذت بحلقه فما فارقته حتى مات، فخرجت وتركته، فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتا، وارتفعت الصيحة فحضرت وتباكيت وأظهرت الجزع عليه حتى دفن، وما فطن بما فعلت أحد ولا اتهمني به.
عود إلى ذكر إبراهيم بن المهدي
نشأته ونسب أمه شكلة:
صفحة : 1101
ثم نعود إلى ذكر إبراهيم بن المهدي وأمه شكلة . ويكنى أبا إسحاق. وشكلة أمه مولودة كان أبوها من أصحاب المازيار، يقال له شاه أفرند، فقتل مع المازيار وسبيت بنته شكلة، فحملت إلى المنصور، فوهبها لمحياة أم ولده فربتها وبعثت بها إلى الطائف فنشأت هناك وتفصحت؛ فلما كبرت ردت إليها. فرآها المهدي عندها فأعجبته، فطلبها من محياة فأعطته إياها، فولدت منه إبراهيم، وكان رجلا عاقلا فهما دينا أديبا شاعرا راوية للشعر وأيام العرب خطيبا فصيحا حسن العارضة.
مدحة إسحاق الموصلي: وكان إسحاق الموصلي يقول: ما ولد العباس بن عبد المطلب بعد عبد الله بن العباس: رجلا أفضل من إبراهيم بن المهدي. فقيل له: مع ما تبذل له من الغناء? فقال: وهل تم فضله إلا بذاك . حدثني بذلك محمد بن يزيد عن حماد عن أبيه.
كان ينسب ما يصنع لجاريتيه
وكان أشد خلق الله إعظاما للغناء، وأحرصهم عليه، وأشدهم منافسة فيه. وكانت صنعته لينة، فكان إذا صنع شيئا نسبه إلى شارية وريق، لئلا يقع عليه في طعن أو تقريع، فقلت صنعته في أيدي الناس مع كثرتها لذلك. وكان إذا قيل له فيها شيء قال: إنما أصنع تطربا لا تكسبا، وأغنى لنفسي لا للناس فأعمل ما أشتهي.
كان ينازع إسحاق ويجادله وجرت بينهما مناظرات في الغناء: وكان حسن صوته يستر عوار ذلك كله. وكان الناس يقولون لم ير في جاهلية ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم المهدي وأخته علية. وكان يماظ إسحاق ويجادله، فلا يقوم له ولا يفي به، ولا يزال إسحاق يغلبه ويغصه بريقه ويغص منه بما يظهر عليه من السقطات ويبينه من خطئه في وقته وعجزه من معرفة الخطأ الغامض إذا مر به؛ وقصوره من أداء الغناء القديم فيفضحه بذلك. وقد ذكرت قطعة من هذه الأخبار في أخبار إسحاق وأنا أذكر ها هنا منها ما لم أذكر هناك.
ومما خالف إبراهيم بن المهدي ومن قال بقوله قال إسحاق فيه: الثقيلان وخفيفهما، فإنه سمى الثقيل الأول وخفيفه الثقيل الثاني وخفيفه، وسمى الثقيل الثاني وخفيفه الثقيل الأول وخفيفه؛ وجرت بينهما في ذلك مناظرات ومجادلات ومراسلة ومكاتبة ومشافهة. وحضرهما الناس، فلم يكن فيهم من يفي بفصل ما بينهما والحكم لأحداهما على صاحبه. ووضع لذلك مكاييل لتعرف بها أقدار الطرائق، وأمسك كل واحد منهما إلى آخر أقداره، فلم يصح شيء يعمل عليه، إلا أن قول إبراهيم بن المهدي اضمحل وبطل وترك، وعمل الناس على مذهب إسحاق؛ لأنه كان أعلم الرجلين وأشهرهما. وأوضح إسحاق أيضا لذلك وجوها فقال: إن الثقيل الأول يجيء منه قدران، الثقيل الأول التام ،والقدر الأوسط من الثقيل الأول، وجميعا طريقته واحدة لاتساعه والتمكن منه، والثقيل الثاني لا يجيء هذا فيه ولا يقاربه. والثقيل الأول يمكن إدراج في ضربه لثقله، والثقيل الثاني لا يندرج لنقصه في ذلك. ولهما في هذا الكلام كثير ومخاطبات قد ذكرتها في أخبارهما، وشرحت العلل مبسوطة في كتاب ألفته في النغم شرحا ليس موضعه ولا يصلح فيه. وأما التجزئة والقسمة فإنهما أفنيا أعمارهما في تنازعهما فيهما، حتى كان يمضي لهما الزمن الطويل لا تنقطع مناظرتهما ومكاتبتهما في قسمة وتجزئة صوت واحد فيه، وحتى كانا يخرجان إلى كل قبيح، وحتى أنهما ماتا جميعا وبينهما منازعة في هذا الصوت وقسمته:
حييا أم يعـمـــرا قبل شحط من النوى لم يفصل بينهما فيها إلى أن افترقا. ولو ذهبت إلى ذكر ذلك وشرح سائر أخبار إبراهيم بن المهدي وقصصه لما ولي الخلافة وغير ذلك من وصفه بفصاحة اللسان، وحسن البيان، وجودة الشعر، ورواية العلم، والمعرفة بالجدل، وجزالة الرأي، والتصرف في الفقه واللغة، وسائر الآداب الشريفة، والعلوم النفسية، والأدوات الرفيعة، لأطلت. وإنما الغرض في هذا الكتاب الأغاني أو ما جرى من مجراها، لا سيما لمن كثرت الروايات والحكايات عنه؛ فلذالك اقتصرت على ما ذكرته من أخبار دون ما يستحقه من التفضيل والتبجيل والثناء الجميل.
كلمة لإبراهيم بن المهدي عن نفسه في صنعة الغناء: أخبرني عمي رحمه الله قال حدثني علي بن محمد بن بكر عن جده حمدون بن إسماعيل قال قال لي إبراهيم بن المهدي: لولا أني أرفع نفسي عن هذه الصناعة لأظهرت فيها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا قبلي مثلي.
صفحة : 1102
غنى الرشيد وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي فأطرباه: أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن ابي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن النهدي عن أبيه قال: دخلت يوما إلى الرشيد وفي رأسي فضلة خمار، وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلي. فقال: بحياتي يا إبراهيم غنني. فأخذت العود ولم ألتفت إليهما لما رأسي من الفضلة فغنيت:
أسري بخالدة الخيال ولا أرى شيئا ألذ من الخيال الطارق فسمعت إبراهيم يقول لآبن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا. فقال ابن جامع: صدقت. فلما فرغت من غنائي وضعت العود ثم قلت: خذا في حقكما ودعا في باطلنا.
نسبة هذا الصوت صوت
أسري بخالدة الـخـيال ولا أرى شيئا ألذ من الخـيال الـطـارق
إن البلية مـن تـمـل حـديثـه فانقع فؤادك من حديث الوامـق
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل مذ بنت بقلبي كالجناح الخـافـق
طربا إليك ولم تبالي حـاجـتـي ليس المكاذب كالخليل الصـادق الشعر لجرير. والغناء لابن عائشة رمل بالوسطى عن عمرو.
غنى الرشيد زعنده سليمان بن أبي جعفر وجعفر بن يحيى: أخبرني جحظة قال أخبرني هبة الله بن غبراهيم المهدي قال حدثني أبي، وحدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني هبة الله - ولم يذكر عن أبيه - قال: كان الرشيد يحب أن يسمع أبي. وقال جحظة عن هبة الله عن إبراهيم قال: كان الرشيد يحب أن يسمعني، فخلا بي مرات إلى أن سمعني. ثم حضرته مرة وعنده سليمان بن أبي جعفر؛ فقال لي: عمك وسيد ولد المنصور بعد أبيك وقد أحب أن يسمعك؛ فلم يتركني حتى غنيت بين يديه:
إذ أنت فينا لم ينهاك عاصية وإذ أجر إليكم سادرا رسني فأمر لي بألف ألف درهم، ثم قال لي ليلة ولم يبقى في المجلس إلا جعفر بن يحيى: أنا أحب أن تشرف جعفرا بأن تغنيه صوتا. فغنيته لحنا صنعته في شعر الدارمي:
كأن صورتها في الوصف إذ وصفت دينار عين من المصرية الـعـتـق نسبة هذين الصوتين، منهما صوت
سقيا لربعك من ربع بذي سلم وللزمان به إذ ذاك من زمن
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية وإذ أجر إليكم سادرا رسني الشعر للأحوص. والغناء لآبن سريج ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن زهير عن مصعب قال: أنشد منشد وابن أبي عبيدة عندنا قول الأحوص:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية وإذ أجر إليكم سادرا رسني فوثب قائما وألقى طرف ردائه وجعل يخطو إلى طرفىالمجلس ويجره. ثم فعل ذلك حتى عاد إلينا. فقلنا له: ما حملك على ما صنعت? فقال: إني سمعت هذا الشعر مرة فأطربني، فجعلت على نفسي ألا أسمعه أبدا إلا جررت رسني.
والآخر من الصوتين: صوت
كأن صورتها في الوصف إذ وصفت دينار عين من المصرية الـعـتـق
أو درة أعيت الغواص في صـدف أو ذهب صاغه الصواغ فـي ورق الشعر للدارمي. والغناء لمرزوق الصواف رمل بالبنصر عن ابن المكي. وذكر عمرو أن هذا اللحن للدارمي أيضا. وذكر الهشامي أنه لابن سريج. وفي هذا الخبر أنه لإبراهيم بن المهدي. وفيه خفيف رمل يقال إنه لحن مرزوق الصواف، ويقال إنه لمتيم ثاني ثقيل عن الهشامي وابن المعتز.
غنى صوتا على أربع طبقات: أخبرني يحيى بن المنجم قال ذكر لي عبيد الله بن طاهر عن إسحاق بن عمر بن زيع قال: كنت أضرب على إبراهيم بن المهدي صوتا ذكره فغناه على أربع طبقات. على الطبقة التي كان العود عليها وعلى ضعفها، وعلى إسجاحها، وعلى إسحاج الإسجاح. قال أبو أحمد قال عبيد الله: وهذا شيء ما حكي لنا عن أحد غير إبراهيم، وقد تعاطاه بعض الحداق بهذا الشأن، فوجده صعبا متعذرا لا يبلغ إلا بالصوت القوي وأشد ما في إسجاح الإسجاح؛ لأن الضعف لا يبلغ إلا بصوت قوي مائل إلى الدقة، ولا يكاد ما أتسع مخرجه يبلغ ذلك. فإذا دق حتى يبلغ الأضعاف لم يقدر على الإسجاح فضلا عن إسجاح الإسحاج. فإذا غلظ حتى يتمكن من هذين لم يقدر على الضعف.
غنى صوتا لمعبد:
صفحة : 1103
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشيمي قال حدثني محمد بن سليمان بن موسى الهادي قال: دعاني إبراهيم بن المهدي يوما قصرت إليه، وغنى صوتا لمعبد:
أفي الحق هذا أنني بك مولـع وأن فؤادي نحوك الدهر نازع فقال لي: لمن هذا الغناء? فقلت: يا سيدي يقولون إنه لمعبد، ولا غنى والله مع معبد كذا قط، ولا سمعت أحدأ يقول كذا، لا والله ما في الدنيا كذا. قال: فضحك ثم قال: والله يا بني ما قمت بنصف ما كان يقوم به معبد.
نسبة هذا الصوت أما اللحن فمن الثقيل الثاني، وقد ذكر في هذا الخبر أنه لمعبد، وما وجدته في شيء من الكتب له. وذكر الهشامي أنه لآبن المكي.
عاب مخارقا عند المأمون: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثني عيسى بن محمد القحطبي قال حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر قال: لما قدم المأمون من خراسان لم يظهر لمغن بالمدينة مدينة السلام غيري، فكنت أنادمه سرا، ولم يظهر للندماء أربع سنين، حتى ظفر بإبراهيم بن المهدي. فلما ظفر به وعفا عنه ظهر للندماء ثم جمعنا؛ ووجه إلى إبراهيم فحضر في ثياب مبتذلة. لما رأه المأمون قال: ألقى عمي رداء الكبر عن منكبيه، ثم أمر له بخلع فاخرة وقال: يا فتح غد عمي؛ فتغدى إبراهيم بحيث يراه المأمون ثم تحول إلينا، وكان مخارق حاضرا، فغنى مخارق:
هذا ورب مسوفين صبحتهم من خمر بابل لذة للشارب فقال له إبراهيم: أسأت فأعد؛ فأعاده، فقال: قاربت ولم تصب. فقال له المأمون: إن كان أساء فأحسن أنت. فغناه إبراهيم ثم قال لمخارق: أعده فأعاده، فقاغل: أحسنت. فقال للمأمون: كم بين الأمرين? فقال: كثير. فقال لمخارق: إنما مثلك كمثل الثوب الفاخر إذا غفل عنه أهله وقع عليه الغبار فأحال لونه، فإذا نفض عاد إلى جوهره. ثم غنى إبراهيم:
يا صاح يا ذا الضامر العنس و الرحل ذي الأقتاد والحلس
أما النهار فما تـقـصـره رتكا يزيدك كلما تمـسـي ضن على مخارق بصوت: قال: وكانت لي جائزة قد خرجت، فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر يا سيدي بإلقا ء هذا الصوت علي مكان جائزتي فهو أحب إلي منها. فقال: يا عم ألق هذا الصوت على مخارق، فألقاه علي، حتى إذا كدت أن آخذه قال: اذهب فأنت أحذق الناس به. فقلت: إنه لم يصلح لي بعد. قال: فاغد علي. فغدوت عليه فغناه متلويا؛ فقلت: أيها الأمير، لك في الخلافة ما ليس لأحد، أنت ابن الخليفة وأخو الخليفة وعم الخليفة، تجود بالرغائب وتبخل علي بصوت فقال: ما احمقك إن المأمون لم يسبقني محبة في ولا صلة لرحمي ولا رباء للمعروف عندي، ولكنه سمع من هذا الجرم ما لم يسمع من غيره. قال: فأعلمت المأمون مقالته؛ فقال: إنا لا نكدر على أبي إسحاق عفونا عنه، فدعه. فلما كانت أيام المعتصم خبر الصوت سرا. فقال: يا عم غنني: يا صاح يا ذا الضامر العنس فغناه؛ فقال: ألقه على مخارق. فقال: قد فعلت، وقد سبق مني قول ألا أعيده عليه. ثم كان يتجانب أن يغنينه حيث أحضره.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت
هذا ورب مسوفين صبحتهـم من خمر بابل لذة للشـارب
بكروا علي بسحرة فصبحتهم بإناء ذي كرم كقعب الحالب
بزجاجة ملء اليدين كأنـهـا قنديل فصح في كنيسة راهب الشعر لعدي بن زيد. والغناء لحنين خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
صوت
يا صاح يا ذا الضامر العنس والرحل ذي الأقتاد والحلس
أما النهار فما تـقـصـره رتكا يزيدك كلما تمـسـي الشعر لخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد.
طلبت إليه أخته أسماء سماع غنائه: وذكر أحمد بن أبي طاهر عن أثير مولاة منصور بن المهدي عن ذؤابة مولاته أيضا قالت قالت لي أسماء بنت المهدي: قلت لأخي إبراهيم:يا أخي أشتهي والله أن أسمع من غنائك شيئا. فقال: إذا والله يا أختي لا تسمعين مثله، علي وعلي، وغلظ في اليمين، إن لم يكن إبليس ظهر لي وعلمني النقر والنغم وصافحني وقال لي: اذهب فأنت مني وأنا منك.
غضب عليه الأمين ثم رضي عنه
صفحة : 1104
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال: غضب علي محمد الأمين في بعض هناته، فسلمني إلى كوثر ، فحبسني في سرداب وأغلقه فمكثت فيه ليلتي. فلما أصبحت إذا إنا في شيخ قد خرج علي من زاوية السرداب، ودفع إلي وسطا وقال: كل فأكلت، ثم أخرج قنينة شراب فقال: اشرب فشربت، ثم قال لي: غن:
لي مدة لابد أن أبلغـهـا معلومة فإذا انقضت مت
لو ساورتني الأسد ضارية لغلبتها ما لم يج الوقـت فغنيته، وسمعني كوثر فصار إلى محمد وقال: قد جن عمك وهو جالس يغني بكيت وكيت. فأمر بإحضاري فأحضرت وأخبرته بالقصة، فأمر لي بسبعمائة درهم ورضي عني.
?طارح أخته علية فأطربا المأمون وأحمد بن الرشيد: أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال سمعت ينشو يحدث عن أبي أحمد بن الرشيد قال: كنت يوما بحضرة المأمون وهو يشرب، فدعا بياسر وأدخله فساره بشيء ومضى وعاد. فقام المأمون وقال لي: قم، فدخل دار الحرم ودخلت معه، فسمعت غناء أذهل عقلي ولم أقدر أن أتقدم ولا أتأخر. وفطن المأمون لما بي فضحك ثم قال: هذه عمتك علية تطارح عمك إبراهيم:
ما لي أرى الأبصار بي جافيه نسبة هذا الصوت
مالي أرى الأبصار بي جافيه لم تلتفت مني إلى نـاحـيه
لا ينظر الناس إلى المبتلـى وإنما الناس مع العـافـيه
وقد جفاني ظالـمـا سـيدي فأدمعي منـهـاة هـامـيه
صحبي سلوا ربكم العافـيه فقد دهتني بعدكـم داهـيه الشعر والغناء لعلية بنت المهدي خفيف رمل. وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن لعريب فيه خفيف رمل آخر مزمورا، وأن لحن علية مطلق.
كتب إليه إسحاق بجنس صوت فغناه من غير ان يسمعه: أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إبراهيم عن علي بن هشام أن إسحاق كتب إلى إبراهيم بن المهدي بجنس صوت صنعه واصبعه ومجراه وإجراء لحنه؛ فغناه إبراهيم من غير أن يسمعه فأدى ما صنعه. والصوت:
حييا أم يعـمـــرا قبل شحط من النوى
قلت لا تعجلوا الروا ح فقالوا ألا بـلـى
أجمع الحي رحـلة ففؤادي كذي الأسي نسبة هذا الصوت الشعر لعمر بن أبي ربيعة و. والغناء لبن سريج ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول مطلق في مجرى الوسطى. وذكر عمرو بن بانة أنه لمالك. وفيه للهذلي خفيف ثقيل أول بالبنصر عن ابن المكي، وزعم الهشامي أنه لحن مالك. وفيه لحنان من الثقيل الثاني أحدهما لإسحاق وهو الذي كتب به إسحاق إلى إبراهيم بن المهدي والآخر زعم الهشامي أنه لإبراهيم، وزعم عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام أنه لابن محرز.
أخبرني عمي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الجمان: أن إسحاق بن إبراهيم لما صنع صوته:
قل لمن صد عاتبا اتصل خبره بإبراهيم بن المهدي فكتب يسأله عنه؛ فكتب إليه بشعره وإيقاعه وبسيطه ومجراه وإصبعه وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه، فغناه. قال: ثم لقيني فغنيانه، ففضلني فيه بحسن صوته.
نسبة هذا الصوت
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا الشعر والغناء في هذا اللحن لإسحاق، ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها. وفيه لغيره ألحان.
سمعه أحمد بن أبي دواد فذهل عن نفسه ورجع عن إنكاره الغناء: أخبرني ابن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إسحاق بن محمد عن أبيه قال: سمعت أحمد بن أبي دواد يقول: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله، فخرج المعتصم يوما إلى الشماسية في حراقة يشرب، ووجه في طلبي فصرت إليه؛ فلما قربت منه سمعت غناء حيرني وشغلني عن كل شيء، فسقط سوطي من يدي؛ فالتقت إلى زنقطة غلامي أطلب منه سوطه، فقال لي: قد والله سقط سوطي. فقلت له: فأي شيء كان سبب سقوطه? قال: صوت سمعته شغلني عن كل شيء فسقط سزطي من يدي؛ فإذا قصته قصتي. قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفز الناس منه ويغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم فيه. فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر؛ فضحك وقال: هذا عمي كان يغنيني:
صفحة : 1105
إن هذا الطويل من آل حفص نشر المجد بعدما كان ماتـا فإن تبت مما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده. ففعلت وفعل، وبلغ بي الطرب أكثر مما يبلغني عن غيري فأنكره؛ ورجعت عن رأي منذ ذلك اليوم. وقد أخبرني بهذا الخبر أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن يحيى المنجم عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فذكر هذه القصة أو قريبا منها بزيادة اللفظ ونقصانه، وذكر أن الصوت الذي غناه إبراهيم:
طرقتك زائرة فحي خـيالـهـا بيضاء تخلط بالحياء دلالـهـا
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هـلالـهـا اتخذ لنفسه حراقة بحذاء داره: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسن بن عليل قال: سمعت هبة الله بن إبراهيم بن المهدي يقول: اتخذ أبي حراقة فأمر بشدها في الجانب الغربي بحذاء داره، فمضيت إليها ليلة فكان أبي يخاطبنا من داره بأمره ونهيه، فنسمعه وبيننا عرض دجلة وما أجهد نفسه.
ثناء ابن أبي ظبية عليه: أخبرني عمي قال سمعت عبد الله بن مسلم بن قتيبة يقول حدثني بن أبي ظبية قال: كنت أسمع إبراهيم بن المهدي يتنحنح فأطرب.
غنى وعنده عدة من المغنين وغنى بعده مخارق فأعاد هو فأطرب: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني القطراني المغني عن محمد بن جبر عن عبد الله بن العباس الربيعي قال: كنا عند إبراهيم بن المهدي ذات يوم وقد دعا كل مطرب محسن من المغنين يومئذ وهو جالس يلاعب أحدهم بالشطرنج. فترنم بصوت فريدة:
قال لي أحمد ولم يدر ما بي أتحب الغداة عتبة حـقـا وهو متكىء. فلما فرغ منه ترنم به مخارق فأحسن فيه وأطربنا وزاد على إبراهيم، فأعاده إبراهيم وزاد في صوته فعفى على غناء مخارق. فلما فرغ رده مخارق وغنى فيه بصوته كله وتحفظ فيه، فكدنا نطير سرورا. واستوى إبراهيم جالسا وكان متكئأ فغناه بصوته كله ووفاه نغمه وشذوره، ونظرت إلى كتفيه تهتزان وبدنه أجمع يتحرك حتى فرغ منه، و مخارق شاخص نحوه يرعد وقد انتقع لونه وأصابعه تختلج؛ فخيل لي والله أن الإيوان يسير بنا. فلما فرغ منه تقدم إليه مخارق فقبل يده وقال: جعلني الله فداك أين أنا منك ? ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقية يومه في غنائه، والله لكنما كان يتحدث.
نسبة هذا الصوت
قال لي أحمد ولم يدر مـا بـي أتحب الغـداة عـتـبة حـقـا
فتنفست ثم قلـت نـعـم حـب ا جرى في العروق عرقا فعرقا
ما لدمعي عدمتـه لـيس يرقـا إنما يستهل غسقا فـغـسـقـا
طربا نحوه ظبية تـركـت قـل بي من الوجد قرحة ما تفقـا? الشعر لأبي العتاهية. والغناء لفريدة خفيف رمل بالوسطى. وفيه لإبراهيم بن المهدي خفيف رمل آخر. ولفريدة أيضا لحن من الثقيل الثاني في أبيات من هذه القصيدة وهي:
قد لعمري مل الطبيب ومل ال أهل مني مما أداوى وأرقـى
ليتني مت فاسترحت فـإنـي أبدا ما حييت منها مـلـقـى غنى الأمين فأطربه: أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني عمي منصور بن المهدي: أنه كان عند أبي في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين، فتشاغل أبي بالشرب في بيته ولم يمض، وأرسل إليه عدة رسل فتأخر، قال منصور: فلما كان من غد قال: ينبغي أن تعمل على الرواح إلي لنمضي إلى أمير المؤمنين فنترضاه؛ فما أشك في غضبه علي. ففعلت ومضينا. فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على حير الوحش وهو مخمور، وكان من عادته ألا يشرب إذا لحقه الخمار. فدخلنا؛ وكان طريقنا على حجرة تصنع فيها الملاهي. فقل لي أخي: اذهب فاختر منها عودا ترضاه، وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا تحتاج إلى تغيره البتة عند الضرب؛ ففعلت وجعلته في كمي. ودخلنا على الأمين وظهره إلينا. فلما بصرنا به من بعيد قال: أخرج عودك فأخرجته، واندفع يغني:
وكأس شربت على لـذة وأخرى تتداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني امرؤ أتيت الفتوة من بابـهـا
صفحة : 1106
وشاهدنا الجل والياسـم ين والمسمعات بقصابها
وبربطنا دائم معـمـل فأي الثلاثة أزرى بهـا فاستوى الأمين جالسا وطرب طربا شديدا وقال: أحسنت والله يا عم وأحييت لي طربا، ودعا برطل فشربه على الريق وامتد في شربه. قال منصور: وغنى إبراهيم يومئذ على أشد طبقة يتناهى إليها في العود، وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط. ولقد رأيت منه شيئا عجيبا لو حدثت به ما صدقت، كان إذا ابتدأ يغني أصغت الوحش إليه ومدت أعناقها، ولم تزل تدنو منا حتى تكاد أن تضع رؤوسها على الدكان الذي كنا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت منا حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمنكنها التباعد فيها عنا، وجعل الأمين يعجب من ذلك، وانصرفنا من الجوائز بما لم ننصرف بمثله قط.
كتب له إسحاق بصوت صنعه فغناه وأجاده: أخبرني عمي والصولي قالا حدثنا الحسين بن يحيى الكاتب أبو الجمان أن إسحاق كتب إلى إبراهيم بن المهدي بصوت صنعه في شعر له وهو:
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا وبين له شعره وإيقاعه وبساطه ومجراه وإصبعه وتجزئته وقسمته ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أوزانه، فغناه إبراهيم، ثم لقيه بعد ذلك فغناه إياه فما خرم منه شذرة ولا نغمة. قال: وفاقني فيه بحسن صوته.
نسبة هذا الصوت
قل لمن صد عاتبا ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي أرد ت وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما ادعي ت وإن كنت كاتبا
فافعل الآن ما أرد ت فقد جئت تائبا يقال: إن الشعر لإسحاق، ولم أجده في مجموع شعره. ووجدت فيه لحنا لحكم الوادي في ديوان أغانيه ولحنه من الماخوري، وهو خفيف من خفيف الثقيل الثاني بالبنصر. وكذلك ذكرت دنانير أنه لحكم الوادي؛ ويشبه أن يكون الشعر لغيره. ولحن إسحاق الذي كتب إلى إبراهيم بن المهدي ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها. وفيه ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر لم يقع إلي نسبته إلى صانعه، وأظنه لحن حكم.
غنى أبا دلف العجلي وأهداه جارية: أخبرني عمي قال حدثنا أبو عبد الله المرزبان قال حدثني إبراهيم بن أبي دلف العجلي قال: كنا مع المعتصم بالقاطول ، وكان إبراهيم بن المهدي في حراقته بالجانب الغربي وأبي وإسحاق الموصلي في حراقتيهما في الجانب الشرقي، فدعاهما يوم جمعة فغيرا إليه في زلال وأنا معهما وأنا صغير وعلي أقبية ومنطقة. فلما دنونا من حراقة إبراهيم نهض ونهضنا ونهضت بنهوضه صبية له يقال لها غضة، وإذا في يديه كأسان وفي يديها كأس. فلما صعدنا إليه اندفع فغنى:
حيا كما الله خـلـيلـيا إن ميتا كنت وإن حيا
إن قتلتما خيرا فأهل له أو قلتما غيا فلا غـيا ثم ناول كلا منهما كأسا وأخذ هو الكأس التي كانت في يد الجارية وقال: اشربا على ريقكما، ثم دعا بالطعام فأكلوا وشربوا، ثم أخذوا العيدان فغناهما ساعة وغنياه؛ وضرب وضربا معه، وغنت الجارية بعدهم. فقال لها أبي: أحسنت مرارا. فقال له: إن كنت أحسنت فخذها إليك، فما أخرجتها إلا إليك.
سمع من مخارق لحنا فأطراه: أخبرني عمي قال حدثنا علي بن محمد بن نصر قال حدثني أبو العبيس بن حمدون قال: لما صنع مخارق في شعر العتابي.
أخضنى المقام الغمر إن كان غرني سنا خلب أو زلـت الـقـدمـان وغناه إبراهيم بن المهدي؛ فقال له: أحسنت وحياتي ما شئت فسجد مخارق سرورا بقول إبراهيم ذلك له.
غنى عمرو بن بانة لحنا وحدثه حديثه
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني القطراني عن عمرو بن بانة قال: غنى إبراهيم بن المهدي يوما:
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة فماء الهوى يرفض أو يترقرق فاستحسنه وسألته إعادته علي حتى آخذه عنه ففعل. ثم قال لي: إن حديث هذا الصوت أحسن منه. قلت: وما حديثه أعزك الله? قال: غنانيه ابن جامع والصنعة فيه له، فلما أخذته عنه غنيته إياه ليسمعه مني، فاستحسنه جدا وقال: كأني والله ما سمعته قط إلا منك ثم كان صوته بعد ذلك على نسبة هذا الصوت.
قصته مع ابن بسخنر وجاريته شارية ومخارق وعلوية:
صفحة : 1107
أخبرني علي بن إبراهيم الكاتب قال حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه قال حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر قال: وجه إلى إبراهيم بن المهدي يوما يدعوني، وذلك في أول خلافة المعتصم، فصرت إليه وهو جالس وحده وشارية جاريته خلف الستارة، فقال: إن قلت شعرا وغنيت فيه وطرحته على شارية فأخذته وزعمت أنها أحذق به مني، وأنا أقول أني أحذق به منها، وقد تراضينا بك حكما بيننا لموضعك من هذه الصناعة، فاسمعه مني ومنها واحكم ولا تعجل حتى تسمعه ثلاث مرات. فقلت نعم. فاندفع يغني بهذا الصوت:
أضن بليلى وهي غير سخية وتبخل ليلى بالهوى وأجود فأحسن وأجاد. ثم قال لها: تغني، فغنته فبرزت فيه حتى كأنه كان معها في أبيجاد، ونظر إلي فعرف أني قد عرفت فضلها عليه، فقال: على رسلك وتحدثنا ساعة وشربنا. ثم اندفع فغناه ثانية فأضعف في الإحسان، ثم قال لها: تغني، فغنت فبرت وزادت أضعاف زيادته، وكدت أشق ثيابي طربا. فقال لي: تثبت ولا تعجل. ثم غناه ثالثة فلم يبق غاية في الإحكام، ثم أمرها فغنت، فكأنه إنما كان يلعب. ثم قال لي: قل، فقضيت لها؛ فقال: أصبت، فكم تساوي عندك? فحملني الحسد له عليها والنفاسة بمثلها أن قلت: تساوي مائة ألف درهم. فقال: أو ما تساوي على هذا الإحسان وهذا التفضيل إلا مائة ألف قبح الله رأيك والله ما أجد شيئا أبلغ في عقوبتك من أن أصرفك، قم فانصرف إلى منزلك مذموما. فقلت له: ما لقولك اخرج من منزلي جواب، وقمت وانصرفت، وقد أحفظني كلامه وأرمضني . فلما خطوت خطوات التفت إليه فقلت له: يا إبراهيم أتطردني من منزلك فوالله ما تحسن أنت ولا جاريتك شيئا. وضرب الدهر ضربانه، ثم دعانا المعتصم بعد ذلك وهو بالوزيرية في قصر التل ، فدخلت أنا ومخارق وعلويه، وإذا أمير المؤمنين مصطبح وبين يده ثلاث جامات: جام فضة مملوءة دنانير جددا، وجام ذهب مملوءة دراهم جددا، وجام قوارير مملوءة عنبرا، فظننا أنها لنا بل لم نشك في ذلك، فغنيناه وأجهدنا أنفسنا، فلم يطرب ولم يتحرك لشيء من غنائنا. ودخل الحاجب فقال: إبراهيم بن المهدي. فأذن له فدخل، فغناه أصواتا أحسن فيها، ثم غناه بصوت من صنعته وهو:
ما بال شمس أبي الخطاب قد غربت يا صاحبي أظن الساعة اقتـربـت فاستحسنه المعتصم وطرب له، وقال: أحسنت والله فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين فإن كنت أحسنت فهب لي إحدى هذه الجامات؛ فقال: خذ أيتها شئت، فأخذ التي فيها الدنانير؛ فنظر بعضنا إلى بعض. ثم غناه إبراهيم بشعر له وهو:
فما مزة قهوة قرقـف شمول تروق براووقها فقال: أحسنت والله يا عم وسررت. فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أحسنت فهب لي جاما أخرى؛ فقال: خذ أيتهما شئت، فأخذ الجام التي فيها الدراهم؛ فعند ذلك انقطع رجاؤنا منها. وغناه بعد ساعة:
ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى عشير الذي ألقى فيلتئم الـحـب فارتج بنا المجلس الذي كنا فيه، وطرب المعتصم واستخفه الطرب فقام على رجليه، ثم جلس فقال: أحسنت والله ياعم ما شئت قال: فإن كنت قد أحسنت يا أمير المؤمنين فهب لي الجام الثالثة؛ فقال: خذها فأخذها. وقام أمير المؤمنين، ودعا إبراهيم بمنديل فثناه طاقتين ووضع الجامات فيه وشده، ودعا بطين فختمه ودفعه إلى غلامه، ونهضنا إلى الانصراف، وقدمت دوابنا. فلما ركب إبراهيم التفت إلي فقال: يا محمد بن الحارث، زعمت أني لا أحسن أنا وجاريتي شيئا، وقد رأيت ثمرة الإحسان. فقلت في نفسي: قد رأيت، فخذها لا بارك الله لك فيها ولم أجبه بشيء.
نسبة هذه الأصوات صوت
ما بال شمس أبي الخطاب قد غربت يا صاحبي أظن الساعة اقتـربـت
أم لا فما بال ريح كنـت آمـلـهـا غدت علي بصر بعدمـا خـبـئت
أشكو إليك أبا الخـطـاب جـارية غريرة بفؤادي اليوم قد لـعـبـت
رأيت قيمـهـا يومـا يحـدثـهـا يا ليتها قربت مني ومـا بـعـدت الشعر والغناء لإبراهيم بن المهدي رمل بالبنصر. وفيه هزج بالبنصر، ذكر عمرو بن بانة أنه لإبراهيم الموصلي، وذكر غيره أنه لإبراهيم بن المهدي.
صوت
ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى عشير الذي ألقى فيلتئم الـحـب
صفحة : 1108
وصالكم صد وقربكم قـلـى وعطفكم سخط وسلمكم حرب الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء لإبراهيم.
شعر في باقة نرجس غنى به المعتصم: وقال ابن أبي طاهر حدثني المؤمل بن جعفر قال: سمعت أبي يقول: كانت في يد المعتصم باقة نرجس فقال لإبراهيم بن المهدي: يا عم قل فيها أبياتا وغن فيها. فنكت في الأرض بقضيب في يده هنيهة ثم قال: صوت
ثلاث عيون من النرجس على قائم أخضر أملـس
يذكرنني طيب ريا الحبيب فيمنعنني لذة المجـلـس وصنع فيه لحنا وغناه به، فأعجبه وأمر له بجائزة. لحن إبراهيم في هذين البيتين خفيف رمل بالبنصر، ذكر لي ذكاء فغيره ذلك.
غضب عليه المأمون وسجنه فاستعطفه حتى عفا عنه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي عن الجاحظ، وأخبرني به محمد بن يحيىالصولي قال حدثنا يموت بن المزرع عن الجاحظ قال: أرسل إلي ثمامة يوم جلس المأمون لإبراهيم بن المهدي وأمر بإحضار الناس على مراتبهم فحضروا فجيء بإبراهيم، وأخبرني عمي قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثني محمد بن عمرو الأنباري من أبناء خراسان قال: لما ظفر المأمون لإبراهيم بن المهدي أحب أن يوبخه على رؤوس الناس. قال: فجيء بإبراهيم يحجل في قيوده، فوقف على طرف الإيوان وقال :السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال له المأمون: لا سلم الله عليك ولا حفظك ولا رعاك ولا كلأك يا إبراهيم. فقال له إبراهيم: على رسلك يا أمير المؤمنين فلقد أصبحت ولي ثأري، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مد له الاغترار في الأمل هجمت به الأناة على التلف. وقد أصبح ذنبي فوق كل ذنب، كما أن عفوك فوق كل عفو - وقال الحسن بن عليل في خبره: وقد أصبحت فوق كل ذي ذنب، كما أصبح كل ذي عفو دونك - فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك. قال: فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: إن هذين أشارا علي بقتلك. فالتفت فإذا المعتصم والعباس بن المأمون، فقال: يا أمير المؤنين، أما حقيقة الرأي في معظم تدبير الخلافة والسياسة فقد أشارا عليك به وما غشاك إذ كان ما كان مني، ولكن الله عودك من العفو عادة جريت عليها دافعا ما تخاف بما ترجو، فكفاك الله. فتبسم المأمون وأقبل على ثمامة ثم قال: إن من الكلام ما يفوق الدر ويغلب السحر، وإن كلام عمي منه، أطلقوا عن عمي حديده وردوه إلي مكرما. فلما رد إليه قال: يا عم صر إلى المنادمة وارجع إلى الأنس، فلن ترى مني أبدا إلا ما تحب. فلما كان من الغد بعث إليه بدرج فيه:
يا خير من ذملت يمـانـية بـه بعد الرسول لآيس أو طـامـع
وأبر من عبد الإله على الهـدى نفسا وأحكمه بـحـق صـادع
عسل الفوراع ما أطعت فإن تهج فالموت في جرع السمام الناقع
متيقظا حذرا وما يخشى الـعـدا نبهان من وسنات ليل الهـاجـع
والله يعلم مـا أقـول فـإنـهـا جهد الألية من حنـيف راكـع
قسما وما أدلي إلـيك بـحـجة إلا التضرع من محب خـاشـع
ما إن عصيتك والغواة تمـدنـي أسبـابـهـا إلا بـنـية طـائع
حتى إذا علقت حبائل شقـوتـي بردى على حفر المهالك هـائع
لم أدر أن لمثل ذنبـي غـافـرا فأقمت أرقب أي حتف صارعي
رد الحياة إلي بعـد ذهـابـهـا ورع الإمام القاهر المتواضـع
أحياك مـن ولاك أطـول مـدة ورمى عدوك في الوتين بقاطع
إن الذي قسم الفضائل حـازهـا في صلب آدم للإمام السـابـع
كم من يد لك لا تحدثنـي بـهـا نفسي إذا آلت إلي مطامـعـي
أسديتها عـفـوا إلـي هـنـيئة فشكرت مصطنعا لأكرم صانع
ورحمت أطفالا كأفراخ القطـا وعويل عانسة كقوس الـنـازع
وعفوت عمن لم يكن عن مثلـه عفو ولم يشفع إليك بـشـافـع
إلا العلو عن العقوبة بـعـدمـا ظفرت يداك بمستكين خاضـع
صفحة : 1109
قال: فبكى المأمون ثم قال: علي به، فأتي به فخلع عليه وحمله وأمر له بخمسة آلاف دينار، ودعا بالفراش فقال له: إذا رأيت عمي مقبلا فاطرح له تكأة، فكان ينادمه ولا ينكر عليه شيئا. وروي بعض هذا الخبر عن محمد بن الفضل الهاشمي فقال فيه: لما فرغ المأمون من خطابه دفعه إلى ابن أبي خالد الأحول وقال: هو صديقك فخذه إليك. فقال: وما تغني صداقتي عنه وأمير المؤمنين ساخط عليه أما إني وإن كنت له صديقا لا أمتنع من قول الحق فيه. فقال له:قل فإنك غير متهم. قال وهو يريد التسلق على العفو عنه : إن قتلته فقد قتلت الملوك قبلك أقل جرما منه، وإن عفوت عنه عفوت عمن لم يعف قبلك عن مثله. فسكت المأمون ساعة ثم تمثل:
فلئن عفوت لأعفون جـلـلا ولئن سطوت لأوهنن عظمي
قومي هم قتلوا أمـيم أخـي فإذا رميت أصابني سهمـي خذه يا أحمد إليك مكرما، فانصرف به. ثم كتب إلى المأمون قصيدته العينية. فلما قرأها رق له وأمر برده إلى منزله ورد ما قبض منه من أمواله وأملاكه. وفي خبر عمي عن الحسين بن عليل قال: حدثني محمد بن إسحاق الأشعري عن أبي داود: أن المأمون تقدم إلى محمد بن مزداد لما أطلق إبراهيم أن يمنعه داري الخاصة والعامة، ويوكل به رجلا من قبله يثق به ليعرفه أخباره وما يتكلم به. فكتب إليه الموكل به أن إبراهيم لما بلغه منعه من داري الخاصة والعامة تمثل:
يا سرحة الماء قد سدت موارده أماإليك طريق غير مـسـدود
لحائم حام حتـى لا حـيام لـه محلأ عن طريق الماء مطرود فلما قرأها المأمون بكى وأمر بإحضاره من وقته مكرما وإنزاله في مرتبته؛ فصار إليه محمد فبشره بذلك وأمره بالركوب فركب. فلما دخل على المأمون قبل البساط ثم قال:
البر بي منك وطا العذر عندك لي دون اعتذاري فلم تعذل ولم تلـم
وقام علمك بي فاحتج عندك لـي مقام شاهد عدل غير مـتـهـم
رددت مالي ولم تمنن علـي بـه وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به فلا عدمناك من عاف ومنتـقـم
فبؤت منك وقد كافـأتـهـا بـيد هي الحياتان من موت ومن عدم فقال له: اجلس يا عم آمنا مطمئنا، فلن ترى أبدا مني ما تكره، إلا أن تحدث حدثا أو تتغير عن طاعة؛ وأرجو ألا يكون ذلك منك إن شاء الله.
بذ أحمد بن يوسف الكاتب في حسن المحاضرة: أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن حمدون عن أبيه قال: كنت أحب أن أجمع بين إبراهيم بن المهدي وأحمد بن يوسف الكاتب بما كنت أراه من تقدم أحمد وغلبته الناس جميعا بحفظه وبلاغته وأدبه في كل محضر ومجلس. فدخلت يوما على إبراهيم بن المهدي وعنده أحمد بن يوسف وأبو العالية الخزري، فجعل إبراهيم يحدثنا فيضيف شيئا إلى شيء، مرة يضحكنا ومرة يعظنا ومرة ينشدنا ومرة يذكرنا، وأحمد بن يوسف ساكت. فلما طال بنا المجلس أردت أن أخاطب أحمد، فسبقني إليه أبو العالية فقال:
ما لك لا تنبح يا كلب الدوم قد كنت نباحا فما لك اليوم فتبسم إبراهيم ثم قال: لو رأيتني في يد جعفر بن يحيى لرحمتني كما رحمت أحمد مني.
أثنى عليه إسحاق: أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال قال لي إسحاق: ليس فيمن يدعي العلم بالغناء مثل إبراهيم بن المهدي وأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي. فقيل له: فأين محمد بن الحسن بن مصعب منهما? فقال: لو قيل لك إن محمد بن الحسن يبصر الغناء لكان ينبغي لك أن تقول: وكيف يبصر الغناء من نشأ بخراسان لا يسمع من الغناء العربي إلا ما لا يفهمه .
إقرار ابن بانة له ولإسحاق بالعلو في فن الغناء: أخبرني يحيى قال حدثني أبو العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال: رأيت إسحاق الموصلي يناظر إبراهيم بن المهدي في الغناء، فتكلما فيه بما فهماه ولم نفهم منه شيئا. فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء ما نحن منه في قليل ولا كثير.
فضل المأمون غناءه على غناء إسحاق في شعر للأخطل: أخبرني عمي عن علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون: أن المأمون قال لإسحاق: غنني لحنك في شعر الأخطل:
يا قل خير الغواني كيف رغن به فشربه وشل منهـن تـصـريد
صفحة : 1110
فغناه إياه فاستحسنه، ثم قال لإبراهيم بن المهدي: هل صنعت في هذا الشعر شيئا? قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فهاته؛ فغناه فاستحسنه المأمون وقدمه على صنعة إسحاق ولم يدفع إسحاق ذلك.
علمه إسحاق لحنا فطرب له الأمين وقصة ذلك: أخبرني أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن يحيى الموصلي قال ذكر أبي عن جدي عن عبد الله بن عيسى الماهاني قال: دخلت يوما على إسحاق بن إبراهيم الموصلي في حاجة، فرأيت عليه مطرف خز أسود ما رأيت قط أحسن منه؛ فتحدثنا إلى أن أخذنا في أمر المطرف فقال: لقد كانت لكم أيام حسنة ودولة عجيبة، فكيف ترى هذا? فقلت له: ما رأيت مثله. فقال: إن قيمته مائة ألف درهم، وله حديث عجيب. فقلت له: ما أقومه إلا نحوا من مائة دينار. فقال إسحاق: اسمع حديثه: شربنا يوما من الأيام، فبت وأنا مثخن، فانتبهت لرسول محمد الأمين، فدخل علي فقال لي: يقول لك أمير المؤمنين عجل إلي - وكان بخيلا على الطعام فكنت آكل قبل أن أذهب إليه - فقمت فتسوكت وأصلحت أمري، وأعجلني الرسول عن الغداء. فدخلت عليه وإبراهيم بن المهدي جالس عن يمينه وعليه هذا المطرف وعليه جبة خز دكناء. فقال لي محمد: يا إسحاق تغديت ? فقلت: نعم يا سيدي. فقال: إنك لنهم، أهذا وقت غداء فقال: أصبحت يا أمير المؤمنين وبي خمار، فكان ذلك مما حداني على الأكل. فقال لهم: كم شربنا? فقالوا: ثلاثة أرطال. فقال: اسقوه مثلها. فقلت: إن رأيت أن تفرقها علي فقال: تسقى رطلين ورطلا. فدفع إلي رطلان فجعلت أشربهما وأنا أتوهم أن نفسي تسيل معهما، ثم دفع إلي رطل آخر فشربته فكأن شيئا انجلى عني. فقال غنني:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم فغنيته؛ فقال: أحسنت طرب، ثم قام فدخل. وكان يفعل ذلك كثيرا، يدخل إلى النساء ويدعنا. فقمت في أثر قيامه فدعوت غلاما لي فقلت: اذهب إلى منزلي وجئني ببزماوردتين ولفهما في منديل واذهب ركضا وعجل. فمضى الغلام فجاءني بهما. فلما وافى الباب ونزل عن الدابة انقطع البرذون فنفق من شدة ما ركضه، فأدخل إلي البزماوردتين فأكلتهما ورجعت إلي نفسي وعدت إلى مجلسي. فقال لي إبراهيم: إن لي إليك حاجة أحب أن تقضيها لي. فقلت: إنما أنا عبدك وابن عبدك، قل ما شئت. قال: ترد علي:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا وهذا المطرف لك. فقلت: أنا لا آخذ منك مطرفا على هذا، ولكني أصير إليك إلى منزلك فألقيه على الجواري وأرده عليك مرارا. فقال: أحب أن ترده علي الساعة وأن تأخذ هذا المطرف فإنه من لبسك ومن حاله كذا وكذا. فرددت عليه الصوت مرارا حتى أخذه. ثم سمعنا حركة محمد فقمنا حتى جاء فجلس ثم قعدنا، فشرب وتحدثنا. فغناه إبراهيم:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا فكأني والله لم أسمعه قبل ذلك حسنا، وطرب محمد طربا عجيبا وقال: أحسنت والله يا عم أعط يا غلام عشر بدر لعمي الساعة، فجاءوا بها. فقال: يا أمير المؤمنين إن لي فيها شريكا. قال: ومن هو? قال: إسحاق. قال: وكيف? قال: إنما أخذته الساعة منه لما قمت. فقلت له: ولم أضاقت الأموال على أمير المؤمنين حتى يشركك فيما تعطاه قال: أما أنا فأشركك وأمير المؤمنين أعلم. فلما انصرفنا من المجلس أعطاني ثلاثين ألفا وأعطاني هذا المطرف. فهذا أخذ به مائة ألف درهم وهي قيمته.
حج مع الرشيد وقصته مع جارية رآها: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال لي إبراهيم بن المهدي: حججت مع الرشيد؛ فلما صرنا بالمدينة خرجت أدور في عرصاتها، فانتهيت إلى بئر وقد عطشت وجارية تستقي منها، فقلت: يا جارية، امتحي لي دلوا. فقالت: أنا والله عنك في شغل بضريبة موالي علي. فنقرت بسوطي على سرجي وغنيت: صوت
رام قلبي السلو عن أسـمـاء وتعزى وما به مـن عـزاء
سخنة في الشتاء باردة الصي ف سراج في الليلة الظلماء
كفناني إن مت في درع أروى وامتحالي من بئر عروة مائي - الشعر للأحوص. والغناء لمعبد رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق - وتمام هذه الأبيات:
إنني والذي تحج قـريش بيته سالكين نقـب كـداء
لملم بها وإن أبت منـهـا صادرا كالذي وردت بداء
صفحة : 1111
ولها مربع بـبـرقة خـاخ ومصيف بالقصر قصر قباء
قلبت لي ظهر المجن فأمست قد أطاعت مقـالة الأعـداء ولمعبد أيضا في البيت الأخير من هذه الأبيت ثم الأول والثاني خفيف ثقيل عن الهشامي. ولابن سريج في:
ولها مربع ببرقة خاخ
وكفناني إن مت في درع أروى رمل عن الهشامي أيضا. ولإبراهيم في: رام قلبي وما بعده ثاني ثقيل عن حبش - قال إبراهيم بن المهدي في الخبر: فرفعت الجارية رأسها إلي فقالت: أتعرف بئر عروة? قلت لا. قالت: هذه والله بئر عروة، ثم سقتني حتى رويت، وقالت: إن رأيت أن تعيده ففعلت، فطربت وقالت: والله لأحملن قربة إلى رحلك . فقلت: افعلي، ففعلت وجاءت معي تحملها. فلما رأت الجيش والخدم فزعت. فقلت لها: لا بأس عليك وكسوتها ووهبت لها دنانير وحبستها عندي، ثم صرت إلى الرشيد فحدثته حديثها؛ فأمر بابتياعها وعتقها؛ فما برحت حتى اشتريت وأعتقت، وأخذت لها منه صلة وافترقنا.
حواره مع المأمون حين استعطفه بكلام سعيد بن العاص لمعاوية: حدثني علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدثنا الفضل بن مروان قال: لما أدخل إبراهيم بن المهدي على المأمون وقد ظفر به، كلمه إبراهيم بكلام سعيد بن العاص كلم به معاوية بن أبي سفيان في سخطة سخطها عليه واستعطفه به. وكان المأمون يحفظ الكلام، فقال له المأمون: هيهات يا إبراهيم هذا كلام سبقك به فحل بن العاص بني أمية وقارحهم سعيد بن العاص وخاطب به معاوية. فقال له إبراهيم : مه يا أمير المؤمنين? وأنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بن حرب وقارحهم إلى العفو، فلا تكن حالي عندك في ذلك أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه، وأنا أشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معوية، وإن أعظم الهجنة أن تسبق أمية هاشما إلى مكرمة. فقال: صدقت يا عم، وقد عفوت عنك.
غضب عليه الأمين فاستعطفه: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: جرى بين محمد الأمين وبين إبراهيم بن المهدي كلام على النبيذ، فوجد عليه محمد. فلما كان بعد أيام بعث إليه إبراهيم بألطاف فلم يقبلها؛ فوجه إليه وصيفة مليحة مغنية معها عود معمول من عود هندي، وقال هذه الأبيات وغنى فيها وألقاها عليها حتى أخذت الصنعة وأحكمتها، ثم وجه بها إليه. فوقفت الجارية بين يديه وقالت له: عمك وعبدك يا أمير المؤمنين يقول لك - واندفعت تغني بالشعر وهو -:
هتكت الضمير برد اللطـف وكشفت هجرك لي فانكشف
وإن كنت تنكر شـيئا جـرى فهب للخلافة ما قد سلـف
وجد لي بصفحك عن زلتـي فبالفضل يأخذ أهل الشرف قال: فسر محمد بها، وبعث إلى إبراهيم فأحضره ورضى عنه وأمر له بخمسة آلاف دينار وتمم يومه معه.
صالح جاريته صدوف: أخبرني محمد بن خلف المرزبان قال أخبرني سعيد بن صالح الأسدي قال حدثني جعفر بن محمد الهاشمي قال حدثني بعض خدم إبراهيم بن المهدي قال: كانت لإبراهيم بن المهدي جارية يقال لها صدوف، وكان لها من نفسه موضع. فحسدها جواريه على محلها منه، فلم يزلن يبلغنه عنها ما يكره حتى غضب عليها وجفاها أياما؛ ثم شق ذلك عليه واغتم به، ولم يطب نفسا بمراجعتها وصلحها. فدخل عليه الأعرابي أخو معللة صاحبة الفضل بن الربيع، وكان حسن الشعر حلو اللفظ فصيحا، وكان إبراهيم يأنس به، فقال له: ما لي أرى الأمير منكسرا منذ أيام? فأمسك. فقال: قد عرفت حال الأمير وقلت في أمره أبياتا إن أذن لي أنشدته إياها. فتبسم وقال: هات؛ فأنشده:
أعتبت أم عتبت عليك صدوف وعتاب مثلك مثلها تشـريف
لا تقعدن تلوم نفسـك دائبـا فيها وأنت بحبها مشغـوف
إن الصريمة لا ينوء بحملهـا إلا القوي بها وأنت ضعيف فاستحسن إبراهيم الأبيات وأمر له بمائتي دينار، وبعث إلى صدوف فخرجت إليه ورضي عنها، وبعثت إليه صدوف بمائة دينار.
قيل له تب وأحرق دفاتر الغناء فقال ريق تحفظ كل غنائي: أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أحمد بن علي بن حميدة قال حدثتني ريق قالت:
صفحة : 1112
مرض إبراهيم بن المهدي مرضة أشرف منها على الموت، فجعل يتذكر شغفه بالغناء وما سلف له فيه ويتندم عليه. فقال له بعض من حضر: فتب وأحرق دفاتر الغناء. فحرك رأسه ساعة ثم قال: يا مجانين فهبني أحرقت دفاتر الغناء كلها، ريق أيش أعمل بها? أأقتلها وهي تحفظ كل شيء في دفاتر الغناء رأى عليا في النوم: أخبرني جعفر بن قدامة والحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني المبرد عن أحمد بن الربيع عن إبراهيم بن المهدي قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم، فقلت له: إن الناس قد أكثروا فيك وفي أبي بكر وعمر، فما عندك في ذلك? فقال لي: إخسأ ولم يزدني على ذلك. وأخبرني الكوكبي بهذا الخبر عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال: كان إبراهيم شديد الانحراف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فحدث المأمون يوما أنه رأى عليا في النوم، فقال له: من أنت? فأخبره أنه علي بن أبي طالب. قال: فمشينا حتى جئنا قنطرة فذهب يتقدمني لعبورها؛ فأمسكته وقلت له: إنما أنا رجل تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يوصف عنه. فقال: وأي شيء قال لك? فقال: ما زادني على أن قال سلاما سلاما. فقال له المأمون: قد والله أجابك أبلغ جواب. قال: وكيف? قال: عرفك أنك جاهل لا يجاوب مثلك؛ قال الله عز وجل: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . فخجل إبراهيم وقال: ليتني لم أحدثك بهذا الحديث.
تمنى له الأمين طول العمر: أخبرني الكوكبي قال حدثني المفضل بن سلمة عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال: قلت للأمين يوما: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك فقال: بل جعلني الله فداءك؛ فأعظمت ذلك. فقال: يا عم لا تعظمه فإن لي عمرا لا يزيد ولا ينقص؛ فحياتي مع الأحبة أطيب من تجرعي فقدهم، وليس يضرني عيش من عاش بعدي منهم.
غنى للأمين لحنا فطرب وطلب إليه أن يلقنه إحدى جواريه، وقصة ذلك: حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني أبي قال: كنت يوما بين يدي الأمين أغنيه؛ فغنيته: صوت
أقوت منازل بالهضاب من آل هند والربـاب
خطارة بزمـامـهـا وإذا ونت ذلل الركاب
ترمي الحصاء بمناسم صم صلادمة صلاب قال: فاستحسن اللحن وسألني عن صانعه؛ فعرفته أن ابن جامع حدثني عن سياط أنه لابن عائشة؛ فلم يزل يشرب عليه لا يتجاوزه، ثم انصرفنا ليلتنا تلك. ووافاني رسوله حين انتبهت من النوم وأنا أستاك، فقال لي: يقول لك: بحياتي يا عم لا تشتغل بعد الصلاة بشيء غير الركوب إلي. فصليت وتناولت طعاما خفيفا وأنا ألبس ثيابي خوفا من رجوع رسوله، وركبت إليه. فلما رآني من بعيد صاح بي: يا عم بحياتي:
خطارة بزمامها فلما دخلت المجلس ابتدأته وغنيته؛ فأمر بإحضار صبية كان يتحظاها، فأخرجت إليه صبية كأنها لؤلؤة في يدها العود. فقال: بحياتي يا عم ألقه عليها فأعدته مرارا وهو يشرب؛ حتى إذا ظننت أنها قد أخذته أمرتها أن تغنيه فغنته، فإذا هو قد استوى لها إلا في موضع كان فيه وكان صعبا جدا فجهدت جهدي أن يقع لها طلبا لمسرته، وكان حقيقا مني بذلك، فلم يقع لها البتة. ورأى جهدي في أمرها وتعذره عليها، فأقبل عليها وقد سكر ثم قال: نفيت من الرشيد وكل أمة لي حرة وعلي عهد الله لئن لم تأخذيه في المرة الثالثة لآمرن بإلقائك في دجلة قال: ودجلة تطفح وبيننا وبينها نحو ذراعين وذلك في الربيع، فتأملت القصة، فإذا هو قد سكر، وإذا الجارية لا تقوله كما أقوله أبدا. فقلت: هذه والله داهية، ويتنغص عليه يومه وأشرك في دمها، فعدلت عما كنت أغنيه عليه وتركت ما كنت أقوله، وغنيته كما كانت هي تقوله، وجعلت أردده حتى انقضت ثلاث مرات أعيده فيها على ما كانت هي تقوله، وأريته أني أجتهد. فلما انقضت الثلاث المرات قلت لها: هاتيه الآن، فغنته على ما كان وقع لها. فقلت: أحسنت يا أمير المؤمنين، ورددته معها ثلاث مرات، فطابت نفسه وسكن، وأمر لي بثلاثين ألف درهم.
حدث لجحظة مع طرخان ما حدث له هو مع الأمين: قال جحظة: وقد لحقني مثل هذا؛ فإن طرخان بن محمد بن إسحاق بن كنداجيق استحسن صوتا غنيته وهو:
صفحة : 1113
أعياني الشادن الربـيب أكتب أشكو فلا يجيب
من أين أبغي شفاء دائي وإنما دائي الطـبـيب - ولحنه رمل - فقال: أحب أن تطرحه على زهرة جاريتي، فمكثت أتردد إليها شهرا وأكثر وأردده عليها وهو يصلني ويخلع علي ويعطيني كل شيء حسن يكون في مجلسه، فلا تأخذه مني ولا يقع لها. فلما كان بعد شهر قلت له: أيها الأمير قد والله استحييت من كثرة ما تعطيني بسبب هذا الصوت، وقد أعياني أن تأخذه زهرة؛ ثم حدثته حديث إبراهيم بن المهدي وقلت له: لولا أني آمنك عليها لقلته أنا كما تقوله هي حتى نتخلص جميعا. وليس وحياتك تأخذه أبدا كما أقوله ولا فيه حيلة. فقال لي: فدعه إذا.
غنى بحضرة المأمون لحنا وأراد ابن بسخنر أن يأخذه عنه فضلله: حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم قال حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر قال: غنى إبراهيم بن المهدي يوما بحضرة المأمون: صوت
يا صاح يا ذا الضامر العنس والرحل ذي الأنساع والحلس
أما النهار فأنت تقـطـعـه رتكا وتصبح مثل ما تمسي - في هذين البيتين لحن لمالك خفيف ثقيل عن يونس والهشامي. قال: ولمعبد فيه ثقيل أول، وقد نسب قوم لحن كل واحد منهما إلى الآخر. قال محمد بن الحارث بن بسخنر في الخبر: واللحن لمالك بن أبي السمح وهو من قصاره. هكذا في الخبر - قال: فاستحسنه المأمون، وذهبت آخذه، ففطن لي إبراهيم فجعل يزيد فيه مرة وينقص منه أخرى بزوائده التي كان يعملها في الغناء، وعلمت ما هو يصنع فتركته. فلما قام قلت للمأمون: يا سيدي إن رأيت أن تأمر إبراهيم أن يلقي علي:
يا صاح يا ذا الضامر العنس قال: أفعل. فلما عاد قال له: يا إبراهيم ألق على محمد:
يا صاح يا ذا الضامر العنس فألقاه علي كما كان يغنيه مغيرا، ثم انقضى إلى المجلس وسكر المأمون. فقال لي إبراهيم: قم الآن فأنت أحذق الناس به، فخرجت وخرج. ثم جئته إلى منزله فقلت له: ما في الأرض أعجب منك أنت ابن الخليفة وأخو الخليفة وعم الخليفة تبخل على ولي لك مثلي لا يفاخرك بالغناء ولا يكاثرك بصوت فقال لي: يا محمد ما في الدنيا أضعف عقلا منك والله ما اسبقاني المأمون محبة لي ولا صلة لرحمي، ولكنه سمع من هذا الجرم شيئا فقده من سواه فاستبقاني لذلك. فغاظني فعله. فلما دخلت على المأمون حدثته بما قال لي. فقال المأمون: يا محمد هذا أكفر الناس لنعمة وأطرق مليا ثم قال لي: لا نكدر على أبي إسحاق عفونا عنه ولا نقطع رحمه، فدع هذا الصوت الذي ضن به عليك إلى لعنة الله.
قال بيتا يكيد به لدعبل: حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن يزيد قال: قلت لدعبل: بالله أسألك أنت القائل:
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة إذا حسبوا يوما وثامنهـم كـلـب فقال: لا والله فقلت: من قاله? قال: من حشا الله قبره نارا إبراهيم بن المهدي، كافأني بذلك عن هجائي إياه ليشيط بدمي.
خطأ مخارقا في لحن غناه للمأمون ثم لقنه إياه على وجهه: أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر قال: لما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي ونادمه، دخل عليه متبذلا في ثياب المغنين وزيهم. فلما رآه ضحك وقال: نزع عمي ثياب الكبر عن منكبيه. فدخل وجلس، وأمر المأمون بأن يخلع عليه فألبس الخلع. ثم ابتدأ مخارق فغنى: صوت
خليلي من كعب ألما هديتـمـا بزينب لا يفقدكما أبدا كعـب
من اليوم زوارها فإن مطينـا غداة غد عنها وعن أهلها نكب فقال له إبراهيم: أسأت وأخطأت. فقال له المأمون: يا عم إن كان أساء وأخطأ فأحسن أنت. فغنى إبراهيم الصوت. فلما فرغ منه قال لمخارق: أعده الآن، فأعاده فأحسن. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين كم بين الصوت الآن وبينه في أول الأمر? قال: ما أبعد ما بينهما فالتفت إلى مخارق ثم قال: إنما مثلك يا مخارق مثل الثوب الوشي الفاخر، إذا تغافل عنه أهله سقط عليه الغبار فحال لونه، فإذا نفض عاد إلى جوهره.
سأله الرشيد عن أحسن الأسماء وأسجمها فأجابه:
صفحة : 1114
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثتني شارية الكبرى مولاة إبراهيم بن المهدي قالت: سمعت مولاي إبراهيم بن المهدي يحدث قال: كنت بين يدي الرشيد جالسا على طرف حراقة من حراقاته وهو يريد الموصل وقد بلغنا إلى السودقانية ، والمدادون يمدون السفن، والشطرنج بيني وبينه، والدست متوجه له، إذا أطرق هنية ثم قال لي: يابن أم، ما أحسن الأسماء عندك? قلت: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم أي شيء بعده? قلت: هارون اسم أمير المؤمنين. قال: فما أسمج الأسماء? قلت: إبراهيم. فزجني ثم قال: ويحك أتقول هذا أليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن فقلت له: بشؤم هذا الأسم لقي من نمرود ما لقي وطرح في النار. قال: فإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم? قلت: لا جرم أنه لم يعمر من أجله. قال: فإبراهيم الإمام? قلت بحرفة اسمه قتله مروان في حران . وأزيدك يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن الوليد خلع، وإبراهيم بن عبد الله بن حسن قتل، وعمه إبراهيم بن حسن سقط السجن عليه فمات، وما رأيت والله أحدا يسمى بهذا الأسم إلا قتل أو نكب أو رأيته مضروبا أو مقذفا أو مظلوما. ثم ما انقضى من الكلام حتى سمعت ملاحا يصيح بآخر: مد إبراهيم يا عاض بظر أمه مد. فقلت له: أبقي لك شيء بعد هذا ليس والله في الدنيا اسم أشأم من إبراهيم والسلام. فضحك حتى أشفقت عليه.
غنى المأمون لحنا عرض فيه بالحسن بن سهل: حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن أبيه قال: دخل الحسن بن سهل على المأمون وهو يشرب؛ فقال له: بحياتي وبحقي عليك يا أبا محمد إلا شربت معي قدحا، وصب له من نبيذه قدحا. فأخذه بيده وقال له: من تحب أن يغنيك? فأومأ إبراهيم بن المهدي فقال له المأمون: غنه يا عم، فغناه:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت يعرض به لما كان لحقه من السوداء والاختلاط. فغضب المأمون حتى ظن إبراهيم أنه سيوقع به، ثم قال له: أبيت إلا كفرا يا أكفر خلق الله لنعمه والله ما حقن دمك غيره ولقد أردت قتلك فقال لي: إن عفوت عنه فعلت فعلا لم يسبقك إليه أحد، فعفوت والله عنك لقوله. أفحقه أن تعرض به ولا تدع كيدك ولا غلك أو أنفت من إيمائه إليك بالغناء فوثب إبراهيم قائما وقال: يا أمير المؤمنين، لم أذهب حيث ظننت، ولست بعائد؛ فأعرض عنه.
غنى للمعتصم لحنا وسمعه أحمد بن أبي دواد فمال للغناء بعد أن كان يتجنبه: أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني جرير بن أحمد بن أبي دواد قال حدثني أخي عن أبي قال: كنت أتجنب الغناء وأطعن على أهله وأذم لهجهم به؛ فوجه المعتصم إلي عند خروجه من مدينة السلام: الحق بي؛ فلحقت به بباب الشماسية ومعي غلام زنقطة، فوجدته قد ركب الزورق، وسمعت عنده صوتا أذهلني حتى سقط سوطي من يدي ولم أشعر به، ثم احتجت وقد أعنق بي برذوني أن أكفه بسوطي. فقلت لغلامي: هات سوطك؛ فقال سقط والله من يدي لما سمعت هذا الغناء. فغلبني الضحك حتى بان في وجهي. ودخلت على المعتصم بتلك الحال. فلما رآني قال لي: ما يضحكك يا أبا عبد الله? فحدثته، فقال، أتتوب الآن من الطعن علينا في السماع? فقلت له: قبل ذلك من كان يغنيك? قال: عمي إبراهيم، كان يغنيني:
إن هذا الطويل من آل حفص أنشر المجد بعد ما كان ماتا ثم قال: أعده يا عم ليسمعه أبو عبد الله فإني أعلم أنه لا يدع مذهبه. فقلت: بلى والله لأدعنه في هذا ولا لمتك عليه. فقال: أما إذ كانت توبته على يديك يا عم فلقد فزت بفخرها وعدلت برجل ضخم عن رأيه إلى شأننا.
فضله مخارق على نفسه وعلى إبراهيم الموصلي وابن جامع: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال حدثني الحسين بن إبراهيم قال: كنت أسأل مخارقا: أي الناس أحسن غناء? فيجيبني جوابا مجملا حتى حففت عليه يوما قال: كان إبراهيم الموصلي أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وأنا أحسن غناء من إبرهيم الموصلي بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدي أحسن غناء مني بعشر طبقات. قال ثم قال لي: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا، وإبراهيم بن المهدي أحسن الجن والإنس والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا.
سمع إسحاق صوتا من لحنه وشعره فطرب له واستعاده عامة يومه وقصة ذلك:
صفحة : 1115
حدثني علي بن هارون المنجم قال حدثني محمد بن أحمد بن علي بن يحي قال سمعت جدي علي بن يحيى يقول حدثني محمد بن الفضل الجرجرائي قال: انتبهت يوما مغلسا، فدخل إلي الغلام فقال لي: إسحاق الموصلي بالباب قبل أن أصلي الغداة. فقلت يدخل، في الدنيا إنسان يستأذن لإسحاق فدخل فقال: حملني الشوق إليك على أن بكرت هذا البكور، وقد حملت معي نبيذي وعملت على المقام عندك. فقلت: مرحبا بك وأهلا. ودعوت طباخي فسألته عما في المطبخ، فذكر أشياء يسيرة، منها قطعة جدي وطباهج ودراج معلق. فقال: ما أريد غير ذلك، هاته الساعة. فقلت للطباخ: عجل بإحضاره، وعملت على الأكل معه وعلى أن نأخذ في شأننا. فدخل حاجبي فقال: رسول الأمير إسحاق بن إبراهيم بالباب، وإذا فرانق يذكر أنه وجه به إلى محمد بن الفضل ليحضره. قال فقال لي إسحاق: قم في حفظ الله واجتهد في أن تتعجل. قال: فتقدمت إلى الخادم بإخراج الجواري إليه ووضع النبيذ بين يديه، ولبست ثيابي وخرجت وركبت. فلما سرت قليلا قلت في نفسي: أنا أخسر الناس صفقة إن تركت إسحاق بن الموصلي في منزلي ومضيت إلى إسحاق بن إبراهيم المصبعي، ولا أدري ما يريد مني. فقلت لفرانق: هل لك في خير? قال: وما هو? قلت: تأخذ ثلاثين درهما وتمضي فتقول: إنك وجدتني شارب دواء. قال: نعم. فدفعت إليه ثلاثين درهما، وختمت له حتما ورجعت. فقال لي إسحاق: أسرعت الكرة، فأخبرته بما صنعت؛ فقال وفقت. فجلست وكان يأكل فأكلت معه، فأخذنا في شأننا. وخرج الجواري إليه فغنين حتى مر صوت إبراهيم بن المهدي في شعره وهو:
جدد الحب بـلايا أمرها ليس يسيرا - ولحنه من الثقيل الثاني - قال: فطرب إسحاق طربا ما رأيته طرب مثله قط، وعجب من إحسانه في صنعته وجودة قسمته، ولم يزل صوتنا يومنا أجمع لا نغني غيره حتى شرب إسحاق قطرميزة ، وفيه من المشمش الذي كان يشربه ثلاثة عشر رطلا، وكلما حضرت صلاة قام إسحاق يصلي بنا، فصلى بنا العتمة وقد فني قطرميزه فشرب من نبيذي رطلين على الصوت. قال: وكان محمد بن الفضل ينزل بسوق الثلاثاء وإسحاق ينزل على نهر المهدي. وقد وزر محمد بن الفضل للمتوكل قبل عبيد الله بن يحيى.
نسبة هذا الصوت:
جدد الـحـب بــلايا أمرها لـيس يسـيرا
كبر الحـب وقـدمـا كان إذ حل صغـيرا
ذلل الـحـب رقـابـا كان أدناها عـسـيرا
ليس لي من الحب إلفي غير حرماني السرورا الشعر والغناء لإبراهيم بن المهدي ثاني ثقيل.
أحب جارية عند بعض أهله وقال فيها شعرا: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال حدثني عبد الوهاب بن محمد بن عيسى قال: استتر إبراهيم بن المهدي عند بعض أهله من النساء، فوكلت بخدمته جارية جميلة وقالت همسا: إن أرادك لشيء فطاوعيه وأعلميه ذلك حتى يتسع له، فكانت توفيه حقه في الخدمة والإعظام ولا تعلمه بما قالت لها؛ فجل مقدارها في نفسه إلى أن قبل يوما يدها، فقبلت الأرض بين يديه. فقال:
يا غـزالا لـي إلـيه شافع من مقـلـتـيه
والذي أجلـلـت خـد يه فـقـبـلـت يديه
بأبي وجهـك مـا أك ثر حسـادي عـلـيه
أنا ضيف وجزاء الض يف إحـسـان إلـيه قال: وعمل فيه بعد ذلك لحنا في طريقة الهزج.
غنى للمأمون بشعر له وكان يخشى بطشه فرق له وأمنه: وقال أحمد بن أبي طاهر: غنى إبراهيم بن المهدي يوما والمأمون مصطبخ، وقد كان خافه وبلغه عنه تنكره:
ذهبت من الدنيا وقد ذهبـت مـنـي هوى الدهر بي عنها وولى بها عني فرق له المأمون لما سمعه، وقال: والله لا تذهب نفسك يا إبراهيم على يد أمير المؤمنين، فطب نفسا؛ فإن الله قد أمنك إلا أن تحدث حدثا يشهد عليك فيه عذل، وأرجو ألا يكون منك حدث إن شاء الله.
نسبة هذا الصوت صوت
ذهبت من الدنيا وقد ذهبـت مـنـي هوى الدهر بي عنها وولى بها عني
فإن أبك نفسي أبك نفسـا نـفـيسة وإن أحتسبها أحتسبها علـى ضـن
صفحة : 1116
الشعر والغناء إبراهيم بن المهدي ثاني ثقيل بالوسطى. وهذا الشعر قاله إبراهيم بن المهدي لما أخرج الجند عيسى بن محمد ابن أخي خالد من الحبس، وله في ذلك خبر طويل، وقد شرطنا ألا نذكر من أخباره إلا ما كان من جنس الغناء.
وفي هذا القصيدة يقول:
وأفلتني عيسى وكانت خـديعة حللت بها ملكي وفلت بها سني قال ابن أبي طاهر وحدثني أبو بكر بن الخصيب قال حدثني محمد بن إبراهيم قال: غنى إبراهيم بن المهدي يوما عند المأمون فأحسن، وبحضره المأمون كاتب لطاهر يكنى أبا زيد، فطرب حتى وثب فأخذ طرف ثوب إبراهيم فقبله. فنظر إليه المأمون منكرا لفعله. فقال ما تنظر أقبله والله ولو قتلت عليه فتبسم المأمون وقال: أبيت إلا ظرفا.
أراد الحسن بن سهل أن يضع منه فعرض هو به: قال ابن أبي طاهر وحدثني علي بن محمد قال سمعت بعض أصحابنا يقول: اجتمع إبراهيم بن المهدي والحسن بن سهل عند المأمون؛ فأراد الحسن أن يضع من إبراهيم فقال له: يا أبا إسحاق أي صوت تغنيه العرب أحسن? ييد بذلك أن يشهر إبراهيم بالغناء والعلم به. فقال إبراهيم: بيت الأعشى:
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت أي إنك موسوس، وكان بالحسن شيء من هذا.
غنت مغنية بحضرته فداعبها: أخبرني عمي عن جدي عن علي بن يحيى المنجم قال: غنت مغنية وإبراهيم بن المهدي حاضر:
من رأى نوقا غدت سحرا فقل إبراهيم: أنا رأيت هذا. قيل له: وأين رأيته أيها الأمير? قال: رأيت ولد علي بن ريطة يمضون في السحر إلى الصيد.
سمعته رومية أعجمية فبكت تأثرا من صوته: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني بعض الكتاب عن ريق قالت: خرجت يوما إلى سيدي تعني إبراهيم بن المهدي وقد صنع لحنه في:
وإذا تباع كريمة أو تشتـرى فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا صنعت صنيعة أتممتهـا بيدين ليس نداهما بمـكـدر وجارية لنا رومية أعجمية لا تفصح في أقصى الدار تكنس، وهو يطرح الصوت على شارية، والأعجمية تبكي أحر بكاء سمعته قط، فجعلت أعجب من بكائها وأنظر إليها حتى سكت ،فلما سكت قطعت البكاء، فعلمت أن هذا من غلبته بحسن صوته لكل طبع فصيح وأعجمي.
غنى الأمين صوتا فأجازه: أخبرني الحسين بن يحيى وابن المكي وابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنى إبراهيم بن المهدي ليلة محمدا الأمين صوتا لم أرضه في شعر لأبي نواس وهو:
يا كثير النوح في الدمن لا عليها بل على السكن
سنة العـشـاق واحـد فإذا أحببت فاستـكـن
ظن بي من قد كلفت به فهو يجفوني على الظنن
رشأ لـولا مـلاحـتـه خلت الدنيا من الفـتـن فأمر له بثلثمائة ألف درهم . قال إسحاق فقال إبراهيم له: يا أمير المؤمنين قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف درهم، فقال: هل هي إلا خراج بعض الكور . هكذا ذكر إسحاق. وقد روى محمد بن الحارث بن بسخنر هذه الحكاية عن إبراهيم فقال: لما أردت الأنصراف قال: أوقروا زورق عمي دنانير ه فانصرفت بمال جليل.
كان يحسن الإيقاع على الطبل والناي: أخبرني أبو الحسن علي بن هارون قال ذكر لي أبو عبد الله الهشامي عن أهله قال قال إبراهيم بن المهدي - وقد خرج إلى ذكر الطبل والإيقاع به - فقال إبراهيم: هو من الآلات التي لا يجوز أن تبلغ نهايتها. فقيل له: وكيف خص الطبل بذلك? فقال: لأن عمل اليدين فيه عمل واحد، ولا بد من أن يلحق اليسار فيه نقص عن اليمين، ودعا بالطبل ليرينا كيف ذلك فأوقع إيقاعا لم نكن نظن أن مثله يكون، وهو مع ذلك يرينا موضع زيادة اليمين على اليسار. قال وقال له الأمين في بعض خلواته: يا عم أشتهي أن أراك تزمر. فقال: يا أمير المؤمنين، ما وضعت على فمي نايا قط ولا أضعه، ولكن يدعو أمير المؤمنين بفلانة - من موالي المهدي - حتى تنفخ في الناي وأمر يدي عليه. فأحضرت ووضعت الناي على فيها وأمسكه إبراهيم، فكلما مر الهواء أمر أصابعه، فأجمع سائر من حضر أن لم يسمع مثله قط.
حسن ترجيعه في لحن: وأخبرني أبو الحسن علي بن هارون أيضا قال حدثني أبي قال حدثني عبيد الله بن عبد الله وأبو عبد الله الهشامي قالا:
صفحة : 1117
كان إبراهيم بن المهدي إذا غنى لحنه:
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هـلالـهـا فبلغ إلى قوله:
جبريل بلغها النبي فقالها هز حلقه فيه ورجعه ترجيعا تتزلزل منه الأرض.
غنت متيم اليمانية لحنا فاختلس إيقاعه منها: أخبرني محمد بن إبراهيم قريض قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني الهشامي قال: كانت متيم الهشامية ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر، فتغنت متيم في الثقيل الأول:
لزينب طيف تعتريني طوارقه فأشار إليها إبراهيم أن تعيده. فقالت متيم للمعتصم: يا سيدي إن إبراهيم يستعيدني الصوت وأظنه يريد أن يأخذه. فقال لها: لا تعيديه. فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا بمجلس المعتصم وكانت متيم غائبة عنه، فانصرف إبراهيم بالليل إلى منزله ومتيم في منزلها في الميدان وطريقه عليها وهي في منظرة لها مشرفة على الطريق وهي تطرح هذا الصوت على بعض جواري بني هاشم، فتقدم إلى المنظرة على دابته وتطاول حتى أخذ الصوت، ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته وقال: قد أخذناه بلا حمدك.
نسبة هذا الصوت
لزينب طيف تعتريني طوارقـه هدوءا إذا النجم ارجحنت لواحقه
سيبكيك مرنان العشـي يجـيبـه لطيف بنان الكف درم مرافقـه
إذا ما بساط اللهو مد وقـربـت للذاته أنمـاطـه ونـمـارقـه الشعر للنميري. والغناء لمعبد، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول في البنصر في مجراها عن إسحاق. وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالبنصر عن يونس والهشامي.
برهان محمد بن موسى المنجم على أنه أحسن الناس غناء: أخبرني علي بن هارون قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: كان محمد بن موسى المنجم يقول:حكمت أن إبراهيم بن المهدي أحسن الناس كلهم غناء ببرهان، وذلك أني كنت أراه بمجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغني المغنون ويغني، فإذا ابتدأ الصوت لم يبق من الغلمان والمتصرفين في الخدمة وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار أحد إلا ترك ما في يده وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عما كان فيه مادام يغني، حتى إذا أمسك وتغنى غيره رجعوا إلى التشاغل بما كانوا فيه ولم يلتفتوا إلى ما كانوا يسمعون. ولا برهان أقوى من هذا في مثل هذا من شهادة الفطن له واتفاق الطبائع - مع اختلافها وتشعب طرقها-على الميل إليه والانقياد له.
كانت له أشياء لم يكن لأحد مثلها: حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: قلت للمعتصم: كانت لأبي أشياء لم يكن لأحد مثلها. فقال: وما هي? قلت: شارية وزامرتها معمعة. فقال: أما شارية فعندنا، فما فعلت الزامرة? قلت: ماتت. قال: وماذا? قلت: وساقيته مكنونة، ولم ير أحسن وجها ولا ألين ولا أظرف منها. قال: فما فعلت? قلت: ماتت. قال: وماذا? قلت: نخلة كانت تحمل رطبا طول الرطبة منها شبر. قال: فما فعلت? قلت: جمرتها بعد وفاته. قال: وماذا? قلت: قدحه الضخضاح. قال: وماذا فعل? قلت: الساعة والله حجمني فيه أبو حرملة فسألته أن يهبه لي ففعل، ووجهت به إلى منزلي فغسل ونظف وأعيد إلى خزانتي، فرأيت أبي فيما يرى النائم في ليلتي تلك وهو يقول لي:
أيترع ضخضاحي دما بعدما غدت علي به مكنونة مترعا خـمـرا
فإن كنت مني أو تحب مسرتـي فلا تغفلن قبل الصباح له كسرا فانتبهت فزعا وما فرق الصبح حتى كسرته.
?كتب إليه إسحاق الموصلي فأجابه: فأما المماظة التي كانت بينه وبين إسحاق فقد مضى في خبر إسحاق منها طرف. ونذكر ها هنا منها ما مجرى محاسن إبراهيم والقيام بحجته إن كانت له، وعذره فيما عيب عليه لأنه بذلك حقيق. فمن ذلك نسخت من كتاب أعطانيه أبو الفضل العباس بن أحمد بن ثوابة رحمه الله بخط إسحاق في قرطاس - وأنا أعرف خطه - وجواب لإبراهيم بن المهدي في ظهره بخط ضعيف وأظنه خطه؛ لأنه لو كان خط كاتب لكان أجود من ذلك الخط، وقد ذهب أول الكتاب فذهب منه أول الابتداء والجواب، ونسخت بقيته؛ فكان ما وجدته من ابتداء إسحاق:
صفحة : 1118
وكنت - جعلت فداءك - كتبت في كتابك إلى محمد بن واضح تذكر أنك مولاي وسيدي . فمتى دفعت ذلك وهل لي فخر غيره أو لأحد علي وعلى أبي رحمه الله من قبلي نعمة سواكم ? وأحب ذلك أن يكون، وأرجو أن أموت قبل أن يبتليني الله بذلك إن شاء الله. فأما ذكرك - جعلت فداءك - الصناعة فقد أجل الله قدرك عن الحاجة إلى دفعها والاعتذار عنها. وأما أنا المسكين فأنت تعلم أني لم أتخذ ما نحن في صناعة قط، وأني لم أردها إلا لكم شكرا لنعمتك وحبا للقرب منكم وإليكم. فليس ينبغي أن يعيبني ذلك عندكم، ولا يجوز لأحد أن يعيبني به إذ كان لكم. وقد علمت أنك لم تضعني من علويه ومخارق بحيث وضعتني إلا لغضب أحوجك إلى ذلك، وإلا فأنت تعلم أنهما لو كانا مملوكين لي لآثرت تعجيل الراحة منهما بعتقهما أو تخلية سبيلهما على ثمن أصيبه ببيعهما أو حمد أكتسبه بثمنهما، أو أنك تقرنني إليهما وتذكرني معهما . أو تلومني الآن على أن أخرس فلا أنطق بحرف، وإن أفر من الغناء فرارك من الخطأ فيه، وأمتعض منه امتغاضك ممن يخفي عليك شيئا من علومه . كيف ترى - جعلت فداءك - الآن سبابي وأنت ترى أن أحدا لا يحسن السب غيرك . قد أحدثت لي - جعلت فداءك - أدبا وزدتني بصيرة فيما أحب من تركه وترك الكلام فيه. فإن ظننت أن هذا فرار من الحجة وتعريد عن المناظرة، كما قلت، فقد ظفرت وصرت إلى ما أحببت؛ وإلا فإنه لا ينبغي للحر أن يتلهى بما لا تقوم لذته بمعرته، ولا العاقل أن يبذل ما عنده لمن لا يحمده، ولعله لا يقلب العين فيه حتى يلحقه ما يكره منه. وأما ما قاله أبي - رحمه الله - من أنه لم يزل يتمنى أن يرى من سادته من يعرف قدره حق معرفته ويبلغ علمه بهذه الصناعة الغاية العظمى حتى رآك، فقد صدق، وما زال يتمنى ذلك وما زلت أتمناه. فهل رأيت - جعلت فداءك - حظي منه إلا بانت ساويت به من لم يكن يساوي شسعه، ولعلك لا ترضى في بعض القوم حتى تفضله عليه، لا تنفعه عندك معرفة به، ولا رعاية لطول الصحبة والخدمة، ولا حفظ لآثار محمودة باقية نذكرها ونحتج بها. ثم ها أنا من بعده تضعني بالموضع الذي تضعني به، وتنسبني إلى ما تنسبني إليه؛ لأني توخيت الصواب واجتهدت في البذل والماصحة، لا يدفعك عني حفظ لسلف، ولا صيانة لخلف ولا استدامة لقديم ما نعلم، ولا مصانعة لما تطلب، ولا ولاء مما أكره أن أقوله . فما أرى - جعلت فداءك - من معرفتك بما في أيدينا إلا تجرع الحسرات، وتطلبك لنا العثرات، والله المستعان. كيف أصنع جعلت فداءك إن سكت لم تقبل ذلك مني، وإن صدقت كذبتي وإن كذبت ظفرت بي، وإن مزحت لأطربك وأضحكك وأقرب من أنسك وآخذ بنصيبي من كرمك وغضبت وسببت، ولو كنت قريبا منك لضربت وليتك فعلت، فكان ذلك أيسر من غضبك. ثم من أعظم المصائب عندي أمرك إياي أن أسأل محمد بن واضح عن قول قلته في عند عمرو بن بانة. فوالله - جعلت فداءك - إني لأبشع - بذكره فكيف أحب أن أذكره له وإني لأرثي لك من النظر إليه، وأعجب من صبرك عليه، مع أني - أعوذ بالله من ذلك - لو رغبت في هذا منه ومن مثله لكفيتك ونفسي ذلك بأن أكسوه ثوبين، أو أهب له دينارين، أو أقول له أحسنت في صوتين، حتى نبلغ أكثر مما أردت لي أو أريده لنفسي. فالحمد لله الذي جعل حظي منك هذا ومثله غير مستصغر لشأنك ولا مستقل لقليل حسن رأيك. والله أسأل أن يطيل بقاءك، ويحسن جزاءك ويجعلني فداءك. قد طال الكتاب، وكثر العتاب. وجملة ما عندي من الإعظام والإجلال اللذين لا أخاف أن أجعلهما عندك، والمحبة التي لا أمتنع منها ولا أعرف سواها، والسمع والطاعة في تسليم ما تحب تسليمه والإقرار بما أحببت أن أقر به، وسأشهد على ذلك محمد بن واضح وأشهد لك به من أحببت وأؤدي الخراج. ولكن لا بد من فائدة وإلا انكسر، فهات- جعلت فداءك - وأوف واستوف فإنك واجد صحة واستقامة إن شاء الله. مد الله في عمرك، وصبرني عليك، وقدمني قبلك، وجعلني من كل سوء فداءك.
نسخة جواب إبراهيم بعدما ذهب منه
صفحة : 1119
...وأية سلامة أقدر لك عليها إلا أسوقها إليك، أعطاني الله ما احب من ذلك لك. فأما أن أتكلم من ورائك بشيء تستثقله متعمدا؛ فما أنا إذا بحر ولا كريم؛ معاذ الله من ذلك . ولئن جمعني وإياك وعلى بن هشام مجلس لأستشهدنه على أشياء لم أذكرها لك، ولم أكتب بها إليك، إجلالا لقدر حالك عندي من اعتداد بمثل ذلك مني، وأنت عنه غافل، والله به عليم. وأما الرشوة فأرجو أن تجيئك على ما تشتهي آتاك الله ما تحب فيما تحب وتكره وجعلك له شاكرا. وأما الفوائد التي وعدت ورودها علينا فإني لواثق أنك لا تفيدني شيئا فأنظر فيه إلا وجدتني فيه فطنا أجيد تفتيشه وأعرف كنهه وأفيدك فيه وفيما استنبطت منه ما لا تجد عند نفسك أكثر منه، فأما غيرك فالهباء المنثور. ويا رأس المشنعين تقول إني عيرتك بالصناعة ثم تحتج بحذقك في تحريف الأقوال واكتساب الحجج، لتفحم خصمك، وتعلي حجتك فكيف أعيبك بحاجتي إليك، وما أنا داخل فيه معك لا ولكني قلا لك: إني لست كفلان وفلان ممن لو كان عنده أمر ينازعك به ثقل عليك، إنما أنا رجل من مواليك متوسل إليك بما يسرك، أو كصاحب لك تناظره بما تحب أن تجد من تناظره فيه، فليكن ذلك بالإنصاف وطلب الصواب أصبته أو أخطأته، لا بالحمية والأنفة والحيلة لترد الحق بالباطل. هذا معنى قولي؛ وقد استشهدت عليك فيه أبا جعفر، وجاءني كتابك وهو عندي يشهد لي. والكتاب الذي هذا فيه بخطي عنده لم يرده علي، فتتبع ما فيه وخذني به. فلعمري لئن كنت قرنتك بمن ذكرت لأعيبك بالتشبيه لك بهم ما عبت غير رأيي، ولا جهلت غير نفسي. ولست أعتذر من هذا لأنك تشهد لي بالحق فيه، وإنما تريد أن تخصمني بلا حجة، فيكفيني علمك بما عندي، وإلا فأنت إذا بي أجهل مني بك. وقلت: تذكرني معهما فقد ذكر الله النار مع الجنة، وموسى مع فرعون، وإبليس مع آدم، فلم يهن بذلك موسى ولا آدم ولا أكرم فرعون وإبليس، فأعفني من المغالطة لي والتحريف لقولي، واستمتع بي وأمتعني بالمصادقة. فإن أنت لم تفعل بقيت واحدا مستوحشا، ولم تجد غيري إن علم ما تعلم لم ينقصك، وإن علم أكثر منك لم يشنك، وإن أفهمته كافاك، وإن استفهمته شفاك. لا والله ما أردت إلا ما ذكرته لك، ولا أحسبك ظننت في غير ذلك؛ لأنك لا تجهلني فأنا عندك غير جاهل. وواحدة هي لك دوني، والله ما كنت أبالي ألا أسمع من مخارق وعلويه شيئا حتى أسمع بنعيهما، ولا أراهما حتى أراهما ميتين، وما في هذا غيرك والإعظام لك والإكرام. وذلك أنهما كانا لك غلامين فصيرتهما ندين تقول فيهما ويقولان فيك، وإنما هما صنيعتاك وخريجا تأديبك وإن كانا غير طائل. فلو أعرضت عن انتقاصهما ورفعت ما رفع الله من قدرك عن الإفراط في عيبهما، لكان ذلك أشبه بك وأجمل بمحلك وخطرك ومكانك. وكذلك الذي ترثي له منه وصاحبه محمد بن الحارث، فوالله ما أحب لك في أدبك وفضلك ودينك ومحلك أن تشهر نفسك لهما بهذا ومثله، وأن ينتهي إليهما ذلك عنك. أقول يعلم الله في ذلك لا لهما . وإن ذلك، لو صرت إليه، لأجمل بك وأجل لقدرك وإن كنت لتتخولهما به. ولو أردت ذلك، وإن زهدت فيه، لم تضع نفسك ومحلك مع غلمان أحداث يبسطون ألسنتهم فيك بما بسطته منهم على نفسك، ولو لم تفعل لكنت أعظم في عيونهم من بعض مواليهم الذين تولوا منتهم. هذا رأيي لك بما هو أكبر لأمرك وأشبه بمحلك. ووالله ما غششتك ولا أوطأتك عشواء، فاختر لنفسك ما رأيت. ولا والله لا سمعا بهذا أبدا ولا بما قلته في إلا خزيا حتى يموتا، ولا أردت - يشهد الله - بهذا غيرك. وأما من ذكرت أني أسويه بأبي إسحاق رحمه الله وهو لا يساوي شسعة فإنك عنيت ابن جامع. وأنت لا تدخل بيني وبين أبي إسحاق رضي الله عنه، ولا أظنك والله أشد حبا له مني، ولا كان لك أشد حبا منه لي، فقد تعلم كيف كان لي، ولكن لا أظلم ابن جامع كما تظلمه أنت يا أظلم البشر. ولئن ضمنت أن تنصفني لأكلمنك فيه بما لا تدفعه، ولكني لا أكلمك في شيء حتى أثق بهذه منك، وإلا وسعني من السكوت ما وسعك. ومن العجب الذي لم أر مثله والمكابرة التي لايشبهها شيء اعتداؤك علي في التجزئة حيث تقول:
حييا أم يعـمـــرا قبل شحط من النوى
صفحة : 1120
يا أخي وحبيب نفسي فانظر كم في هذا من العيوب قولك: ييا ليكون مثل شحط في الوزن ،أيكون مثل هذا في الكلام في الجزء الثاني حي حتى يكون مثل قبل ، هل يكون مثل هذا أو ليس في ييا المشددة أربع ياءات، وفي حي التي عطفت بها ثلاث فتصير سبع ياءات، وإنما هي ثلاث في الأصل: الياء المشددة وياء الإثنين حيث تقول حييا . والناس في هذا بيني وبينك بهائم، فمن أستعدي عليك ولو أنصفت لعلمت أنه لا يمكن في:
حييا أم يعمرا غير ما جزأت أنا إلا بهذا الغلط الذي لا يحول من تحريك ساكن تجعله أول الكلام فقد زدت قبله حرفا، أو تسكين متحرك فتريد بعده حرفا؛ كقولك أم يعمرا قابل شحطن حيث جعلت قبل الباء ألفا، وكقولك أم يعمرن قبلا فزدت الألف لتسكت عليها لأن السكوت على متحرك لا يمكن. فأية حجة هذه أو من يصبر لك على هذا وإنما أردت أنا ما يجوز فجئني بتجزئة واحدة، لا أريد غير ذلك منك. مالك يا أخي تنفس علي الصواب فيما لا نقيصه عليك فيه ولا عيب، ثم اتخذت تحمدي إليك، بما قلت لك أن تسأل محمدا عن قولي فيك بظهر الغيب. ذنبا بطبعك على الظلم والتحريف، حتى كأني أعلمتك أن أحدا تنقصك فحميت لذلك، ولم يكن غير الرد عليه. والله ما مثلي يمن بهذا، ولكني كنت إذا تحدثت مع محمد خاليا كلمته بمثل ما أكلمك به من الرد والجدل، فلما كان عندنا من يحتشم كان كلامي بما يجب أن أتكلم به من الإكرام والتقديم، فقال لي: أي شيء هذا الذي أرى? فقلت له: هذا كلام الحشمة وذلك كلام الأنس. فأردت بإعلامك هذا أن تعلم أني لا أريد بما أنازعك فيه شيئا يزيغ عما تعرف مني، وأني أذكرك بما يشبهك في موضعه. فلو اتقيت الله وأبقيت على الإخاء لما كنت تحرف هذا بشيء، وهو جميل أرضاه من نفسي، فتصيره قبيحا تريد أن أعتذر إليك منه.
وأما أداء الخراج والإشهاد، فهذا شيء لم أطلبه منك، إنما انت طلبته مني ظالما لي. وذلك لأني لم أنازعك إلا منازعة مناظر يحب أن يعرف حسن فحصه وثاقب نظره.
وأما الرياسة فقد جعلها الله لك على أهل هذا العمل، ولا رياسة لي عليهم ولا لك علي؛ لأني في العلم مناظر وفي العمل متلذذ. فلا تظلمني ولا نفسك لي.
ومن بعد فإني أحب أن تخبرني كيف أنت اليوم بعد. والله غممتني، لا غمك الله ولا غمني بك. ولو شئت أرسلت إلى يحيى بن خالد طبيب أخي عبيد الله فإنه رفيق مبارك عليم، وهو منك قريب في دار الروم، أخذت برأيه ومن علاجه. وهب الله لك العافية ووهبها لي فيك برحمته.
وإنما ذكرت هذا الابتداء وجوابه على طولهما، وهما قليل من كثير من مكاتباتهما، لتعرف بهما طرفا من مقدارهما في المنازعة والمجادلة، وأن إسحاق كان يريد من إبراهيم التواضع له والخنوع برياسته ويتحامل عليه في بعض الأوقات، وينحو إبراهيم نحو ما فعله به؛ لأن نفسه تأبى ما يريده إسحاق منه، فيستعمل معه من المباينة مثل ما استعمله، ويكونان في طرفين من الظلم يبعد كل واحد منهما عن إنصاف صاحبه. وقد روى يوسف بن إبراهيم أخبارا فيما جرى بينهما - فوجدت كلامهما مرصوفا رصف إبراهيم بن المهدي ومنظوما نظم منطقه - فيها تحامل على إسحاق شديد، وحكايات ينسب من نقلها إلى جهل بصناعته كان إسحاق بعيدا من مثله، فعلمت أن إبراهيم عمل ذلك وألفه وأمر يوسف بنشره في الناس ليدور في أيديهم ذكر له يفضل به. وذلك بعيد وقوعه، ولن تدفع الحقائق بالأكاذيب، ولا يزيل الخطأ الصواب، ولا الخطل السداد. وكفى من نضح عن إسحاق بأن أغاني إبراهيم بن المهدي لا يكاد يعرف منها صوت ولا يروى منها إلا اليسير، وأن كلامه في تجنيس الطرائق اطرح، وعمل على مذهب إسحاق، وانقضى الصنع لإبراهيم بذلك مع انقضاء مدته، كما يضمحل الباطل مع أهله. فعدلت عن ذكر تلك الأخبار؛ لا لأنها لم تقع إلي، ولكنها أخبار يتبين فيها التحامل والحنق، وتتضمن من السب لإسحاق والشتم والتجهيل ما يعلم أنه لم يكن يقضي على مثله لأحد ولو خاف القتل ، فاستبردت ذلك واطرحته، واعتمدت من أخبار إبراهيم على الصحيح، وما جرى مجرى هذا الكتاب من خبر مستحسن وحكاية ظريفة دون ما يجري مجرى التحامل؛ فقد مضى في صدر الكتاب من أخبارهما وإغصاص إسحاق إياه بريقه وتجريعه أمر من الصبر ما ينبئ عن بطلان غيره.
صفحة : 1121
وممن صنع من أولاد الخلفاء علية بنت المهدي، ولا أعلم أحدا منهم بعد إبراهيم أخيها كان يتقدمها. وكان يقال: ما اجتمع في الجاهلية أو الإسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وعلية أخته. وأخبارها تذكر بعد هذا تالية لما أذكره من غنائها. فمن صنعتها: ?صوت
تضحك عما لو سقت منه شفا من أقحوان بله قطر النـدى
أغر يجلو عن غشا العين العشا حلو بعيني كل كهل وفـتـى
إن فؤادي لا تسليه الـرقـى لو كان عنها صاحيا لقد صحا الشعر لأبي النجم العجلي. والغناء لعلية بنت المهدي رمل بالوسطى.
???????????? أخبار أبي النجم ونسبه
?أصله ونسبه، وهو من الطبقة الأولى من الرجاز: قال أبو عمرو الشيباني: اسمه المفضل، وقال ابن الأعرابي: اسمه الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن عبدة بن الحارث بن إلياس بن عوف بن ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وهو من رجاز الإسلام الفحول المقدمين وفي الطبقة الأولى منهم.
هو أبلغ في النعت من العجاج: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي إجازة عن محمد بن سلام وذكر ذلك الأصمعي أيضا قالا قال أبو عمرو بن العلاء: كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج.
انتصف مع الرجاز من الشعراء: أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني الفضل بن العباس الهلشمي عن أبي عبيدة قال: مازالت الشعراء تغلب حتى قال أبو النجم:
الحمد لله الوهوب المجزل وقال العجاج:
قد حبر الدين الإله فجبر وقال رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق فانتصفوا منهم.
أعظمه رؤبة وقام له عن مكانه: ووجدت في أخبار أبي النجم عن أبي عمرو الشيباني قال: قال له فتيان من عجل: هذا رؤبة بالمربد يجلس فيسمع شعره وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان من بني تميم، فما يمنعك من ذلك? قال: أو تحبون هذا? قالوا نعم. قال: فأتوني بعس من نبيذ فأتوه به ،فشربه ثم نهض وقال:
إذا اصطحبت أربعا عرفتني ثم تجشمت الذي جشمتنـي فما رآه رؤبة أعظمه وقام له عن مكانه وقال: هذا رجاز العرب. وسألوه أن ينشدهم فأنشدهم:
الحمد لله الوهوب المجزل وكان إذا أنشد أزبد ووحش بثيابه أي رمى بها . وكان من أحسن الناس إنشادا. فلما فرغ منها قال رؤبة: هذه أم الرجز. ثم قال: يا أبا النجم ،قد قربت مرعاها إذ جعلتها بين رجل وابنه. يوهم عليه رؤبة أنه حيث قال:
تبقلت من أول التبـقـل بين رماحي مالك ونهشل أنه يريد نهشل بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم. فقال له أبو النجم: هيهات الكمر تشابه. أي إني أنما أريد مالك بن ضبيعة بن قيس ين ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. ونهشل قبيلة من ربيعة وهؤلاء يرعون الصمان وعرض الدهناء. قال أبو عمرو: وكان سبب ذكر هاتين القبيلتين يعني بني مالك ونهشل أن دماء كانت بين بني دارم وبني نهشل وحروبا في بلادهم، فتحامى جميعهم الرعي فيما بين فلج والصمان مخافة أن يعروا بشر حتى عفا كلؤه وطال، فذكر أن بني عجل جاءت لعزها إلى ذلك الموضع فرعته ولم تخف من هذين الحيين، ففخر به أبو نجم. قال: ويدل على ذلك قول الفرزدق:
أترتع بالأحياء سعد بن مالـك وقد قتلوا مثنى بظـنة واحـد
فلم يبق بين الحي سعد بن مالك ولا نهشل إلا دمـاء الأسـاود ترتيب الرجاز في رأي بعض الرواة: وقال الأصمعي: قيل لبعض رواة العرب: من أرجز الناس? قال: بنو عجل ثم بنو سعد ثم بنو عجل ثم بنو سعد. يريد الأغلب ثم العجاج ثم أبا النجم ثم رؤبة .
كان يتسرع إلى رؤية فيكفه عنه المسمعي: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال عامر بن عبد الملك المسمعي: كان رؤبة وأبو النجم يجتمعان عندي فأطلب لهما النبيذ، فكان أبو النجم يتسرع إلى رؤبة حتى أكفه عنه.
ناجز العجاج حتى هرب منه: ونسخت من كتاب أبي عمرو الشيباني قال حدثني بعض البصريين منهم أبو برزة المرثدي - قال وكان عالما راوية - قال:
صفحة : 1122
خرج العجاج متحفلا عليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد والناس مجتمعون، فأنشدهم قول:
قد جبر الدين الإله فجبر فذكر فيها ربيعة وهجاهم. فجاء رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم وهو في بيته فقال له: أنت جالس وهذا العجاج يهجونا بالمربد قد اجتمع عليه الناس قال: صف لي حاله وزيه الذي هو فيه، فوصف له. فقال: ابغني جملا طحانا قد أكثر عليه من الهناء ، فجاء بالجمل إليه. فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها واتزر بالأخرى وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده، فانطلق حتى مربد أتى مربد. فلما دنا من العجاج قال: اخلع خطامه فخلعه، وأنشد:
تذكر القلب وجهلا ما ذكر فجعل الجمل يدنو من الناقة يتشممها ويتباعد عنه العجاج لئلا يفسد ثيابه ورحله بالقطران، حتى إذا بلغ إلى قوله:
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر تعلق الناس هذا البيت وهرب العجاح.
غلب الشعراء عند عبد الملك بن مروان أو سليمان بن عبد الملك وظفر منه بجارية: ونسخت من كتاب أبي عمرو قال حدثني أبو الأزهر ابن بنت أبي النجم عن أبي النجم أنه كان عند عبد الملك بن مروان - ويقال عند سليمان بن عبد الملك - يوما وعنده جماعة من الشعراء، وكان أبو النجم فيهم والفرزدق، وجارية واقفة على رأس سليمان أو عبد الملك تذب عنه، فقال: من صبحني بقصيدة يفتخر فيها وصدق في فخره فله هذه الجارية. فقاموا على ذلك ثم قالوا: إن أبا النجم يغلبنا بمقطعاته: يعنون بالرجز ، قال: فإني لا أقول إلا قصيدة. فقال من ليلته قصيدته التي فخر فيها وهي:
علق الهوى بحبائل الشعثاء ثم أصبح ودخل عليه ومعه الشعراء فأنشده، حتى إذا بلغ إلى قوله:
منا الربع الجيوش لظـهـره عشرون وهو يعد في الأحياء فقال عبد الملك: قف، إن كنت صدقت في هذا البيت فلا نريد ما وراءه. فقال الفرزدق: وأنا أعرف منه ستة عشر، ومن ولد ولده أربعة كلهم قد ربع. فقال عبد الملك أو سليمان: ومن ولد ولده هم ولده، إدفع إليه الجارية يا غلام. فقال: فغلبهم يومئذ.
قال: وبلغني من وجه آخر أنه قال له: فإذا أقررت له بستة عشر فقد وهبت له أربعة، ودفع إليه الجارية، فقدم بها البادية؛ فكان بينه وبين أهله شر من أجلها.
وصف جارية لخالد بن عبد الله القسري لساعته فوهبها له: وقال أبو عمرو: بعث الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري بسبي من الهند بيض، فجعل يهب لأهل البيت كما هو للرجل من قريش ومن وجوه الناس، حتى بقيت جارية منهن جميلة كان يدخرها وعليها ثياب أرضها فوطتان. فقال لأبي النجم: هل عندك فيها شيء حاضر و تأخذها الساعة? قال: نعم أصلحك الله فقال العريان بن الهيثم النخعي: كذب والله ما يقدر على ذلك.
فقال أبو النجم:
علقت خودا من بنات الزط ذات جهاز مضغط ملـط
رابي المجس جيد المحـط كأنما قط علـى مـقـط
إذا بدا منها الذي تغـطـي كأن تحت ثوبها المنعـط
شطا رميت فوقه بـشـط لم ينز في البطن ولم ينحط
فيه شفاء من أذى التمطي كهامة الشيخ اليماني الثط وأومأ بيده إلى هامة العريان بن اليهثم. فضحك خالد وقال للعريان: كيف ترى أحتاج إلى أن يروي فيها يا عريان ? قال: والله ولكنه ملعون ابن ملعون: وقال أبو عمرو في الرواية وأخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني محمد بن المغيرة بن محمد عن الزبير بن بكار عن فليح بن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير قال: غضب عليه هشام ثم سمر معه ليلة فرضي عنه: ورد أبو النجم على هشام بن عبد الملك في الشعراء. فقال لهم هشام: صفوا لي إبلا فقطروها وأوردوها وأصدروها حتى كأني أنظر إليها. فأنشدوه وأنشده أبو النجم:
الحمد لله الوهوب المجزل
صفحة : 1123
حتى بلغ إلى ذكر الشمس فقال وهي على الأفق كعين. .. وأراد أن يقول الأحول ثم ذكر حوله هشام فلم يتم البيت وأرتج إليه. فقال هشام: أجز البيت. فقال كعين الأحول وأتم القصيدة. فأمر هشام فوجيء عنقه وأخرج من الرصافة، وقال لصاحب شرطته: يا ربيع إياك وأن أرى هذا ، فكلم وجوه الناس صاحب الشرطة أن يقره ففعل، فكان يصيب من فضول أطعمة الناس ويأوي إلى المساجد. وقال الزبير في خبره قال أبو النجم: ولم يكن أحد بالرصافة يضيف إلا سليم بن كيسان الكلبي وعمرو بن بسطام التغلبي، فكنت آتي سليما فأتغدى عنه، وآتي عمرا فأتعشى عنده، وآتي المسجد فأبيت فيه. قال: فاهتم هشام ليلة وأمسى لقس النفس وأراد محدثا يحدثه، فقال لخادم له: ابغني محدثا أعرابيا أهوج شاعرا يروي الشعر. فخرج الخادم إلى المسجد فإذا هو بأبي النجم، فضربه برجله وقال له: قم أجب أمير المؤمنين. قال: إني رجل أعرابي غريب. قال: إياك أبغي، فهل تروي الشعر? قال: نعم وأقوله. فأقبل به حتى أدخله القصر وأغلق الباب ،قال: فأيقن بالشر ثم مضى فأدخله على هشام في بيت صغير، بينه وبين نسائه ستر رقيق والشمع بين يديه تزهر . فلما دخل قال له هشام: أبو النجم ? قال: نعم يا أمير المؤمنين طريدك. قال: اجلس. فسأله وقال له: أين كنت تأوي ومن كان ينزلك? فأخبره الخبر. قال: وكيف اجتمعا لك? قال: كنت أتغدى عند هذا وأتعشى عند هذا. قال: وأين كنت تبيت? قال: في المسجد حيث وجدني رسولك. قال: ومالك من الولد والمال? قال: أما المال فلا مال لي، وأما الولد فلي ثلاث بنات وبني يقال له شيبان. فقال: هل زوجت من بناتك أحدا? قال: نعم زوجت اثنتين، وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة. قال: وما وصيت به الأولى? - وكانت تسمى برة بالراء - فقال:
أوصيت من برة قلبا حرا بالكلب خيرا والحماة سرا
لا تسأمي ضربا لها وجرا حتى ترى حلو الحياة مرا
وإن كستك ذهـبـا ودرا والحي عميهم بشر طرا فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى? قال قلت:
سبي الحماة وابهتي عليها وإن دنت فازدلفي إليهـا
وأوجعي بالفهر ركبتيهـا ومرفقيها واضربي جنبيها
وظاهري النذر لها عليهـا لا تخبري الدهر به ابنتيها قال: فضحك هشام حتى بدت نواجذه وسقط على قفاه. فقال: ويحك ماهذه وصية يعقوب ولده فقال: وما أن كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال فما قلت للثالثة? قال قلت:
أوصيك يا بنتـي فـإنـي ذاهـب أوصيك أن تحمـدك الـقـرائب
والجار والضيف الكريم الساغـب لا يرجع المسكين وهـو خـائب
ولا تني أظفـارك الـسـلاهـب منهن في وجه الحمـاة كـاتـب
والزوج إن الزوج بئس الصاحب قال: فكيف قلت لها هذا ولم تتزوج? وأي شيء قلت في تأخير تزويجها? قال قلت فيها:
كأن ظلامة أخـت شـيبـان يتـيمة ووالـدهـا حــيان
الرأس قمل كلـه وصـئبـان وليس في الساقين إلا خيطان
تلك التي يفزع منها الشيطان قال: فضحك هشام حتى ضحك النساء لضحكه، وقال للخصي: كم بقي من نفقتك? قال: ثلثمائة دينار. قال: أعطه إياها ليجعلها في رجل ظلامة مكان الخيطين.
كان أسرع الناس بديهة: وقال الأصمعي أخبرني عمي وأخبرني ببعض هذا الحديث ابن بنت أبي النجم أن أبا النجم قال:
الحمد لله الوهوب المجزل في قدر ما يمشي الإنسان من مسجد الأشياخ إلى حاتم الجزار. ومقدار ما بينهما غلوة أو نحوها. قال: وكان أسرع الناس بديهة.
سئل الأصمعي أي الرجز أحسن وأجود فقال رجز أبي النجم: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا أبو الأسود النوجشاني قال: مر أبي بالأصمعي وأنا عنده فقال له: يا أبا سعيد أي الرجز أحسن وأجود? قال: رجز أبي النجم.
سأله هشام بن عبد الملك عن رأيه في النساء فأجابه: نسخت من كتاب أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال:
صفحة : 1124
دخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك وقد أتت له سبعون سنة. فقال له هشام: ما رأيك في النساء ?قال: إني لأنظر إليهن شزرا وينظرن إلي خزرا. فوهب له جارية وقال له: اغد علي فأعلمني ما كان منك. فلما أصبح غدا عليه. فقال له: ما صنعت? فقال: ما صنعت شيئا ولا قدرت عليه، وقد قلت في ذلك أبياتا. ثم أنشده:
نظرت فأعجبها الذي في درعها من حسنه ونظرت في سرباليا
فرأت لها كفلا يميل بخصرهـا وعثا روادفه وأجثـم جـاثـيا
ورأيت منتشر العجان مقلصـا رخوا مفاصله وجلـدا بـالـيا
أدني له الركب الحليق كأنـمـا أدني إليه عقاربـا وأفـاعـيا
إن الندامة والسدامة فاعلـمـن لو قد صبرتك للمواسي خالـيا
ما بال رأسك من ورائي طالعا أظننت أن حر الفـتـاة ورائيا
فاذهب فإنك ميت لا ترتـجـى أبد الأبيد لو عمـرت لـيالـيا
أنت الغرور إذا خبرت وربمـا كان الغرور لمن رجاه شافـيا
لكن أيري لا يرجى نـفـعـه حتى أعود أخا فتـاء نـاشـيا فضحك هشام وأمر له بجائزة أخرى.
حدث هشام بن عبد الملك عن نفسه فأضحكه: قال أبو عمرو الشيباني قال ابن كناسة: قال هشام بن عبد الملك لأبي النجم: يا أبا النجم حدثني. قال: عني أو عن غيري? قال: لا بل عنك. قال: إني لما كبرت عرض لي البول، فوضعت عند رجلي شيئا أبول فيه. فقمت من الليل أبول، فخرج مني صوت فتشددت، ثم عدت فخرج مني صوت آخر، فأويت إلى فراشي، فقلت: يا أم الخيار هل سمعت شيئا? فقالت: لا والله ولا واحدة منهما فضحك. قال: وأم الخيار التي يعني بقوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصـنـع وهي أرجوزة طويلة.
ذكر فتاة في شعره فتزوجت: وقال أبو عمرو الشيباني: أتت مولاة لبني قيس بن ثعلبة أبا النجم فذكرت له أن بنتا لها أدركت منذ سنتين، وهي من أجمل النساء وأمدهن قامة ولم يخطبها أحد، فلو ذكرتها في الشعر فقال: أفعل، فما اسمها? قالت: نفيسة. فقال:
نفـيس يا قـتـالة الأقـوام أقصدت قلبي منك بالسهـام
وما يصيب القـلـب إلا رام لو يعلم العلم أبـو هـشـام
ساق إليها حاصـل الـشـآم وجزية الأهواز كـل عـام
وما سقى النيل من الطـعـام إذ ضاق منها موضع الإدغام
أجثم جاث مسـتـدير حـام يعض في كـين لـه تـؤام
عض النجاري على اللجام فقالت: حسبك حسبك ووفد إلى الشأم، فلما رجع سمع الزمر والجلبة، فقال: ماهذا? فقالوا: نفيسة تزوجت.
وصف فهود عبد الملك بن بشر بن مروان: قال أبو عمرو وذكر علي بن المسور بن عمرو عن الأصمعي قال أخبرني بعض الرواة وحدثني ابن أخت أبي النجم: أن عبد الملك بن بشر بن مروان قال لأبي النجم: صف لي فهودي هذه. فقال:
إنا نزلنا خير مـنـزلات بين الحميرات المباركات
في لحم وحش وحبـاريات وإن أردنا الصيد ذا اللذات
جاء مطيعا لمطـاوعـات علمن أو قد كن عالمـات
فسكن الطرف بمطرفات تريك آماقا مخطـطـات مدح الحجاج برجز وطلب إليه واديا في بلاده: ونسخت من كتاب الخراز عن المدائني عن عثمان بن حفص أن أبا النجم مدح الحجاج برجز يقول فيه:
ويل أم دور عـزة ومـجــد دور ثقيف بـسـواء نـجـد
أهل الحصون والخيول الجرد فأعجب الحجاج رجزه وقال: ما حاجتك? قال تقطعني ذا الجبنين. فوجم لها وسكت، ثم دعا كاتبه فقال: انظر ذا الجبنين ما هو فإن ذا الأعرابي سألنيه لعله نهر من أنهار العراق. فسألوا عنه فقيل: واد في بلاد بني عجل أعلاه حشفة وأسفله سبخة يخاصمه فيه بنو عم له. فقال: اكتبوا له به. قال: فأهله به إلى اليوم.
أخطأ في أشياء أخذت عليه: أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال قال الأصمعي: أخطأ أبو النجم في أشياء أخذت عليه، منها قوله:
وهي على عذب روي المنهل دحل أبي المرقال خير الأدحل
صفحة : 1125
من نحت عاد في الزمان الأول قال الأصمعي: الدحل لا تورده الإبل إنما تورد الركايا . وقد عيب بهذا وعيب بقوله في البيت الذي يليه: إن هذا الدحل من نحت عاد. قال: والدحلان لا تحفر ولا تنحت، إنما هي خروق وشعاب في الأرض والجبال لا تصيبها الشمس ،فتبقى فيها المياه؛ وهي هوة في الأرض يضيق فمها ثم يتسع فيدخلها ماء السماء.
قال الأصمعي: وقال يصف فرسه وقد أجراه في حلبة:
تسبح أخراه ويطفو أوله قال الأصمعي: أخطأ في هذا؛ لأنه إذا سبح أخراه كان حمار الكساح أسرع منه. قال الأصمعي: وحدثني أبي أنه رأى فرسه هذا فقومه بسبعين درهما. وإنما يوصف الجواد بأنه تسبح أولاه وتلحق رجلاه. قال: وخير عدو الذكور أن تشرف، وخير عدو الإناث أن تنبسط وتصغى كعدو الذئب.
أخبار علية بنت المهدي
ونسبها ونتف من أحاديثها
أمها مكنونة أم ولد اشتريت للمهدي في حياة أبيه: علية بنت المهدي أمها أم ولد مغنية يقال لها مكنونة، كانت من جواري المروانية المغنية.
نسخت من كتاب محمد بن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن ابن القداح حدثه قال: كانت مكنوة جارية المروانية - وليست من آل مروان بن الحكم، هي زوجة الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس - مغنية، وكانت أحسن جارية بالمدينة وجها، وكانت رسحاء ، وكان بعض من يمازحها يعبث بها فيصيح: طست طست . وكانت حسنة الصدر والبطن، فكانت توضح بهما وتقول: ولكن هذا . فاشتريت للمهدي في حياة أبيه بمائة ألف درهم، فغلبت عليه، حتى كانت الخيزران تقول: ما ملك امرأة أغلظ علي منها. واستتر أمرها عن المنصور حتى مات ،فولدت له علية بنت المهدي.
بعض صفاتها: أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن عمه قال: كانت علية بنت المهدي من أحسن الناس وأظرفهم تقول الشعر الجيد وتصوغ فيه الألحان الحسنة، وكان بها عيب، كان في جبينها فضل سعة حتى تمسج ، فاتخذت العصائب المكللة بالجوهر لتستر بها جبينها، فأحدثت والله شيئا ما رأيت فيما ابتدعته النساء وأحدثته أحسن منه.
كانت حسنة الدين ولا تشرب ولا تغني إلا أيام حيضها: أخبرني الحسين بن يحيى ووكيع قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال سمعت إبراهيم بن إسماعيل الكاتب يقول: كانت علية حسنة الدين، وكانت لا تغني ولا تشرب النبيذ إلا إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب، فلا تلذ بشيء غير قول الشعر في الأحيان، إلا أن يدعوها الخليفة إلى شيء فلا تقدر على خلافه. وكانت تقول: ما حرم الله شيئا إلا وقد جعل فيما حلل منه عوضا، فبأي شيء يحتج عاصيه والمنتهك لحرماته . وكانت تقول: لا غفر الله لي فتاحشة ارتكبتها قط، ولا أقول في شعري إلا عبثا.
لم يجتمع في الإسلام أخ وأخت أحسن غناء منها ومن أخيها: أخبرني أحمد بن يحيى قال حدثني عون بن محمد الكندي قال سمعت عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يقول: ما اجتمع في الإسلام قط أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته علية، وكانت تقدم عليه.
كانت تحب المكاتبة بالشعر وكاتبت طلا فمنعها الرشيد: أخبرني محمد قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال حدثنا سعيد بن إبراهيم قال: كانت علية تحب أن تراسل بالأشعار من تختصه، فاختصت خادما يقال له طل من خدم الرشيد، فكانت تراسله بالشعر، فلم تره أياما، فمشت على ميزاب وحدثته وقالت في ذلك:
قد كان ما كلفتـه زمـنـا يا طل من جد بكم يكفـي
حتى أتيتك زائرا عـجـلا أمشي على حتف إلى حتف فحلف عليها الرشيد ألا تكلم طلا ولا تسميه باسمه، فضمنت له ذلك. واستمع عليها يوما وهي تدرس آخر سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله عز وجل: فإن لم يصبها زابل فطل وأرادت أن تقول: فطل فقالت: فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين. فدخل فقبل رأسها وقال: وهبت لك طلا، ولا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه. ولها في طل هذا عدة أشعار فيها لها صنعة. منها: صوت
يا رب إني قد غرضت بهجرها فإليك أشـكـو ذاك يا ربـاه
مولاة سوء تستهين بعـبـدهـا نعم الغلام وبئست الـمـولاه
طل ولكني حرمت نعيمـه ووصاله إن لم يغثنـي الـلـه
صفحة : 1126
يا رب إن كانت حياتي هكذا ضرا علي فما أريد حـياه الشعر والغناء لها خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. وقد ذكر ابن خرداذبه أن الشعر والغناء لنبيه الكوفي، وأنه هوي جارية تغني، فتعلم الغناء من أجلها وقال الشعر، ولم يزل يتوصل إليها بذلك حتى صار مقدما في المغنين، وأن هذا الشعر له فيها والصنعة أيضا.
حجب عنها طل فقالت فيه شعرا وصحفت اسمه: أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال حدثني محمد بن صالح بن شيخ بن عمير عن أبيه قال: حجب طل عن علية فقالت وصحفت اسمه في أول بيت:
أيا سروة البستان طال تشـوقـي فهل لي إلى ظل لـديك سـبـيل
متى يلتقي من ليس يقضى خروجه وليس لمن يهـوى إلـيه دخـول
عسى الله أن نرتاح من كربة لنـا فيلقى اغتباطـا خـلة وخـلـيل عروضه من الطويل. الشعر والغناء لعلية خفيف رمل. كذا ذكر ميمون بن هارون، وذكر عمرو بن بانة أنه لسلسل خفيف رمل بالوسطى. وأول الصوت:
متى يلتقي من ليس يقضى خروجه وذكر حبش أنه للهذلي خفيف رمل بالبنصر.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق الطالقاني قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن الحسين الهشامي قال: قالت علية في طل وصحفت اسمه في هذا الشعر وغنت فيه: صوت
سلم على ذاك الـغـزال الأغيد الحسـن الـدلال
سلم عـلـيه وقـل لـه يا غل ألباب الـرجـال
خليت جسمي ضـاحـيا وسكنت في ظل الحجال
وبلغـت مـنـي غـاية لم أدر فيها ما احتيالـي الشعر والغناء لعلية خفيف رمل. وذكر غير هذا أن الغناء لأحمد بن المكي في هذه الطريقة.
أنت تقول الشعر في خادمها رشأوتكنى عنه بزينب: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني ميمون بن هارون عن محمد بن علي بن عثمان الشطرنجي: أن علية كانت تقول الشعر في خادم لها يقال له: رشأ وتكني عنه. فمن شعرها فيه وكنت عنه بزينب: صوت
وجد الفؤاد بزينـبـا وجدا شديدا متعـبـا
أصبحت من كلفي بها أدعى سقيما منصبـا
ولقد كنيت عن اسمها عمدا لكي لا تغضبا
وجعلت زينب ستـرة وكتمت أمرا معجبا
قالت وقد عز الوصا ل ولم أجد لي مذهبا
والله نلـت الـمـودة أو تنال الكـوكـبـا هكذا ذكر ميمون بن هارون، وروايته فيه عن المعروف بالشطرنجي ولم يحصل ما رواه. وهذا الصوت شعره لابن رهيمة المدني. والغناء ليونس الكاتب، ولحنه من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وهو من زيانب يونس المشهورات وقد ذكرته معها . والصحيح أن علية غنت فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى، حكى ذلك ابن المكي عن أبيه، وأخبرني به ذكاء عن القاسم بن زرزور.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب أو الجماز قال حدثني عبيد الله بن العباس الربيعي قال: لما علم من علية أنها تكني عن رشأ بزينب قالت: صوت
القلب مشتـاق إلـى ريب يا رب ما هذا من العيب
قد تيمت قلبي فلم أستطـع إلا البكا يا عالم الـغـيب
خبأت في شعري اسم الذي أرادته كالخبء في الجيب قال: وغنت فيه لحنا من طريقة خفيف رمل فصحفت اسمها في ريب.
هجت طغيان حين وشت بها إلى رشأ: قال: وكانت لأم جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعلية إلى رشأ وحكت عنها ما لم تقل، فقالت علية:
لطغيان خف مذ ثلاثين حـجة جديد فلا يبلى ولا يتـخـرق
وكيف بلى خف هو الدهر كله على قدميها في الهواء معلق
فما خرقت خفا ولم تبل جوربا وأما سراويلاتها فـتـمـزق شعرها حين امتنع رشأ عن شرب النبيذ: قال: وحلف رشأ ألا يشرب النبيذ سنة، فقالت: صوت
قد ثبت الخاتم في خنصـري إذ جاءني منك تـجـنـيك
حرمت شرب الراح إذ عفتها فلست في شيء أعاصـيك
فلو تطوعت لعوضـتـنـي منه رضاب الريق من فيك
فيا لها عندي مـن نـعـمة لست بها ما عشت أجـزيك
صفحة : 1127
يا زينبا قد أرقت مقلتي أمتعني الله بحـبـيك غنت فيه علية هزجا.
غنى عقيد للمعتصم بشعر فسأل عنه فقال محمد بن إسماعيل إنه لها فغضب وأعرض عنه: أخبرني جحظة ومحمد بن يحيى قالا حدثنا ميمون بن هارون قال حدثني الحسن بن إبراهيم بن رباح قال: قال لي محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي: كنت عند المعتصم وعنده مخارق وعلويه ومحمد بن الحارث وعقيد، فتغنى عقيد وكنت أضرب عليه: صوت
نام عـذالـي ولـم أنــم واشتفى الواشون من سقمي
وإذا ما قـلـت بـي ألـم شك من أهواه في ألمـي فطرب المعتصم وقال: لمن هذا الشعر والغناء? فقلت: لعلية، فأعرض عني، فعرفت غلطي وأن القوم أمسكوا عمدا، فقطع بي. وتبين جهلي، فقال: لا ترع يا محمد؛ فإن نصيبك فيها مثل نصيبي. الغناء لعلية خفيف رمل. وقد قال قوم: إن هذا اللحن للعباس بن أشرس الطنبوري مولى خزاعة، وإن الشعر لخالد الكاتب.
غنى بنان للمنتصر بلحن لها في شعر الرشيد: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني أحمد بن يزيد قال حدثني أبي قال: كنا عند المنتصر، فغناه بنان لحنا من الرمل وهو خفيف الرمل: صوت
يا ربة المنزل بالبرك وربة السلطان والملك
تحرجي بالله من قتلنـا لسنا من الديلم والترك فضحكت. فقال لي: مم ضحكت? قلت: من شرف قائل هذا الشعر، وشرف عمل اللحن فيه، وشرف مستمعه. قال: وما ذاك? قلت: الشعر فيه للرشيد، والغناء لعلية بنت المهدي. وأمير المؤمنين مستمعه. فأعجبه ذلك وما زال يستعيده.
أخذت من إسحاق لحنا وغنته الرشيد ثم غناه هو للمأمون فعنفه: حدثني إبراهيم بن محمد بن بركشة قال سمعت شيخا يحدث أبي وأنا غلام فحفظت عنه ما حدثه به ولم أعرف اسمه، قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: عملت في أيام الرشيد لحنا وهو: صوت
سقيا لأرض إذا ما نمت نبهني بعد الهدو بها قرع النواقـيس
كأن سوسنها في كل شـارقة على الميادين أذناب الطواويس قال: فأعجبني وعملت على أن أباكر فيه الرشيد. فلقيني في طريقي خادم لعلية بنت المهدي، فقال: مولاتي تأمرك بدخول الدهليز لتسمع من بعض جواريها غناء أخذته عن أبيك وشكت فيه الآن. فدخلت معه إلى حجرة قد أفردت لي كأنها كانت معدة فجلست، وقدم لي طعام وشراب فنلت حاجتي منهما، ثم خرج إلي خادم فقال لي: تقول لك مولاتي: أنا أعلم أنك قد غدوت إلى أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث، فأسمعنيه ولك جائزة سنية تتعجلها، ثم ما يأمر به لك بين يديك، ولعله لا يأمر لك بشيء أو لا يقع الصوت منه بحيث توخيت، فيذهب سعيك باطلا. فاندفعت فغنيتها إياه، ولم تزل تستعيده مرارا، ثم أخرجت إلي عشرين ألف درهم وعشرين ثوبا، وقالت: هذه جائزتك، ولم تزل تستعيده مرارا. ثم قالت: اسمعه مني الآن؛ فغنته غناء ما خرق سمعي مثله. ثم قالت: كيف تراه? قلت: أرى والله وما لم أر مثله. قالت: يا فلانة أعيدي له مثل ما أخذ؛ فأحضرت لي عشرين ألفا أخرى وعشرين ثوبا. فقالت: هذا ثمنه، وأنا الآن داخلة إلى أمير المؤمنين، أبدأ أتغنى به، وأخبر أنه من صنعتي. وأعطي الله عهدا لئن نطقت أن لك فيه صنعة لأقتلنك هذا إن نجوت منه إن علم بمصيرك إلي. فخرجت من عندها ووالله إني لكالموقن بما أكره من جائزتها أسفا على الصوت، فما جسرت والله بعد ذلك أن أتنغم به في نفسي فضلا عن أن أظهره حتى ماتت. فدخلت على المأمون في أول مجلس جلسه للهو بعدها، فبدأت به أول ما غنيت. فتغير لون المأمون وقال: من أين لك ويلك هذا ? قلت: ولي الأمان على الصدق? قال: ذلك لك. فحدثته الحديث. فقال: يا بغيض فما كان في هذا من النفاسة حتى شهرته وذكرت هذا منه مع ما قد أخذته من العوض وهجنني فيه هجنة وددت معها أني لم أذكره. فآليت ألا أغنيه بعدها أبدا. الشعر في هذا الصوت لإسماعيل بن يسار النسائي، وقيل: إنه لإسحاق. ولحنه من الثقيل الأول مطلق في مجرى الوسطى. وذكر حبش أنه للهذلي، ولم يحصل ما قاله.
طارحت أخاها إبراهيم الغناء وسمعها من في مجلس المأمون:
صفحة : 1128
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال قال لي ينشو المغني حدثني أبو أحمد بن الرشيد قال: كنت يوما عند المأمون وإلى جانبي منصور وإبراهيم عماي، فجاء ياسر دخلة فسار المأمون. فقال المأمون لإبراهيم: إن شئت يا إبراهيم: إن شئت يا إبراهيم فانهض، فنهض. فنظرت إلى ستر قد رفع مما يلي دار الحرم، فما كان بأسرع من أن سمعت شيئا أقلقني. فنظر إلي المأمون وأنا أميل فقال لي: يا أبا أحمد ما لك تميل? فقلت: إني سمعت شيئا ما سمعت بمثله. فقال: هذه عمتك علية تطارح عمك إبراهيم:
ما لي أرى الأبصار بي جافيه نسبة هذا الصوت: صوت
ما لي أرى الأبصار بي جافيه لم تلتفت مني إلى نـاحـيه
لا ينظر الناس إلى المبتـلـى وإنما الناس مع الـعـافـية
صحبي سلوا ربكم العـافـيه فقد دهتني بعـدكـم داهـيه
صارمني بـعـدكـم سـيدي فالعين من هجرانه بـاكـيه الشعر لأبي العتاهية، وذكر ابن المعتز أنه لعلية وأن اللحن لها خفيف رمل. وذكر أنه لغيرها خفيف رمل مطلق، ولحن علية مزموم.
أرسلت إلى الرشيد ومنصور شرابا مع خلوب وغنمتها بلحن لها: أخبرني عمي قال حدثني أبو العباس أن بشرا المرثدي قال قالت له ريق: كنت يوما بين يدي الرشيد وعنده أخوه منصور وهما يشربان، فدخلت إليه خلوب جارية لعلية ومعها كأسان مملوءتان وتحيتان، ومع خادم يتبعها عود، فغنتها قائمة والكأسان في أيديهما والتحيتان بين أيديهما: صوت
حيا كما الله خـلـيلـيا إن ميتا كنت وإن حيا
إن قلتما خيرا فخير لكم أو قلتما غيا فلا غـيا فشربا. ثم دفعت إليهما رقعة فإذا فيها: صنعت يا سيدي أختكما هذا اللحن اليوم، وألقته على الجواري، واصطبحت فبعثت لكما به، وبعثت من شرابي إليكما ومن تحياتي وأحذق جواري لتغنيكما. هنأكما الله وسركما وأطاب عيشكما وعيشي بكما .
دعا إبراهيم بن المهدي إسحاق وأبا دلف وغنتهم جاريته لحنا لها: أخبرني عمي قال حدثني بنحو من هذا أبو عبد الله المرزبان قال حدثني إبراهيم بن أبي دلف العجلي قال: كنا مع المعتصم بالقاطول ، وكان إبراهيم بن المهدي في حراقته بالجانب الغربي، وأبي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي في حراقتيهما بالجانب الشرقي. فدعاهما في يوم جمعة، فعبرا إليه من زلال وأنا معهما وأنا صغير، علي أقبية ومنطقة فلما دنونا من حراقة إبراهيم فرآنا نهض ونهضت بنهوضه صبية له يقال لها غضة وإذا في يديها كأسان وفي يده كأس. فلما صعد إليه اندفع فغنى:
حيا كما الله خلـيلـيا إن ميتا كنت وإن حيا
إن قلتما خيرا فأهلا به أو قلتما غيا فلا غـيا ثم ناول كل واحد منهما كأسا، وأخذ هو الكأس الثالث الذي في يد الجارية وقال: هلم نشرب على ريقنا قدحا ثم دعا بالطعام فأكلنا، ووضع النبيذ فشربنا، وغنياه وغناهما وضربا معه وضرب معهما، وغنت الصبية، فطرب أبي وقال لها: أحسنت أحسنت . فقال له إبراهيم: إن كانت أحسنت فخذها، فما أخرجتها إلا لك.
شكت إليها أم جعفر انقطاع الرشيد فقالت شعرا وغنت به فرجع إليها: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا أبو هفان قال: أهديت إلى الرشيد جارية في غاية الجمال والكمال، فخلا معها يوما وأخرج كل قينة في داره واصطبح، فكان جميع من حضره من جواريه المغنيات والخدمة في الشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر. واتصل الخبر بأم جعفر فغلط عليها ذلك، فأرسلت إلى علية تشكو إليها. فأرسلت إليها علية: لا يهولنك هذا، فوالله لأردنه إليك، قد عزمت أن أصنع شعرا وأصوغ فيه لحنا وأطرحه على جواري، فلا تبقى عندك جارية إلا بعثت بها إلي وألبسيهن ألوان الثياب ليأخذن الصوت مع جواري، ففعلت أم جعفر ما أمرتها به علية. فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا وعلية قد خرجت عليه من حجرتها، وأم جعفر من حجرتها معها زهاء ألفي جارية من جواريها وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، وكلهن في لحن واحد هزج صنعته علية: صوت
منفصل عني وما قلبي عنه منفصل
صفحة : 1129
يا قاطعي اليوم لمـن نويت بعدي أن تصل فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر وعلية هو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط. يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما إلا نثرته. فكان مبلغ ما نثره يومئذ ستة آلاف ألف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.
كانت تحب لحن الرمل: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: كانت علية تقول: من لم يطربه الرمل لم يطربه شيء. وكانت تقول: من أصبح وعنده طباهجة باردة ولم يصطبح فعليه لعنة الله.
غنت هي وأخوها إبراهيم وزمر عليهما أخوهما يعقوب: حدثني عمي قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني يوسف بن إبراهيم قال قالت لي عريب: أحسن يوم رأيته وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدي عند أخته علية وعندهم أخوهم يعقوب، وكان أحذق الناس بالزمر. فبدأت علية فغنتهم من صنعتها وأخوها يعقوب يزمر عليها: صوت
تحبب فإن الحب داعـية الـحـب وكم من بعيد الدار مستوجب القرب وغنى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب: صوت
يا واحد الحب ما لي منك إذ كلـفـت نفسي بحبك إلا الـهـم والـحـزن
لم ينسـنـيك سـرور لا ولا حـزن وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن
ولا خلا منك قلبـي لا ولا جـسـدي كلي بكلك مشـغـول ومـرتـهـن
نور تولد من شمـس ومـن قـمـر حتى تكامل منه الـروح والـبـدن فما سمعت مثل ما سمعته منهما قط، وأعلم أني لا أسمع مثله أبدا.
تمارت خشف وعريب في عدد أصواتها بحضرة المتوكل: قال ميمون بن هارون قلت لعريب: رأيت في النوم كأني سألت علية بنت المهدي عن أغانيها فقالت لي: هي نيف وخمسون صوتا. فقالت لي عريب: هي كذلك. وقد أخبرني بنحو هذا الخبر عبد الله بن الربيع الربيعي قال حدثني وسواسة وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثتني خشف الواضحية أنها تمارت هي وعريب في غناء علية بحضرة المتوكل أو غيره من الخلفاء، فقالت هي: هي ثلاثة وسبعون صوتا. فقالت عريب: هي اثنان وسبعون صوتا. فقال المتوكل: غنيا غناءها، فلم تزالا تغنيان غناءها حتى مضى اثنان وسبعون صوتا، ولم تذكر خشف الثالث والسبعين فقطع بها واستولت عريب عليها وانكسرت. قالت: فلما كان الليل رأيت علية فيما يرى النائم فقالت: يا خشف خالفتك عريب في غنائي قلت: نعم يا سيدتي. قالت: الصواب معك، أفتدرين ما الصوت الذي أنسيته? قلت: لا والله ولوددت أني فديت ما جرى بكل ما أملك. قالت هو: صوت
بني الحب على الجور فلـو أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في حكم الهوى عاشق يحسن تأليف الحجج
لا تعيبن مـن مـحـب ذلة ذلة العاشق مفتاح الفـرج
وقليل الحب صرفا خالصـا لك خير من كثير قد مـزج وكأنها قد اندفعت تغنيني به، فما سمعت أحسن مما غنته، ولقد زادت لي فيه أشياء في نومي لم أكن أعرفها. فانتبهت وأنا لا أعقل فرحا به. فباكرت الخليفة وذكرت له القصة. فقالت عريب: هذا شيء صنعته أنت لما جرى بالأمس، وأما الصوت فصحيح. فخلفت للخليفة بما رضي به أن القصة كما حكيت. فقال: رؤياك والله أعجب، ورحم الله علية فما تركت ظرفها حية وميتة، وأجازني جائزة سنية. ولعلية في هذا الصوت أعني:
بني الحب على الجور فلو لحنان: خفيف ثقيل وهزج. وقيل إن الهزج لغيرها.
سمع الرشيد لحنين لها من جاريتيها عند إبراهيم الموصلي فرجع إليها وسمعهما منها ومدحهما: ونسخت من كتاب محمد بن الحسن الكاتب حدثني أحمد بن محمد الفيرزان قال حدثني بعض خدم السلطان عن مسرور الكبير، ونسخت هذا الخبر بعينه من كتاب محمد بن طاهر يرويه عن ابن الفيرزان، وفيهما خلاف يذكر في موضعه، قال:
صفحة : 1130
اشتاق الرشيد إلى إبراهيم الموصلي يوما، فركب حمارا يقرب من الأرض، ثم أمر بعض خدم الخاصة بالسعي بين يديه، وخرج من داره، فلم يزل حتى دخل على إبراهيم. فلما أحس به استقبله وقبل رجليه. وجلس الرشيد فنظر إلى مواضع قد كان فيها قوم ثم مضوا، ورأى عيدانا كثيرة، فقال: يا إبراهيم ما هذا? فجعل يدافع. فقال: ويلك اصدقني. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، جاريتان أطرح عليهما. قال: هاتهما. فأحضر جاريتين ظريفتين، وكانت الجاريتان لعلية بنت المهدي بعثت بهما يطرح عليهما. فقال الرشيد لإحداهما: غني، فغنت - وهذا كله من رواية محمد بن طاهر -:
بني الحب على الجور فلـو أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في حكم الهوى عاشق يحسن تأليف الحجج
لا تعيبن مـن مـحـب ذلة ذلة العاشق مفتاح الفـرج
وقليل الحب صرفا خالصـا لك خير من كثير قد مـزج فأحسنت جدا. فقال الرشيد: يا إبراهيم لمن الشعر? ما أملحه ولمن اللحن? ما أظرفه فقال: لا علم لي. فقال للجارية، فقالت: لستي. قال: ومن ستك? قالت: علية أخت أمير المؤمنين. قال: الشعر واللحن? قالت نعم فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلى الأخرى فقال: غني؛ فغنت: صوت
تحبب فإن الحب داعـية الـحـب وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصر فإن حدثـت أن أخـا هـوى نجا سالما فارج النجاة من الحـب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا فأين حلاوات الرسائل والكـتـب - الغناء لعلية خفيف ثقيل. وفي كتاب علويه: الغناء له - فسأل إبراهيم عن الغناء والشعر؛ فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين. فقال للجارية: لمن الشعر واللحن? فقالت لستي. قال: ومن ستك? فقالت: علية أخت أمير المؤمنين. فوثب الرشيد وقال: يا إبراهيم احتفظ بالجاريتين. ومضى فركب حماره وانصرف إلى علية. هذا كله في رواية محمد بن طاهر، ولم يذكره محمد بن الحسن، ولكنه قال في خبره: إن الرشيد زار الموصلي هذه الزيارة ليلا، وكان سببها أنه انتبه في نصف الليل فقال: هاتوا حماري فأتي بحمار كان له أسود يركبه في القصر قريب من الأرض، فركبه وخرج في دراعة وشيء متلثما بعمامة وشي ملتحفا برداء وشي، وخرج بين يديه مائة خادم أبيض سوى الفراشين. وكان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانته عنده، فلما خرج على باب القصر قال: أين يريد أمير المؤمنين في هذه الساعة? قال: أردت منزل الموصلي. قال مسرور: فمضى ونحن بين يديه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم، فتلقاه وقبل حافر حماره وقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، أفي مثل هذه الساعة تظهر قال: نعم شوق طرق بي. ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم. فقال له إبراهيم: يا سيدي أتنشط لشيء تأكله? قال: نعم، وما هو? قال: خاميز ظبي. فأتي به كأنما كان معدا له فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب كان حمل معه. فقال له إبراهيم الموصلي: أو غنيك يا سيدي أم يغنيك إماؤك? فقال: بل الجواري. فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان وجانبيه. فقال: أيضربن كلهن أم واحدة واحدة? فقال: بل تضرب اثنتان اثنتان وتغني واحدة فواحدة. ففعلن ذلك حتى مر صدر الإيوان وأحد جانبيه والرشيد يسمع ولا ينشط لشيء من غنائهن، إلى أن غنت صبية من حاشية الصف.
صوت
يا موري الزند قد أعيت قوادحـه اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
صفحة : 1131
فطرب لغنائها واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صانعه فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت إليه، فأخبرته بشيء أسرته إليه. فدعا بحماره فانصرف والتفت إلى إبراهيم فقال: ما عليك ألا تكون خليفة فكادت نفسه تخرج، حتى دعا به بعد وأدناه. هذا نظم رواية محمد بن الحسن في خبره. وقال محمد بن طاهر في خبره. فقال للموصلي: احتفظ بالجاريتين، وركب من ساعته إلى علية فقال: قد أحببت أن أشرب عندك اليوم. فتقدمت فيما تصلحه، وأخذا في شأنهما. فلما أن كان في آخر الوقت حمل عليها بالنبيذ، ثم أخذ العود من حجر جارية فدفعه إليها، فأكبرت ذلك. فقال: وتربة المهدي لتغنن . قالت: وما أغني? قال: غني:
بني الحب على الجور فلو فعلمت أنه قد وقف على القصة فغنته. فلما أتت عليه قال لها غني:
تحبب فإن الحب داعية الحب فلجلجت ثم غنته. فقام وقبل رأسها وقال: يا سيدي هذا عندك ولا أعلم وتمم يومه معها.
عادها أخوها إبراهيم وكرر السؤال عنها فخجل من جوابها: حدثني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون قال قال إبراهيم بن المهدي: ما خجلت قط خجلتي من علية أختي. دخلت عليها يوما عائدا فقلت: كيف أنت يا أختي جعلت فداءك وكيف حالك وجسمك? فقالت: بخير والحمد لله. ووقعت عيني على جارية تذب عنها فتشاغلت بالنظر إليها فأعجبتني وطال جلوسي، ثم استحييت من علية فأقبلت عليها فقلت: وكيف أنت يا أختي جعلت فداءك وكيف حالك وجسمك? فرفعت رأسها إلى حاضنة لها وقالت: أليس هذا قد مضى مرة وأجبنا عنه فخجلت خجلا ما خجلت مثله قط، وقمت وانصرفت.
أمرها الرشيد بالغناء فغنته من وراء ستار وكان معه جعفر فعرفه بها: أخبرني عبد الله بن الربيع الربيعي قال حدثني أحمد بن إسماعيل عن محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد قال: شهدت أبي جعفرا وأنا صغير وهو يحدث يحيى بن خالد جدي في بعض ما كان يخبره به من خلواته مع الرشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين ثم أقبل على حجرة يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة ففتحت له، ثم رجع من كان معنا من الخدم، ثم صرنا إلى حجرة مغلقة ففتحها بيده ودخلنا جميعا وأغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه وفي صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، فنقر هارون الباب بيده نقرات فسمعنا حسا، ثم أعاد النقر فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثة فغنت جارية ما ظننت والله أن الله خلق مثلها في حسن الغناء وجودة الضرب. فقال لها أمير المؤمنين بعد أن غنت أصواتا: غني صوتي، فغنت صوته، وهو: صوت
ومخنث شهد الزفاف وقبلـه غنى الجواري حاسرا ومنقبا
لبس الدلال وقام ينقـر دفـه نقرا أقر به العيون وأطربا
إن النساء رأينه فعشـقـنـه فشكون شدة ما بهن فأكذبـا - في هذا اللحن خفيف رمل نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج ولم يصح له، وفيه خفيف ثقيل في كتاب علية أنه لها، وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات أنه لريق. واللحن مأخوذ من:
إن الرجال لهم إليك وسيلة وهو خفيف ثقيل للهذلي، ويقال إنه لابن سريج، وهو يأتي في موضع آخر - قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسي الحائط. ثم قال غني:
طال تكذيبي وتصديقي فغنت: صوت
طال تكذيبي وتصديقـي لم أجد عهدا لمخـلـوق
إن ناسا في الهوى غدروا أحدثوا نقض المواثـيق
لا تراني بعـدهـم أبـدا أشتكي عشقا لمعشـوق - لحن علية في هذا الصوت هزج. والشعر لأبي جعفر محمد بن حميد الطوسي وله فيه لحن خفيف ثقيل. ولعريب فيه ثقيل أول وخفيف ثقيل آخر - قال: فرقص الرشيد ورقصت معه، ثم قال: امض بنا فإني أخاف أن يبدو منا ما هو أكثر من هذا، فمضينا. فلما صرنا إلى الدهليز قال وهو قابض على يدي: أعرفت هذه المرأة? قال قلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: فإني أعلم أنك ستسأل عنها ولا تكتم ذلك، وأنا أخبرك أنها علية بنت المهدي. ووالله لئن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنك. قال: فسمعت جدي يقول له: فقد والله لفظت به، ووالله ليقتلنك فاصنع ما أنت صانع.
نسبة الصوت الذي أخذ منه:
ومحنث شهد الزفاف وقبله صوت
صفحة : 1132
إن الرجال لهم إلـيك وسـيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبـي
وأنا امرؤ إن يأخذوني عـنـوة أقرن إلى سير الركاب وأجنب
ويكون مركبك القعود وحدجـه وابن النعامة يوم ذلك مركبي الناس يروون هذه الأبيات لعنترة بن شداد العبسي، وذكر الجاحظ أنها لخزر بن لوذان، وهو الصحيح. وخزر شاعر قديم يقال إنه قبل امرئ القيس. وقد اختلف في معنى قوله ابن النعامة فقال أبو عبيدة والأصمعي: النعامة فرسه وابنها ظلها. يقول: أقاد في الهاجرة إلى جنبها فيكون ظلي كالراكب لظلها. وقال أبو عمرو الشيباني: ابن النعامة مقدم رجله مما يلي الأصابع. يقول: فلا يكون لي مركب إلا رجلي. وقال خالد بن كلثوم: ابن النعامة الخشبة التي يصلب عليها. يقول: أقتل وأصلب فتكون الخشبة مركبي. واحتج من ذكر أنه يعني ظل فرسه وأنه يكون كالراكب له بقول الشاعر:
إذ ظل يحسب كل شيء فارسا ويرى نعامة ظله فـيحـول قال: وابن نعامة: ظل كل شيء. وقد مضى هذا الصوت مفردا مع خبره في موضع آخر.
أمرها الرشيد بالغناء فنظمت فيه شعرا وغنته به فطرب: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: زار الرشيد علية فقال لها: بالله يا أختي غنيني. فقالت: وحياتك لأعملن فيك شعرا ولأعملن فيه لحنا فقالت من وقتها: صوت
تفديك أختك قد حبوت بنعـمة لسنا نعد لها الزمـان عـديلا
إلا الخلود، وذاك قربك سيدي لا زال قربك والبقاء طـويلا
وحمدت ربي في إجابة دعوتي ورأيت حمدي عند ذاك قليلا وعملت فيه لحنا من وقتها في طريقة خفيف الرمل، فأطرب الرشيد وشرب عليه بقية يومه.
طلب الرشيد أختها ولم يطلبها فقالت شعرا وبعثت من غناه له فأحضرها: قال: وقالت للرشيد أيضا وقد طلب أختها ولم يطلبها.
صوت
ما لي نسيت وقد نودي بأصحابي وكنت والذكر عندي رائح غادي
أنا التي لا أطيق الدهر فرقتكـم فرق لي يا أخي من طول إبعاد قال: وغنت فيه لحنا من الثقيل الثاني، وبعثت من غناه للرشيد، فبعث فأحضرها.
حجت وتأخرت فتكدر الرشيد فنظمت شعرا وغنته فرضي عنها: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني عون بن محمد قال حدثني زرزور الكبير غلام جعفر بن موسى الهادي: أن علية حجت في أيام الرشيد، فلما انصرفت أقامت بطيزناباذ أياما، فانتهى ذلك إلى الرشيد فغضب. فقالت علية: صوت
أي ذنب أذنبتـه أي ذنـب أي ذنب لولا رجائي لربي
بمقامي بطيزنابـاذ يومـا بعده ليلة على غير شرب
ثم باكرتها عقارا شمـولا تفتن الناسك الحليم وتصبي
قرقفا قهوة تراها جهـولا ذات حلم فراجة كل كرب قال: وصنعت في البيتين الأولين لحنا خفيف الثقيل، وفي البيتين الأخيرين لحنا من الرمل. فلما جاءت وسمع الشعر واللحنين رضي عنا.
اشتاقها الرشيد وهو بالرقة فطلبها فجاءت وقالت شعرا وعملت فيه لحنا: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني عبد الله بن إبراهيم بن المهدي قال: اشتاق الرشيد إلى عمتي علية بالرقة، فكتب إلى خالها يزيد بن منصور في إخراجها إليه فأخرجها. فقالت في طريقها: صوت
اشرب وغن على صوت النواعير ما كنت أعرفها لولا ابن منصور
لولا الرجاء لمن أملـت رؤيتـه ما جزت بغداد في خوف وتغرير وعملت فيه لحنا في طريقة الثقيل الأول.
كانت مع الرشيد في الري فحنت إلى العراق بشعر فردها: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الهشامي أبو عبد الله قال: لما خرج الرشيد إلى الري أخذ أخته علية معه. فلما صار بالمرج عملت شعرا وصاغت فيه لحنا في طريقة الرمل وغنت به، وهو: صوت
ومغترب بالمرج يبكي لـشـجـوه وقد غاب عنه المسعدون على الحب
إذا ما أتاه الركب من نحـو أرضـه تنشق يستشفي بـرائحة الـركـب فلما سمع الصوت علم أنها قد اشتاقت إلى العراق وأهلها به فردها.
غنت الرشيد في يوم فطر:
صفحة : 1133
ونسخت من كتاب هارون بن محمد الزيات حدثني بعض موالي أبي عيسى بن الرشيد عن أبي عيسى: أن علية غنت الرشيد في يوم فطر: صوت
طالت علي ليالي الصوم واتصلت حتى لقد خلتها زادت على الأبد
شوقا إلى مجلس يزهى بصاحبه أعيذه بجلال الواحد الـصـمـد الغناء لعلية ثاني ثقيل لا يشك فيه، وذكر بعض الناس أنه للواثق، وذكر آخرون أنه لعبد الله بن العباس الربيعي. والصحيح أنه لعلية. وفيه لعريب ثقيل أول غنته المعتمد يوم فطر فأمر لها بثلاثين ألف درهم.
ضربت وكيلها سباعا وحبسته لخيانته فشفع فيه جيرانه فقالت شعرا: وقال ميمون بن هارون حدثني أحمد بن يوسف أبو الجهم قال: كان لعلية وكيل يقال له سباع، فوقفت على خيانته فضربته وحبسته، فاجتمع جيرانه إليها فعرفوها جميل مذهبه وكثرة صدقه، وكتبوا بذلك رقعة، فوقعت فيها:
ألا أيهذا الراكب العيس بلغـن سباعا وقل انضم داركم السفر
أتسلبني مالي وإن جـاء سـائل رققت له إن حطه نحوك الفقر
كشافيه المرضى بعائدة الزنـا تؤمل أجرا حيث ليس لها أجر تركت الغناء لموت الرشيد فألح عليها الأمين فغنته: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني علم السمراء جارية عبد الله بن موسى الهادي أنها شهدت علية غنت الأمين في شعر لها، وهو آخر شعر قالته فيه، وطريقته من الثقيل الثاني. وكانت لما مات الرشيد جزعت جزعا شديدا وتركت النبيذ والغناء. فلم يزل بها الأمين حتى عادت فيهما على كره. والشعر: صوت
أطلت عاذلتي لومـي وتـفـنـيدي وأنت جاهلة شوقي وتـسـهـيدي
لا تشرب الراح بين المسمعات وزر ظبيا غريرا نقي الخـد والـجـيد
قد رنحته شمول فهـو مـنـجـدل يحكي بوجنته مـاء الـعـنـاقـيد
قام الأمين فأغنى النـاس كـلـهـم فما فقير ولا حـال بـمـوجـود لحن علية في هذا الشعر ثاني ثقيل. ولعريب فيه هزج، وقيل إن الهزج لإبراهيم بن المهدي.
وقال ميمون بن هارون حدثني محمد بن أبي عون قال حدثتني عريب أن علية قالت في لبانة بنت أخيها علي بن المهدي شعرا وغنت فيه من الثقيل الأول: صوت
وحدثني عن مجلس كنت زينـه رسول أمين والنساء شـهـود
فقلت له كر الحديث الذي مضى وذكرك من ذاك الحـديث أريد وقد ذكر الهشامي أن هذا اللحن لإسحاق غناه بالرقة. وليس ذلك بصحيح.
سمعها إسماعيل بن الهادي تغني مستترةعند المأمون فأذهله غناؤها: أخبرني محمد بن يحيى عن عون بن محمد عن أبي أحمد بن الرشيد. ونسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن الحسن عن عون بن محمد عن أبي أحمد بن الرشيد واللفظ له قال: دخل يوما إسماعيل بن الهادي إلى المأمون، فسمع غناء أذهله. فقال له المأمون: ما لك? قال: قد سمعت ما أذهلني، وكنت أكذب بأن الأرغن الرومي يقتل طربا، وقد صدقت الآن بذلك. قال: أو لا تدري ما هذا? قال: لا والله قال: هذه عمتك علية تلقي على عمك إبراهيم صوتا من غنائها. إلى ها هنا رواية محمد بن يحيى. وفي رواية محمد بن الحسن قال: هذه عمتك تلقي على عمك إبراهيم صوتا استحسنه من غنائها. فأصغيت إليه فإذا هي تلقي عليه: صوت
ليس خطب الهوى بخطب يسير ليس ينبيك عنه مثل حـبـير
ليس أمر الهوى يدبر بـالـرأ ي ولا بالقياس والتـفـكـير اللحن في هذا لعليه ثقيل أول. وفيه لإبراهيم بن المهدي ثاني ثقيل عن الهشامي.
توفيت ولها خمسون سنة، وسبب وفاتها: أخبرني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه: أن علية بنت المهدي ولدت سنة ستين ومائة، وتوفيت سنة عشر ومائتين ولها خمسون سنة. وكانت عند موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وأخبرني محمد بن يحيى عن عون بن محمد قال حدثني محمد بن علي بن عثمان قال: ماتت علية سنة تسع ومائتين، وصلى عليها المأمون. وكان سبب وفاتها أن المأمون ضمها إليه وجعل يقبل رأسها، وكان وجهها مغطى، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمت بعقب هذا أياما يسيرة وماتت.
وممن صنع أولاد الخلفاء أبو عيسى بن الرشيد فمن صنعته: صوت
صفحة : 1134
قام بقلبـي وقـعـد ظبي نفى عني الجلد
خلفـنـي مـدلـهـا أهيم في كل بـلـد
أسهرنـي ثـم رقـد وما رثى لي من كمد
ظبي إذا ازددت لـه تذلـلا تـاه وصـد
واعطشـا إلـى فـم يمج خمرا من بـرد عروضه من مجزوء الرجز. والشعر والغناء لأبي عيسى بن الرشيد، ولحنه فيه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من روايتي عبد الله بن المعتز والهشامي. وذكر الهشامي أن له أيضا فيه لحنا من ثقيل الرمل، وذكر حبش أن الرمل لحسين بن محرز. وفيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل.
أخبار أبي عيسى بن الرشيد ونسبه
شيء من أوصافه: اسمه أحمد، وقيل بل اسمه صالح بن الرشيد. وهذا النسب أشهر من أن يشرح. وأمه أم ولد بربرية. وكان من أحسن الناس وجها ومجالسة وعشرة، وأمجنهم وأحدهم نادرة وأشدهم عبثا. وكان يقول شعرا لينا طيبا من مثله.
كان جميل الوجه: أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثني محمد بن عبد الله بن طاهر أنه سمع أباه يقول: سمعت أبي يعني طاهر بن الحسين يحدث أنه سمع الرشيد يقول للمأمون: أنت تعلم أنك أحب الناس إلي، ولو أستطيع أن أجعل لك وجه أبي عيسى لفعلت.
كان إذا ركب جلس له الناس لرؤية حسنه: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني مسيح بن حاتم العكلي قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال: كان يقال: انتهى جمال ولد الخلافه إلى أولاد الرشيد، ومن أولاد الرشيد إلى أولاد محمد وأبي عيسى. وكان أبو عيسى إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما يجلسون للخلفاء.
مدحت عريب حسنه وغناءه: حدثني محمد قال حدثني يعقوب بن بنان قال حدثني علي بن الحسين الإسكافي قال: كنت عند أبي الصقر إسماعيل بن بلبل وعنده عريب، فسمعتها تقول: انتهى جمال الرشيد إلى محمد الأمين وأبي عيسى، ما رأى الناس مثلهما، وكان المعتز في طرازهما. قال: وسمعتها تقول لأبي العباس بن حمدون: ما غناؤك من غناء أبي عيسى بن الرشيد وما سمعت قط غناء أحسن من غنائه، ولا رأيت وجها أحسن من وجهه.
عجب الرشيد من جواب له في صباه وقبله: أخبرني محمد قال حدثني الغلابي قال حدثنا يعقوب بن جعفر قال: قال الرشيد لأبي عيسى ابنه وهو صبي: ليت جمالك لعبد الله يعني المأمون . فقال له: على أن حظه منك لي. فعجب من جوابه على صباه وضمه إليه وقبله.
سخط من رؤية هلال شهر رمضان: وأخبرني الحسن بن علي وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن طاهر عن أبيه قال: حدثني من شهد المأمون ليلة وهم يتراءون هلال شهر رمضان وأبو عيسى أخوه معه وهو مستلق على قفاه، فرأوه وجعلو يدعون. فقال أبو عيسى قولا أنكر عليه في ذلك المعنى. كأنه كان متسخطا لورود الشهر، فما صام بعده.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا الحسين بن فهم قال: قال: أبو عيسى بن الرشيد:
دهاني شهر الصوم لا كان مـن شـهـر وما صمت شهرا بعده آخـر الـدهـر
فلـو كـان يعـيدنـي الإمـام بـقـدرة على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر فناله بعقب قوله هذا الشعر صرع، فكان يصرع في اليوم مرات إلى أن مات، ولم يبلغ شهرا آخر.
مدح إبراهيم بن المهدي غناءه: وذكر علي بن الهشامي عن جده ابن حمدون قال: قلت لإبراهيم بن المهدي: من أحسن الناس غناء? قال: أنا. قلت: ثم من? قال: أبو عيسى بن الرشيد. قلت: ثم من? قال: مخارق.
عابث طاهر بن الحسين أمام المأمون فغضب فترضاه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن طاهر قال حدثنا محمد بن سعيد أخو غالب الصعدي قال: كان أبو عيسى بن الرشيد وطاهر بن الحسين يتغديان مع المأمون، فأخذ أبو عيسى هندباءة فغمسها في الخل وضرب بها عين طاهر الصحيحة. فغضب طاهر وشق ذلك عليه وقال: يا أمير المؤمنين إحدى عيني ذاهبة، والأخرى على يدي عدل، يفعل هذا بي بين يديك فقال له المأمون: يا أبا الطيب إنه والله ليعبث بي أكثر من هذا العبث.
عرض بيعقوب بن المهدي فضحك المأمون فنهاه:
صفحة : 1135
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن طاهر قال حدثني أبو عيسى بن علي بن عيسى بن ماهان قال: بينا المأمون يخطب يوم الجمعة على المنبر بالرصافة وأخوه أبو عيسى تلقاء وجهه في المقصورة، إذ أقبل يعقوب بن المهدي وكان أفسى الناس، معروفا بذلك. فلما أقبل وضع أبي عيسى كمه على أنفه، وفهم المأمون ما أراد فكاد أن يضحك. فلما انصرف بعث إلى أبي عيسى فأحضره وقال له: والله لهممت أن أبطحك فأضربك مائة درة ويلك أردت أن تفضحني بين أيدي الناس يوم جمعة وأنا على المنبر إياك ان تعود لمثل هذه . قال: وكان يعقوب بن المهدي لا يقدر أن يمسك الفساء إذا جاءه. فاتخذت له داية مثلثلة وطيبتها وتنوقت فيها. فلما وضعتها تحته فسا، فقال: هذه ليست بطيبة. فقالت له الداية: فديتك هذه كانت طيبة وهي مثلثة، فلما ربعتها فسدت. قال: وكان يعقوب هذا محمقا، كان يخطر بباله الشيء فيشتهيه فيثبته في إحصاء خزائنه. فضج خازنه من ذلك، فكان يثبت الشيء ثم يثبت تحته أنه ليس عنده، وإنما أثبته ليكون ذكره عنده إلى أن يملكه. فوجد في دفتر له فيه ثبت ثياب: ثبت ما في الخزانة من الثياب المثقلة الإسكندرانية والهشامية، لا شيء - أستغفر الله - بل عندنا منها زرحية كانت للمهدي. الفصوص الياقوت الأحمر التي من حالها كذا وكذا لا شيء - أستغفر الله - بل عندنا منها درج كان فيه للمهدي خاتم هذه صفته . فحمل ذلك الدفتر إلى المأمون، فضحك لما قراه حتى فحص برجله: وقال: ما سمعت بمثل هذا قط .
كان المأمون يحبه ويتمنى أن يلي الأمر بعده: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا سليمان بن داود المهلبي قال حدثني الهيثم بن محمد بن عباد عن أبيه قال: كان المأمون أشد الناس حبا لأبي عيسى أخيه، كان يعده للأمر بعده، وتذاكرنا ذلك كثيرا، وسمعته يقول يوما: إنه ليسهل عليه أمر الموت وفقد الملك، وما يسهل شيء منهما على أحد، وذلك لمحبتي أن يلي أبو عيسى الأمر من بعدي لشدة حبي إياه.
كان يحب صيد الخنازير فوقع عن دابته، وكان ذلك سبب موته: أخبرني محمد بن علي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال: كان سبب موت أبي عيسى بن الرشيد أنه كان يحب صيد الخنازير، فوقع عن دابته فلم يسلم دماغه، فكان يتخبط في اليوم مرات إلى أن مات.
عزاء محمد بن عباد المأمون فيه: حدثني محمد قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا محمد بن عباد المهلبي قال: لما مات أبو عيسى بن الرشيد دخلت إلى المأمون وعمامتي علي، فخلعت عمامتي ونبذتها وراء ظهري - والخلفاء لا تعزى في العمائم - ودنوت. فقال لي: يا محمد، حال القدر دون الوطر. فقلت: يا أمير المؤمنين، كل مصيبة أخطأتك تهون، فجعل الله الحزن لك لا عليك.
مات سنة تسع ومائتين: أخبرنا محمد قال حدثنا عون بن محمد قال سمعت هبة الله بن إبراهيم يقول: مات أبو عيسى بن الرشيد سنة تسع ومائتين، وصلى عليه المأمون ونزل في قبره، وامتنع من الطعام أياما حتى خاف أن يضر ذلك به.
وجد عليه المأمون وجدا شديدا: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أبو العيناء قال سمعت محمد بن عباد يقول: لما توفي أبو عيسى بن الرشيد وجد المأمون عليه وجدا شديدا، وكان له محبا وإليه مائلا. فركب إلى داره حتى حضر أمره وصلى عليه، وحضره الناس، وكنت فيمن حضر، فما رأيت مصابا حزينا قط أجمل أمرا في مصيبة ولا أحرق وجدا منه من رجل صامت تجري دموعه على خديه من غير كلح ولا استنثار.
بكاه المأمون وتمثل شعرا وعزاه فيه ابن أبي دواد وعمرو بن مسعدة وناحت عليه عريب: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد الوراق قال حدثني محمد بن عبد الله بن طاهر قال حدثني أبي قال قال أحمد بن أبي دواد: دخلت على المأمون في أول صبحتي أياه وقد توفي أخوه أبو عيسى وكان له محبا وهو يبكي ويمسح عينينه بمنديل، فقعدت إلى جنب عمرو بن مسعدة وتمثلت قول الشاعر:
نقص من الدنيا وأسبابهـا نقص المنايا من بني هاشم ولم يزل على تلك الحال ساعة يبكي، ثم مسح عينيه وتمثل:
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض فحسبك مني ما تجن الـجـوانـح
كأن لم يمت حي سواك ولـم تـنـح على أحـد إلا عـلـيك الـنـوائح
صفحة : 1136
ثم التفت إلي فقال: هيه يا أحمد فتمثلت قول عبدة بن الطبيب:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحمـا
تحية من أوليته منك نـعـمة إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا فبكى ساعة ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو قال: نعم يا أمير المؤمنين
بكوا حذيفة لم تبكوا مثله حتى تعود قبائل لم تخلق فإذا عريب وجوار معها يسمعن ما يدور بيننا، فقلن: اجعلوا لنا معكم في القول نصيبا. فقال لها المأمون: قولي، فرب صواب منك كثير. فقالت:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
كأن بني العبـاس يوم وفـاتـه نجوم سماء خر من بينها البـدر فبكى وبكينا. ثم قال لها المأمون: نوحي، فناحت ورد عليها الجواري. فبكى المأمون حتى قلت: قد خرجت نفسه، وبكينا معه أحر بكاء، ثم أمسكت. فقال لها المأمون: اصنعي فيه لحنا وغني به. فصنعت به لحنا على مذهب النوح وغنته إياه على العود. فوالذي لا يحلف بأجل منه لقد بكينا عليه غناء أكثر مما بكينا عليه نوحا.
طلب المأمون من أبي العتاهية أن يسليه عنه: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا الطبيب بن محمد الباهلي قال حدثني موسى بن سعيد عن أخيه عمرو قال: لما مات أبو عيسى بن الرشيد وجد عليه المأمون وجدا شديدا حتى امتنع من النوم ولم لم يطعم شيئا. فدخل عليه أبو العتاهية، فقال له المأمون: حدثني يا أبا إسحاق بحديث بعض الملوك ممن كان في مثل حالنا وفارقها. فقال: يا أمير المؤمنين، لبس سليمان بن عبد الملك أفخر ثيابه ومس أطيب طيبه وركب أفره خيله وتقدم إلى جميع من معه أن يركب في مثل زيه وأكمل سلاحه، ونظر في مرآته فأعجبته هيئته وحسنه، فقال: أنا الملك الشاب، ثم قال لجارية له: كيف ترين? فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنـسـان
أنت خلو من العيوب وممـا يكره الناس غير أنك فاني فأعرض بوجهه، فلم تدر عليه الجمعة إلا وهو في قبره. قال فبكى المأمون والناس، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم. قال: وهذان البيتان لموسى شهوات.
بعض أصواته: ومن غناء أبي عيسى وجيد صنعته، والشعر له، وطريقته من الثقيل الثاني مطلق في مجرى البنصر. وذكر حبش أن فيه لحسين بن محرز أيضا صنعة من خفيف الرمل: صوت
رقدت عنك سلوتي والهوى ليس يرقد
وأطار السهاد نـو مي فنومي مشرد
أنت بالحسن منك يا حسن الوجه تشهد
وفؤادي بحسن وج هك يشقى ويكمد ومن غنائه أيضا وهو من صدور صنعته في شعر الأخطل - ولحنه من الثقيل الأول -: صوت
إذا ما زياد علني ثم علـنـي ثلاث زجاجات لهن هـدير
خرجت أجر الذيل حتى كأنني عليك أمير المؤمنين أمـير ولإسحاق في هذا الشعر رمل بالبنصر عن عمرو.
وممن عرفت له صنعة من أولاد الخلفاء
عبد الله بن موسى الهادي
صوته في شعر له: فمن صنعته: صوت
تقاضك دهرك ما أسلـفـا وكر عيشك بعد الصـفـا
فلا تجزعن فإن الـزمـان رهين بتشتيت مـا ألـفـا
وما زال قلبك مأوى السرور كثير الهوى ناعما متـرفـا
ألح عـلـيك بـروعـاتـه واقبل يرميك مستـهـدفـا الشعر والغناء لعبد الله بن موسى. ولحنه ماخوري وهو خفيف الثقيل الثاني بالوسطى.
اختلف مع ثقيف الخادم في صوت فضرب ثقيف رأسه بالعود فحلم عليه، وكان معربدا: أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو حشيشة قال:
صفحة : 1137
كان عبد الله بن موسى الهادي أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء. وكان له غلام أسود يقال له قلم، فعلمه الصوت وحذقه. فاشترته منه أم جعفر بثلثمائة ألف درهم. قال أبو حشيشة فحدثني دلشاد غلام عبد الله بن موسى قال: كنت أنا وثقيف الخادم الأسود مولى الفضل بن الربيع نضارب مولاي عبد الله بن موسى وقد أخذ النبيذ من الجماعة. فضرب عبد الله وثقيف صوتا فاختلفا فيه وتشاجرا. فقال عبد الله: كذا أخذته من منصور زلزل. وقال ثقيف: كذا أخذته منه، وطال تشاجرهما فيه. وكان ثقيف معربدا يذهب عقله من أدنى شيء يشربه، وكان عبد الله أيضا معربدا. فغضب ثقيف ورفع العود وهو لا يعقل، فضرب به رأس عبد الله بن موسى فطوقه إياه. وابتدر خدم عبد الله؛ فقال لهم عبد الله بن موسى: لا تمسوه وأخرجوا العود من عنقي أخرجوه. وكان عبد الله بن موسى أشد خلق الله عربدة أيضا، فرزق في ذلك اليوم حلما لم يرى مثله، وقال لخدمه: إن قتلته قتلت كلبا وتحدث الناس بذلك، ولكن اخلعوا عليه وهبوا له ولا يدخل منزلي أبدا.
دعا الحفصي فآثر عليه أخاه إسماعيل: قال جحظة قال أبو حشيشة أخبرني الحفصي المعزفي قال: دعاني عبد الله بن موسى يوما ودعاني أخوه إسماعيل؛ فآثرت إسماعيل لما كان في عبد الله من العربدة. فلم نشعر إلا بعبد الله قد وافانا وقت العصر على برذون أشهب متقلدا سيفا وهو سكران. فلما رأيناه تطايرنا في الحجر، فنزل عن دابته وجلس. وجثا إسماعيل بين يديه إجلالا له، وقال له: يا سيدي قد سررتني بتفضلك ومصيرك إلي. قال: دعني من هذا، من عندك? قال: فلان وفلان، فعد جماعة من كان عنده. قال له: هاتهم. فدعا بنا فخرجنا وقد متنا فزعا. فأقبل علي منهم فقال لي: يا حفصي أبعث إليك ثلاثة أيام تباعا فتدعني وتجيء إلى إسماعيل وضرب يده على سيفه، فقام إسماعيل بيني وبينه وقال: نعم يجيئني ويدعك؛ لإنه لا ينصرف من عندك إلا بشجة أو عربدة مع حرمان، ولا ينصرف من عندي إلا ببر مع خلعة ووعد محصل أفتلومه على ذلك . فكف عبد الله وكان شديد العربدة فقام وانصرف.
قال شعرا في خادم لصالح بن الرشيد: أخبرني الصولي حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني محمد بن إسماعيل عن أبيه سليمان بن داود وكان يكتب لإبي جعفر - قال: كنت جالسا مع عبد الله بن موسى الهادي، فمر به خادم لصالح بن الرشيد. فقال له: ما اسمك? فقال له: اسمي لا تسل فأعجبه حسنه وحسن منطقه فقال لي: قم بنا حتى نسر اليوم بذكر هذا البدر، فقمت معه. فأنشدني في ذلك اليوم:
وشـادن مـر بـنـــا بجرح باللحظ المـقـل
مظلوم خصـر ظـالـم منه إذا يمشي الكـفـل
اعـتـدلـت قـامـتـه واللحظ منه مـا عـدل
بدر تـــراه أبـــدا طالع سعـد مـا أفـل
سألـتـه عـن اسـمـه فقال لي اسمي لاتسل
وأطلعت في وجـنـتـي ه وردتان من خـجـل
فقلت ما أخـطـأ مـن سماك بل قال المـثـل
لا تسألـن عـن شـادن فاق جـمـالا وكـمـل قال: وقال فيه - وقد قيل إنه من هذه الأبيات -:
عز الذي نهـوى وذل صب الفؤاد مختـبـل
لج به الهجـر وذا ال هجر إذا لـج قـتـل
من شادن مـنـطـق فاق جمالا وكـمـل
تناصف الحسـن بـه فلا تسل عن لاتسل كان له ابن جيد الضرب وطلب إلى المكي أن يقومه موهما أنه مملوك: وقال حدثني محمد بن أحمد المكي عن أبيه قال: دعاني عبد الله بن موسى يوما فقال لي: أتقوم غلاما ضاربا مغنيا قيمة عدل لا حيف فيه على اليائع ولا على المشتري? فقلت: نعم. فأخرج لي ابنه القاسم وكنت أعرفه، وهو أحسن من القمر ليلة البدر، فأخذ عودا فضرب، فأكببت على يديه أقبلها. فقال لي عبد الله: أتقبل يد غلام مملوك? قلت: بأبي وأمي هو من مملوك وقبلت رجله أيضا. فقال: أما إذا عرفته فأحب أن تضاربه، ففعلت. فلما رأى الغلام زيادتي عليه في الضرب اغتم وأقبل على أبيه فقال له كالمعتذر من ذنبه: أنا متلذذ وهذا مكتسب. فضحكت وقلت: هو ذاك يا سيدي. وعجبت من حدة جوابه معتذرا على صغر سنه.
صفحة : 1138
كان كريما ممدحا: أخبرني الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال: كان عبد الله بن موسى جوادا كريما ممدحا، وكان يقول الشعر - وفيه لعلويه لحن من خفيف الثقيل الأول بالبنصر -: صوت
أعبد الله أنـت لـنـا أمـير وأنت من الزمان لنا مجـيز
حكيت أباك موسى في العطايا إمام الناس والملك الكـبـير غنى بشعر لعمر بن أبي ربيعة: قال محمد بن يحيى والعتابي: ولعبد الله بن موسى غناء في قول عمر بن أبي ربيعة: صوت
إن أسماء أرسلـت وأخو الشوق مرسل
أرسلت تستزيرنـي وتفـدي وتـعـدل ولحنه فيه رمل. قال: وفيه لابن سريج والغريض ومالك ألحان.
عربد على المأمون فحبسه ثم سمه فمات: أخبرني علي بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين قال حدثني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب قال: كان عبد الله بن موسى الهادي معربدا، وكان قد أحفظ المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه. فأمر بأن يحبس في منزله فلا يخرج منه؛ وأقعد على بابه حرسا. ثم تذمم من ذلك فأظهر له الرضا وصرف الحرس عن بابه، ثم نادمه فعربد عليه أيضا وكلمه بكلام أحفظه. وكان عبد الله مغرما بالصيد، فأمر المأمون خادما من خواص خدمه يقال له حسين فسمه في دراج وهو بمرسى أباد، فدعا بعبد الله بالعشاء، فأتاه حسين بذلك الدراج فأكله. فلما أحس بالسم ركب في الليل وقال لأصحابه: هو آخر ما تروني. قال: وأكل معه من الدراج خادمان، فأما أحدهما فمات من وقته، وأما الآخر فبقي مدة ثم مات، ومات عبد الله بعد أيام.
وممن رويت له صنعة من أولاد الخلفاء عبد الله بن محمد
الأمين
فمن مشهور صنعته:
ألا يا دير حنظلة المفـدى لقد أورثتني سقمـا وكـدا
أزف من العقار إليك دنـا وأجعل تحته الورق المندى الشعر والغناء لعبد الله بن محمد الأمين، وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي عن عبد الله بن المعتز وله فيه لحنان خفيف رمل وخفيف ثقيل وفيه لعبد الله بن موسى الهادي رمل. وفيه ثاني ثقيل، وذكر حبش - وهو ممن لا يحصل قوله - أنه لحنين، ولم يصح عندنا من صناعه.
أخبار عبد الله بن محمد ونسبه : نسبه: عبد الله بن محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. وأم عبد الله بن محمد أم ولد. وكان ظريفا غزلا يقول شعرا لينا ويصنع صنعة صالحة. وأم محمد الأمين زبيدة بنت جعفر بن المنصور. وزبيدة لقب غلب عليها، واسمها أمة العزيز، وكان المنصور يرقصها وهي صغيرة - وكانت سمينة حسنة البدن - فيقول لها: يا زبيدة يا زبيدة، فغلب عليها ذلك.
كان صديقا لأبي نهشل فأحب جارية اشتراها أخوه فكتب له شعرا فأخذها له منه: أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال: كانت بين عبد الله بن محمد الأمين وبين أبي نهشل بن حميد مودة. فاعترض عبد الله جارية مغنية لبعض نساء بني هاشم وأعطى بها مالا عظيما. فعرفت منه رغبة فيها فزدات عليه في السوم. فتركها ليكسرها. فجاء أخ لأبي نهشل بن حميد فاشتراها وزاد. فتبعتها نفس عبد الله، فسأل أبا نهشل أن يسأل أخاه النزول له عنها، فسأله ذلك فوعده ودافعه. فكتب عبد الله إلى أبي نهشل:
يا بن حميد يا أبا نـهـشـل مفتاح باب الحدث المقفـل
يا أكـرم الـنـاس ودادا وأر عاهم لحق ضائع مهـمـل
أحسنت في ودي وأجملت بل جزت فعال المحسن المجمل
بيتك في ذي يمـن شـامـخ تقصر عنه قـنـتـا يدبـل
خلفت فينا حاتما ذا الـنـدى وجدت جود العارض المسبل
أي أخ أنـت لـذي وحــدة تركته بالعز في جـحـفـل
نجوم حظي منك مسـعـودة فيما أرجي لسـن بـالأفـل
فصدق الظن بمـا قـلـتـه وسهل الأمر بـه يسـهـل
لا تحرمني ولديك الـمـنـى بالله صيد الرشأ الأكـحـل
رميت منه بسهـام الـهـوى وما درى بالرمي في مقلتي
أدنيتني بالوعـد فـي صـيده إدناه عطشان من المنـهـل
صفحة : 1139
ثم تناسيت وأسلـمـتـنـي إلى مطال موحش المنزل
تركتني في لـحة عـائمـا لا أعرف المدبر من مقبل
صرح بأمر واضـح بـين لا خير في ذي لبس مشكل قال: فلم يزل أبو نهشل بأخيه حتى نزل له عنها.
خرج إلى ضيعته وتكاتب هو ونديمه أبو نهشل بشعر: وأخبرني الصولي أيضا بغير إسناد، ووجدت هذا الخبر في كتاب لمحمد بن الحسن الكاتب يرويه عن أبي حسان الفزاري قال: كان أبو نهشل بن حميد صديقا لعبد الله بن محمد الأمين ونديما. وكانت لعبد الله ضيعة بالسواد تعرف بالعمرية، فخرج إليها وأقام بها أياما. فكتب إليه أبو نهشل:
سقى الله بالعمرية الغيث منزلا حللت به يا مؤنسي وأمـيري
فأنت الذي لا يخلق الدهر ذكره وأنت أخي حقا وأنت سروري فأجابه عبد الله:
لئن كنت بالعمـرية الـيوم لاهـيا فإن هواكم حيث كنت ضمـيري
فلا تحسبني في هواكم مقـصـرا وكن شوقي من سخطكم ومجيري قال محمد بن الحسن في خبره: وصنع عبد الله في هذه الأبيات الأربعة لحنا، وصنع فيها سليم بن سلام لحنا آخر.
نادم الواثق والخلفاء من بعده إلى المعتمد، وشعر له فيه: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عبد الله بن المعتز قال: كان عبد الله بن محمد الأمين ينادم الواثق ثم نادم بعده سائر الخلفاء إلى المعتمد.
قال: وأنشدني له في المعتمد:
رأيت الهلال على وجهكا فما زلت أدعو إلهي لكا
فلا زلت تحيا وأحيا معا وآمنني الله من فقدكمـا قال: ومن شعره - وله فيه لحن من الرمل الثاني وهو خفيف الرمل -: صوت
يا من به كل خلـق تراه صبـا مـتـيم
ومن تجالـل تـيهـا فما تـراه يكـلـم
لا شيء أعجب عندي ممن يراك فيسـلـم فأما دير حنظلة الذي ذكره في شعره وفيه الغناء المذكور من صنعته متقدما، فإنه دير بالجزيرة. أخبرني بخبره هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني أبو المحكم لحنظلة بن أبي عفراء أحد بني حية الطائيين وهو رهط أبي زبيد ورهط إياس بن قبيصة:
ومهما يكن الزمـان فـإنـنـي أرى قمر الليل المغرب كالفتـى
يهل صغيرا ثم يعـظـم ضـوءه وصورته حتى إذا ما هو استوى
تقارب يخبو ضوءه وشـعـاعـه ويمصح حتى يستسر فـلا يرى
كذلك زيد المرء ثم انتـقـاصـه وتكراره في دهره بعد ما مضى
تصبح أهل الـدار والـدار زينة وتأتي الجبال من شماريخها العلا
فلا ذا غنى يرجئن عن فضل ماله وإن قال أخرني وخذ رشوة أبى
ولا عن فقير يأتخرن لـفـقـره فتنفعه الشكوى إليهن إن شـكـا قال: وكان حنظلة هذا قد تعبد الجاهلية وتفكر في أمر الآخرة وتنصر وبنى ديرا بالجزيرة؛ فهو الآن يعرف به يقال دير حنظلة. وفيه يقول الشاعر:
يا دير حنظلة المهيج لي الهوى قد تستطيع دواء عشق العاشق
وممن صنع من أولاد الخلفاء أبو عيسى بن
المتوكل
كان عبد الله بن المتوكل جمع له صنعة مقدارها أكثر من ثلثمائة صوت، منها الجيد الصنعة و منها المتوسط، قد سمعنا كثيرا منها؛ إلا أني أذكر من ذلك ما عرفت شاعره وكان له خبر يتصل به حسب ما شرطناه في هذا الكتاب وضمناه إياه من الأخبار، ثم أذكر أخبار أبي عيسى بعد ذلك: قال ابن المعتز حدثني النميري قال سمعت أبا عيسى بن المتوكل يقول: إذا أتممت صنعة ثلثمائة صوت وستين صوتا عدد أيام السنة تركت الصنعة، فلما صنعها ترك الصنعة. فمنها - وهو لعمري من جيد الغناء وفاخر الصنعة، ولو لم يصنع غيره لكفاه - في شعر العتاهية: صوت
يضطرب الخوف والرجاء إذا حرك موسى القضيب أو فكر ولحنه من الثقيل الأول. والشعر لأبي العتاهية، وقد مضت أخباره؛ وإنما قدمت ذكره بجودة صنعته وأنه شبه فيه بصنعة الفحول ومحكم أغاني الأوائل.
ومنها:
هي النفس ما حملتها تتحمل وللدهر أيام تجور وتعـدل
صفحة : 1140
وعاقبة الصبر الجميل جمـيلة وأفضل أخلاق الرجال التجمل الشعر لعلي بن الجهم. والغناء لأبي عيسى بن المتوكل، ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبار علي بن الجهم ونسبه
نسبه ونسب قبيلته بني سامة: هو علي بن الجهم بن بدر بن الجهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كراز بن كعب بن مالك بن عيينة بن جابر بن الحارث بن عبد البيت بن الحارث بن سامة بن بن لؤي بن غالب. هكذا يدعون، وقريش تدفعهم عن النسب وتسميهم بني ناجية، ينسبون إلى أمهم ناجية. وهي امرأة سامة بن لؤي. وكان سامة، فيما يقال، خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لأخيه كعب بن لؤي في مماظة كانت بينهما، فطأطأت ناقته رأسها إلى االأرض لتأخذ شيئا من العشب، فعلق بمشفرها أفعى فعطفته على قتبها فحكته به، فدب الأفعى على القتب حتى نهش ساق سامة فقتله. فقال أخوه يرثيه :
عين جودي لسامة بن لـؤي علفت ساق ساقه العلاقـه
رب كأس هرقتها ابن لؤي حذر الموت لم تكن مهراقه وقال من يدفع بني سامة من نسابي قريش: وكانت معه امراته ناجية. فلما مات تزوجت رجلا من أهل البحرين فولدت منه الحارث، ومات أبوه وهو صغير. فلما ترعرع طمعت أمه في أن تلحقه بقريش، فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي. فرحل من البحرين إلى عمه كعب وأخبره أنه ابن أخيه سامة. فعرف كعب أمه وظنه صادقا في دعواه. ومكث عنده مدة، حتى قدم مكة ركب من أهل البحرين، فرأوا الحارث فسلموا عليه وحادثوه ساعة. فسألهم عن كعب بن لؤي ومن أين يعرفونه، فقالوا له: هذا ابن رجل من أهل بلدنا يقال له فلان، وشرحوا له خبره. فنفاه كعب ونفى أمه، فرجعا إلى البحرين فكانا هناك، وتزوج الحارث وأعقب هذا العقب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عمي سامة لم يعقب . وكان بنوا ناجية ارتدوا عن الإسلام. ولما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة دعاهم إلى الإسلام؛ فأسلم بعضهم وأقام الباقون على الردة فسباهم واسترقهم؛ فآشتراهم مصقلة بن هبيرة منه وأدى ثلث ثمنهم وأشهد بالباقي على نفسه، ثم أعتقهم وهرب من تحت ليله إلى معاوية، فصاروا أحرارا، ولزمه الثمن، فشعث علي بن أبي طالب شيئا من داره، وقيل بل هدمها. فلم يدخل مصقلة الكوفة حتى قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وزعم ابن الكلبي: أن سامة بن لؤي ولد غالب بن سامة وأمه ناجية، ثم هلك سامة فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة، ثم هلك ابنا سامة ولم يعقبا ، وأن قوما من بني ناجية بنت جرم بن ربان علاف ادعوا أنهم بنو سامة بن لؤي، وأن أمهم ناجية هذه ونسبوها هذا النسب، وانتموا إلى الحارث بن سامة وهم الذين باعهم علي بن أبي طالب إلى مصقلة. قال: ودليل ذلك وأن هؤلاء بنو ناجية بنت جرم قول علقمة الخصي التميمي أحد بني ربيعة بن مالك:
زعمتم أن ناجي بنت جرم عجوز بعد ما بلي السنام
فإن كانت كذاك فألبسوها فإن الحلى للأنثى تمـام وهذا أيضا قول الهيثم بن عدي. فأما الزبير بن بكار فإنه أدخلهم في قريش وقال: هم قريش العازبة. وإنما سموا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت جرم بن ربان وهو علاف، وهو أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه. واسم ناجية ليلى؛ وإنما سميت ناجية لأنها سارت في مفازة معه فعطشت فاستسقته ماء، فقال لها: الماء بين يديك، وهو يريها السراب، حتى جاءت الماء فشربت وسميت ناجية. وللزبير في إدخاهم في قريش مذهب وهو مخالفة فعل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وميله إليهم لإجماعهم على بغضه رضي الله عنه، حسب المشهور المأثور من مذهب الزبير في ذلك.
?كان شاعرا فصيحا اختص بالمتوكل وهجاء عليا وشيعته: وكان علي بن الجهم شاعرا فصيحا مطبوعا؛ وخص بالمتوكل حتى صار من جلسائه، ثم أبغضه لأنه كان كثير السعاية إليه بندمائه والذكر لهم بالقبيح عنده، وإذا خلا به عرفه أنهم يعيبونه ويثلبونه ويتنقصونه، فيكشف عن ذلك فلا يجد له حقيقة، فنفاه بعد أن حبسه مدة. وأخباره تذكر على شرح بعد هذا. وكان ينحو نحو مروان بن أبي حفصة في هجاء آل أبي طالب وذمهم والإغراء بهم وهجاء الشيعة، وهو القائل:
ورافضة تقول بشعب رضوى إمام خاب ذلـك مـن إمـام
صفحة : 1141
إمام من له عشرون ألـفـا من الأتراك مشرعة السهام وفيه يقول البحتري:
إذا ما حصلت علـيا قـريش فلا في العير أنت ولا النفير
وما رغثاؤك الجهم بـن بـدر من الأقمار ثم ولا الـبـدور
ولو أعطاك ربك ما تمـنـى لزاد الخلق في عظـم الأيور
علام هجوت مجتهدا عـلـيا بما لفقت مـن كـذب وزور
أما لك في استك الوجعاء شغل يكفك عن أذى أهل القبـور وسمعه أبو العيناء يوما يطعن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: أنا أدري لما تطعن على علي أمير المؤمنين. فقال له: أتعني قصة بيعة أهلي من مصقلة بن هبيرة? قال: لا أنت أوضع من ذلك، ولكن لأنه قتل الفاعل فعل قوم لوط والمفعول به، وأنت أسفلهما.
هجا بختيشوع فسبه عند المتوكل فحبسه سنة ثم نفاه وقال في ذلك شعرا: أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الهشامي قال: كان علي بن الجهم قد هجا بختيشوع ، فسبه عند المتوكل فحبسه المتوكل. فقال علي بن الجهم في حبسه عدة قصائد كتب بها إلى المتوكل فأطلقه بعد سنة، ثم نفاه بعد ذلك إلى خراسان. فقال أول ما حبس قصيدة كتب بها إلى أخيه، أولها قوله:
توكلنا علـى رب الـسـمـاء وسلمنا لأسباب الـقـضـاء
ووطنا على غير الـلـيالـي نفوسا سامحت بـعـد الإبـاء
وأفنية الملوك مـحـجـبـات وباب الله مبـذول الـفـنـاء
هي الأيام تكلمـنـا وتـأسـو وتأتي بالسعادة والـشـقـاء
وما يجدي الثراء على غـنـي إذا ما كان محظور العطـاء
حلبنا الدهر أشطـره ومـرت بنا عقب الشدائد والـرخـاء
وجربـنـا وجـرب أولـونـا فلا شيء أعز من الـوفـاء
ولم ندع الحياء لـمـس ضـر وبعض الضر يذهب بالحـياء
ولم نحزن على دنـيا تـولـت ولم نسبق إلى حسن العـزاء
توق الناس يابن أبـي وأمـي فهم تبع المخافة والـرجـاء
ولا يغررك من وغـد إخـاء لأمر ما غدا حسـن الإخـاء
ألم تر مظهرين علي عـيبـا وهم بالأمس إخوان الصفـاء
فلما أن بليت غـدوا وراحـوا علي أشد أسـبـاب الـبـلاء
أبت أخطارهم أن ينصرونـي بمـال أو بـجـاه أو ثـراء
وخافوا أن يقال لهم خـذلـتـم صديقا فادعوا قدم الجـفـاء
تضافرت الروافض والنصارى وأهل الاعتزال على هجـائي - يعني بأهل الاعتزال علي بن يحيى بن المنجم وقد كان بلغه عنه ذكر له: -
وعابوني وما ذنـبـي إلـيهـم سوى علمي بـأولاد الـزنـاء
فبختيشوع يشهد لابن عـمـرو وعزون لهـارون الـمـرائي
وما الجذماء بنت أبي سـمـير بجذماء اللسان عن الـخـنـاء
إذا ماعد مـثـلـكـم رجـالا فما فضل الرجال على النساء
عليكم لـعـنة الـلـه ابـتـداء وعودا في الصباح وفي المساء
إذا سميتم لـلـنـاس قـالـوا أولئك شر من تحت السـمـاء
أنا المتـوكـلـي هـوى ورأيا وما بالواثقـية مـن خـفـاء
وما حبس الخليفة لـي بـعـار وليس بمؤيسي منه التـنـائي قال أبو الشبل شعره في الحبس كشعر عدي بن زيد: أخبرني عمي قال حدثنا محمد قال قال لي أبو الشبل البرجمي: ما شعر علي بن الجهم في الحبس بدون شعر عدي بن زيد .
حبسه المتوكل بسعاية جلسائه ونفاه إلى خراسان فعذبه طاهر بن عبد الله فقال شعرا: أخبرني عمي قال حدثنا محمد قال:
صفحة : 1142
كان سبب حبس المتوكل علي بن الجهم أن جماعة من الجلساء سعوا به إليه وقالوا له: إنه يجمش الخدم ويغمزهم، وأنه كثير الطعن عليك والعيب لك والإزراء على أخلاقك؛ ولم يزالوا به يوغرون صدره عليه حتى حبسه؛ ثم أبلغوه عنه أنه هجاه. فنفاه إلى خراسان وكتب بأن يصلب إذا وردها يوما إلى الليل. فلما وصل إلى الشاذياخ حبسه طاهر بن عبد الله بن طاهر بها، ثم أخرج فصلب يوما إلى الليل مجردا ثم أنزل. فقال في ذلك:
لم ينصبوا بالشاذياخ عـشـية الإثنين مسبوقا ولا مجهـولا
نصبوا بحمد الله ملء قلوبهـم شرفا وملء صدورهم تبجيلا
ما ازداد إلا رفعة بنـكـولـه وازدادت الأعداء عنه نكـولا
هل كان إلا الليث فارق غيله فرأيته في محمل محـمـولا
لا يأمن الأعداء من شـداتـه شدا يفصل هامهم تفـصـيلا
ما عابه أن بز عنه لـبـاسـه فالسيف أهول ما يرى مسلولا
إن يبتذل فالبدر لا يزري بـه أن كان ليلة تمـه مـبـذولا
أو يسلبوه المال يحرن فـقـده ضيفا ألم وطارقـا ونـزيلا
أو يحبسوه فليس يحبس سـائر من شعره يدع العزيز ذلـيلا
إن المصائب ما تعـدت دينـه نعم وإن صعبت عليه قلـيلا
والله ليس بغافل عـن أمـره وكفى بربك ناصرا ووكـيلا
ولتعلمن إذا القلوب تكشـفـت عنها الأكنة من أضل سبـيلا كتب المتوكل لطاهر بإطلاقه فأطلقه فقال شعرا: أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: كتب المتوكل إلى طاهر بن عبد الله بإطلاق علي بن الجهم. فلما أطلقه قال:
أطاهر إني عن خراسان راحـل ومستخبر عنها فمـا أنـا قـائل
أأصدق أم أكني عن الصدق أيمـا تخيرت أدته إليك المـحـافـل
وسارت به الركبان واصطفقت به أكف قيان واجتبتـه الـقـبـائل
وإني بغالي الحمد والـذم عـالـم بما فيهما نامي الرمية نـاضـل
وحقا أقول الصدق إني لـمـائل إليك وإن لم يحظ بالـود مـائل
ألا حرمة ترعى ألا عـقـد ذمة لجار ألا فعل لقول مـشـاكـل
ألا منصف إن لم نجد متفـضـلا علينا ألا قاض من الناس عـادل
فلا تقطعن غيظا علي أنـامـلا فقبلك ما عضت علي الأنـامـل
أطاهر إن تحسن فإني محـسـن إليك وإن تبخل فإنـي بـاخـل فقال له طاهر: لا تقل إلا خيرا فإني لا أفعل بك إلا ما تحب؛ فوصله وحمله وكساه.
جمش جارية فباعدته فقال شعرا فأجابته: أخبرني عمي قال حدثني محمد قال: كان علي بن الجهم في مجلس فيه قينة، فعابثها وجمشها، فباعدته وأعرضت عنه، فقال فيها:
خفي الله فيمن قد تبـلـت فـؤاده وغادرته نضوا كأن بـه وقـرا
دعي البخل لاأسمع به منك إنمـا سألتك أمرا ليس يعري لكم ظهرا فقالت له: صدقت يا أبا الحسن، ليس يعري لنا ظهرا، ولكنه يملأ بطنا كان يتشاءم من الحارثي فرآه فقال شعرا: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا إبراهيم بن المدبر قال حدثنا علي بن الجهم قال: كان الحارثي يجيء إلى حلوان وأنا أتولاها - وكان علي بن الجهم على مظالمها - فإذا وردها وقع الإرجاف ، فلم يزل متصلا حتى يخرج، فإذا خرج سكن الإرجاف. فأتاني مرة وظهر كوكب الذنب في تلك الليلة، فقلت:
لما بدا أيقنت بالعطـب فسألت ربي خير منقلب
لم يطـلـعـا إلا لآبـدة الحارثي وكوكب الذنب قال ابن المدبر: وكان الحارثي أعور مقبح الوجه، وفيه يقول أبو علي البصير:
يا معشر البصراء لا تتطرفوا جيشي ولا تتعرضوا لنكيري
ردوا علي الحارثي فـإنـه أعمى يدلس نفسه في العور انتحل شعرا لإبراهيم بن العباس: أخبرني الحسن قال حدثنا أبن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن المدبر لعلي بن الجهم وذكر أن عليا أنشده إياه لنفسه:
صفحة : 1143
أميل مع الذمام على ابن أمي وآخذ للصديق من الشقـيق
وإن ألفيتني حرا مطـاعـا فإنك واجدي عبد الصـديق
أفرق بين معروفي ومنـي وأجمع بين مالي والحقـوق فقال إبرهيم: كذب والله علي بن الجهم وأثم. والله لهذا الشعر أشهر بإبراهيم بن العباس من إبراهيم بالعباس أبيه.
قال المتوكل إنه كذاب وأثبت كذبه بكلامه له: أخبرني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثنا إبراهيم بن المدبر قال قال المتوكل: علي بن الجهم أكذب خلق الله. حفظت عليه أنه أخبرني أنه أقام بخراسان ثلاثين سنة، ثم مضت مدة أخرى وأنسي ما أخبرني به، فأخبرني أنه أقام بالثغور ثلاثين سنة، ثم مضت مدة أخرى وأنسي الحكايتين جميعا، فأخبرني أنه أقام بالجبل ثلاثين سنة، ثم مضت مدة أخرى فأخبرني أنه أقام بمصر والشأم ثلاثين سنة، فيجب أن يكون عمره على هذا وعلى التقليل مائة وخمسين سنة ، وإنما يزاهي سنه الخمسين سنة. فليت شعري أي فائدة له في هذا الكذب وما معناه فيه عربد عليه بعض ولد علي بن هشام فهجاهم: أخبرني محمد بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله بن المعتز ،وحدثني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: إجتمع علي بن الجهم مع قوم من ولد علي بن هشام في مجلس، فعربد عليه بعضهم، فغضب وخرج من المجلس، واتصل الشر حتى تقاطعوا وهجروه وعابوه واغتابوه. فقال يهجوهم:
بنـي مـتـيم هـل تـدرون مـا الـــخـــبـــر وكـيف يسـتـر أمـر لــيس يســـتـــتـــر
حاجـبـتـكـم: مـن أبـوكـم يابـنـي عـصـــب شتـى ولـكـنـمـا لـلـعـاهـر الـحــجـــر
قد كـان شـيخـكـم شـيخـا لـــه خـــطـــر لكـن أمـكـم فـي أمـــرهـــا نـــظـــر
ولم تكن أمكم والله يكلؤها محجوبة دونها الحراس والستر
كانت مغنية الفتيان إن شربوا وغـير مـمـنـوعة مـنـهـم إذا ســـكـــروا
وكـان إخـــوانـــه غـــرا غـــطـــارفة لا يمـكـن الـشـيخ أن يعـصـــي إذا أمـــروا
قوم أعــفـــاء إلا فـــي بـــيوتـــكـــم فإن فـي مـثـلـهـا قـد تـخـلـع الـــعـــذر
فأصـبـحـت كـمـراح الـشــول حـــافـــلة من كـل لاقـحة فـي بــطـــنـــهـــا درر
فجـئتـم عـصـبـا مــن كـــل نـــاحـــية نوعـا مـخـانـيث فـي أعـنـاقـهـا الـكـبــر
فواحـد كـسـروي فـــي قـــراطـــقـــه وآخـر قـرشـــي حـــين يتـــبـــخـــر
ما عـلـم أمـكـم مــن حـــل مـــئزرهـــا ومـن رمـاهـا بـكــم يأيهـــا الـــقـــذر
قوم إذا نـــســـبـــوا فـــالأم واحـــــدة والـلـه أعـلـم بـــالآبـــاء إذ كـــثـــروا
لم تـعـرفـوا الـطـعـن إلا فـي أسـافـلـكـــم وأنـتـم فـي الـمـخـازي فـتـية صـــبـــر
أحـبـبـت إعـلامـكـم إنـي بـــأمـــركـــم وأمـر غـيركـم مـن أهـلـكـــم خـــبـــر
تفـكـهـون بـأعـراض الـــكـــرام و مـــا أنـتـم وذكـركــم الـــســـادات يا عـــرر
هذا الـهـجـاء الـذي تـبـقـى مـياســـمـــه علـى جـبـاهـكـم مـا أورق الــشـــجـــر سعى عند المتوكل بندمائه وبلغه أنه هجاه فحبسه، وأحسن شعره في الحبس: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني بن المدبر قال: كتب صاحب الخبر إلى المتوكل أن الحسن بن عبد الملك بن صالح احترق فمات. فقال علي بن الجهم: قد بلغني أن العامل قتله وصانع صاحب الخبر حتى كتب بهذا. وكان يسعى بالجلساء إلى المتوكل فأبغضه وأمره بأن يلزم بيته، ثم بلغه أنه هجاه فحبسه. وأحسن شعر قاله في الحبس بقصيدته التي أولها:
قالت حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهنـد لا يغـمـد
أو ما رأيت الليث يألف غـيلـه كبرا وأوباش السـبـاع تـردد
والشمس لولا أنها مـحـجـوبة عن ناظريك لما أضاء الفرقـد
والبدر يدركه السرار فتنجلـي أيامـه وكـأنـه مـتـجـدد
والغيث يحصره الغمام فما يرى إلا وريقـه يروع ويرعـــد
والزاعبية لا يقيم كـعـوبـهـا إلا الثقاف وجـذوة تـتـوقـد
والنار في أحجارها مخـبـوءة لا تصطلى إن لم تثرها الأزند
والحبس ما لم تغشـه لـدنـية شنعاء نعم المنزل المـتـورد
صفحة : 1144
بيت يجدد لـلـكـريم كـرامة ويزار فيه ولا يزور و يحمـد
لو لم يكن في الحبـس إلا أنـه لا يستذلك بالحجاب الأعـبـد
كم من عليل قد تخطاه الـردى فنجا ومات طبيبـه والـعـود
يا أحمد بـن أبـي دواد إنـمـا تدعى لكل عظيمة يا أحـمـد
أبلغ أمير المؤمنـين فـدونـه خوض الردى ومخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبـي مـحـمـد أولى بما شرع النبي محـمـد
ما كان من كرم فأنتـم أهـلـه كرمت مغارسكم وطاب المحتد
أمن السوية يا بن عم محـمـد خصم تقربه وآخـر تـبـعـد
إن الذين سعوا إليك بـبـاطـل حساد نعمتك التي لا تجـحـد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكـمـوا فينا وليس كغائب من يشـهـد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس يوما لبان لك الطريق ألاقصـد
فبأي جرم أصبحت أعراضنـا نهبا تقسمها الـلـئيم الأوغـد دخل على المتوكل والطبيب يفحص علته وكانت جاريته قبيحة أغضبته فضربها ثم اغتم لذلك فقال هو في ذلك شعرا: أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبو الفضل الربعي قال قال لي علي بن الجهم: دخلت على المتوكل وقد بلغني أنه كلم قبيحة جاريته بشيء أغضبه، فرماها بمخدة فأصابت عينها فأثرت فيها، فتأوهت وبكت وبكى المعتز لبكائها؛ فخرج المتوكل وقد حم من الغم والغضب. فلما بصر بي دعاني وإذا الفتح يري بختيشوع القارورة ويشاوره فيها. فقال لي: قل يا علي في علتي هذه شيئا وصف أن الطبيب ليس يدري ما بي؛ فقلت:
تنكر حال علتي الـطـبـيب وقال أرى بجسمك مـا يريب
جسست العرق منك فدل جسي على ألم له خبـر عـجـيب
فما هذا الذي بك هات قل لي فكان جوابه مني النـحـيب
وقلت أيا طبيب الهجـر دائي وقلبي يا طبيب هو الكـئيب
فحرك رأسه عجبا لقـولـي وقال الحب ليس له طـبـيب
فأعجبني الذي قد قـال جـدا وقلت بلى إذا رضي الحبيب
فقال هو الشفاء فلا تقـصـر فقلت أجل ولكـن لا يجـيب
ألا هل مسعد يبكي لشجـوي فإنـي هـائم فـرد غـريب فقال: أحسنت وحياتي يا غلام اسقني قدحا؛ فجاءه بقدح منثرب وسقيت الجماعة مثله. وخرجت إليه فضل الشاعرة بأبيات أمرتها قبيحة أن تقولها عنها: فقرأها فإذا هي:
أكتمن الذي في القلب من حرق حتى أموت ولم يعلم به النـاس
ولا يقال شكا من كان يعشـقـه إن الشكاة لمن تهوى هي الياس
ولا أبوح بشيء كنت أكـتـمـه عند الجلوس إذا ما دارت الكاس فقال المتوكل: أحسنت يا فضل. وأمر لي ولها بعشرين ألف درهم، ودخل إلى قبيحة فترضاها.
خرج مع جماعة إلى الشام فقطع عليهم الأعراب الطريق ففر أصحابه وثبت هو وقال شعرا: أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد قال: خرج علي بن الجهم إلى الشام في قافلة، فخرجت عليهم الأعراب في خساف فهرب من كان في القافلة من المقاتلة، وثبت علي بن الجهم فقاتلهم قتالا شديدا، وثاب الناس إليه فدفعهم ولم يحظوا بشيء. فقال في ذلك:
صبرت ومثلي صبره ليس ينكر وليس على ترك التقحم يعـذر
غريزة حر لا اختلاق تكـلـف إذا خام في يوم الوغى المتصبر
ولما رأيت الموت تهفو بنـوده وبانت علامات له ليس تنكـر
وأقبلت الأعراب من كل جانب وثار عجاج أسود اللون أكـدر
بكل مشيح مستميت مـشـمـر يجول به طرف أقب مشمـر
بأرض خساف حين لم يك دافع ولا مانع إلا الصفيح المذكـر
فقلل في عيني عظم جموعهـم عزيمة قلب فيه ما جل يصغر
بمعترك فيه المنـايا جـواسـر ونار الوغى بالمشرفية تسعـر
صفحة : 1145
فما صنت وجهي عن ظبات سيوفهـم ولا انحزت عنهم والقنا تـتـكـسـر
ولم أك في حر الكريهة محـجـمـا إذا لم يكن في الحرب للورد مصـدر
إذا ساعد الطرف الفتـى وجـنـانـه وأسمر خطـي وأبـيض مـبـتـر
فذاك، وإن كان الكريم بـنـفـسـه ، إذا اصطكت الأبطال في النقع عسكر
منعتـهـم مـن أن ينـالـوا قـلامة وكنت شجاهم والأسـنة تـقـطـر
وتلك سجـايانـا قـديمـا وحـادثـا بها عرف الماضي وعز المـؤخـر
أبت لي قروم أنجـبـتـنـي أن أرى وإن جل خطب خاشعا أتـضـجـر
أولئك آل اللـه فـهـر بـن مـالـك بهم يجبر العظم الكسـير ويكـسـر
هم المنكب العالي على كل منـكـب سيوفهم تفني وتغـنـي وتـفـقـر قال إن أباه حبسه في الكتاب وهو صبي فكتب إلى أمه شعرا فكذبه إبراهيم بن المدبر: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق والحسن بن علي قالا جميعا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عيسى بن أبي حرب قال حدثني علي بن الجهم قال: حبسني أبي في الكتاب، فكتبت إلى أمي:
يا أمتـا أفـديك مـن أم أشكو إليك فظاظة الجهم
قد سرح الصبيان كلـهـم وبقيت محصورا بلا جرم قال: وهو أول شعر قلته وبعثت به إلى أمي؛ فأرسلت إلى أبي: والله لئن لم تطلقه لأخرجن حاسرة حتى أطلقه. قال عيسى فحدثت بهذا الخبر إبراهيم بن المدبر فقال: علي بن الجهم كذاب، وما يمنعه من أن يكون ولد هذا الحديث وقال هذا الشعر وله ستون سنة، ثم حدثكم أنه قاله وهو صغير، ليرفع من شأن نفسه .
مدح أحمد بن أبي داود وكان منحرفا عنه ليشفع له في حبسه فقعد عنه فهجاه وشمت به بعد أن نفاه المتوكل: أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: كان أحمد بن أبي داود منحرفا عن علي بن الجهم لاعتقاده مذهب الحشوية . فلما حبس علي بن الجهم مدح أحمد بن أبي داود عدة مدائح، وسأله أن يقوم بأمره ويشفع فيه، فلم يفعل وقعد عنه. فمنها قوله:
يا أحمد بن أبـي داود إنـمـا تدعى لكل عظيمة يا أحـمـد
أبلغ أمير المؤمـنـين ودونـه خوض الردى ومخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبـي مـحـمـد أولى بما شرع النبي محـمـد وهذه الأبيات من قصيدته التي أولها:
قالت حبست فقلت ليس بضائري فلما نفى المتوكل أحمد بن أبي داود شمت به علي بن الجهم وهجاه فقال:
يا أحمد بـن أبـي داود دعـوة بعثت إليك جـنـادلا وحـديدا
ما هذه البدع التي سمـيتـهـا بالجهل منك العدل والتوحـيدا
أفسدت أمر الدين حين ولـيتـه ورميته بأبي الـولـيد ولـيدا
لا محكما جزلا ، ولا مستطرفا كهلا، ولا مستحدثا معـمـودا
شرها، إذا ذكر المكارم والعلا ذكر القلايا مبـدئا ومـعـيدا
ويود لو مسخت ربيعة كلـهـا وبنـو إياد صـحـفة وثـريدا
وإذا تربع في المجالس خلتـه ضبعا وخلت بني أبيه قـرودا
وإذا تبسم ضاحكا شـبـهـتـه شرقا تعجل شربـه مـردودا
لا أصبحت بالخير عين أبصرت تلك المناخر والثنايا الـسـودا كتب من حبسه شعرا لطاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين: أخبرني عمي قال حدثنا محمد قال: كتب علي بن الجهم إلى طاهر من الحبس :
إن كان لي ذنب فلي حرمة والحق لا يدفعه الباطـل
وحرمتي أعظم من زلتـي لو نالني من عدلكم نـائل
ولي حقوق غير مجهـولة يعرفها العاقل والجاهـل
وكل إنسان لـه مـذهـب وأهل ما يفعله الفـاعـل
وسيرة الأملاك منـقـولة لا جائر يخفى ولا عـادل
وقد تعجلت الذي خفـتـه منك ولم يأت الذي آمـل شعره في مقين كان ينزل عنده في جماعة بالكرخ: حدثني عمي قال حدثنا محمد قال:
صفحة : 1146
كان علي بن الجهم يعاشر جماعة من فتيان بغداد لما أطلق من حبسه ورد من النفي، وكانوا يتقاينون ببغداد، ويلزمون منزل مقين بالكرخ يقال له المفضل. فقال فيه علي بن الجهم:
نزلنا بباب الكرخ أطـيب مـنـزل على محسنات من قيان المفضـل
فلآبن سريج والغريض ومـعـبـد بدائع في أسماعـنـا لـم تـبـدل
أوانس ما للضيف منهن حـشـمة ولا ربهن بالجلـيل الـمـبـجـل
يسر إذا ما للضـيف قـل حـياؤه ويغفل عنه وهو غير مـغـفـل
ويكثر من ذم الـوقـار وأهـلـه إذا الضيف لم يأنس ولـم يتـبـذل
ولا يدفع الأيدي الـمـريبة غـيرة إذا نال حظا من لبوس ومـأكـل
ويطرق إطراق الشجـاع مـهـابة ليطلق طرف الناظر المـتـأمـل
أشر بيد واغمز بطرف ولا تخـف رقيبا إذا ما كنت غير مـبـخـل
وأعرض عن المصباح والهج بمثله فإن خمد المصباح فـادن وقـبـل
وسل غير ممنوع وقل غير مسكت ونم غير مذعور وقم غير معجـل
لك البيت ما دامت هـداياك جـمة وكنت مليا بالنبـيذ الـمـعـسـل
فبادر بأيام الـشـبـاب فـإنـهـا تقضى وتفنى والغواية تنـجـلـي
ودع عنك قول الناس أتلف مـالـه فلان فأضحى مدبرا غير مقـبـل
هل الدهر إلا ليلة طرحـت بـنـا أواخرها في يوم لهو مـعـجـل
سقى الله باب الكرخ من متـنـزه إلى قصر وضاح فبـركة زلـزل
مساحب أذيال القيان ومـسـرح ال حسان ومثوى كل خرق مـعـذل
لو أن امرأ القيس بن حجر يحلهـا لأقصر عن ذكر الدخول وحومـل
إذا لرأى أن يمنـح الـود شـادنـا مقصر أذيال القبا غير مـسـبـل
إذا اليل أدنى مضجعي منه لم يقـل عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل أنشد إبراهيم بن المدبر شعرا لنفسه فكذبه وقال إن الشعر لإبراهيم بن العباس: حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال أنشدني علي بن الجهم لنفسه:
وإذا جزى الله أمرأ بفعالـه فجزى أخا لي ماجدا سمحا
ناديته عن كربة فكأنـمـا أطلعت عن ليل به صبحا فقلت له: ويلك هذا لإبراهيم بن العباس يقوله في محمد بن عبد الملك الزيات فجحدني وكابر. فدخل يوما علي بن الجهم إلى إبراهيم بن العباس وأنا عنده. فلما رآني قال: اجتمع الإبراهيمان. فتركته ساعة ثم أنشدت البيتين، وقلت لإبراهيم بن العباس: إن هذا يزعم أن هذين البيتين له. فقال: كذب، هذان لي في محمد ابن عبد الملك بن الزيات. فقال له علي بن الجهم بقحة: ألم أنهك أن تنتحل شعري فغضب إبراهيم وجعل يقول له بيده: سوءة عليك سوءة لك ما أوقحك وهو لا ينكر في ذلك ولا يخجل. ثم التقينا بعد مدة فقال: أرأيت كيف أخزيت إبراهيم بن العباس فجعلت أعجب من صلابة وجهه.
شعر له في الفراق: حدثني عمي قال أنشدنا محمد بن سعد لعلي بن الجهم وفيه غناء:
اعلمي يا أحـب شـيء إلـيا أن شوقي إليك قاض عـلـيا
إن قضى الله لي رجوعا إليكم لا ذكرت الفراق ما دمت حيا
إن حر الفراق أنحل جسمـي وكوى القلب منك بالشوق كيا كان محمد بن عبد الملك الزيات منحرفا عنه ويسبعه عند الخليفة فهجاه: حدثني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: كان محمد بن عبد الملك الزيات منحرفا عن علي بن الجهم وكان يسبعه عند الخليفة ويعيبه ويذكره بكل قبيح. فقال فيه علي بن الجهم:
لعائن اللـه مـتـابـعـات مصبحات ومـهـجـرات
على ابن عبد الملك الـزيات عرض شمل الملك للشتات
وأنفذ الأحـكـام جـائرات على كتـاب الـلـه ذاريات
وعن عقول الناس خارجات يرمي الدواوين بتوقيعـات
معقدات كرقـى الـحـيات سبحان من جل عن الصفات
صفحة : 1147
بعد ركوب الطوف في الفرات وبعد بيع الزيت بالـحـبـات
صرت وزيرا شامخ الثـبـات هارون يا ابن سيد السـادات
أما ترى الأمور مـهـمـلات تشكو إليك عـدم الـكـفـاة
فعاجل العلج بـمـرهـفـات من بعد ألف صخب الأصوات
بمثمـرات غـير مـورقـات ترى بمتنـيه مـرصـفـات
ترصف الأسنان في اللثـات استرفد عمر بن الفرج فلم يرفده ثم قبض على عمر فشمت وقال شعرا: أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد قال: كان علي بن الجهم سأل عمر بن الفرج الرخجي معاونته، واسترفده في نكبته فلم يعاونه ولم يرفده، ثم قبض على عمر بن الفرج وأسلم إلى نجاح ليصادره. فقال علي بن الجهم له:
أبلغ نجاحا فتى الفتـيان مـألـكة تمضي بها الريح إصدارا وإيرادا
لن يخرج المال عفوا من يدي عمر أو يغمد السيف في فوديه إغمـادا
الرخجيون لا يوفون مـا وعـدوا والرخجيات لا يخلفـن مـيعـادا قال وقال في عمر بن الفرج أيضا:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما تيه الملوك وأفعال الممـالـيك
أردت شكرا بلا بـر ومـرزئة لقد سلكت طريقا غير مسلـوك
ظننت عرضك لا يرمى بقارعة وما أراك على حال بمتـروك تمثل بشعره نديم لسليمان بن وهب وكان عربد عليه وأغضبه فرضي عنه: أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن الحسن بن رجاء عن أبيه قال: كان لسليمان بن وهب نديم يأنس به ويألفه، فعربد عليه ليلة من الليالي عربدة قبيحة، فاطرحه وجفاه مدة. فوقف له على الطريق. فلما مر به وثب إليه فقال له: أيها الوزير، ألا تكون في أمري كما قال علي بن الجهم:
القوم إخوان صدق بينهم نسـب من المودة لم يعدل بها نسـب
تراضعوا درة الصهباء بينـهـم فأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا تحفظن على السكران زلتـه ولا تريبنك من أخلاقـه ريب فقال له سليمان: قد رضيت عنك رضا صحيحا، فعد إلى ما كنت عليه من ملازمتي.
وأول هذه الأبيات:
الورد يضحك والأوتار تصطخـب والناي يندب أشجانا وينـتـحـب
والراح تعرض في نور الربيع كما تجلى العروس عليها الدر والذهب
واللهو يلحق مغبوقا بمصـطـبـح والدور سيان محثوث ومنتـخـب
وكلما انسكبت في الـكـأس آونة أقسمت أن شعاع الشمس ينسكـب أنشد عبد الله بن طاهر شعرا وكان مغتما فسرى عنه: أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثني أسلم مولى عبد الله بن طاهر قال: دخل علي بن الجهم يوما على عبد الله بن طاهر في غدوة من غدوات الربيع وفي السماء غيم رقيق والمطر يجيء قليلا ويسكن قليلا، وقد كان عبد الله عزم على الصبوح. فغاضبته حظية له، فتنغص عليه عزمه وفتر. فخبر علي بن الجهم بالخبر وقيل له: قل في هذا المعنى شيئا، لعله ينشط للصبوح. فدخل عليه فأنشده: صوت
أما ترى اليوم ما أحـلـى شـمـائلـه صحـو وغـيم وإبـراق وإرعـــاد
كأنـه أنـت يا مـن لا شـبـيه لــه وصل وهجـر وتـقـريب وإبـعـاد
فباكر الراح واشـربـهـا مـعـتـقة لم يدخر مثلـهـا كـسـرى ولا عـاد
واشرب على الروض إذ لاحت زخارفه زهـــر ونـــور وأوراق وأوراد
كأنما يومنا فـعـل الـحـبـيب بـنـا بذل وبـخـل وإيعـاد ومـيعـــاد
وليس يذهب عنـي كـل فـعـلـكـم غي ورشـد وإصـلاح وإفـســـاد فاستحسن الأبيات وأمر له بثلثمائة دينار؛ وحمله وخلع عليه، وأمر بأن يغنى في الأبيات. الغناء لبذل الطاهرية، خفيف رمل. وفيه لغيرها هزج.
جلس في المقابر بعد خروجه من السجن
حدثني عمي قال حدثني محمد بن سعد قال حدثني رجل من أهل خراسان قال: رأيت علي بن الجهم بعدما أطلق من حبسه جالسا في المقابر؛ فقلت له: ويحك ما يجلسك ها هنا? فقال:
يشتاق كل غريب عند غربتـه ويذكر الأهل والجيران والوطنا
صفحة : 1148
وليس لي وطن أمسيت أذكـره إلا المقابر إذ صارت لهم وطنا شعر له وفيه غناء: حدثني عمي قال أنشدنا أحمد بن عبيد ومحمد بن سعد لعلي بن الجهم وفيه غناء: صوت
لو تنصلـت إلـينـا لوهبنا لك ذنـبـك
بأبي ما أبغض العي ش إذا فارقت قربك
ليتني أملك قلـبـي مثل ما تملك قلبـك
أيها الواثق بـالـلـه لقد ناصحت ربـك
ما رأى الناس إماما أنهب الأموال نهبك
أصبحت حجتك العل يا وحزب الله حزبك الغناء لعريب رمل. وفيه لغيرها هزج.
مدح أبا أحمد بن الرشيد فلم يعطه شيئا فهجاه: حدثني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: كان علي بن الجهم قد مدح أبا أحمد بن الرشيد فلم يعطه شيئا، فقال يهجوه:
يا أبـا أحـمـد لا ين جي من الشعر الفرار
لبني العـبـاس أحـلا م عـظـام ووقـار
ولهم في الحرب إقـدا م ورأي واصطبـار
ولهـم ألـسـنة تـب ري كما تبري الشفار
ووجوه كنجوم الـلـي ل تهدي مـن يحـار
ونسيم كنـسـيم الـرو ض جادته القـطـار
ولعطفيك عن الـمـج د شمـاس وازورار
إن تكن منهم بـلا ش ك فللـعـود قـتـار رثى عبد الله بن طاهر بشعر وأنشده ابنه يعزيه: حدثني جحظة وعمي قالا حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: دخل إلينا علي بن الجهم بعقب موت أبي والمجلس حافل بالمعزين، فمثل قائما وأنشدنا يرثيه:
أي ركن وهى مـن الإسـلام أي يوم أخنـى عـلـى الأيام
جل رزء الأمير عن كل رزء أدركته خـواطـر الأوهـام
سلبتنـا الأيام ظـلا ظـلـيلا وأباحت حمى عزيز المـرام
يا بني مصعب حللتم من النـا س محل الأرواح في الأجسام
فإذا رابكم من الـدهـر ريب عم ما خصكم جمـيع الأنـام
انظروا هل ترون إلا دموعـا شاهدات على قلوب دوامـي
من يداوي الدنيا ومن يكلأ المل ك لدى فادح الخطوب العظام
نحن متنا بمـوتـه واجـل ال خطب موت السادات والأعلام
لم يمت والأمير طاهـر حـي دائم الإنـتـقـام والإنـعـام
وهو من بعده نظام المعـالـي وقوام الدنيا وسـيف الإمـام قال: فما أذكر أني بكيت أو رأيت في دورنا باكيا أكثر من يومئذ.
غنت عريب المعتز بشعر له فطرب وفرق مالا: حدثني عمي قال حدثنا أبو الدهقانة النديم قال: دخلنا يوما إلى المعتز وهو مصطبح على صوت اختاره واقترحه على عريب، وأظن الصنعة لها، فلم يزل يشرب عليه بقية يومه، فلما سكر أمر لها بثلاثين ألف درهم، وفرق على الجلساء كلهم الجوائز والطيب والخلع. والصوت:
العين بعدك لم تنظر إلى حـسـن والنفس بعدك لم تسكن إلى سكن
كأن نفسي إذا ما غـبـت غـائبة حتى إذا عدت لي عادت إلى بدني والشعر لعلي بن الجهم.
خرج مع عبد الله بن طاهر للصيد وشربوا فقال شعرا يصف ذلك: حدثني جحظة ومحمد بن خلف ووكيع وعمي قالوا جميعا حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: لما أطلق أبي طاهر علي بن الجهم من الحبس أقام معه بالشاذياخ مدة. فخرجوا يوما إلى الصيد، واتفق لهم مرج كثير الطير والوحش، وكانت أيام الزعفران، فاصطادوا صيدا كثيرا حسنا، وأقاموا يشربون على الزعفران. فقال علي بن الجهم يصف ذلك:
وطئنا رياض الزعفران وأمسكـت علينا البزاة البيض حمر الدرارج
ولم تحمها الأدغال مـنـا وإنـمـا أبحنا حماها بالكلاب الـنـوابـج
بمستروحات سابحات بطـونـهـا على الأرض أمثال السهام الزوالج
ومستشرفات بالهـوادي كـأنـهـا وما عقفت منها رؤوس الصوالج
صفحة : 1149
ومن دالعات ألسنـا فـكـأنـهـا لحى من رجال خاضعين كواسـج
فلينا بها الغيطان فلـيا كـأنـهـا أنامل إحدى الغانيات الـحـوالـج
فقل لبغاة الصيد هل من مفـاخـر بصيد وهل من واصف أو مخارج
قرنا بزاة بالصقـور وحـومـت شواهيننا من بعد صيد الزمـامـج كتب من حبسه إلى المتوكل شعرا: حدثني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: كتب علي بن الجهم إلى المتوكل وهو محبوس: صوت
أقلني أقالـك مـن لـم يزل يقيك ويصرف عنك الردى
ويغذوك بالنعم السـابـغـات ولـيدا وذا مـيعة أمــردا
وتجري مقـاديره بـالـذي تحب إلى أن بلغت المـدى
ويعليك حتى لو ان السمـاء تنال لجاوزتها مـصـعـدا
فما بين ربك جـل اسـمـه وبينك إلا نـبـي الـهـدى
فشـكـرا لأنـعـمـه إنـه إذا شكرت نـعـمة جـددا
وعفوك من مذنب خـاضـع قرنت المقيم به المقـعـدا
إذا ادرع الليل أفضـى بـه إلى الصبح من قبل أن يرقدا
عفا الله عـنـك ألا حـرمة تعوذ بفضلـك أن أبـعـدا
لئن جل ذنب ولم أعـتـمـد لأنـت أجـل وأعـلـى يدا
ألم تر عبـدا عـدا طـوره ومولى عفا ورشيدا هـدى
ومفسـد أمـر تـلافـيتـه فعاد فأصلح مـا أفـسـدا
فلا عدت أعصيك فيما أمـر ت حتى أزور الثرى ملحدا
وإلا فخالفت رب السـمـاء وخنت الصديق وعفت الندى
وكنت كعزون أو كابن عمرو مبيح العيال لـمـن أولـدا
يكثر في البيت صـبـيانـه يغيظ بهم معشـرا جـسـدا شمت بأحمد بن أبي داود حين فلج وقال شعرا يهجوه: حدثني عمي قال حدثنا محمد بن سعد قال: لما فلج ابن أبي داود شمت به علي بن الجهم وأظهر ذلك له وقال فيه:
لم يبق منك سوى خيالك لامعـا فوق الفراش ممهدا بـوسـاد
فرحت بمصرعك البرية كلهـا من كان منهم موقنا بـمـعـاد
كم مجلس لله قد عـطـلـتـه كي لا يحدث فيه بـالإسـنـاد
ولكم مصابيح لنا أطـفـأتـهـا حتى يزول عن الطريق الهادي
ولكم كريمة معشر أرملتـهـا ومحدث أوثقـت فـي الأقـياد
إن الأسارى في السجون تفرجوا لما أتتك مـواكـب الـعـواد
وغدا لمصرعك الطبيب فلم يجد شيئا لدائك حـيلة الـمـرتـاد
فذق الهوان معجلا ومـؤجـلا والله رب العرش بالمـرصـاد
لا زال فالجك الذي بـك دائبـا وفجعت قبل المـوت بـالأولاد شعر له غنت فيه عريب: أنشدني عمي لابن الجهم وفيه غناء لعريب:
نطق الهوى بجوى هو الحق وملكتني فليهـنـك الـرق
رفقا بقلـبـي يا مـعـذبـه رفقا وليس لظـالـم رفـق
وإذا رأيتك لا تكـلـمـنـي ضاقت علي الأرض والأفق وأنشدني له وفيه غناء أيضا، ويقال إنه آخر شعر قاله:
يا رحمة للغريب بالبلد الن ازح ماذا بنفسه صنعـا
فارق أحبابه فما انتفعـوا بالعيش بعده وما انتفعـا هجا مغنيا بشعر: وقال لمغن حضر معه مجلسا وكان غير طيب:
كنت في مجلس فقال مغني ال قوم كم بيننا وبين الـشـتـاء
فذرعت البساط مـنـي إلـيه قلت هذا المقدار قبل الغنـاء
فإذا ما عزمت أن تتـغـنـى آذن الحر كله بانـقـضـاء استشفع بقبيحة إلى المتوكل وهو في حبسه فأرسلت إليه ابنها المعتز: أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني عبد الله بن المعتز قال: لما حبس أمير المؤمنين المتوكل علي بن الجهم، وأجمع الجلساء على عداوته وإبلاغ الخليفة عنه كل مكروه ووصفهم مساويه، قال هذه القصيدة يمدحه ويذكره حقوقه عليه، وهي:
عفا الله عنك ألا حرمة تعوذ بعفوك أن أبعدا
صفحة : 1150
ووجه بها إلى بيدون الخادم، فدخل بها إلى قبيحة وقال لها: إن علي بن الجهم قد لاذ بك وليس له ناصر سواك، وقد قصده هؤلاء الندماء والكتاب لأنه رجل من أهل السنة وهم روافض، فقد اجتمعوا على الإغراء بقتله. فدعت المعتز وقالت له: اذهب بهذه الرقعة يا بني إلى سيدك وأوصلها إليه، فجاء بها ووقف بين يدي أبيه. فقال له: ما معك فديتك? فدنا منه وقال: هذه رقعة دفعتها إلي أمي. فقرأها المتوكل وضحك. ثم أقبل عليهم فقال: أصبح أبو عبد الله - فديته -خصمكم. هذه رقعة علي بن الجهم يستقيل ، وأبو عبد الله شفيعه، وهو ممن لا يرد، وقرأها عليهم. فلما بلغ إلى قوله:
فلا عدت أعصيك فيما أمرت إلى أن أحل الثرى ملحـدا
وإلا فخالفت رب السـمـاء وخنت الصديق وعفت الندى
وكنت كعزون أو كابن عمرو مبيح العيال لـمـن أولـدا وثب ابن حمدون وقال للمعتز: يا سيدي فمن دفع هذه الرقعة إلى السيدة? قال بيدون الخادم: أنا. فقالوا له: أحسنت. تعادينا وتوصل رقعة عدونا في هجائنا فانصرف بيدون وقام المعتز فانصرف. واستلب ابن حمدون قوله:
وكنت كعزون أو كابن عمرو مبيح العيال لـمـن أولـدا فجعل ينشدهم إياه وهم يشتمون ابن حمدون ويضجون والمتوكل يضحك ويصفق ويشرب حتى سكر ونام، وسرقوا قصيدته من بين يدي المتوكل وانصرفوا، ولم يوقع بإطلاقه ونسيه. فقالوا لابن حمدون: ويلك تعيد هجاءنا وشتمنا فقال: يا حمقى والله لو لم أفعل ذلك فيضحك ويشرب حتى يسكر وينام لوقع في إطلاقه ووقعنا معه في كل ما نكره.
هنأ المتوكل بفتح أرمينية: أخبرني علي بن الحسين قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني أحمد بن حمدون قال: لما افتتحت أرمينية وقتل إسحاق بن إسماعيل دخل علي بن الجهم فأنشد المتوكل قصيدته التي يهنيه فيها بالفتح ويمدحه، فقال فيها وأومأ بيده إلى الرسول الوارد بالفتح وبرأس إسحاق بن إسماعيل:
أهلا وسهلا بك من رسول جئت بما يشفي من الغليل
بجملة تغني عن التفصـيل برأس إسحاق بن إسماعيل
قهرا بلا ختل ولا تطويل فاستحسن جميع من حضر ارتجاله هذا وابتداءه، وأمر له المتوكل بثلاثين ألف درهم، وتمم القصيدة. وفيها يقول:
جاوز نهر الكر بـالـخـيول تردي بفتيان كأسـد الـغـيل
معودات طـلـب الـذحـول خزر العيون طيبي النصـول
شعث على شعث من الفحول جيش يلف الحزن بالسهـول
كأنه مـعـتـلـج الـسـيول يسوسه كهل من الكـهـول
لا ينثني للصعـب والـذلـول على أغر واضح الحـجـول
حتى إذا أصحر للمـخـذول ناجزه بـصـارم صـقـيل
ضربا طلحفا ليس بالقـلـيل ومنجنيق مثل حلق الـفـيل
ترفض عن خرطومه الطويل صواعق من حجر السجـيل
تترك كيد القوم في تضـلـيل ما كان إلا مثل رجع القـيل
حتى انجلت عن حزبه المفلول وعن نساء حـسـر ذهـول
صوارخ يعثرون في الـذيول ثواكل الأولاد والـبـعـول
لا والذي يعرف الـعـقـول من غير تحديد ولا تمـثـيل
ما قام للـه ولا لـلـرسـول بالدين والدنيا وبالـتـنـزيل
خليفة كجعفر الـمـأمـول مدح المتوكل بقصيدة وأرسلها من حبسه مع علي بن يحيى: أخبرني علي بن العباس قال حدثني محمد بن عبد السلام قال: رأيت مع علي بن يحيى المنجم قصيدة علي بن الجهم يمدح المتوكل ويصف الهاروني ، فقلت له: يا أبا الحسن، ما هذه القصيدة معك? فضحك وقال: قصيدة لعلي بن الجهم سألني عرضها على أمير المؤمنين فعرضتها. فلما سمع قوله:
وقـبة مـلـك كـأن الـنـجـو م تصغي إليهـا بـأسـرارهـا
تخر الـوفـود لـهـا سـجـدا إذا ما تجـلـت لأبـصـارهـا
وفوارة ثأرها فـي الـسـمـاء فليست تقصـر عـن ثـارهـا
ترد على المـزن مـا أنـزلـت إلى الأرض من صوب مدرارها تهلل وجهه واستحسنها. فلما انتهيت إلى قوله:
صفحة : 1151
تبوأت بعدك قعر السجون وقد كنت أرثي لزوارها غضب وتربد وجهه وقال: هذا بما كسبت يداه، ولم يسمع تمام القصيدة.
شاع مذهبه وشره فسافر لحلب فقتل في الطريق وقال شعرا قبل موته: أخبرني علي بن العباس قال حدثني الحسين بن موسى قال: لما شاع في الناس مذهب علي بن الجهم وشره وذكره كل أحد بسوء من صديقه وعدوه تحاماه الناس، فخرج عن بغداد إلى الشام، فاتفقنا إلى قافلة إلى حلب. وخرج علينا نفر من الأعراب، فتسرع إليهم قوم من المقاتلة، وخرج فيهم فقاتل قتالا شديدا وهزم الأعراب. فلما كان من غد خرج علينا منهم خلق كثير، فتسرعت إليهم المقاتلة وخرج فيهم فأصابته طعنة قتلته، فجئنا به واحتملناه وهو ينزف دمه. فلما رآني بكى وجعل يوصيني بما يريد. فقلت له: ليس عليك بأس. فلما أمسينا قلق قلقا شديدا وأحس بالموت، فجعل يقول:
أزيد في الليل لـيل أم سال بالصبح سيل
ذكرت أهل دجـيل وأين منـي دجـيل فأبكى كل من كان في القافلة، ومات مع السحر، فدفن في ذلك المنزل على مرحلة من حلب.
ومن صنعة أبي عيسى بن المتوكل صوت
إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوا عني ففيهم مباحـث
وإن حفروا بئري حفرت بئارهم فسوف ترى ماذا تثير النبـائث الشعر لأبي دلامة. والغناء لأبي عيسى بن المتوكل، ولحنه ثقيل أول عن المعتز.
أخبار أبي دلامة ونسبه
نسبه وهو مولى لبني أسد وكان فاسد الدين متهتكا: أبو دلامة زند بن الجون. وأكثر الناس يصحف اسمه فيقول زيد بالياء، وذلك خطأ، وهو زند بالنون، وهو كوفي أسود، مولى لبني أسد. كان أبوه عبدا لرجل منهم يقال لع فضافض فأعتقه. وأدرك آخر أيام بني أمية، ولم يكن له في أيامهم نباهة، ونبغ في أيام بني العباس، وانقطع إلى أبي عباس وأبي جعفر المنصور والمهدي، فكانوا يقدمونه ويصلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره. وقد كان انقطع إلى روح بن حاتم المهلبي أيضا في بعض أيامه. ولم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة من المنصور خاصة. وكان فاسد الدين، رديء المذهب، مرتكبا للمحارم، مضيعا للفروض، مجاهرا بذلك، وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محله.
أول شعر عرف به: وكان أول ما حفظ من شعره وأسنيت الجوائز له به قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور وذكر قتله أبا مسلم. فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن داود بن الجراح عن محمد بن القاسم عن أحمد بن حبيب قال: لما قال أبو دلامة قصيدته في قتل أبي مسلم التي يقول فيها:
أبا مسلم خوفتني القتل فاتنحى عليك بما خوفتني الأسد الورد
أبا مسلم ما غير الله نـعـمة على عبده حتى يغيرها العبد أنشدها المنصور في محفل من الناس، فقال له: احتكم. قال: عشرة آلاف درهم. فأمر له بها. فلما خلا به قال له: إيه أما والله لو تعديتها لقتلتك.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن مسلم عن أبيه: سمى لي أبو دلامة نفسه زندا بالنون ابن الجون. وأسلم مولاه فضافض. وله أيضا شعر، وكان في الصحابة.
أعفاه المنصور من لبس السواد والقلانس دون الناس: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن الحسين المهلبي قال: كان أبو جعفر المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعقلوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي. فقال له أبو جعفر: ما حالك? قال: شر حال، وجهي في نصفي، وسيفي في استي، وكتاب الله في وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي، فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له: إيالك أن يسمع هذا منك أحد .
ونسخت من كتاب لابن النطاح فذكر مثل هذه القصة سواء وزاد فيها:
وكنا نرجي مـن إمـام زيادة فجاد بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها دنان يهود جللت بالبـرانـس فضحك منه وأعفاه.
طلب من المنصور أو السفاح، كلب صيد ثم تدرج في الطلب إلى أشياء كثيرة:
صفحة : 1152
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثني الجاحظ قال: كان أبو دلامة بين يدي المنصور واقفا - وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة أنه كان واقفا بين يدي السفاح - فقال له: سلني حاجتك. قال أبو دلامة: كلب أتصيد به. قال له: أعطوه إياه. قال: ودابة أتصيد عليها. قال: أعطوه. قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده. قال: أعطوه غلاما. قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك فلا بد لهم من دار يسكنونها. فقال: أعطوه دارا تجمعهم. قال: فإن لم تكن ضيعة فمن أين يعيشون قال:قد أعطيتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة. قال: ما لا نبات فيه. قال: قد أقطعتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني لأسد. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة. قال: فأذن لي أن أقبل يدك. قال: أما هذه فدعها. قال: والله ما منعت عيالي شيئا أقل ضررا عليهم منها. قال الجاحظ: فانظر إلى حذقه بالمسألة ولطفه فيها: إبتدأ بكلب فسهل القصة به، وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة، حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل إليه.
كنى باسم جبل بمكة: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني السكري عن محمد بن حبيب قال: اسم أبي دلامة زند بالنون، ومن الناس من يرويه بالياء، وكني أبو دلامة باسم جبل بمكة يقال له أبو دلامة، كانت قريش تئد فيه البنات في الجاهلية؛ وهو بأعلى مكة.
أنشد المنصور شعرا فأجازه: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة، وأخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم قال: دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
إن الخليط أجد البين فانتجـعـوا وزودوك خبالا بئس ما صنعـوا
والله يعلم أن كادت لـبـينـهـم يوم الفراق حصاة القلب تنصدع
عجبت من صبيتي يوما وأمهـم أم الدلامة لما هاجها الـجـزع
لا بارك الله فيها من مـنـبـهة هبت تلوم عيالي بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهو الألوان أوجهـنـا سود قباح وفي أسمائنا شـنـع
إذا تشكت إلي الجوع قلت لهـا ما هاج جوعك إلا الري والشبع - ويروى وهو الجيد:
أذابك الجوع مذ صارت عيالتنـا على الخليفة منه الري والشبـع
لا والذي يا أمير المؤمنين قضـى لك الخلافة في أسبابها الـرفـع
مازلت أخلصها كسبي فتأكـلـه دوني ودون عيالي ثم تضطجـع
شوهاء مشنأة في بطنها ثـجـل وفي المفاصل من أوصالها فدع
ذكرتها بكتاب الله حـرمـتـنـا ولم تكن بكتاب الله تـنـتـفـع
فاخرنطمت ثم قالت وهي مغضبة أأنت تتلو كتاب اللـه يا لـكـع
اخرج لتبغ لنا مـالا ومـزرعة كما لجيراننـا مـال ومـزدرع
واخدع خليفتنا عنهـا بـمـسـألة إن الخليفة للـسـؤال ينـخـدع فضحك أبو جعفر وقال: أرضوها عني واكتبوا له بمائتي جريب عامرة ومائتي جريب غامرة - وقال الهيثم: بستمائة جريب عامرة وغامرة - فقال له: أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وإن شئت زدتك. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة.
شهد عند ابن أبي ليلى لجارة له وقال شعرا فأمضى ابن أبي ليلى شهادته: حدثني محمد بن أحمد بن الطلاس قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: شهد أبو دلامة بشهادة لجارة له عند ابن أبي ليلى على أتان نازعها فيها رجل. فلما فرغ من الشهادة. قال : اسمع ما قلت فيك قبل أن آتيك ثم اقض ما شئت. قال: هات؛ فأنشده:
إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوا عني ففيهم مباحـث
وإن حفروا بئري حفرت بئارهم ليعلم يوما كيف تلك النـبـائث
صفحة : 1153
ثم أقبل على المرأة فقال: أتبيعينني الأتان? قالت نعم. قال: بكم? قالت: بمائة درهم. قال ادفعوها إليها ففعلوا. وأقبل على الرجل فقال: قد وهبتها لك، وقال لأبي دلامة: قد أمضيت شهادتك ولم أبحث عنك، وابتعت ممن شهدت له، ووهبت ملكي لمن رأيت. أرضيت? قال نعم، وانصرف.
شرب مع السيد الحميري أو أبي عطاء السندي فذم ابنته وأخبر المنصور فأكرمه: أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا محمد بن سلام عن علي بن إسماعيل قال: كنت أسقي أبا دلامة والسيد، إذ خرجت بنت لأبي دلامة ، فقال فيها أبو دلامة:
فما ولدتك مريم أم عيسى ولا رباك لقمان الحكيم أجزيا أبا هاشم. فقال السيد :
ولكن قد تضمك أم سوء إلى لباتهـا وأب لـئيم فضحك لذلك. ثم غدا أبو دلامة إلى المنصور فألفاه في الرحبة يصلح فيها شيئا يريده، فأخبره بقصة بنته وأنشده البيتين، ثم اندفع فأنشده بعدهما:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم لقيل اقعـدوا يا آل عـبـاس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكـم إلى السماء فأنتم أظهر الـنـاس
وقدموا القائم المنصور رأسـكـم فالعين والأنف والأذنان في الرأس فاستحسنها وقال له: بأي شيء تحب أن أعينك على قبح ابنتك هذه? فأخرج خريطة قد كان خاطها من الليل فقال: تملأ لي هذه دراهم ،فملئت فوسعت أربعة آلاف درهم.
وقد أخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: دخل أبو عطاء السندي يوما إلى أبي دلامة فاحتبسه عنده، ودعا بطعام فأكلا وشبعا، وخرجت إلى أبي دلامة صبية له فحملها على كتفه، فبالت عليه فنبذها عن كتفه، ثم قال:
بللت علي لا حييت ثوبيفبال عليك شيطان رجيم
فما ولدتك مريم أم عيسى ولا ربـاك لـقـمـان الـــحـــكـــيم ثم التفت إلى أبي عطاء فقال له: أجز. فقال:
صدقت أبا دلامة لم تلدها مطهرة ولا فحل كريم
ولكن قد حوتها أم سـوء إلى لباتهـا وأب لـئيم فقال له أبو دلامة: عليك لعنة الله ما حملك على أن بلغت بي هذا كله والله لا أنازعك بيت شعر أبدا. فقال أبو عطاء: لأن يكون الهرب من جهتك أحب إلي.
رثى السفاح عند المنصور فغضب وأراد إخراجه إلى الحرب فاسترضاه: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني أبو مالك عبد الله بن محمد قال حدثني أبي قال: لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزونه؛ فأنشأ أبو دلامة يقول:
أمسيت بالأنبار يابن محـمـد لم تستطع عن عقرها تحويلا
ويلي عليك أهلـي كـلـهـم ويلا وعولا في الحياة طويلا
فلتبكين لك النساء بـعـبـرة وليبكين لك الرجـال عـويلا
مات الندى إذ مت يابن محمـد فجعلته لك في الثراء عـديلا
إني سألت الناس بعدك كلهـم فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتي أخرت بعدك للـتـي تدع العزيز من الرجال ذليلا
فلأحلفـن يمـين حـق بـرة بالله ما أعطيت بعدك سـولا
صفحة : 1154
قال فأبكى الناس قوله: فغضب المنصور غضبا شديدا وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرما وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بإخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين . فسري عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا? فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر. فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة ، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغيظ: يا سليمان ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية يعني عبد الله بن علي ، وقد كان خرج بناحية الشام، وأظهر الخلاف . فوثب أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، إني أعيذك بالله أن أخرج معهم، فوالله إني لمشؤوم. فقال المنصور: امض فإن يمني يغلب شؤمك فاخرج.
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أحب لك أن تجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر؛ فإني لا أدري أيهما يغلب: أيمنك أم شؤمي، إلا أني بنفسي أوثق وأعرف وأطول تجربة. قال: دعني من هذا فمالك من الخروج بد. فقال: إني أصدقك الآن، شهدت والله تسع عشر عسكرا كلها هزمت؛ وكنت سببها. فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك العشرين فافعل. فاستغرب أبو جعفر ضحكا، وأمره أن يتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة.
أغضب المنصور لكثرة مدحه السفاح: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: لما مات أبو العباس السفاح وولي المنصور، دخل عليه أبو دلامة، فقال له أبو جعفر: ألست القائل لأبي العباس:
وكنا بالخليفة قد عـقـدنـا لواء الأمر فانتقض اللواء
فنحن رعية هلكت ضياعا تسوق بنا إلى الفتن الرعاء قال: ما قلت هذا يا أمير المؤمنين. قال: كذبت والله أفلست القائل:
هلك الندى إذ بنت يابن محمد فجعلته لك في التراب عديلا
ولقد سألت الناس بعدك كلهـم فوجدت أكرم من سألت بخيلا
ولقد حلفت على يمـين بـرة بالله ما أعطيت بعدك سـولا فقال أبو دلامة: إن أخاك صلى الله عليه غلبني على صبري، وسلبني عزيمتي، وعزني بإحسانه إلي وجزعي عليه، فقلت ما لم أتأمله، وإني أرغب في الثمن فاستفره السلعة حيا وميتا. فإن أعطيت ما أعطى، أخذت ما أخذ. فأمر به فحبس ثلاثا ثم خلى سبيله ودعاه إليه فوصله، ثم عاد له إلى ما كان عليه.
أمره روح بن حاتم بمبارزة خارجى فخدعه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أبو أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثني دلامة قال: أتي بي المنصور أو المهدي وأنا سكران، فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة . فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثرا ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك، ولآخذنك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلي، ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع، قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك ،وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال: هات. فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى لتطاعن وتـنـازل وضـراب
فهب السيوف رأيتها مشهـورة فتركتها ومضيت في الهـراب
ماذا تقول لما يجيء ومـا يرى من واردات الموت في النشاب
صفحة : 1155
فقال: دع عنك هذا وستعلم. وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة. فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي. قال: والله لتخرجن. فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف، فلما رآني الشاري أقبل نحوي عليه فرو وقد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان، فأسرع إلي. فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت فوقف. فقلت: أتقتل من لا يقاتلك? قال: لا. قلت: أتقتل رجلا على دينك? قال: لا. قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك? قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله. قلت: لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعلم بين أهلي وأهلك وترا? قال: لا والله. قلت: ولا أنا والله لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أراده لك.
قال: يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف. قلت: إن معي زادا أحب أن آكله معك، وأحب مواكلتك لتتوكد المودة بيننا، ويرى أهل العسكر هوانهم علينا. فقال: فافعل. فتقدمت إليه حتى اختلف أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودعني. ثم قلت له: إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب. فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت. ثم انصرف وانصرفت. فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه. فقلت :
إني أدعوذ بروح أن يقـدمـنـي إلى البراز فتخزى بي بنو أسـد
إن البراز إلى الأقران أعلـمـه مما يفرق بين الروح والجـسـد
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لهـا وأصبحت لجميع الخلق بالرصـد
إن المهلب حب الموت أورثـكـم وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها لكنها خلقت فـردا فـلـم أجـد فضحك وأعفاني.
أمره مروان بن محمد بمبارزة خارجى ففر منه: أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال أبو دلامة: كنت في عسكر مروان أيام زحف إلى سنان الخارجي. فلما التقى الزحفان خرج منهم رجل فنادى: من يبارز فلم يخرج إليه أحد إلا أعجله ولم ينهنهه . فغاظ ذلك مروان وجعل يندب الناس على خمسمائة، فقتل أصحاب الخمسمائة، فزاد مروان وندبهم على ألف، ولم يزل يزيدهم حتى بلغ خمسة آلاف درهم. وكان تحتي فرس لا أخاف خونه؛ فلما سمعت بالخمسة آلاف ترقبته واقتحمت الصف. فلما نظرني الخارجي علم أني خرجت للطمع؛ فأقبل إلي متهيئا وإذا عليه فرو قد أصابه المطر فابتل، ثم أصابته الشمس فأقفعل، وإذا عيناه تقدان كأنهما من غورهما في وقبين . فلما دنا مني أنشأ يقول:
وخارج أخرجه حب الطـمـع فر من الموت وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجـع فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هاربا. وجعل مروان يقول: من هذا الفاضح? إيتوني به، فدخلت في غمار الناس فنجوت.
أعطاه موسى بن داود مالا ليحج معه فهرب إلى السواد وسكر بالمال: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن السعيد قال حدثنا الزبير قال حدثنا جعفر بن الحسين اللهبي قال: عزم موسى بن داود بن علي الهاشمي على الحج. فقال لأبي دلامة: احجج معي ولك عشرة آلاف درهم. فقال: هاتها؛ فدفعت إليه، فأخذها وهرب إلى السواد، فجعل ينفقها هناك ويشرب بها الخمر. فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشي فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجا من قرية إلى أخرى وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده وطرحه في محمل بين يديه ففعل ذلك به. فلما سار غير بعيد أقبل على موسى وناداه:
يأيها الناس قولوا أجمعون معـا صلى الإله على موسى بن داود
كأن ديباجتي خديه مـن ذهـب إذا بدا لك في أثوابه الـسـود
إني أعوذ بـداود وأعـظـمـه من أن أكلف حجا يا بـن داود
صفحة : 1156
خبرت أن طريق الحج معطشة من الشراب وما شربي بتصريد
والله ما في من أجر فتطلـبـه ولا الثناء على ديني بمحمـود فقال موسى: ألقوه لعنة الله على المحمل ودعوه ينصرف، فألقي وعاد إلى قصفه بالسواد، حتى نفدت العشرة آلاف درهم.
أمره المنصور بملازمة الجماعة في مسجد القصر فقال شعرا يستعفيه: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير عن الجعفر بن الحسين اللهبي، وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قالا : قال أبو أيوب المورياني لأبي جعفر وكان يشنأ أبا دلامة ،: إن أبا دلامة معتكف على الخمر فما يحضر صلاة ولا مسجدا، وقد أفسد فتيان العسكر. فلو أمرته بالصلاة معك لأجرت فيه وفي غيره من فتيان عسكرك بقطعه عنهم. فلما دخل عليه أبو دلامة قال له: بابن اللخناء، ما هذا المجون الذي يبلغني عنك قال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين ما أنا والمجون وقد شارفت باب قبري . قال: دعني من استكانتك وتضرعك، وإياك أن تفوتك صلاة الظهر والعصر في مسجدي. فلئن فاتتاك لأحسنن أدبك ولأطيلن حبسك. فوقع في شر ولزم المسجد أياما، ثم كتب قصته ودفعها إلى المهدي فأوصلها إلى أبيه، وكان فيها:
ألم تعلـمـا أن الـخـلـيفة لـزتـي بمسجده والقصر مالي وللقـصـر
أصلي به الأولى جميعا وعصـرهـا فويلي من الأول وويلي من العصـر
أصليهما بالكره في غير مـسـجـدي فمالي في الأولى ولا العصر من أجر
لقد كان في قومي مـسـاجـد جـمة سواه ولكن كان قدرا مـن الـقـدر
يكلفني من بعـد مـا شـبـت خـطة يحط بها عني الثقـيل مـن الـوزر
وما ضـره والـلـه يغـفـر ذنـبـه لو ان ذنوب العالمين على ظـهـري قال: فلما قرأ المنصور قصته ضحك وأعفاه من الحضور معه، وأحلفه أن يصلي الصلاة في مسجد قبيلته.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن سعيد عن الزبير عن عمه، ونسخت من بعض الكتب عن نصر بن محمد الخراز عن أبيه عن الهيثم بن عدي وروانيه بعض من روى عن الزبير.
أن أبا جعفر كان يحب العبث بأبي دلامة - وقال الآخر: إن أبا العباس السفاح كان يحب ذلك - فكان يسأل عنه فيوجد في بيوت الخمارين لا فضل فيه. فعاتبه على انقطاعه عنه؛ فقال: إنما أفعل ذلك خوفا أن تملني. فعلم أنه يحاجزه ، فأمر الربيع أن يوكل به من يحضره الصلوات معه في جماعة في الدار. فلما طال ذلك عليه قال:
ألـم تـريا أن الـخـلـيفة لـزنـي بمسجده والقصر مالي وللقـصـر
فقد صدني عن مسـجـد أسـتـلـذه أعلل فيه بالسـمـاع وبـالـخـمـر
وكلفني الأولى جميعا وعـصـرهـا فويلي من الأول وعولي من العصـر
أصليهما بالكره في غير مـسـجـدي فمالي من الأولى ولا العصر من أجر
يكلفني من بعـد مـا شـبـت تـوبة يحط بها عني المثاقـيل مـن وزري
لقد كان في قومي مـسـاجـد جـمة ولم ينشرح يوما لغشيانهـا صـدري
ووالله ما لـي نـية فـي صـلاتـه ولا البر والإحسان والخير من أمري
وما ضـره والـلـه يغـفـر ذنـبـه لو ان ذنوب العالمين على ظـهـري ألزمه المنصور بالقيام شهر رمضان فكتب إلى ريطة شعرا يستشفع بها للمهدي : فبلغته الأبيات فقال: صدق ما يضرني ذلك، والله لا يصلح هذا أبدا، فدعوه يعمل ما يشاء. وقال الهيثم في خبره: فقال له أبو جعفر: قد أعفيناك من هذه الحال، ولكن على أن لا تدع القيام معنا في ليالي شهر رمضان فقد أظل . فقال: أفعل. قال: إنك إن تأخرت لشرب الخمر علمت ذلك. ووالله لئن فعلت لأحدنك. فقال أبو دلامة: البلية في شهر أصلح منها في طول الدهر، وسمعا وطاعة. فلما حضر شهر رمضان لزم المسجد. وكان المهدي يبعث إليه في كل ليلة حرسيا يجيء به؛ فشق ذلك عليه، وفزع إلى الخيزران وأبي عبيد الله وكل من كان يلوذ بالمهدي ليشفعوا له في الإعفاء من القيام، فلم يجبهم. فقال له أبو عبيدة: الدال على الخير كفاعله، فكيف شكرك? قال: أتم شكر. قال: عليك بريطة فإنه لا يخالفها. قال: صدقت والله، ثم رفع إليها رقعة يقول فيها:
صفحة : 1157
أبـلـغـا ريطة أنـي كنت عبـدا لأبـيهـا
فمضى يرحمـه الـل ه وأوصى بي إليهـا
وأراها نـسـيتـنـي مثل نسـيان أخـيهـا
جاء شهر الصوم يمشي مشية ما أشتـهـيهـا
قائدا لي لـيلة الـقـد ر كأني أبـتـغـيهـا
تنطح القبـلة شـهـرا جبهتي لا تأتـلـيهـا
ولقد عشـت زمـانـا في فيافـي وجـيهـا
في ليال مـن شـتـاء كنت شيخا أصطليهـا
قاعـدا أوقـد نــارا لضباب أشـتـويهـا
وصبـوح وغـبـوق في علاب أحتسـيهـا
ما أبالي لـيلة الـقـد ر ولا تسمعـنـيهـا
فاطلبي لي فرجا مـن ها وأجري لك فيهـا فلما قرأت الرقعة ضحكت وأرسلت إليه: إصطبر حتى تمضي ليلة القدر. فكتب إليها: إني لم اسألك أن تكلميه في إعفائي عاما قابلا؛ وإذا مضت ليلة القدر فقد فني الشهر. وكتب تحتها أبياتا:
خافي إلهك في نفس قد احتضرت قامت قيامتها بين المصـلـينـا
ما ليلة القدر من همي فأطلبهـا إني أخاف المنايا قبل عشـرينـا
يا ليلة القدر قد كسرت أرجلـنـا يا ليلة القدر حقا ما تمنـينـا ?
لا بارك اله في خـير أؤمـلـه في ليلة بعدما قمنـا ثـلاثـينـا فلما قرأت الأبيات ضحكت، ودخلت إلى المهدي فشفعت له إليه، وأنشدته الشعرين، فضحك حتى استلقى، ودعا به وريطة معه في الحجلة فدخل؛ فأخرج رأسه إليه وقال: قد شفعنا ريطة فيك، وأمرنا لك بسبعة آلاف درهم. فقال: أما شفاعة سيدتي في حتى أعفيتني فأعفاها الله من النار. وأما السبعة الآلاف فما أعجبني ما فعلته؛ إما أن تتمها بثلاثة آلاف فتصير عشرة، أو تنقصني منها ألفين فتصير خمسة آلاف، فإني لا أحسن حساب السبعة. فقال قد جعلتها خمسة. قال: أعيذك بالله أن تختار أدنى الحالين وأنت أنت. فعبث به المهدي ساعة ثم تكلمت فيه ريطة فأتمها له عشرة آلاف درهم.
أنشد المهدي شعره في نخاس فضحك منه: أخبرني الحسين بن علي عن حماد عن أبيه قال: مر أبو دلامة بنخاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهن من كل شيء حسن، فانصرف مهموما، فدخل إلى المهدي فأنشده:
إن كنت تبغي العيش حلوا صافيا فالشعر أعزبه وكن نخـاسـا
تنل الطرائف من ظراف نهـد يحدثن كل عشـية أعـراسـا
والربح فيما بين ذلـك راهـن سمحا بيعك كنت أو مكـاسـا
دارت على الشعراء حرفة نوبة فتجرعوا من بعد كأس كاسـا
وتسربلوا قمص الكساد فحاولوا بالنخس كسبا يذهب الإفلاسـا فجعل المهدي يضحك منه.
???لفق رؤيا للمنصور وأخذ منه ثيابا: نسخت من كتب ابن النطاح قال: دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده:
رأيتك في المنام كسوت جلدي ثيابا جمة وقضـيت دينـي
فكان بنفسجي الخـز فـيهـا وساج ناعم فـأتـم زينـي
فصدق بافدتك النـفـس رؤيا رأتها في المنام كذاك عيني فأمر له بذلك وقال له: لا تعد أن تتحلم علي ثانية، فأجعل حلمك أضغاثا ولا أحققه.
حبسه المنصور لسكره فبعث له من الحبس شعرا فعفا عنه: ثم خرج من عنده ومضى فشرب في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل. فلقيه العسس فأخذوه، وقيل له: من أنت وما دينك? فقال:
ديني على دين بني العبـاس ما ختم الطين على القرطاس
إني اصطحبت أربعا بالكاس فقد أدار شربهـا بـراسـي
فهل بما قلت لك من بـاس فأخذوه ومضوا، وخرقوا ثيابه وساجه وأتي به أبو جعفر - وكان يؤتى بكل من أخذه العسس -فحبسه مع الدجاج في بيت. فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو في ذلك يسمع صوت الدجاج وزقاء الديوك. فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك? قال: ويلك من أنت وأين أنا? قال: في الحبس، وأنا فلان السجان. قال: ومن حبسني? قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلساني? قال: الحرس. فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:
صفحة : 1158
أمير المؤمنين فدتك نـفـسـي علام حبستني وخرقت ساجـي
أمن صفراء صافية الـمـزاج كأن شعاعها لهب الـسـراج
وقد طبخت بنار اللـه حـتـى لقد صارت من النطف النضاج
تهش لها القلوب وتشتـهـيهـا إذا برزت ترقرق في الزجاج
أقاد إلى السجون بغـير جـرم كأني بعض عمال الـخـراج
ولو معهم حبست لكان سـهـلا ولكني حبست مـع الـدجـاج
وقد كانت تخبرنـي ذنـوبـي بأني من عقابك غير نـاجـي
على أنـي وإن لاقـيت شـرا لخيرك بعد ذاك الشر راجـي فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة? قال: مع الدجاج. قال: فما كنت تصنع? قال: أقوقي معهن حتى أصبحت. فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال له الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين. أما سمعت قوله وقد طبخت بنار الله يعني الشمس . فأمر برده ثم قال: يا خبيث شربت الخمر? قال لا. قال: أفلم تقل طبخت بنار الله تعني الشمس. قال: لا والله ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع. فضحك وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرض.
لفق رؤيا لتمار وأخذ منه تمرا : قال ابن النطاح: ومر أبو دلامة بتمار بالكوفة فقال له:
رأيتك أطعمتني في المنـام قواصر من تمرك البارحة
فأم العيال وصـبـيانـهـا إلى الباب أعينهم طامـحة فأعطاه جلتي تمر وقال له: إن رأيت هذه الرؤيا ثانية لم يصح تفسيرها. فأخذهما وانصرف.
هنأ المهدي بقدومه من الري فملأ حجره دراهم: وقال ابن النطاح: لما قدم المهدي من الري دخل عليه أبو دلامة فأنشأ يقول:
إني نذرت لئن رأيتك سالمـا بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محـمـد ولتملأن دراهما حـجـري فقال: صلى الله وعليه وسلم، وأما الدراهم فلا. فقال له: أنت أكرم من أن تفرق بينهما وتختار أسهلهما. فأمر بأن يملأ حجره دراهم.
ومثل هذا وإن لم يكن منه ما حدثني به الحسن بن علي عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال: قدم المهلب من بعض غزواته، فلقيته عجوز من الأزد فقالت: أيها الأمير، أسألك بالله والرحم إلا وقفت فوقف، فدنت وقبلت يده وقالت: هذا نذر كان علي، إني نذرت علي لله أن أقبل يدك إن قدمت سالما وتهب لي أربعمائة درهم وجارية صغدية تخدمني. فضحك وقال: أما نحن فقد وفينا بنذرك؛ ادفعوا إليها ذلك، وإياك يا أماه وهذه النذور؛ فليس كل أحد يفي لك بها وينشط لتحليلك منها.
ضجر من الصوم والحر فكتب للمهدي شعرا فعجل جائزته: قال ابن النطاح: وصام الناس في سنة شديدة الحر على عهد المهدي، وكان أبو دلامة يتنجز جائزة أمر له المهدي بها. فكتب إليه أبو دلامة رقعة يشكو فيها أذى الحر والصوم وهي:
أدعوك بالرحم التي هي جمعت في القرب بين قربينا والأبعـد
إلا سمعت وأنت أكرم من مشى من منشد يرجو جزاء المنشـد
جاء الصيام فصمته متـعـبـدا أرجو رجاء الصائم المتعـبـد
ولقيت من أمر الصـيام وحـره أمرين قيسا بالعذاب المـؤصـد
وسجدت حتى جبهتي مشجـوجة مما يناطحني الحصا في المسجد
فامنن بتسريحي بمطلك بـالـذي أسلفتنيه من البلاء المـرصـد فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: يا عاض كذا من أمه أي قرابة بيني وبينك ? قال: رحم آدم وحواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما؛ وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه. وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا الخزاعي عن المدائني وزاد فيه قال: وأنشده أيضا في ذم الصوم:
هل في البلاد لرزق الله مفترش أم لا ففي جلده من خشنة برش - يعني أن جلد الرزق خشن الملمس فهو يحترش كما يحترش الضب - الشعر:
أضحى الصيام منيخا وسط عرصتنا ليت الصيام بأرض دونها حـرش
إن صمت أوجعني بطني وأقلقنـي بين الجوانح مس الجوع والعطش
وإن خرجت بليل نحو مسجـدهـم أضرني بصر قد خانه العـمـش
صفحة : 1159
عزى أم سلمة بنت يعقوب في السفاح فأضحكها: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن زهير عن الزبير عن عمه، ونسخت من كتاب ابن النطاح قال اليزيدي في خبره: دخل أبو دلامة على ريطة بعد وفاة المهدي، وقال ابن النطاح: دخل على أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة بعد وفاة أبي العباس، وهو الصحيح، فعزاها به وبكى وبكت معه، ثم أنشدها:
من مجمل في الصبر عنك فلم يكن صبري عليك غداة بنت جـمـيلا
يجدون أبـدالا بـه وأنـا امـرؤ لو مت وجدا مـا وجـدت بـديلا
إني سألت الناس بعدك كـلـهـم فوجدت أجود من سألت بـخـيلا فقالت أم سلمة: لم أر أحدا أصيب به غيري وغيرك يا أبا دلامة. فقال: ولا سواء يرحمك الله، لك منه ولد وما ولدت أنا منه. فضحكت - ولم تكن منذ مات أبو العباس ضحكت إلا ذلك الوقت - وقالت له: لو حدثت الشيطان لأضحكته.
خدع المهدي بموت زوجته وخدعت زوجته الخيزران بموته كذلك فضحكا منهما: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: دخل أبو دلامة على المهدي وهو يبكي. فقال له: ما لك? قال: ماتت أم دلامة، وأنشده لنفسه فيها:
وكنا كزوج من قـطـا مـفـازة لدى خفض عيش ناعم مؤنق رغد
فأفردني ريب الزمان بصـرفـه ولم أر شيأ قط أوحش من فـرد فأمر له بثياب وطيب ودنانير، وخرج. فدخلت أم دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات، فأعطتها مثل ذلك، وخرجت. فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
فرض له المنصور على كل هاشمي عطاء فنقصه العباس بن محمد دينارين فذمه: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة، ونسخت أنا من كتاب ابن النطاح قال: دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده:
أما ورب العاديات ضبحـا حقا ورب الموريات قدحا
إن المغيرات علي صبحـا والناكئات من فؤادي قرحا
عشر ليال بينهن ضبـحـا يجلفن مالي كل عام صبحا فقال أبو جعفر: وكم تذبح يا أبا دلامة? قال: اربعا وعشرين شاة. ففرض له على كل هاشمي أربعة وعشرين دينارا، فكان يأخذهم منهم.
فأتى العباس بن محمد في عشر الأضحى يتنجزها. فقال: يا أبا دلامة أليس قد مات أبنك? قال بلى. قال أنقصوه دينارين.
قال: أصلح الله الأمير لا تفعل فإنه ترك علي ولدين. فأبى إلا أن ينقصه، فخرج وهو يقول:
أخطاك ما كنت ترجوه وتأملـه فاغسل يديك من العباس بالياس
واغسل يديك بأشنان فأنقهـمـا مما تؤل من معرف عـبـاس
جزاك ربك يا عباس عن فرج جنات عدن وعني جرزتي آس فبلغ ذلك أبا جعفر فضحك، واغتاظ على العباس، وأمره بأن يبعث إليه بأربعة وعشرين دينارا أخرى. هذه رواية يزيد.
قيل أن هذه القصة مع علي بن صالح: وأما ابن النطاح فإنه ذكر أن الذي نقصه الدينارين علي بن صالح وقال له: إنما نقصتك دينارين لموت ابنك دلامة. فحلف ألا يأخذ إلا خمسين دينارا، ثم قام مغضبا؛ فأتبعه الرسول فأعطاه إياها. فقال له: أولى له. أما ما سبق فلا حيلة فيه، والمستأنف فقد أمنه. وقد كان قال فيه:
لعلي بن صالح بن عـلـي نسب لو يعينه بـسـمـاح
وبنو مالك كـثـير ولـكـن ما لنا في بقائهم من فـلاح
غير فضل فإن للفضل فضلا مستبينا على قريش البطاح تخاصم إلى عافية القاضي وداعبه: أخبرني محمد بن أحمد عن محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: خاصم رجل أبا دلامة في داره، فارتفعا إلى عافية القاضي؛ فأنشأ أبو دلامة يقول:
لقد خاصمتني دهـاة الـرجـال وخاصمـتـهـا سـنة وافـيه
فما أدحض الـلـه لـي حـجة ولا خيب الـلـه لـي قـافـيه
ومن خفت من جوره في القضاء فلسـت أخـافـك يا عـافـيه
صفحة : 1160
فقال له عافية: أما والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني. قال: إذا يعز لك. قال: ولم? قال: لأنك لا تعرف المديح من الهجاء. فبلغ ذلك المنصور فضحك وأمر لأبي دلامة بجائزة.
أمره المهدي بهجاء أحد الحضور فهجا نفسه: أخبرني محمد بن أحمد عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال: دخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم. فقال له: أنا أعطي الله عهدا لئن لم تهج واحدا ممن في البيت لأقطعن لسانك - ويقال إنه قال: لأضربن عنقك - فنظر إليه القوم، فكلما نظر واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه. قال أبو دلامة: فعلمت أني قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بد منها، فلم أرى أحدا أحق بالهجاء مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت:
ألا أبلـغ إلـيك أبـا دلامة فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قـردا وخنزيرا إذا نزع العمامـه
جمعت دمامة وجمعت لؤما كذاك اللؤم تتبعه الدمامـه
فإن تك قد أصبت نعيم دنـيا فلا تفرح فقد دنت القيامه فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.
قال شعرا في المهدي وعلي بن سليمان وقد خرجا للصيد فأصاب الأول وأخطأ الثاني: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير عن عمه قال: خرج المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهدي ظبيا بسهم فصرعه، ورمى علي بن سليمان فأصاب بعض الكلاب فقتله. فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدي ظبيا شك بالسهم فـؤاده
وعلي بن سـلـيمـا ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهـمـا كـل امرئ يأكـل زاده فضحك المهدي حتى كاد أن يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية. أخبرني بهذا الخبر عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي فذكر مثل ما ذكره وقال فيه: فلقب علي بن سليمان صائد الكلب وعلق به.
أنشد المنصور شعرا فأعطاه دارا وكسوة ثم احتاج إلى الدار وعوضه بدلها: قال ابن النطاح: وأنشد أبو دلامة المنصور يوما:
هاتيك والدتي عـجـوز هـمة مثل البلية درعها في المشجب
مهزولة اللحيين من يرها يقـل أبصرت غولا أو خيال القطرب
ما إن تركت لها ولا لآبن لـهـا مالا يؤمل غير بكـر أجـرب
ودجائجا خمسا يرحـن إلـيهـم لما يبضن وغير عير مغـرب
كتبوا إلي صحيفة مـطـبـوعة جعلوا عليها طينة كالعـقـرب
فعلمت أن الشر عند فكاكـهـا ففككتها عن مثل ريح الجورب
وإذا شبيه بالأفاعـي رقـشـت يوعدنني بتـلـمـظ وتـثـؤب
يشكون أن الجوع أهلك بعضهم لزبا فهل لك في عـيال لـزب
لا يسألونك غير طل سـحـابة تغشاهم من سيلك المتحـلـب
يا باذل الخيرات يابن بذولـهـا وابن الكرام وكل قرم منجـب
أنتم بنو العباس يعـلـم أنـكـم قدما فوارس كل يوم أشـهـب
أحلاس خيل الله وهي مـغـيرة يخرجن من خلل الغبار الأكهب قال: فأمر له بدار يسكنها وكسوة ودراهم. وكانت الدار قريبة من قصره، فأمر بأن تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها. فدخل عليه أبو دلامة فأنشده قوله:
يابن عم النـبـي دعـوة شـيخ قد دنـا هـدم داره ودمــاره
فهو كالماخض التي اعتادها الطل ق فقـرت ومـا يقـر قـراره
إن تحز عسره بكـفـيك يومـا فبكـفـيك عـسـره ويسـاره
أو تدعه فـلـلـبـوار، وأنـى ولـمـاذا وأنـت حـي بـواره
هل يخاف الهلاك شاعـر قـوم قدمت في مديحهـم أشـعـاره
لكم الأرض كلـهـا فـأعـيروا شيخكم ما احتوى عليه جـداره
فكان قد مضى وخلـف فـيكـم ما أعرتم وأقفرت مـنـه داره فاستعبر المنصور، وأمر بتعويضه دارا خيرا منها ووصله.
صفحة : 1161
عابه عند المهدي محرز ومقاتل ابنا ذؤال فهجاهما بحضرته: قال ابن النطاح: ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده محرز ومقاتل ابنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة ويعيبانه عنده.
فقال أبو دلامة:
ألا أيها المهدي هل أنت مخبـري وإن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي
ألم ترحم اللحيين من لحيتـيهـمـا وكلتاهما في طولها غير طـائل
وإن أنت لم تفعل فهل أنت مكرمي بحلقهما من محرز ومـقـاتـل
فإن يأذن المهدي لي فيهمـا أقـل مقالا كوقع السيف بين المفاصـل
وإلا تدعني والهموم تـنـوبـنـي وقلبي من العجلين جم البـلابـل فقال: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف يفديان بها أعراضهما منك? قال: ذلك إلى أمير المؤمنين. فأخذها له منهما وأمسك عنهما.
مدح سعيد بن دعلج فأجازه: قال ابن النطاح: ودخل أبو دلامة على سعيد بن دعلج مولى بني تميم فقال:
إذا جئت الأمير فقـل سـلام عليك ورحمة الله الـرحـيم
وأما بعد ذاك فـلـي غـريم من الأعراب قبح من غـريم
غريم لازم بـفـنـاء بـيتـي لزوم الكلب أصحاب الرقـيم
له مائة علي ونصف أخـرى ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولـكـن وصلت بها شيوخ بني تمـيم
أتوني بالعشيرة يسـألـونـي ولم أك في العشيرة بالـلـئيم فضحك وأمر له بمائتين وخمسة وسبعين درهما وقال: ما أساء من أنصف، وقد كافأتك عن قومك وزدتك مائة.
داعب المنصور في جنازة بنت عمه حتى ضحك: أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن جعفر بن الحسين اللهبي عن عمه مصعب: أن حمادة بنت عيسى توفيت وحضر المنصور جنازتها. فلما وقف على حفرتها قال لأبي دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة? قال: بنت عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها. فضحك المنصور حتى غلب فستر وجهه.
سأل الخيزران جارية فوعدته بها وأبطأت فاستنجزها بشعر، وقصة زوجته وابنه مع هذه الجارية: أخبرني عمي رحمه الله تعالى قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال قال أبو عمر حفص بن عمر العمري حدثنا الهيثم قال: حجت الخيزران، فلما خرجت صاح بها أبو دلامة. قالت: سلوه ما أمره. قالوا له: ما أمرك? فقال: أدنوني من محملها. قالت: أدنوه، فأدني. فقال: أيتها السيدة، إني شيخ كبير وأجرك في عظيم. قالت: فمه. قال: تهبين لي جارية من جواريك تؤنسني وترفق بي وتريحني من عجوز عندي، قد أكلت رفدي، وأطالت كدي، وقد عاف جلدي جلدها، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها. فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلما رجعت تلقاها وذكرها، وخرج معها إلى بغداد فأقام حتى غرض . ثم دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها:
أبلغي سيدتي بـالـل ه يا أم عـبـــيدة
أنها أرشدهـا الـلـه وإن كانـت رشـيده
وعدتني قبل أن تـخ رج للـحـج ولـيده
فتـأنـيت وأرســل ت بعشرين قصـيده
كلما أخلقن أخـلـف ت لها أخرى جديده
ليس في بيتي لتمهـي د فراشي من قعـيده
غير عجفاء عجـوز ساقها مثل الـقـديده
وجهها أقبح من حـو ت طري في عصيده
ما حياة مـع أنـثـى مثل عرسي بسعـيده
صفحة : 1162
فلما قرئت عليها الأبيات ضحكت واستعادتها منه لقوله حوت طري في عصيده وجعلت تضحك، ودعت بجارية من جواريها فائقة فقالت لها: خذي كل ما لك في قصري ففعلت، ثم دعت ببعض الخدم وقالت له: سلمها إلى أبي دلامة. فانطلق الخادم بها فلم يصادفه في منزله. فقال لامرأته: إذا رجع فادفعيها إليه، وقولي له: تقول لك السيدة: أحسن صحبة هذه الجارية فقد آثرتك بها؛ فقالت له نعم. فلما خرج دخل ابنها دلامة فوجد أمه تبكي. فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت أن تبرني يوما من الدهر فاليوم. فقال: قولي ما شئت فإني أفعله. قالت: تدخل عليها فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرم عليه، وإلا ذهبت بعقله وجفاني وجفاك. ففعل ودخل إلى الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه. وخرج. ثم دخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية? قالت: في ذلك البيت. فدخل إليها شيخ محطم ذاهب، فمد يده إليها وذهب يقبلها. فقالت له: مالك ويلك تنح وإلا لطمتك لطمة دققت بها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيدة . فقالت: إنها بعثت بي إلى فتى من حاله وهيئته كيت وكيت، وقد كان عندي آنفا، ونال مني حاجته. فعلم أنه قد دهي من أم دلامة وابنها.
فخرج إليه أبو دلامة فلطمه ولببه وحلف ألا يفارقه إلا عند المهدي. فمضى به ملببا حتى وقف على باب المهدي. فعرف خبره وأنه قد جاء بابنه على تلك الحالة فأمر بإدخاله. فلما دخل قال له: مالك ويلك? قال: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمل ولد بأبيه، ولا ترضيني إلا أن تقتله. فقال له: ويلك ما فعل? فأخبره الخبر. فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه? فقال: علي بالسيف والنطع. فقال دلامة: قد سمعت حجته يا أمير المؤمنين فاسمع حجتي. قال: هات. قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، ينيك أمي منذ أربعين سنة ما غضبت، ونكت جاريته مرة واحدة فغضب وصنع بي ما ترى فضحك المهدي أكثر من ضحكه الأول، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة وأنا أعطيك خيرا منها. قال: على أن تخبأها لي بين السماء والأرض، وإلا ناكها والله كما ناك هذه. فتقدم إلى دلامة ألا يعاود بمثل فعله. وحلف إنه إن عاود قتله، ووهب له جارية أخرى كما وعده.
سأله المهدي عن شاعر فأطراه فأجازه لحسن محضره: وقال ابن النطاح: دخل أبو دلامة على المهدي وعنده شاعر ينشده. فقال له: ما ترى فيه? قال: إنه قد جهد نفسه لك فاجهد نفسك له. فقال المهدي: وأبيك إنها لكلمة عذراء منك، أحسبك تعرفه قال: لا والله ما عرفته ولا قلت أنا حقا. فأمر للشاعر بجائزة، ولأبي دلامة بمثلها لحسن محضره.
خلع عليه العقيلي من ثيابه التي عليه: قال ابن النطاح وحدثني أبو عبد الله العقيلي قال: رأيت على أبي دلامة فروة في الصيف، فقلت له: ألا تمل هذه الفروة قال: بلى، ورب مملول لا يستطاع فراقه. فنزعت فاضل ثيابي في موضعي ودفعتها إليه.
فزع من رؤية الفيل وقال فيه شعرا: قال: أهدي للمهدي فيل، فرآه أبو دلامة فولى هاربا وقال:
يا قوم إني رأيت الفيل بـعـدكـم لا بارك الله لي في رؤية الفـيل
أبصرت قصرا له عين يقلبـهـا فكدت أرمي بسلحي في سراويلي أنشد المهدي شعرا في بغلته واستوهبه أخرى غيرها: قال ابن النطاح: ودخل أبو دلامة على المهدي فأنشده قصيدته في بغلته المشهورة:
أتاني بغلة يسـتـام مـنـي عريق في الخسارة والضلال
فقال تبيعها? قلت ارتبطـهـا بحكمك إن بيعي غير غالـي
فأقبل ضاحكا نحوي سـرورا وقال أراك سمحا ذا جمـال
هلم إلي يخلو بـي خـداعـا وما يدري الشقي بمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحـسـن إلي فإن مثلك ذو سـجـال
فاترك خمسة منها لعلـمـي بما فيه يصير من الخـبـال فقال المهدي: لقد أفلت من بلاء عظيم. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردها. قال: ثم أنشده:
فأبدلني بها يا رب طرفـا يكون جمال مركبه جمالي
صفحة : 1163
فقال لصاحب دوابه: خيره من الإصطبل مركبين . قال: يا أمير المؤمنين إن كان الاختيار لي وقعت في شر من البغلة، ولكن مره أن يختار لي، فقال: اختر له. وأخبرني به عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي، وخبره أتم.
احتال على العباس بن محمد بشعر وأخذ منه ألفي درهم وكان راهن المهدي على ذلك فأخذ منه ستة آلاف: وأخبرني محمد بن خلف عن أحمد بن الهيثم عن العمري عن الهيثم بن عدي قال: دخل أبو دلامة يوما على المهدي، فحادثه ساعة وهو يضحك وقال له: هل بقي أحد من أهلي لم يصلك? قال: إن أمنتني أخبرتك، وإن أعفيتني فهو أحب إلي. قال: بل تخبرني وأنت آمن. قال كلهم قد وصلني إلا حاتم بني العباس. قال: ومن هو? قال: عمك العباس بن محمد. فالتفت إلى خادم على رأسه وقال: جأ عنق العاض بظر أمه. فلما دنا منه صاح به أبو دلامة: تنح يا عبد السوء لا تخنث مولاك وتنكث عهده وأمانه. فضحك المهدي وأمر الخادم فتنحى عنه، ثم قال لأبي دلامة: ويلك والله عمي أبخل الناس. فقال أبو دلامة: بل هو أسخى الناس. فقال له المهدي: والله لو مت ما أعطاك شيئا. قال: فإن أنا أتيته فأجازني? قال: لك بكل درهم تأخذه منه ثلاثة دراهم. فانصرف أبو دلامة فحبر للعباس قصيدة ثم غدا بها عليه وأنشده:
قف بالديار وأي الدهـر لـم تـقـف على المنازل بين الظهر والـنـجـف
وما وقوفـك فـي أطـلال مـنـزلة لولا الذي استدرجت من قلبك الكلـف
إن كنت أصبحت مشغوفا بساكـنـهـا فال وربك لا تشفـيك مـن شـغـف
دع ذا وقل في الذي قد فاز من مضـر بالمكرمات وعز غـير مـقـتـرف
هذي رسالة شـيخ مـن بـنـي أسـد يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصـر كـاتـبة قد طالما ضربت في الـلام والألـف
وطالما اختلـفـت صـيفـا وشـاتـية إلى معلمها بـالـلـوح والـكـتـف
حتى إذا نـهـد الـثـديان وامـتـلأا منها وخيفت على الإسراف والقـرف
صينت ثلاث سنـين مـا تـرى أحـدا كما يصون تـجـار درة الـصـدف
فبينما الشيخ يهوي نحـو مـجـلـسـه مبادرا لصلاة الصـبـح بـالـسـدف
حانت له لمحة منهـا فـأبـصـرهـا مطلة بين سجفيهـا مـن الـغـرف
فخـر والـلـه مـايدري غـداتــئذ أخر منكشفا أم غـير مـنـكـشـف
وجاءه النـااس أفـواجـا بـمـائهـم ليغيلوا الرجل المغشي بـالـنـطـف
ووسوسوا بقران فـي مـسـامـعـه مخافة الجن والإنـسـان لـم يخـف
شيئا ولـكـنـه مـن حـب جــارية أمسى وأصبح موقوفا على الـتـلـف
قالوا: لك الويل ما أبصرت? قلت لهـم تطلعت من أعالي القصر ذي الشرف
فقـلـت أيكـم والـلــه يأجـــره يعين قوته فيهـا عـلـى ضـعـف
فقام شـيخ بـهـي مـن رجـالـهـم قد طالما خدع الأقـوام بـالـحـلـف
فابتاعها لي بألـفـي درهـم فـأتـى بها إلي فألقاهـا عـلـى كـتـفـي
فبت ألثـمـهـا طـورا وألـزمـهـا طورا وأصنع بعض الشيء في اللحف
فبين ذاك كذا إذ جـاء صـاحـبـهـا يبغي الدراهم في الميزان ذي الكفـف
وذكر حق علـى زنـد وصـاحـبـه والحق في طرف والطين في طـرف
وبـين ذاك شـهـود لا يضـرهــم أكنت معترفـا أم غـير مـعـتـرف
فإن يكن منك شيءفـهـو حـقـهـم أو لا فإني مدفـوع إلـى الـتـلـف قال: فضحك العباس وقال: ويحك أصادق أنت? قال: نعم والله. قال: يا غلام ادفع إليه ألفي درهم ثمنها. قال: فأخذها ثم دخل على المهدي فأخبره القصة وما احتال له به. فأمر له المهدي بستة آلاف درهم.
صفحة : 1164
وقال له المهدي: كيف لا يضرهم ذلك? قال: لأني معدم لا شيء عندي. وقال عمي في خبره: فقال له العباس بن محمد شاركني في هذه الجارية. قال: أفعل ولكن على شريطة. قال: وما هي? قال: الشركة لا تكون إلا مفاوضة ، فاشتر معها أخرى، ليبعث كل واحد منا إلى صاحبه ما عنده ويأخذ الأخرى مكانها ليلة وليلة. فقال له العباس: قبحك الله وقبح ما جئت به خذ الدراهم لا بارك الله لك فيها وانصرف.
أمره أبو مسلم بمبارزة رجل فقال شعرا أضحكه فأعفاه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني العبسي قال: كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروبه مع بني أمية. فدعا رجل إلى البراز؛ فقال له أبو مسلم: أبرز إليه. فأنشأ يقول:
ألا لا تلمني إن فررت فإننـي أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو أنني في السوق أبتاع مثلها وجدك ما باليت أن أتقـدمـا ضحك وأعفاه.
وعدته ريطة جارية فاستنجزها بشعر
ونسخت من كتاب ابن النطاح: أن ريطة وعدت أبا دلامة جارية فمطلته حتى امتدحها بعدة قصائد، كل ذلك لا تفي له، ثم خرجت إلى مكة ورجعت. وكانت لها جارية يقال لها أم عبيدة تخرج وتكلم الرجال وتبلغ عنها الرسائل. فقال أبو دلامة لأم عبيدة حين عيل صبره:
أبلغـي سـيدتـي إن شئت يا أم عـبـيده
أنها أرشـدهـا الـل ه وإن كانت رشـيده
وعدتني قبل أن تـخ رج للـحـج ولـيده
فتنظـرت وأرسـل ت بعشرين قصـيده
كلما تخـلـق أولـى بدلت أخرى جـديده
إنني شـيخ كـبـير ليس في بيتي قعـيده
غير مثل الغول عندي ذات أوصال مـديده
وجهها أسمج من حو ت طري في عصيده
ذات رجـل ويد كـل تاهما مثل الـقـديده فدخلت على ريطة فأنشدتها الشعر، فأمرت له بجارية ومائتي دينار للنفقة عليها.
اشترى لأضيافه نبيذا من نباذة
ولم يعطها الثمن وقال فيها شعرا: أخبرني الحسين بن يحيى نسخت من كتاب إسحاق الموصلي حدثني أبي عن جدي : أن أبا دلامة نزل بالكوفة، فأتاه أضياف فغداهم، ثم بعث إلى سندية نباذة يقال لها دومة، فبعثت إليهم جرة من نبيذ فشربوها، ثم أعاد فبعثت إليهم بأخرى، ثم جاءت تتقاضى الثمن. فقال: ليس عندي الثمن، ولكني أمدحك بما هو خير من نبيذك. فقال:
ألا يا دوم دام لك النعـيم وأحمر ملء كفك مستقيم
شديد الأصل ينبذ حالبـاه يئن كأنه رجل سـقـيم وهذا الخبر يروى عن الأقيشر أيضا.
قال شعرا في الجنيد النخاس يذمه ويمدح جارية له: قال إسحاق وحدثني أبي: أن أبا دلامة كان كثير الزيارة للجنيد النخاس، وكان يتعشق جارية له ويبغضه. فجاءه يوما فقال: أخرج لي فلانة. فقال: إلى متى تخرج إليك ولست بمشتر قال: فإن لم أكن مشتريا فإني أخ يمدح ويطرى. قال: ما أنا بمخرجها إليك أو تقول فيها شعرا. قال: فاحلف بعتقها أن ترويها إياه وتأمرها بإنشاده من أتاك يعترضها ولا تحجبها. فحلف لا يحجبها. فقال أبو دلامة:
إني لأحسب أن سأمسي ميتـا أو سوف أصبح ثم لا أمسي
من حب جارية الجنيد وبغضه وكلاهما قاض على نفسـي
فكلامها يشفى به سقـمـي فإذا تكلم عاد لي نـكـسـي عاد إسحاق الأزرق وعنده طبيبه فقال شعرا ينصحه فيه بمجانبة الطبيب: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال: دخل أبو دلامة على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضا شديدا، ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفا، وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوي بدنه. فقال أبو دلامة للطبيب: يابن الكافرة أتصف هذه الأدوية لرجل أضعفه المرض ما أردت والله إلا قتله. ثم التفت إلى إسحاق فقال: اسمع أيها الأمير مني. قال: هات ما عندك يا أبا دلامة. فأنشأ يقول:
نح عنك الطبيب واسمع لنعتي إنني ناصح من الـنـصـاح
ذو تجاريب قد تقلبت في الصح ة دهرا وفي السقام المـتـاح
صفحة : 1165
غاد هذا الكباب كل صـبـاح من متون الفتية السـحـاح
فإذا ما عطشت فاشرب ثلاثا من عتيق في الشم كالتفـاح
ثم عند المساء فاعكف على ذا وعلى ذا بأعظـم الأقـداح
فتقوي ذا الضعف منك وتلفى عن ليال أصح هذي الصحاح
ذا شفاء ودع مـقـالة هـذا ناك ذا أمـه بـأير ربــاح فضحك إسحاق وعواده، وأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم. وكان الطبيب نصرانيا فقال: أعوذ بالله من شرك يا ركل يريد يا رجل . وقال الطبيب: اقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شيء قدامه. فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي، فانعت له الآن أنت ما أحببت.
تنادر بسلمة الوصيف في حضرة المهدي: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي قال: دخل أبو دلامة على المهدي وبين يديه سلمة الوصيف واقفا، فقال: إني أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهرا ليس لأحد مثله. فإن رأيت أن تشرفني بقبوله. فأمره بإدخاله إليه. فخرج وأدخل إليه دابته التي كانت تحته، فإذا به برذون محطم أعجف هرم. فقال له المهدي: أي شيء هذا ويلك ألم تزعم أنه مهر . فقال له: أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائما تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف فإذا كان سلمة وصيفا فهذا مهر. فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة: ويلك، إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بها في محفل فضحك. فقال أبو دلامة: والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين؛ فليس من مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط. قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك. قال: قد فعلت على أن لا يعاود. فقال له: ما ترى? قال: أفعل، فلولا أني ما أخذت منه شيئا قط ما فعلت معه مثل هذه. فمضى سلمة فحملها إليه.
عبث به ابنه فأراد أن يخصيه فحكم زوجته: أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني الخليل بن أسد عن عبد الرحمن بن صالح قال: جاء ابن أبي دلامة يوما إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته جالس، فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إن شيخي، كما ترون، قد كبرت سنه، ورق جلده، ودق عظمه، وبنا إلى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقي قوته، فيخالفني فيه. وأنا أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم، فيها صلاح لجسمه، وبقاء لحياته، فأسعفوني بمسألته. فقالوا: نفعل حبا وكرامة. ثم أقبلوا على أبي دلامة بألسنتهم وتناولوه بالعتاب حتى رضي وهو ساكت، فقال قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية. فقالوا له: قل. فقال: إن أبي إنما يقتله كثرة الجماع، فتعاونوني عليه حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء، فيكون أصح لجسمه وأطول لعمره. فعجبوا من ذلك وعلموا أنه إنما أراد أن يعبث بأبيه ويخجله حتى يشيع ذلك عنه فيرتفع له بذلك ذكر، فضحكوا منه. ثم قالوا لأبي دلامة: قد سمعت فأجب. قال: قد سمعتم أنتم وعرفتكم أنه لن يأتي بخير. قالوا: فما عندك في هذا? قال: قد جعلت أمه حكما بيني وبينه فقوموا بنا إليها. فقاموا بأجمعهم فدخلوا إليها، وقص أبو دلامة القصة عليها، وقال لها: قد حكمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابني - أصلحه الله - قد نصح أباه وبره ولم يأل جهدا، وما أنا إلى بقاء أبيه بأحوج مني إلى بقائه، وهذا أمر لم تقع به تجربة منا، ولا جرت بمثله عادة لنا، وما أشك في معرفته بذلك. فليبدأ بنفسه فليخصها؛ فإذا عوفي ورأيناه ذلك قد أثر عليه أثرا محمودا استعمله أبوه. فنعر أبوه وجعل يضحك به، وخجل ابنه، وانصرف القوم يضحكون ويعجبون من خبثهم جميعا واتفاقهم في ذلك المذهب.
أمر المهدي مروانيا بقتل خارجي فنبا السيف في يده فقال هو في ذلك شعرا: أخبرني عمي قال حدثنا ميمون بن هارون عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه قال:
صفحة : 1166
كان عند المهدي رجل من بني مروان، فدخل إليه وسلم عليه. فأتى المهدي بعلج فأمر المرواني بضرب عنقه، فأخذ السيف وقام فضربه فنبا السيف عنه، فرمى به المرواني وقال: لو كان من سيوفنا ما نبا. فسمع المهدي الكلام فغاظه حتى تغير لونه وبان فيه. فقام يقطين فأخذ السيف وحسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه السيوف الطاعة لا تعمل إلا في أيدي الأولياء ولا تعمل في أيدي أهل المعصية. ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، قد حضرني بيتان أفأقولهما? قال: قل. فأنشده:
أيهذا الإمام سيفك ماض وبكف الولي غير كهام
فإذا ما نبا بكف علمنـا أنها كف مبغض للإمام قال: فسري عن المهدي وقام من مجلسه، وأمر حجابه بقتل الرجل المرواني فقتل.
أخبار عبد الله بن المعتز
وممن صنع من أولاد الخلفاء فأجاد وأحسن وبرع وتقدم جميع أهل عصره فضلا وشرفا وأدبا وشعرا وظرفا وتصرفا في سائر الآداب أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله.
أدبه وشعره ودفاع أبي الفرج عن مذهبه في الأدب: وأمره، مع قرب عهده بعصرنا هذا، مشهور في فضائله وآدابه شهرة تشرك في أكثر فضائله الخاص والعام. وشعره وإن كان فيه رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين، فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب المجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبه فيها بفحول الجاهلية. فليس يمكن واصفا لصبوح، في مجلس شكل ظريف، بين ندامى وقيان، وعلى ميادين من النور والبنفسج والنرجس ومنضود من أمثال ذلك، إلى غير ما ذكرته من جنس المجالس وفاخر الفرش ومختار الآلات، ورقة الخدم، أن يعدل بذلك عما يشبهه من الكلام السبط الرقيق الذي يفهمه كل من حضر، إلى جعد الكلام ووحشيه، وإلى وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة؛ ولا إذا عدل عن ذلك وأحسن قيل له مسيء، ولا أن يغمط حقه كله إذا أحسن الكثير وتوسط في البعض وقصر في اليسير، وينسب إلى التقصير في الجميع، لنشر المقابح وطي المحاسن. فلو شاء أن يفعل هذا كل أحد بمن تقدم لوجد مساغا. ولو أن قائلا أراد الطعن على صدور الشعراء، لقد رأى أن يطعن على الأعشى - وهو أحد من يقدمه الأوائل على سائر الشعراء - بقوله: فأصاب حبة قلبه وطحالها . وبقوله:
ويأمر لليحموم كل عشـية بقت وتعليق فقد كاد يسنق وأمثال لهذا كثيرة. وإنما على الإنسان أن يحفظ من الشيء أحسنه، ويلغي ما لم يستحسنه، فليس مأخوذا به. ولكن أقواما أرادوا أن يرفعوا أنفسهم الوضيعة، ويشيدوا بذكرهم الخامل، ويعلوا أقدارهم الساقطة بالطعن على أهل الفضل والقدح فيهم، فلا يزدادون بذلك إلا ضعة، ولا يزداد الآخر إلا ارتفاعا. ألا ترى إلى ابن المعتز قد قتل أسوأ قتلة، ودرج فلم يبق له خلف يقرظه ولا عقب يرفع منه، وما يزداد بأدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرفه في كل فن من العلوم إلا رفعة وعلوا. ولا نظر إلى أضداده كلما ازدادوا في طعنه وتقريظ أنفسهم وأسلافهم الذين كانوا مثلهم في ثلبه والطعن عليه، زادوها سقوطا وضعة، وكلما وصفوا أشعارهم وقرظوا آدابهم، زادوا بها ثقلا ومقتا. فإذا وقع عليهم المحصل الموافق، عدلوا عن ثلبه في الآداب، إلى التشنيع عليه بأمر الدين وهجاء آل أبي طالب، وهم أول من فعل ذلك وشنع به على آل أبي طالب عند المكتفي حتى نهاهم عنه، فعدلوا عن عيب أنفسهم بذلك إلى عيبه، وارتكبوا أكثر منه. وأنا أذكر ذلك بعقب أخبار عبد الله، مصرحا به على شرح إن شاء الله تعالى.
علمه بصناعة الموسيقى: وكان عبد الله حسن العلم بصناعة الموسيقى، والكلام على النغم وعللها. وله في ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة، ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وبين بني حمدون، وغيرهم، تدل على فضله وغزارة علمه وأدبه.
كتاب عبيد الله بن عبد الله بن طاهر له وقد بعث إليه برسالة إلى ابن حمدون:
صفحة : 1167
ولقد قرأت بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر رقعة إليه بخطه، وقد بعث إليه برسالة إلى ابن حمدون في أنه يجوز ولا ينكر أن يغير الإنسان بعض نغم الغناء القديم، ويعدل بها إلى ما يحسن في حلقه ومذهبه. وهي رسالة طويلة، وشاوره فيها. فكتب إليه عبيد الله: قرأت - أيدك الله - الرسالة الفاضلة البارعة الموفقة. فأنا والله أقرؤها إلى آخرها، ثم أعود إلى أولها مبتهجا، وأتأمل وأدعو مبتهلا، وعين الله التي لا تنام عليك وعلى نعمه عندك. فإنها - علم الله - النعمة المعدومة المثل. ولقد تمثلت وأنا أكرر نظري فيها قول القائل في سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن العباس:
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع لذي إربة في القول جدا ولا هزلا ولا والله ما رأيت جدا في هزل، ولا هزلا في جد يشبه هذا الكلام في بلاغته وفصاحته وبيانه وإنارة برهانه وجزالة ألفاظه. ولقد خيل إلي أن لسان جدك العباس عليه السلام ينقسم على أجزاء، فلك - أعزك الله - نصفها، والنصف الآخر مقسوم بين أبي جعفر المنصور والمأمون رحمة الله عليهما. ولو أن هذه الرسالة جبهت الإبراهيمين إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وهم مجتمعون لبهت منهم الناظر، وأخرس الناطق، ولأقروا لك بالفضل في السبق، وظهور حجة الصدق، ثم كان قولك لهم فرقا بين الحق والباطل، والخطأ والصواب. ووالله ما تأخذ في فن من الفنون، إلا برزت فيه تبريز الجواد الرائع، المغبر في وجه كل حصان تابع. عضد الله الشرف ببقائك، وأحيا الأدب بحياتك، وجمل الدنيا وأهلها بطول عمرك .
هذا كلام العقلاء وذوي الفضل في مثله، لا كلام الثقلاء وذوي الجهل. والإطالة في هذا المعنى مستغنى عنها. والمشهور عنه وعن أضداده وما يأتي من أخباره بعد ذلك ففي معنى ما شرطته من جنس ما هو المقصد في كتابي هذا.
أصوات له في أشعار مختلفة: فمن صنعة عبد الله بن المعتز في شعره على أن أكثرها هذه سبيله فيها: صوت
هل ترجعن ليال قد مضين لنا والدار جامعة أزمان أزمانا صنعته في بيت واحد، ولحنه ثقيل أول.
ومن صنعته في الثقيل الأول أيضا - وفيه لعلويه رمل قديم، وما لحنه بدون لحن علويه -: صوت
سقى جانب القصرين فالدير فالحمى إلى الشجر المحفوف بالطين والمدر ومن صنعته الظريفة الشكلة مع جودتها: صوت
وإبلائي من محضر ومغيب وحبيب مني بعيد قـريب
لم ترد ماء وجهه العين إلا شرقت قبل ريها برقـيب زارته زرياب في يوم السعانين وغناها: خفيف ثقيل، ابتداؤه نشيد.
ومن صنعته، وله خبر أخبرني به علي بن هارون بن المنجم عن زرياب قالت: زرت عبد الله بن المعتز في يوم السعانين، فسر بورودي وصنع من وقته لحنا في شعر عبد الله بن العباس الربيعي الذي له فيه هزج وهو: صوت
أنا في قلبي من الظبي كلوم فدع اللوم فإن اللـوم لـوم
حبذا يوم السعـانـين ومـا نلت فيه من سرور لو يدوم الشعر لعبد الله بن العباس، ولحنه فيه هزج - قالت: فصنع عبد الله بن المعتز في البيت الثاني، وبعده بيت أضافه إليه، هزجا وهو:
زارني مولاي فيه ساعة ليته والله ما عشت يقيم ولحن ابن المعتز في حبذا يوم السعانين هذا البيت خفيف رمل، وهو من نهايات الأغاني التي صنعها.
ومن صنعته التي تظارف فيها وملح:
زاحم كمي كمه فالـتـويا وافق قلبي قلبه فاستـويا
وطالما ذاقا الهوى فاكتويا يا قرة العين ويا همي ويا أراد هنا بقوله ويا ما يقوله الناس في حكاية الشيء الذي يخاطبون به الإنسان من جميل أو قبيح، فيقولون: قلت له يا سيدي ويا مولاي ويا ويا، وكذلك ضده ليستغنى بالإشارة بهذا النداء عن الشرح. ولحن ابن المعتز في هذا هزج.
حرجت عليه نشر في صورة جميلة فقال فيها شعرا على البديهة: حدثني جعفر بن قدامة قال: كنا عند ابن المعتز يوما وعنده نشر وكان يحبها ويهيم بها، فخرجت علينا من صدر البستان في زمن الربيع، وعليها غلالة معصفرة وفي يديها جنابي باكورة باقلا . فقالت له: يا سيدي تلعب معي جنابي? فالتفت إلينا وقال على بديهته غير متوقف ولا مفكر:
صفحة : 1168
فديت من مر يمشي في معصفرة عشية فسقـانـي ثـم حـيانـي
وقال تلعب جنابي فـقـلـت لـه من جاد بالوصل لم يلعب بهجران وأمر فغني فيه. غنت فيما أرى فيه هزار لحنا، وهو رمل مطلق.
جدر خادمه نشوان فجزع عليه
ثم عوفي فسر وقال شعرا:
حدثني جعفر قال: كان لعبد الله بن المعتز غلام يحبه، وكان يغني غناء صالحا، يقال له نشوان . فجدر وجزع عبد الله لذلك جزعا شديدا، ثم عوفي ولم يؤثر الجدري في وجهه أثرا قبيحا. فدخلت إليه ذات يوم فقال لي: يا أبا القاسم، قد عوفي فلان بعدك، وخرج أحسن مما كان، وقلت فيه بيتين وغنت زرياب فيهما رملا ظريفا، فاسمعهما إنشادا إلى أن تسمعهما غناء. فقلت: يتفضل الأمير، أيده الله تعالى، بإنشادي إياهما. فأنشدني:
لي قمر جدر لما استـوى فزاده حسنا فزادت هموم
أظنه غنى لشمس الضحى فنقطته طربا بالنـجـوم فقلت: أحسنت والله أيها الأمير. فقال لي: لو سمعته من زرياب كنت أشد استحسانا له. وخرجت زرياب فغنته لنا في طريقة الرمل في أحسن غناء، فشربنا عليه عامة يومنا.
غضب عليه غلامه نشوان فقال شعرا يترضاه به: حدثني جعفر قال: غضب هذا الغلام على عبد الله بن المعتز؛ فجهد في أن يترضاه، فلم تكن له فيه حيلة. فدخلت إليه فأنشدني فيه:
بأبـي أنـت قـد تـمـا ديت في الهجر والغضب
واصطباري على صـدو دك يوما من العـجـب
ليس لي إن فـقـدت وج هك في العيش من أرب
رحـم الـلـه مـن أعـا ن الصلح واحـتـسـب قال: فمضيت إلى الغلام؛ ولم أزل أداريه وأرفق به حتى ترضيته وجئته به، فمر لنا يومئذ أطيب يوم وأحسنه، وغنتنا هزار في هذا الشعر رملا عجيبا.
زار في حداثته أبا عيسى بن المتوكل وأنشده من شعره في كره البنات فمدحه: أخبرني الحسين بن القاسم الكاتب قال حدثني إبراهيم بن خليل الهاشمي قال: دخلت يوما إلى أبي عيسى بن المتوكل، فوجدت عبد الله بن المعتز وقد جاءه مسلما، وسنه يومئذ دون عشرين سنة، إذ دخل علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، فأكرمه أبو عيسى ونهض إليه. فلما استقر به المجلس قال لأبي عيسى: قد احتجت إلى معونتك في أمر دفعت إليه لم أستغن فيه عن تكليفك المعاونة. قال: وما هو? قال: زوجت بنتا من بناتنا رجلا من أهلنا، فخرج عن مذاهبنا، وأساء عشرة أهله، وجعل منزل عيسى بن هارون أكثر مظانه وأوطانه، ويهددنا ويوعدنا بشره، حتى لقد نالنا من عيسى بسط ليده ولسانه فينا بالقبيح والقول السيء، وكثرة معاونته له على ما يزري بدينه ونسبه. وقد توعدنا بأنه يكشف وجهه لنا في معاونة صهرنا هذا الغاوي علينا. ولولا نسبه الذي فخره لنا وعاره علينا، لانتصفنا منه بالحق دون التعدي، إلا أني أستعيذك منه. فقال له أبو عيسى: أنا أوجهه إليه بعد انصرافك، وأراسله بما أنا المتكفل بعده بألا يعود إلى عشرته، والضامن أن أرد هذا الصهر إلى حيث تحب ويقع بموافقتك. فشكره ودعا له وانصرف. فقال أبو عيسى: ألا ترون إلى هذا الرجل النبيه الفاضل السري الشريف يدفع إلى مثل هذا طوبى لمن لم تكن له بنت. فقال عبد الله بن المعتز: أيها الأمير إن لولدك في هذا المعنى شيئا قاله واستحسنه جماعة ممن يعلم ويقول الشعر. فقال: هاته فداك عمك. فأنشده لنفسه:
وبكر قلت موتي قبل بـعـل وإن أثرى وعد من الصمـيم
أأمزج باللئام دمي ولحـمـي فما عذري إلى النسب الكريم فقال له أبو عيسى: أمتع الله أهلك ببقائك، وأحسن إليهم في زيادة إحسانه إليك، وجملهم بكمال محاسنك، ولا أرانا شرا فيك.
كان يعمر داره ويبيضها وقال شعرا في ذلك: أخبرني الحسين بن القاسم قال حدثني عبد الله بن موسى الكاتب قال: دخلت على عبد الله بن المعتز وفي داره طبقات من الصناع، وهو يبني داره ويبيضها. فقلت: ما هذه الغرامة الحادثة? فقال: ذلك السيل الذي جاء مذ ليال أحدث في داري ما أحوج إلى الغرامة والكلفة، وقال:
ألامن لنفس وأحزانهـا ودار تداعى بحيطانها
أظل نهاري في شمسها شقيا معنى ببنيانـهـا
صفحة : 1169
أسود وجهي بتبييضها وأهدم كيسي بعمرانها خفف النميري صلاته وأطال السجود بعدها فقال هو شعرا: حدثني جعفر بن قدامة قال: كنت عند عبد الله بن المعتز ومعنا النميري، وحضرت الصلاة، فقام النميري فصلى صلاة خفيفة جدا، ثم دعا بعد انقضاء صلاته وسجد سجدة طويلة جدا، حتى استثقله جميع من حضر بسببها، وعبد الله ينظر إليه متعجبا ثم قال:
صلاتك بين الورى نقـرة كما اختلس الجرعة الوالغ
وتسجد من بعدها سـجـدة كما ختم المزود الفـارغ انقطعت عنه بنت الكراعة وكان يحبها فقال شعرا: أخبرني الحسين بن القاسم قال حدثني عبيد الله بن موسى الكاتب قال: كانت بنت الكراعة تألف عبد الله بن المعتز، وكان يحب غناءها ويستظرفها ويحبها ويواصل إحضارها، ثم انقطعت عنه فقال:
ليت شعري بمن تشاغلت بعدي وهو لا شك جاهل مغـرور
هكذا كنت مثله فـي سـرور وغدا في الهموم مثلي يصير كان يحب جارية قبيحة الصورة فاعترض عليه النميري فأجابه بشعر: حدثني جعفر بن قدامة قال: كنا عند ابن المعتز يوما ومعنا النميري، وعنده جارية لبعض بنات المغنين تغنيه، وكانت محسنة إلا أنها كانت في غاية من القبح، فجعل عبد الله يجمشها ويتعلق بها. فلما قامت قال له النميري: أيها الأمير، سألتك بالله أتتعشق هذه التي ما رأيت قط أقبح منها? فقال عبد الله وهو يضحك:
قلبي وثاب إلى ذا وذا ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي ويرحم القبح فيهـواه راسل خزامى فتأخرت عنه فقال شعرا فأجابته: أخبرنا الحسين بن القاسم قال حدثني أبو الحسن الأموي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال: كانت خزامى جارية الضبط المغنى تنادمني، وأنا حدث ثم تركت النبيذ. وكانت مغنية محسنة شاعرة ظريفة. فراسلتها مرارا فتأخرت عني، فكتبت إليها:
رأيتك قد أظهرت زهدا وتـوبة فقد سمجت من بعد توبتك الخمر
فأهديت وردا كي يذكـر عـيشة لمن لم يمتعنا ببهجتها الـدهـر فأجابت:
أتاني قريض يا أمـيري مـحـبـر حكى لي نظم الدر فصل بالـشـذر
أأنكرت يابن الأكرمـين إنـابـتـي وقد أفصحت لي ألسن الدهر بالزجر
وآذنني شـرخ الـثـياب بـبـينـه فيا ليت شعري بعد ذلك ما عـذري شعره في موسم الربيع: حدثني جعفر بن قدامة قال: كنت أسرح مع عبد الله بن المعتز في يوم من أيام الربيع بالعباسية والدنيا كالجنة المزخرفة. فقال عبد الله:
حبـذا آذار شـهــرا فيه للنور انـتـشـار
ينقص الـلـيل إذا جـا ءويمـتـد الـنـهـار
وعلى الأرض اخضرار واصفرار واحمـرار
فكأن الـروض وشـي بالغت فيه الـتـجـار
نقشـه آس ونـسـري ن وورد وبـهـــار هنأ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بولاية ابنه محمد شرطة بغداد: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد استخلف مؤنس ابنه محمد بن عبيد الله على الشرطة ببغداد:
فرحت بما أضعافـه دون قـدركـم وقلت عسى قد هب من نومه الدهر
فتـرجـع فـينـا دولة طـاهـرية كما بدأت، والأرض من بعده الأمر
عسى الله، إن الله لـيس بـغـافـل ولا بد من يسر إذا ما انتهى العسر فكتب إليه عبيد الله قصيدة منها:
ونحن إذا ما نلنا مـس جـفـوة فمنا على لأوائها الصبر والعذر
وإن رجعت من نعمة اللـه دولة إلينا فمنا عندها الحمد والشكـر انقطع عنه محمد هذا مدة طويلة فكتب له شعرا يعاتبه: قال: وجاءه محمد بن عبيد الله بعقب هذا شاكرا لتهنئته، ثم لم يعد إليه مدة طويلة. فكتب إليه عبد الله بن المعتز:
قد جئتـنـا مـرة ولـم تـعـد ولم تزر بعـدهـا ولـم تـعـد
لست أرى واجدا بنـا عـوضـا فاطلب وجرب واستقص واجتهد
صفحة : 1170
ناولني حبل وصله بيد وهجره جاذبا له بيد
فلم يكن بين ذا وذا أمد إلا كما بين ليلة وغد أبيات من معلقة زهير وشرحها
صوت
أمن أم أوفى دمنة لم تـكـلـم بحومانة الدراج فالمـتـثـلـم
بها العين والآرام يمشين خلـفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقفت بها من بعد عشرين حجة فلأيا عرفت الدار بعد تـوهـم
فلما عرفت الدار قلت لربعهـا ألا عم صباحا أيها الربع واسلم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه يطيع العوالي ركبت كل لهـذم
ومن هاب أسباب المنية يلقـهـا ولو رام أسباب السماء بسـلـم عروضه من الطويل. الحومانة، فيما ذكر الأصمعي، الأرض الغليظة، وجمعها حوامين. وقال غيره: الحومانة: ما كان دون الرمل. والدراج والمتثلم: موضعان. وروى أبو عمرو عن بعض ولد زهير الدراج مضمومة الدال. والعين: البقر. والآرام تسكن الجبال. خلفة: يذهب فوج ويجيء فوج يخلفه مكانه. ويروى: مجثم ومجثم. فمن قال مجثم قال: جثم يجثم جثوما، ومن قال مجثم قال: جثم يجثم جثما، واللأي: البط. الزجاج: جمع زج. قال: وأصله أن القوم كانوا إذا أرادوا صلحا قلبوا زجاج الرماح إلى فوق، فإن أبوا إلا الحرب قلبوا الأسنة. واللهذم: السنان المحدد؛ يقال رمح لهدم وسنان لهذم: حاد. وأم أوفى: امرأة كانت لزهير فطلقها. وله في ذلك خبر يذكر بعد هذا.
الشعر لزهير بن أبي سلمى. والغناء للغريض، ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق في الأول والثاني من الأبيات. وفيها لبذل الكبيرة ثقيل أول بالبنصر. ولعلويه في الثالث والرابع ثقيل أول. ولإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى في الخامس والسادس. وفيهما ثقيل أول يقال إنه ليزيد حوراء.
نسب زهير وأخباره
نسبه: هو زهير بن أبي سلمى . واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن الأصم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار. ومزينة أم عمرو بن أد هي بنت كلب بن وبرة.
هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء: وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وإنما اختلف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه. فأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم امرؤ قيس وزهير والنابغة الذبياني.
قال جرير هو شاعر الجاهلية: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن أبي قيس عن عكرمة بن جرير عن أبيه قال: شاعر أهل الجاهلية زهير.
قال عمر لابن عباس إنه شاعر الشعراء: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا هارون بن عمر قال حدثنا أيوب بن سويد قال حدثنا يحيى بن يزيد عن عمر بن عبد الله الليثي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب ليلة مسيره إلى الجابية : أين ابن عباس? فأتيته ؛ فشكا تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقلت : أو لم يعتذر إليك? قال بلى. قلت: فهو ما اعتذر به. ثم قال: أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر. إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة - ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب فتركتها أنا - ثم قال: هل تروي لشاعر الشعراء? قلت: ومن هو? قال: الذي يقول:
ولو أن حمدا يخلد الناس أخلدوا ولكن حمد الناس ليس بمخلـد قلت: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: وبم كان شاعر الشعراء? قال: لأنه لا يعاظل في الكلام وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه. قال الأصمعي: يعاظل بين الكلام: يداخل فيه . ويقال: يتبع حوشي الكلام، ووحشي الكلام، والمعنى واحد.
كان قدامة بن موسى يقدمه على سائر الشعراء: أخبرنا أبو خليفة قال قال ابن سلام وأخبرني عمر بن موسى الجمحي عن أخيه قدامة بن موسى - وكان من أهل العلم -: أنه كان يقدم زهيرا. قلت: فأي شيء كان أعجب إليه? قال: الذي يقول فيه:
قد جعل المبتغون الخير من هرم والسائلون إلى أبوابه طـرقـا قال جرير هو أشعر أهل الجاهلية
قال ابن سلام وأخبرني أبو قيس العنبري - ولم أر بدويا يفي به - عن عكرمة بن جرير قال:
صفحة : 1171
قلت لأبي: يا أبت من أشعر الناس? قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام? قلت: ما أردت إلا الإسلام. فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها. قال: زهير أشعر أهلها. قلت: فالإسلام? قال: الفرزدق نبعة الشعر. قلت: فالأخطل? فقال: يجيد مدح الملوك ويصيب وصف الخمر. قلت: فما تركت لنفسك? قال: نحرت الشعر نحرا.
قال عنه الأحنف بن قيس هو أشعر الشعراء: أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا الحارث بن محمد عن المدائني عن عيسى بن يزيد قال: سأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، فقال: زهير. قال: وكيف? قال: ألقى عن المادحين فضول الكلام. قال: مثل ماذا? قال: مثل قوله:
فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبـل مدح عمر بن الخطاب شعره وروى منه: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن عمرو القيسي قال حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان عن زيد بن ثابت عن عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: وحدثنيه غيره وهو أتم من حديثه، قال قال ابن عباس: خرجت مع عمر في أول غزاة غزاها. فقال لي ذات ليلة: يا بن عباس أنشدني لشاعر الشعراء. قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين? قال: ابن أبي سلمى. قلت: وبم صار كذلك? قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام. ، ولا يعاظل من المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه. أليس الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية من المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلـق مـبـرز سبوق إلى الغايات غير مزنـد
كفعل جواد يسبق الخيل عفوه ال سراع وإن يجهد ويجهدن يبعـد
ولو كان حمد يخلد الناس لم تمت ولكن حمد الناس ليس بمخـلـد أنشدني له، فأنشدته حتى برق الفجر. قال: حسبك الآن، إقرأ القرآن. قلت: وما أقرأ? قال: اقرأ الواقعة، فقرأتها ونزل فأذن وصلى.
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا أبو عبيدة عن عيسى بن يزيد بن بكر قال قال ابن عباس: خرجت مع عمر، ثم ذكر الحديث نحو هذا.
استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فما قال شعرا حتى مات: وجدت في بعض الكتب عن عبد الله بن شبيب عن الزبير بن بكار عن حميد بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أخيه إبراهيم بن محمد يرفعه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى زهير بن أبي سلمى وله مائة سنة فقال: اللهم أعذني من شيطانه فما لاك بيتا حتى مات.
خرج أبوه أبو سلمى مع خاله وابن خاله لغزو طيء فمنعاه حقه في المغنم، وشعره في ذلك: قال ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني: كان من حديث زهير وأهل بيته أنهم كانوا من مزينة، وكان بنو عبد الله بن غطفان جيرانهم، وقدما ولدتهم بنو مرة. وكان من أمر أبي سلمى أنه خرج وخاله أسعد بن العدير بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وابنه كعب بن أسعد في ناس من بني مرة يغيرون على طيء، فأصابوا نعما كثيرة وأموالا فرجعوا حتى انتهوا إلى أرضهم. فقال أبو سلمى لخاله أسعد وابن خاله كعب: أفردا لي سهمي، فأبيا عليه ومنعاه حقه، فكف عنهما؛ حتى إذا الليل أتى أمه فقال: والذي أحلف به لتقومن إلى بعير من هذه الإبل فلتقعدن عليه أو لأضربن بسيفي تحت قرطيك. فقامت أمه إلى بعير منها فاعتنقت سنامه، وساق بها أبو سلمى وهو يرتجز ويقول:
ويل لأجمال العجوز مني إذا دنوت ودنون منـي
كأنني سمعمع من جن - سمعمع: لطيف الجسم قليل اللحم - وساق الإبل وأمه حتى انتهى إلى قومه مزينة.
فذلك حيث يقول:
ولتغدون إبل مـجـنـبة من عند أسعد وابنه كعب - مجنبة: مجنوبة -
الآكلين صريح قومهـمـا أكل الحبارى برعم الرطب البرعم: شجرة ولها نور - قال: فلبث فيهم حينا، ثم أقبل بمزينة مغيرا على بني ذبيان. حتى إذا مزينة أسهلت وخلفت بلادها ونظروا إلى أرض غطفان، تطايروا عنه راجعين، وتركوه وحده. فذلك حيث يقول:
من يشتري فرسا لخير غزوها وأبت عشيرة ربها أن تسهلا
صفحة : 1172
يعني أن تنزل السهل. قال: وأقبل حين رأى ذلك من مزينة حتى دخل في أخواله بني مرة. قلم يزل هو وولده في بني عبد الله بن غطفان إلى اليوم.
قال معلقته في مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف وقد حملا دية هرم بن ضمضم في مالهما: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم قالها زهير في قتل ورد بن حابس العبسي هرم بن ضمضم المري الذي يقول فيه عنترة وفي أخيه:
ولقد خشيت بأن الموت ولم تـدر للحرب دائرة على ابني ضمضم ويمدح بها هرم بن سنان والحارث بن عوف بن سعد بن ذبيان المريين لأنهما احتملا ديته في مالهما؛ وذلك قول زهير:
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بـالـدم يعني بني غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
قال الأثرم أبو الحسن حدثني أبو عبيدة قال: كان ورد بن حابس العبسي قتل الهرم بن ضمضم المري، فتشاجر عبس وذبيان قبل الصلح، وحلف حصين بن ضمضم ألا يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلا من بني عبس ثم من بني غالب، ولم يطلع على ذلك أحدا، وقد حمل الحمالة الحارث بن عوف بن أبي حارثة، وقيل بل أخوه حارثة بن سنان.
فأقبل رجل من بني عبس ثم أحد بني مخزوم، حتى نزل بحصين بن ضمضم. فقال له الحصين: من أنت أيها الرجل? قال: عبسي. قال: من أي عبس? فلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى بني غالب، فقتله حصين. وبلغ ذلك الحارث بن عوف وهرم بن سنان فاشتد عليهما، وبلغ بني عبس فركبوا نحو الحارث. فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل الحارث. بعث إليهم بمائة من الإبل معها ابنه. وقال للرسول: قل لهم: الإبل أحب إليكم أم أنفسكم? فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك. فقال لهم الربيع بن زياد: يا قوم إن أخاكم قد أرسل إليكم: الإبل أحب إليكم أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم فقالوا نأخذ الإبل ونصالح قومنا، ونتم الصلح. فذلك حين يقول زهير يمدح الحارث وهرما:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم وهي أول قصيدة مدح بها هرما. ثم تابع ذلك بعد.
قصة زواج الحارث بن عوف ببهيسة بنت أوس وتحمله الدية في ماله بين عبس وذبيان: وقد أخبرني الحسن بن علي بهذه القصة، وروايته أتم من هذه، قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال:
صفحة : 1173
قال الحارث بن عوف بن أبي حارثة: أتراني أخطب إلى أحد فيردني? قال نعم. قال: ومن ذاك. قال: أوس بن حارثة بن لأم الطائي. فقال الحارث لغلامه: ارحل بنا، ففعل. فركبا حتى أتيا أوس بن حارثة في بلاده فوجداه في منزله. فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحبا بك يا حار. قال: وبك. قال: ما جاء بك يا حار? قال: جئتك خاطبا. قال: لست هناك. فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس على امرأته مغضبا وكانت من عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل ولم تكلمه? قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري. قالت: فما لك لم تستنزله? قال: إنه استحمق. قالت: وكيف? قال: جاءني خاطبا. قالت: أفتريد أن تزوجك بناتك? قال: نعم. قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن? قال: قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما كان منك. قال: بماذا? قالت: تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه? قالت: تقول له: إنك لقيتني مغضبا بأمر لم تقدم فيه قولا، فلم يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت، فانصرف ولك عندي كل ما أحببت فإنه سيفعل. فركب في أثرهما. قال خارجة بن سنان: فو الله إني لأسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث وما يكلمني غما فقلت له: هذا أوس بن حارثة في أثرنا. قال: وما نصنع به امض . فلما رآنا لا نقف عليه صاح: يا حار اربع علي ساعة. فوقفنا له فكلمه بذلك الكلام فرجع مسرورا. فبلغني أن أوسا لما دخل منزله قال لزوجته أدعي لي فلانة لأكبر بناته فأتته، فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب، قد جاءني طالبا خاطبا، وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين? قالت: لا تفعل. قال: ولم? قالت: لأني امرأة في وجهي ردة ، وفي خلقي بعض العهدة ، ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك الله عليك. ادعي لي فلانة لابنته الوسطى ؛ فدعتها، ثم قال لها مثل قوله لأختها؛ فأجابته بمثل جوابها وقالت: إني خرقاء وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي في ذلك ما تعلم، وليس بابن عمي فيرعى حقي، ولا جارك في بلدك فيستحييك. قال: قومي بارك الله عليك. أدعي لي بهيسة يعني الصغرى ، فأتي بها فقال لها كما قال لهما. فقالت: أنت وذاك. فقال لها: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت - ولم يذكر لها مقالتيهما - لكني والله الجميلة وجها، الصناع يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال: بارك الله عليك. ثم خرج إلينا فقال: قد زوجتك يا حارث بهيسة بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له، وأنزله إياه. فلما هيئت بعث بها إليه. فلما أدخلت إليه لبث هنيهة ثم خرج إلي. فقلت: أفرغت من شأنك? قال: لا والله. قلت: وكيف ذاك? قال: لما مددت يدي إليها قالت: مه أعند أبي وإخوتي هذا والله ما لا يكون. قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا ورحلنا بها معنا، فسرنا ما شاء الله. ثم قال لي: تقدم فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، فلما لبث أن لحق بي. فقلت: أفرغت? قال: لا والله. قلت: ولم? قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة أو السبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزر، وتذبح الغنم، وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل لمثلي. قلت: والله إني لأرى همة وعقلا، وأرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء الله. فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها وخرج إلي. فقلت: أفرغت? قال: لا. قلت: ولم? قال: دخلت عليها أريدها، وقلت لها قد أحضرنا من المال ما قد ترين، فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك. قلت: وكيف? قالت: أتفرغ لنكاح النساء والعرب تقتل بعضها وذلك في أيام حرب عبس وذبيان . قلت: فيكون ماذا? قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: والله إني لأرى همة وعقلا، ولقد قالت قولا. قال: فاخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا فيما بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحتسبوا القتلى؛ فيؤخذ الفضل ممن هو عليه، فحملنا عنهم الديات، فكانت ثلاثة الآف بعير في ثلاث سنين، فانصرفنا بأجمل الذكر. قال محمد بن عبد العزيز: فمدحوا بذلك، وقال فيه زهير بن أبي سلمى قصيدته:
صفحة : 1174
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم فذكرهما فيها فقال:
تداركتما عبسا وذبيان بعدمـا تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فأصبح يجري فيهم من تلادكم مغانم شتى من إفال المرنـم
ينجمها قوم لـقـوم غـرامة ولم يهريقوا بينهم ملء محجم وذكر قيامهم في ذلك فقال:
صحا القلب وقد كاد لا يسلو وهي قصيدة يقول فيها:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها وذبيان قد زلت بأقدامها النعـل وهذه لهم شرف إلى الآن، ورجع فدخل بها، فولدت له بنين وبنات.
مدح بقصيدته القافية هرما وأباه وإخواته: ومما مدح به هرما وأباه وإخواته وغني فيه قوله: صوت
إن الخليط أجد البين فانفـرقـا وعلق القلب من أسماء ما علقا
وأخلفتك ابنة البكري وما وعدت فأصبح الحبل منها واهنا خلقـا
قامت تبدى بذي ضال لتحزنني ولا محالة أن يشتاق من عشقا
بجيد مـغـزلة أدمـاء خـاذلة من الظباء تراعي شادنا خرقا انفرق: انفعل، من الفرقة. وأجد وجد بمعنى واحد، من الجد خلاف اللعب. والواهن والواهي واحد. والحبل: السبب في المودة . والضال: السدر الصغار، واحدتها ضالة. والجيد: العنق. والمغزلة: الظبية التي لها غزال. والأدماء: البيضاء. والخاذلة: المقيمة على ولدها ولا تتبع الظباء. والشادن: الذي قد شدن أي تحرك ولم يقو بعد. والخرق: الدهش.
غنى مالك في الأول والثاني من الأبيات خفيف رمل بالوسطى، وقيل إنه لابن جامع، وقيل بل لحن ابن جامع بالبنصر. وفي الثالث والرابع لابن المكي رمل صحيح من رواية بذل والهشامي.
وفي هذه القصيدة يقول يمدح هرما:
قد جعل المبتغون الخير من هـرم والسائلون إلى أبوابـه طـرقـا
من يلق يوما على علاته هـرمـا يلق السماحة منه والندى خلـقـا
ليث بعثر يصطـاد الـلـيوث إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقـا
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا خرف سنان بن أبي حارثة ثم مات فرثاه: ومن مدائحه إياهم قوله يمدح أبا هرم سنان بن أبي حارثة. وذكر ابن الكلبي أنه هوي امرأة فاستهيم بها؛ وتفاقم به ذلك حتى فقد فلم يعرف له خبر. فتزعم بنو مرة أن الجن استطارته فأدخلته بلادها، واستعجلته لكرمه. وذكر أبو عبيدة أنه قد كان هرم حتى بلغ مائة وخمسين سنة؛ فهام على وجهه خرقا ففقد. قال: فزعم لي شيخ من علماء بني مرة أنه خرج لحاجته باليل فأبعد، فلما رجع ضل فهام طول ليلته حتى سقط فمات، وتبع قومه أثره فوجدوه ميتا فرثاه زهير بقوله:
إن الرزية لا رزية مثـلـهـا ما تبتغي غطفان يوم أضلـت
إن الركاب لتبتـغـي ذا مـرة بجنوب نجد إذا الشهور أحلت
ينعين خير الناس عنـد شـديدة عظمت مصيبته هناك وجلت
ومدفع ذاق الهوان مـلـعـن راخيت عقدة حبله فانحـلـت
ولنعم حشو الدرع كان إذا سطا نهلت من العلق الرماح وعلت أشعار له غنى فيها: والذي فيه غناء من مدائح زهير قوله: صوت
أمن أم سلمى عرفت الطلولا بذي حرض ما ثلاث مثولا
بلين وتـحـسـب آياتـهـن على فرط حولين رقا محيلا الماثل ها هنا: اللاطىء بالأرض، وفي موضع آخر: المتنصب القائم. وذو حرض: موضع. والحرض: الأشنان. وآياتهن: علاماتهن. وفرط حولين: تقدم حولين، والفارط: المتقدم.
غنى في هذين البيتين إسحاق، وله فيهما لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، من كتابه. والآخر ما خوري من مجموع غنائه، وروايته عن الهشامي. وفيهما للزبير بن دحمان خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. يقول فيها:
إليك سنان الـغـداة الـرحـي ل أعصي النهاة وأمضي الفؤولا جمع فأل، أي لا أتطير.
فلا تأمنـي غـزو أفـراسـه بنـي وائل واحـذريه جـديلا
وكيف اتـقـاء امـرئ لا يؤو ب بالقوم في الغزو حتى يطيلا
صفحة : 1175
ومن الغناء في مدائح هرم قوله: صوت
قف بالديار التي لم يعفها القدم بلى وغيرها الأرواح والـديم
كأن عيني وقد سال السليل بهم وعبرة ما هم لو أنهـم أمـم
غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق في السلك خان به رباته النظم الديم: جمع ديمة وهو المطر الذي يدوم يوما أو يومين مع سكون. سال السليل بهم: أي ساروا فيه سيرا سريعا. والسليل: واد. وقوله وعبرة ما هم أي هم عبرة ، وما ها هنا صلة. لو أنهم أمم أي قصد كنت أزوهم. والأمم: بين القريب والبعيد. والقلق: الذي لم يستقر لما انقطع الخيط. والنظم: جمع واحدها نظام، شبه دموعه بلؤلؤ انقطع سلكه، وبماء سال من الغرب.
الغناء في هذه الأبيات رمل لابن المكي بالوسطى عن عمرو. وذكر عمرو أن لإسحاق فيها لحنا أيضا. وذكر يونس أن فيها لحنا لمالك.
صوت
لمن الديار بقنة الـحـجـر أقوين مذحجج ومـذدهـر
لعب الرياح بها وغـيرهـا بعدي سوافي الريح والقطر
دع ذا وعد القول في هـرم خير الكهول وسيد الحضر
لو كنت من شيء سوى بشر كنت المنور ليلة الـبـدر القنة: الجبل الذي ليس بمنتشر. أقوين: خلون. والسوافي: ما تسفي الرياح . قال: والقطر مخفوضة بنسقه على الريح ، والقطر لا سوافي له. وهذا تفعله العرب في المجاورة، وهو في مثل قولهم: حجر ضب خرب.
غنى في هذه الأبيات سائب خاثر من رواية حماد عن أبيه، ولم يجنسه. وفيه ثقيل أول بالبنصر نسبه عمرو بن بانة إلى معبد، ونسبه غيره إلى سائب، وإلى الأوسية مما ذكر حبش. قال: وهي من قيان الحجاز القدائم مولاة للأوس.
ومنها قوله يمدح سنان بن أبي حارثة: صوت
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التعانيق فالـثـقـل
وقد كنت من سلمى سنـين ثـمـانـيا على صير أمر ما يمر وما يحـلـو
وكنت إذا ما جـئت يومـا لـحـاجة مضت وأجمت حاجة الغد ما تخلـو
وكل محب أحـدث الـنـأي عـنـده سلو فؤاد غير حـبـك مـا يسـلـو
تأوبـنـي ذكـر الأحـبة بـعـدمـا هجعت ودوني قلة الحزن فالـرمـل
فأقسمت جهدا بالمنازل مـن مـنـى وما سحفت فيه المقاديم والـقـمـل
لأرتحلـن بـالـفـجـر ثـم لأدأبـن إلى الليل إلا أن يعرجنـي طـفـل
وهل ينبت الخـطـي إلا وشـيجـه وتغرس إلا منابـتـهـا الـنـخـل التعانيق والثقل: موضعان. ويروى: فالنخل. وقوله على صير أمر: أي على شرف أمر. وأجمت: دنت. وتأوبني: أتاني ليلا. والتأويب: سير يوم إلى الليل. سحفت: حلقت، يقال سحف رأسه وسبته وجلطه: حلقه. وقوله يعرجني طفل قال يقال الطفل: الليل، ويقال الطفل: مغيب الشمس، وقال أبو عبيدة: الطفل: الحزن، وإيقاده نار التحيير. والخطي: رماح نسبها إلى الخط وهي من جزيرة بالبحرين ترفأ إليها سفن الرماح. والوشيج: القنا واحدها وشيجة. والوشوج: دخول الشيء بعضه في بعض.
غنى إبراهيم الموصلي في الأول والثاني ثقيلا أول بالبنصر من رواية الهشامي وعمرو. وغنى إبراهيم أيضا في السادس والسابع والثامن خفيف ثقيل. وفي الثالث لمعبد خفيف ثقيل. ولعلويه في السابع والثامن خفيف رمل. وذكر حبش أن لإبراهيم في الثامن لحنا ماخوريا.
ومن الغناء في مدائحه هرما قوله: صوت
لمن طلل برامة لا يريم عفا وأحاله عهد قـديم
تطالعني خيالات لسلمى كما يتطالع الدين الغريم غناه دحمان ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. وعفا: درس ها هنا، وفي موضع آخر: كثر، وهو من الأضداد. وخيالات: جمع خيال.
أنشد عمر رضي الله عنه شعرا له في هرم بن سنان فمدحه: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة، وقال المهلبي في خبر له عن الأصمعي قال: أنشد عمر بن الخطاب قول زهير في هرم بن سنان يمدحه:
دع ذا وعد القول في هرم خير الكهول وسيد الحضر
صفحة : 1176
لو كنت من شيء سوى بشر كنت المنور لـيلة الـبـدر
ولأنت أوصل منح سمعت به لشوابك الأرحام والصهـر
ولنعم حشو الدرع أنـت إذا دعيت نزال ولج في الذعر
وأراك تفري ما خلقت وبـع ض القوم يخلق ثم لا يفري
أثني عليك بما علمـت ومـا أسلفت في النجدات من ذكر
والستر دون الفاحشـات ولا يلقاك دون الخير من ستـر فقال عمر: ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال عمر لبعض ولد هرم قد خلد ذكره لكم: قال وقال عمر لبعض ولد هرم: أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده. فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم القول. قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء. فقال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
حلف هرم أن يعطيه كلما لقيه: قال: وبلغني أن هرم كان قد حلف ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه: عبدا أو وليدة أو فرسا. فآستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رأه في ملأ قال: عموا صباحا غير هرم، وخيركم استثنيت. وروى المهلبي: وخيركم تركت.
سأل عمر ابنه عن الحلل التي كساه إياها هرم فأجابه: أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبه قال: قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك? قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر. وقد ذكر الهيثم بن عدي أن عائشة خاطبت بهذه المقالة بعض بنات زهير.
شعر له مدح به هرما ولم يسبقه إليه أحد: وقال أبو زيد عمر بن شبة: ومما سبق فيه زهير في مدح هرم ولم يسبقه إليه أحد قوله:
قد جعل المبتغون الخير من هرم والسائلون إلى أبوابه طـرقـا
من يلق يوما على علاته هرمـا يلق السماحة منه والندى خلقـا
يطلب شأو امرأين قدما حسـبـا بذا الملوك وبذا هذه السـوقـا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهمـا على تكاليفه فمثلـه لـحـقـا
أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقـا مدح عبد الملك بن مروان شعره في مدح آل أبي حارثة: أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال قال المدائني: قال عبد الملك بن مروان: ما يضر من مدح بما مدح به زهير آل أبي حارثة من قوله:
على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبـذل ألا يملك أمور الناس يعني الخلافة . قال ثم قال: ما ترك منهم زهير غنيا ولا فقيرا إلا وصفه ومدحه.
مدح عثمان بن عفان شعرا له: وقال ابن الأعرابي قال أبو زياد الكلابي: أنشد عثمان بن عفان قول زهير:
ومنهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم فقال: أحسن زهير وصدق، لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت لتحدث به الناس. قال وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تعمل عملا تكره أن يتحدث عنك به .
تمثل عروة بن الزبير ببيت له وقد استخلف به عبد الملك بن مروان: قال وقال علي بن محمد المدائني حدثني ابن جعدويه: أن عروة بن الزبير لحق بعبد الملك بن مروان بعد قتل أخيه عبد الله بن الزبير. فكان إذا دخل إليه منفردا أكرمه، وإذا دخل عليه وعنده أهل الشام استخف به. فقال له يوما: يا أمير المؤمنين، بئس المزور أنت، تكرم ضيفك في الخلا، وتهينه في الملا، وقال : لله در زهير حيث يقول:
فقري في بلادك إن قوما متى يدعوا بلادهم يهونوا ثم استأذنه في الرجوع إلى المدينة، فقضى حوائجه وأذن له. وهذا البيت من قصيدة لزهير قالها في بني تميم، وقد بلغه أنها حشدت لغزو غطفان؛ أولها:
ألا أبلغ لديك بني تمـيم وقد يأتيك بالخبر الظنون الظنون: الذي لست منه على ثقة. والظنين: المتهم.
شعره في الحارث بن ورقاء وقد أخذ إبله وغلا: كان الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد أغار على بني عبد الله بن غطفان فغنم فاستاق إبل زهير وراعيه يسارا. فقال زهير:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقا أية سلـكـوا وهي طويلة يقول فيها:
صفحة : 1177
لئن حللت بجو في بـنـي أسـد في دين عمرو وحالت بيننا فدك
ليأتينك منـي مـنـطـق قـذع باق كما دنس القبطـية الـودك
فاردد يسارا ولا تعنف عليه ولا تمعك بعرضك إن الغادر المعك
ولا تكونن كأقوام علـمـتـهـم يلوون ما عندهم حتى إذا نهكوا
طابت نفوسهم عن حق خصمهم مخافة الشر وارتدوا لما تركوا وفي هذه القصيدة مما يغنى فيه: صوت
أهوى لها أسفع الخدين مطـرق ريش القوادم لم ينصب له شرك
وقد أكون أمام الحي تحملـنـي جرداء لا فحج فيها ولا صكك أهوى لها - يعني القطاة تقدم وصفه إياها - صقر. ورواه الأصمعي: هوى لها وقال: هوى: انقض، وأهوى: أوفى. ومطرق: ريشه بعضه على بعض ليس بمنتشر، وهو أعتق له. وقوله لم ينصب له شرك: أي لم يصطد ولم يذلل. والقوادم: العشر المتقدمات. والفحج: تباعد ما بين الفخذين. والصكك: اصطكاك العرقوبين في الدواب، وفي الناس الركبتين. قال: فلما أنشد الحارث هذا الشعر بعث بالغلام إلى زهير. وقيل: بل أنشد قول زهير:
تعلم أن شر الناس حـي ينادى في شعارهم يسار
ولولا عبسه لرددتمـوه وشر منيحة أير معـار
إذا جمحت نساؤكم إلـيه أشظ كأنه مسد مغـار
يبربر حين يعدو من بعيد إليها وهو قبقاب قطار فرده عليه. فلامه قومه وقالوا له: اقتله ولا ترسل به إليه، فأبى عليهم. فقال زهير عند ذلك:
أبلغ لديك بني الصيداء كلهـم أن يسارا أتانا غير مغلـول
ولا مهان ولكن عند ذي كرم وفي حبال وفي العهد مأمول وهي قصيدة. فقال الحارث لقومه: أيما أصلح. ما فعلت أو ما أردتم ?قالوا: بل ما فعلت.
كان يذكر في شعره بنو غطفان وأحوال بني مرة ويمدحهم: قال ابن الأعرابي وحدثني أبو زياد الكلابي: إن زهيرا وأباه وولده كانوا في بني عبد الله بن غطفان، ومنزلهم اليوم بالحاجر ، وكانوا فيه في الجاهلية. وكان أبو سلمى تزوج إلى رجل من بني فهر بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان يقال له الغدير -والغدير هو أبو بشامة الشاعر - فولدت له زهيرا وأوسا، وولد لزهير من امرأة من بني سحيم. وكان زهير يذكر في شعره بني مرة وغطفان ويمدحهم. وكان زهير في الجاهلية سيدا كثير المال حليما معروفا بالورع.
شكا إليه رجل من غطفان بني عليم بن جناب فهجاهم: قال وحدثني حماد الراوية عن سعيد الرواية عن سعيد بن عمرو بن سعيد: أنه بلغه أن زهيرا هجا آل بيت من كلب من بني عليم بن جناب ، وكان بلغه عنهم شيء من وراء وراء ،وكان رجل من بني عبد الله بن غطفان أتى بني عليم ، وأكرموه لما نزل بهم وأحسنوا جواره، وكان رجلا مولعا بالقمار فنهوه عنه، فأبى إلا المقامرة. قمر مرة فردوا عليه، ثم قمر أخرى فردوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه، فترحل عنهم وشكا ما صنع به إلى زهير، والعرب حينئذ يتقون الشعراء اتقاء شديدا. فقال: ما خرجت في ليلة ظلماء إلا خفت أن يصيبني الله بعقوبة لهجائي قوما ظلمتهم. قال:والذي هجاهم به قوله:
عفا من آل فاطمة الجـواء فيمن فالقوام فالـحـسـاء
فذو هاش فميث عريتنـات عفتها الريح بعدك والسماء
جرت سنحا فقلت لها أجيزي نوى مشمولة فمتى اللقـاء
كأن أوابد الثـيران فـيهـا هجائن في مغابنها الطـلاء
لقد طالبتها ولـكـل شـيء وإن طالت لجاجته انتهـاء
وقد أغدو على شرب كـرام نشاوى واجدين لما نـشـاء
لهم طاس وراووق ومسـك تعل به جلـودهـم ومـاء
صفحة : 1178
الجواء: أرض. ويمن والقوادم: في بلاد غطفان. والميث: جمع ميثاء. قال أبو عمرو: إذا كان مسيل الماء مثل نصف الوادي أو ثلثيه فهي ميثاء. والسماء ها هنا: المطر. والسانح: ما أقبل من شمالك يريد يمينك. والبارح: ضده. وقال أبو عبيدة: سمعت يونس بن حبيب يسأل رؤبة عن السانح والبارح فقال: السانح: ما ولاك ميامنه. والبارح: ما ولاك مشائمه. وأجيزي: انفذي. قال الأصمعي: يقال أجزت الوادي إذ قطعته وخلفته، وجزته: إذا سرت فيه فتجاوزته. والأوابد: الوحشية. والهجائن: إبل بيض. والمغابن: الأرفاغ، واحدها مغبن. ومشمولة: سريعة الانكشاف. أخذه من الريح الشمال إذا كانت مع السحاب لم يلبث أن يذهب . وجعل مشمولة ها هنا في النوى لأن نيتهم كانت سريعة، فأحرى ذلك مجرى الذم، فهذه السنح.
غنى في الأول والثاني والسابع معبد ثقيلا أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وذكر علي بن يحيى أن للغريض فيها خفيف ثقيل. وذكر حبش أن فيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى. وفي الثالث والرابع مع بيت ليس لزهير أضيف إلى الشعر وهو:
بنفسي من تذكره سقام أعالجه ومطلبه عناء في هذه الأبيات الثلاثة خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها، ذكر إسحاق أنه للغريض، وغيره ينسبه إلى ابن سريج وإلى ابن عائشة. وفي الرابع والخامس لعلويه رمل لا يشك فيه من غنائه.
طلب من خاله بشامة وهو يحتضر أن يقسم له من ماله فقال له أورثتك الشعر: وقال ابن الأعرابي حدثني أبو زياد، وذكر بعض هذا الخبر إسحاق الموصلي عن حماد الراوية وعن ابن الكلبي عن أبيه قال: وكان بشامة بن الغدير خال زهير بن أبي سلمى، وكان زهير منقطعا إليه وكان معجبا بشعره. وكان بشامة رجلا مقعدا ولم يكن له ولد، وكان مكثرا من المال، ومن أجل ذلك نزل إلى هذا البيت في غطفان لخئولتهم. وكان بشامة أحزم الناس رأيا، وكانت غطفان إذا أرادوا أن يغزوا أتوه فاستشاروه وصدروا عن رأيه، فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، فمن أجل ذلك كثر ماله. وكان أسعد غطفان في زمانه. فلما حضره الموت جعل يقسم ماله في أهل بيته وبين بني إخوته. فأتاه زهير فقال: يا خالاه لو قسمت لي من مالك فقال: والله يابن أختي لقد قسمت لك أفضل ذلك وأجزله. قال: وما هو. قال: شعري ورثتنيه، وقد كان زهير قبل ذلك قال الشعر، وقد كان أول ما قال. فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتد به علي? فقال له بشامة: ومن أين جئت بهذا الشعر لعلك ترى أنك جئت به من مزينة، وقد علمت العرب أن حصاتها وعين مائها في الشعر لهذا الحي من غطفان ثم لي منهم، وقد رويته عني. وأحذاه نصيبا من ماله ومات.
بشامة خاله شاعر مجيد وشيء من شعره: وبشامة شاعر مجيد وهو الذي يقول: صوت
ألا ترين وقد قطعتني قـطـعـا ماذا من الفوت بين البخل والجود
إلا يكـن ورق يومـا أراح بـه للخابطين فإنـي لـين الـعـود الغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر، وقيل: إنه لإبراهيم.
طلق زوجته أم أوفى ثم ندم فقال شعرا: قال ابن الأعرابي: أم أوفى التي ذكرها زهير في شعره كانت امرأته، فولدت منه أولادا ماتوا، ثم تزوج بعد ذلك امرأة أخرى، وهي أم ابنيه كعب وبجير؛ فغارت من ذلك وآذته، فطلقها ثم ندم فقال فيها:
لعمرك والخطوب مغيرات وفي طول المعاشرة التقالي
لقد باليت مظعـن أم أوفـى ولكن أم أوفى ما تبـالـي
فأما إذ نأيت فلا تـقـولـي لذي صهر أذلت ولم تذالي
أصبت بني منك ونلت منـي من اللذات والحلل الغوالي عانت امرأة ابنه سالما فمات فرثاه: وقال ابن الأعرابي: كان لزهير ابن يقال له سالم، جميل الوجه حسن الشعر. فأهدى رجل إلى زهير بردين ، فلبسهما الفتى وركب فرسا له، فمر بامرأة من العرب بماء يقال له النتاءة ، فقالت: ما رأيت كاليوم قط رجلا ولا بردين ولا فرسا. فعثر به الفرس فاندقت عنقه وعنق الفرس وأنشق البردان . فقال زهير يرثيه:
رأت رجلا لاقى من العيش غبطة وأخطأه فيها الأمور العـظـائم
وشب له فيها بنون وتـوبـعـت سلامة أعـوام لـه وغـنــائم
صفحة : 1179
فأصبح محبورا ينظر حولـه بغبطتـه لـو أن ذلـك دائم
وعندي من الأيام ما ليس عنده فقلت تعلم إنما أنت حـالـم
لعلك يوما أن تراعى بفاجـع كما راعني يوم النتاءة سالـم قال ابن الأعرابي: هو وقومه شعراء: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، وكان أبوه شاعرا، وخاله شاعرا، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة، وهي القائلة ترثيه:
وما يغني توقي الموت شيئا ولا عقد التميم ولا الغضار - والغضار: كان أحدهم إذا خشي على نفسه يعلق في عنقه خزفا أخضر -
إذا لاقى منيته فأمـسـى يساق به وقد حق الحذار
ولاقـاه مــن الأيام يوم كما من قبل لم يخلد قدار وابن ابنه المضرب بن كعب بن زهير شاعر، وهو القائل:
إني لأحبس نفسي وهـي صـادية عن مصعب ولقد بانت لي الطرق
رعوى عليه كما أرعى على هرم جدي زهير وفينا ذلك الـخـلـق
مدح الملوك وسعي في مسرتهـم ثم الغنى ويد الممدوح تنطـلـق ما امتاز به شعره وكان سبب تقديمه: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: من قدم زهيرا احتج بأنه كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم أمثالا في شعره.
مرثية ابنه سالم: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال: كان لزهير ابن يقال له سالم، وكان من أم كعب بن زهير؛ فمات أو قتل، فجزع عليه كعب جزعا شديدا، فلامته امرأته وقالت: كأنه لم يصب غيرك من الناس فقال:
رأت رجلا لاقى من العيش غبطة وأخطأه فيها الأمور العـظـائم
وشب له فيها بنون وتـوبـعـت سلامة أعـوام لـه وغـنــائم
فأصبح محبورا ينظـر حـولـه بغبـطـتـه لـو أن ذلـك دائم
وعندي من الأيام ما ليس عـنـده فقلت له مهلا فـإنـك حـالـم
لعلك يوما أن تراعي بـفـاجـع كما راعني يوم النتـاءة سـالـم صوت
عزفت ولم تصرم وأنت صـروم وكيف تصابي من يقال حـلـيم
صددت فأطولت الصدود ولا أرى وصالا على طول الصدود يدوم عروضه من الطويل. عزفت عن الشيء: إذا تركته وأبته نفسك. قال ابن الأعرابي: يقول لم تصرم صرم بتات. ولكن صرمت صرم دلال. وأطولت الصدود أي أطلته. وإنما قال هذا ضرورة . الشعر للمرار بن سعيد الفقعسي. والغناء لإسحاق رمل.
ذكر المرار وخبره ونسبه
نسبه وكان قصيرا ضئيل الجسم: هو المرار بن سعيد بن حبيب بن خالد بن نضلة بن الأشيم بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن ذودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار. وأم المرار بنت مروان بن منقذ الذي أغار على بني عامر بثهلان فقتل منهم مائة بحبيب بن منقذ عمه ، وكانوا قتلوه.
وكان المرار قصيرا مفرط القصر ضئيل الجسم. وفي ذلك يقول:
عدوني الثعلب عنـد الـعـدد حتى استشاروا بي إحدى الإحد
ليثا هزبرا ذا سلاح معـتـدي يرمي بطرف كالحريق الموقد كان يهاجي المساور بن هند: وكان يهاجي المساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي. وفيه يقول المرار:
شقيت بنو سعد بشعر مساور إن الشقي بكل حبل يخنـق والمساور القائل فيه:
ما سرني أن أمي من بني أسد وإن ربي ينجيني من النـار
أو أنهم زوجوني من بناتهـم وأن لي كل يوم ألف دينـار من مخضرمي الدولتين أغار هو وأخوه بدر على بني عبس ونهبا إبلهم فحبسهما الوالي: والمرار من مخضرمي الدولتين. وقد قيل: إنه لم يدرك الدولة العباسية.
وقال هذه القصيدة وهو محبوس. ذكر محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل والكوفيين:
صفحة : 1180
أن المرار بن سعيد كان أتى حصين بن براق من بني عبس، فوقف على بيوتهم فجعل يحدث نساءهم وينشدهن الشعر. فنظروا إليه وهو مجتمعون على الماء فظنوا أنه يعظهن. ثم انصرف من عند النساء حتى وقف على الرجال. فقال له بعضهم: أنت يا مرار تقف على أبياتنا وتنشد النساء الشعر فقال: إنما كنت أسألهن. فجرى بينه وبينهم كلام غليظ، فوثبوا عليه وضربوه وعقروا بعيره؛ فانصرف من عندهم إلى بني فقعس فأخبرهم الخبر، فركبوا معه حتى أتوا بني عبس فقاتلوهم فهزموهم، وفقأت بنو فقعس من بني عبس عينا وقتلوا رجلا ثم انصرفوا. فحمل أبو شداد النصري لبني عبس مائتي بعير وغلظوا عليهم في الدية. ثم أن بدر بن سعيد أخا المرار قال: قد استوفت عبس حقها، فعلام أترك ضرب أخي وعقر جمله فخرج حتى أتى جمالا لبني عبس في المرعى فرمى بعضها فعقرها ثم انصرف. فقال للمرار: إنه والله ما يقنع بهذا ولكن أخرج بنا. فخرجا حتى أغارا على إبل لبني عبس فطرداها وتوجها بها نحو تيماء . فلما كانا في بعض الطريق انقطع بطان راحلة بدر فندر عن رحله. فقال له المرار: يا أخي أطعني وانصرف ودع هذه الإبل في النار، فأبى عليه. ثم سارا، فلما كانا في بعض الطريق عرض لهما ظبي أعضب أحد القرنين. فقال المرار لبدر: قد تطيرت من هذا السفر، ولا والله ما نرجع من هذا السفر أبدا، فأبى عليه بدر. فتفرقت عبس فرقتين في طلب الإبل، فعمدت فرقة إلى وادي القرى ، وفرقة إلى تيماء؛ فصادفوا الإبل بتيماء تباع، فأخذوا المرار وبدرا فرفعوهما إلى الوالي. وعرفت سمات عبس على الإبل فدفعت إليهم، ورفع المرار وأخوه إلى المدينة فضربا وحبسا، فمات بدر في الحبس. فكلمت عدة من قريش زياد بن عبد الله النصري في المرار فخلاه. وقال في حبسه:
صرمت ولم تصرم وأنت صروم وهي طويلة.
مات أخوه بدر في الحبس فرثاه: وقال يرثي أخاه بدرا:
ألا يا لقومي للتجلد والـصـبـر وللقدر الساري إليك وما تـدري
وللشيء تنساه وتـذكـر غـيره وللشيء لا تنساه إلا على ذكـر
وما لكما بالغيب علم فتـخـبـرا وما لكما في أمر عثمان من أمر وهي طويلة، يقول فيها:
ألا قاتل الله المـقـادير والـمـنـى وطيرا جرت بين السعافات والحبـر
وقاتل تكذيبـي الـعـيافة بـعـدمـا زجرت فما أغنى اعتيافي ولا زجري
تروح فقد طال الـثـواء وقـضـيت مشاريط كانت نحو غايتها تـجـري - المشاريط: العلامات والأمارات -
وما لقفول بعد بـدر بـشـاشة ولا الحي آتيهم ولا أوبة السفر
تذكرني بدرا زعازع حـجـرة إذا عصفت إحدى عشياتها الغبر - الزعازع: الشديدة الهبوب. والحجرة : السنة الشديدة -
إذا شولنا لم نؤت منها بـمـحـلـب قرى الضيف منها بالمهند ذي الأثر
وأضيافنا إن نـبـهـونـا ذكـرتـه فكيف إذا أنساه غـابـرة الـدهـر
إذا سلم الساري تـهـلـل وجـهـه على كل حال من يسار ومن عسـر
تذكرت بدرا بعدمـا قـيل عـارف لما نابه يا لهف نفسي علـى بـدر
إذا خطرت منه على النفس خطـرة مرت دمع عيني فاستهل على نحري
وما كنت بكاء ولـكـن يهـيج لـي على ذكره طيب الخلائق والخـبـر
أعيني إني شاكر ما فـعـلـتـمـا وحق لما أبليتمانـي بـالـشـكـر
سألتكما أن تسعدانـي فـجـدتـمـا عوانين بالتسجام باقـيتـي قـطـر
فلما شفاني اليأس عنـه بـسـلـوة وأعذرتما لا بل أجل مـن الـعـذر
نهيتكما أن تسهراني فـكـنـتـمـا صبورين بعد اليأس طاويتي غـبـر يقول: طويتما أغبار دمعكما. والأغبار: البقايا كأغبار اللبن.
خرج حاجا وأضافه قرشي بالأبطح: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني رجل عن واصل بن زكريا بن المرار أن المرار قال: خرجت حاجا فأنخت بناحية الأبطح، فجاء قوم فنحوني عن موضعي وضربوا فيه قبة لرجل من قريش. فلما جاء وجلس أتيته فقلت:
هذا قعودي باركا بالأبطح عليه عكما أكمر لم تفتح
صفحة : 1181
فقال: وما قصتك? فأخبرته. فقال: والله لاتفتح منهما شيئا حتى تنصرف، فأقم معنا، يدك مع أيدينا، وقعودك مع أباعرنا . فوالله ما فتحت العدلين حتى انصرفت بهما إلى أهلي. فما هجاني أحد قط هجاءه.
حبس هو وأخوه بدر، وشعره في الحبس: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال أخبرني أبو موهب رتيل الزبيري أحد بني زبير بن عمرو بن قعين قال: كان المرار بن سعيد وأخوه بدر لصين، وكان بدر أشهر منه بالسرقة وأكثر غارات على الناس. فأغار بدر على ذود لبعض بني غنم بن ذودان فطردها، فأخذ ورفع إلى عثمان بن حيان المري، وهو يومئذ على المدينة فحبسه. وطرد المرار طريدة فأخذ معها وهو يبيعها بوادي القرى أو ببرمة ، فرفع إلى عثمان بن حيان فحبسه. قال: فاجتمعا ومكثا في السجن مدة؛ ثم أفلت المرار وبقي بدر في السجن حتى مات محبوسا مقيدا.
فقال المرار وهو في الحبس:
أنار بدت من كوة السجن ضوءهـا عشية حل الحي بالجرع العـفـر
عشية حل الحي أرضا خـصـيبة يطيب بها مس الجنائب والقطـر
فيا ويلتا سجن اليمـامة أطـلـقـا أسيركما ينظر إلى البرق ما يفري
فإن تفعلا أحمدكمـا ولـقـد أرى بأنكما لا ينبغي لكمـا شـكـري
ولو فارقت رجلي القيود وجدتنـي رفيقا بنص العيس في البلد القفر
جديرا إذا أمسى بأرض مـضـلة بتقويمها حتى يرى وضح الفجـر خاصم رجلا من قومه وسابه، وقال في ذلك شعرا: وقال أبو عمرو الشيباني: كان بين المرار بن سعيد وبين رجل من قومه لحاء، فتقاذفا وتسابا، ثم صارا إلى الضرب بالعصا؛ فقال في ذلك: صوت
ألم تربع فتخبرك المغانـي فكيف وهن مذ حجج ثمان
برئت من المنازل غير شوق إلى الدار التي بلوى أبـان لإسحاق في هذين البيتين هزج بالخنصر في مجرى البنصر من كتاب ابن المكي.
كان أخوه بدرا شاعرا، وشيء من شعره: وكان بدر بن سعيد أخو المرار شاعرا وهو الذي يقول: صوت
يا حبذا حين تمسي الريح باردة وادي أشي وفتيان به هضـم
مخدمون كرام في مجالسهـم وفي الرحال إذا لاقيتهم خدم
وما أصاحب من قوم فأذكرهم إلا يزيدهم حبـا إلـي هـم الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالخنصر والبنصر عن ابن المكي. وفيه لمتيم خفيف رمل. وذكر حبش، أن الثقيل للهذلي. وفيه لمحمد بن الحارث بن بسخنر ثقيل أول عن الهشامي.
صوت صوت ابن صاحب الوضوء في شعر النابغة:
خطاطيف حجن في حبال متـينة تمـد بـهـا أيد إلـيك نـوازع
فإن كنت لا ذا الضغن عني مكذبا ولا حلفي عند البـراءة نـافـع
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع عروضه من الطويل. يقول: أنا في قبضتك متى شئت قدرت علي كأني في خطاطيف تجذبني إليك ولا أقدر على الهرب منك. ويروى وإن خلت أن المنتوى أي الموضع الذي أنتوي قصده. والمنتأى: المفتعل من النائي والحجن: الموجعة. والنوازع: الجواذب. والضغن: الحقد.
الشعر للنابغة الذبياني. والغناء لابن صاحب الوضوء من رواية إسحاق وعمرو ماخوري بالبنصر.
الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار النابغة ونسبه
نسب النابغة: النابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن مرة ابن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. ويكنى أبا أمامة . وذكر أهل الرواية أنه إنما لقب النابغة لقوله:
فقد نبغت لهم منا شؤون وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم. وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء .
سأل عمر بن الخطاب عن شعر فلما أخبر أنه له قال إنه أشعر العرب: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شريك عن مجاهد عن الشعبي عن ربعي بن حراش قال: قال عمر: يا معشر غطفان، من الذي يقول:
صفحة : 1182
أتيتك عاريا خلقـا ثـيابـي على خوف تظن بي الظنون قلنا: النابغة. قال: ذاك أشعر شعرائكم .
أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبه قال حدثنا عبيد بن جناد قال حدثنا معن بن عبد الرحمن عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن جده عن الشعبي قال: قال عمر: من أشعر الناس? قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال: من الذي يقول:
إلا سليمان إذ قـال الإلـه لـه قم في البرية فاحددها عن الفند
وخبر الجن أني قد أذنت لهـم يبنون تدمر بالصفاح والعمـد قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:
أتيتك عاريا خلقـا ثـيابـي على خوف تظن بي الظنون قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفـسـك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خـيانة لمبلغك الواشي أغش وأكـذب
ولست بمستبق أخا لا تـلـمـه على شعث أي الرجال المهذب قالوا: النابغة. قال: فهو أشعر العرب .
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبه قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي قال: ذكر الشعر عند عمر؛ ثم ذكر مثله .
سئل ابن عباس عن أشعر الناس فأمر أبا الأسود بالجواب فذكره: أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني علي بن محمد عن المدائني عن عبد الله بن الحسن عن عمر بن الحباب عن أبي المؤمل قال: قام رجل إلى ابن عباس فقال: أي الناس أشعر? فقال ابن عباس: أخبره يا أبا الأسود الدؤلي: قال الذي يقول:
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع حوار في شعر له في مجلس الجنيد بن عبد الرحمن: أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي جرير بن شريك بن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا عند الجنيد بن عبد الرحمن بخراسان وعنده بنو مرة وجلساؤه من الناس، فتذاكروا شعر النابغة حتى أنشدوا قوله:
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع فقال شيخ من بني مرة: ما الذي رأى في النعمان حيث يقول له هذا وهل كان النعمان إلا على منظرة من مناظر الحيرة وقالت ذلك القيسية فأكثروا. فنظر إلي الجنيد وقال: يا أبا خالد لا يهولنك قول هؤلاء الأعاريض فأقسم بالله أن لو عاينوا من النعمان ما عاين صاحبهم لقالوا أكثر مما قال، ولكنهم قالوا ما تسمع وهم آمنون .
كان يجلس للشعراء بعكاظ فمدح شعر الخنساء وحواره مع حسان: أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثني عبد الملك بن قريب قال: كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. قال: وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو ابن الشريد:
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والإنس. فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك . فقال له النابغة: يابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول:
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في جبال متـينة تمـد بـهـا أيد إلـيك نـوازع قال: فخنس حسان لقوله .
تذاركر قوم الشعر وهم في الصحراء فإذا هم بجني يقول إنه أشعر الناس:
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عمرو بن العلاء قال قال فلان لرجل سماه فانسيته: بينا نحن نسير بين أنقاء من الأرض تذاكرنا الشعر، فإذا راكب أطيلس يقول أشعر الناس زياد ابن معاوية؛ ثم تملس فلم نره .
فضحك أبو عمرو على زهير: أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو يقول: ما كان ينبغي للنابغة إلا أن يكون زهير أجيرا له .
سأل عبد الملك عن شعر له في اعتذاره للنعمان وقال إنه أشعر العرب: أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال عمرو بن المنتشر المرادي:
صفحة : 1183
وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه، فقام رجل فاعتذر من أمر وحلف عليه. فقال له عبد الملك: ما كنت حريا أن تفعل ولا تعتذر. ثم أقبل على أهل الشام فقال: أيكم يروي من اعتذار النابغة إلى النعمان:
حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب فلم يجد فيهم من يرويه؛ فأقبل علي فقال: أترويه? قلت: نعم فأنشدته القصيدة كلها؛ فقال: هذا أشعر العرب .
سئل حماد بم تقدم النابغة فأجاب: أخبرنا بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قال معاوية بن بكر الباهلي قلت لحماد الراوية: بم تقدم النابغة? قال: باكتفائك بالبيت الواحد من شعره، لا بل بنصف بيت، لا بل بربع بيت مثل قوله:
حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة وليس وراء الله للمرء مذاهب كل نصف يغنيك عن صاحبه، وقوله: أي الرجال المهذب، ربع بيت يغنيك عن غيره .
وهذه القصيدة العينية يقولها في النعمان بن المنذر يعتذر إليه بها وبعدة قصائد قالها فيه تذكر في مواضعها .
ولقد اختلفت الرواة في السبب الذي دعاه إلى ذلك .
كان أثيرا عند النعمان فدخل على زوجته المتجردة فوصفها: فأخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة وغيره من علمائهم: إن النابغة كان كبيرا عند النعمان خاصا به وكان من ندمائه وأهل أنسه؛ فرأى زوجته المتجردة يوما وغشيها تشبيها بالفجاءة، فسقط نصفيها واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها وغلظها؛ فقال قصيدته التي أولها:
أمن آل مية رائح أو مغـتـدي عجلان ذا زاد وغـير مـزود
زعم البوارح أن رحلتنـا غـدا وبذاك تنعاب الغراب الأسـود
لا مرحبا بغد ولا غير أن ركابنا لما تزل برحالنـا وكـأن قـد
في إثر غانية رمتك بسهمـهـا فأصاب قلبك غير أن لم تقصد
بالدر والياقوت زين نحـرهـا ومفضل من لؤلؤ وزبـرجـد عروضه من الكامل. وغناه أبو كامل من رواية حبش ثقيلا أول بالبنصر. وغناه الغريض من روايته ثاني ثقيل بالوسطى. وغناه ابن سريج من رواية إسحاق ثقيلا في مجرى الوسطى .
قوله: أمن آل مية: يخاطب نفسه كالمستثبت. وعجلان: من العجلة، نصبه على الحال. والزاد في هذا الموضع: ما كان من تسليم ورد نحية. والبوارح: ما جاء من ميامنك إلى مياسرك فولاك مياسره. والسانح ما جاء من مياسرك فولاك ميامنه؛ حكى ذلك أبو عبيدة عن رؤبة وقد سأله يونس عنه. وأهل نجد يتشاءمون بالبوارح، وغيرهم من العرب تتشاءم بالسانح وتتيمن بالبارح؛ ومنهم من لا يرى ذلك شيئا قال بعضهم :
ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشـائم كـالأيا من والأيامن كالأشائم وتنعاب الغراب: صياحه؛ يقال: نعب الغراب ينعب نعيبا ونعبانا، والتنعاب تفعال من هذا. وكان النابغة قال في هذا البيت: وبذاك خبرنا الغراب الأسود، ثم ورد يثرب فسمعه يغنى فيه، فبان له الإقواء، فغيره في مواضع من شعره .
كان يقوى فلما ذهب إلى يثرب تبين له هذا العيب فأصلحه: وأخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي: قال أبو عبيدة: كان فحلان من الشعراء يقويان: النابغة وبشر بن أبي خازم. فأما النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت وأكفأت ، فدعوا قينة وأمروها أن تغني في شعره ففعلت. فلما سمع الغناء و غير مزود، و الغراب الأسود، وبان له ذلك في اللحن فطن لموضع الخطأ فلم يعد. وأما بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة: إنك تقوي. قال وما ذاك? قال: قولك:
وينسي مثل ما نسيت جذام ثم قلت بعده: إلى البلد الشآم. ففطن فلم يعد .
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط وغيره من علمائنا قالوا: كان النابغة يقول: إن في شعري لعاهة ما أقف عليها. فلما قدم المدينة غني في شعره؛ فلما سمع قوله: واتقتنا باليد، و يكاد من اللطافة يعقد، تبين له لما مدت، باليد، فصارت الكسرة ياء ومدت، يعقد، فصارت الضمة كالواو؛ ففطن فغيره وجعله:
غنم على أغصانه لم يعقد
صفحة : 1184
وكان يقول: وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة، فصدرت عنها وأنا أشعر الناس. وقوله لا مرحبا: لا سعة؛ ونصبه ها هنا شبيه بالمصدر؛ كأنه قال لا رحب رحبا ولا أهل أهلا. وأزف: قرب .
قال: وقال في قصيدته هذه يذكر ما نظر إليه من المتجردة وسترها وجهها بذراعها: صوت:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتـقـتـنـا بـالـيد
بمخضب رخص كأن بنـانـه عنم على أغصانه لم يعـقـد
ويفاحم رجل أثـيث نـبـتـه كالكرم مال على الدعام المسند
نظرت إليك بحاجة لم تقضهـا نظر السقيم إلى وجوه العـود غناه ابن سريج، ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو. والنصيف: الخمار، والجمع أنصفة ونصف. والعنم: فيما ذكر أبو عبيدة، يساريع حمر تكون في البقل في الربيع. وقال الأصمعي: العنم: شجر يحمر وينعم نبته. والفاحم: الشديد السواد. والرجل: الذي ليس بجعد. والأثيث: المتكاثف؛ قال امرؤ القيس:
أثيث كقنو النخلة المتعثكل ويقال: شعر رجل ورجل. ويروى:
ورنت إلي بمقلتي مكحولة والمكحولة: البقرة. وقوله لم تقضها: يعني المرأة أي لم تقدر على الكلام من مخافة أهلها، فهي كالسقيم الذي ينظر إلى من يعوده .
غناه ابن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة .
قال صالح بن حسان إنه كان مخنثا: وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري قال: قال الهيثم بن عدي قال لي صالح بن حسان: كان والله النابغة مخنثا. قلت: وما علمك به? أرأيته قط? قال: لا والله . قلت: أفأخبرت عنه? قال: لا. قلت: فما علمك به? قال: أما سمعت قوله:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقـتـنـا بـالـيد لا والله ما أحسن هذه الإشارة ولا هذا القول إلا من مخنث .
هروبه من النعمان إلى ملوك غسان واختلاف الرواة في سببه: قال: فأنشدها النابغة مرة بن سعد القريعي، فأنشدها مرة النعمان، فامتلأ غضبا فأوعد النابغة وتهدده؛ فهرب منه فأتى قومه، ثم شخص إلى ملوك غسان بالشام فامتدحهم. وقيل: إن عصام بن شهبر الجرمي حاجب النعمان أنذره وعرفه ما يريده النعمان، وكان صديقه، فهرب. وعصام الذي يقول فيه الراجز:
نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقـدامـا
وجعلته ملكا هـمـامـا وقال من رويت عنه خبر النابغة: إن السبب في هربه من النعمان أن عبد القيس بن خفاف التميمي ومرة بن سعد بن قريع السعدي عملا هجاء في النعمان على لسانه، وأنشدا النعمان منه أبياتا يقال فيها:
ملك يلاعب أمه وقطـينـه رخو المفاصل أيره كالمرود ومنه:
قبـح الـلــه ثـــم ثـــنـــى بـــلـــعـــن وارث الـصـائغ الـجـبـــان الـــجـــهـــولا
من يضر الأدنى ويعجز عن ضر الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ثم لا يرزأ الـــعـــدو فـــــــتـــــــيلا يعني بواعث الصائغ النعمان؛ وكان جده لأمه صائغا بفدك يقال له عطية. وأم النعمان سلمى بنت عطية .
فأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل: أن مرة بن سعد القريعي الذي وشى بالنابغة كان له سيف قاطع يقال له ذو الريقة من كثرة فرنده وجوهره، فذكر النابغة للنعمان، فأخذه. فاضطغن ذلك حتى وشى به إلى النعمان وحرضه عليه .
وأخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة، قالوا جميعا:
صفحة : 1185
إن الذي من أجله هرب النابغة من النعمان أنه كان والمنخل بن عبيد بن عامر اليشكري جالسين عنده، وكان النعمان دميما أبرش قبيح المنظر، وكان المنخل بن عبيد من أجمل العرب، وكان يرمى بالمتجردة زوجة النعمان، ويتحدث العرب أن ابني النعمان منها كانا من المنخل. فقال النعمان للنابغة: يا أبا أمامة، صف المتجردة في شعرك؛ فقال قصيدته التي وصفها فيها ووصف بطنها وروادفها وفرجها. فلحقت المنخل من ذلك غيرة، فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من جربه. فوقر ذلك في نفس النعمان. وبلغ النابغة فخافه فهرب فصار في غسان .
كان المنخل اليشكري يهوى هندا بنت عمرو بن هند فتغزل فيها فقتله: قالوا: وكان المنخل يهوى هندا بنت عمرو بن هند، وفيها يقول: صوت:
ولقد دخلت علـى الـفـتـا ة الخدر في اليوم المطـير
الكاعب الـحـسـنـاء تـر فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتـهـا فـتـدافـعـت مشي القطاة إلى الـغـدير
ولثمتـهـا فـتـنـفـسـت كتنفس الظبـي الـبـهـير غناه الموصلي من رواية عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق .
وبدت وقالت يا منخل ما بجسمك من فتور ?
ما مس جسمي غير حب بك فـاهـدئي عــنـــي وســـيري
ولـقـد شـربـت مـــن الـــمـــدا مة بـالـكـبـير وبـالـصـــغـــير
فإذا ســكـــرت فـــإنـــنـــي رب الـخـورنـــق والـــســـدير
وإذا صــحـــوت فـــإنـــنـــي رب الـشــويهة والـــبـــعـــير
يا هــنـــد هـــل مـــن نـــائل يا هـنـد لـلـعــانـــي الأســـير
وأحـبـهــا وتـــحـــبـــنـــي وتـحـب نـاقـتـهــا بـــعـــيري وقال حماد بن إسحاق عن أبيه في كتاب أغاني ابن مسحج: في هذا الصوت لمالك ومعبد وابن سريج وابن محرز والغريض وابن مسحج لكلهم فيه ألحان قال: فبلغ عمرا خبر المنخل فأخذه فقتله. وقال المنخل قبل أن يقتله وهو محبوس في يده يحض قومه على طلب الثأر به:
ظل وسط العراق قتلي بلا جر م وقومي ينتجون السـخـالا رجع الخبر إلى سياقه. قالوا جميعا: فلما صار النابغة إلى غسان نزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر وأم الحارث الأعرج مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندية وهي ذات القرطين اللذين يضرب بهما المثل فيقال لما يغلى به الثمن: خذه ولو بقرطي مارية. وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار. وإياها عنى حسان بقوله في جبلة بن الأيهم:
أولاد جفنة حول قبر أبـيهـم قبر ابن مارية الجواد المفضل مدح عمرو بن الحارث الأصغر الغساني وأخاه النعمان: ولذلك خبر يأتي في موضعه فمدحه النابغة ومدح أخاه النعمان. ولم يزل مقيما مع عمرو حتى مات، وملك أخوه النعمان؛ فصار معه إلى أن استطلعه النعمان فعاد إليه. فمما مدح به عمرا قوله: صوت:
كليني لهـم يا أمـيمة نـاصـب وليل أقاسيه بطيء الـكـواكـب
وصدر أراح الليل عازب هـمـه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
تقاعس حتى قلت لي بمـنـقـض وليس الذي يهدي النجـوم بـآئب
علي لعمرو نعمة بـعـد نـعـمة لوالده ليسـت بـذات عـقـارب عروضه من الطويل. غنى في البيتين الولين ابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو. وغنى فيه الأبجر من رواية حبش ثاني ثقيل بالوسطى. وغنى مالك في البيت الرابع ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات. وغنى في الأربعة الأبيات عبد الله ابن العباس الربيعي ماخوريا عن حبش، وغنى فيها طويس رملا بالوسطى بحكايتين عن حبش. هكذا روي قوله: يا أميمة، مفتوح الهاء. قال الخليل: من عادة العرب أن تنادي المؤنث بالترخيم يا أميم ويا عز ويا سلم؛ فلما لم يرخم لحاجته إلى الترخيم أجراها على لفظها مرخمة وأتى بها بالفتح. وكليني أي دعيني. ووكلته إلى كذا أكله وكالة .
صفحة : 1186
وناصب : متعب. وبطيء الكواكب أي قد طال حتى إن كواكبه لا تجري ولا تغور. أراح: رد. يقال أراح الرجل إبله أي ردها. فيقول: رد هذا الليل إلي ما عزب من همي بالنهار؛ لأنه يتعلل نهارا بمحادثة الناس والتشاغل بغير الفكر، فإذا خلا بالليل راح إليه همه. وتقاعس تأخر؛ وأصل التقاعس الرجوع إلى خلف القهقري، فشبه الليل في طوله بالمتقاعس. والذي يهدي النجوم أولها، شبهها بهواديها . وقوله: ليست بذات عقارب، أي لا يكدرها ولا يمنها .
ومما يغنى فيه هذه القصيدة:
حلفت يمينا غير ذي مثـنـوية ولا علم إلا حسن ظني بصاحب
لئن كان للقبرين قبر بـجـلـق وقبر بصيداء الذي عن حارب
وللحارث الجفني سيد قـومـه ليلتمسن بالجيش دار المحارب غناه إسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهبه من رواية عمرو بن بانة عنه ومن رواية حبش. وغناه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر. يقول: ليس لي علم بما يكون من صاحبي إلا أني أحسن الظن به. وقوله: لئن كان للقبرين، يعني لئن كان عمرو ابنا للمدفونين في هذين القبرين، يعني قبر أبيه وجده وهما الحارث الكبر والحارث الأعرج، ليلتمسن جيشه دار المحارب له؛ يحرضه بذلك وروي: أرض المحارب
ولا عيب فيهم غير أن سـيوفـهـم بهن فلول من قـراع الـكـتـائب
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقـلـوا إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
لهم شيمة لم يعطها اللـه غـيرهـم من الناس والأحلام غير عـوازب
على عارفات للطعـان عـوابـس بهن كـلـوم بـين دام وجـالـب
ولا عيب فيهم غير أن سـيوفـهـم بهن فلول من قـراع الـكـتـائب
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقـلـوا إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
حبوت بها غسان إذ كنـت لاحـقـا بقومي وإذ أعيت علي مذاهـبـي وجدت في كتاب لهارون بمن محمد بن عبد الملك الزيات في البيتين والثالث والرابع لحنا منسوبا إلى معبد من خفيف الرمل بالوسطى. وأحسبه من لحن يحيى المكي. الشيمة: الطبيعة، وجمعها شيم. غير عوازب أي لا تعزب أحلامهم فتنفذ عنهم. وعارفات للطعان أي صابرات عليه عودت أن يحارب عليها. وعوابس كوالح. وجالب أي عليه جلبة وهي قشرة تكون على الجرح؛ يقال جلب الجرح يجلب جلوبا وأجلب إجلابا. والإرقال: مشي يشبه الخبب سريع. والمصاعب واحدها مصعب وهو الفحل الذي لم يمسسه الحبل وإنما يقتنى للفحلة، ويقال له قرم ومقرم. وقوله: حبوت بها، يعني بالقصيدة. وروى أبو عبيدة إذ كنت لاحقا بقوم، وقال: يعني إذ كنت لاحقا بغيركم أي بقوم آخرين، فكنتم أحق بالمدح منهم.
قالوا: فنظر إلى النعمان بن الحارث أخى عمرو وهو يومئذ غلام فقال:
هذا غـلام حـسـن وجـهــه مقتبل الخير سـريع الـتـمـام
للحارث الأكبـر والـحـارث ال أصغر والأعـرج خـير الأنـام
ثم لـهـنـد ولـهـنـد فـقـد أسرع في الخيرات منـه إمـام
خمـسة آبـاء وهـم مـا هــم هم خير من يشرب صوب الغمام غناه حنين خفيف رمل بالبنصر عن حبش .
فضله الشعبي على الأخطل في مواجهته في مجلس عبد الملك: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا هارون بن عبد الله الزبيري قال حدثنا شيخ يكنى أبا داود عن الشعبي قال: دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل وأنا لا أعرفه. فقلت حين دخلت: عامر بن شراحيل الشعبي. فقال : على علم ما أذنا لك. فقلت في نفسي: خذ واحدة على وافد أهل العراق. فسال عبد الملك الأخطل: من أشعر الناس? قال: أنا يا أمير المؤمنين. فقلت لعبد الملك: من هذا يا أمير المؤمنين? فتبسم وقال: هذا الأخطل. فقلت في نفسي: خذها ثنتين على وافد أهل العراق، فقلت: أشعر منك الذي يقول:
هذا غلام حـسـن وجـهـه مستقبل الخير سريع التـمـام
للحارث الأكبر والحـارث ال أصغر والأعرج خير الأنـام
خمسة آبـاء وهـم مـا هـم هم خير من يشرب ماء الغمام
صفحة : 1187
والشعر للنابغة فقال الأخطل: إن أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه، ولو سألني عن أشعر أهل الجاهلية لكنت حريا أن أقول كما قلت أو شبيها به. فقلت في نفسي: خذها ثلاثا على وافد أهل العراق. يعني أنه أخطأ ثلاث مرات . ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز ولم أسمعه من أحد، ووجدته أتم مما رأيت في كل موضع، فأتيت به في هذا الموضع وإن لم يكن من خاص خبر النابغة لأنه أليق به. قال أحمد بن الحارث الخراز حدثني المدائني عن عبد الملك بن مسلم قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج: إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه، ولم يكن عندي شيء ألذه إلا مناقلة الأخوان للحديث. وقبلك عامر الشعبي، فابعث به إلي يحدثني. فدعا الحجاج الشعبي فجهزه وبعث به إليه وقرظه وأطراه في كتابه. فخرج الشعبي حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب: استأذن لي. قال: من أنت? قال: أنا عامر الشعبي. قال: حياك الله ثم نهض فأجلسني على كرسيه. فلم يلبث أن خرج إلي فقال: ادخل يرحمك الله. فدخلت، فإذا عبد الملك جالس على كرسي وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية على كرسي، فسلمت فرد علي السلام، ثم أومأ إلي بقضيبه فقعدت عن يساره، ثم أقبل على الذي بين يديه فقال: ويحك من أشعر الناس? قال: أنا يا أمير المؤمنين. قال الشعبي: فأظلم علي ما بيني وبين عبد الملك، فلم أصبر أن قلت: ومن هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس ? قال: فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي قال: هذا الأخطل. فقلت: يا أخطل أشعر والله منك الذي يقول:
هذا غـلام حـسـن وجـهــه مستقبل الخير سريع الـتـمـام
للحارث الأكبـر والـحـارث ال أصغر والأعـرج خـير الأنـام
ثم لـهـنـد ولـهـنـد فـقـد أسرع في الخيرات منهـم إمـام
خمـسة آبـاء وهـم مـا هــم هم خير من يشرب صوب الغمام فرددتها حتى حفظها عبد الملك. فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين? قال: هذا الشعبي. قال فقال: صدق والله يا أمير المؤمنين، النابغة والله أشعر مني. فقال الشعبي: ثم أقبل علي فقال: كيف أنت يا شعبي? قلت: بخير يا أمير المؤمنين فلا زلت به. ثم ذهبت لأضع معاذيري لما كان من خلافي على الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فقال: مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى تفارقنا. ثم أقبل علي فقال: ما تقول في النابغة? قال قلت: يا أمير المؤمنين، قد فضله عمر بن الخطاب في غير موطن على الشعراء أجمعين، وببابه وفد غطفان فقال: يا معشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفـسـك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خـيانة لمبلغك الواشي أغش وأكـذب
ولست بمستبق أخا لا تـلـمـه على شعث أي الرجال المهذب قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: فأيكم الذي يقول:
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف جحن في حبال متـينة تمـد بـهـا أيد إلـيك نـوازع قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:
إلى ابن محرق أعملت نفسي وراحلتي وقد هدت العيون
أتيتك عاريا خلقـا ثـيابـي على خوف تظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخـنـهـا كذلك كان نـوح لا يخـون قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: هذا أشعر شعرائكم. قال: ثم أقبل على الأخطل فقال: أتحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أو تحب أنك قلته? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، إلا أني وددت أن كنت قلت أبياتا قالها رجل منا، كان والله ما علمت مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع. قال: وما قال? فأنشد قصيدته:
إن محيوك فأسلم أيها الـطـلـل وإن بليت وإن طالت بك الطـيل
ليس الجديد به تبقى بشـاشـتـه إلا قلـيلا ولا ذو خـلة يصـل
والعيش لا عيش إلا ما تقـر بـه عين ولا حال إلا سوف تنتـقـل
إن ترجعي من أبي عثمان منجحة فقد يهون على المستنجح العمل
صفحة : 1188
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المتسعجل الزلل حتى أتى على آخرها. قال الشعبي: فقلت: قد قال القطامي أفضل من هذا. قال: وما قال? قلت قال:
طرقت جنوب رحالنا من مطـرق ما كنت أحسبها قريب المعـنـق
قطعت إليك بمـثـل جـيد جـداية حسن معلق تومـتـيه مـطـوق
ومصرعين من الكلال كـأنـمـا شربوا الغبوق من الرحيق المعرق
متـوسـدين ذراع كـل نـجـيبة ومفرج عرق المـقـذ مـنـوق
وجثت على ركب تهد بها الصفـا وعلى كلاكل كالنقيل المـطـرق
وإذا سمعن إلى همـاهـم رفـقة ومن النجوم غوابر لم تـخـفـق
جعلت تمـيل خـدودهـا آذانـهـا طربا بهن إلى حـداء الـسـوق
كالمنصتات إلى الغناء سمـعـنـه من رائع لقلـوبـهـن مـشـوق
وإذا نظرن إلى الـطـريق رأينـه لهقا كشاكلة الحصـان الأبـلـق
وإذا تخلف بـعـدهـن لـحـاجة حاد يشسع نعـلـه لـم يلـحـق
وإذا يصيبـك والـحـوادث جـمة حدث حداك إلى أخـيك الأوثـق
لئن الهموم عن الفؤاد تـفـرقـت وخلا التكلم للسان الـمـطـلـق قال: فقال عبد الملك: هذا والله أشعر، ثكلت القطامي أمه قال: فالتفت إلي الأخطل فقال: يا شعبي، إن لك فنونا في الأحاديث، وإنما لنا فن واحد؛ فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا . فقلت: لا أعرض لك في شيء من الشعر أبدا، فأقلني في هذه المرة. قال: من يتكفل بك? قلت: أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: هو علي ألا يعرض لك أبدا؛ ثم قال: يا شعبي، أي نساء الجاهلية أشعر? قلت: خنساء. قال: ولم فضلتها على غيرها? قلت: لقولها:
وقائلة والنعش قد فات خطـوهـا لتدركه يا لهف نفسي على صخر
ألا ثكلـت أم الـذين غـدوا بـه إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر فقال عبد الملك: أشعر منها والله التي تقول :
مهفهف الكشح والسربال منخرق عنه القميص لسير الليل محتقر
لا يأمن الناس ممساه ومصبحـه في كل فج وإن لم يغز ينتظـر ثم قال: يا شعبي، لعلك شق عليك ما سمعت. قلت: إي والله يا أمير المؤمنين أشد المشقة. إني أحدثك منذ شهرين أفدك إلا أبيات النابغة في الغلام. قال: يا شعبي، إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، يقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية؛ وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق؛ ثم رد علي الأبيات أبيات ليلى حتى حفظتها، ولم أزل عنده؛ فكنت أول داخل وآخر خارج. قال: فمكثت كذلك سنين ، وجعلني في ألفين من العطاء وعشرين رجلا من ولدي وأهل بيتي في ألفين ألفين، فبعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب إليه: يا أخي، إني قد بعثت إليك الشعبي، فانظر هل رأيت مثله قط ? ثم أذن فانصرفت .
حديث حسان عنه حين وفد على النعمان: أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني، وأخبرني ببعضه أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة عن أبي بكر الهذلي قال:
صفحة : 1189
قال حسان بن ثابت: قدمت على النعمان بن المنذر وقد امتدحته، فأتيت حاجبه عصام بن شهبر فجلست إليه، فقال: إني لأرى عربيا، أفمن الحجاز أنت? قلت نعم. قال: فكن قحطانيا. فقلت: فأنا قحطاني. قال: يثربيا. قلت فأنا يثربي. قال: فكن خزرجيا. قلت: فأنا خزرجي. قال: فكن حسان بن ثابت. قلت: فأنا هو. قال: أجئت بمدحة الملك? قلت نعم. قال: فإني أرشدك: إذا دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم ويسبه، فإياك أن تساعده على ذلك، ولكن أمر ذكره إمرارا لا توافق فيه ولا تخالف، وقل: ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وانت منه. وإن دعاك إلى الطعام فلا تؤاكله، فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة بار قسمه متشرف بمؤاكلته لا أكل جائع سغب، ولا تطل محادثته، ولا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك، ولا تطل الإقامة في مجلسه. فقلت: أحسن الله رفدك قد أوصيت واعيا. ودخل ثم خرج إلي فقال لي: ادخل. فدخلت فسلمت وحييت تحية الملوك. فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه كان حاضرا، وأجبت بما أمرني، ثم استأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته. ثم دعا بالطعام، ففعلت ما أمرني عصام به، وبالشراب ففعلت مثل ذلك. فأمر لي بجائزة سنية وخرجت. فقال لي عصام: بقيت علي واحدة لم أوصك بها، قد بلغني أن النابغة الذبياني قدم عليه، وإذا قدم فليس لأحد منه حظ سواه، فاستأذن حينئذ وانصرف مكرما خير من أن تنصرف مجفوا، فأقمت ببابه شهرا. ثم قدم عليه الفزاريان وكان بينهما وبين النعمان دخلل أي خاصة وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسالة النعمان أن يرضى عنه. فضرب عليهما قبة من أدم، ولم يشعر بأن النابغة معهما. ودس النابغة قينة تغنيه بشعره:
يا دار مية بالعلياء فالسند قلما سمع الشعر قال: أقسم بالله إنه لشعر النابغة وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين، فكلماه فيه فأمنه .
وقال أبو زيد عمر بن شبة في خبره: لما صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب وألطاف مع قينة من إمائه، فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة قبلهما. فذكرت ذلك للنعمان، فعلم أنه النابغة. ثم ألقى عليها شعره هذا وسألها أن تغنيه به إذا أخذت فيه الخمر، ففعلت فأطربته، فقال: هذا شعر علوي ، هذا شعر النابغة . قال: ثم خرج في غب سماء، فعارضه الفزاريان والنابغة بينهما قد خضببحناء فقنأ خضابه. فلما رآه النعمان قال: هي بدم كانت أحرى أن تخضب. فقال الفزاريان: أبيت اللعن لا تثريب ، قد أجرناه، والعفو أجمل. فأمنه واستنشد أشعاره. فعند ذلك قال حسان بن ثابت: فحسدته على ثلاث لا أدري أيتهن كنت له أشد حسدا: على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه، أم على جودة شعره، أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها .
قال أبو عبيدة: قيل لأبي عمرو: أفمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك? فقال: لا لعمر الله ما لمخافته فعل، إن كان لآمنا من أن يوجه النعمان له جيشا، وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة، ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره. وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده، لا يستعمل غير ذلك. وقيل: إن السبب في رجوعه إلى النعمان بعد هربه منه أنه بلغه عليل لا يرجى، فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به، فصار إليه وألفاه محمولا على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة. فقال لعصام بن شهبر حاجبه فيما أخبرنا به اليزيد عن عمه عبيد الله وابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل: صوت:
ألم أقسم عليك لتخبـرنـي أمحمول على النعش الهمام
فإني لا ألومك في دخولـي ولكن ما وراءك يا عصام
فإن يهلك أبو قابوس يهلـك ربيع الناس والشهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عـيش أجب الظهر ليس له سنـام غناه حنين ثقيلا أول بالبنصر عن حبش .
قال أبو عبيدة: كانت ملوك العرب إذا مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه، فيكون كذلك على أكتاف الرجال، لأنه عندهم أوطأ من الأرض .
وقوله:
فإني لا ألومك في دخولي أي لا ألومك في ترك الإذن لي في الدخول، ولكن أخبرني بكنه أمره. وقوله:
صفحة : 1190
ربيع الناس والشهر الحرام يريد أنه كالربيع في الخصب لمجتديه، وكالشهر الحرام لجاره، لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد.
مما يغنى فيه من شعره:
رأيتك ترعاني بعين بـصـيرة وتبعث حراسا علي ونـاظـرا
فآليت لا آتيك إن كنت مجرمـا و لا أبتغي جارا سواك مجاورا
وأهلي فداء لامرئ إن أتـيتـه تقبل معروفي وسد المفاقـرا
ألا أبلغ النعمان حيث لـقـيتـه وأهدي له الله الغيوث البواكرا غناه خليد الوادي رملا بالبنصر من رواية حبش .
ومما يغنى فيه من قصائد النابغة التي يعتذر إلى النعمان: صوت:
يا دار مية بالعـلـياء فـالـسـنـد أقوت وطال عليها سالـف الأمـد
وقفت فيها أصـيلانـا أسـائلـهـا أعيت جوابا وما بالربع من أحـدر
إلا الأواري لأيا مـا أبـينـهـــا والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلـد
ردت عـلـيه أقـاصـيه ولـبـده ضرب الوليدة بالمسحاة في الـثـأد
خلت سبيل أتـي كـان يحـبـسـه ورفعته إلى السجفين فالـنـضـد
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لـبـد الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لجميلة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وحبش .
قال الأصمعي: قوله: يا دار مية، كما قال امرؤ القيس:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي يريد أهل الطلل. وقال الفراء: إنما نادى الدار لا أهلها أسفا عليها وتشوقا إلى أهلها وتمنيه أن تكون أهلا. والعلياء: المكان المرتفع بناؤه، يقال من ذلك علا يعلو وعلي يعلى، مثل حلا يحلو وحلي، وسلا يسلو وسلي يسلي. والسند: سند الجبل وهو ارتفاعه حيث يسند فيه أي يصعد. أقوت: أقفرت وخلت من أهلها. وقال أبو عبيدة في قوله يا دار مية ثم قال أقوت ولم يقل أقويت: إن من شان العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه ويكفوا عنه .
وروى الأصمعي أصيلانا وهو تصغير أصلان . ويروى عيت جوابا، أي عييت بالجواب. والأواري: جمع آري . ولأيا: بطئا. والمظلومة: التي لم يكن فيها أثر فحفر أهلها فيها حوضا، وظلمهم إياها إحداثهم فيها ما لم يكن فيها. شبه النؤى بذلك الحوض لاستدارته. والجلد: الرض الصلبة الغليظة من غير حجارة. وإنما جعلها جلدا لأن الحفر فيها لا يسهل. وقوله: ردت عليه أقاصيه، يعني أمة فعلت ذلك، أضمرها ولم يكن جرى لها ذكر. وأقاصيه: يعني أقاصي النؤي على أدناه ليرتفع. ولبده: طأمنه . والوليدة: الأمة الشابة. والثأد: الندى. والسبيل: الطريق. والأتي: النهر المحفور، والأتي: السيل من حيث كان. يقول: لما أفسدت طريق الأتي سهلت له طريقا حتى جرى. ورفعته أي قدمت الحفر إلى موضع السجفين، وليس رفعته ها هنا من ارتفاع العلو .
والسجفان: ستران رقيقان يكونان في مقدم البيت. والنضد: ما نضد من المتاع. وأخنى: أفسد . ولبد: آخر نسور لقمان التي اختار أن يعمر مثل أعمارها، وله حديث ليس هذا موضعه .
صوت:
أسرت عليه من الـجـوزاء سـارية تزجي الشمال عليه جامـد الـبـرد
فارتاع من صوت كلاب فبـات لـه طوع الشوامت من خوف ومن صرد
فبثـهـن عـلـيه واسـتـمـر بـه صمع الكعوب بريات من الـحـرد
وكان ضمران منـه حـيث يوزعـه طعن المعارك عند المحجر النـجـد
شك الفريصة بالمدرى فـأنـفـذهـا طعن المبيطر إذ يشفى من العضـد غنى فيه إبراهيم الموصلي هزجا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة. وفيه لحن لمالك. يعني أن سحابة مرت عليه ليلا وأن أنواء الجوزاء أسرت عليه بها. وتزجي: تسوق وتدفع. عليه أي على الثور . والكلاب: صاحب الكلاب. وقوله: بات له طوع الشوامت، أي بات له ما يسر السوامت اللواتي شمتن به. وصمغ الكعوب: يعني قوائمه أنها لازقة محددة الأطراف ليست برهلات. وأصل الصمع رقة الشيء ولطافته. والحرد : داء يعيبه، يقال بعير أحرد، وناقة حرداء. والمحجر: الملجأ. والنجد : الشجاع. والفريصة: مرجع الكتف إلى الخاصرة والمدري: القرن. والمبيطر: البيطار. والعضد: داء يأخذ في العضد .
صفحة : 1191
وفي لحن إبراهيم الموصلي بعد: فارتاع من صوت كلاب:
كأن رحلي وقد زال النهـار بـنـا يوم الجليل على مستـأنـس وحـد
من وحش وجرة موشي أكـارعـه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد قال الأصمعي: زال النهار بنا أي انتصف. و بنا ها هنا في موضع علينا. ومن روى مستوجس فإنه يعني أنه قد أوجس شيئا خافه فهو يستوجس. والجليل : الثمام، واحدته جليلة. ووجرة: طرف السي وهي فلاة بين مران وذات عرق وهي ستون ميلا يجتمع فيها الوحش. وموشي أكارعه أي إنه أبيض في قوائمه نقط سود وفي وجهه سفعة . وطاوي المصير: ضامر. والمصير المعى، وجمعه المصران. والفرد: المنقطع القرين، يقال: فرد وفرد وفرد .
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: غنى مخارق بين يدي الرشيد:
سرت عليه من الجوزاء سارية فلما بلغ إلى قوله:
فارتاع من صوت كلاب فبات له قال: فارتاع بضم العين، فأردت أن أرد عليه خطأه، ثم خفت أن يغضب الرشيد ويظن أني حسدته على منزلته منه وأردت إسقاطه. فالتفت إليه بعض من حضر أظنه قال محمد بن عمر الرومي فقال له: ويلك يا مخارق أتغني بمثل هذا الخطأ القبيح لسوقة فضلا عن الملوك ويلك لو قلت: فارتاع، كان أخف على اللسان وأسهل من قولك: فارتاع. فخجل مخارق، وكفيت ما أردته بغيري. قال: وكان مخارق لحانا .
ومنها: صوت:
قالت ألا ليتما هذا الحمـام لـنـا إلى حمامتنا ونصـفـه فـقـد
يحفه جانبـا نـيق وتـتـبـعـه مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
فحسبوه فألفوه كما حـسـبـت تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيها حمـامـتـهـا وأسرعت حسبة في ذلك العـدد غناه ابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي. هذا خبر روي عن زرقاء اليمامة ، ويروى عن بنت الخس .
أخذ معنى لزرقاء اليمامة: حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الأحول يقول: هذا أخذه النابغة من زرقاء اليمامة، وقالت:
ليت الحمام ليه ونصفه قديه
إلى حماميتـه تم الحمام ميه فسلخه النابغة. وقال الأصمعي: سمعت أناسا من أهل البادية يتحدثون أن بنت الخس كانت قاعدة في جوار، فمر بها قطا وارد في مضيق من الجبل، فقالت:
يا ليت ذا القطا ليه ومثل نصف معيه
إلى قطاة أهلـيه إذا لنا قطا مـيه وأتبعت فعدت على الماء فإذا هي ست وستون. وقوله: فقد، أي فحسب. ويحفه أي يكون من ناحية هذا الثمد، يقال: حف القوم بالرجل أي اكتنفوه. والنيق: الجبل. ومثل الزجاجة: يريد عينا صافية كصفاء الزجاجة .
الحسبة: الهيئة التي تحسب، ويقال: ما أحسن حسبته، مثل الجلسة واللبسة والركبة.
ومنها: صوت:
نبئت أن أبا قابوس أوعـدنـي ولا قرار على زأر من الأسد
مهلا فداء لك الأقوام كلـهـم وما أثمر من مال ومـن ولـد
إن كنت قلت الذي بلغت معتمدا إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي
هذا الثناء فإن تسمع به حسنـا فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد غناه الهذلي، ولحنه من الثقيل الأول عن الهشامي. أثمر: أصلح وأجمع. والزأر: صياح الأسد، يقال: زأر زئيرا وهو الزأر. والصفد : العطية، يقال: أصفده بصفده إصفادا إذا أعطاه، وصفده يصفده صفدا إذا أوثقه .
رواية أخرى في حديث حسان عنه حين وفد على النعمان:
صفحة : 1192
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الصلت بن مسعود قال حدثنا أحمد بن شبويه عن سليمان بن صالح عن عبد الله بن المبارك عن فليح بن سليمان عن رجل قد سماه عن حسان بن ثابت، ونسخت من كتاب ابن أبي خيثمة عن أبيه عن مصعب الزبيري قال قال حسان بن ثابت، وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف بن محمد عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال قال أبو عمرو الشيباني قال حسان بن ثابت وقد جمعت رواياتهم وذكرت اختلافهم فيها، وأكثر اللفظ للجوهري قال: خرجت إلى النعمان بن المنذر، فلقيت رجلا وقال اليزيدي في خبره: فلقيت صائغا من أهل فدك فلما رآني قال: كن يثربيا، فقلت: الأمر كذلك. قال: كن خزرجيا، قلت: أنا خزرجي. قال: كن نجاريا، قلت أنا نجاري. قال: كن حسان بن ثابت، قلت: أنا هو. فقال: أين تريد? قلت: إلى هذا الملك. قال: تريد أن أسددك إلى أين تذهب ومن تريد? قلت: نعم. قال: إن لي به علما وخبرا. قلت: فأعلمني ذلك. قال: فإنك إذا جئته متروك شهرا قبل أن يرسل إليك عسى أن يسأل عنك رأس الشهر، ثم إنك متروك أخر بعد المسألة ثم عسى أن يؤذن لك. فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيرا، فأقم ما أقمت، فإن رأيت أبا أمامة فاظعن، فلا شيء لك عنده. قال: فقدمت ففعل بي ما قال الرجل ثم أذن لي وأصبت منه مالا كثيرا ونادمته وأكلت معه. فبينا أنا على ذلك وأنا معه في قبة له إذا رجل يرتجز حولها:
أصم أم يسمع رب القـبـه يا أوهب الناس لعنس صلبه
ضرابة بالمشـفـر الأذبـه ذات هباب في يديها جلبـه
في لاحب كأنه الأطـبـه وفي رواية اليزيدي: في يديها خدبة ، أي طول واضطراب. والأطبة: جمع طباب وهو الشراك يجمع بين الأديمين في الخرز. وقال عمر بن شبة في خبره: قال فليح بن سليمان: أخذت هذا الرجز عن ابن دأب قال فقال: أليس بأبي أمامة? قالوا بلى. قال: فأذنوا له. ودخل فحياه وشرب معه. ثم وردت النعم السود، ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود يعرف مكانه ولا يفتحل أحد بعيرا أسود غير النعمان. فاستأذنه في أن ينشده كلمته على الباء، فأذن له أن ينشد قصيدته التي يقول فيها:
فإنك شمس والملوك كواكـب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ووردت عليه مائة من الإبل السود الكلبية فيها رعاؤها وبيتها وكلبها، فقال: شأنك بها يا أبا أمامة، فهي لك بما فيها. قال حسان. فما أصابني حسد في موضع ما أصابني يومئذ، وما أدري أيما كنت أحسد له عليه: ألما أسمع من فضل شعره، أم ما أرى من جزيل عطائه، فجمعت جراميزي وركبت إلى بلادي. وقد روى الواقدي عن محمد بن صالح الخبر فذكر أن حسان قدم على جبلة بن أبي شمر، ولعله غلط. أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف قال حدثني عمي إسماعيل عن الواقدي عن محمد بن صالح قال: كان حسان بن ثابت يقدم على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في أهله. فقال: لو وفدت على الحارث، فإن له قرابة ورحمة بصاحبي، وهو أبذل الناس لمعروف، وقد يئس مني أن أقدم عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة. فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث وقد هيأت مديحا. فقال لي حاجبه وكان لي ناصحا: إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة فإياك أن تقع فيه فإنه يختبرك، فإنك إن وقعت فيه زهد فيك وإن ذكرت محاسنه ثقل عليه، فلا تبتدئ بذكره فإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه، امسح ذكره مسحا وجاوزه. وإنه سوف يدعوك إلى الطعام وهو يثقل عليه أن يؤكل طعامه أو يشرب شرابه، فلا تضع يدك في شيء حتى يدعوك إليه. فشكرت له ذلك. ثم دعاني فسألني عن البلاد والناس وعن عيشنا في الحجاز وكيف ما بيننا من الحرب، وكل ذلك أخبره، حتى انتهى إلى ذكر جبلة فقال: كيف تجد جبلة، فقد انقطعت إليه وتركتنا? فقلت له: إنما جبلة منك وأنت منه، فلم أجر معه في مدح ولا ذم، وفعلت في الطعام والشراب كما قال لي الحاجب. قال: ثم قال لي الحاجب: قد بلغني قدوم النابغة وهو صديقه وآنس به، وهو قبيح أن يجفوك بعد البر، فاستأذنه من الآن فهو أحسن. فاستأذنته فأذن لي وأمر لي بخمسمائة دينار وكسا وحملان ، فقبضتها وانصرفت إلى أهلي .
صوت:
صفحة : 1193
ملوك وإخوان إذا ما لقـيتـهـم أحكم في أموالـهـم وأقـرب
ولكنني كنت امرأ لـي جـانـب من الأرض فيه مستراد ومطلب الغناء لإبراهيم ثقيل أول. الجانب هنا: المتسع من الأرض. والمستراد: المختلف يذهب فيه ويجيء، ويقال: راد الرجل لأهله إذا خرج رائدا لهم في طلب الكلأ ونحوه. ثم ذكر مستراده فقال: ملوك وإخوان .
ومن القصيدة العينية: صوت:
عفا ذو حسا من قرتنا فالفوارع فجنبا أريك فالتلاع الـدوافـع
فمجتمع الأشراج غير رسمهـا مصايف مرت بعدنا ومرابـع
توهمت آيات لها فعرفـتـهـا لستة أعوام وذا العام سـابـع
رماد ككحل العين ما إن أبينـه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع غناه معبد من رواية حبش رملا بالبنصر .
صوت:
آذنتنا ببينـهـا أسـمـاء رب ثاو يمل منه الثواء
بعد عهد لها ببرقة شمـا ء فأدنى ديارها الخلصاء عروضه من الخفيف. آذنتنا: أعلمتنا. والبين: الفرقة. والثاوي: المقيم، يقال ثوى ثواء. والبرقة: أرض ذات رمل وطين. وشماء والخلصاء: موضعان. الشعر للحارث بن حلزة اليشكري. والغناء لمعبد، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، ومن الناس من ينسبه إلى حنين .
أخبار الحارث بن حلزة ونسبه
نسب الحارث بن حلزة: هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي ابن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار .
السبب في قول قصيدته المعلقة: قال أبو عمرو الشيباني: كان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أن عمرو بن هند الملك، وكان جبارا عظيم الشأن والملك، لما جمع بكرا وتغلب ابني وائل وأصلح بينهم، أخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض، فكان أولئك الرهن يكونون معه في مسيره ويغزون معه، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون. فقالت تغلب لبكر: أعطونا ديات أبنائنا، فإن ذلك لكم لازم، فأبت بكر بن وائل. فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصة. فقال عمرو بن كلثوم لتغلب: بمن ترون بكرا تعصب أمرها اليوم? قالوا: بمن عسى إلا برجل من أولاد ثعلبة. قال عمرو : أرى والله الأمر سينجلي عن أحمر أصلج أصم من بني يشكر. فجاءت بكر بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر، وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم. فلما اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك . فقال النعمان: وعلى من أظلت السماء كلها يفخرون ثم لا ينكر ذلك. فقال عمرو بن كلثوم له: أما والله لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها. فقال له النعمان: والله لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك. فغضب عمرو بن هند وكان يؤثر بني تغلب على بكر، فقال: يا جارية أعطيه لحيا بلسان أنثى أي سبيه بلسانك . فقال: أيها الملك أعط ذلك أحب أهلك إليك. فقال: يا نعمان أيسرك أني أبوك? قال: لا ولكن وددت أنك أمي فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان. وقام الحارث بن حلزة فارتجل قصيدته هذه ارتجالا، توكأ على قوسه وأنشدها وانتظم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها. قال ابن الكلبي: أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وضح ، فقيل لعمرو بن هند: إن به وضحا، فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر. فلما تكلم أعجب بمنطقه، فلم يزل عمرو يقول: أدنوه أدنوه حتى أمر بطرح الستر وأقعده قريبا منه لإعجابه به. هذه رواية أبي عمرو. وذكر الأصمعي نحوا من ذلك وقال: أخذ منهم ثمانين غلاما من كل حي وأصلح بينهم بذي المجاز ، وذكر أن الغلمان من بني تغلب كانوا معه في حرب فأصيبوا. وقال في خبره: إن الحارث بن حلزة لما ارتجل هذه القصيدة بين يدي عمرو قام عمرو بن كلثوم فارتجل قصيدته:
قفي قبل التفرق يا ظعينا وغير الأصمعي ينكر ذلك وينكر أنه السبب في قول عمرو بن كلثوم .
صفحة : 1194
وذكر ابن الكلبي عن أبيه أن الصلح كان بين بكر وتغلب عند المنذر بن ماء السماء، وكان قد شرط: أي رجل وجد قتيلا في دار قوم فهم ضامنون لدمه، وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما فينظر أقربهما إليه فتضمن ذلك القتيل. وكان الذي ولي ذلك واحتمى لبني تغلب قيس ابن شراحيل بن مرة بن همام. ثم إن المنذر أخذ من الحيين أشرافهم وأعلامهم فبعث بهم إلى مكة، فشرط بعضهم على بعض وتواثقوا على ألا يبقي على ألا يبقي واحد منهم لصاحبه غائلة ولا يطلبه بشيء مما كان من الآخر من الدماء. وبعث المنذر معهم رجلا من بني تميم يقال له الغلاق. وفي ذلك يقول الحارث بن حلزة:
فهلا سعيت لصلح الصديق كصلح ابن مارية الأقصم
وقيس تدارك بكر العراق وتغلب من شرها الأعظم
وبيت شراحيل فـي وائل مكان الثريا من الأنـجـم
فأصلح ما أفسدوا بينـهـم كذلك فعل الفتى الأكـرم ابن مارية هو قيس بن شراحيل. ومارية أمه بنت الصباح بن شيبان من بني هند فلبثوا كذلك ما شاء الله، وقد أخذ المنذر من الفريقين رهنا بأحداثهم، فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن. فسرح النعمان بن المنذر ركبا من بني تغلب إلى جبل طيئ في أمر من أمره، فنزلوا بالطرفة وهي لبنى شيبان وتيم اللات. فذكروا أنهم أجلوهم عن الماء وحملوهم على المفازة، فمات القوم عطشا. فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وأتوا عمرو بن هند فاستعدوه على بكر، وقالوا: غدرتم ونقضتم العهد وانتهكتم الحرمة وسفكتم الدماء وقالت بكر: أنتم الذين فعلتم ذلك، قذفتمونا بالعضيهة وسمعتم الناس بها، وهتكتم الحجاب والستر بادعائكم الباطل علينا قد سقيناهم إذ وردوا، وحملناهم على الطريق إذ خرجوا، فهل علينا إذ حار القوم وضلوا . ويصدق ذلك قول الحارث بن حلزة:
لم يغروكم غرورا ولـكـن يرفع الآل جرمهم والضحاء كان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجاله معلقته في موقف واحد، وشرح أبيات منها: وقال يعقوب بن السكيت: كان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال الحارث هذه القصيدة في موقف واحد ويقول: لو قالها في حول لم يلم. قال: وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحا، وعرض ببعضها لعمرو بن هند، فمن ذلك قوله:
أعلينا جناح كندة أن يغ نم غازيها ومنا الجزاء قال: وكانت كندة قد كسرت الخراج على الملك، فبعث إليهم رجالا من بني تغلب يطالبونهم بذلك، فقتلوا ولم يدرك ثأرهم، فعيرهم بذلك. هكذا ذكر الأصمعي. وذكر غيره أن كندة غزتهم فقتلت وسبت واستاقت، فلم يكن في ذلك منهم شيء ولا أدركوا ثأرا. قال: وهكذا البيت الذي يليه وهو:
أم علينا جرى قضاعة أم لي س علينا فيما جنوا أنـداء فإن عيره بأن قضاعة كانت غزت تغلب ففعلت بهم فعل كندة، ولم يكن منهم في ذلك شيء ولا أدركوا منهم ثارا. قال: وقوله:
أم علينا جرى حنيفة أم مـا جمعت من محارب غبراء قال: وكانت حنيفة محالفة لتغلب على بكر، فأذكر الحارث عمرو بن هند بهذا البيت قتل شمر بن عمرو الحنفي أحد بني سحيم المنذر بن ماء السماء غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني، وبعث الحارث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله، فركن المنذر إلى ذلك وأقام الغلمان معه، فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي فقتله غيلة، وتفرق من كان مع المنذر، وانتهبوا عسكره. فحرضه بذلك على حلفاء بني تغلب بني حنيفة. قال وقوله:
وثمانون من تـمـيم بـأيدي هم رماح صدورهن القضاء يعني عمرا أحد بني سعد بن زيد مناة، خرج في ثمانين رجلا من تميم فأغار على قوم من بني قطن من تغلب يقال لهم بنو رزاح كانوا يسكنون أرضا تعرف بنطاع قريبة من البحرين، فقتل فيهم وأخذ أموالا كثيرة، فلم يدرك منه بثأر. قال: وقوله:
ثم خيل من بعد ذاك مع الغلاق ولا رأفة ولا إبقاء قال: الغلاق صاحب هجائن النعمان بن المنذر، وكان من بني حنظلة بن زيد مناة تميميا .
صفحة : 1195
وكان عمرو بن هند دعا بني تغلب بعد قتل المنذر إلى الطلب بثأره من غسان، فامتنعوا وقالوا: لا نطيع أحدا من بني المنذر أبدا أيظن ابن هند أنا له رعاء . فغضب عمرو بن هند وجمع جموعا كثيرة من العرب، فلما اجتمعت آلى ألا يغزو قبل تغلب أحدا، فغزاهم فقتل منهم قوما، ثم استعطفه من معه لهم واستوهبوه جريرتهم، فأمسك عن بقيتهم، وطلت دماء القتلى. فذلك قول الحارث:
من أصابوا من تغلبي فمطلو ل عليه إذا تولى العـفـاء ثم اعتد على عمرو بحسن بلاء بكر عنده فقال:
من لنا عنده من الـخـير آيا ت ثلاث في كلهن القضـاء
آية شارق الشقـيقة إذ جـا ءوا جميعا لكل حـي لـواء
حول قيس مستلئمين بكبـش قرظـي كـأنـه عـبـلاء
فرددناهم بضرب كـمـا يخ رج من خربة المزاد الماء
ثم حجرا أعني ابن أم قطـام وله فـارسـية خـضـراء
أسد في اللقـاء ذو أشـبـال وربيع إن شنعت غـبـراء
فرددناهم بطعن كـمـا تـن هز في جمة الطوي الدلاء
وفككنا غل امرئ القيس عنه بعدما طال حبسه والعـنـاء
وأقدناه رب غسان بالـمـن ذر كرها وما تكال الدمـاء
وفديناهم بـتـسـعة أمـلا ك كرام أسلابهـم أغـلاء
ومع الجون جون آل بني الأو س عنود كـأنـهـا دفـواء يعني بهذه الأيام أياما كانت كلها لبكر مع المنذر، فمنها يوم الشقيقة وهم قوم شيبان جاءوا مع قيس بن معد يكرب ومعه جمع عظيم من أهل اليمن يغيرون على إبل لعمرو بن هند، فردتهم بنو يشكر وقتلوا فيهم، ولم يوصل إلى شيء من إبل عمرو بن هند. ومنها يوم غزا حجر الكندي، وهو حجر بن أم قطام، امرأ القيس وهو ماء السماء بن المنذر، لقيه ومع حجر جمع كثير من كندة، وكانت بكر مع امرئ القيس، فخرجت إلى حجر فردته وقتلت جنوده. وقوله:
ففككنا غل امرئ القيس عنه وكانت غسان أسرته يوم قتل المنذر أبيه، فأغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام فقتلوا ملكا من ملوك غسان واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر، وأخذ عمرو بن هند بنتا لذلك الملك يقال لها ميسون. وقوله: وفديناهم بتسعة ...، يعني بني حجر آكل المرار. وكان المنذر وجه خيلا من بكر في طلب بني حجر، فظفرت بهم بكر بن وائل فأتوا المنذر بهم وهم تسعة، فأمر بذبحهم في ظاهر الحيرة فذبحوا بمكان يقال له جفر الأملاك. قال: والجون جون آل بني الأوس: ملك من ملوك كندة وهو ابن عم قيس بن معد يكرب. وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار ومعه كتيبة خشناء، فحاربته بكر فهزموه، وأخذوا بني الجون إلى المنذر فقتلهم .
قال: فلما فرغ الحارث من هذه القصيدة حكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث على رهائن تغلب، فتفرقوا على هذه الحال. ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتى هم باستخدام أم عمرو بن كلثوم تعرضا لهم وإذلالا، فقتله عمرو بن كلثوم. وخبره يذكر هناك .
قصيدة له دالية: قال يعقوب بن السكيت أنشدني النضر بن شميل للحارث بن حلزة وكان يستحسنها ويستجيدها ويقول: لله درة ما أشعره: صوت:
من حـاكـم بـــينـــي وبـــي ن الـدهـر مـال عـلـي عـمــدا
أودى بـســادتـــنـــا وقـــد تركـوا لـنـا حـلـقــا وجـــردا
خيلي وفارسها ورب أبيك كان أعز فقدا
فلو أن ما يأوي إلي أصاب من ثهلان هدا
فضعي قناعك إن ري ب الـدهـر قـد أفـنـى مـعـــدا
فلـكـم رأيت مـــعـــاشـــرا قد جـمـعـــوامـــالا وولـــدا
وهـــم زبـــاب حـــــــائر لا تـســـمـــع الآذان رعـــدا
فعـــش بـــجـــد لا يضـــر ك الـنـوك مـا لاقـــيت جـــدا
والـعـيش خــير قـــي ظـــلا ل الـنـوك مـمـن عـاش كـــذا في البيت الأول من القصيدة والبيتين الأخيرين خفيف ثقيل أول بالوسطى لعبد الله بن العباس الربيعي، ومن الناس من ينسبه إلى بابويه .
صوت:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا
صفحة : 1196
عروضه من الوافر. الشعر لعمر بن كلثوم التغلبي. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى من روايته. وفيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو .
نسب عمر بن كلثوم وخبره
نسب عمر بن كلثوم من قبل أبويه: هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ابن نزار بن معد بن عدنان. وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخي كليب، وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير .
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني العكلي عن العباس بن هشام عن أبيه عن خراش بن إسماعيل عن رجل من بني تغلب ثم من بني عتاب قال: سمعت الأخذر وكان نسابة يقول: لما تزوج مهلهل بنت بعج بن عتبة أهديت إليه، فولدت له ليلى بنت مهلهل. فقال مهلهل لامرأته هند: اقتليها. فأمرت خادما لها أن تغيبها عنها. فلما نام هتف هاتف يقول:
كم من فتـى يؤمـل وسـيد شـمـردل
وعدة لا تـجـهـل في بطن بنت مهلهل واستيقظ فقال: يا هند أين بنتي? قالت: قتلتها. قال: كلا وإله ربيعة فكان أول من حلف بها فاصدقيني، فأخبرته. فقال: أحسني غداءها. فتزوجها كلثوم بن مالك بن عتاب. فلما حملت بعمرو بم كلثوم قالت: إنه أتاني آت في المنام فقال:
يا لك ليلى من ولد يقدم إقدام الأسـد
من جشم فيه العدد أقول قيلا لا قند فولدت غلاما فسمته عمرا. فلما أتت عليه سنة قالت أتاني ذلك الآتي في الليل أعرفه، فأشار إلى الصبي وقال:
إني زعيم لك أم عـمـرو بماجد الجد كريم النـجـر
أشجع من ذي لبد هـزبـر وقاص أقران شديد الأسر
يسودهم في خمسة وعشر قال الأخذر: فكان كما قال ساد وهو ابن خمسة عشر، ومات وله مائة وخمسون سنة .
قصة قتله لعمرو بن هند: قال أبو عمرو حدثني أسد بن عمرو الحنفي وكرد بن السمعي وغيرهما، وقال ابن الكلبي حدثني أبي وشرقي بن القطامي، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة: أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي? فقالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم. قال: ولم? قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو وهو سيد قومه. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمه أمه. فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب. وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب ?. فدخل عمرو بن كلثوم على عمر بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق. وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر الشاعر، وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرئ القيس، وبينهما هذا النسب. وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى. فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف. فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق. فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها وألحت. فصاحت ليلى: واذلاه يا لتغلب فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه، ونظر إلى عمر بن هند فعرف الشر في وجهه، فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب به رأس عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، فانتهبوا ما في الرواق وساقوا نجائبه، وساروا نحو الجزيرة. ففي ذلك يقول عمرو بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا تعظيم تغلب بقصيدته المعلقة: وكان قام بها خطيبا بسوق عكاظ وقام بها في موسم مكة. وبنو تغلب تعظمها جدا ويرويها صغارهم وكبارهم، حتى هجوا بذلك؛ قال بعض شعراء بكر بن وائل:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم
يروونها أبدا مذ كان أولـهـم يا للرجال لشعر غير مسـؤوم فخر شعراء تغلب بقتله عمرو بن هند: وقال الفرزدق يرد على جرير في هجائه الأخطل:
ما ضر تغلب وائل أهجوتها أم بلت حيث تناطح البحران
صفحة : 1197
قوم هم قتلوا ابن هنـد عـنـوة عمرا وهم قسطوا على النعمان وقال أفنون صريم التغلبي يفخر بفعل عمرو بن كلثوم في قصيدة له:
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا لتخدم ليلـى أمـه بـمـوفـق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا فأمسك من ندمائه بالمـخـنـق
وجلله عمرو على الرأس ضربة بذي شطب صافي الحديدة رونق قال: وكان لعمرو أخ له مرة بن كلثوم، فقتل المنذر بن النعمان وأخاه. وإياه عنى الأخطل بقوله لجرير:
أبني كليب إن عمي اللـذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا وكان لعمرو بن كلثوم ابن يقال له عباد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس. ولعمرو بن كلثوم عقب باق، ومنهم كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر صاحب الرسائل .
أغار على بني تميم ثم انتهى إلى بني حنيفة فأسره يزيد بن عمرو ثم أطلقه فمدحه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي قال: أغار عمرو بن كلثوم التغلبي على بني تميم ثم مر من غزوه ذلك على حي من بني قيس بن ثعلبة، فملأ يديه منهم وأصاب أسارى وسبايا؛ وكان فيمن أصاب أحمد بن جندل السعدي، ثم انتهى إلى بني حنيفة باليمامة وفيهم أناس من عجل، فسمع به أهل حجر ؛ فكان أول من أتاه من بني حنيفة بنو سحيم عليهم يزيد بن عمرو بن شمر. فلما رآهم عمرو بن كلثوم ارتجز فقال:
من عاذ مني بعدها فلا اجتـبـر ولا سقى الماء ولا أرعى الشجر
بنو لجيم وجعـاسـيس مـضـر بجانب الدو يدهدون الـعـكـر فانتهى إليه يزيد بن عمرو فطعنه فصرعه عن فرسه وأسره. وكان يزيد شديدا جسيما، فشده في القد وقال له: أنت الذي تقول:
متى تعقد قرينتنا بحـبـل تجد الحبل أو تقص القرينا أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعا. فنادى عمرو بن كلثوم: يل لربيعة أمثلة . قال: فاجتمعت بنو لجيم فنهوه ولم يكن يريد ذلك به. فسار به حتى أتى قصرا بحجر من قصورهم، وضرب عليه قبة ونحر له وكساه وحمله على نجيبه وسقاه الخمر. فلما أخذت برأسه تغنى:
أأجمع صحبتي السحر ارتحالا ولم أشعر ببين منـك هـالا
ولم أر مثل هالة في مـعـد أشبه حسنهـا إلا الـهـلالا
ألا أبلغ بني جشم بن بـكـر وتغلب كلمـا أتـيا حـلالا
بأن الماجد القرم ابن عمـرو غداة نطاع قد صدق القتـالا
كتيبتـه مـلـمـلـمة رداح إذا يرمونها تفني الـنـبـالا
جزى الله الأغر يزيد خـيرا ولقاه المسرة والـجـمـالا
بمأخذه ابن كلثوم بن عمـرو يزيد الخير نـازلـه نـزالا
بجمع من بني قـران صـيد يجيلون الطعـان إذا أجـالا
يزيد يقدم السفـراء حـتـى يروي صدرها الأسل النهالا حواره مع عمرو بن أبي حجر الغساني حين مر ببني تغلب فلم يكرموه: أخبرني علي بن سليمان قال أخبرنا الأحول عن ابن الأعرابي قال: زعموا أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء فلحقوا بالشام خوفا منه. فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني، فتلقاه عمرو بن كلثوم. فقال له: يا عمرو، ما منع قومك أن يتلقوني ? فقال له: يا عمرو يا خير الفتيان، فإن قومي لم يستيقظوا لحرب قط إلا علا فيها أمرهم واشتد شأنهم ومنعوا ما وراء ظهورهم. فقال له: أيقاظ نومة ليس فيها حلم، أجتث فيها أصولهم، وأنفى فلهم إلى اليابس الجرد، والنازح الثمد. فانصرف عمرو بن كلثوم وهو يقول:
ألا فاعلم أبيت اللعن أنـا على عمد سناتي ما نريد
تعلم لأن محملنا ثـقـيل وأن زناد كبتنـا شـديد
وأنا ليس حي من معـد يوازينا إذا لبس الحـديد هجاؤه للنعمان بن المنذر: قال: وقال ابن الأعرابي: بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده، فدعا كاتبا من العرب فكتب إليه:
ألا أبلغ النعمان عني رسـالة فمدحك حولي وذمك قـارح
متى تلقني في تغلب ابنة وائل وأشياعها ترقى إليك المسالح
صفحة : 1198
وهجا النعمان بن المنذر هجاء كثيرا، منه قوله يعيره بأمه سليمى:
حلت سليمى بخبت بعد فرتـاج وقد تكون قديما في بني نـاج
إذ لا ترجي سليمى أن يكون لها من بالخورنق من قين ونسـاج
ولا يكون على أبوابهـا حـرس كما تلفف قبـطـي بـديبـاج
تمشي بعدلين من لؤم ومنقـصة مشي المقيد في الينبوت والحاج قال وقال في النعمان:
لحا الله أدنانا إلى اللـؤم زلـفة وألامنا خالا وأعجـزنـا أبـا
وأجدرنا أن ينفخ الكير خـالـه يصوغ القروط والشنوف بيثربا وفاته ونصيحته لبنيه: أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن المغيرة عن ابن الكلبي عن رجل من النمر بن قاسط قال: لما حضرت عمرو بن كلثوم الوفاة وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة، جمع بنيه فقال: يا بني، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقا فحقا، وإن كان باطلا فباطلا. ومن سب سب؛ فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم، وامنعوا من ضيم الغريب؛ فرب رجل خير من ألف، ورد خير من خلف. وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار تكون الأهذار . وأشجع القوم العطوف بعد الكر، كما أن أكرم المنايا القتل. ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا من إذا عوتب لم يعتب . ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره؛ فبكؤه خير من دره، وعقوقه خير من بره. ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض .
صوت:
لمن الديار ببرقة الـروحـان إذ لا نبيع زماننـا بـزمـان
صدع الغواني إذ رمين فؤاده صدع الزجاجة ما لذاك تداني
إن زرت أهلك لم أنول حاجة وإذا هجرتك شفني هجراني الشعر لجرير يهجو الأخطل ويرد عليه حكومته التي حكم بها للفرزدق عليه. والغناء، فيما ذكره علي بن يحيى المنجم في كتابه الذي لقبه بالمحدث، لمعبد ثقيل أول بالوسطى، وذكر الهشامي أنه لحنين، قال ويقال: إنه لمعبد. وفيه ليزيد حوراء لحن ذكره عبد الملك بن موسى عنه، وقال: لا أدري أهو الثقيل الأول أم خفيف الرمل. وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وأن خفيف الرمل بالبنصر للدلال .
ذكر سبب تصال الهجاء بين جرير والأخطل
سبب التهاجي بين جرير والأخطل: أخبرني علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وعن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة، وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة، وأخبرنا الصولي عن إبراهيم بن المعلى الباهلي عن الطوسي عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، وقد جمعت رواياتهم. قال أبو عبيدة حدثني عامر بن مالك المسمعي قال: كان الذي هاج التهاجي بين جرير والأخطل أنه لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك وهو أكبر ولده وبه كان يكنى: انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما. فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم اتى أباه. فقال له: كيف وجدتهما? قال: وجدت جريرا يغرف من بحر، ووجدت الفرزدق ينحت من صخر. فقال الأخطل: الذي يغرف من بحر أشعرهما؛ وقال يفضل جرير على الفرزدق:
إني قضيت قضاء غير ذي جنف لما سمعت ولما جاءني الخبـر
أن الفرزدق قد شالت نعامـتـه وعضه حية من قومـه ذكـر وفي رواية ابن الأعرابي: قد سال الفرات به. قال أبو عبيدة: ثم إن بشر بن مروان دخل الكوفة، فقدم عليه الأخطل، فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بألف درهم وكسوة وبغلة وخمر، وقال له: لا تعن على شاعرنا، واهج هذا الكلب الذي يهجو بني دارم؛ فإنك قد قضيت على صاحبنا، فقل أبياتا واقض لصاحبنا عليه. فقال الأخطل:
أجرير إنك والذي تسمو لـه كأسيفة فخرت بحدج حصان
عملت لربتها فلما عـولـيت نسلت تعارضها مع الركبان
صفحة : 1199
أتعد مأثرة لغيرك فخـرهـا وثناؤها في سالف الأزمـان
تاج الملوك وفخرهم في دارم أيام يربوع مـع الـرعـيان وهي طويلة يقول فيها:
فاخسأ إليك كليب إن مجاشـعـا وابا الفوارس نهشـلا أخـوان
سبقوا أباك بكل أعلـى تـلـعة في المجد عند مواقف الركبان
قوم إذا خطرت عليك فرومهـم ألقتك بين كـلاكـل وجـران
وإذا وضعت أباك في ميزانهـم رجحوا وشال أبوك في الميزان وقال جرير يرد حكومة الأخطل:
لمن الديار ببرقة الروحان إذ لا نبيع زماننا بزمـان وهي طويلة يقول فيها:
يا ذا الغباوة إن بشرا قد قضى ألا تجوز حكومة النـشـوان
فدعوا الحكومة لستم من أهلها إن الحكومة في بني شيبـان
قتلوا كليبكم بلقحة جـارهـم يا خزر تغلب لستم بهجـان قصيدة للأخطل وشرح بعض كلماتها: ومما غني فيه من نقائض جرير والأخطل: صوت:
أناخوا فجروا شاصيات كأنهـا رجال من السودان لم يتسربلوا
فقلت أصبحوني لا أبا لأبيكـم وما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا
تمر بها الأيدي سنيحا وبارحـا وترفع باللهم حـي وتـنـزل الشاصيات: الشائلات القوائم من امتلائها. وعنى بالشاصيات ها هنا الزقاق، لأنها إذا امتلأت شالت أكارعها؛ يقال شصا برجله إذا رفعها، وشصا ببصره إذا شخص؛ قال الراجز يصف الشاخص:
وبـقـر خـمـاص ينظرن من خصاص
بأعـين شـواصـي كفلق الـرصـاص والسانح والسنيح: ما جاء عن يمينك يريد شمالك. والبارح: ما جاء عن شمالك يريد يمينك. والجابه ما جاء من أمامك مواجها لك. والقعيد والخفيف: ما جاء من ورائك. شبه دور الكأس واختلافها بينهم بالسوانح والبوارح .
الشعر للأخطل. والغناء لمالك، فيه لحنان كلاهما له، أحدهما رمل بالبنصر في مجراها في الأبيات الثلاثة على الولاء من رواية إسحاق، والآخر خفيف رمل بالوسطى في الثالث ثم الأول والثاني عن عمرو. وذكر عمرو أن الرمل أيضا لابن سريج وأنه بالوسطى. وفيه لإبراهيم رمل بالبنصر في الأول والثاني عن الهشامي وعمرو. وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي. ومنها: صوت:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا وأزعجتهم نوى في صرفها غـير
كأنني شارب يوم استـبـد بـهـم من قرقف ضمنتها حمص أو جدر
جادت بها ذوات القـار مـتـرعة كلفاء ينحت من خرطومها المـدر
يا قاتل الله وصل الـغـانـيات إذا أيقن أنك ممن قد زها الـكـبـر
أعرضن لما حنى قوسي موترهـا وابيض بعد سواد اللمة الشـعـر استبد بهم أي علي عليهم. والقرقف: التي تأخذ شاربها رعدة لشدتها. والكلفاء: الخابية في لونها كلف وقوله: زها الكبر، يعني استخفه وأضعفه؛ يقال: زهاه وازدهاه. وقال أبو عبيدة: الأصل في زهاه رفعه؛ فكأنه أراد أنه رفعه في علو سنه عما يردن منه. واللمة: الشعر المجتمع .
الشعر للأخطل يمدح عبد الملك بن مروان ويهجو قيسا وبني كليب ويقول فيها:
أما كليب بن يربوع فلـيس لـهـا عند التفـاخـر إيراد ولا صـدر
مخلفون ويقضي الناس أمـرهـم وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
ملطمون بأعقار الحـياض فـمـا ينفك من دارمـي فـيهـم أثـر
بئس الصحاة وبئس الشراب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسـكـر
قوم تناهت إليهم كـل مـخـزية وكل فاحشة سبت بهـا مـضـر
الآكلون خبيث الـزاد وحـدهـم والسائلون بظهر الغيب ما الخبر وهذه القصيدة من فاخر شعر الأخطل ومقدمه ومما غلب فيه على جرير. وقد احتاج جرير إلى سلخ بيته هذا الأخير فرده عليه بعينه في نقيضة هذه القصيدة، وضمنه بيتين من شعره فقال:
الآكلون خبيث الـزاد وحـدهـم والنازلون إذا واراهم الخـمـر
والظاعنون على العمياء إن رحلوا والسائلون بظهر الغيب ما الخبر
صفحة : 1200
وفي هذه القصيدة يقول الأخطل يمدح عبد الملك:
إلى امرئ لا تعـرينـا نـوافـلـه أظفره الله فليهنئ لـه الـظـفـر
الخائض الغمر والميمـون طـائره خليفة الله يستسقى به الـمـطـر
والهم بعد نجي النـفـس يبـعـثـه بالحزم والأصمعان القلب والحـذر
وما الفرات إذا جاشـت غـواربـه في حافتيه وفي أوساطه العـشـر
وزعزعته رياح الصيف واضطربت فوق الجآجـيء مـن آذيه غـدر
مسحنفر من جبال الـروم يسـتـره منها أكافـيف فـيهـا دونـه زور
يوما بأجود منـه حـين تـسـألـه ولا بأجهر منه حـين يجـتـهـر
في نبعة من قريش يعصبون بـهـا ما إن يوازى بأعلى نبتها الشـجـر
حشد على الخبر عيافو الخنـا أنـف إذا ألمت بهم مكروهة صـبـروا
لا يستقل ذوو الأضغان حـربـهـم ولا يبين فـي عـيدانـهـم خـور
شمس العداوة حتى يستقـاد لـهـم وأعظم الناس أحلامـا إذا قـدروا مدح الرشيد بيتا للأخطل: أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن أبيه: أن الرشيد قال لجماعة من أهله وجلسائه: أي بيت مدح به الحلفاء منا ومن بني أمية أفخر? فقالوا وأكثروا. فقال الرشيد: أمدح بيت وأفخره قول ابن النصرانية في عبد الملك:
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا مدح آدم بن عمر بن عبد العزيز بيتا للأخطل في مجلس المهدي فأغضبه: أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث عن المدائني قال: قال المهدي يوما وبين يديه مروان بن أبي حفصة: أين ما تقوله فينا من قولك في أمير المؤمنين المنصور:
له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونـائل فاعترضه آدم بن عمر بن عبد العزيز فقال: هيهات والله يا أمير المؤمنين أن يقول هذا ولا ابن هرمة كما قال الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا قال: فغضب المهدي حتى استشاط وقال: كذب والله ابن النصرانية العاض بظر أمه وكذبت يا عاض بظر أمك والله لولا أن يقال: إني خفرت بك لعرفتك من أكثر شعرا خذوا برجل ابن الفاعلة فأخرجوه عني فأخرجوه على تلك الحال، وجعل يشتمه وهو يجر ويقول: يابن الفاعلة أراها في رؤوسكم وأنفسكم .
صوت:
إني أرقت ولم يأرق مع صاح لمستنكف بعيد النـوم لـواح
دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بـالـراح عروضه من البسيط. الشعر لأوس بن حجر وهكذا رواه الأصمعي، أخبرنا بذلك اليزيدي عن الرياشي عنه، ووافقه بعض الكوفيين، وغير هؤلاء يرويه لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. ولحسين بن محرز لحن في البيت الثاني وبعده:
إن شرب الخمر أو أغلى بها ثمنا فلا محالة يوما أنـنـي صـاح وطريقته خفيف رمل بالوسطى .
قوله: مستكف: يعني مستديرا؛ وكل طرة كفة. أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا مهدي يقول وهو يصف شجاعا عرض له في طريقه: تبعني شجاع من هذه الشجعان، فمر خلفي كأنه سهم زالج، فحدت عنه، واستكف كأنه كفة حابل، فرميته فنظرت ثلاثة أثنائه وكذلك يقال كفة الحابل وكفة الميزان بالكسر، والأولى مضمومة . ولواح: من قولهم لاح يلوح إذا ظهر. ومسف: قد أسف على وجه الأرض إذا صار عليها أو قرب منها أو دنا إليها؛ ومن هذا يقال: أسف الطائر إذا طار على وجه الأرض؛ ويقال ذلك للسهم أيضا. وهيدبه: الذي تراه كالمتعلق بالسحاب. يقول: هذا السحاب يكاد من قال أن يمسه ويدفعه براحته لقربه من الأرض؛ وهو أحسن ما وصف به السحاب .
ذكر أوس بن حجر وشيء من أخباره
وقد اختلف في نسبه، فقال الأصمعي؛ فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي عنه، هو أوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير. وقال ابن حبيب، فيما ذكره السكري عنه: هو أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق