ج5.وج6.
ج5. كتاب أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصولالإمام
أحمد بن علي الرازي الجصاص
== تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْفَصْلُ نَظِيرُ مَا
تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ قَالَ : وَنُسِخَتْ سُنَّتُهُ بِالْقُرْآنِ ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( وَالسُّنَّةُ ) النَّاسِخَةُ فَأُطْلِقَ
نَسْخُهَا بِالْقُرْآنِ ثُمَّ أُوجِبَ نَسْخُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ ، وَمَعْلُومٌ
أَنَّ مَا نُسِخَ بِالْقُرْآنِ يَسْتَحِيلُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ لِامْتِنَاعِ
جَوَازِ نَسْخِ الْمَنْسُوخِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ جَازَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ
سُنَّةً بِالْقُرْآنِ وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا حَرَّمَ ( اللَّهُ مِنْ
الْبُيُوعِ إلَى آخِرِ ) مَا ذَكَرَ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ إنْ صَحَّتْ مَنَعَتْ
نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
مَعَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ النَّسْخَ ، فَإِذْ قَدْ وَجَدْنَا
فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَ
النَّاسِخِ مِنْهُمَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ ، وَمِنْ
غَيْرِ ذِكْرِ تَارِيخٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، بَلْ يَكُونُ اسْتِدْرَاكُ حُكْمِ
النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَتَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ
وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَوْكُولًا إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِغَيْرِهِ .
كَذَلِكَ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ
وَيَكُونُ سَبِيلُ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ طَلَبَ تَارِيخِ
الْحُكْمِ
مِنْ سَائِرِ الْأُصُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا
عِلْمٌ بِتَارِيخِهِمْ ، وَلَا كَانَ فِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى
النَّاسِخِ مِنْهُمَا
وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَى نَسْخِ
السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فِي ( بَابِ ) صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ، فَقَالَ
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي { تَأَخُّرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِالصَّلَوَاتِ حَتَّى
كَانَ هَوِيَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَضَاهُنَّ ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ
ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ }
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ
صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى
تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فِي الْخَوْفِ إلَى أَنْ يُصَلُّوهَا - كَمَا
أَنْزَلَ ( اللَّهُ ) ، وَسَنَّ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِهَا وَنَسَخَ ( رَسُولُ
اللهِ ) سُنَّتَهُ فِي تَأْخِيرِهَا بِفَرْضِ اللهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ثُمَّ
بِسُنَّتِهِ ، صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا كَمَا وُصِفَتْ " فَنَصَّ فِي هَذَا
الْمَوْضُوعِ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، إلَّا أَنَّهُ وَصَلَهُ
بِمَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ ، لِأَنَّهُ قَالَ : نَسَخَهَا بِفَرْضِ اللهِ فِي
كِتَابِهِ ثُمَّ بِسُنَّتِهِ ، وَمَا قَدْ نُسِخَ بِالْكِتَابِ ( لَا ) يَصِحُّ نَسْخُهُ
بَعْدَ ذَلِكَ لَا بِالسُّنَّةِ وَلَا بِغَيْرِهَا .
فارغة
الْبَابُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَوْلِ فِي
نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
وَفِيهِ فَصْلٌ : نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ
مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
فارغة
بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
فَأَجَازَهُ أَصْحَابُنَا إذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ مَجِيئًا يُوجِبُ الْعِلْمَ ،
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي عَنْ
أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهَا هِيَ مَا
وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ ، نَحْوُ خَبَرِ الْمَسْحِ
عَلَى الْخُفَّيْنِ .
وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ
جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ
أَيْضًا .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ
جَوَازَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } ، وَالنَّسْخُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ
الَّذِي كَانَ ( فِي ) تَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُنَا
لَهُ ، فَانْتَظَمَ قَوْلُهُ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } سَائِرَ وُجُوهِ
الْبَيَانِ ، فَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ وَجَبَ أَنْ
تَسْتَوْعِبَهُ الْآيَةُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارُ مَا
أُنْزِلَ وَتَبْلِيغُهُ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا أَحَدُ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ ،
وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ
تَخْصِيصِهِ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ ، وَلَمْ يَكُنْ
اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرِ بِإِظْهَارِ ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ
مَانِعًا مِنْ دُخُولِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ تَحْتَهُ .
كَذَلِكَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ
النَّسْخُ ( وَاجِبٌ أَنْ ) يَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ السُّنَّةُ تُبَيِّنُ
الْقُرْآنَ اسْتَحَالَ أَنْ تَنْسَخَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ
الشَّيْءُ بِمَا
يُبَيِّنُهُ
.
قِيلَ (
لَهُ ) : إنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا
دَلَالَةٌ وَهُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَكَأَنَّك إنَّمَا
جَعَلْت مَوْضِعَ الْخِلَافِ دَلَالَةً عَلَى الْمَسْأَلَةِ .
وَعَلَى أَنَّ النَّسْخَ ضَرْبٌ مِنْ الْبَيَانِ فَلَا
يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ }
، وَلَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِهِ
.
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّك
لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا
يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
فَلَمَّا كَانَ النَّاسِخُ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ صِرَاطَ
اللهِ ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ لِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ
يَهْدِي إلَى صِرَاطِ اللهِ ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبًا مِنْ
اللهِ تَعَالَى ، جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهَا وَحْيٌ وَهُوَ قُرْآنٌ كَمَا جَازَ
نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُمَا ، وَحْيٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى .
وَأَيْضًا فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ يَكُونُ مِنْ
وَجْهَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) : نَسْخُ التِّلَاوَةِ .
( وَالثَّانِي ) : نَسْخُ الْحُكْمِ .
وَقَدْ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا
بِقُرْآنٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، لِأَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ
يَكُونُ بِالْإِنْسَاءِ تَارَةً وَبِالْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَتْبِهَا وَحِفْظِهَا
أُخْرَى ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ وُقُوعُهُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ وُجِدَ فِي
زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا قُرْآنٌ
مَوْجُودٌ نُسِخَتْ بِهِ ، فَلَمَّا جَازَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا بِقُرْآنٍ
وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُ الْحُكْمِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْ نَسْخِ
الْقُرْآنِ ،
وَلِأَنَّ التِّلَاوَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فِي
جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا ( وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ) مِنْ الثَّوَابِ إذْ كَانَتْ
قُرْآنًا ، وَلَا تَسْتَحِقُّ بِغَيْرِهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى
نَسْخِ حُكْمِ
الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ لَا مَحَالَةَ
يَقْتَضِي نَسْخَ حُكْمٍ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قُرْآنٌ مَنْسُوخٌ بِغَيْرِ قُرْآنٍ
فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي حُكْمٍ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِخِ
وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ مَا صَحَّ اجْتِمَاعُهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ جَازَ النَّسْخُ
بِهِ عَلَى ( حَسَبِ ) مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ
يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ تَجْوِيزِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، مُوجِبَةً لِتَوْقِيتِ حُكْمِهِ ، أَنَّ
مُرَادَ اللهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ كَذَا ، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
فِعْلُهُ بَعْدَهُ ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عِبَادَةٌ
أُخْرَى ، كَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ : الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْحَوْلِ ،
وَالْحَجُّ وَاجِبٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرُوضِ ،
وَجَبَ أَنْ ( لَا ) يَمْنَعَ إبْهَامَ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ ثُمَّ
تَرِدُ سُنَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَوَالِ ذَلِكَ ( الْحُكْمِ ) ،
وَوُجُوبِ ضِدِّهِ كَمَا جَازَ وُجُودُ ذَلِكَ ( مِنْهُ ) عَقِيبَ نُزُولِ
الْقُرْآنِ .
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى
جَوَازِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي
بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ .
إذْ كَانَ النَّسْخُ تَخْصِيصًا بِالْوَقْتِ دُونَ
وَقْتٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ( مِنْهُمَا ) ، وَارِدٌ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا تَجْوِيزُ نَسْخِ
الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ كَمَا جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ
.
قِيلَ لَهُ : لَنَا فِي تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ شَرَائِطُ قَدْ بَيَّنَّا
بَعْضَهَا فِيمَا سَلَفَ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ
( مِنْهُ ) ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ، إلَّا أَنْ
يَخْتَلِفَ السَّلَفُ فِيهِ وَيُسَوِّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ أَوْ
يَتَّفِقُوا عَلَى خُصُوصِهِ ، فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِمُوجِبِ عُمُومِهِ مِنْ
طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَمُوجِبُ
حُكْمِهِ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ
بِذَلِكَ إذَا كَانَ مُوجِبُهُ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ ، فَإِنَّمَا
يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِمَا يَجُوزُ ( بِهِ ) النَّسْخُ فِي مِثْلِهِ .
فَإِنْ قَالَ : الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ
وَالنَّسْخِ أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ التَّخْصِيصِ مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ مَا يَصِحُّ
اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَبْقَى مَعَ النَّسْخِ حُكْمٌ يُسْتَعْمَلُ .
قِيلَ (
لَهُ ) : هَذَا فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ ( آخَرَ ) لَا
يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَعَلَى أَنَّ
النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا وَقَدْ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ مَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ
فِيهِ وَذَلِكَ الْوَقْتُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَبَقَّى مِنْ حُكْمِ الِاسْمِ
بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَثَبَتَ
بِمَا ذَكَرْنَا جَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ نَفَى جَوَازَهُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ بِمَا
ادَّعَى ( فِيهِ ) مِنْ وُرُودِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ
اللهِ تَعَالَى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا } .
قَالَ : وَالسُّنَّةُ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ
الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ بِوَجْهٍ
.
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ ، بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ
بِالسُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ نَذْكُرُهَا ( إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) .
فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ
الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا ، ثُمَّ نَشْرَعُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ
فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَا عَلَى مَا ادَّعَوْهُ (
إنْ شَاءَ اللَّهُ ) .
فَأَمَّا وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا
فَمِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا :
أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " بِخَيْرٍ مِنْهَا "
لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ( بِهِ ) خَيْرًا مِنْهَا فِي نَظْمِهَا
وَصُورَتِهَا وَحُرُوفِهَا ، أَوْ خَيْرًا مِنْهَا أَصْلَحَ لَنَا وَأَنْفَعَ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفَاسِدٌ ، لِأَنَّ
أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي
نَفْسِهَا ، فَثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ
حُكْمٌ ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ أَصْلَحَ لَنَا وَأَنْفَعَ مِنْهُ لَوْ
نَزَلَ بِهِ قُرْآنٌ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَعْضِ
الْأَحْكَامِ قُرْآنًا وَأَنْزَلَ بِبَعْضِهَا وَحْيًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَلَى
حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَصَالِحِنَا ( فِيهَا ) .
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا وَصَفْنَا
فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ لِجَوَازِ إطْلَاقِهَا
أَنَّهَا خَيْرٌ لَنَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ " مِثْلِهَا " لَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ ( جَمِيعِ
جِهَاتِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْضِهَا ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ وُجُودَ
الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي نَظْمِهِ وَصُورَتِهِ وَحُرُوفِهِ
وَمَعَانِيهِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ هُوَ الْمَنْسُوخَ
وَيُوجِبُ بُطْلَانَ النَّسْخِ رَأْسًا ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ
الْمُرَادَ وُجُودُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ ) بَعْضِ الْجِهَاتِ ، وَقَدْ
يَصِحُّ إطْلَاقُ ( اسْمِ ) الْمَثَلِ إذَا تَمَاثَلَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُمَاثَلَةِ
لِمُمَاثَلَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ إذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ
غَيْرُ مُمَاثِلَةٍ لِلُّؤْلُؤِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ، وَإِنَّمَا مِثْلُهُنَّ
بِهِ مِنْ جِهَةِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
فَمَتَى اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ وَجْهٍ
فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْآيَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ السُّنَّةُ مِثْلَ الْآيَةِ ،
مِنْ جِهَةِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا وَحْيٌ
مِنْ اللهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُهُ بِهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُمَاثَلَةِ
عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا فِيمَا يَكُونُ ( مُمَاثِلًا ) لَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ ،
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا ( يُقَالُ ) هُوَ مِثْلُهُ عَلَى
التَّقْيِيدِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يُرِدْ بِالْمِثْلِ هَاهُنَا مَا
ذَكَرْت ، لِمَا بَيَّنَّا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ بَعْضِ
الْوُجُوهِ ، فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ
نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
.
وَأَمَّا مَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا
عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَنَّهُ
إذَا نَسَخَ آيَةً أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ النَّاسِخَ لَهَا ،
وَإِنَّمَا ( قُلْنَا ) ( فِيهَا ) أَنَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ
، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْسَخَ الْآيَةَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ يَأْتِي بِآيَةٍ
أُخْرَى مِثْلِهَا وَلَا تَكُونُ هِيَ النَّاسِخَةَ إذْ لَمْ يَقُلْ ( مَا
نَنْسَخْ ) مِنْ آيَةٍ نَأْتِ بِمَا يَنْسَخُهَا خَيْرًا مِنْهَا .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ( أَنَّ قَوْلَهُ ) "
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، وَنَسْخُ
التِّلَاوَةِ لَا يَكُونُ بِآيَةٍ مِثْلِهَا بَلْ بِغَيْرِ آيَةٍ ثُمَّ يَأْتِي
بِآيَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا لَيْسَتْ هِيَ النَّاسِخَةَ لِلتِّلَاوَةِ فَكَذَلِكَ
هَذَا فِي الْحُكْمِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ
اللَّفْظِ هُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ دُونَ الْحُكْمِ ، لِأَنَّ
الْآيَةَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلنَّظْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ
تَكُونُ بَاقِيَةً وَالْحُكْمَ مَنْسُوخٌ ، وَقَدْ تُنْسَخُ الْآيَةُ وَالْحُكْمُ
بَاقٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ اسْمٌ لِلرَّسْمِ وَالنَّظْمِ دُونَ
الْحُكْمِ ، ( فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } عَلَى
نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ دُونَ الْحُكْمِ
) ، وَأَلَّا
يَدْخُلَ الْحُكْمُ فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ } مِنْ ( أَحَدِ ) أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يُرِيدَ ( بِهِ ) نَسْخَ
التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ أَوْ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ أَوْ نَسَخَهُمَا
مَعًا .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ
الْحُكْمِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى مَوْضُوعِ الْخِلَافِ ( لِأَنَّ الْخِلَافَ )
بَيْنَنَا فِي نَسْخِ الْحُكْمِ ، وَلَمْ نَخْتَلِفْ أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ (
قَدْ ) يَكُونُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ
.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ
التِّلَاوَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
حُكْمُ السُّنَّةِ خَيْرًا لَنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي بَابِ أَنَّهُ
أَصْلَحُ لَنَا وَأَنْفَعُ ، لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْرِ لَا يُطْلَقُ فِي مِثْلِ
هَذِهِ إلَّا بِإِضْمَارِ إضَافَتِهِ إلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهُ ، لِأَنَّك لَا تَقُولُ
إنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا إلَّا وَمُرَادُك أَنَّهُ خَيْرٌ لِمَنْ تَعَبَّدَ
بِهِ أَوْ جَعَلَ لَهُ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ
وَالْحُكْمِ مَعًا ، فَإِنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ
بِغَيْرِ قُرْآنٍ ، بِأَنْ يُنْسِيَ اللَّهُ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ يَأْمُرَ عَلَى
( لِسَانِ ) رَسُولِ اللهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا فَتُنْسَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
الْآيَةَ لَمْ تَمْنَعْ نَسْخَ الْحُكْمِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالسُّنَّةِ ،
وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُهُمَا مَعًا بِالسُّنَّةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { بِخَيْرٍ مِنْهَا } ؟ ( أَوْ مِثْلِهَا أَنْ
يَكُونَ ) خَيْرًا مِنْ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ
بِتِلَاوَتِهَا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ
ثُلُثَ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تَعْدِلُ رُبُعَ
الْقُرْآنِ يَعْنِي فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِتِلَاوَتِهَا مِنْ الثَّوَابِ زِيَادَةٌ
عَلَى مَا يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِهَا
.
وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ { بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
}يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ بِهِ
عَنْ قُرْآنٍ مِثْلِهِ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ مِنْ جِهَةِ مَا
ذُكِرَ ، ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ .
الْجَوَابُ : إنَّ هَذَا لَا يُعْتَرَضُ عَلَى شَيْءٍ
مِمَّا قَدَّمْنَا وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهُمَا :
أَنَّا إذَا سَلَّمْنَا لَهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ
فِي كَوْنِ التِّلَاوَةِ خَيْرًا لَهُ لِمَا يُسْتَحَقّ بِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ .
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا لَيْسَ مَذْكُورًا
فِي اللَّفْظِ ، وَهُوَ كَوْنُ ثَوَابِهَا خَيْرًا لَنَا ، فَحِينَئِذٍ لَا
يَكُونُ خَصْمُنَا أَوْلَى بِصَرْفِ مَعْنَاهَا إلَيْهِ مِنَّا ( بِصَرْفِهِ )
إلَى الْحُكْمِ وَمَا لَنَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ
بِقَوْلِهِ خَيْرًا مِنْهَا أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا ( لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ
خَيْرًا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي نَفْسِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَنْفَعُ لَنَا ) ، وَأَصْلَحُ إمَّا مِنْ
جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّفْعِ
وَالصَّلَاحِ ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ
وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقُرْآنِ ، إنْ كَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ يَجُوزُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا فِي
بَابِ أَنَّهُ أَصْلَحُ لَنَا ، فَلَيْسَ إذَنْ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ
مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الثَّانِي خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
بَيَّنَّا .
وَأَيْضًا : فَإِذَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
السُّنَّةِ خَيْرًا لَنَا مِنْ حُكْمٍ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَجَازَ هَذَا
الْإِطْلَاقُ فِيهِ كَمَا جَازَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ زِيَادَةِ
الثَّوَابِ ، كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ تَجْوِيزَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَسْخِهَا
بِقُرْآنٍ مِثْلِهَا ، أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا ، مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ وَمِنْ
نَسْخِهَابِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا يَكُونُ خَيْرًا لَنَا فِي بَابِ النَّفْعِ
وَالصَّلَاحِ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ نَسْخُ
النَّظْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، لِأَنَّ الْآيَةَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالرَّسْمِ لَا الْحُكْمِ
، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ .
إذْ جَائِزٌ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ
، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : مَا نَنْسَخْ مِنْ نَظْمِ
آيَةٍ وَرَسْمِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فَلَا يَعْتَرِضُ ( ذَلِكَ ) عَلَى
مَوْضُوعِ الْخِلَافِ ، لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ
حُكْمِ الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ لَا فِي نَسْخِ النَّظْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، إذْ لَا
خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ وُقُوعُهُ
بِغَيْرِ قُرْآنٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ .
وَأَيْضًا : فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى : { نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } دَلَالَةٌ عَلَى ( أَنَّ ) الْمَأْتِيَّ بِهِ
هُوَ النَّاسِخُ لَهَا ، إذْ لَمْ يَقُلْ نَأْتِ بِمَا
يَنْسَخُهَا خَيْرًا مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ نَأْتِ بِنَاسِخٍ خَيْرٍ مِنْهَا ، لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ دَعْوَاهُ إلَّا
بِدَلَالَةٍ ، وَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ
بَيْنَنَا ، إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِأَوْلَى بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ
أَحَدِ وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْآخَرِ ، بَلْ لَوْ قُلْنَا : إنَّ
الْأَظْهَرَ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ فَحْوَى الْخِطَابِ ، نَسْخُ الْآيَةِ بِأَيِّ
وَجْهٍ كَانَ مِنْ وُجُوهِ النَّسْخِ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَ قُرْآنٍ ، ثُمَّ
يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ، كَانَ قَوْلًا سَدِيدًا
أَوْ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِنَا .
فَإِنْ قَالَ : قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ نَسْخُ الْآيَةِ بِقُرْآنٍ مُعْجِزٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ
عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنَعَ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ .
قِيلَ لَهُ : ( وَلَوْ ) سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت
لَمْ
يُعْتَرَضْ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ ( وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ ) ، وَالنَّظْمِ
لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ
بَيْنَنَا ، فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهَا ( عَلَى أَنَّ هَذَا يَدُلُّ ) عَلَى امْتِنَاعِ
جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ .
وَمِنْ (
وَجْهٍ آخَرَ ) : لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْت
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ مِثْلُهَا هُوَ
النَّاسِخُ لَهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ
أَنْ يَدَّعِيَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَسْخَ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتِهِ بِوَحْيٍ مِنْ
عِنْدِهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَيَأْتِي مَعَ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَجُوزُ فِيهِ ، فَلَا
يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا ، وَإِنْ
كَانَ الَّذِي يَأْتِي ( بِهِ ) بَعْدَ النَّسْخِ يَكُونُ قُرْآنًا ( إنْ
اقْتَضَتْ ) الْآيَةُ ذَلِكَ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ
الَّذِي يَأْتِي بِهِ حُكْمًا مِنْ جِهَةِ وَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ .
وَيَصِحُّ الْوَصْفُ لَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ
عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لَا
يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ الَّذِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، فَلَا
دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ بَعْدَ النَّسْخِ قُرْآنٌ
مُعْجِزٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ
لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى
إلَيَّ } ( فَدَلَّ أَنَّهُمْ ) سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْآيَةِ نَفْسِهَا وَقَدْ
أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُبَدِّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ جَازَ
نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ لَكَانَ قَدْ بَدَّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا :
أَنَّهُمْ ( إذَاكَانُوا ) سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْآيَةِ
نَفْسِهَا لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ
الَّذِي يَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ ، هَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ أَمْ لَا ،
وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ
وَالرَّسْمِ ، أَوْ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ ، أَوْ تَبْدِيلَهُمَا جَمِيعًا .
فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ ، وَهُوَ
الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ
الْخِلَافِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلِأَنَّ أَحَدًا غَيْرُ اللهِ
لَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْدِيلِ نَظْمِ الْقُرْآنِ إلَى نَظْمٍ آخَرَ مُعْجِزٍ
.فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ .
وَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ دُونَ
النَّظْمِ لَمْ يُعْتَرَضْ أَيْضًا عَلَى قَوْلِنَا ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ
نَفْيٌ تَبْدِيلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّهُ
يُبَدِّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُبَدِّلُهُ اللَّهُ بِوَحْيٍ
مِنْ عِنْدِهِ إمَّا قُرْآنٌ ( وَإِمَّا ) غَيْرُ قُرْآنٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ { إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ } (
وَالْوَحْيُ ) لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ تَبْدِيلِ حُكْمِهِ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَعَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ لَنَا حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى الْحُكْمِ ، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
ظَاهِرُ اللَّفْظِ نَسْخُ النَّظْمِ وَالرَّسْمِ .
إذْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ كَانَ
قُرْآنًا وَجَوَّدَهُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّظْمِ ، وَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ
تَبْدِيلَ النَّظْمِ وَالْحُكْمِ مَعًا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا
اخْتَلَفْنَا فِيهِ ، لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ إنَّهُ يُبَدِّلُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَ ( إنَّمَا
) قُلْنَا إنَّمَا يَتَّبِعُ مَا يُوحَى إلَيْهِ
وَمَا يُوحَى إلَيْهِ قَدْ يَكُونُ قُرْآنًا وَغَيْرَ
قُرْآنٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إنَّمَا
أَنْتَ مُفْتَرٍ } ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
إنَّمَا تُنْسَخُ الْآيَةُ بِآيَةٍ مِثْلِهَا قَطْعًا لِحُجَجِ الْكُفَّارِ
وَإِبْطَالًا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ افْتَرَاهَا وَأَنَّهُ أَتَى بِهَا مِنْ
قِبَلِ نَفْسِهِ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا بَدَّلْنَا
آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } مَا يُوجِبُ أَنَّ حُكْمَ الْقُرْآنِ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ
، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ إذَا بَدَّلَ آيَةً
مَكَانَ آيَةٍ قَالَ الْكُفَّارُ { إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } وَلَمْ يَقُلْ
إنَّهُ لَا يَنْسَخُهَا بِالسُّنَّةِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( إنَّهُ ) إنَّمَا بَدَّلَ آيَةً
مَكَانَ آيَةٍ قَطْعًا لِحُجَجِ الْكُفَّارِ وَبُطْلَانًا لِدَعْوَاهُمْ فَإِنَّهُ
( قَدْ ) أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا
( مَعَ ) تَبْدِيلِ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ وَلَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ مِنْ
نَسْخِ آيَةٍ أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ وَإِنْ
قَالَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ .
وَعَلَى أَنَّ " قَوْلَهُ { وَإِذَا بَدَّلْنَا
آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْمَتْلُوِّ لَا الْحُكْمَ
وَلَيْسَ ( فِي ) الْمَتْلُوِّ مَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ وَالِاخْتِلَافُ
بَيْنَنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْمَتْلُوِّ ، فَلَيْسَ لِمَا ذَكَرُوهُ
تَعَلُّقٌ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ
.
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ نَسَخَهَا بِالسُّنَّةِ لَارْتَابَ
الْكُفَّارُ وَقَالُوا : إنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ ارْتَابَ الْكُفَّارُ مَعَ نَسْخِهَا
بِآيَةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَمْنَعْ ، ارْتِيَابُهُمْ مِنْ نَسْخِهَا بِآيَةٍ
غَيْرِهَا .
فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا ( عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ
بِالسُّنَّةِ بِمَا قَدَّمْنَا ) وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي
السَّمْعِ مَا يَمْنَعُ ( مِنْ ) ذَلِكَ ، وَنُدِلُّ
الْآنَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ( لَا يَجِدُ ) نَسْخَ
الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ إيَّانَا عَلَى تَجْوِيزِهِ
فَنَقُولُ : إنَّ أَصْحَابَنَا قَدْ ذَكَرُوا أَحْكَامًا فِي الْقُرْآنِ لَمْ
يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِالسُّنَّةِ ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : {
وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ } إلَى قَوْله
تَعَالَى : { تَوَّابًا رَحِيمًا } .
فَاتَّفَقَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ
مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنِ
وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ كَانَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْجَلْدِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ
وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْمُوجِبُ ( لِنَسْخِ ) ذَلِكَ
حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ ، وَالرَّجْمُ
} .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى نُسِخَا بِالْخَبَرِ
قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فِي هَذَا الْحَدِيثِ ) { خُذُوا عَنِّي
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
} فَنَبَّهَنَا عَلَى وُجُودِ السَّبِيلِ الَّذِي
ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا } ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي } عَلَى مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الْإِخْبَارُ بِالنَّسْخِ فِي الْحَالِ ، وَأَنَّهُ لَمْ
يَتَقَدَّمْهَا قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ
.
وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا النَّسْخَ وَاقِعٌ لَا
بِقُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا نُسِخَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ } قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ
: { خُذُوا عَنِّي } قَدْ أَفَادَ وُقُوعَ النَّسْخِ بِسُنَّتِهِ لَا بِالْقُرْآنِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا } قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ وَأَنَّ
السَّبِيلَ كَانَ مُتَقَدِّمًا ، فَلَمْ يَكُنْ ( يَصِحُّ ) الْإِخْبَارُ بِأَنَّ
السَّبِيلَ مَأْخُوذٌ عَنْهُ وَلَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى وُجُودِهِ إلَّا مَعَ
تَقَدُّمِ عِلْمِهِمْ بِهَا ، وَتَقْرِيرِهَا قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت
، لَكَانَتْ دَلَالَةُ الْخَبَرِ قَائِمَةً عَلَى وُقُوعِ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ
، وَهِيَ أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهَا مَقْصُورٌ عَلَى غَيْرِ
الْمُحْصَنِ ، وَقَدْ كَانَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى حَدًّا ثَابِتًا عَلَى
الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ
كَانَ حَدًّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَكَانَتْ آيَةُ الْجَلْدِ
نَاسِخَةً لِلْحَبْسِ وَالْأَذَى عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ .
وَلَوْ خَلَّيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَمُقْتَضَى حُكْمِ
آيَةِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَآيَةِ الْجَلْدِ ، لَأَوْجَبَ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ
الْحَبْسِ وَالْأَذَى فِي الْمُحْصَنَيْنِ ، ، وَلَا شَيْءَ نَسَخَهُ عَنْهُمَا
إلَّا إيجَابُ الرَّجْمِ وَالرَّجْمُ ( إنَّمَا ) ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ الْجَلْدِ مَا يُوجِبُ
نَسْخَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا
، وَمَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ .
فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِهِ (
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ
بِالسُّنَّةِ ) .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَلَّا يَدُلَّ حَدِيثُ
عُبَادَةَ فِي الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى نَسْخِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى .
لِأَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ مُؤَقَّتٌ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَإِنَّمَا
بَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ السَّبِيلَ كَمَا لَوْ قَالَ فِي
الْآيَةِ إلَى سَنَةٍ لَمْ يَكُنْ مُضِيُّ السَّنَةِ مُوجِبًا لِنَسْخِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت ، لِأَنَّ
قَوْلَهُ : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ إذَا
لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْقَوْلِ أَلَّا يَجْعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلًا فَيَكُونُ حَدُّهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى عَلَى
التَّأْبِيدِ ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
: { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } لَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ
ثَبَاتُ حُكْمِهَا إلَى أَنْ يَنْسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِهَا مِنْ
الْأَحْكَامِ ، وَذِكْرُ السَّبِيلِ إنَّمَا أَفَادَ تَأْكِيدَ بَقَاءِ الْحُكْمِ
إلَى وَقْتِ وُقُوعِ النَّسْخِ
.
وَعَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت
كَانَتْ دَلَالَةُ الْخَبَرِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ السَّبِيلَ مَذْكُورٌ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي
الرِّجَالِ ، لِأَنَّ حَدَّ الرَّجُلِ كَانَ الْأَذَى إلَى أَنْ يَتُوبَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا } ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ الْآنَ بِرَجْمِ الْمُحْصَنِ وَجَلْدِ غَيْرِ
الْمُحْصَنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الرَّجْمِ النَّاسِخِ
لِحُكْمِ الْآيَةِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ فَلَا مَحَالَةَ قَدْ أَوْجَبَ نَسْخَ
الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْحَبْسُ ، وَالْأَذَى كَانَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْصَنِ
حُكْمٌ ثَابِتٌ فَكَانَ وُجُوبُ الرَّجْمِ حَدًّا مُبْتَدَأً .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا غَلَطٌ
مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ
.
أَحَدُهُمَا :
أَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَأْوِيلُ هَذِهِ
الْآيَةِ مِنْ السَّلَفِ قَدْ قَالَ إنْ ذَلِكَ كَانَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ وَلَمْ
يَذْكُرُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ حَدًّا لِأَحَدِ
الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَنُقِلَ وَلَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا إذْ غَيْرُ
جَائِزٍ أَنْ يَعْلَمُوهُ حَدًّا لِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ فَيَنْقُلُوا مَا
يُوجِبُ كَوْنَهُ حَدًّا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ
قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ، إخْبَارٌ
بِأَنَّ السَّبِيلَ لِجَمِيعِ مَنْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ
السَّبِيلِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَصَرَ
بِذِكْرِ السَّبِيلِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ ، فَلَمَّا جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ
مِنْ
الْمُحْصَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فِي بَيَانِ السَّبِيلِ
فَقَالَ : { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ
} ، دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي ( الْآيَةِ كَانَ
لِلْفَرِيقَيْنِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ السَّبِيلُ الْمَذْكُورُ فِي )
الْخَبَرِ نَاسِخًا لِلْحُكْمِ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا .
وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ : نُسِخَ
الْحَبْسُ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنِينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } .
فَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّمَا
يَنْقُضُ بِذَلِكَ قَوْلَ صَاحِبِهِ
.
وَقَالَ قَائِلٌ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ
وَالْأَذَى مَنْسُوخَيْنِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الَّذِي كَانَ فِي آيَةٍ
مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ ، فَلَا يَدُلُّ مَا ذَكَرْت عَلَى
أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ
.
وَهَذَا ( أَيْضًا ) غَلَطٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ السَّبِيلَ فِي
الْآيَةِ كَانَ عَقِيبَ مَا أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلًا } فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ نَقَلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى
إلَى مَا هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَا وَاسِطَةِ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا .
وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّ مَا رُوِيَ
فِي خَبَرِ عُبَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ
: { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
} كَانَ قُرْآنًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ، وَكَيْفَ يَكُونُ قُرْآنًا مَعَ
إخْبَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنْهُ لَا عَنْ الْقُرْآنِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَنْسُوخَانِ
عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الْمَذْكُورِ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ الَّذِي لَمْ
يَكُنْ قُرْآنًا قَطُّ .
وَلَوْ كَانَ قُرْآنًا مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ لَمَا قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خُذُوا عَنِّي } ، وَلَكَانَ السَّبِيلُ الَّذِي جُعِلَ
لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ
الثَّابِتِ الْحُكْمِ ، وَفِي خَبَرِ عُبَادَةَ مَا يَنْفِي هَذَا فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَنْسُوخَانِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الَّذِي
لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهُ بِقُرْآنٍ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّهُ لَوْ شَاعَ هَذَا
التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ سُنَّةٍ ثَبَتَتْ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ
التِّلَاوَةِ ، فَيُوجِبُ هَذَا أَلَّا يَثْبُتَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
سُنَّةٌ ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي جَمِيعِ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا
قَدْ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ إنَّهُ إنَّمَا نُسِخَ
بِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ ، ثُمَّ نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى
بِالْحُكْمِ الْآخَرِ .
وَهَذَا خَلَفٌ مِنْ الْقَوْلِ .
وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : مَا نُسِخَتْ سُنَّةٌ قَطُّ
إلَّا بِقُرْآنٍ قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ فَيُوجِبُ هَذَا بُطْلَانَ قَوْلِ
مُخَالِفِنَا إنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
حَدِيثُ عُبَادَةَ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ
وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ .
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: ( وَهُوَ ) أَنَّ خَبَرَ عُبَادَةَ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ
الْآحَادِ ، فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ فِي
إيجَابِ الرَّجْمِ ، إلَّا مَنْ شَذَّ عَلَيْهَا مِمَّنْ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ
خِلَافًا مِنْ الْخَوَارِجِ ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ أَخْبَارِ
الْآحَادِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ } هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَقَدْ أَجَازَ أَصْحَابُنَا نَسْخَ
الْقُرْآنِ بِهِ لِتَلَقِّي النَّاسِ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى
اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ رَجْمَ الْمُحْصَنِ قَدْ
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ
مُنْتَشِرَةٍ مُوجِبَةِ عِلْمٍ بِمُخْبَرَاتِهَا فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا الرَّجْمَ
بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَبِخَبَرِ عُبَادَةَ ، وَأَثْبَتْنَا بِهَا نَسْخَ
الْحَبْسِ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنَاتِ ، فَصَارَ حَظُّ خَبَرِ عُبَادَةَ فِي إثْبَاتِ
تَارِيخِ الرَّجْمِ ، وَأَنَّهُمْ نَقَلُوا أَمْرَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى
الرَّجْمِ بِلَا وَاسِطَةِ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا وَلَا نُزُولِ آيَةٍ قَبْلَهُ
أَوْجَبَتْ نَسْخَهُمَا .
وَقَدْ يَجُوزُ إثْبَاتُ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ
وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّسْخِ إذَا كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا بِهِ
وَبِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا .
وَمِمَّا قِيلَ إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ
بِالسُّنَّةِ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ
الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } .
وقَوْله تَعَالَى : { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ
مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } فَقَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ
وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ }
مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ،
وَنَحْوُهُ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَلَمْ يُنْسَخْ إلَّا
بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
فَزَعَمَ مُخَالِفُونَا أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ
الْمَوَارِيثِ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ
الْمَوَارِيثِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا
وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ
الْمَوَارِيثِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ
جَعَلَ لَهُ الْمِيرَاثَ .
كَانَ مَعْقُولًا أَنَّ النَّاسِخَ لِلْوَصِيَّةِ هُوَ
اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لَا قَوْلُهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا ( ذَكَرَهُ مِنْ ) ذَلِكَ
لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمِيرَاثِ نَاسِخًا لِلْوَصِيَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا
يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ
وَاحِدٍ ، وَآيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّمَا فِيهَا إيجَابُ ( الْمِيرَاثِ ) بَعْدَ الْوَصِيَّةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فَلَوْ
خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَجَمَعْنَا لَهُمَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ
، لِأَنَّ كُلَّ حُكْمَيْنِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ
وَاحِدٍ ، فَلَيْسَ فِي وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ
عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ
.
فَوَجَبَ عَلَى هَذَا مَتَى وَجَدْنَا حُكْمَيْنِ قَدْ
نُسِخَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إيجَابِ الْآخَرِ مِمَّا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ أَنْ
يَقُولَ إنَّ النَّسْخَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِ لِأَنَّا لَوْ خُلِّينَا وَإِيَّاهُمَا
لَمَا أَوْجَبْنَا نَسْخًا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ قَدْ
أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } لَا يُوجِبُ مَا
ذَكَرُوهُ ، لِأَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ إذَنْ لَمْ تُوجِبْ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ
لِمَا بَيَّنَّا ، فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهَا
هِيَ النَّاسِخَةُ لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ
لَوْ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى
كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .
فَإِنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ
عَلَى مَا قَالُوا ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : لَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى الْمِيرَاثَ ، فَنَسَخَ وَصِيَّتَهُ (
بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ ) لَا بِآيَةِ الْمِيرَاثِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا بَلْ يَكُونُ
سَائِغًا جَائِزًا ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ
يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخَةً بِالْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا مَعْنَى
ذِكْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ ذِكْرِ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ (
أَنَّهُ ) ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ وَإِنْ حُرِمَ
حَظَّهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ حَظِّ الْمِيرَاثِ مَا
عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ
فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ قَبْلَ
نَسْخِ الْوَصِيَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ حَظٍّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، فَبَانَ بِمَا
وَصَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُخَالِفُ مَا يَنْفِي أَنَّ كَوْنَ
الْمِيرَاثِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَاَلَّذِي
عِنْدِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا
أَوْ دَيْنٍ } فَأَجَازَ
لَهُ وَصِيَّةً أَيَّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ ، لِأَنَّهُ
أَطْلَقَهَا بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ ، ثُمَّ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ
عَلَى السِّهَامِ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ يَسْتَحِقُّهَا
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخَ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ
لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } نَفْيٌ لِجَوَازِ ( نَسْخِ ) الْوَصِيَّةِ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، إذْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ
وَصِيَّةً مَنْكُورَةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ عَلَى قَوْمٍ ، فَهِيَ جَائِزَةٌ
لِلْوَارِثِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، فَلَمْ يَنْسَخْ جَوَازَهَا لِلْوَارِثِ إلَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
قِيلَ ( لَهُ ) : الَّذِي فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إيجَابِ
الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِهَا إلَّا عَنْ الْوَاجِبِ
، وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ جَوَازَهَا عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّعِ بِهَا ، وَالْوَصِيَّةُ
الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَمَّا كَانَتْ مُطْلَقَةً عَلَى وَجْهِ
النَّكِرَةِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نَسْخَ إيجَابِهَا .
فَإِذَنْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا
وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } لَمْ يُنْسَخْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ ، لِأَنَّ
الَّذِي فِيهَا الْإِيجَابُ قَدْ نُسِخَ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْجَوَازُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِيجَابِ
فَهُوَ حُكْمٌ آخَرُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ .
فَإِنْ قَالَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْآيَةِ
الْأُخْرَى .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ مِنْ بَعْدِ
الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ اللَّفْظُ إلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إيجَابِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ( وَيُخَصِّصُهَا
بِلَفْظٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَطْلَقَهَا بِلَفْظِ
النَّكِرَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ ،
فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَسْخِ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) إذْ
جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ ، وَمِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ إيجَابَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَهَا لِسَائِرِ النَّاسِ ،
وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَهَا لِلْوَرَثَةِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَسْخَ
وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، وَارِثِينَ كَانُوا أَوْ غَيْرَ
وَارِثِينَ ، وَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ طَاوُسٍ
وَمَسْرُوقٍ وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ فِي آخَرِينَ حِينَ أَثْبَتُوا فَرْضَ
الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً
وَلَمْ يُجَوِّزُوهَا لِلْأَجْنَبِيِّينَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ مَوْجُودِينَ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ
الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ
لِلْمُعْتَقَيْنِ فِي الْمَرَضِ الثُّلُثَ وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ قَرَابَةٌ ( قَالَ ) : فَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى
بُطْلَانِ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، وَهَذَا
يَقْتَضِي مِنْهُ إجَازَةَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً بِالْخَبَرِ .
وَمِمَّا قِيلَ : إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ الْقُرْآنِ
بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى :
{ فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } قَالُوا : فَقَدْ كَانَ
هَذَا حُكْمًا عَامًّا مُسْتَقِرًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ
حُكْمِ الْعُمُومِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ .
قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ
إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَّرَ
الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ } لِأَنَّهَا
لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ .
قَالُوا : وَقَدْ اعْتَرَفَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ فِي
أَمْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدِي لَا دَلِيلَ فِيهِ
عَلَى وُجُودِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ التَّوَجُّهَ
إلَى الْكَعْبَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا فِي حَالِ الْخَوْفِ وَفِي السَّفَرِ عَلَى
الرَّاحِلَةِ لِلْمُتَنَفِّلِ ثُمَّ نُسِخَ تَرْكُ التَّوَجُّهِ إلَيْهِمَا فِي
هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ : بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يُؤْمَرُوا بَدْءًا
بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَفِي غَيْرِ حَالِ
السَّفَرِ لِلْمُتَنَفِّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ( وَإِنَّمَا كَانَتْ حَالَ
الْخَوْفِ ) مَخْصُوصَةً مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إلَّا بَعْدَ
مُضِيِّ مُدَّةٍ مَنْ لُزُومِ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، مِمَّا
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا قَدْ كَانَ عَامًّا فِي
سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ نُسِخَ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ
الصَّحَابَةُ قَدْ عَلِمَتْ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ خِطَابِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَوْجَبَ كَوْنَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْأَمْنِ
( وَالْإِقَامَةِ ) دُونَ حَالِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ
فِعْلُهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَعَلَى
أَنَّ ( فِي ) سِيَاقِ قِصَّةِ الْأَمْرِ
بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ .
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللهِ } وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى
سَائِرِ الْجِهَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَك
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يَقْتَضِي لُزُومَ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ حَتْمًا
كَانَ قَوْله تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ }
مُسْتَعْمَلًا فِي حَالَتَيْ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ - لِلتَّنَقُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ -
اللَّتَيْنِ صَلَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمَا
إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ نُسِخَ كَمَا لَا يُقَالُ فِي قَوْله تَعَالَى {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } أَنَّهُ نَاسِخٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ
قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَمَا جَرَى
مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ
كَانَ نَاسِخًا لَكَانَ ( نَسْخُ الْقُرْآنِ ) بِقُرْآنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ
رَاحِلَتُهُ وَهُوَ يَأْتِي مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ
وَأَنَا أُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِي رَاحِلَتِي تَطَوُّعًا ثُمَّ تَلَا {
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ
} . وَقَالَ : فِي هَذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ
الَّتِي أَبَاحَتْ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ،
فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خُصَّتْ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ
بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ عَامًّا أَوْ نَسَخَتْهَا ، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ
كَانَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ
ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ ، وَقَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي حَالِ الْخَوْفِ بِالتَّوَجُّهِ
إلَى الْكَعْبَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَئِذٍ
لِتَعَذُّرِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا .
فَإِنَّهُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَقَدْ
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ جَمِيعًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ
الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ
الْخَوْفِ .
فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ ( قَدْ ) كَانَتْ
نَزَلَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ ،وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، لِأَنَّهُ شُغِلَ
بِالْقِتَالِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا
يَجُوزُ لِلْمُسَايِفِ وَالْمُقَاتِلِ صَلَاةٌ وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ
الْقِتَالُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَئِذٍ { مَلَأَ
اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .
وَمِمَّا قِيلَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ مِنْ الْقُرْآنِ
بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ
مَا أَنْفَقُوا } ، وَهَذَا الْحُكْمُ
مَنْسُوخٌ ( الْآنَ ) عِنْدَ الْجَمِيعِ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ
نَسْخَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ نَسْخَهُ كَانَ بِالسُّنَّةِ .
وَمِمَّا نُسِخَ مِنْهُ أَيْضًا بِغَيْرِ قُرْآنٍ مَا
رَوَى عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا
يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } قَالَتْ : { مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ
النِّسَاءِ مَا شَاءَ } ، وَرُوِيَ عَنْهَا حَتَّى " أُحِلَّ لَهُ نِسَاءُ
أَهْلِ الْأَرْضِ " .
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا ( يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ )
فَثَبَتَ أَنَّهُ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ
.
فَإِنْ قِيلَ : نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا
أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ } قِيلَ لَهُ : لَا
دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ
عَلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { إنَّا
أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ
يَمِينُك } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَلَمْ يُوجِبْ نَسْخَ قَوْلِهِ { لَا يَحِلُّ لَك
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ
قَوْله تَعَالَى : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } نَزَلَتْ بَعْدَ
قَوْلِهِ { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك } .
وَأَمَّا نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ
مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ
عِنْدَنَا ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَالْقُرْآنُ
وَمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا تَضَمَّنَاهُ ،
فَغَيْرُ ( جَائِزٍ ) أَنْ ( يَنْزِلَ مَا ) كَانَ هَذَا وَصْفُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَجُوزُ تَرْكُ مَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ فِي
الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الْمَنْعِ قَدْ وَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا
وَيُقْبَلُ ( مَعَ ذَلِكَ ) خَبَرُ الْوَاحِدِ
فِي حَظْرِهَا .
قِيلَ لَهُ
: لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ
قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ
مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ ، فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا
بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا طَرِيقُ اسْتِبَاحَتِهِ الِاجْتِهَادُ ، وَغَلَبَةُ
الظَّنِّ فِي أَلَّا يَلْحَقَنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو بِهِ مِنْ
نَفْعٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي التِّجَارَاتِ وَالْخُرُوجَ فِي
الْأَسْفَارِ وَشُرْبَ الْأَدْوِيَةِ وَأَكْلَ الْأَطْعِمَةِ إنَّمَا يَصِحُّ
لَنَا مِنْهَا اسْتِبَاحَةُ مَا لَا يَلْحَقُنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِنْ
النَّفْعِ الَّذِي نَرْجُوهُ بِهَا فِي غَالِبِ ظَنِّنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ ( فِيمَا ) سَلَفَ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ نَظِيرَهُ
مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ
مَرَضِيَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِمَا أَوْجَبَ لَنَا الْعِلْمَ
الْحَقِيقِيَّ ، ثُمَّ مَتَى عَيَّنَّا شَاهِدَيْنِ كَانَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا
( مِنْ طَرِيقِ غَالِبِ الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا ) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ
فِي الظَّنِّ مِنْ قَبُولِهَا أَوْ رَدِّهَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا فِي كَوْنِ
الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ هُوَ عَلَى ( هَذَا السَّبِيلِ ) .
.
الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْأَرَبَعُوْنَ:فِيْ ذِكْرُ
نَسْخِ النَّاسِخِ مِنْ الْأَحْكَامِ
فارغة
بَابٌ ذِكْرُ نَسْخِ النَّاسِخِ مِنْ الْأَحْكَامِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ يَرِدُ
النَّسْخُ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : {
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً } ( وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً } نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ
قَدْ رُوِيَ : أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ .
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{ وَاَللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ
.
ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ حَدُّ
الزَّانِيَيْنِ بَدْءًا ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ اللَّذَيْنِ
نُسِخَ بِهِمَا .
ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ ، وَالرَّجْمُ }
وَهَذَا الْحَدُّ مَنْسُوخٌ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَعَنْ الْمُحْصَنِ رَجْمُهُ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ ( مِنْ غَيْرِ
جَلْدٍ وَبِقَوْلِهِ : ) { يَا أُنَيْسُ اُغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
فَارْجُمْهَا } ، فَلَمْ تُوجِبْ الْآيَةُ النَّفْيَ ، وَلَمْ يُوجِبْ الْخَبَرُ
الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ ( بْنِ
الصَّامِتِ ) لِأَنَّهُمْ نُقِلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى مَا فِي
حَدِيثِ عُبَادَةَ ، بِلَا وَاسِطَةٍ لِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ثُمَّ كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ وَقِصَّةُ مَاعِزٍ
بَعْدَ ذَلِكَ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ : إبَاحَةُ
الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ،
ثُمَّ حُظِرَ ثُمَّ أُبِيحَ ، ثُمَّ حُظِرَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ { عَبْدَ اللهِ
بْنَ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ ،
فَرَوَى : أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَرَوَى : أَنَّ قُدُومَهُ مِنْهَا كَانَ
بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُرِيدُ
الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ ، قَالَ : فَسَلَّمْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، وَقَدْ كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ .قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ، فَأَخَذَنِي
مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ
أَمْرِهِ مَا شَاءَ ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ : أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي
الصَّلَاةِ } فَثَبَتَ بِذَلِكَ حَظْرُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُتَقَدِّمًا
لِيَوْمِ بَدْرٍ .
وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي إبَاحَتِهِ أَيْضًا
قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ ( لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ) وَرُوِيَ عَنْ { زَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ
قَوْله تَعَالَى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ}
.فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ مُشَاهَدَةَ حَالِ إبَاحَةِ الْكَلَامِ مِنْهَا ،
وَهُوَ ( مِمَّنْ ) لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ، وَلَمْ يَكُنْ ( حِينَئِذٍ ) مِمَّنْ
يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ ، أَوْ عَسَى لَمْ يَكُنْ
وُلِدَ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ : إبَاحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ ، ثُمَّ
حَظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِهِ ،
نَحْوُ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ
مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ، } وَلِأَنَّ ( النَّاسَ قَدْ ) اتَّفَقُوا
: أَنَّ آخِرَ حُكْمِهِ كَانَ الْحَظْرَ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا : مُتْعَةُ النِّسَاءِ
، لِأَنَّهُ ( رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاحَهَا ، ثُمَّ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ } ، وَرَوَى
سَمُرَةُ الْجُهَنِيُّ {
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاحَهَا فِي
حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، ثُمَّ حَرَّمَهَا } ( فَدَلَّ أَنَّهَا ) أُبِيحَتْ بَعْدَ
الْحَظْرِ ، ثُمَّ حُظِرَتْ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ ، فَكَانَ آخِرُ أَمْرِهَا
الْحَظْرَ ) .
الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُوْنَ :بَابٌ آخَرُ فِي
النَّسْخِ
فارغة
بَابٌ آخَرُ فِي النَّسْخِ
رُوِيَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ
وَبِالْهِجْرَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ .
وَأَنَّ الرَّحِمَ ( بَعْدَ ) قَوْله تَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى {
الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } .
فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
} .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ نَسْخًا ،
وَيَقُولُ : إنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ قَالَ : فَأَمَّا الْمِيرَاثُ
بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ فَقَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ قَرَابَةٌ اسْتَحَقَّ ( الْحَلِيفُ ) الْمِيرَاثَ ، إذَا كَانَ عَاقَدَهُ
وَوَالَاهُ عَلَى ( أَنَّهُ ) يَرِثُهُ إذَا مَاتَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ هَمْدَانَ مَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ
يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُ وَارِثًا مِنْكُمْ ، فَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ ، فَلْيَضَعْ أَحَدُكُمْ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ ) .
وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِمَا وَصَفْنَا : إنَّ هَذَا
لَيْسَ بِنَسْخٍ ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَسْقُطْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ
أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، كَمَا أَنَّ الْأَخَ مِنْ أَهْلِ
الْمِيرَاثِ وَلَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ ، وَلَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ مَنْسُوخًا
عِنْدَ وُجُودِ الِابْنِ ، كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ ( ذِي رَحِمٍ )
أَوْ وَلَاءٍ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ مِيرَاثَهُ حَيْثُ شَاءَ ، بِحُكْمِ
الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي ذَلِكَ :
وُجُوبُ الْإِرْثِ بِالْمُعَاقَدَةِ مَنْسُوخٌ لَا مَحَالَةَ فِي حَالِ وُجُودِ
ذِي الرَّحِمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَوْجَبَهُ
لِلْحَلِيفِ مَعَ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ ،
وَمَعَ عَدَمِهِمْ ، وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ ، فَلَمَّا
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } .
فَقَدْ صَرَفَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا كَانَ
جَعَلَهُ لَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِ الْمَيِّتِ ، فَأَوْجَبَ
ذَلِكَ نَسْخَ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقِدِ ، فِي حَالِ وُجُودِ ذَوِي
الرَّحِمِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو رَحِمٍ : فَحُكْمُ الْإِرْثِ قَائِمٌ
بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ ، فَكَأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا وَرَدَ
عَلَى إحْدَى حَالَيْ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالْحَلِفِ (
وَهِيَ حَالُ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَنُفِيَ هَذَا الْحُكْمُ
) فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتْرُكُ الْمَيِّتُ فِيهَا ذَا رَحِمٍ عَلَى مَا
أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقَدَةِ .
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ قَوْله
تَعَالَى { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ النَّاسُ لَمْ تَكُنْ
لَهُمْ سُتُورٌ ، فَكَانَ خَادِمُ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَع
أَهْلِهِ ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ
لِذَلِكَ ، فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ
وَالْحِجَالَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ
عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ بِنَسْخٍ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بَاقٍ ، وَلَمْ يَسْقُطْ إلَّا
بِحُدُوثِ سَبَبٍ ، مَتَى زَالَ السَّبَبُ عَادَ الْحُكْمُ ، كَالْحَائِضِ لَا صَلَاةَ
عَلَيْهَا ، لِأَجْلِ وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي إذَا زَالَ لَزِمَتْهَا
الصَّلَاةُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ لِلصَّلَاةِ عَنْهَا ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ
إنَّمَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ ، مَتَى زَالَ عَادَ حُكْمُ
لُزُومِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ ، فَنُقِلَتْ عَنْهُ إلَى
غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ الْآيَةُ فِي إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ
عَدَمِ الْأَسْبَابِ
السَّاتِرَةِ لَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ الدَّاخِلِينَ
إلَيْهِمْ ، مِنْ خَدَمِهِمْ ، وَأَوْلَادِهِمْ ، فَكَانَ الْأَمْرُ
بِالِاسْتِئْذَانِ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ
حُكْمٌ ثَابِتٌ نُقِلُوا عَنْهُ بِالْآيَةِ إلَى غَيْرِهِ ( فَمَتَى زَالَ
السَّبَبُ ) الَّذِي مِنْ ( أَجْلِهِ ) أُمِرُوا بِذَلِكَ ( زَالَ ) الْحُكْمََََََََُ
فارغة ََََََََََََ
الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُوْنَ:فِي الْقَوْلِ
فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ََََََََََََ
فارغة ََََََََ
بَابٌ الْقَوْلُ فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ
قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : لَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ
بِمَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَرَائِعِهِمْ ،
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا ، وَإِنَّمَا الْمَبْعُوثُ
إلَيْنَا نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَتُهُ خَاصَّةً
دُونَ شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : كُلُّ مَا ثَبَتَ مِنْ شَرَائِعِ
مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ فَهُوَ لَازِمٌ
لَنَا ، ثَابِتُ الْحُكْمِ عَلَيْنَا ، وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، بِأَنْ
يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : أَنَّ حُكْمَ كَيْتَ وَكَيْتَ قَدْ
كُنْت شَرَعْته لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ،وَيُخْبِرُنَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَيَلْزَمُنَا ذَلِكَ ،
عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ
غَيَّرُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ وَبَدَّلُوهَا ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى
رِوَايَةِ مَنْ حَكَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ
كَذَا ، وَلَا إلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ أَيْضًا ،
لِأَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إثْبَاتِ الشَّرِيعَةِ ، بِكُفْرِهِمْ
وَضَلَالِهِمْ .
وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ ، لِإِجَارَةِ الْمُهَايَأَةِ فِي الشِّرْبِ ،
بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ ،
حِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ
شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } وَقَالَ تَعَالَى
: { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ } .
وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً : أَنَّهُ كَانَ
يَرَى أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتََََََََََََْ نَسْخُهُ مِنْ شَرَائِعِ
الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهَؤُلَاءِ لَازِمٌ لَنَا .
ثُمَّ جَائِزٌ لَنَا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ إنَّمَا
رَآهُ لَازِمًا لَنَا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا
عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ كُنْت أَرَى أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمِ
وَالذِّمِّيِّ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَظَاهِرُ احْتِجَاجِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ يَرَى هَذَا الْمَذْهَبَ صَحِيحًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ؟ قَائِلٌ : قَدْ كَانَتْ شَرَائِعُ
مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى آخِرِ الْأَبَدِ مَا لَمْ
يُنْسَخْ.
أَوْ يَقُولُ : إنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ لَمْ تَلْزَمْ
النَّاسَ كَافَّةً عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْنَا لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَلَ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِعِ شَرِيعَةٌ
لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهَا
وَالْعَمَلُ بِهَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
، لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
أَوْ يَقُولُ قَائِلٌ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ ثَابِتَةً ، لَا مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ هَذَا ، إذَا لَمْ يَرِدْ
نَسْخُهَا عَلَى مَا قَالَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ بَدْءًا وَلَا مِنْ جِهَةِ :
أَنَّهَا صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا
شَيْءٌ ، وَإِنْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : أَنَّهُ شَرَعَهَا لِمَنْ
كَانَ قَبْلَنَا حَتَّى يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَوْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لَنَا
.
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُ بَعِيدٌ ،
مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ هَكَذَا ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ
مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا ، وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوَامِرُ أَوَامِرَ لَنَا ، وَقَدْ
عَلِمْنَا : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ ( خُصِصْت بِخَمْسٍ لَمْ يُعْطَهُنَََََّ أَحَدٌ قَبْلِي ،
مِنْهَا : أَنِّي بُعِثْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ، وَكُلُّ نَبِيٍّ
فَإِنَّمَا كَانَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ ) وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ
عَلَيْنَا طَلَبُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَنَتَّبِعُهَا
، وَلَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ إلَيْهَا دُعَاءً عَامًّا ،
كَدُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ
كَذَلِكَ لَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَامًّا ، وَلَوَجَبَ عَلَى
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْلِيمُهَا الصَّحَابَةَ وَتَبْلِيغُهَا
إيَّاهُمْ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلُوهَا َََ
كَنَقْلِهِمْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَحِيفَةً
فَقَالَ : مَا هَذِهِ فَقَالَ : التَّوْرَاةُ ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ لَوْ
كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي
} فَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا
، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهَا وَعَنْ تَعَلُّمِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْيَهُودَ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ ، فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ نَتَّبِعَ مِنْهَا
مَا قَدْ بَدَّلُوهُ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَهُ لَهُ
، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ : ( لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا
وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي
) ، دَلَّ
ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ قَائِمَةً
ثَابِتَةَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً
ثَابِتَةً لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا ، مَا لَمْ يَبْقَ
عَلَيْهَا ، فَهَذَا الْوَجْهُ يَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْمَقَالَتَيْنِ
الْآخِرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا
.
فَنَقُولُ : إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ
الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَارَتْ شَرِيعَةًَ
لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَزِمَ النَّاسَ
حِينَئِذٍ حُكْمُهَا ، مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } إلَى قَوْله
تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ }
وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَبِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إبْرَاهِيمَ }.
وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك } إلَى قَوْله تَعَالَى : {
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } فَبَقِيَ ظَاهِرُ هَذِهِ
الْآيَاتِ : أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً
لَنَا بِنَفْسِ وُرُودِهَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَلَى شَرِيعَتِهِ ، وَلَزِمَتْنَا مِنْ حَيْثُ أُمِرْنَا
بِاتِّبَاعِهَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا ، لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ هَذِهِ
الْأَوْقَاتِ : أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فَتَكُونُ شَرَائِعُ
مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لَنَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا ، فَإِلْزَامُ
اللهِ تَعَالَى إيَّانَا فِعْلَهَا بِالْقُرْآنِ ، لَا لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا ، وَلَا كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ
أَمْرًا لَنَا عِنْدَ وُرُودِهَا
.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ
الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
سَجْدَةِ ( ص ) مِنْ أَيْنَ سَجَدْت ؟ قَالَ : أَوَمَا تَقْرَءُوا { وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ
}
إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَكَانَ دَاوُد مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ
أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ ،فَسَجَدَهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسَجَدَهَا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ مِنْ
هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا :
قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ
اسْتِدْلَالَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا
رَبِّي } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ إلَى قَوْله
تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ }
يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، وَاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ
الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى لُزُومِ
الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ شَرَائِعِ مِثْلِهِ ، الَّتِي يَجُوزُ أَنْ
يَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْأُمَمِ فِيهَا
.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّهُ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوَانَهُمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ ،
وَقَدْ أُمِرَ بِاقْتِدَائِهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَسَاوَى
الْجَمِيعُ فِي تَكْلِيفِهِ : مِنْ التَّوْحِيدِ ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ
عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَنَحْوِهِ ، مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ شَرَائِعَهُمْ كَانَتْ
مُخْتَلِفَةً ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي
شَرَائِعِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِهَا ، لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ
الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الْأَزْمَانِ
.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ
كَانَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
مَعًا ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَجُوزُ
نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ مِمَّا فِي الْعُقُولِ إيجَابُهُ
، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا } وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ شَرِيعَةِ الْآخَرِينَ .
الْجَوَابُ :
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّوْحِيدِ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } رَاجِعٌ إلَيْهِ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ
دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ ، مِنْ قَبْلِ أَنَّ
اسْمَ الْهُدَى يَتَنَاوَلُ مَا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى
تَوْحِيدِهِ ، وَعَدْلِهِ ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا
أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرَائِعِهِ ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ، يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فَسَمَّى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ
أَحْكَامِ الشَّرْعِ هُدًى ، وَقَالَ تَعَالَى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى : مُوجِبَاتِ
أَحْكَامِ الْعُقُولِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاخْتِلَافُ فِيهَا ، وَعَلَى الشَّرَائِعِ
الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَةِ إدْرَاكِهَا السَّمْعُ ، ثُمَّ سَمَّى الْجَمِيعَ
هُدًى ، فَدَلَّ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِمَا فِي الْعَقْلِ
إيجَابُهُ ، دُونَ مَا يَدُلُّ السَّمْعُ عَلَى وُجُوبِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ ، اقْتَضَى عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ }
الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ هُدًى ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ
الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ دُونَ أَحْكَامِ
الشَّرَائِعِ ، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ
ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ ، وَكُلُّ كَلَامٍ هَذَا حُكْمُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ
عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ لِغَيْرِهِ
إلَّا بِدَلَالَةٍ ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ عَلَى
حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ لَفْظِهِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ
أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ ، وَقَدْ أُمِرَ مَعَ ذَلِكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ
، فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال عَلَى التَّوْحِيدِ ، فَلَيْسَ
بِمُوجِبٍ لِمَا ذَكَرَهُ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْآيَةِ
الِاقْتِدَاءَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا ، ثُمَّ عَقَّبَهُ
بِذِكْرِ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ ، وَإِخْوَانِهِمْ ، وَذُرِّيَّاتِهِمْ
، وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ ، فَأُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ أَيْضًا ،
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا
عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ ، وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } جُمْلَةً ، لِأَنَّهُمْ
لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ إلَّا وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ : يَقْتَضِي
الِاقْتِدَاءَ بِالْجَمِيعِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَهُ شَرِيعَةٌ
فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا وَاجِبٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ
شَرِيعَةٌ مَخْصُوصٌ مِنْ اللَّفْظِ ، إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءَ
خَاصَّةً .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ : مِنْ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ
وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا ، فَلَا
مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ ، كَذَلِكَ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ
إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا ، وَتَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا مَا اسْتَقَرَّ
وَثَبَتَ حُكْمُهُ إلَى مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَجُعِلَ شَرِيعَةً لَهُ
دُونَ مَا نُسِخَ مِنْهَا ، وَعَلِمْنَا بِالنَّاسِخِ مِنْهَا مِنْ الْمَنْسُوخِ
عَلَى التَّفْصِيلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا ، لِأَنَّا
نَقُولُ :إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ كَانَ
شَرِيعَةً لَهُمْ ، ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِهِ ، فَأَمَّا عَدَا ذَلِكَ
فَلَيْسَ عَلَيْنَا تَتَبُّعُهُ ، لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ
غَيْرِ جِهَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ كُنَّا مُتَعَبِّدِينَ
بِذَلِكَ ، لَكَانَ عَلَيْنَا طَلَبُهُ وَتَتَبُّعُهُ ، فَلَيْسَ بِمُوجِبِ مَا
ذُكِرَ ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ إذَا صَارَ شَرِيعَةً لَنَا فَقَدْ
اكْتَفَيْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَنْ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .
وَنَقُولُ
: إنَّ كُلَّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ
أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا
وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ ، لِأَنَّا
لَا نَصِلُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ يُوثَقُ بِهَا ، وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمُهُ
فَقَدْ سَقَطَ عَنَّا تَكْلِيفُهُ ، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ
مَنْ قَبْلَنَا شَيْءٌ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِهِ -
فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ ، فَإِنَّهُ
يَبْتَدِئُ بِإِيجَابِهِ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
حِكَايَةُ كَوْنِهِ شَرِيعَةً لِمَنْ قَبْلَنَا - فَيَكْفِي بِهَذَا عَنْ طَلَبِهِ
وَتَتَبُّعِهِ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَغَيْرُ مَانِعٍ مِمَّا قُلْنَا : مِنْ قِبَلِ
أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي الْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الشَّرَائِعِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ
الَّذِي خَالَفَ بِهِ شَرِيعَتُنَا شَرَائِعَهُمْ ، هُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ
النَّسْخُ ، فَلَا يَلْزَمُنَا اسْتِعْمَالُهُ ، وَقَدَّمْنَا ذِكْرَ قَوْله
تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } إلَى قَوْله تَعَالَى
: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهَذَا الظَّاهِرُ قَدْ
اقْتَضَى الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَمِيعِ ، لِأَنَّ الدِّينَ
اسْمٌ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ جَمِيعًا .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا
إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } لِأَنَّ الْمِلَّةَ اسْمٌ يَجْمَعُ
ذَلِكَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُنْسَخُ مِنْ
شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ شَرِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا
هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ
هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَئِكَ
هُمْ الْكَافِرُونَ } ، وَالظَّالِمُونَ ، وَالْفَاسِقُونَ فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ
الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْيَهُودِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ، فَنَبَّهَ بِهَا عَلَى كَذِبِهِمْ ، وَبَهَتَهُمْ فِي كِتْمَانِهِمْ
لِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ، فَقَالَ
تَعَالَى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ ، فِيهَا حُكْمُ
اللهِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
} إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ
الْكَافِرُونَ } فَحَكَمَ بِإِكْفَارِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الرَّجْمِ ،
الَّذِي كَانَ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالِامْتِنَاعِ
مِنْ قَبُولِ شَرِيعَتِهِ فِيهِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي
التَّوْرَاةِ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ
بِإِكْفَارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِتَرْكِهِمْ الرَّجْمَ الَّذِي كَانَ مِنْ حُكْمِ
التَّوْرَاةِ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِتَرْكِ تِلْكَ
الشَّرِيعَةِ ، وَاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَغَيْرُ
جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِسِمَةِ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ
بِتَرْكِهِمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ ، إذْ هُمْ
مَأْمُورُونَ فِيهَا بِتَرْكِ الِانْصِرَافِ عَنْهُ ،
إلَى شَرِيعَةِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ فِي
التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ ، صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيعَةً لِمُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، بَلْ صَارَتْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوخَةً
بِشَرَائِعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذْ كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا
إلَى كَافَّةِ النَّاسِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
مَا ذَكَرْنَا : وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } - وَالظُّلْمُ هُوَ
وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ - فَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ
الَّذِي كَانَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ صَارَ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِعَيْنِهِ ، وَإِعْلَامِهِ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَذَلِكَ ، لَمَا كَانَ
الْيَهُودُ ظَالِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ ، عَلَى أَنَّهُ
حُكْمُ التَّوْرَاةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ
بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
فَدَلَّ : عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ وَالْوَصْفَ
بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : {
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ، وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } فَلَا يَخْلُو
قَوْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَحَقُّوا
الذَّمَّ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى دِينِهِ ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ
حُكْمِ الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةً لِعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَدُونَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ كَوْنِهِ
مِنْ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا
الذَّمَّ وَسِمَةَ الْفِسْقِ ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ
بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَرَائِعِهِ ، بَلْ يَقْتَضِي : أَنْ
يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْبَقَاءِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
، وَبُلُوغِهِمْ دَعْوَتَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ
شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخِلَافِهَا
وَنَسْخِهَا ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ ، لِأَنَّهُمْ زَالُوا
عَنْ حَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، مِنْ اتِّبَاعِهِ ، وَالْحُكْمِ
بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
الْبَابُ السَّاددِسُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْكَلَامِ
فِي الْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ
فارغة
بَابُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ
النَّاسِ فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
قَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمًا فِي أُصُولِ
الْأَخْبَارِ عَلَى مُخَالِفِي الْمِلَّةِ ، وَعَلَى مَنْ شَذَّ مِنْ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ عَلَى جُمْهُورِ الْأُمَّةِ ، مَا يُغْنِي وَيَكْفِي .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ جُمَلًا ، ثُمَّ نُعَقِّبُهَا
بِفُرُوعِهَا الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا ، وَاَللَّهُ نَسْأَلُ
الْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَخْبَارِ : فَنَفَتْ
طَائِفَةٌ صِحَّةَ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ ، وَأَنْكَرَتْ وُقُوعَ الْعِلْمِ
بِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَنَفَتْ الْيَهُودُ كُلَّ خَبَرٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ ،
وَأَثْبَتَتْ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ
.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ، مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ : لَا
تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأَخْبَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِهَا مَعْصُومًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : شَرْطُ صِحَّتِهَا : أَنْ يَكُونَ
الْمُخْبِرُونَ بِهَا عُدُولًا ، أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى ، لَا يَجُوزُ
عَلَيْهِمْ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، وَلَيْسُوا بِأَعْيَانِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ : لَا يُعْرَفُ بِخَبَرِ
الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ شَيْءٌ ، وَمِنْ فَوْقِ الْأَرْبَعَةِ إلَى
الْعِشْرِينَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِخَبَرِهِمْ
، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُعْلَمَ ، إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ
الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ ، وَعَلَى نَفْيِهِ ، وَأَمَّا الْعِشْرُونَ فَقَدْ
يُعْلَمُ صِحَّةُ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ ، إذَا كَانَ الْعِشْرُونَ ظَاهِرُهُمْ
وَبَاطِنُهُمْ سَوَاءً ، أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى .
وَقَالَ النَّظَّامُ : خَبَرُ الْوَاحِدِ يُضْطَرُّ إلَى
الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، وَمَتَى عَلِمَهُ
اضْطِرَارًا عِنْدَ مُقَارَبَةِ أَسْبَابِهِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ اثْنَيْ عَشْرَ ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ سَبْعِينَ رَجُلًا .
فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ بَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْ
أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَبَعْضُهَا شُذُوذٌ عَنْ كَافَّةِ الْأُمَّةِ .
وَالْوَجْهُ
:
أَنْ نَبْتَدِئَ بِذِكْرِ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ
وَمَرَاتِبِهَا عَلَى مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ ، وَمَا صَحَّ عِنْدَنَا فِيهَا مِنْ
مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا ، ثُمَّ بِإِفْسَادِ مَا خَالَفَهَا وَخَرَجَ عَنْهَا .
الْبَابُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي ذِكْرُ
وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَحْكَامِهَا
وفيه فصول ثلاثة:
فصل في الكلام على من حكينا أقاويلهم في الباب الأول
فصل: في إبطال قول من رد الأخبار المختلف فيها و إثبات
المتفق عليها
فصل: في إبطال من قال لانعرف صحة الخبر إلا بقول المعصوم
فارغة
بَابٌ ذِكْرُ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا
وَأَحْكَامِهَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، جُمْلَةً فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ وَأَحْكَامِهَا فِي
كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِي الْأَخْبَارِ ، وَأَنَا
أَذْكُرُ مَعَانِيَهَا مُخْتَصَرَةً دُونَ سِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا ، فَإِنَّهُ
ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ ، فَكَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا عَلَى
نَسَقِهَا ، وَاقْتَصَرْت مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فِي مَعْرِفَةِ
مَذْهَبِهِ فِيهَا .
ذَكَرَ : أَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
: قِسْمٌ فِيهَا : يُحِيطُ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ وَحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ .
وَقِسْمٌ مِنْهَا : يُحِيطُ الْعِلْمُ بِكَذِبِ
قَائِلِهِ وَالْمُخْبَرِ بِهِ .
وَقِسْمٌ : يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَمَا وَقَعَ الْعِلْمُ
بِمُخْبِرِهِ لِوُرُودِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ
التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مُخْبِرِهِ ، كَعِلْمِنَا بِأَنَّ فِي
الدُّنْيَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَخُرَاسَانَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ دَعَا النَّاسَ إلَى اللهِ تَعَالَى ، وَجَاءَ بِالْقُرْآنِ ، وَذَكَرَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ ، وَأَمْرُهُ إيَّانَا : بِالصَّلَاةِ
، وَالزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ .
قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ عِلْمُ اضْطِرَارٍ وَإِلْزَامٍ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جُمْلَةِ
هَذِهِ الشَّرَائِعِ ، رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَأَنَّهُ
سَمِعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ،
فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا ، خَارِجًا عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ الْعِلْمَ
كَانَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ ، كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ ،
وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَوْمٌ ،
وَأَنَّ الْمَوْجُودِينَ أَوْلَادُ أُولَئِكَ ، وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ السَّمَاءَ
كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَى
ذَلِكَ
.
وَذَكَرَ : أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ
هَذِهِ الْأَخْبَارِ حَدٌّ مَعْلُومٌ ، وَلَا عِدَّةٌ مَحْصُورَةٌ .
وَقَالَ أَيْضًا : إنَّ الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ قَدْ
لَا يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَعْنَاهُ عِنْدِي إذَا جَاءُوا
مُجْتَمِعِينَ مُتَشَاعِرِينَ ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى
الْكَذِبِ .
قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : لِأَنَّ الَّذِي
يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ :
هُوَ مَا يَقَعُ لَنَا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ
الضَّرُورِيِّ ، الَّذِي لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ مَعَهُ ، وَلَا مَسَاغَ
لِلشُّبْهَةِ فِيهِ ، وَذَكَرَ مَا فِي هَذَا الْقِسْمِ ، مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ
الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ ، عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ
عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ } الْآيَةَ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ } الْآيَةَ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ م فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ ، فَوُجِدَ مُخْبَرُ
هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى .
وَنَحْوُهُ : مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَنَحْوُ ذَلِكَ ، مِمَّا لَا يَخْفَى كَثْرَةً ، فَوُجِدَ عَلَى مَا قَالَ
وَوَصَفَ .
فَمِنْهُ مَا وُجِدَ فِي أَيَّامِهِ ، وَمِنْهُ مَا
أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يَكُونُ بَعْدَهُ ، فَوُجِدَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ .
وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا : إنَّا إذَا
رَأَيْنَا النَّاسَ مُنْصَرِفِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ ، فَاعْتَرَضْنَاهُمْ
سَائِلِينَ لَهُمْ عَنْ مَجِيئِهِمْ فَقَالُوا : جِئْنَا مِنْ الْجَامِعِ ، وَقَدْ
صَلَّيْنَا عَلِمْنَا ضَرُورَةً : أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ ،
مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ،
وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَرَضْنَا قَافِلَةَ الْحَاجِّ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ طَرِيقِ
مَكَّةَ وَسَأَلْنَاهُمْ ، فَقَالُوا : حَجَجْنَا ،
وَوَقَفْنَا بِعَرَفَاتٍ ، عَلِمْنَا ضَرُورَةً بِأَنَّ
خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ ، مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ
كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ .
قَالَ عِيسَى : وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي يُعْلَمُ كَذِبُهُ
حَقِيقَةً ، فَكَنَحْوِ أَخْبَارِ مُسَيْلِمَةَ وَإِضْرَابِهِ مِنْ
الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ ، أَخْبَرُوا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْأُمُورِ
الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكَانَتْ كَذِبًا وَزُورًا ، وَادَّعَوْا أَنَّ لَهُمْ
دَلَائِلَ عَلَى مَا انْتَحَلُوهُ مِنْ النُّبُوَّةِ ، فَلَمْ
يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا ، فَبَانَ كَذِبُهُمْ ، وَانْكَشَفَ بُطْلَانُ
دَعْوَاهُمْ .
قَالَ : وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ قَائِلٍ :
رَأَيْت رِجَالًا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ نَسْلٍ ، وَرَأَيْت دَارًا وُجِدَتْ مِنْ
غَيْرِ بَانٍ بَنَاهَا ، وَرَأَيْت النَّاسَ تَفَانَوْا بِالْقَتْلِ يَوْمَ
عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ ، ثُمَّ لَا يُخْبِرُ
أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ بِمِثْلِ خَبَرِهِ ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ
الْكَذِبِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ
.
قَالَ : فَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ
، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يَتَوَاتَرُ بِهَا الْخَبَرُ ،
وَيَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ ، فَيَجُوزُ فِي خَبَرِهِمْ الصِّدْقُ
وَالْكَذِبُ ، فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَنَفْيَ التُّهْمَةِ ،
فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ فِي الْأَحْكَامِ ، عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا ، مِنْ
غَيْرِ شَهَادَةٍ مِنَّا بِصِدْقِهِ ، وَلَا الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ .
وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْفِسْقَ وَالتُّهْمَةَ
بِالْكَذِبِ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَصَدَ عِيسَى إلَى ذِكْرِ تَقْسِيمِ
الْأَخْبَارِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ الْحُكْمِ بِمُخْبِرِهَا دُونَ الْخَبَرِ
الَّذِي يُقَارِنُهُ ، دَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ ، وَسَنُفَصِّلُهَا بِاسْتِيفَائِنَا
لِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ الْأَخْبَارَ
عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُتَوَاتِرٌ ، وَغَيْرُ مُتَوَاتِرٍ .
فَالْمُتَوَاتِرُ مَا تَنْقُلُهُ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ
عَدَدِهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ صِفَتِهِمْ الِاتِّفَاقُ
وَالتَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى
الْعَادَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، فِيمَا
نُبَيِّنُهُ بَعْدُ .
وَغَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ : مَا يَنْقُلُهُ وَاحِدٌ
وَجَمَاعَةٌ ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى
نَقْلِهِ .
فَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ : فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ
يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ بِاضْطِرَارٍ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ ،
لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ .
وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَالْآخَرُ :
لَا يُوجِبُهُ ، وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهِهِ
، بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ
مِنْ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا .
[فصل:]الْكَلَامُ عَلَى مَنْ حَكَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ
فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ
قَالَ : الَّذِينَ دَفَعُوا وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ
شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ طَرِيقُ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ
بِالِاسْتِدْلَالِ مَبْنِيًّا عَلَى عُلُومِ
الِاضْطِرَارِ ، فَمَنْ جَحَدَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ
مَا جَحَدَهُ ، مِمَّا لَا يَشُكُّ هُوَ وَلَا وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فِي
مُكَابَرَتِهِ ، وَدَفْعُ مَا لَا يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً ، كَمَا نَتَكَلَّمُ فِي
دَفْعِ عُلُومِ الْخَبَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ ، إذْ لَا فَرْقَ فِي عُقُولِ النَّاسِ
جَمِيعًا كَامِلِهِمْ وَنَاقِصِهِمْ وَذَكِيِّهِمْ وَغَبِيِّهِمْ ، بَيْنَ مَا
عَلِمُوهُ وَتَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا نَاسٌ
قَبْلَنَا ، وَأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا ،
وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا أَجْدَادٌ وَمُلُوكٌ ( قَبْلَ ) وُجُودِنَا ، وَلَا
سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ ، وَمَنْ أَرَادَ
أَنْ يُشَكِّكَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ ، كَانَ كَمَنْ رَامَ تَشْكِيكَهَا فِي
وُجُودِ نَفْسِهِ ، وَوُجُودِ مَا نُشَاهِدُهُ وَنُحِسُّهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الْمُمَيِّزَ وَغَيْرَ الْمُمَيِّزِ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ .
وَأَنَا ذَاكِرٌ : إنْ عَلِمْنَا ذَلِكَ فِي حَالِ
صِبَانَا بِكَوْنِ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ
وُجُودِنَا ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا نَاسٌ مِثْلُنَا ، وَتَكُونُ الْبُلْدَانُ الْفَانِيَةُ وَالْأُمَمُ
السَّالِفَةُ كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهَا ، وَكَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ
الْمُشَاهَدَةِ ، وَالْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا أَفْسَدُوا بِهِ
قَوْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ : أَنَّهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مَتَى أَرَادُوا
الْخُرُوجَ إلَى خُرَاسَانَ ، قَصَدُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ ، وَإِذَا
أَرَادُوا مِصْرَ خَرَجُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ
الْعِلْمُ بِكَوْنِ خُرَاسَانَ نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ ، وَكَوْنِ مِصْرَ نَاحِيَةَ
الْمَغْرِبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ
عَلَيْهِمْ تَقْرِيرًا لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ ، وَلَا تَشْكِيكَ
أَنْفُسِهِمْ فِيهِ ، كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ التَّغْرِيرُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
لِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ
الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَلَا يَخْطِرُ لَهُمْ فِيهِ
خَوَاطِرُ ، وَلَا تَعْتَرِيهِمْ الشُّكُوكُ ، وَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ فِيهِ
خِلَافٌ ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ : أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ عَلِمُوا صِحَّةَ ذَلِكَ
مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ثَارَتْ إلَيْهِمْ ، مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالشُّهُودُ ، وَلَا الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَقْصِدُونَ سَمْتَ
الشَّرْقِ إذَا أَرَادُوا خُرَاسَانَ ، وَسَمْتَ الْمَغْرِبِ إذَا
أَرَادُوا مِصْرَ ، لِمَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ
وَسَكَنَتْ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ عِلْمٍ ، إذْ قَدْ
يَغْلِبُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً ، وَتَسْكُنُ
نَفْسُهُ إلَى مَا لَا يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى يَقِينٍ .
قِيلَ : إنَّ مَا وَصَفْت أَنَّهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ ،
وَسُكُونُ نَفْسٍ ، عُلِمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ، وَإِنَّمَا
تَوَهَّمْتُمْ أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا
.
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا
ذَكَرْتُمْ اضْطِرَارًا ، لَمَا جَازَ أَنْ يُدْفَعَ ، وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ
كَثِيرَةٌ أَنْ نَكُونَ عَالِمِينَ بِصِحَّةِ
مَا ذَكَرْتُمْ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ تَدْفَعُوا أَنْتُمْ كَوْنَ هَذِهِ
الْبُلْدَانِ ، وَلَا وُجُودَ السَّمَاءِ ، قَبْلَ مَوْلِدِكُمْ ، وَلَا وُجُودَ
أَجْدَادِكُمْ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ حِينَ
تَوَهَّمْتُمْ : أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ ، كَظَنِّ مَنْ
أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ، وَالْأَصْلُ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ .
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ عِبَادَهُ
وَتَرْغِيبَهُمْ فِيمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِمَا فِيهِ
مَصَالِحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، عَلَى سُنَّةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ ، بَعْدَمَا قَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ وُجُوبَ اجْتِنَابِ
الْمُقَبَّحَاتِ فِيهَا ، وَفِعْلَ مَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ
أَحْكَامِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ
إبْلَاغُ كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ ، وَمُشَافَهَتُهُ بِمَا تَعَبَّدَهُ بِهِ
مِنْ أَوَّلِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا ، خَالَفَ بَيْنَ طَبَائِعِ النَّاسِ ، وَهِمَمِهِمْ
وَأَغْرَاضِهِمْ ، لِيَجْمَعَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ، فِي دِينِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ ، وَلِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُمْ اتِّفَاقٌ ، وَمِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ
وَلَا تَوَاطُؤٍ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَجْرَى بِذَلِكَ عَادَةً تَقَرَّرَتْ فِي نُفُوسِ
النَّاسِ ، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْخَبَرِ عَلَى
مُخْبَرَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ ، عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي
وَالْحُسْبَانِ ، فَصَادَفَ ذَلِكَ وُجُودَ مُخْبَرِهِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ
بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَيَقَّنَ بِذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ ، ثُمَّ وَفَّقَ
بَيْنَ طَبَائِعِهِمْ فِي اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ
الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ ، وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ ، وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ
نَقْلَهَا وَإِذَاعَتَهَا ، لِتَتِمَّ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِ الشَّرَائِعِ ، وَمَا
بِهِمْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، فَكُلُّ
خَبَرٍ وَرَدَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَنَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو
الْآرَاءِ ، وَالْهِمَمِ ، غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ
التَّوَاطُؤُ ، أَوَّلُهُمْ كَآخِرِهِمْ ، وَوَسَطُهُمْ كَطَرَفِهِمْ ،
فَأَخْبَرُوا عَمَّنْ شَاهَدُوهُ وَعَرَفُوهُ
اضْطِرَارًا بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِ ،
لِامْتِنَاعِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، عَنْ
مُخْبِرٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَخْبَارِ مِنْ نَاقِلِيهَا
إنَّمَا يَكُونُ حَسَبَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَالْعِلَلِ
الْمُثِيرَةِ لِنَقْلِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ مَا لَيْسَ لَهُ
سَبَبٌ دَاعٍ إلَى نَقْلِهِ ، مِنْ نَحْوِ مُخْبِرٍ إنَّهُ رَأَى نَاسًا يَمْشُونَ
فِي الْأَسْوَاقِ ، وَآخَرِينَ يَتَبَايَعُونَ فِيهَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَى
ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى نَقْلِ مِثْلِهِ .
وَكَذَلِكَ اخْتِرَاعُ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ
لَهَا ، وَإِنَّمَا تَتَّفِقُ عَلَى حَسَبِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ .
وَمَعْلُومٌ الِاخْتِلَافُ ( فِي ) دَوَاعِي النَّاسِ
وَأَسْبَابِهِمْ .
فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ وُقُوعُ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ
لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ
.
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ
يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ : أَنْ
يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى يُخْبِرَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ : أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَصَارَ
قِطْعَتَيْنِ ، وَبَقِيَتَا طُولَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَتَا .
فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ
لَهُ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ ، إلَّا عَنْ تَوَاطُؤٍ .
وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا كَالصِّدْقِ ، فَيَجُوزُ
اتِّفَاقُهُمْ عَلَى نَقْلِ خَبَرِ أَمْرٍ قَدْ شَاهَدُوهُ ، وَإِنْ كَانُوا
مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْإِخْبَارَ بِالصِّدْقِ دَاعٍ تَجْمَعَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ
بِهِ ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ ، وَمَا جُعِلَ فِي طِبَاعِهِمْ
مِنْ اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ .
فَلَمَّا كَانَتْ هُنَاكَ دَوَاعِي تَدْعُو إلَى
نَقْلِهِ ، وَسَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ ، وَكَانَ كِتْمَانُ
مِثْلِهِ
مُسْتَقِلًّا فِي طِبَاعِهِمْ سَوَاءً كَانَ عَلَيْهِمْ
فِي إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ ضَرَرٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، صَارَتْ هَذِهِ
الدَّوَاعِي سَبَبًا لِنَقْلِهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ ، لِتَبْلُغَ
الْحُجَّةُ بِالْإِخْبَارِ مَبْلَغَهَا ، وَتَنْتَهِي مُنْتَهَاهَا .
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ
، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا
حَالَهَا إلَى اخْتِرَاعِهِ ، وَالْإِخْبَارِ بِهِ ، وَلَا سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ
عَلَى وَضْعِهِ ، بَلْ الدَّوَاعِي مُتَّفِقَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْكَذِبِ
وَالْإِشَاعَةِ ، فَإِنْ اتَّفَقَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى نَقْلِهِ
مِنْ تَوَاطُؤٍ وَتَرَاسُلٍ ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى ، بَلْ يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ
فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ ، حَتَّى يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ .
وَعَلَى أَنَّا قَدْ شَرَطْنَا فِي ذَلِكَ : امْتِنَاعَ
التَّوَاطُؤِ وَالتَّشَاعُرِ فِيهِ ، عَلَى حَسَبِ امْتِحَانِنَا لِأَحْوَالِ
النَّاسِ ، فَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ
بِمُخْبِرِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَيْسَ سَبِيلُ الْإِخْبَارِ فِي هَذَا السَّبِيلِ
اعْتِقَادَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عَلَى مِثْلِهِمْ
اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ ، مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى امْتِحَانِ
أَحْوَالِ النَّاسِ ، فَوَجَدْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا
أَمْرَهَا ، لَا يَجُوزُ مِنْهَا وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ
لَا أَصْلَ لَهُ ، وَوَجَدْنَاهُمْ يَجُوزُ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى
اعْتِقَادِ مَذْهَبٍ فَاسِدٍ ، فَإِنَّمَا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا
إلَى الْمَوْجُودِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ، فِيمَا صَحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ ،
وَفِيمَا امْتَنَعَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّا مَنَعْنَا وُقُوعَ
اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْهُمْ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ
هِمَمِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ ، وَدَوَاعِيهِمْ ، وَأَنَّ جَمَاعَتَهُمْ يَسْتَحِيلُ
أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ خَبَرٍ
فِي شَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِ صَاحِبِهِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ
تَتَّفِقَ دَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ ، لِأَنَّ مَا لَا
يَجُوزُ خُطُورُهُ بِبَالِ جَمَاعَتِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَالْإِخْبَارُ بِهِ
وَنَقْلُهُ أَبْعَدُ فِي
الْجَوَازِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ
مِنْهُمْ .
وَأَمَّا اعْتِقَادُ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ
الْفَاسِدَةِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ ، وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ
، إلَّا بِدُعَاءِ دَاعٍ لَهُمْ إلَيْهِ ، أَوْ لِشُبْهَةٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ
فِي جَوَازِ اعْتِقَادِهِ فَيَعْتَقِدُونَهُ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ : أَنْ
يَدْعُوَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ جَامِعٌ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ
لَا أَصْلَ لَهُ ، وَقَدْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ
فِيمَنْ وَصَفْنَا حَالَهُمْ ، وَإِنْ اتَّفَقَ التَّوَاطُؤُ مِنْ جَمَاعَةٍ فَلَا
بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَانْتِشَارِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَضْمَحِلَّ
وَيَبْطُلَ ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْأَخْبَارِ وَالِاعْتِقَادَاتِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ نَقَلَتْ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى قَتْلَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَلْبَهُ ، وَقَدْ
كَذَبُوا فِي ذَلِكَ ، وَنَقَلَتْ الْمَجُوسُ أَعْلَامَ زَرَادُشْتَ
وَمُعْجِزَاتِهِ ، وَهُوَ كَذَّابٌ ، مَعَ اخْتِلَافِ
أَسْبَابِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ .
وَكَيْفَ نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ مَعَ وُجُودِ
مَنْ وَصَفْنَا بِخَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَلَا شَكَّ فِي كَذِبِهِ ، وَهُمْ
بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ
وَامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ
.
قِيلَ لَهُ : شَرْطُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ :
أَنْ يَنْقُلَهُ قَوْمٌ وَصْفُهُمْ مَا ذَكَرْنَا ، وَيُخْبِرُوا عَنْ مُشَاهَدَةِ
مَنْ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا .
وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَمْ يَكْذِبُوا عَلَى
أَسْلَافِهِمْ فِيمَا نَقَلُوا ، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذَا
الْخَبَرِ لَيْسَ كَآخِرِهِ ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ لَنَا
الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ ، إذْ نَحْنُ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي سَمَاعِهِ
، كَمَا أَنَّ عُلُومَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ
مُشَاهِدُوهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فِيمَا
يَقَعُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِمُخْبِرِ
أَخْبَارِهَا ، وَلَا مَعَ سَمَاعِنَا لَهَا ، عَلِمْنَا أَنَّ
أَوَّلَ خَبَرِهِمْ كَانَ عَمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ
الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ ، فَقَلَّدُوهُمْ فِيهِ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ : أَنَّ
الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّنْيَا ، كَعِلْمِنَا
بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِيهَا ، مِنْ
حَيْثُ كَانَ أَوَّلُ خَبَرِهِمْ كَآخِرِهِ فِي امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّوَاطُؤِ
مِنْهُمْ ، وَاخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، فَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا
يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا نَقَلُوا
ذَلِكَ عَنْ أَرْبَعَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ ، وَالْخَطَأُ ، وَالتَّوَاطُؤُ
فِي النَّقْلِ ، وَأَمَّا الْيَهُودُ : فَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ
قَبْلَ قَصْدِهِمْ إيَّاهُ لِقَتْلِهِ ، وَإِنَّمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ : يَهُوذَا ، كَانَ مِمَّنْ يَصْحَبُ الْمَسِيحَ .
وَاجْتَعَلَ مِنْهُمْ عَلَى دَلَالَتِهِ ثَلَاثِينَ
دِرْهَمًا ، وَقَالَ لَهُمْ : الَّذِي تَرَوْنِي أُقَبِّلُهُ هُوَ صَاحِبُكُمْ ،
فَلَمَّا رَأَوْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ هُنَاكَ أَخَذُوهُ ، وَقَتَلُوهُ ،
عَلَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى قَتْلَ
رَجُلٍ ( إلَّا مَنْ يَجُوزُ ) عَلَيْهِ التَّوَاطُؤُ فِي الْأَخْبَارِ
وَالنَّاقِلُونَ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ إنَّمَا نَقَلُوا
عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ الرَّجُلِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ
الْمَسِيحُ ، وَهَؤُلَاءِ ، إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ظَنًّا
مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ فَأَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ
يَكُونُوا تَوَاطَئُوا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ .
فَإِنْ قِيلَ
: الَّذِينَ شَاهَدُوهُ بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَصْلُوبًا قَدْ قَالُوا : إنَّ الْمَصْلُوبَ كَانَ
الْمَسِيحَ ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ ، وَلَا سَائِرُ مَنْ نَقَلُوا إلَيْهِ
الْخَبَرَ بِهِ ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ
وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } حِينَئِذٍ كَذَّبَ الْخَوَاطِرَ فِي أَمْرِهِ ، وَشَكَّ
فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَاعْتَقَدَ الْمُسْلِمُونَ بُطْلَانَ خَبَرِهِمْ
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْحَوَارِيُّونَ وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْمَسِيحِ مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ ظَاهِرِينَ مِنْ الْيَهُودِ ، حَتَّى
طَلَبُوا الْمَسِيحَ لِيَقْتُلُوهُ ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا مِمَّنْ أَخْبَرَهُمْ
أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مَصْلُوبًا ، قِيلَ : إنَّهُ الْمَسِيحُ ، وَأَمَّا
الْيَهُودُ فَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا رَجَعُوا فِيهِ
إلَى قَوْلِ يَهُوذَا الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا
يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَتَلُوهُ
وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } فَإِنَّ أَوَّلَ النَّاقِلِينَ
لِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي ظَنِّهِمْ ، أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ ،
أَوْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى نَقْلِهِ ، لَمَّا جَازَ وُقُوعُ الشَّكِّ مِنْ أَحَدٍ
سَمِعَ أَخْبَارَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ فِي قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، كَمَا لَا
يَجُوزُ تَشْكِيكُ أَحَدٍ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت
لَجَازَ عَلَى قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ
التَّوَاطُؤُ ، أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ رَجُلٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ ، أَنَّهُمْ
رَأَوْهُ مَصْلُوبًا مَقْتُولًا ، فَلَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ،
إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا ، وَبَيْنَ
رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ
الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ، هُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّهُ
قُتِلَ وَصُلِبَ ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَ
: أَنَّهُ عَرَفَهُ مَقْتُولًا ، مَصْلُوبًا .
قِيلَ لَهُ
: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت ، لِمَا
بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُمْ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ لَوْ كَانَ
فِي وَزْنِ نَقْلِهِمْ لِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا ، لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ
بِقَتْلِهِ ، وَصَلْبِهِ ، كَوُقُوعِهِ بِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَيْسَ
لِنَقْلِ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا سَبَبٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِهِ ، وَلَا
مَدْخَلَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ ، وَالْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَدْ اعْتَرَضَهُمَا
أَسْبَابٌ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ بِهِمَا مِنْ قَوْمٍ يُوجِبُ
خَبَرُهُمْ
عِلْمًا ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ : أَنَّهُمْ
لَمَّا فَقَدُوا الْمَسِيحَ ، وَرَأَوْا رَجُلًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا ، قَالَ
لَهُمْ مَنْ بِحَضْرَتِهِ : هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ ، فَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ ،
مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، وَلَا تَأَمُّلٍ
لِأَصْلِهِ ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ ، مِمَّا لَا يَجُوزُ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاقِلِينَ
لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَلَا
اخْتِرَاعُ الْكَذِبِ فِي خَبَرٍ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، لَمَا أَوْجَبَ
خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ
فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا نَقَلُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا شَخْصًا مَقْتُولًا
مَصْلُوبًا ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِي رُؤْيَتِهِمْ لِشَخْصٍ هَذِهِ صِفَتُهُ ،
وَلَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا شَخْصًا قَدْ قُتِلَ
وَصُلِبَ ، فَأَمَّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ أَوْ غَيْرُ الْمَسِيحِ فَلَمْ يَكُنْ يَقِينًا
، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ شَخْصٍ مِثْلِ الْمَسِيحِ ،
فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ ، وَظَنَّهُ
الْقَاتِلُونَ وَاَلَّذِينَ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا ، بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ ،
وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ .
وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَهُ
، قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ
وَلَهُ الْجَنَّةُ ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ .
وَإِذَا كَانَ أَصْلُ خَبَرِهِمْ عَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ
، وَعِلْمِ اضْطِرَارٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ .
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِعْلُ خَبَرٍ
لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، لِأَنَّ شَرْطَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ
يُخْبِرَ بِهِ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرْجِعُ خَبَرِهِمْ إلَى ظَنٍّ لَا
حَقِيقَةَ لَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ
خَبَرِهِمْ : أَنَّهُ كَانَ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُ
الْمَسِيحِ وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ ، حَتَّى لَا
يُفَرِّقَ النَّاظِرُ إلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُ فَيَعْتَقِدُ
أَنَّهُ الْمَسِيحُ ؟
( قِيلَ لَهُ ) : لِأَنَّ قَلْبَ الْعَادَاتِ
وَنَقْضَهَا جَائِزَانِ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا ( كَانَ يُرَى
جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ) ، وَدُخُولِ إبْلِيسَ فِي صُورَةِ
شَيْخٍ نَجْدِيٍّ مَرَّةً وَفِي صُورَةِ
سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ مَرَّةً أُخْرَى
) ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ ، فَلَوْ أَنَّ
رَجُلًا رَأَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَخْصًا عَلَى صُورَةِ
دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ دِحْيَةُ ، وَوَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يُجَوِّزَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي مُشَاهَدَتِهِمْ لِشَخْصٍ مَقْتُولٍ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ ،
مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ هُوَ لَا مَحَالَةَ ، مَعَ تَجْوِيزِهِ لِنَقْضِ
الْعَادَةِ بِإِحْدَاثِ اللهِ مِثْلَهُ ، أَوْ إلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ .
فَلَمَّا وَجَدْنَا الْقُرْآنَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ
مِنْ عِنْدِ اللهِ بِالشَّوَاهِدِ الصَّادِقَةِ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّهُمْ { وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } عَلِمْنَا أَنَّ : الْأَمْرَ
جَرَى فِي أَصْلِ الْخَبَرِ عَنْ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ
الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَأَمَّا الْمَجُوسُ : فَإِنَّ الَّذِي تَدَّعِيهِ فِي
أَعْلَامِ زَرَادُشْتَ يَجْرِي مَجْرَى الْخُرَافَاتِ ، الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا
النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا يَعُدُّونَهُ لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ
قَوَائِمَ فَرَسٍ لِلْمَلِكِ فِي جَوْفِهِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا ، وَعَادَ
الْفَرَسُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ ، وَمَرْجِعُ هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ إلَى
الْمَلِكِ وَقَوْمٍ مِنْ خَاصَّتِهِ ، وَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ
التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ ، وَأَنَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْمَلِكِ لَمَّا
اخْتَبَرَهُ فَرَأَى حِيلَتَهُ وَدَهَاءَهُ
وَاطَأَهُ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ ، عَلَى أَنْ
يَكُونَ أَحَدَ أَرْكَانِ شَرَائِعِهِ الَّتِي يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا
لِلتَّدَيُّنِ بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ ، وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ ، ثُمَّ أَخْبَرَ
الْمَلِكُ قَوْمًا مِنْ خَاصَّتِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْفَرَسِ ،
فَتَلَقَّوْهُ وَانْتَشَرَ الْخَبَرُ بِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ النَّاسَ بِالسَّيْفِ
عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ ، ثُمَّ طَالَتْ مُدَّتُهُ ، وَنَشَأَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ
، وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ ، وَأَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ ، ثُمَّ مَا زَالَ
مَنْ يَنْتَحِلُ مِنْهُمْ الدِّينَ وَيَتَخَصَّصُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ ،
وَيَزِيدُ فِيهِ ، وَيُشِيعُهُ فِي الدَّهْمَاءِ ، فَيَنْقُلُوهُ إرَادَةً
مِنْهُمْ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ ، وَبِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ ، وَكَانَتْ الْعُلُومُ
فِي زَمَنِ مُلُوكِ الْفَرَسِ مَقْصُورَةً عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، لَا
يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ ، وَيَمْنَعُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ
انْتِحَالُهُ ، وَالنَّظَرُ فِيهِ ،
وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ .
وَكَانَتْ سَائِرُ النَّاسِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ
أَخْبَارَ زَرَادُشْتَ وَأَمْرَ الدِّينِ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، يَجُوزُ
عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِأَخْبَارِهِمْ
صِحَّةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ مِمَّا ادَّعَوْهُ .
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ زَرَادُشْتَ : إنَّ لِلَّهِ
ضِدًّا مُغَالِبًا فِي مُلْكِهِ ، مَعَ مَا يُضِيفُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَبِيحَةِ
الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَامَتْ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ : إنَّ أَنْبِيَاءَ اللهِ
تَعَالَى لَا يَعْتَقِدُونَهَا
.
عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُخَرِّفًا ، وَلَمْ
يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُظْهِرَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ
حُجَّةً وَالْمُخْبِرُونَ بِهَا هُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْهَا ، وَمَتَى شَاءُوا
اخْتَرَعُوهَا ، وَأَخْبَرُوا بِهَا ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِيمَا يَعْجِزُ
الْخَلْقُ عَنْهُ ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ وَيُمْكِنُهُمْ اخْتِرَاعُهُ
وَالْإِخْبَارُ بِهِ كَيْفَ شَاءُوا ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَلَا
حُجَّةَ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ : إنَّ الْأَخْبَارَ فِي
أَنْفُسِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ حَيْثُ
كَانَتْ أَخْبَارًا ، حَتَّى يَلْزَمَنَا مَا ذَكَرْت ، وَإِنَّمَا قُلْنَا :
إنَّهَا مَتَى قَارَنَهَا أَحْوَالٌ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُخْبِرِينَ
، بَلْ اللَّهُ الْمُتَوَلِّي لَهَا وَوَاضِعُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ،
حَتَّى خَالَفَ بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُخْبِرِينَ وَعِلَلِهِمْ ، وَأَجْرَى
الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ ذَكَرُوا : أَنَّهُمْ
شَاهَدُوهُ اضْطِرَارًا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ ، فَالْحُجَّةُ
إنَّمَا لَزِمَتْ بِالْأَخْبَارِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ افْتِعَالَ الْكَذِبِ جَائِزٌ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِرِينَ ، لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى
الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا يُؤْمِنُنَا كَذِبُهُمْ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
أَنْ حُكْمَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ
الشَّاهِدِ وَمَا يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا
امْتَحَنَّا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ ، فَوَجَدْنَا الْجَمَاعَاتِ الَّتِي
وَصَفْنَا شَأْنَهَا ، يَمْتَنِعُ جَوَازُ اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فِي
شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ مَشَاهِدِهِ ، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَاتِ عَلَى
مَا هِيَ عَلَيْهِ ، عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا صِدْقًا ،
وَأَنَّ مُخْبَرَهُ وَاقِعٌ عَلَى مَا أَخْبَرُوا بِهِ ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ
بِعَيْنِهَا جَوَّزْنَا الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، إذَا انْفَرَدَ
بِخَبَرٍ ، وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ ،
فَرَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى مَا اقْتَضَتْهُ أَحْوَالُ
الشَّاهِدِ ، وَخَبَرُ إنَّ الْعَادَةُ ، فَجَوَّزْنَا مِنْهُ مَا أَجَازَتْهُ ، وَمَنَعْنَا
مِنْهُ مَا مَنَعَتْهُ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَوْ
كَانَ حُكْمُ الْكَثِيرِ فِي هَذَا كَحُكْمِ الْقَلِيلِ ، لَوَجَبَ إذَا جَازَ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ،
وَتَكَلُّمُهُ مِنْ عَرَضِ الْكَلَامِ ، أَنْ يَجُوزَ مِنْهُ إنْ أَتَى بِمِثْلِ
الْقُرْآنِ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ ،
إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ حَرْفٍ
مِنْهُ عَلَى الِانْفِرَادِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجَمُ الَّذِي
يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِمَّا فِي شِعْرِ امْرِئِ
الْقَيْسِ ، فَيَخْتَرِعَهُ وَيَنْتَبِهَ مُبْتَدِئًا بِهِ .
أَنْ نُجَوِّزَ مِنْهُ إنْشَاءَ قَصَائِدَ مِثْلِ
قَصَائِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ ، فِي وَزْنِهَا وَأَلْفَاظِهَا وَنَظْمِهَا ،
وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى
جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ ، فَيُصَادِفُ وُجُودَ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا
أَخْبَرَ بِهِ ، أَنْ يُجَوِّزَ مِنْهُ أَنْ يَظُنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَخْطِرُ
بِبَالِهِ وَيَتَوَهَّمَهُ ، فَيُخْبِرَ بِهِ ، ثُمَّ يَتَّفِقَ أَنْ يُصَادِفَ
فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وُقُوعَ مُخْبَرِهِ ، وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُ ذَلِكَ
ضَرُورَةً ، فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إذَا جَازَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ
إذَا انْفَرَدَ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ
الْكَثِيرَةِ ، الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ فِي خَبَرِهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ
بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا اكْتِسَابٌ ، وَلَيْسَ
بِعِلْمِ اضْطِرَارٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ : بِمَا قَدَّمْنَا
وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ اضْطِرَارِيًّا اسْتِوَاءُ حَالِ الْمُمَيِّزِ
وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي الْعِلْمِ ، كَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ ، لِأَنَّا
نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا كُنَّا نَعْلَمُ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ
أَجْدَادِنَا وَأَوَائِلِنَا كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهِمْ .
وَأَيْضًا
: .
فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالِاكْتِسَابِ لَجَازَ
لِبَعْضِنَا أَنْ لَا يَكْتَسِبَهُ ( وَلَا يُسْتَدَلُّ ) عَلَيْهِ ، فَلَا
يُعْلَمُ بِصِحَّتِهِ ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ
( لَا يَعْرِفُهُ ) مَنْ لَا يَسْتَدِلُّ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ اكْتِسَابًا ، لَجَازَ
وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَلَجَازَ وُجُودُ الشَّكِّ فِيهِ مَعَ سَمَاعِ
هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ ، فَلَمَّا بَطَلَ
ذَلِكَ ، وَكَانَ الْمُنْكَرُ لِبَعْضِ مَا
ذَكَرْنَا كَالْمُنْكَرِ لِبَعْضِ مَا يَذْكُرُهُ
بِحَاسَّتِهِ ، عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا وَصَفْنَا اضْطِرَارٌ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا
جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ ، تُثْبِتُ التَّوَاتُرَ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ
اضْطِرَارًا .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ
التَّوَاتُرِ وَهُوَ : مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ : فَإِنَّ أَبَا
الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، كَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ نَسْخَ
الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ، الَّذِي
يُوجِبُ الْعِلْمَ ، كَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى : أَنَّ مِنْ
الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالِاسْتِدْلَالِ ،
لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ
يَدَّعِيَ فِي ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ عِلْمَ اضْطِرَارٍ .
وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ عِنْدَهُ
هُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا لَيْسَتْ
هَذِهِ مَنْزِلَتُهُ مِنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ
الْأَخْبَارِ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فِي تَحْرِيمِ
التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : مِنْ { إبَاحَتِهِ مُتْعَةَ النِّسَاءِ ، ثُمَّ حَظْرِهَا بَعْدَ
الْإِبَاحَةِ } ، وَمِثْلُهُ أَخْبَارِ الرَّجْمِ ،
وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ جَمَاعَةٌ يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِهِمْ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ ،
أَوْ وُقُوعُ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِيهِ ، فَنَعْلَمُ بِتَأَمُّلِنَا حَالَهَا أَنَّهَا
صَحِيحَةٌ ، وَلَا تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَأَمَّلْ
حَالَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ، وَلَمْ نَسْتَدِلَّ عَلَى صِحَّتِهَا ، لِمَا وَقَعَ
لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهَا .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِي
الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ، وَيُعَارِضُ هَذَا الْخَبَرَ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ : عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا رِبَا إلَّا
فِي النَّسِيئَةِ } ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلَ وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِهِ
نَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ ،
وَرَجَعَ إلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا .
وَقَدْ قَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ ( فِي الرَّدِّ )
عَلَى الْمَرِيسِيِّ لَا يَخْلُو الْحَدِيثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : يَضِلُّ
تَارِكُهُ ، وَيَأْثَمُ ، وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ وَالْخَطَأِ .
وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجْمِ يَرُدُّهُ قَوْمٌ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ } قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ بِهِ الْخَبَرُ كَمَا
تَوَاتَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلَا يَكْفُرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يَرُدُّوا عَلَى اللهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا
النَّاقِلِينَ ، فَأَخْطَئُوا فِي التَّأْوِيلِ ، وَعَارَضُوا بِظَاهِرِ
الْكِتَابِ .
قَالَ : وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِثْلُ خَبَرِ
الصَّرْفِ ، وَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، يُخَطَّأُ مُخَالِفُهُ ،
وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْإِثْمُ ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ
بِالضَّلَالِ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَارَضَ حَدِيثَ الصَّرْفِ بِخَبَرِ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } وَالْخَوَارِجُ خَالَفَتْ الْإِجْمَاعَ
، وَخَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ : رَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ،
وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ
وَقَالُوا
: إنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ،
فَأَخْطَئُوا ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ ، وَيُخْشَى عَلَيْهِمْ
الْمَأْثَمُ ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ الْقَائِلَ
بِهِ لَا يُدْرَى هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ ، أَمْ لَا ، وَيُرَدُّ قَضَاءُ مَنْ
قَضَى بِهِ ( لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَرُدُّهُ ) .
قَالَ : وَمِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا
يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ ، مَنْ اسْتَحَقَّ دَمًا بِالْقَسَامَةِ مَعَ
عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ كَاذِبُونَ فِي حَلِفِهِمْ ، وَأَنَّهُ خِلَافُ
الْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ
} وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ ، وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ .
قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا
نَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنْهَا ، وَاخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا ،
مَعَ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهَا ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ
، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ }
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَكُونُ الْإِخْوَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : اثْنَانِ .
وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ السَّفَرِ فِيهِ ،
وَمَا أَشْبَهَهُ طَرِيقُهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ ، وَلَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ ،
فِيهِ وَلَا يَضِلُّ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي
ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَقْسِيمِ مَنَازِلِ مُوجِبِ
الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا حَكَيْنَا عَنْهُ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ ،
أَنَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ ، لِأَنَّ خَبَرَ
الرَّجْمِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ ،
لَكِنْ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ بِهِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا ، وَلَا يُعَدُّ
الْخَوَارِجُ خِلَافًا ، فَإِنَّمَا يُوجَبُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ هَذِهِ
الْأَخْبَارِ لِمُسَاعَدَةِ إجْمَاعِ السَّلَفِ إيَّاهُ ، وَجَعْلُ خَبَرِ
الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَخَبَرِ الصَّرْفِ دُونَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ قَوْمًا
مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى السَّلَفِ قَدْ ذَهَبُوا إلَيْهِمَا ،
إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ ،
وَأَخْطَئُوا بِتَرْكِهِمْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الضَّلَالِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ مِمَّا
يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ
اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ ،
كَإِخْبَارِ أَهْلِ بَلَدٍ بِخَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَّهُ
يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ ، وَكَإِخْبَارِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ بِخَبَرِ كُلٍّ عَنْ
نَفْسِهِ : أَنَّهُ يَعْتَقِدُ النَّصْرَانِيَّةَ ، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ (
إذَا أَدْلَى )
الْمُخْبِرُونَ بِهِ فَصَارُوا بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ
مِنْهُمْ كِتْمَانُ خِلَافِ مَا أَظْهَرُوهُ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اشْتِمَالِ
خَبَرِهِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ قَدْ صَدَقُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ
أَنْفُسِهِمْ .
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ الرُّوَاةُ مِنْ
أَخْبَارِ الْآحَادِ ، كُلٌّ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْآخَرُ
، فَعُلِمَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ غَيْرُ كَاذِبَةٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ
فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَلَى صِدْقٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ لَنَا صِدْقُ
الصَّادِقِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِهِ ، فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُعْلَمُ
مُخْبَرُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَلَمْ يَجِدْ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَتَوَاتَرُ
بِهِمْ الْخَبَرُ عَدَدًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي ذَلِكَ ،
وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ ، لَا
يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فَهُوَ تَوَاتُرٌ .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّا قَدْ
تَيَقَّنَّا : أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ إذَا
لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا فِي أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى رَجُلٍ
بِالزِّنَا ، أَنَّا مَتَى حَكَمْنَا بِشَهَادَتِهِمْ أَنْ لَا نَقْطَعَ عَلَى
غَيْبِهِمْ ، وَأَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ ، إذْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ
فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَأَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ فِي مَغِيبِ شَهَادَتِهِمْ إلَى اللهِ
تَعَالَى ، وَإِنْ أَمْضَيَا الْحُكْمَ بِهَا
قَالُوا : وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ
الشَّهَادَاتِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْنَا التَّعَبُّدَ بِمَا
وَصَفْنَا ، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ
يَتَضَادُّ وَيَتَنَافَى .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا
يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا خَبَرُهُمْ مِنْ
الْأَحْوَالِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ ، حَتَّى إذَا كَثُرَ الْعَدَدُ فِي قَوْمٍ
مُخْتَلِفِي الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ
التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ ، أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ
خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُدَانَا عَلَى
خِلَافِ مَا قَالُوهُ ، وَذَلِكَ : أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ
بِالزِّنَا : شَرْطُ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا مُجْتَمِعِينَ ،
وَيَكُونُوا مُتَشَاعِرِينَ ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ ، فَلِذَلِكَ
لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً أَوْ عِشْرِينَ جَاءُوا
مُجْتَمِعِينَ
مُتَشَاعِرِينَ يُخْبِرُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَنْ
أَمْرٍ شَاهَدُوهُ ، لَمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، إذَا جَوَّزْنَا
عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الْأَسْوَاقِ هَاهُنَا بِبَغْدَادَ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى تَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ
فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَرُبَّمَا حَضَرَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرُ
، يَشْهَدُونَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِجِنَايَةٍ فِي نَفْسٍ ، أَوْ عِرْضٍ ، أَوْ
مَالٍ ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ
عَلَيْهِمْ .
فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا
وَصَفْنَا : أَنْ يُسْتَدَلَّ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ
أَرْبَعَةٍ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ : عَلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْ الْمُخْبِرِينَ
هَذَا مِقْدَارُهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُ إنْ جَاءَ
هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا .
قِيلَ لَهُ : نَحُدُّهُمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّ شَرْطَ
قَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَحْضُرُوا جَمِيعًا ، فَيَشْهَدُونَ
مُجْتَمِعِينَ ، وَإِلَّا كَانُوا قَذَفَةً .
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : لَوْ شَهِدَ عِنْدِي
مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مُتَفَرِّقِينَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَحَدَدْتهمْ
جَمِيعًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُ لَوْ شَهِدَ عَشَرَةٌ أَوْ
أَكْثَرَ عَلَى إقْرَارِ رَجُلٍ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ .
هَلْ يَقَعُ لَك الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ؟
وَهَلْ نَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا كَانُوا فُسَّاقًا ، لِأَجْلِ مَا وَقَعَ
مِنْ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى جَاءُوا
غَيْرَ مُتَشَاعِرِينَ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ
التَّوَاطُؤُ فِيهِ ؟ .
قِيلَ لَهُ : إنْ جَازَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي
الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ ، لَا يَجُوزُ عَلَى
مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ
خَبَرِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ حَتَّى
يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ ، إذْ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ
حَقًّا لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ ، وَهُوَ
أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْحُكْمَ ، أَوْ يَعْلَمَهُ فِي
غَيْرِ مَوْضِعِ حُكْمِهِ ، ثُمَّ يَصِيرَ إلَى عِلْمِهِ ، أَوْ يَعْلَمَ شَيْئًا
مِمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا ، أَوْ السَّرِقَةِ ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي
عِلْمِهِ ، أَوْ فِي مُخْبِرِ عِلْمِهِ ، فَيَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْ الشُّهُودِ
يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ سِوَاهُ ، حَتَّى يَحْكُمَ
بِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ
الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا .
وَأَيْضًا
: فَإِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فِي
الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ سَوَاءٌ ، وَالْأَرْبَعَةَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ فِي
الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا سَوَاءٌ ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيهَا بِكَثْرَةِ
الْعَدَدِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا
فِي شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ .
فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : إذَا أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ
عَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَوَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ،
فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا بِخَبَرِ أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعَةٍ هُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ ، قَدْ عَلِمُوهُ اضْطِرَارًا
، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوقِعَ الْعِلْمُ
بِخَبَرِهِمْ فَكَذَبُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوا
ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي أَخْبَرُوا عَنْهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ
يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا عِنْدَ خَبَرِ الْخَمْسَةِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ ، بِخَبَرِ
أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ فَمَنْ دُونَهُمْ ، وَأَنْ يَكُونَ
الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَالْبَاقُونَ أَخْبَرُوا عَنْ
غَيْرِ يَقِينٍ ، وَلَا مُشَاهَدَةٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ
الْعِلْمِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَوْ انْفَرَدَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْعِلْمُ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ إخْبَارِ
الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا ، وَلَيْسَ الْمُخْبِرُ هُوَ الْمُوجِبُ
لِلْعِلْمِ بِخَبَرِهِ ، فَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْجَمَاعَةِ صَادِقِينَ فِي
خَبَرِهِمْ .
قَالُوا : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ
وُقُوعُ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ الْمُخْبِرِينَ ، وَإِنْ
كَانُوا أَرْبَعَةً وَأَقَلَّ مِنْهُمْ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ
أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ الْعِلْمُ
بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَدَدٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ عِنْدَنَا ، إلَّا
أَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا : أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، وَيَقَعُ
بِخَبَرِ الْكَثِيرِ ، إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ
التَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ
فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِخَبَرِ جَمَاعَةٍ ، وَلَا يَقَعُ بِخَبَرِ مِثْلِهِمْ
فِي حَالٍ أُخْرَى ، حَتَّى يَكُونُوا أَكْثَرَ ، عَلَى حَسَبِ مَا يُصَادِفُ
خَبَرَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا : أَنَّهُ لَا يَقَعُ
الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ، إذَا لَمْ تَقُمْ
الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ خَبَرِهِمْ ، لِأَنَّا لَمَّا امْتَحَنَّا
أَحْوَالَ النَّاسِ لَمْ نَرَ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ
، وَالْكَثِيرُ يُوجِبُهُ ، إذَا كَانُوا بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَمَا
كَانَ مِنْ الْأُمُورِ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى
تَحْدِيدِهِ ، وَإِيجَابُ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ بِأَقَلِّ
الْقَلِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ
عِلْمَ الِاضْطِرَارِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يُوجِبُ
الْعِلْمَ
لِسَامِعِهِ ، إذَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ
، مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُقَارِنُهُ ، وَلَا يُوجِبُهُ إلَّا إذَا قَارَنَتْهُ
أَسْبَابٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ .
فَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ
بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ
، فَوَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ سَامِعٍ صِدْقَ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ
شَاهَدَهُ مِنْ كَذِبِهِ ، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ كَاذِبٌ ، إذَا
لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَكَانَ
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَمَتَى وَقَعَ
لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ حَكَمْنَا بِهَا ، وَإِذَا
لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ لِمَا ادَّعَاهُ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ
قَوْلِهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى بَيِّنَةٍ ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ إلَى الْيَمِينِ ، وَوَاجِبٌ أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ الزَّوْجِ أَوْ
صِدْقُهُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا عِلْمُ
الِاضْطِرَارِ بِصِدْقِهِ حَكَمْنَا بِكَذِبِهِ وَحَدَدْنَاهُ ، وَلَا نُوجِبُ
بَيْنَهُمَا لِعَانًا ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا ،
وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ كَافِيًا لَنَا بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مَا جَازَ أَنْ
يُسْتَحْلَفَ الْآخَرُ عَلَى صِدْقِهِ ، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ ، لِأَنَّهُ
غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِأَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ
بِالْكَذِبِ وَالْحَلِفِ عَلَيْهِ ، مَعَ عَلِمْنَا بِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَهَذَا
شَيْءٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ
.
وَأَوْجَبَ أَيْضًا : أَنْ لَا تُعْتَبَرَ عَدَالَةُ
الشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ
يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَقَعُ لِلْحَاكِمِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ
بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، فَإِنْ وَقَعَ
لَهُ عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِذَلِكَ عُلِمَ صِدْقُهُمْ ،
وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ حُكِمَ بِكَذِبِهِمْ ، عُدُولًا كَانُوا أَوْ
غَيْرَ عُدُولٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ
لِخَبَرِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ، وَلَيْسَ
يَمْتَنِعُ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى
هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا السَّامِعِ ،
فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ .
قِيلَ لَهُ : قَوْلُك إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ
الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِ عِنْدَ هَذَا الْخَبَرِ : هُوَ
نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ
أَحَدٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ يُحْدِثُ اللَّهُ عِنْدَ خَبَرِهِ لِلسَّامِعِ عِلْمًا
، فَاقْتِصَارُك بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَا مَعْنَى لَهُ ،
وَعَلَى أَنَّ مَا أَلْزَمْنَاهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ
فَإِنَّمَا يَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ
الْعِلْمِ عِنْدَ الْخَبَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ ، وَإِنْ أَحْدَثَهُ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ ،
فَلَا مَعْنَى إذًا لِلْكَلَامِ فِي تَبْيِينِهِ فِي نَظَرٍ وَحِجَاجٍ ، وَإِنَّمَا
يَجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُضْطَرُّ إلَى عِلْمِهِ دُونَ
غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخَبَرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ أَنْ يَكُونَ
الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُهُ
، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِ ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا لِنَتَثَبَّتَ
فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّتِهَا وَلَوْ كَانَ
خَبَرُ الشُّهُودِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِحَالٍ ، لَمَا جَازَ أَنْ نَكُونَ
مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، بِأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّةِ مَا
عَلِمْنَاهُ ضَرُورَةً .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إنَّمَا
يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ إذَا صَحِبَهُ أَسْبَابٌ ، وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ
مُشَاهَدَةٍ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي
تُقَارِنُ الْخَبَرَ شَيْءٌ آكَدُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي (
قَارَنَتْ أَخْبَارَ ) النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، الْمُوجِبَةَ
لِتَصْدِيقِهِ ، ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْ صِحَّةَ خَبَرِ الِاسْتِدْلَالِ ، إذَا
أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَخِطَابِهِ إيَّاهُ ،
وَأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَإِلَى السَّمَاءِ ، وَلَوْ
كَانَ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَاحِدٌ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ لَكَانَ خَبَرُ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ .
فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يُرَى الرَّجُلُ يَمُرُّ
بِبَابِ دَارِ الرَّجُلِ فَيَرَى جِنَازَةً مَنْصُوبَةً وَمُغَسَّلًا مَوْضُوعًا ،
وَيَسْمَعُ صُرَاخًا فِي الدَّارِ ، فَيَسْأَلُ عَجُوزًا خَرَجَتْ مِنْ الدَّارِ
عَنْ ذَلِكَ ، فَتَقُولُ مَاتَ فُلَانٌ ، فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهَا
، وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهَا
.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مَجْلِسًا حَافِلًا
وَرَأَى رَجُلًا فِي الصَّدْرِ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ ، فَيَسْأَلُ
رَجُلًا مِنْ الْحَاضِرِينَ عَنْ الْجَالِسِ فِي الصَّدْرِ فَيَقُولُ : فُلَانٌ
الْقَاضِي ، فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهِ ، وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهِ
، فَعَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ أَوْجَبَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِصِحَّةِ
مُخْبَرِهِمْ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت ، وَذَلِكَ
لِأَنَّك لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ سُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ
عِلْمٍ بِهِ وَلَا يَقِينِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَشْيَاءِ
ثُمَّ يَتَعَقَّبُهَا ، فَيَجِدُهَا بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَ فِيهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُبْطِلِينَ
وَالْمُقَلِّدِينَ نُفُوسُهُمْ سَاكِنَةٌ إلَى اعْتِقَادَاتِهِمْ ، وَلَيْسُوا
عَلَى عِلْمٍ وَلَا يَقِينٍ ، بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَكُفْرٍ ، ثُمَّ إذَا
تَعَقَّبُوا اعْتِقَادَاتِهِمْ ، وَنَظَرُوا فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ ، وَنَبَّهَهُمْ
عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ ، عَلِمُوا فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَسْهُو
الرَّجُلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثَلَاثًا وَيُسَلِّمُ ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ
قَدْ صَلَّاهَا أَرْبَعًا .
فَإِنْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : إنَّمَا صَلَّيْت ثَلَاثًا
، شَكَّ فِيمَا كَانَتْ نَفْسُهُ سَاكِنَةً إلَيْهِ ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا
بِسُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عِلْمًا لِلْيَقِينِ .
وَعَلَى أَنَّا قَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ
يَتَعَمَّدُونَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي ذَكَرْت أَنَّهَا إذَا قَارَبَتْ
الْخَبَرَ أَوْ أَوْجَبَتْ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِمُخْبَرِهِ وَيَكُونُ لَهُمْ
فِيهَا أَغْرَاضٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ مُجُونٍ وَخَلَاعَةٍ .
وَقَدْ بَلَغَنَا : أَنَّ أَبَا الْعِيرِ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ
قَدْ كَانَ يَتَعَمَّدُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى
وَجْهِ الْمُجُونِ وَالْخَلَاعَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ إنْسَانًا لَوْ قَالَ لِهَذَا
السَّائِلِ ( عَنْ ) الْعَجُوزِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدَّارِ : إنَّ هَذِهِ
الْعَجُوزَ قَدْ غَلِطَتْ أَوْ كَذَبَتْ ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ
مَاتَ فَأَحْضَرُوا الْجِنَازَةَ وَالْمُغْتَسَلَ ، ثُمَّ تَبَيَّنُوهُ حَيًّا ،
أَوْ قَالَ هُوَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ ، وَلَمْ يَمُتْ ، لِشَكِّ السَّائِلِ فِي
خَبَرِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ يَقِينًا وَعِلْمًا ضَرُورِيًّا لَمَا جَازَ
أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِضِدِّهِ ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرُهُ عَلَى خِلَافِ
مَا اعْتَقَدَهُ .
فَإِنْ قَالَ : لِمَ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ إذَا
أَخْبَرَتْ بِشَيْءٍ شَاهَدَتْهُ وَعَلِمَتْهُ ضَرُورَةً إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ
لِسَامِعِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْوَاحِدِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ ، فَمَا أَنْكَرْت أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَتَى أَخْبَرَ أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أَخْبَرَتْ
فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ يَقَعَ لِلسَّامِعِ بِقَوْلِهَا عِلْمُ
الِاضْطِرَارِ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهَا ، أَوْ عِلْمُ اكْتِسَابٍ ، فَإِنْ أَوْجَبَ
خَبَرُهَا عِلْمًا مُكْتَسَبًا فَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ
الْوَاحِدِ مِنْهُمْ دُونَ الْجَمَاعَةِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ : إنَّ الْعِلْمَ
حَادِثٌ مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ السَّامِعَ إنَّمَا اسْتَدَلَّ
بِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ
الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ عِلْمَ
الِاضْطِرَارِ ، فَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ مُجْتَمِعِينَ وَكَانُوا
مِمَّنْ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ ، فَالْعِلْمُ حَادِثٌ
أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ ، دُونَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، إذَا كَانُوا
قَدْ عَلِمُوا مَا أَخْبَرُوا بِهِ ضَرُورَةً ، وَإِنْ كَانُوا أَخْبَرُوا بِهِ مُتَفَرِّقِينَ
، فَإِنْ أَحْدَثَ اللَّهُ بِهِ الْعِلْمَ عِنْدَ قَوْلِ أَحَدِهِمْ ، فَغَيْرُ
جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا : جَوَّزُوا إحْدَاثَ اللهِ لَهُ الْعِلْمَ
بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي
تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا الْوَاحِدِ
إذَا تَقَدَّمَتْهُ جَمَاعَةٌ تُخْبِرُ بِمِثْلِ خَبَرِهِ ، وَلَمْ تَجْرِ
الْعَادَةُ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ مَتَى
وُجِدَتْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ أَوْجَبَ خَبَرُهَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا
أَخْبَرَتْ بِهِ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ
بِحُدُوثِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ
.
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ( لَوْ ) كَانَ يُوجِبُ
عِلْمَ الضَّرُورَةِ عِنْدَ مُقَارَنَةِ الْأَسْبَابِ ، لَجَازَ أَنْ تُخْبِرَ
الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِخَبَرٍ ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، إذَا
لَمْ يُقَارِنْ خَبَرَهُمْ أَسْبَابٌ
تَقْتَضِي إيجَابَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ ، وَلَوْ جَازَ
ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ بِبَغْدَادَ مَنْ قَدْ نَشَأَ فِيهَا ،
وَأَتَى عَلَيْهِ خَمْسُونَ سَنَةً ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا
مَكَّةَ ، وَالْمَدِينَةَ ، وَالشَّامَ ، وَمِصْرَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارِنْ مَا
سَمِعَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ أَسْبَابٌ تُوجِبُ لَهُ
الْعِلْمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ ، وَهَذَا فَاسِدٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ ضَرُورَةً
، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إنَّمَا يَقَعُ
الْعِلْمُ عِنْدَ خَبَرِهَا بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَجُوزُ
وُجُودُ الْإِخْبَارِ مِنْهَا عَلَى أَمْرٍ شَاهَدَتْهُ وَعَرَفَتْهُ ضَرُورَةً ،
ثُمَّ لَا يَقَعُ لِسَمَاعِهِ ضَرُورَةُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا .
وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا
يُوجِبُ ضَرُورَةَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ بِحَالٍ ، فَكَانَ أَمْرُ الْخَبَرَيْنِ
جَمِيعًا مَحْمُولًا عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ ، وَعُرِفَ بِامْتِحَانِ
أَحْوَالِ الْأَخْبَارِ وَالْمُخْبِرِينَ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الِاثْنَيْ عَشْرَ ، وَالْعِشْرِينَ
، وَالسَّبْعِينَ ، فَشَيْءٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ
قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِ الْآخَرِ ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ
أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ عَدَدًا أَقَلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ ، أَوْ أَكْثَرَ
فَلَا يُمْكِنُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الِانْفِصَالُ مِنْهُ ، إذْ لَيْسَ
فِي اقْتِصَارِهِ بِالْبَقَاءِ بِهِ عَلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ ، وَأَمْرِ
الْعِشْرِينَ بِالْجِهَادِ ، وَاخْتِيَارِ السَّبْعِينَ لِحُضُورِهِمْ مَعَ مُوسَى
مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِالْأَخْبَارِ ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ خَبَرٌ أُمِرُوا بِنَقْلِهِ
دُونَ مَنْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا ، وَقَدْ يَلْزَمُ الْجِهَادُ الْوَاحِدَ
وَالِاثْنَيْنِ ، وَجَازَ كَوْنُ النَّقِيبِ وَاحِدًا لِجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ .
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا
وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ .
وَيُقَالُ لَهُمْ : أَلَيْسَ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ فِي
صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ الْبُلْدَانِ الثَّابِتَةِ لَمْ
يَقْدَحْ عِنْدَكُمْ فِي صِحَّتِهَا ، وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِهَا ، مَعَ
وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا .
فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ
مَنْ خَالَفَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ
عَلَى صِحَّتِهَا .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي طَرِيقُ
مَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا الْعَقْلُ لَا الِاعْتِبَارُ فِيهَا
بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا الِاخْتِلَافُ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ
عَلَى صِحَّةِ الصَّحِيحِ ، وَفَسَادِ الْفَاسِدِ ، ثُمَّ إذَا قَامَتْ
الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَمْ يُعْتَبَرْ
خِلَافُ مُخَالِفٍ فِيهَا ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهِ ، فَهَلَّا
اعْتَبَرْتُمْ صِحَّتَهَا مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْإِجْمَاعِ
وَالِاخْتِلَافِ ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ تُوجِبُ عَلَى الْيَهُودِ
عَلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ شَيْءٌ مِنْ أَعْلَامِ مُوسَى لِوُجُودِ الْخِلَافِ
فِيهَا ، إذْ كَانَتْ الثَّنَوِيَّةُ وَالْمَجُوسُ وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ
يَجْحَدُونَهَا ، فَلِمَا صَحَّتْ أَعْلَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِوُجُودِ
النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مَعَهُ التَّوَاطُؤُ ، يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ
وَيَثْبُتَ ، وَأَنْ لَا يَقْدَحَ فِيهَا خِلَافُ مَنْ خَالَفَ .
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا نَعْرِفُ صِحَّةَ الْخَبَرِ
إلَّا بِقَوْلِ الْمَعْصُومِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ، مِنْ جِهَةِ
: أَنَّ عِلْمَ الرُّومِ وَسَائِرِ مُلْكِ الْكَفَرَةِ فِي بِلَادِهَا تَكُونُ أَقَاوِيلُهُمْ
وَسَائِرُ مُلُوكِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ النَّائِيَةِ عَنْهَا -
كَعِلْمِنَا بِكَوْنِ أَوَائِلِنَا وَأَسْلَافِنَا ، فَلَوْ كَانَ صِحَّةُ وُقُوعِ
الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْلِ الْمَعْصُومِ لَوَجَبَ أَنْ (
لَا ) يَعْلَمَ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَيْئًا ( مِنْ
أَخْبَارِهِمْ ) ، وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ أَنَّ مَنْ
لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ مِنَّا لَا يَعْرِفُ صِحَّةَ وُجُودِ الْبُلْدَانِ
النَّائِيَةِ ، وَكَوْنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ .
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ
الْمَعْصُومَ فَلَا حُجَّةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ .
فَإِنْ قَالَ : لِمَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ
لَيْسَ بِمَعْصُومٍ الْغَلَطُ وَالْكَذِبُ ، جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي
خَبَرِهِمْ .
فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا ، قَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِيهِ ، عَلَى مَنْ نَفَى صِحَّةَ الْأَخْبَارِ رَأْسًا ، فَأَغْنَى
عَنْ إعَادَتِهِ .
فارغة
الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ
فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِهَا فِي الْأَحْكَامِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ
الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ لِمَا تَصْحَبُهُ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ
لِصِحَّتِهِ .
وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ
مُخْبَرِهِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُهُ .
ثُمَّ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ عَلَى وُجُوهٍ ،
مِنْهُ : مَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا وَرَدَ عَلَى
شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْهُ : مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِقْدَارٌ مِنْ
الْعَدَدِ ، وَهُوَ : الشَّاهِدَانِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ .
وَمِنْهَا :
مَا يَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ
جَمِيعًا ، كَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ ، وَالْكَافِرِ
، وَالْعَبْدِ ، وَالصَّبِيِّ ، فِي وُجُوهٍ مِنْهَا .
وَمِنْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ
أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ : مِنْ عَدَالَةٍ ، أَوْ عَدَدٍ ، وَلَا حَاجَةَ
بِنَا إلَى تَبْيِينِ وُجُوهِهِ ، إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ .
فَنَقُولُ :
إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْمُوجِبَةَ لِلْعِلْمِ لِمَا
يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَة لِصِحَّتِهَا عَلَى وُجُوهٍ ، مِنْهَا : إخْبَارُ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ، وَعَمَّا أَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ ، قَدْ
شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الشَّوَاهِدُ الصَّادِقَةُ ،
وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ ، الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ ،
فَأَوْجَبَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ إخْبَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهَذَا
الْعِلْمُ هُوَ عِلْمُ اكْتِسَابٍ ، وَاقِعٌ مِنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ ،
وَلَيْسَ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ
لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَاسْتَوَى
السَّامِعُونَ بِخَبَرِهِ ، فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ ، وَقَدْ
عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا
فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ
يَعْلَمُوا ذَلِكَ ، مَعَ سَمَاعِهِمْ بِخَبَرِهِ ، وَمُشَاهَدَتِهِمْ
لِأَعْلَامِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ خَبَرُ ذَلِكَ مِنْ
طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِمَّنْ كَانَ شَاهَدَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ مَنْ لَمْ
يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ .
وَمِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ
بِالِاسْتِدْلَالِ : مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ ، فَيَكُونُ
تَصْدِيقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ
الْوَاضِحَةِ : مَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ .
وَكَذَلِكَ خَبَرُ مُخْبِرٍ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ
بِتَصْدِيقِهِ ، أَوْ يُجْمِعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِدْقِهِ .
فَبِذَا كُلِّهِ نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ ،
وَهِيَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ .
وَأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حَقٌّ .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا : أَنْ يُخْبِرَ
مُخْبِرٌ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ ،
وَقَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ ، فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذِهِ
الْجَمَاعَةِ ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ : فَلَا تُنْكِرُهُ فَيَدُلُّ
ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ
بِهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ،
وَامْتَحَنَّاهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ : تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مِثْلِهِ ،
إذَا لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَاب يَجْرِي
مَجْرَى كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ ، وَالْأَعَاجِيبِ الْحَادِثَةِ فِي
أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ كِتْمَانُهَا ،
فَكَذَلِكَ تَرْكُ النَّكِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ ، فَبِمَا وَصَفْنَا
سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ فِي مَحْفِلٍ
عَظِيمٍ ، بِحَضْرَةِ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْآرَاءِ : إنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ :
أَنْ سَارَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ،
كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةَ الْمَسِيحِ ، وَأَنَّهُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ
فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ
نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي
الْعَادَةِ عَلَى
هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْهُ ،
أَنْ تُخَلِّيَهُ مِنْ تَكْذِيبِهِ ، وَظَاهِرُ النَّكِيرِ عَلَيْهِ ، كَمَا
يَمْتَنِعُ عَلَى مِثْلِهَا خَبَرٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، عَلَى شَيْءٍ يُخْبِرُونَ
بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مِنْ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ
مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتْمَانِ ، وَاخْتِلَافُ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ
وَأَسْبَابِهِمْ ، وَأَنَّ الْإِخْبَارَ بِمِثْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَقِيقَةٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَعَنْ سَبَبٍ يَجْمَعُهُمْ ،
وَالْمُوَاطَأَةُ ، عَنْ مِثْلِهِمْ إذَا كَانَتْ ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْكَتِمْ .
كَذَلِكَ كِتْمَانُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ
الْعَجِيبَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ ، لِأَنَّ
اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ اسْتِثْقَالَ كِتْمَانِ مِثْلِهَا ،
وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِخْبَارَ بِهَا ، وَجَعَلَ لَهُمْ دَوَاعِيَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ تَدْعُوهُمْ إلَى إشَاعَتِهَا وَنَشْرِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ
فِي كِتْمَانِهَا ضَرَرٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِ
النَّاسِ .
أَلَا تَرَى
: أَنَّ مَوْتَ الْخُلَفَاءِ وَقَتْلَهُمْ وَخُلْفَهُمْ
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ - لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ
وُقُوعُ الْكِتْمَانِ فِيهِ ، حَتَّى يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ وَالْبَيْعَةِ
لِآخَرَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يُخْبِرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِهِ ، وَلَا يَنْقُلُهُ
إلَى غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ : أَنْ يَدْخُلَ رَجُلٌ
بَغْدَادَ فَيَسْأَلَ عَنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ ، أَوْ عَنْ مَسْجِدِ جَامِعِ
الْمَدِينَةِ ، فَلَا يُرْشِدُهُ أَحَدٌ إلَيْهِ ، حَتَّى يَبْقَى طُولَ دَهْرِهِ
بِهَا فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَدُلُّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَبِمِثْلِهِ عَلِمْنَا
بُطْلَانَ قَوْلِ الرَّافِضَةِ : إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَصَبَ
رَجُلًا بِعَيْنِهِ لِلْإِمَامَةِ بَعْدَهُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ .
لِأَنَّ نَصْبَ النَّبِيِّ لِإِمَامٍ بَعْدَهُ ، وَتَعْيِينَهُ
لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ - أَعْظَمُ فِي الصُّدُورِ ، وَأَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ مِنْ
خَلْعِ خَلِيفَةٍ فِي زَمَانِنَا ، وَالْبَيْعَةِ لِغَيْرِهِ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَلِأَنَّ
عِلَلَهُمْ وَأَسْبَابَهُمْ تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ ، كَمَا
تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَوْ جَازَ
كِتْمَانُ مِثْلِهِ لَجَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَعَلَّهُ كَانَ فِي زَمَانِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ آخَرُ بَعَثَهُ ، فَكَتَمَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهُ
، وَلَجَازَ أَنْ يَقُولَ آخَرُ : إنَّ النَّبِيَّ كَانَ غَيْرَهُ فَكَتَمَتْهُ
الْأُمَّةُ ، وَادَّعَتْ النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ ، وَفِيمَا دُونَ النَّصِّ عَلَى
الْإِمَامَةِ وَتَعْيِينِهَا لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْكِتْمَانُ .
فَكَيْفَ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ
أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ ، وَأَجَلَّ فِي الصُّدُورِ ، كَانَ حِرْصُ النَّاسِ
عَلَى نَقْلِهِ أَشَدَّ ، وَكُلْفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ أَكْثَرَ ، فَعُلِمَ
بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى : أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ
شَرَطَ
أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْآحَادِ : أَنْ لَا
يَكُونَ وُرُودُهُ فِيمَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ ، لِأَنَّ مَا
كَانَ بِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ
تَوَقُّفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ فَعَلَ لَمَا جَازَ وُقُوعُ
الْكِتْمَانِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ ، وَتَرْكُ نَقْلِهِ مَعَ تَدَيُّنِهِمْ
بِوُجُوبِ نَقْلِهِ ، وَمَا يَرْجُونَ مِنْ الثَّوَابِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى
بِإِذَاعَتِهِ وَنَشْرِهِ .
فَأَمَّا مَا قُلْنَا : مِنْ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِمُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ - فَيُوجِبُ لَنَا ذَلِكَ
عِلْمًا بِصِدْقِهِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ
قَالَ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا انْصَرَفَ : لَا جُمُعَةَ لَك .
فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّ سَعْدًا
قَالَ لِي : لَا جُمُعَةَ لَك .
فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لِمَ يَا
سَعْدٌ ؟ قَالَ : إنَّهُ تَكَلَّمَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقَ سَعْدٌ } .
وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ : { أَنَّ رَجُلًا
قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ وَقَرَأَ
آيَةً : مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ ، فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك الْيَوْمَ
إلَّا مَا لَغَوْت ، فَذَكَرَ الرَّجُلُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
فَقَالَ : صَدَقَ أُبَيٌّ } فَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَيْنِ
الْمُخْبِرَيْنِ بِمَا أَخْبَرَا بِهِ لَكَانَ ظَاهِرُ خَبَرِهِمَا يُوجِبُ
الْعَمَلَ ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ ، فَلَمَّا
صَدَّقَهُمَا وَقَعَ لِسَامِعِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ بِصِدْقِهِمَا فِيمَا
أَخْبَرَا بِهِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَأَمَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ بِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ فِي
خَبَرِهِ ، نَحْوُ مَا رُوِيَ : أَنَّ { زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ قَدْ دَفَعَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ كَلَامًا ، قَالَ : لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، فَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ
وَحَلَفَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ مَا قَالَهُ ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ
صَدَّقَك } أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ .
وَأَمَّا : إخْبَارُ مَنْ
أَخْبَرَ بِخَبَرٍ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ
بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ فَلَا تُنْكِرُهُ
، أَوْ يَذْكُرُهُ لِحَضْرَتِهَا فَلَا تَكْرَهُ ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْعِلْمَ
بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ
مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسِيَرِهِ ، وَسُنَنِهِ
وَأَحْكَامِهِ ، مِمَّا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ بِهِ كَانَتْ
شَائِعَةً مُسْتَفِيضَةً ، يُحِيلُونَهَا عَلَى مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَاتِ الْعَظِيمَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ
وَلَمْ يَرُدَّهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ
لِذَلِكَ الْإِخْبَارِ بِهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى
الْجَمَاعَةِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ ، وَتَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى قَائِلِهِ ، إذَا
لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِحَقِيقَتِهِ ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ .
وَكَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا : الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ
، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهَا : الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ ، مَعَ الْعِلْمِ
بِأَنَّهُ كَذِبٌ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي مَنَعَتْ وُقُوعَ الْإِخْبَارِ
مِنْهَا بِشَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ - هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ إقْرَارِهَا مَنْ يَدَّعِي
مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ لَا يَفْقَهُونَهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَخَبَرِهِ ، وَالْعِلْمُ
الْوَاقِعُ فِي هَذَا الْوَجْهِ اكْتِسَابٌ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ ، لِأَنَّهُ
مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا وَصَفْنَا .
وَأَمَّا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا
سَاعَدَهُ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ ، وَمُوجِبًا
لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ - فَإِنَّهُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } إنَّمَا رُوِيَ مِنْ
طَرِيقِ الْآحَادِ ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ، فَدَلَّ
عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ
وَاسْتِقَامَتِهِ .
وَنَحْوُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي
الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا ، { إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ ، أَوْ
يَتَرَادَّانِ } وَنَحْوُهُ : حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي {
أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ }
وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ فِي { إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ } .
قَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ
هَذِهِ الْأَخْبَارِ حِينَ سَمِعُوهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا عَلَى
صِحَّةِ مَخْرَجِهَا وَسَلَامَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِيهَا قَوْمٌ ،
فَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا شُذُوذٌ ، لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ
مِنْ الْأَخْبَارِ - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مِنْ
قِبَلِ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا السَّلَفَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرِ
مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ فِيهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ بِالْأُصُولِ
، أَوْ بِخَبَرِ مِثْلِهِ ، مَعَ عِلْمِنَا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي التَّثَبُّتِ فِي
قَبُولِ الْأَخْبَارِ ، وَالنَّظَرِ فِيهَا ، وَعَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ - دَلَّنَا ذَلِكَ
مِنْ أَمْرِهِمْ : عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا إلَى حُكْمِهِ إلَّا مِنْ
حَيْثُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لَنَا
الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ
مُسَاعَدَةُ الِاتِّفَاقِ لِحُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْتُمْ دَلِيلًا
عَلَى صِحَّتِهِ ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ الرَّاوِي لَهُ غَالِطًا ، وَيَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ
طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، مِنْ قِبَلِ
أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي عَامَّةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي
وَصْفُهَا مَا ذَكَرْنَا ، أَنَّ فُقَهَاءَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : إنَّمَا
صَارُوا إلَى حُكْمِهَا حِينَ سَمِعُوا وَبَلَغَهُمْ أَمْرُهَا ، وَأَنَّهُمْ
كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا ، وَيُجِيزُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا
لَهَا وَاتَّبَعُوهَا ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُمْ أَجْمَعُوا مِنْ غَيْرِ
جِهَةِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ ، مَعَ مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ تَسْلِيمِهِمْ
، فَحُكْمُهُ خَطَأٌ ، خَطَأٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذِهِ
جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ أَخْبَارِ الْآحَادِ
الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَائِلِ .
وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : إنَّ أَخْبَارَ
الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ .
وَالْآخَرُ : لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ .
وَأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مِنْهَا عَلَى
ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ .
وَالْآخَرُ : يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهَا .
فَأَمَّا الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ
فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَقِسْمٌ مِنْهَا : الشَّهَادَاتُ .
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ : أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ
الْوَارِدَةِ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ ، عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي
نَذْكُرُهَا .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ .
فَأَمَّا الشَّهَادَاتُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ :
أَحَدُهَا : الشَّهَادَاتُ عَلَى مَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ ، وَهُوَ :
الْحُدُودُ ، وَالْقِصَاصُ .
فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا إلَّا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فِي
الزِّنَا ، وَرَجُلَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَلَا مَدْخَلَ
لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ
.
وَالثَّانِي : الشَّهَادَةُ عَلَى مَا لَا تُسْقِطُهُ
الشُّبْهَةُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ ، وَعَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ ، وَذِي الْحِجَّةِ
- إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا
رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .
وَالثَّالِثُ
: الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ ، وَعَلَى مَا لَا
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ - فَيُقْبَلُ فِيهَا
شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا
، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي مَعْنَيَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : الْأَدَاءُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ .
وَلَا يُقْبَلُ : أَعْلَمُ ، وَأُخْبِرُ .
وَالثَّانِي : مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَةِ الشَّاهِدِ .
وَهِيَ :
أَنْ ( يَكُونَ ) بَالِغًا ، عَاقِلًا ، حُرًّا ،
مُسْلِمًا ، عَدْلًا ، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ ، صَحِيحَ النَّظَرِ ،
طَائِقًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ ، نَافِيًا لِمَا يُؤْذِيهِ ، لَا تَجُرُّ
شَهَادَتُهُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَغْرَمًا .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ فَهِيَ : نَحْوُ
خَبَرِ الرَّسُولِ
فِي الْهَدِيَّةِ ، وَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ ،
وَالْبَيْعِ فِيمَا عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ ، وَنَحْوُ : قَوْلُ
الْآذِنِ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا
أَشْبَهَهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَالْعَبْدِ
وَالصَّبِيِّ ، وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ ، مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّ السَّامِعِ
كَذِبُ الْمُخْبِرِ ، وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا : مَا يُقْبَلُ
فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ .
وَمِنْهَا : مَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُخْبِرِ ،
حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ فِي خَبَرِهِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ خَبَرِ الْوَكِيلِ ،
وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ ، وَخَبَرِ
الْأَذَانِ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَنَحْوُ خَبَرِ الْعَزْلِ عَنْ
الْوَكَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ رَسُولًا ، فَلَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ
عِنْدَهُ حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبِرُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ،
وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ
.
أَوْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَدْلًا ، فَشُرِطَ فِيهِ :
أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ الْعَدَدُ ، أَوْ الْعَدَالَةُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ
بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا ، وَلَا
تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ ، حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبَرُ بِهِ رَجُلَيْنِ ، أَوْ
رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا ، أَوْ رَجُلًا عَدْلًا .
وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَاتِ : مَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ
الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مِنْ الْأَعْدَادِ ، وَمَا
ذَكَرْنَا مِنْ أَوْصَافِهَا ، بَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ ، وَبَعْضُهَا
إجْمَاعٌ ، وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَائِلِ الْأُصُولِ ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا
إلَى الْكَلَامِ فِيهَا ، إذْ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِأُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ : فَالْأَصْلُ فِي قَبُولِهَا
قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ
قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
} .
فَحَظَرَ الدُّخُولَ بَدْءًا ، إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ ،
ثُمَّ أَبَاحَهُ بِإِذْنِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَوَصْفِ الْمُخْبَرِ فِيهِ .
وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ بَرِيرَةَ : إنَّهَا
يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا فَتُهْدِيهِ فَقَالَ : هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا
هَدِيَّةٌ } فَقَبِلَ قَوْلَهَا : فِي إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ
كَانَ مَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهَا ،
فَصَدَّقَهَا عَلَى انْتِقَالِهِ إلَيْهَا بِالصَّدَقَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ: { رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ } .
فارغة
الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْكَلَامِ
فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: فِيْ إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَبِلَ
خَبَرَ الِاثْنَيْنِ وَ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
فارغة
بَابٌ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي
أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
نَتَكَلَّمُ بِعَوْنِ اللهِ فِي تَثْبِيتِ وُجُوبِ
الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فِي الْأُمُورِ
الْخَاصَّةِ ، وَاحِدًا كَانَ الْمُخْبِرُ ، أَوْ أَكْثَرَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ
بِالْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَبَى إلَّا قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، ثُمَّ
نَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي فُرُوعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَشُرُوطِهَا ، بِمَا
يُسَهِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ
وَرِضْوَانِهِ : قَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِذَلِكَ
بِحُجَجٍ كَافِيَةٍ مُغْنِيَةٍ ، وَأَنَا ذَاكِرٌ جُمْلَةً ، وَنَتْبَعُهَا بِمَا
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَمَا احْتَجَّ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وقَوْله
تَعَالَى : { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } .
فَنَقُولُ : إنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ
ظَاهِرَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ
الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِتْمَانِ ، فَثَبَتَ وُقُوعُ الْبَيَانِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ
إذَا أَخْبَرُوا ، فَدَلَّ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ ، لِوُقُوعِ بَيَانِ أَحْكَامِ
اللهِ بِخَبَرِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا
بِالْبَيَانِ لِيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ وَيَنْتَشِرَ فَيُوجِبَ الْعِلْمَ .
قِيلَ لَهُ : لَمَّا ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ
وَأَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَنَاوَلَ مَنْ لَا
يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ
، لِأَنَّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانُ فِي خَبَرِهِمْ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ
( فَلَا يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ
)
فَإِنْ قِيلَ : لَا دَلَالَةَ مِنْهُ عَلَى وُجُوبِ
الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ .
فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ؟
قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى : {
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } إخْبَارًا مِنْهُ بِوُقُوعِ
بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا أُخْبِرُوا - دَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ ، وَوُجُوبِ
الْتِزَامِ حُكْمِهِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرُوا بِالْإِخْبَارِ بَيَانًا
لَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى ، وَأَقَلُّ
أَحْوَالِ مَا يُوصَفُ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِهِ ، لُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ ، إذَا
لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى
: { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ } وَالْفِرْقَةُ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ ، وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ
ثَلَاثَةٌ ، ثُمَّ جَعَلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْفِرْقَةَ ، وَهِيَ بَعْضُهَا ،
فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ مَنْ دُونَ الثَّلَاثَةِ .
وَأَيْضًا
: فَإِنَّ الطَّائِفَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ
الْوَاحِدَ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } وَقَدْ يَتَنَاوَلُ
اثْنَيْنِ مِنْهُمْ
.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ } .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } قَدْ قِيلَ : إنَّ أَقَلَّهَا
وَاحِدٌ ، فَكَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالطَّائِفَةُ اسْمٌ قَدْ
يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ
إيجَابَ قَبُولِ خَبَرِهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَمَرَ الطَّوَائِفَ بِالْإِنْذَارِ
لِيَتَوَاتَرَ بِهِمْ الْخَبَرُ ، فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، وَلَا دَلَالَةَ
فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إذَا أَخْبَرَتْ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : {
وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِهِ رُجُوعَ الطَّوَائِفِ
وَدَوَرَانَهَا عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَلَى حِيَالِهِمْ ،
أَوْ رُجُوعَ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى قَوْمِهَا دُونَ قَوْمِ طَائِفَةٍ أُخْرَى
غَيْرِهَا .
فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ
لَمْ تَنْفِرْ الطَّائِفَةُ مِنْهُمْ : إنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُ
لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمٍ : إنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ ،
وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ .
صَحَّ أَنَّ
الْمُرَادَ رُجُوعُ كُلِّ طَائِفَةٍ أُفْرِدَتْ مِنْ
قَوْمٍ رُجُوعُهَا إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، ثُمَّ لَمَّا أَوْجَبَ
الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ لِقَوْمِهَا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ
بِخَبَرِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِهِمْ قَبُولَ خَبَرِهَا وَإِنْذَارَهَا .
وَأَيْضًا :
فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اجْتِمَاعَ الطَّوَائِفِ
لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ، ثُمَّ دَوَرَانَ جَمِيعِهَا فِي الْقَبَائِلِ عَلَى
فِرْقَةٍ ، لَكَانَ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا ،
مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ جَازَ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ
، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي
الْآيَةِ لَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا مَحَالَةَ يَأْمُرُهُمْ
بِذَلِكَ ، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ
يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالِاجْتِمَاعِ لِلتَّفَقُّهِ ،
ثُمَّ الدَّوَرَانِ عَلَى الْقَبَائِلِ لِلْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ عَنْهُ ،
بَلْ كَانَ يَقْتَصِرُ لِكُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ
الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْهُمْ ، وَالْوَافِدُ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِهِمْ .
دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ تَقُومُ
عَلَيْهِمْ فِي إبْلَاغِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ ، بِمَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ
تِلْكَ الطَّائِفَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ إنَّمَا أُمِرَتْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا
وَإِبْلَاغِهَا مَا سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
لِيَنْتَشِرَ
الْخَبَرُ عَنْهَا ، وَيَسْتَفِيضَ ، فَلَا يَكُونُ فِي
أَمْرِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْإِنْذَارِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا
، كَمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى
حِيَالِهِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ وَحْدَهُ .
قِيلَ لَهُ : ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ
يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ وَحْدَهُ ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى
وُقُوفِهِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِنْذَارِ قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ قَبُولِ خَبَرِهِ ،
دُونَ مَعْنًى آخَرَ يَنْضَافُ إلَيْهِ
.
أَلَا تَرَى : أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : {
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
} وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا
مَا دُعُوا } وقَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ
وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى
الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ وَبِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُوجِبَيْنِ - لِقَبُولِهَا
وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا ،
إذْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَنَّ ( أَمْرَنَا بِإِقَامَتِهَا )
وَأَدَائِهَا - مُوجِبٌ لِقَبُولِهَا ، فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى كُلَّ طَائِفَةٍ
عَلَى حِيَالِهَا بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ حُكْمِ
الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهَا .
وَأَيْضًا
: فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ حُكْمًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ،
سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا بِسَمَاعِهِ ، أَوْ مُشَارِكًا لِغَيْرِهِ فِيهِ ، فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى : أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِخَبَرِهِ ، وَأَمَّا
الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ غَيْرُهُ ، فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ
الْخَبَرِ تَعَلُّقَ قَوْلِهِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ
مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ تَعَلُّقَ صِحَّتِهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ .
وَأَيْضًا : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { وَلْيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَمَعْنَاهُ لِكَيْ
يَحْذَرُوا ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ مَا سَمِعُوهُ
، كَمَا قَالَ { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ
.
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي إيجَابِهِ الْحَذَرَ
بِإِنْذَارِ طَائِفَةٍ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا ، لِأَنَّ
الْحَذَرَ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الطَّائِفَةِ فِي
شَيْءٍ ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْحَذَرُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ ،
مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ فِي حُقُوقِ اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ - لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أُنْذِرَتْ الطَّائِفَةُ بِهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ الْعُقُوبَةِ
فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أُخْبِرَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ
مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ - لَمَا كَانَ الْإِنْذَارُ قَدْ أَلْزَمَهُ شَيْئًا ،
إذْ كَانَ الْحَذَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاجِبًا قَبْلَ إنْذَارِ
الطَّائِفَةِ وَبَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى لِكَيْ يَحْذَرُوا ، فَلَا يَأْمَنُوا
أَنْ يَكُونَ الْإِنْذَارُ صَحِيحًا ، فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ الْبَحْثَ عَنْهُ ،
حَتَّى يَعْلَمَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ إنْ كَانَ صَحِيحًا ، فَيَصِيرَ
حِينَئِذٍ إلَى مُوجِبِ حُكْمِهِ
.
قِيلَ لَهُ
: إنْ لَمْ يَكُنْ إنْذَارُ الطَّائِفَةِ قَدْ أَلْزَمَهُ
حُكْمًا فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ قَبْلَ إنْذَارِهَا
وَبَعْدَهُ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ : احْذَرْ وَاطْلُبْ الْآثَارَ
وَالسُّنَنَ ، لِتَعْرِفَ الْمُتَوَاتِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَكُونَ رُوِيَ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْءٌ .
وَهَذَا يُوجِبُ إسْقَاطَ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ ، وَإِيجَابَ
الْحَذَرِ بِهِ ، وَمَا أَدَّى إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ فَهُوَ
سَاقِطٌ ، وَفَائِدَةُ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَبُولِ خَبَرِ
الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
وقَوْله تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ
كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وقَوْله تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } وَنَحْوِهِ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ
لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ حُكْمِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ .
فَمِنْهُمْ : مَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِهَا فِي لُزُومِ
خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَمْرِ اللهِ إيَّانَا بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ
ثَبَتَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ ، فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ ،
لِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ .
وَمِنْهُمْ : مَنْ يَضُمُّ إلَيْهَا قَوْله تَعَالَى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا }
فَتَوَكَّدَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ ، وَأَوْجَبَ
التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ، دَلَّ بِذَلِكَ
عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ ، وَتَرْكِ التَّثَبُّتِ فِيهِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ
مِنْ الْحِجَاجِ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَنَا ، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا
إيجَابُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ
خَاصَّةً مَوْجُودَةً بَعْدَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَبْلَهَا فِي وُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ .
فَالْمَعْقُولُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ : إيجَابُ
التَّفْرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ
الْوُجُوهُ الَّتِي أَوْجَبَ بِهَا التَّفْرِقَةَ مَعْلُومَةً عِنْدَ
الْمُخَاطَبِينَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا
عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى
الْمُجْمَلِ .
كَأَنَّهُ قَالَ : أَوْ خَبَرُ التَّفْرِقَةِ
بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ ، فَكُلُّ بَعْضٍ أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلَ
وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُفَرَّقْ بِهِ
بَيْنَهُمَا ، فَالِاحْتِجَاجُ
بِمِثْلِهِ فِيمَا وَصَفْنَا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي
خَبَرِ الْفَاسِقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ
الْعَدْلِ ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ
يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ
مِنْ الْحِجَاجِ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ } قَالَ : فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إجَابَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَعَاهُ وَهُوَ وَاحِدٌ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ
: أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مُشَافَهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إيَّاهُ لَيْسَ هُوَ دُعَاءَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْحَقِيقَةِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ مَنْ عَدَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَا جَازَ فِي الْمُتَعَارَفِ أَنْ
يُقَالَ : دَعَانِي فُلَانٌ ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِ بِرَسُولٍ تَنَاوَلَ
لَفْظَ الْآيَةِ ، دَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُمْ شِفَاهًا ،
وَبِإِرْسَالِهِ مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُمْ شِفَاهًا مُرَادٌ بِالْآيَةِ ، وَهُوَ حَقِيقَةُ
اللَّفْظِ ، وَمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ ، فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ
فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ
:
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا
فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى حَصَلَ عَلَى
الْحَقِيقَةِ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ : ثَبَتَ أَنَّ
الْوَاحِدَ إذَا جَاءَ فَذَكَرَ أَنَّهُ ( مَدْعُوٌّ مِنْ ) رَسُولِ اللهِ ،
أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذْ
لَيْسَ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّهُ دُعَاءٌ مِنْ الرَّسُولِ ، دُونَ أَنْ يَنْقُلَهُ
مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ ، فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، بِدَلَالَةٍ
تَحْتَاجُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ : أَنَّهُ احْتَجَّ لِخَبَرِ
الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } قَالَ وَالْآذِنُ هُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ مَا يُقَالُ لَهُ ، فَمَدَحَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَدَلَّ
عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ .
قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ
فِي أَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، أَنَّهُ قَالَ:{ يُؤْمِنُ
بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ
}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ فِيمَا حَكَيْنَا
عَنْهُمْ شَيْءٌ أَوْهَى مِنْ هَذَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ مِنْ غَيْرِهِ
، أَوْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، أَوْ الشَّهَادَاتِ ، فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ
يَكُنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ،
بَلْ كَانَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُهُ ، وَالْأَخْذُ عَنْهُ ، فَبَطَلَ
هَذَا الْقِسْمُ .
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
قَبُولَ الشَّهَادَاتِ فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ مَوْقُوفَةٌ
عَلَى أَعْدَادٍ مَعْلُومَةٍ ، لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى مَا دُونَهُ
مِنْ الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا .
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهَا هَاهُنَا ، فَثَبَتَ
أَنَّ الْمُرَادَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوُهَا ، وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ
الشَّرِيعَةِ .
فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا
خِلَافَ فِيهِ ، فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ
خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى
لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ ، فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ
فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ .
فَمِنْهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَضَّرَ اللَّهُ
امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا ،
فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ
: { لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ تَبْلُغُهُ أَوْعَى
لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ
.
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ {
أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ
وَبِعَالٍ
} وَأَنَّهُ { أَمَرَ بِالْغَدَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ ،
نَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَهْلِيَّةِ } { وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ
أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ }
.
وَأَنَّهُ { قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ عَلَى
رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ } وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ كَنَحْوِهَا
تُوجِبُ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ
وَإِنْ كَانَ وُرُودُهَا فِي طَرِيقِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَخْبَارِ
الشَّائِعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الْأُمَّةِ ، وَقَدْ تَلَقَّتْهَا
وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي نَقْلِ الْعِلْمِ وَأَدَائِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ ،
وَفِي قَبُولِ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ .
وَقَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ
بِذَلِكَ ، وَرَوَى بَعْضَهَا مُرْسَلًا ، وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ
مِنْ احْتِجَاجِهِ بِذَلِكَ وَيَقُولُ :
كَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مُبْطِلِي خَبَرِ الْوَاحِدِ
بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَائِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
قَبُولِهِ ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ
رَأْسًا .
وَإِنَّمَا وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِهِ : أَنَّ أَحَدًا
لَمْ يَرْفَعْهَا ، بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ قَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا ،
وَتَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ فِي لُزُومِ نَقْلِ الْعِلْمِ ، وَدَلَالَتُهَا
وَاضِحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّهُ قَالَ : { فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى
مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَأَخْبَرَ : أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ وَيُؤَدِّيهِ
إلَى غَيْرِهِ فِقْهٌ ، وَلَيْسَ يَكُونُ فَقِيهًا إلَّا وَقَدْ لَزِمَ
الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ
.
وَكَذَلِكَ النِّدَاءُ ، لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْعَمَلُ
بِقَوْلِ الْمُنَادِي - وَهُوَ وَاحِدٌ - لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى .
وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ : وَهُوَ رُسُلُ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ ، أَرْسَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى
كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ رَسُولًا وَكِتَابًا ، وَكَانَ فِي كُتُبِهِ إلَيْهِمْ ،
الدُّعَاءُ إلَى التَّوْحِيدِ ، وَالتَّصْدِيقُ بِالرِّسَالَةِ ، وَجُمَلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ
، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُهَا ، وَالْعَمَلُ بِمَا
تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِإِرْسَالِهِمْ وَكَتْبِ الْكُتُبِ
مَعَهُمْ مَعْنًى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : التَّصْدِيقُ وَالتَّوْحِيدُ
بِالرِّسَالَةِ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالْخَبَرِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا التَّوْحِيدُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ
اعْتِقَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ قَبْلَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا الرِّسَالَةُ : فَقَدْ كَانَ الْخَبَرُ
تَوَاتَرَ عَنْهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ إلَى
تَصْدِيقِهِ ، وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَى
يَدِهِ ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ ،
وَفِي مُعْجِزَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّسُلَ ، لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا
كُتُبُهُ وَرَسَائِلُهُ إلَيْهِمْ
.
وَبَعْدَ تَقَدُّمِهِ الدُّعَاءَ إلَى التَّوْحِيدِ
وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ : أَنَّهُمْ
إنْ أَجَابُو فَلَهُمْ كَذَا ، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا فَعَلَيْهِمْ كَذَا ، فَقَدْ
تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُمْ بِحَمْلِ الشَّرَائِعِ .
وَضَرْبٌ آخَرُ : وَهُوَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عُمَّالَهُ إلَى الْآفَاقِ ، كَتَوْجِيهِهِ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ إلَى الْيَمَنِ ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ
عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ .
وَقَدْ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِجُمَلِ الْفُرُوضِ
وَالْأَحْكَامِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ ، وَحَمْلِهِمْ
عَلَيْهَا ، وَإِلْزَامِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ قَبُولَهَا ، فَدَلَّ عَلَى
لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْخَبَرَ كَانَ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ
بِاسْتِعْمَالِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ الْآنَ
بِتَوْلِيَةِ الْخَلِيفَةِ أَمِيرًا مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْبُلْدَانِ .
قِيلَ لَهُ : أَجَلْ قَدْ كَانَ يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ
عِنْدَهُمْ بِالْوِلَايَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ
الْخَبَرُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يَقْدُمُ بِهَا إلَيْهِمْ ، فَأَمَرَهُمْ
بِأَدَائِهَا إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كُلَّمَا بَعَثَ عَامِلًا بَيَّنَ لِسَائِرِ
النَّاسِ كُلَّ حُكْمٍ أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِهِ ، وَكُلَّ شَرِيعَةٍ أَمَرَهُ
بِأَدَائِهَا إلَيْهِمْ ، لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا
، فَمَا كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ : تَوْجِيهُ
الْعُمَّالِ دُونَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهَا ، وَقَدْ
عَلِمْنَا مَعَ ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ
الشَّرْعِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ ، ثَبَتَ
أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهَا إلَيْهِمْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَلْزَمَ الْمُوَلَّى
عَلَيْهِمْ ، قَبُولَ خَبَرِ الْمَوْلَى فِي الْأَحْكَامِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ
عَنْهُ إلَّا مَا كَانَ حَقًّا ، وَقَدْ كَانَ
يَعْلَمُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ
الْوُلَاةِ ، يَتَوَارَثُهَا أَعْقَابُهُمْ ، كَسَائِرِ الْفَضَائِلِ الَّتِي
خُصَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ ، نَحْوُ " مَا خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ
جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَة غَسَّلَتْ حَنْظَلَةَ
" ، وَنَحْوَهَا مِنْ الْأُمُورِ
.
فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ وُلَاتَهُ مَعْصُومُونَ لَا يَقُولُونَ إلَّا
الْحَقَّ ، عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْقَائِلِ .
وَضَرْبٌ آخَرُ : وَهُوَ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ وُجُودِ
الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ
الْآحَادِ فِي الْأَحْكَامِ مُخْتَلِفَةً ، قَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً : وُقُوعَ
الْحُكْمِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِهَا ،
وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِهِ ، كَمَا عَلِمْنَا ضَرُورَةَ
اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ
الْحَوَادِثِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا : أَنَّهُ قَوْلُ
قَائِلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، وَكَمَا نَعْلَمُ ضَرُورَةً إذَا أَخْبَرَنَا
النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُنْصَرِفُونَ فِي طَرِيقِ الْجَامِعِ قَدْ
صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ ، أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَ
خَبَرُهَا عَلَى صِدْقٍ ، وَإِنْ
لَمْ يُقْطَعْ بِصِحَّةِ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِعَيْنِهِ ، إذَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَهُمْ ،
وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِاضْطِرَارٍ : أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ فِي
كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ
وَرَوَتْهُ ، ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
كَانَ يَكُونُ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ ، يُخْبِرُ بِهِ
الْخَاصَّ مِنْ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ نَقْلُهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ
، وَلَا يُشِيعُهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ، عَلَى مَا كَانَ يَحْدُثُ مِنْ
الْحَوَادِثِ ، وَيُبْلَى بِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ ،
فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مَوْقُوفَةً عَلَى
مَنْ بُلِيَ بِهَا ، دُونَ كَافَّةِ النَّاسِ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ
ذَلِكَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ حُكْمِهِ ، لَمَا أَخْبَرَ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ إشَاعَتِهِ وَإِظْهَارِهِ
لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ الْحُكْمُ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكِلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِ
رَأْيِهِمْ ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُمْ إلَى الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْدَعَهُ
الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ ، وَمَنْ لَا يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ .
وَمِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ ، وَأَتْبَاعِهِمْ ،
فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ .
وَاَلَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ
مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ ، وَالْعَمَلِ بِهَا
مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِهَا ، وَلَا رَدَّ لَهَا .
وَقَدْ أَوْرَدَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ ذَلِكَ
جُمَلًا .
مِنْهَا :
مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ :
كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ
غَيْرِي اسْتَحْلَفْته ، فَإِنْ حَلَفَ صَدَّقْته ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ : أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ
ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ يُصَلِّي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
، إلَّا غَفَرَ لَهُ اللَّهُ }
وَقَبِلَ أَبُو بَكْرٍ شَهَادَةَ الْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِي { إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ
}
وَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا "
وَقَبِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ }
وَقَبِلَ أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ ،
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ
مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } .
وَقَبِلَ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ ، وَالْمُغِيرَةِ ،
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ " .
وَقَبِلَتْ الْأَنْصَارُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ .
وَقَبِلَ أَهْلُ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ حِينَ نَسْخِ
الْقِبْلَةِ ، فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ : { كُنَّا لَا نَرَى
بِالْمُخَابَرَةِ بَأْسًا ، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا ، فَتَرَكْنَاهَا }
وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْأَلُ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ أُمُورٍ ، كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا أَنَّهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ بِعِلْمِهَا .
وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ
مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ جَرَى أَيْضًا أَمْرُ التَّابِعِينَ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ فَاجِرَةٌ ، قَلِيلَةُ الْفِقْهِ
، جَاهِلَةٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَخَالَفَتْ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ ،
وَسُنَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ فِي ذَلِكَ ، إلَى
آرَائِهِمْ ، وَعَارَضُوهَا بِنَظَرٍ لَوْ انْفَرَدَ
عَنْ مُعَارَضَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَمَا أَمْكَنَهُمْ بِهِ
تَصْحِيحُ مَقَالَتِهِمْ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى
قَبُولِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
تَفَرُّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِوَايَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، خَاصَّةً دُونَ
غَيْرِهِ ، وَدُعَاءُ النَّاسِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرًا
لَأَنْكَرُوهُ عَلَى رُوَاتِهَا ، وَمَنَعُوهُمْ مِنْهَا ، إذْ كَانُوا كَمَا
وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ } .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الَّذِي رَوَيْته عَنْ
الصَّحَابَةِ فِي تَثْبِيتِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ
الْآحَادِ :
هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَكَيْفَ جَعَلْته
أَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى خَصْمِك وَهُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ
الَّتِي نُنَازِعُك فِيهَا .
قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ وَظُهُورَهُ فِي الْأُمَّةِ وَتَلَقِّيَهُمْ
إيَّاهُ بِالْقَبُولِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَالثَّانِي : أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا كَوْنَ ذَلِكَ
وَوُجُودَهُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ كُلِّ
خَبَرٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ
الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، ( إلَّا ) أَنَّهُ مَعْلُومٌ
بِاضْطِرَارٍ : أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِي بَعْضِ مُخْبَرَاتِهَا
، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ .
وَلَعَلِمْنَا بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حَوَادِثِ الْمَسَائِلِ
، وَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِعَيْنِهِ فِيهَا .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى ذَلِكَ
أَيْضًا : بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ إذَا حَدَثَتْ لَهُنَّ
حَوَادِثُ فِيمَا خَصَّهُنَّ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ : أَنَّ الَّذِي كَانَ
يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ
أَزْوَاجُهُنَّ ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُنَّ ، وَأَنَّهُنَّ كُنَّ يَقْتَصِرْنَ
فِيهَا عَلَى أَخْبَارٍ مِنْ خَبَرِهِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَلَمْ يَكُنْ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكَلِّفُهُنَّ الْحُضُورَ لِذَلِكَ ، فَدَلَّ
عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ .
وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ
: اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْمُسْتَفْتِي بِمَا
يُخْبِرُ بِهِ الْمُفْتِي ، مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَعَلَى أَنَّ عَلَى
الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ
بِحُكْمٍ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ ، وَقَدْ ضَمِنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ
عَنْ اعْتِقَادِهِ ، وَمَذْهَبُهُ الْحُكْمُ الَّذِي أَمْضَاهُ عَلَيْهِ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ
مَا أَظْهَرَ لَمَا جَازَ حُكْمُهُ ، وَقَدْ قَبِلَ الْجَمِيعُ خَبَرَهُ عَنْ
اعْتِقَادِهِ ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، فَصَارَ أَصْلًا فِي
قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ ، عَلَى
الشَّرَائِطِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهُ عَلَيْهَا .
وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ
الْمُفْتِي ، وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَخْبَرَا
عَنْ رَأْيِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا ، فَإِذَا أُخْبِرَ حُكْمَ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ ، فَهُوَ أَوْلَى ( مِنْ قَبُولِ ) خَبَرِهِمَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ : إنَّ
هَذَا أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ : كَيْتَ
وَكَيْتَ ، لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا
قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي لَزِمَ السَّامِعَ حُكْمُهُ ، وَالْعَمَلُ بِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي
لِلْمُفْتِي : إنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْقُرْآنِ ، لَزِمَهُ قَبُولُ
قَوْلِهِ ، وَأَنْتَ لَا تُثْبِتُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرْت
.
قِيلَ لَهُ : لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ
بِهِ ، وَأَمَّا الْحُكْمُ : فَإِنِّي أُثْبِتُهُ ، وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ
لَا فِي غَيْرِهِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُ
خَبَرِ الْمُفْتِي ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ
الْحُكْمِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَأَمَّا
أَهْلُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ مَتَى فَقَدُوا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فِي
إثْبَاتِ الْحُكْمِ ، رَجَعُوا إلَى اسْتِعْمَالِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ .
قِيلَ لَهُ
: إنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى
الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ الظَّنِّ .
وَالْأَثَرُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَرَدَ مِنْ
طَرِيقِ الْآحَادِ ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَقُولُ هَذَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى ،
أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي الِاجْتِهَادِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا كَانُوا
يَفْزَعُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَثَرِ عَنْ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَلَمْ يَكُونُوا
يَسْتَعْمِلُونَ النَّظَرَ مَعَ الْأَثَرِ ، وَقَدَّمْنَا الْأَثَرَ عَلَيْهِ
بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَيْهِ
.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا
مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا
تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ } وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ ، فَانْتَفَى قَبُولُهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ
لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا
} .
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ قَائِلِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى
حُسْنِ الظَّنِّ بِرَاوِيهِ .
وَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ
الْحُكْمَ بِالظَّنِّ ، فَانْتَفَى بِهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ فِي ( بَدْءِ دُعَائِهِ ) النَّاسَ إلَى التَّصْدِيقِ
بِثُبُوتِهِ ، إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ
الْمُوجِبَةِ
لِصِدْقِهِ ، فَمَنْ دُونَهُ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ
لَا يَقْبَلَ خَبَرًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى
صِدْقِهِ ، وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنْ قَائِلِهِ
بِلَا دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ ، لَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمُخْبِرِ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ ، إذْ لَمْ
يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ
لِصِدْقِهِ ، وَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ غَيْرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى
صِدْقِهِ .
وَالْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّهُ
لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَذَلِكَ :
أَنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حُكْمٌ يُعْلَمُ مِنْ
حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِقَبُولِهِ ،
وَالْحُكْمَ بِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْحُكْمَ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَإِنَّهُ قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ
حَقٍّ ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا حُكْمٌ بِالظَّنِّ ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ
الْمُوجِبَةَ لِلْحُكْمِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِلُزُومِ
قَبُولِهِ ، فَهُوَ حُكْمٌ بِعِلْمٍ
كَمَا نَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ :
إنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ ، وَإِنَّهُ اتِّبَاعُ ظَنٍّ بِلَا حَقِيقَةٍ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ
صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِهَا
وَالْحُكْمِ بِهَا ، كَذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ
تَعَالَى بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ ، وَحَكَمَ بِالْحَقِّ دُونَ الظَّنِّ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْعِلْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : عَلَى الْحَقِيقَةِ
.
وَالْآخَرُ : حُكْمُ الظَّاهِرِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - وَأَنَّهُ يُسَمَّى عِلْمًا
: قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّا
لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فِي ضَمَائِرِهِنَّ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى
مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِنَّ عِلْمًا ، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ
إخْوَةِ يُوسُفَ : { إنَّ ابْنَك سَرَقَ ، وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا
، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } فَسَمَّوْا مَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ
مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْبِهِ وَحَقِيقَتِهِ عِلْمًا ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ يَسْرِقُ فِي الْحَقِيقَةِ ، { وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ ، يُؤْخَذُ
مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } فَسَمَّى إخْبَارَهُمْ
إعْلَامًا ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ .
وَكَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِحَقٍّ ، حَكَمْنَا
بِقَوْلِهِمْ بِظَاهِرِ
الْعِلْمِ ، حَسَبَ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ
صِدْقِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعِلْمِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَلَبَةِ
الظَّنِّ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ ، وَكَانَ خَبَرُ
الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِنْدَنَا الْعِلْمَ
الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا
السَّائِلُ مَا يَنْفِي قَبُولَهُ ، إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ ضَرْبًا مِنْ
الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ ، لِيَكُونَ
الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا لِمُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ مُوجِبَةً لِمَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ - لَمَنَعَتْ قَبُولَ قَوْلِ
الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ ، وَلَسَقَطَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا ،
لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ .
وَمَعْلُومٌ : أَنَّ أَكْثَرَ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ
تَشْتَمِلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْخَبَرِ ، وَحَظْرِ مَا
كَانَ مُبَاحًا .
فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ
أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فِي إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا ، وَحَظْرِ مَا
كَانَ مُبَاحًا ، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا ،
بَطَلَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى
نَفْيِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ ، مِنْ حَيْثُ لَمْ
يُوجِبْ عِلْمًا لِمُخْبِرِهَا
.
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى
قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، لَمْ يَتَعَدَّدْ
ذَلِكَ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ }
وَنَحْوُ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ بِمَا يَجُوزُ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ ،
فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَقِّ ، وَكَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ
الْعَدْلُ مُوجِبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ ، أَوْجَبَ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي
ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِهِ بِعُمُومِهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَخْبَارُ الْآحَادِ
الْوَارِدَةُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّهَادَاتِ ،
وَالْإِقْرَارَاتِ ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ،
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا كُلِّفْنَا الشَّهَادَةَ فِي
الْإِقْرَارِ مِنْ عِلْمِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِهِمَا ،
وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ مَا كَانَ بِهِ الْإِقْرَارُ ، وَلَا عِلْمَ مَا قَامَتْ
بِهِ الشَّهَادَةُ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ } إنَّمَا كُلِّفْنَا فِيهِنَّ عِلْمَ ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ، لَا
عِلْمَ الْمُضَمَّنِ ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ ،
لِأَنَّا كُلِّفْنَا فِيهِ عِلْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَا تَقُولُوا عَلَى
اللهِ إلَّا الْحَقَّ } وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ
الْحَقِّ شَيْئًا }
قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
أَنَّا نَقُولُ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَلَا نُكَلَّفُ
فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ ، وَمِنْهَا مَا اقْتَصَرْنَا
فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ، وَمَا قَبِلْنَا فِيهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ - فَهُوَ مِنْ
هَذَا الْقَبِيلِ ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا
، وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ } { وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } لَا يَنْفِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي
الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ
كَمَا ظَنَّهُ هَذَا السَّائِلُ ، لَوَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ أَخْبَارَ
الْمُعَامَلَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا ، وَهِيَ مَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ : مِنْ حَظْرِ مُبَاحٍ ، أَوْ
إبَاحَةِ مَحْظُورٍ ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةً
مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، عَلِمْنَا أَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ
فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ إصَابَةَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ قَضِيَّةَ هَذَا السَّائِلِ يَمْنَعُ
الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولَ قَوْلِ الْمُفْتِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةَ
الْحُكْمِ ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا
حَكَمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ
فِيهِ ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إذَا
قَالَتْ : قَدْ طَهُرْتُ مِنْ حَيْضِي ، أَوْ قَدْ حِضْت ، فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ
وَحَظْرِهِ ، لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ هَؤُلَاءِ
مَقْبُولَةً مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُخْبَرَاتِهَا ، عَلِمْنَا بِهِ
فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ لَوْ كَانَتْ
مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ ، لَمَا سَاغَ الِاسْتِدْلَال
وَالنَّظَرُ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ
الشَّرْعِيَّ يُفْضِيَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْلِيبُ
الظَّنِّ وَأَكْثَرُ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الدِّينِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ : مِنْ أَنَّ
خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا
، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي
ذَكَرَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِمُقَارَنَةِ
الدَّلَائِلِ
الْمُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِهِ ، فَكَانَ غَيْرُهُ
بِمَثَابَتِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِهِ عَارِيًّا
مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ صِدْقَهُ
.
فَلَا مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ
بَيْنَهُمَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدْءٌ
فَإِنَّمَا كَانَ مَعَ دُعَائِهِ لِلنَّاسِ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ
، وَكُلِّ مَنْ دَعَا إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي
( كُلِّ مَا ) كَانَ سَبِيلُهُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ ،
فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْخَبَرِ مُجَرَّدًا دُونَ
مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ .
ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ بِالْمُعْجِزَاتِ
الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُ ، صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً لِصِدْقِ
إخْبَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ،
فَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُنَا بِهَا الْعَمَلُ دُونَ الْعِلْمِ .
فَالْمُسْتَدِلُّ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُعْتَقِدٌ لِمَا وَصَفْنَا .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ فِي
الشَّهَادَاتِ ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، فِي الْفُتْيَا ، وَحُكْمِ
الْحَاكِمِ ، وَنَحْوِهَا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ
الْجَمِيعِ ، مَعَ تَفَرُّدِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهَا ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ : إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا
يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا
يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ ، حَتَّى تُقَارِنَهُ دَلَائِلُ غَيْرِهِ تُوجِبُ
صِحَّتَهُ ، وَخَبَرُ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ ، دُونَ
مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ لَهُ
.
فَأَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُ
الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي لُزُومِ
الْعَمَلِ بِهِ ، دُونَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ ، وَالْقَطْعِ عَلَى
عَيْنِهِ .
وَقُلْنَا :
إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا
اقْتَضَى وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ ، وَمَا دَعَا إلَيْهِ ، احْتَاجَ
إلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ ، فَلَمْ نَجْعَلْ الْمُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَبَرِهِ
، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ظَنَّ السَّائِلُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ
بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ - أَعْلَى
مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ بِلَا
دَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ مُوجِبَةٍ لِتَصْدِيقِهِ ، وَامْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ
خَبَرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى
صِدْقِهِ .
فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ
لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا دَلَالَةَ مَعَهُ مُوجِبُ الْعِلْمِ
بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، فَهُوَ دَالٌّ : عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إلَى قَبُولِ
خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، وَرَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَنَا ذَاكِرُهَا ،
وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْقَوْلِ فِيهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ
الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَأَنَا أَذْكُرُ
مَوْضِعَ اعْتِرَاضَاتِهِ ، وَأُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ .
فَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى اسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } .
أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ ، وَأَنَّ
الْوَاحِدَ لَا يُسَمَّى طَائِفَةً ، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الَّتِي أَمَرَ
الطَّائِفَةَ بِالنُّفُورِ مِنْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ،
كَمَا لَوْ قَالَ : فَلَوْ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ ،
عُلِمَ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ : أَكْثَرُ مِنْ
ثَلَاثَةٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا قَوْلُهُ
: إنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَثْبِيتِهِ مِنْ
أَدِلَّةٍ ، وَلَا شَرْعٍ ، بَلْ الدَّلَائِلُ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَقَوْلِ
السَّلَفِ ظَاهِرَةٌ : أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَنَاوَلُ
اسْمَ الطَّائِفَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ : أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ .
فَقَدْ تَأَوَّلَ السَّلَفُ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْوَاحِدِ ، وَلَوْلَا أَنَّهَا اسْمٌ لَهُ لَمَا
تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ
الْخِطَابِ { فَأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فَدَلَّ : أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ
بِالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَ .
وَمَوْجُودٌ أَيْضًا : فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ :
أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ وَالْبَعْضِ وَالْخَبَرِ يَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ طَائِفَةٌ
مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ : أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا شَاءَ مِنْهَا ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ
كَثِيرٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ بَعْضُهَا ، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، كَانَتْ الطَّائِفَةُ
بِمَعْنَى الْبَعْضِ ، فَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ مِنْهَا .
وَقَالَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ -
الْوَاحِدَ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ : إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَبُولِ
خَبَرِهِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُدُولِ دُونَ
الْفُسَّاقِ .
وَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ
وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ
مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ
شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ، كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْعَدْلِ
بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ مِنْ الْحُكْمِ - دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَحْدَهُ
، وَإِنْ أُمِرَ بِالْأَدَاءِ لِيَنْتَشِرَ وَلِيَسْتَفِيضَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا
الْمَعْنَى فِيمَا سَلَفَ .
وَنَقُولُ أَيْضًا : إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ
بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ يَقْتَضِي قَبُولَ خَبَرِهِ ، وَمَا يُؤَدِّيهِ ،
كَمَا اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى
: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ،
وقَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا
، هَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ
الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ
قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ
بِالْأَدَاءِ ، وَهُمْ الْفُسَّاقُ ، كَمَا أَنَّ لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمَا
إقَامَةَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ ، إذَا دُعِيَا لِلشَّهَادَةِ
، ( وَأَنَّهُ وَاجِبُ ) التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَتِهِمَا ، وَلَا يَقْدَحُ وُجُوبُ
التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ ، فِي صِحَّةِ
الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ
كَمَا يَقُولُ فِي الْعُمُومِ :
إنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ ،
ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ مَا
تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ جُمْلَتِهِ
.
وَذَكَرَ : أَنَّهُ لَيْسَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعُمَّالَ عَلَى الْبُلْدَانِ وَاسْتِعْمَالُ السُّعَاةِ
عَلَى الصَّدَقَاتِ - دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ،
لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ
، لِأَنَّ قَبُولَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَاجِب عَلَى رَعِيَّتِهِ ، وَلَا يَصِحُّ
لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يُفَرِّقْ
أَحَدٌ بَيْنَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، وَبَيْنَ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِذْ قَدْ
وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِكَذَا ، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا - يُوجِبُ
الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ ، فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ بِمَنْزِلَتِهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانَ
يَبْعَثُهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُونُوا يَقْتَصِرُونَ فِي
تَعْلِيمِ رَعَايَاهُمْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ
، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِدُعَاءِ
النَّاسِ إلَى الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ إنْ أَجَابُوا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ
الصَّلَاةِ ، وَجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْكَافَّةُ
، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَعَايَا الْوُلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ أَخْبَارِ
الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْتِزَامُ
أَحْكَامِهِمْ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَتْ بِهِ
الْوُلَاةُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَذُكِرَ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ
وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ :
أَنَّهُ جَائِزٌ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُمْ
الْخَبَرُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى ، غَيْرِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي
حَكَى إخْبَارَهُ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِخَبَرِ
الْوَاحِدِ .
وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَحْتَمِلُ مَا
رُوِيَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخْبِرٌ آخَرُ وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ
بِذَلِكَ لَنُقِلَ ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إلَّا خَبَرُ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ ،
وَأَنَّ الصَّحَابَةَ صَارَتْ إلَى حُكْمِ خَبَرِهِ ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ
ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ .
وَلَوْ سَاغَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ :
إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ ،
وَإِنَّمَا رَجَمَهُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ شُهُودٍ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ، وَإِنْ
لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ
لِلزِّنَا وَحْدَهُ ، وَلَكِنْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَلِذَلِكَ
اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ
فَحَسْبُ ، لَكِنْ لِأَنَّ زَوْجَهَا خَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ
يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا ، وَلُزُومُ هَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ
السُّنَنِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي حُكْمٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ بِهِ لِحُدُوثِ حَادِثَةٍ - أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ
كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا.
وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ لَا
يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا ،
لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ جَمَاعَةٍ بِتَوَاتُرِ
الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ
فِي نَحْوِ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ .
وَذُكِرَ : أَنَّ رَاوِيَ خَبَرِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ
: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ، وَكَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ ، لِأَنَّهُ بَلَغَ
عَامَ الْخَنْدَقِ ، فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضْبِطُ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا لَا
مُتَعَلِّقَ لَهُ فِيهِ ، لِأَنَّ خَبَرَ مَسْجِدِ قُبَاءَ قَدْ رَوَاهُ
أَيْضًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْهَرَ فِي
الْأُمَّةِ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى إسْنَادٍ ، حَتَّى قَدْ صَارَ يُسَمَّى
مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا فِيهِ
بَعْضَ صَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَبَعْضَهَا إلَى الْكَعْبَةِ ، فِي
صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ .وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَئِذٍ -
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَضْبِطُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ
، لِأَنَّ سِنَّهُ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
سَنَةً وَنَحْوَهَا ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ
بِشَهْرَيْنِ ، وَكَانَ سِنُّ ابْنِ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ سَنَةً ، لِأَنَّهُ قَالَ : عُرِضْت يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَلَمْ
يُجِزْنِي ، وَأَجَازَنِي يَوْمَ أُحُدٍ ، وَبِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَمَنْ رَوَى : أَنَّ سِنَّهُ كَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ ،
لِأَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ ، وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
قَدْ رَوَى قِصَّةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّهَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ
لَمَا رَوَاهَا ، وَلَا قَطَعَ بِهَا ، وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا
يَرْوِي مَا يَرْوِيهِ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
، أَوْ مِنْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ ، هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الذُّرْوَةِ
الْعُلْيَا مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ ، وَيُقَالُ : إنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمَاعًا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا ، وَالْبَاقِي
سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يُطْعَنْ فِي رِوَايَتِهِ لِمَا رَوَاهُ سَمَاعًا
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِغَرِهِ ، بَلْ قَدْ
قَبِلَهُ النَّاسُ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا .
رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي صِفَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَأَحْكَامِهَا ، فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَاتَ
فِيهَا عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ خَالَتُهُ - لِيَعْرِفَ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ ،
وَكَانَ أَصْلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا ،
وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَجْلِ صِغَرِهِ .
وَمِمَّنْ كَانَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَرَوَى عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ ، فَلَمْ
يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَتِهِ ، وَبَيْنَ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ :
زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ،
وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيمَا يَرْوِيهِ
الصَّحَابِيُّ بِالسِّنِّ فِي وَقْتِ الْقِصَّةِ الَّتِي يَحْكِيهَا .
وَذُكِرَ : أَنَّ الْأَنْصَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَاقُوا
شَرَابَهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ مُخْبِرٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، عَلَى وَجْهِ
التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ ، كَمَا كَسَرُوا الْأَوَانِيَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَجُوزُ
حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ مَالًا لَهُمْ قَبْلَ
سَمَاعِ الْخَبَرِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ قَدْ أَوْجَبَ عِنْدَهُمْ
تَحْرِيمَهُ لَمَّا أَسْرَعُوا إلَى إتْلَافِهِ ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْجِرَارَ
تَأْكِيدًا لِأَمْرِ التَّحْرِيمِ ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعَادَةِ فِي
شُرْبِهَا ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَقِّ
رَوَايَا الْخَمْرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صَبِّهَا ،
تَأْكِيدًا لِأَمْرِ تَحْرِيمِهَا ، وَتَغْلِيظًا
عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ عَادَاتِهِمْ عَنْهَا .
وَذُكِرَ فِي قَبُولِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي { تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ
زَوْجِهَا } : أَنَّهُ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَكَانَ صَغِيرًا
فِي عَهْدِ عُمَرَ .
وَمَعَ ذَلِكَ إنَّ الضَّحَّاكَ ذَكَرَ : أَنَّ ذَلِكَ
كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ
مِنْ وَاحِدٍ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ اسْتَدَلَّ عُمَرُ بِذَلِكَ عَلَى
صِدْقِهِ .
قَالَ أَبُوبَكْرٍ : أَمَّا كَوْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ ،
عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ ،
وَلَيْسَ يَقُولُ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَحَلَّ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ يُسَمَّى رَاوِيَةَ عُمَرَ ، وَكَانَ يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ :
مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِقَضَايَا عُمَرَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى
اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ .
فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الضَّحَّاكَ حَكَى لِعُمَرَ :
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ ، فَإِنَّ
الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا عِنْدَ عُمَرَ
وَقْتَ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ لِذَلِكَ ، إنَّمَا كَانُوا فِي قَبَائِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ
، وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا ذَكَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ
إلَيْهِ بِذَلِكَ ، فَكَانَ غَائِبًا عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ الْقِصَّةِ ، وَتَرْكِ
النَّكِيرِ مِمَّنْ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَى رَاوِي الْخَبَرِ ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ
أَنَّ أَهْلَهَا الَّذِينَ كَانَتْ الْقِصَّةُ فِيهِمْ كَانُوا حَضَرُوا عِنْدَهُ
وَقْتَ رِوَايَتِهِ .
وَذُكِرَ فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ : أَنَّ عُمَرَ لَمْ
يَقْضِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ
وُلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَحْرَيْنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا تَظَنِّي
وَحُسْبَانٌ ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ ، وَلَا بِرِوَايَتِهِ ، وَلَا
نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ : أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْبَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ ، وَذَكَرَ
: أَنَّ رُجُوعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ الْحَائِضَ
تَنْفِرُ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ ، حِينَ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ
عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ : أَنَّهُ جَائِزٌ
أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ
سَلَمَةَ قَدْ أَخْبَرَاهُ جَمِيعًا
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ
أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاعْتِبَارَ .
وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ
مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ
مِمَّا يَرْوِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : جَائِزٌ أَنْ
يَكُونُوا جَمَاعَةً تَوَاتَرَ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِهَا ، فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِهِ
، فَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَهُ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ ،
فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْوِهِ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَذَكَرَ
أَخْبَارًا أُخَرَ اسْتَدَلَّ بِهَا مُثْبِتُو خَبَرِ الْوَاحِدِ بِتَنَاوُلِهَا
عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي
إفْسَادِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَتَكْرَارِهِ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ،
وَنَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } ) قَالَ : وَنَزَلَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
، حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُصَدِّقًا .
عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ ، فَجَاءَ
وَادَّعَى : أَنَّهُمَا أَرَادُوا قَتْلَهُ ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
قَبُولِ قَوْلِ الْوَلِيدِ .
فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ فِسْقَهُ وَجَعْلَهُ فَاسِقًا بِإِخْبَارِهِ
بِالْكَذِبِ - فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَ
عَدْلًا مِنْهُ الظَّاهِرُ ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ فَسَقَ فِي
إخْبَارِهِ ، كَمَا فَسَقَ الْوَلِيدُ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى
مَا ذُكِرَ ، بَلْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ
عِنْدَهُ ،
فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ
وَحْدَهُ .
فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ
فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، وَمَقَادِيرِهَا ، وَمَا
يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ .
وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا
اسْتَعْمَلَهُ .
ثُمَّ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِسْقِهِ حِينَ
أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَذِبٍ ، أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ .
فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْيِ
قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ ؟
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ لَعَلَّهُ
قَدْ فَسَقَ فِي قَوْلِهِ .
قِيلَ لَهُ : فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَمْنَعُ قَبُولَ
خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُمَا قَدْ فَسَقَا ،
وَتَمْنَعُ فِي
قَبُولِ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا ، وَإِنْ كَانَ
الشُّهُودُ عُدُولًا عِنْدَنَا ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَسَقُوا ، فَهَذَا
اعْتِبَارٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ
.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ : أَنَّ
الشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ ،
وَأَنَّ الْوَاحِدَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِشَهَادَتِهِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ حُكْمُهُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ ، ثُمَّ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا
لِعِلَّةٍ تُوجِبُ قِيَاسَ الْأَخْبَارِ عَلَى الشَّهَادَاتِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَيْسَتْ
الشَّهَادَةُ أَصْلًا لِلْأَخْبَارِ ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى قَبُولِ
أَخْبَارِ الْعَبِيدِ ، وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ ، وَخَبَرِ النِّسَاءِ
وَحْدَهُنَّ .
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا : عَلَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ فِي
الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، إلَّا مِنْ الْأَحْرَارِ غَيْرِ
الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ ، وَأَنَّ ( شَهَادَةَ ) النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ
مَقْبُولَةٌ فِي الْوِلَادَةِ ، وَنَحْوِهَا ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَاتِ
لَيْسَتْ بِأَصْلٍ لِلْأَخْبَارِ
.
وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ أَصْلًا لِذَلِكَ لَوَجَبَ
أَنْ لَا يُقْبَلَ الْخَبَرُ فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةٌ ،
كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ ، وَلَوَجَبَ أَنْ
لَا يُقْبَلَ خَبَرُ النِّسَاءِ ، وَإِنْ كَثُرْنَ ، مَعَ الرِّجَالِ فِي
الْحُدُودِ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا ، فَدَلَّ عَلَى مَا
وَصَفْنَا : أَنَّ الْأَخْبَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالشَّهَادَاتِ .
وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ فِي الْأَخْبَارِ
، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ، فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ
النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ : أَنَّ الشَّهَادَاتِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي هَذَا
الْوَجْهِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي الْأَخْبَارِ ، فَدَلَّ عَلَى
صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا .
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ الشَّهَادَةَ
لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُعَايَنَةِ .
وَالْأَخْبَارُ يُقْبَلُ فِيهَا : فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ
، وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ
ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ ، وَالْخَبَرُ يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ السَّامِعِ وَإِنْ لَمْ
يَأْمُرْهُ بِالنَّقْلِ عَنْهُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَصِحُّ ،
إلَّا بِتَحْمِيلِ الشَّاهِدِ إيَّاهُ ، وَأَمْرِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، وَقَبِلَ خَبَرَ
الِاثْنَيْنِ ، بِأَخْبَارٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ الطَّرِيقِ
============
ج6.
اتصل بنا
| Other
languages | الصفحة الرئيسية
مكتبة القرآن
مكتبة علوم القران مكتبة الحديث
مكتبة العقيدة مكتبة الفقه مكتبة التاريخ
مكتبة الأدب
المكتبة العامة
كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول
المؤلف : الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
الَّتِي يَعْتَبِرُهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ .
بَلْ لَا يُمْكِنُهُ حَتَّى إثْبَاتُ خَبَرٍ يَرْوِيهِ
اثْنَانِ ، عَنْ اثْنَيْنِ ، حَتَّى يُبْلِغُوهُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي
اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ؟ مِنْهَا : أَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ { ذِي
الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ
أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
فَقَالَ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟
فَقَالَا : نَعَمْ } قَالَ : فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ لَمْ
يُوجِبْ حُكْمًا ، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُ حُكْمًا لَمَا احْتَاجَ إلَى مَسْأَلَةِ
غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ
.
فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا
شَرَائِطَ فِي قَبُولِهِ .
مِنْهَا :
أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا حَكَى شَيْئًا ذَكَرَ أَنَّهُ
كَانَ يَحْضُرُهُ جَمَاعَةٌ ، ثُمَّ لَمْ تَعْرِفْهُ الْجَمَاعَةُ كَانَ ذَلِكَ
عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ ، وَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ مِنْ هَذَا
الْقَبِيلِ ، فَامْتَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَخْفَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ ، وَيَنْفَرِدَ هُوَ
بِمَعْرِفَتِهِ دُونَهُمْ ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ غَيْرَهُ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْإِمَامِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ : إنَّك صَلَّيْت رَكْعَةً ، لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مَنْ
خَلْفَهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ ، أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خَبَرِهِ ، وَكَمَا
نَقُولُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ إذَا
لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَحْضُرَ
جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ لِطَلَبِ الْهِلَالِ ، فَيَنْفَرِدَ بِرُؤْيَتِهِ وَاحِدٌ
دُونَهُمْ ، مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي صِحَّةِ الْإِبْصَارِ ، وَاتِّفَاقِ هِمَمِهِمْ
فِي الطَّلَبِ .
وَذَكَرَ أَيْضًا : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمْ يُشْهِدْ فِي عُهُودِهِ وَالْإِقْطَاعَاتِ لِلنَّاسِ أَقَلَّ مِنْ
رَجُلَيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْأَخْبَارِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا
الْعُهُودُ وَالْإِقْطَاعَاتُ : فَإِنَّ فِيهَا حُقُوقًا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ
، كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَاحْتَاجَ إلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ
تَوْثِقَةً لَهُمْ ، وَحُجَّةً يَصِلُونَ بِهَا إلَى إثْبَاتِهَا بَعْدَ وَفَاةِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ
فِي شَيْءٍ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ كَتَبَ كُتُبًا فِي الْأَحْكَامِ ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا أَحَدًا ، نَحْوَ
كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ضُرُوبٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَكِتَابِهِ
إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّدَقَاتِ ،
وَكِتَابِهِ إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ ، وَكِتَابِهِ إلَى مُلُوكِ
الْآفَاقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا
شُهُودًا ، لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهَا كَانَ لِلْخَبَرِ ، لَا لِلشَّهَادَةِ
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ : أَنْ
لَا يَقْبَلَ خَبَرَ اثْنَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ : أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْتَصَرَ فِي كُتُبِ عُهُودِهِ وَإِقْطَاعَاتِهِ عَلَى
شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَحَسْبُ ، بَلْ الْمُسْتَفِيضُ : أَنَّهُ كَانَ يُشْهِدْ
فِيهَا جَمَاعَةً أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إشْهَادُهُ
عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ،
كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِنْ
فِعْلِ الْأَئِمَّةِ : بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حِينَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ ، أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا
السُّدُسَ .
وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ
مَعَك ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، فَحَكَمَ لَهَا بِالسُّدُسِ
، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
فِي الِاسْتِئْذَانِ ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَرَدَّ
خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْحَبْسِ ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي
إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا ، وَقَالَ : " لَا نَدَعُ
كِتَابَ رَبِّنَا ، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا ، بِقَوْلِ امْرَأَةٍ ، لَا أَدْرِي
أَصَدَقَتْ ، أَمْ كَذَبَتْ " وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُوجِبَةٌ فِي سَائِرِ
أَخْبَارِ الْآحَادِ .
وَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إلَى
الْمَدِينَةِ ، وَطَلَبَا مُخْبِرًا آخَرَ مَعَهُ ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ ذَكَرَ
: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى
الْمَدِينَةِ .
وَلَمْ يَقْبَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَزَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ ، خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ
الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ
الْأَشْجَعِيَّةِ ( وَ ) ذَكَرَ أَخْبَارًا مِنْ نَحْوِهَا ، لَمْ يَقْبَلْهَا
قَوْمٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا : عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا
رَدُّوهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ ، وَأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا
لَوْ كَانَ اثْنَيْنِ لَقَبِلُوهَا
.
وَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى : أَنَّ عُثْمَانَ
لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي سُورَتَيْ الْقُنُوتِ ، وَلَا
قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي إسْقَاطِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ ، { وَأَنَّ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ : لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ هِشَامِ بْنِ
حَكِيمٍ حِينَ سَمِعَهُ يَقْرَأُ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ ،
حَتَّى خَاصَمَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ : اقْرَأْ ، فَقَرَأَ ، فَقَالَ : هَكَذَا
أُنْزِلَتْ ، ثُمَّ أَمَرَ هِشَامًا فَقَرَأَ ، فَقَالَ : هَكَذَا أُنْزِلَتْ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَأَوَّلُ مَا
يُقَالُ فِي هَذَا : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْ قَالَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ
إثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِنَقْلِ
اثْنَيْنِ ، حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ أَقْصَاهُ ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ إذًا الِاحْتِجَاجُ
بِهِ فِي دَفْعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَاعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ .
فَإِنْ قَالَ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهَا بِنَقْلِ
اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ ، فَإِنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ ، فَيَجُوزُ
إثْبَاتُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ
.
قِيلَ لَهُ : فَإِذَا كَانَتْ أَخْبَارًا وَارِدَةً مِنْ
جِهَةِ الْآحَادِ وَقَدْ قَبِلَتْهَا الْأُمَّةُ وَأَثْبَتَتْهَا ، فَهَلَّا
اسْتَدْلَلْتَ بِذَلِكَ : عَلَى أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ أَخْبَارَ الْآحَادِ ؟
وَأَنَّهَا لَمْ تَعْتَبِرْ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ ؟ ثُمَّ نَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ لَيْسَ
فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ
قَبُولَ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَإِنَّمَا كَأَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ دَلَالَةً
عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَرَى قَبُولَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا ، وَلَا يَرَى
رَدَّهَا لِعِلَلٍ تُوجِبُ رَدَّهَا
.
فَأَمَّا مَنْ اعْتَبَرَ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ
الْآحَادِ شَرَائِطَ مَتَى خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تُوجِبْ قَبُولَهَا ، فَقَوْلُهُ
مُوَافِقٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ ، وَلَيْسَ فِي رَدِّ السَّلَفِ لِبَعْضِ
الْأَخْبَارِ مَا يُوجِبُ خِلَافَ قَوْلِهِ ، وَكُلُّ خَبَرٍ مِنْ ذَلِكَ رَدُّوهُ
فَهُوَ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ
الْآحَادِ ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ ،
لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْأَخْبَارِ ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ
الشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ لِلْعِلَلِ
الَّتِي تُوجِبُ رَدَّهَا ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ
الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ تَعْرِيَتِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ
الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يُثْبِتَ
عَنْهُمْ فِي رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرُوهَا : أَنَّهُمْ
رَدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ ، دُونَ أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ
أُخَرَ غَيْرِهَا ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي نَقُولُهُ .
ثُمَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرُ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ رَدِّهِمْ
لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أَوْجَبَتْ
رَدَّهَا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ سَقَطَ
احْتِجَاجُهُ بِهَا ، إذْ لَيْسَ هُوَ أَسْعَدَ بِدَعْوَاهُ هَذِهِ مِنَّا فِيمَا
ذَكَرْنَاهُ ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى خَصْمِهِ بِغَيْرِهَا
، وَعَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ظَاهِرَةٌ : عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوهَا
لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ قَبُولُ
أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ
مَا وَصَفْنَا .
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ كُلِّ خَبَرٍ
مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ تَعَرَّتْ مِمَّا رُوِيَ
عَنْهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، لَمَا دَلَّتْ : عَلَى أَنَّهُمْ
رَدُّوا مَا رَدُّوا مِنْهَا لِمَا ذَكَرَهُ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِلْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ : ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك ، حَتَّى
شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّ عِيسَى
بْنَ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمْ يَطْلُبْ مِنْ الْمُغِيرَةِ هَذَا إلَّا احْتِيَاطًا ، وَإِلَّا قَدْ ضَعُفَ
الْخَبَرُ عِنْدَهُ .إمَّا لِعِلَّةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
الْمُغِيرَةُ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ سَمِعُوهُ مَعَهُ ،
أَوْ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ
بِالْمَدِينَةِ ، بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَلَمْ تَكُنْ
طَالَتْ الْمُدَّةُ .
وَلَا يُمْكِنُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ
تَفَرَّقَ مَنْ حَضَرَهُ وَعَلِمَهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنْ تَأْتِنِي
بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْعُدْ ، أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنْ
يَكُونَ رَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهُ ، لَوْ قَدْ
زَالَتْ لَقَدْ كَانَ خَبَرُهُ عِنْدَهُ مَقْبُولًا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَضَى
بِقَضِيَّةٍ بَيْنَ قَوْمٍ فَقَالَ بِلَالٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَشْهَدُ أَنَّهُمْ
اخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى فِي
ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَرَدَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَنَقَضَ
قَضَاءَهُ ، وَقَضَى بَيْنَهُمْ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَدْ قَضَى أَبُو بَكْرٍ بِخَبَرِ بِلَالٍ وَحْدَهُ ،
وَنَقَضَ بِهِ قَضَاءً كَانَ قَضَى بِهِ ، فَلَوْ لَمْ
يَكُنْ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ عِلَّةٌ لَيْسَ فِي خَبَرِ بِلَالٍ مِثْلُهَا
لَأَجْرَاهُمَا مَجْرًى وَاحِدًا
.
وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
فِي الِاسْتِئْذَانِ - فَإِنَّ وَجْهَهُ : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى
مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَاسْتَنْكَرَ
وُرُودَهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي
يُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ
الْهِلَالِ ، وَخَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ ،
أَوْ فِي عَرَفَاتٍ ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ ، فَلَا يُخْبِرُ أَحَدٌ بِمِثْلِ
خَبَرِهِ فَنَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ .
وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي
الْجَدِّ حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ ( بْنُ )
مَسْلَمَةَ ، فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ - كَانَ وَجْهُهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي تَثَبُّتِ أَبِي بَكْرٍ
فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ ، فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ .
عَلَى ( أَنَّ ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ : أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي خَبَرِ
حُكْمِ الْجَنِينِ مُضْطَرِبٌ ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
وَهُوَ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ ، وَلَا كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِهِ أَنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْ {
عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أُذَكِّرْ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ شَيْئًا ، فَقَامَ إلَيْهِ حَمَلُ بْنُ
مَالِكٍ فَقَالَ : كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ
الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ } .
فَقَالَ عُمَرُ : " كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي
مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا
" .
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا -
لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا
.
فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ
وَقَدْ قَبِلَهُ عُمَرُ وَعَمِلَ بِهِ - فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ : أَنَّهُ
سَأَلَ الْمُغِيرَةَ ، مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنْ
كَانَ خَبَرُ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ مُقَدَّمًا لِخَبَرِ
حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ، فَكَيْفَ سَأَلَ النَّاسَ بَعْدَ
ذَلِكَ عَنْ قَضِيَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْخَبَرِ ، مَعَ
تَقَدُّمِ سَمَاعِهِ لِحُكْمِهِ ، وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِخَبَرِ اثْنَيْنِ ؟
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْخَبَرِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ سُؤَالٌ عَنْ
الْمُغِيرَةِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ
وَأَمَّا خَبَرُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّمَا
رَدَّهُ عُمَرُ ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خِلَافَ الْكِتَابِ ، فِي إبْطَالِهِ
السُّكْنَى ، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } .
فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّهَا قَدْ أَوْهَمَتْ فِي
خَبَرِهَافِي إبْطَالِ السُّكْنَى ، وَكَانَتْ النَّفَقَةُ بِمَنْزِلَةِ
السُّكْنَى - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهَا ، وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ .
وَعَلَى أَنَّهُ : قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ
" أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَعَثَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يَقُولُ : لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ } رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ ،
فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، لَا
لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي
رَدِّ خَبَرِهَا : أَنَّهُ لَا يَدْرِي صَدَقَتْهُ أَمْ كَذَبَتْ .
فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي الِاعْتِلَالِ لِرَدِّهِ
عَلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا ،
وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا ، لِخَبَرِ مَنْ يَجُوزُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فِي
خَبَرِهِ ، وَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ ، لَا يَسَعُ
الشَّكُّ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يُعْتَرَضُ بِهَا
عَلَى الْكِتَابِ ، وَلَا عَلَى السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ ،
وَعَلَى أَنَّ جَوَازَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْمُخْبِرِ بِانْفِرَادِهِ
لَوْ كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ - لَوَجَبَ رَدُّ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ أَيْضًا
لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَلَوَجَبَ رَدُّ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا أَيْضًا لِذَلِكَ .
وَأَمَّا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ
فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ - فَإِنَّ عُثْمَانَ
ذَكَرَ :
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْمَعَهُ فِي
رَدِّهِ ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ أَمَرَهُ
بِرَدِّهِ ، وَلَوْ كَانَا هُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يُطْمِعُهُ فِي رَدِّهِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّهُ - لَمَا جَازَ لَهُمَا أَنْ
يَرُدَّاهُ ، إذَا لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِذَلِكَ ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَلُّقٌ
بِمَا ذَكَرَهُ .
وَأَمَّا رَدُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِخَبَرِ أَبِي
سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ ، فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ
الْأَشْجَعِيَّةِ فَإِنَّ قِصَّةَ بِرْوَعَ قَدْ
شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْجَعَ ، مِنْهُمْ : أَبُو سِنَانٍ ، وَأَبُو
الْجَرَّاحِ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِهَا وَاحِدًا ، فَلَا
تَعَلُّقَ فِيهِ ، لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَعَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَرُدَّ
خَبَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ : لَا نَقْبَلُ شَهَادَةَ
الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ :
أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً - لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ لِكَثْرَةِ
وَهْمِهِمْ ، وَقِلَّةِ ضَبْطِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ أَعْرَابٌ ، فَكَانَ ذَلِكَ
إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي رَدَّ خَبَرَهُمْ لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ
مِنْ أُبَيِّ سُورَتَيْ الْقُنُوتِ ، وَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ
الرَّجُلِ الَّذِي قَرَأَ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ .
فَإِنَّ مِنْ أَصْلنَا : أَنَّا لَا نُثْبِتُ
الْقِرَاءَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ بِهِ فِيمَا
وَصَفْنَا .
فارغة
الْبَابُ الْخَمْسُوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِي قَبُولِ
شَرَائِطِ أَخْبَارِ الْآحَادِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي قَبُولِ شَرَائِطِ أَخْبَارِ
الْآحَادِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا وُجُوبَ الْعَمَلِ
بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الطُّرُقِ
الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَا ، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا
عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوهِ الْحِجَاجِ لَهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ
فَإِنَّا مَتَى عَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي قَبُولِ خَبَرٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَخْبَارِ
الْآحَادِ ، كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ الِاجْتِهَادَ ،
كَمَا نَقُولُ فِي الشَّهَادَاتِ : إنَّ ثُبُوتَهَا فِي الْجُمْلَةِ بِنَصِّ
الْكِتَابِ .
وَمَتَى عَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي شَهَادَةِ شُهُودٍ
بِأَعْيَانِهِمْ ، كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ شَهَادَتِهِمْ وَالْعَمَلُ بِهَا
الِاجْتِهَادَ ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ ، لَا حَقِيقَةَ الْعِلْمِ .
فَمَتَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَالَتُهُمْ
وَضَبْطُهُمْ لِمَا تَحَمَّلُوا ، وَإِتْقَانُهُمْ لِمَا أَوْجَبَ قَبُولَهَا
مِنْهُمْ .
وَمَتَى غَلَبَ فِي ظَنِّنَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَجَبَ رَدُّهَا ، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا قَبُولُهَا ، وَكَذَلِكَ
أَخْبَارُ الْآحَادِ ، يَجُوزُ رَدُّهَا لِعِلَلٍ ، إذَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهَا
مِنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبُ الظَّنِّ ، عَلَى جِهَةِ
حُسْنِ الظَّنِّ بِالرُّوَاةِ .
فَمِنْ الْعِلَلِ الَّتِي يَرُدُّهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا : مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ : ذَكَرَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
يُرَدُّ لِمُعَارَضَةِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ إيَّاهُ .
أَوْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فِيمَا
لَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي .
أَوْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ ، فَيَجِيءَ
خَبَرٌ خَاصٌّ لَا تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ .
أَوْ يَكُونَ شَاذًّا قَدْ رَوَاهُ النَّاسُ ،
وَعَمِلُوا بِخِلَافِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّمَا
مَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ لِنَصِّ الْكِتَابِ ( لَا ) يُوجِبُ الْعِلْمَ
بِمُقْتَضَاهُ .
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ :
مِنْ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، مِنْ
الْأَخْبَارِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ ، حَدِيثُ
فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : فِي إسْقَاطِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ }
وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } ظَاهِرُهُ
مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَمَا
رُوِيَ : أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَأَى
رَبَّهُ " يَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ }
وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ يَرُدُّهُ آيَةُ الرِّبَا ، وَحَدِيثُ مَانِعِ الزَّكَاةِ
: أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَشَطْرُ مَالِهِ .
وَحَدِيثُ : أَخْذُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَكْمَامِهَا :
أَنَّهُ يَعْنِي يَغْرَمُهَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ .
هَذِهِ الْأَخْبَارُ تَرُدُّهَا آيَةُ الرِّبَا .
وَكَذَلِكَ مُعَارَضَةُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ إيَّاهُ
، عِلَّةٌ تَرُدُّ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ، لِأَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ
مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ تُوجِبُ الْعِلْمَ ، كَنَصِّ الْكِتَابِ .
وَأَمَّا حُكْمُهُ فِيمَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ :
فَإِنَّمَا كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ مِنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الْكَافَّةَ عَلَى حُكْمِهِ ، فِيمَا كَانَ فِيهِ إيجَابٌ أَوْ حَظْرٌ
نَعْلَمُهُ ، بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا بِتَوْقِيفِهِ ،
وَإِذَا أَشَاعَهُ فِي الْكَافَّةِ وَرَدَ نَقْلُهُ بِحَسَبِ اسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ .
فَإِذَا لَمْ نَجِدْهُ كَذَلِكَ
عَلِمْنَا : أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ
مَنْسُوخًا ، أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا كَانَ
هَذَا وَصْفَهُ : أَنْ يَخْتَصَّ بِنَقْلِهِ الْأَفْرَادُ دُونَ الْجَمَاعَةِ ،
كَمَا قُلْنَا فِي أَهْلِ مِصْرٍ إذَا طَلَبُوا الْهِلَالَ ، وَلَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ
: إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي رُؤْيَتِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ( صَحِيحًا ) لَمَا جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ
بِرُؤْيَتِهِ دُونَ الْكَافَّةِ
.
وَلَوْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ، وَجَاءَ مِنْ
خَارِجِ الْمِصْرِ قُبِلَ خَبَرُهُ
.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ فِتْنَةٍ
وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ تَفَانَى فِيهَا الْخَلْقُ ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُ
خَبَرِهِ دُونَ نَقْلِ الْكَافَّةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ : إنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ
غَيْرُهُ بِذَلِكَ ، مَعَ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ
أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى خَبَرِهِ ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ صَلَّى بِآخَرَ فَلَمَّا
سَلَّمَا ، قَالَ لَهُ : سَهَوْت : وَإِنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً ، كَانَ يَجِبُ
عَلَيْهِ قَبُولُ خَبَرِهِ ، إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ : أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ
صَلَاتَهُ .
وَمِمَّا وَرَدَ خَاصًّا مِمَّا سَبِيلُهُ أَنْ
تَعْرِفَهُ الْكَافَّةُ : مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : أَنَّهُ قَالَ : { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ
عَلَيْهِ } .
فَهَذَا الْخَبَرُ إنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ اقْتَضَى
بُطْلَانَ الطَّهَارَةِ إلَّا مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا ، وَلَوْ
كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهَا - تَعْرِفُهُ الْكَافَّةُ ، كَمَا عُرِفَتْ سَائِرُ
فُرُوضِهَا ،لِعُمُومِ الْحَاجَةِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ .
وَكَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ ، وَمَنْ حَمَلَهُ
فَلْيَتَوَضَّأْ } .
وَنَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، وَمِنْ
مَسِّ الْمَرْأَةِ ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ ، وَمَا رُوِيَ فِي
الْجَهْرِ : بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ ثَابِتَةً لَنَقَلَهَا
الْكَافَّةُ .
وَمِثْلُهُ : حَدِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ
، لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَبَرِ
ذِي الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ حَتَّى
سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ لَهُمَا :
أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ } ، لِأَنَّهُ
يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ بِعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ
، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ
: سَهَوْت ، وَإِنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً وَاحِدَةً ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى
قَوْلِهِ ، إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ مَعَ جَمَاعَةٍ غَيْرَهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْحَيْضُ مِمَّا تَعُمُّ
بَلْوَى النِّسَاءِ بِهِ ، وَلَمْ يَرِدْ النَّقْلُ مُسْتَفِيضًا بِمِقْدَارِهِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ :
بِأَنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ، وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُ
ذَلِكَ
ثَلَاثَةٌ ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ ، وَعَلَى أَنَّ
الْمُتَعَارَفَ مِنْهُ سِتٌّ ، أَوْ سَبْعٌ ، كَمَا { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ : تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ، كَمَا
تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ } وَهَذَا الْمُعْتَادُ مِنْهُ قَدْ وَرَدَ ثُبُوتُهُ
وَكَوْنُهُ حَيْضًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ : عَلَى
أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ حَيْضًا ، وَكَذَلِكَ الثَّلَاثَةُ ، وَالْعَشَرَةُ ،
مُتَّفَقٌ عَلَى : أَنَّهَا حَيْضٌ ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَارِجٌ
عَنْ الْعَادَةِ ، فَجَائِزٌ أَنْ لَا يَرِدَ النَّقْلُ بِنَفْيِهِ أَوْ إيجَابِهِ
مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّلْبِيَةِ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ كَثْرَةِ
الْجَمْعِ هُنَاكَ
قِيلَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ :
أَنَّهُ لَمْ يُلَبِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَرَوَى جَمَاعَةٌ : { أَنَّهُ كَانَ
يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } ،
وَفِعْلُ التَّلْبِيَةِ هِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا
هُوَ فَضِيلَةٌ وَقُرْبَةٌ ، وَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
تَوْقِيفُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا لَهُ تَرْكُهَا رَأْسًا
، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فَعَلَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ ، مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْكَافَّةِ
؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَإِنَّمَا كَانَ
يُلَبِّي فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ ، فَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهَا إلَّا مَنْ
قَرُبَ مِنْهُ : مِثْلُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ ، وَمِثْلُ
ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرُبُ مِنْهُ .
وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا
الْأَصْلِ بِقَوْلِنَا فِي وُجُوبِ الْوِتْرِ ، وَوُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ
وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْجَنَابَةِ ، وَوُجُوبِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ،
وَنَحْوِهَا ، مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا
فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا قَدْ وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ
عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ : فِي أَنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَعَلَهُ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي
وُجُوبِهِ ، وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مَذْهَبَ بَعْضٍ عَنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ
فِيمَا قَدْ صَحَّ نَقْلُهُ مَصْرُوفَةٌ إلَى النَّدْبِ بِتَأْوِيلٍ ، وَإِنَّمَا
كَانَ كَلَامُنَا فِي نَقْلِ مَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ
الْأُمُورِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا
اعْتِبَارَ بِمَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوبِ اسْتِفَاضَةِ النَّقْلِ فِيمَا عَمَّتْ
الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنْ
يَخُصَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِتْقَانِ بِإِعْلَامِ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى
، حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إلَى الْكَافَّةِ قِيلَ لَهُ فِي هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا :
إنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ذَكَرْت كَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا ذَكَرْنَا ،
لِأَنَّهُ إذَا أَوْدَعَ ذَلِكَ عَامَّةَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ
أَصْحَابِهِ ، فَإِنَّمَا يُودِعُهُمْ إيَّاهُ لِيَنْقُلُوهُ إلَى الْكَافَّةِ ،
وَإِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَتَنْقُلُهُ الْكَافَّةُ أَيْضًا عَمَلًا ،
فَيَتَّصِلُ لِلنَّقَلَةِ وَيَسْتَفِيضُ ، فَقَضِيَّتُنَا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ
وُجُوبِ وُرُودِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ صَحِيحَةٌ فِيمَا كَانَ وَصْفُهُ مَا
ذَكَرْنَا .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا كَانَ مَبْعُوثًا إلَى الْكَافَّةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ حَاجَةَ
الْعَامِّيِّ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ كَحَاجَةِ
غَيْرِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَوْقِيفُ الْجَمَاعَةِ عَلَى
الْحُكْمِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِتَعْلِيمِ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ - الْخَاصَّةِ دُونَ الْكَافَّةِ .
فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا عَمَّتْ فِيهِ الْبَلْوَى ،
وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، سَبِيلُهُ : أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مِنْ طَرِيقِ
التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ
.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَعَمِلَ
النَّاسُ بِخِلَافِهِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
{ كَأَنْ يَقْنُتَ فِي الْمَغْرِبِ وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ } .
وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ ، فَهُوَ
حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ
{ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَنْ وَقَعَ
عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ : أَنَّهَا إنْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ ، وَعَلَيْهِ
مِثْلُهَا ، وَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا } .
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مَانِعِ الصَّدَقَةِ ، وَآخِذِ الثَّمَرَةِ
مِنْ أَكْمَامِهَا ، قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهَا ، قَالَ
عِيسَى بْنُ أَبَانَ : وَرَدُّ أَخْبَارِ الْآحَادِ لِعِلَلٍ عَلَيْهِ عَمَلُ
النَّاسِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ،
وَذَكَرَ أَخْبَارًا رَدَّهَا السَّلَفُ لِلْعِلَلِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا
، فَمِنْهَا : " رَدُّ عُمَرَ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ
ثَلَاثًا " لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَهُوَ فِي كِتَابِ
اللهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } فَاسْتَنْكَرَ
عُمَرُ انْفِرَادَ أَبِي مُوسَى بِمَعْرِفَةِ تَحْدِيدِ الثَّلَاثِ دُونَ الْكَافَّةِ
، مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَأَوْعَدَهُ حَتَّى حَضَرَ مَجْلِسَ
الْأَنْصَارِ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَعَرَفُوهُ ، وَقَالُوا : " لَا
يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا
" .
فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَخْبَرَهُ
بِذَلِكَ ، أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ ، وَلَا حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَانَ يَرَى
الْخَبَرَ الْخَاصَّ بَلْ كَانَ يَقْبَلُهُ مِنْهُمْ ، وَيَعْمَلُ بِهِ إذَا لَمْ
يَكُنْ فِيهِ عِلَّةٌ يُرَدُّ مِنْ أَجْلِهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ
أَبِي سَعِيدٍ حِينَ شَهِدَ لِأَبِي مُوسَى ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَبَرَ
الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ سَوَاءٌ فِي عُمُومِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ ،
وَشَرْطُك فِي مِثْلِهِ أَلَّا يُقْبَلَ إلَّا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَبَرِ
أَبِي سَعِيدٍ ، لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَنْ
الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ ، فَصَدَّقَ أَبَا سَعِيدٍ عَلَى
الْأَنْصَارِ فِي مَعْرِفَتِهِمْ لِصِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى ، فَصَارَ
كَأَنَّ الْأَنْصَارَ شَهِدُوا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ
أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ ، فَلِذَلِكَ عَمِلَ بِهِ وَقَبِلَهُ
وَرَدَّ عُمَرُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ " حَدِيثَ عَمَّارٍ فِي
التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ " وَكَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي
مِنْ أَجْلِهَا رَدَّهُ عُمَرُ : أَنَّ عَمَّارًا ذَكَرَ
أَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعَهُ شَاهِدًا لِتِلْكَ الْقِصَّةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ
عُمَرُ ، فَاتَّهَمَ وَهْمَ عَمَّارٍ فِيهِ ، مَعَ عَدَالَتِهِ وَفَضْلِهِ
عِنْدَهُ ، وَلَمْ يَرُدَّ خَبَرَهُ ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ فِي الرِّوَايَةِ ، لَكِنْ
خَافَ مِنْهُ الْغَلَطَ ، وَالْوَهْمَ فِيهَا .
وَمِثْلُهُ رَدُّ عُمَرَ ( لِقَوْلِ أَنَسٍ ) فِي
أَمَانِهِ الْهُرْمُزَانِ ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ حُكِيَ
عَنْهُ : أَنَّهُ أَمَّنَهُ ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ جَمَاعَةٌ غَيْرَهُ
، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ ذَاكِرًا لَهُ ، فَاسْتَنْكَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ هُوَ دُونَ
جَمَاعَتِهِمْ .
فَلَمَّا شَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْضَى أَمَانَهُ .
وَرَدَّ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ " حَدِيثَ
فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إسْقَاطِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا
" لِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ
.
( وَقَدْ رَدَّ ) ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ ،
ظَاهِرَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى { أَنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } وَعَارَضُوهُ بِقَوْلِ
اللهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَرَدَّتْ عَائِشَةُ
حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَهْلِ قَلِيبِ
بَدْرٍ ، وَأَنَّهُ قَالَ : إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ } وَعَارَضَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وَقَالَتْ : إنَّمَا قَالَ : { إنَّهُمْ
لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " مَنْ
زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَفَرَ " قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } ،
وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي { الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ }
وَقَالَ : ( إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ ) ،
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنَقَلَتْهُ الْكَافَّةُ ، لِعُمُومِ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ .
وَمَشَتْ عَائِشَةُ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَقَالَتْ :
" لَأُحَدِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ
فَلَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَ الْأُخْرَى } .
قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا مَذْهَبُ
التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدِّهَا
بِالْعِلَلِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانَ عَبْدُ اللهِ إذَا ذَكَرَ
لَهُمْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ {
إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ
حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } يَقُولُونَ : كَيْفَ
يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ بِالْمَدِينَةِ .
وَقَالَ قَيْسٌ الْأَشْجَعِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ
رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ " فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِمِهْرَاسِكُمْ هَذَا ؟ قَالَ : فَقَالَ :
أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكَ " وَرَوَى إنْسَانٌ لِلْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرَيْنِ : الذَّهَبِ ، وَالْمُعَصْفَرِ } فَقَالَ الْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ : " كَذَبُوا وَاَللَّهِ ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا : تَلْبَسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ ، وَتَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ " .
وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ : أَكْثَرَ ابْنُ خَدِيجٍ
عَلَى نَفْسِهِ ، وَاَللَّهِ لَيَكْرِنَّهَا كِرَاءَ الْإِبِلِ ، يَعْنِي فِي
رِوَايَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ }
وَقَالَ مُغِيرَةُ : ذُكِرَ لِإِبْرَاهِيمَ
مَا رَوَوْا فِي أُمِّ سُلَيْمٍ وَفِي قِصَّةِ ابْنِ
أَخِي ابْنِ أُبَيِّ الْقُعَيْسِ فِي رَضَاعِ الرَّجُلِ فَلَمْ يَرَهُمَا شَيْئًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرَ عِيسَى
هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَأَخْبَارًا أُخَرَ غَيْرَهَا مَعَهَا ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا
: عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ : رَدُّ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِالْعِلَلِ .
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذُكِرَ ،
لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ إجْمَاعُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ ، كَمَا
أُثْبِتَ بِإِجْمَاعِهِمْ لِمَا قَبِلُوهُ مِنْ الْأَخْبَارِ ، فِي لُزُومِ الْعَمَلِ
بِهَا وَالْمَصِيرِ إلَيْهَا .
فَمِنْ حَيْثُ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى قَبُولِ
أَخْبَارِ الْآحَادِ بِمِثْلِ الرِّوَايَاتِ
الَّتِي يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا رَدُّهُمْ لَهَا
لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، حُجَّةً فِي لُزُومِ قَبُولِهَا إذَا عَرِيَتْ
مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ
فِيمَا رَدُّوا مِنْهَا - حُجَّةً فِي رَدِّهَا ، لِلْعِلَلِ الَّتِي وَصَفْنَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِمَّا يُرَدُّ
بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ مِنْ الْعِلَلِ أَنْ يُنَافِيَ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ
الْعُقُولِ ، لِأَنَّ الْعُقُولَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَغَيْرُ جَائِزٍ انْقِلَابُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
وَأَوْجَبَتْهُ .
وَكُلُّ
خَبَرٍ يُضَادُّهُ حُجَّةٌ لِلْعَقْلِ فَهُوَ فَاسِدٌ
غَيْرُ مَقْبُولٍ .
وَحُجَّةُ الْعَقْلِ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ ، إلَّا أَنْ
يَكُونَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِوَجْهٍ لَا يُخَالِفُ بِهِ أَحْكَامَ الْعُقُولِ
، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ حَكَيْت
جُمْلَةَ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ
أَصْحَابِنَا ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ عِيسَى
رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ
فِي الْحَظْرِ ، أَوْ الْإِيجَابِ ، أَوْ فِي الْإِبَاحَةِ ، مَا قَدْ ثَبَتَ
حَظْرُهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، أَوْ حَظْرُ مَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ ، مِمَّا
كَانَ هَذَا وَصْفَهُ ، فَحُكْمُهُ جَارٍ عَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
فِي الْقَبُولِ ، أَوْ الرَّدِّ
.
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَبْقِيَةِ
الشَّيْءِ عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، أَوْ نَفْيِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا
فِي الْأَصْلِ ، أَوْ فِي اسْتِحْبَابِ فِعْلٍ ، أَوْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرَبِ
عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَنَا خَارِجٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ الَّذِي
قَدَّمْنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ ، وَلَا تَوْقِيفُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِنَصٍّ يَذْكُرُهُ
، بَلْ جَائِزٌ لَهُ تَرْكُ النَّاسِ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ
الشَّيْءِ مِنْ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ .
وَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبْيِينُ مَنَازِلِ
الْقُرَبِ وَمَرَاتِبِهَا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ لَنَا عَلَى كَوْنِهَا
قُرَبًا ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا مَقَادِيرَ ثَوَابِ
الْأَعْمَالِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ خَبَرٍ خَاصٍّ فِيمَا كَانَ هَذَا
وَصْفَهُ ، وَتَوْقِيفُهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَيْهِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ ، حَسْبَ
مَا يَتَّفِقُ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِ عَنْهُ ، أَوْ وُجُودُ سَبَبٍ يُوجِبُ ذِكْرَهُ
، فَيَعْرِفُهُ خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ ، وَيَنْقُلُوهُ دُونَ كَافَّتِهِمْ .
وَمِنْ نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي وُرُودِ خَبَرٍ خَاصٍّ فِيمَا
تَرَكُوا فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ : حَدِيثُ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ كُلِّ مَا لَا
يُوجِبُ حُدُوثُهُ الْوُضُوءَ ، مِنْ نَحْوِ خُرُوجِ اللَّبَنِ ، وَالدَّمْعِ ، وَالْعَرَقِ
، مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ .
وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ فَلَوْ كَانَ
ثَابِتًا ، لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفُ الْكَافَّةِ
عَلَيْهِ ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الْأَصْلِ عَلَى
نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْهُ .
فَإِذَا أَحْدَثَ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمَ وَجَبَ إعْلَامُهُمْ
إيَّاهُ ، لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ ، كَمَا وَقَفَ
عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ .
وَكَذَلِكَ خَبَرُ { تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } .
وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْعَامَّةِ
لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا
.
وَإِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
حُكْمُهُ أَنْ يَرِدَ بِالنَّقْلِ
الْمُتَوَاتِرِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأُمُورِ
الْمُسْتَحَبَّةِ ، وَتَفْضِيلُ الْأَعْمَالِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مِمَّا لَا
تَعَلُّقَ فِيهِ ، بِحَظْرٍ وَلَا إيجَابٍ : مَا يُرْوَى
عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي " الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ
وَأَمَامَهَا " وَفِي ( الْمُغَلِّسِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْإِسْفَارِ بِهَا )
وَفِي " عَدَدِ تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ ، وَمِقْدَارِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ
" وَفِي " فِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ ، تَارَةً فِي أَوَائِلِ
أَوْقَاتِهَا ، وَتَارَةً فِي أَوَاخِرِهَا " وَفِي " إدَامَةِ
التَّلْبِيَةِ إلَى أَنْ يَرَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ " وَفِي " مَسْحِ
بَعْضِ الرَّأْسِ فِي حَالٍ ، وَكُلَّهُ فِي أُخْرَى " .
فَهَذِهِ كُلُّهَا قُرَبٌ وَنَوَافِلُ .
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي
أَيُّهَا أَفْضَلُ ، فَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفُ
الْجَمِيعِ عَلَى الْأَفْضَلِ ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُسْتَفِيضًا فِي
الْكَافَّةِ ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ فَعَلَ هَذَا تَارَةً ، وَهَذَا تَارَةً ، عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ،
وَلِيُعَلِّمَهُمْ جَوَازَ الْجَمِيعِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ
بَعْضٍ ، فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا : يَجِبُ اعْتِبَارُ
أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا .
فارغة
الْبَابُ الْحَادِيْ وَالْخَمْسُوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِي
اعْتِبَارِ أَحْوَالِ أَخْبَارِ الْآحَادِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ أَحْوَالِ أَخْبَارِ
الْآحَادِ
قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَيُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَمْ يَتِمَّ وَهْمُهُ فِيهِ ،
لِأَنَّهُ كَانَ عَدْلًا .
وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَيُقْبَلُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الْقِيَاسُ ، وَلَمْ يُخَالِفْ
نَظَائِرَهُ مِنْ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ .
وَقَالَ
: وَلَمْ يُنَزَّلْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْزِلَةَ
حَدِيثِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ ،
لِكَثْرَةِ مَا نَكِرَ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِهِ ، وَشَكِّهِمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ رِوَايَتِهِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : " كَانُوا
يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَدَعُونَ " .
وَقَالَ : " كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ " .
وَلَمْ يَقْبَلْ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَتَهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ
النَّارُ } وَعَارَضَهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ قَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ "
إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ ، وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ ، وَإِنَّا نَدْهُنُ
بِالدُّهْنِ وَقَدْ
أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : يَا ابْنَ أَخِي ، إذَا
جَاءَكَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا
تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ
" .
وَقَالَ عِيسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ قِيلَ : إنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خِلَافُ رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ : سَمِعْت
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَسَأَلَهُ عَنْ التَّارِيخِ لِيَعْلَمَ
النَّاسِخَ ، وَلَمَّا لَجَأَ فِي رَدِّهِ إلَى الْقِيَاسِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ رَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمًا وَصَلَّى
وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } إلَّا أَنَّ احْتِجَاجَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ بِرَدِّ
ابْنِ عَبَّاسٍ
خَبَرَهُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ ، لِأَنَّ خَبَرَهُ
عِنْدَهُ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ - لَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ اللَّحْمُ مُبَيَّنًا مِنْ جُمْلَةِ مَا مَسَّتْ النَّارُ : فِي أَنْ لَا
وُضُوءَ فِيهِ ، وَيَكُونُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَهُ
فِيمَا عَدَا اللَّحْمَ ، فَلِمَا رَدَّ جُمْلَةَ الْحَدِيثِ لِمُخَالَفَتِهِ
لِقِيَاسِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ اللَّحْمِ وَمِنْ
الْحَمِيمِ ، ثَبَتَ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : رَدُّ خَبَرِ
أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْقِيَاسِ
.
" وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَمْشِي فِي الْخُفِّ
الْوَاحِدِ وَتَقُولُ : لَأُحَدِّثَن أَبَا هُرَيْرَةَ " .
وَقَالَتْ لِابْنِ أَخِيهَا : " لَا تَعْجَبْ مِنْ
هَذَا وَكَثْرَةِ حَدِيثِهِ .
إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ أَحْصَاهُ " .
وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ، وَجَمَاعَةٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ
، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِكَثِيرٍ مِنْهَا ، حَتَّى يَسْأَلُوا غَيْرَهُ ، فَإِذَا أَخْبَرَهُمْ
بِهِ غَيْرُهُ عَمِلُوا بِهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِيمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ فِي أَنَّهُ قَالَ : { وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ } : "
لَمْ يَنْتَظِرْ بِأُمِّهِ أَنْ تَضَعَ
" .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : جَعَلَ عِيسَى
رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ظَهَرَ مِنْ مُقَابَلَةِ السَّلَفِ لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ ، وَتَثْبِيتِهِمْ فِيهِ ، عِلَّةً لِجَوَازِ مُقَابَلَةِ
رِوَايَاتِهِ بِالْقِيَاسِ .
فَمَا وَافَقَ الْقِيَاسَ مِنْهَا قَبِلَهُ ، وَمَا
خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا قَدْ قَبِلَهُ
الصَّحَابَةُ فَيُتَّبَعُونَ فِيهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ
فِي ذَلِكَ كَحَدِيثِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ
الصَّحَابَةِ مِنْ التَّثَبُّتِ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ مُقَابَلَتُهُ بِالْقِيَاسِ
، مِثْلُ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِهِ ، فَجَعَلَ ذَلِكَ أَحَدَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ
لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ ، وَعَرْضِهِ عَلَى
النَّظَائِرِ مِنْ الْأُصُولِ ، فَإِنْ لَمْ تَرُدَّهُ
النَّظَائِرُ مِنْ الْأُصُولِ قَبِلَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ نَظَائِرُهُ مِنْ
الْأُصُولِ بِخِلَافِهِ - عُمِلَ عَلَى النَّظَائِرِ ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْخَبَرِ ،
كَمَا اعْتَبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ
بِمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظَائِرِ ، وَكَمَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ فِي مَشْيِهَا فِي
خُفٍّ وَاحِدٍ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
مَقْبُولٌ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي ،
كَالشَّهَادَاتِ ، فَمَتَى كَثُرَ غَلَطُ الرَّاوِي ، وَظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ
التَّثَبُّتُ فِي رِوَايَتِهِ ، كَانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلِاجْتِهَادِ فِي
مُقَابَلَتِهِ بِالْقِيَاسِ ، وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ .
وَحَكَى بَعْضُ مَنْ لَا يَرْجِعُ إلَى دِينٍ ، وَلَا مُرُوءَةٍ
، وَلَا يَخْشَى مِنْ الْبَهْتِ وَالْكَذِبِ : أَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ رَحِمَهُ
اللَّهُ طَعَنَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ رَوَى
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ :
" سَمِعْت النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : إنَّهُ { يَخْرُجُ مِنْ
أُمَّتِي ثَلَاثُونَ دَجَّالًا ، وَأَنَا أَشْهَدُ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
مِنْهُمْ } وَهَذَا كَذِبٌ مِنْهُ عَلَى عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ ، مَا قَالَهُ
عِيسَى ، وَلَا رَوَاهُ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ فِي أَبِي
هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِمَا ذَكَرْنَا : أَنْ نُبَيِّنَ عَنْ كَذِبِ
هَذَا الْقَائِلِ ، وَبَهْتِهِ ، وَقِلَّةِ دِينِهِ .
بَلْ الَّذِي ذَكَرَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ
: هُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ ، مَعَ تَقْدِيمِهِ الْقَوْلَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ
كُتُبِهِ بِأَنَّهُ عَدْلٌ ، مَقْبُولُ الْقَوْلِ وَالرِّوَايَةِ ، غَيْرُ
مُتَّهَمٍ بِالتَّقَوُّلِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا
أَنَّ الْوَهْمَ وَالْغَلَطَ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ مِنْهُ نَصِيبٌ ، فَمَنْ
أَظْهَرَ مِنْ السَّلَفِ تَثَبُّتًا فِي رِوَايَةٍ تَثَبَّتْنَا فِيهَا ،
وَاعْتَبَرْنَاهَا بِمَا وَصَفْنَا
.
فَإِنْ قِيلَ ، قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُ قَالَ : " يَزْعُمُونَ :أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ
عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي كُنْت امْرَأً
مِسْكِينًا ، أَصْحَبُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
مِلْءِ بَطْنِي ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ ،
وَإِنِّي شَهِدْت مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا
وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ : { مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي
، ثُمَّ يَقْبِضُهُ إلَيْهِ ، وَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي ، فَبَسَطْت
بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ ، حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ ، فَقَبَضْتهَا ، فَمَا نَسِيت شَيْئًا بَعْدَهُ } سَمِعْته
مِنْهُ .
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ حَفِظَ مَا سَمِعَهُ ،
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ،
فَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ :
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ : عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا
أَنْكَرُوا كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ
وَأَمَّا حِفْظُهُ لِمَا كَانَ سَمِعَهُ حَتَّى لَا
يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ
فَضِيلَةً لَهُ قَدْ اُخْتُصَّ بِهَا ، وَفَازَ بِحَظِّهَا مِنْ سَائِرِ
الصَّحَابَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ لَعَرَفُوا ذَلِكَ لَهُ ، وَاشْتَهَرَ
عِنْدَهُمْ أَمْرُهُ ، حَتَّى كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
مَنْزِلَتُهُ ، وَلَرَجَعَتْ الصَّحَابَةُ إلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ ،
وَلَقَدَّمُوهَا عَلَى رِوَايَاتِ غَيْرِهِ ، لِامْتِنَاعِ جَوَازِ النِّسْيَانِ
عَلَيْهِ ، وَجَوَازِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَكَانَ هَذَا التَّشْرِيفُ وَالتَّفْضِيلُ
الَّذِي اُخْتُصَّ بِهِ مُتَوَارَثًا فِي أَعْقَابِهِ ، كَمَا " خُصَّ
جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " وَخُصَّ " حَنْظَلَةَ
بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَسَّلَتْهُ
" .
فَلَمَّا وَجَدْنَا أَمْرَهُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ
بِضِدِّ ذَلِكَ ،لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ : عَلِمْنَا : أَنَّ
مَا رَوَى : فِي أَنَّهُ لَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ - غَلَطٌ .
وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ
رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا أَخْبَرَ {
لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } ثُمَّ رَوَى { لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ } .
فَقِيلَ لَهُ : قَدْ رَوَيْت لَنَا عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } .
فَقَالَ : مَا رَوَيْته .
وَلَا يَشُكُّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ : أَنَّ ذَلِكَ
مِمَّا قَدْ نَسِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ ، لِأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا
صَحِيحَتَانِ عَنْهُ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ :
أَنَّهُ بَسَطَ رِدَاءَهُ ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى
مَا سَمِعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ خَاصَّةً ، دُونَ غَيْرِهِ ، وَاَلَّذِي لَا
يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَيْسَ فِي
رُتْبَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ : فِي الْفِقْهِ ، وَالدِّرَايَةِ ،
وَالْإِتْقَانِ ، وَقُرْبِ الْمَحَلِّ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ : " جَالَسْتُ
عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَمَا سَمِعْتُهُ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَإِنَّهُ قَالَ
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اعْتَرَاهُ
السَّهْوُ وَالْعَرَقُ ثُمَّ قَالَ : أَوْ نَحْوَ هَذَا ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ
هَذَا ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَكَانَ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ الْعِلْمِ : يَتَهَيَّبُ الرِّوَايَةَ عَنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَنْ لَا يُدَانِيهِ وَلَا
يُقَارِبُهُ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَعْرِفَةٍ : أَنَّ رِوَايَةَ
أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ : فِي التَّثَبُّتِ ،
وَالْإِتْقَانِ ، وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي
هُرَيْرَةَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَرْوِي
عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَشْيَاءَ لَا تُعْرَفُ :
" لَئِنْ لَمْ تَكُفَّ عَنْ هَذَا لَأُلْحِقُك
بِجِبَالِ دَوْسٍ " .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلْجَيْشِ يُوَجِّهُ بِهِ ( أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا شَرِيكُكُمْ ) .
وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ
كَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَأَمْثَالِهِمْ ،
يَتَوَقَّوْنَ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا مِنْ الزَّلَلِ وَالْغَلَطِ .
وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ قَالَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ : " أَوْ
كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إذَا سُئِلَ أَنْ
يُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ مِنْ
ذَلِكَ ، وَقَالَ : " كَبِرْنَا وَنَسِينَا ، وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ " .
وَسَمِعَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ حَلَفَ
الزُّبَيْرُ بِاَللَّهِ : إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا قَالَ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ الزُّبَيْرُ : " هَذَا وَأَشْبَاهُهُ
يَمْنَعُنَا مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " .
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ : أَنَّهُ حَضَرَ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ
الْكِتَابِ ، فَلَمْ يَفْهَمْ الرَّجُلُ عَنْهُ ، وَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " كُنَّا
نَحْفَظُ الْحَدِيثَ - وَالْحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا إذَا رَكِبْتُمْ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ
فَهَيْهَاتَ " .
وَقَالَ بُكَيْر بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَشَجِّ ،
عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ : " اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَوَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَنُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا
الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ، ثُمَّ يَقُولُ "
أَخْبَرَ كَعْبٌ ، ثُمَّ نَفْتَرِقُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَنَسْمَعُهُمْ يَذْكُرُونَ
حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَعْبٍ ، وَحَدِيثَ
كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَهَذَا الَّذِي
ذَكَرْنَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَشْفَقُوا عَلَى
حَدِيثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ خَلَلٌ أَوْ
وَهْمٌ ، أَوْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ .
فَلِذَلِكَ أَمَرُوا بِالْإِقْلَالِ مِنْ الرِّوَايَةِ ،
إلَّا لِذَوِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ مِنْهُمْ ، وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ
وَالْغَلَطُ جَائِزًا عَلَى الرُّوَاةِ ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ إنْكَارُ
كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ ، كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ
وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا يَرْوِيهِ ، وَعَرْضِهِ عَلَى الْأُصُولِ وَالنَّظَائِرِ .
قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ كَانَ
الَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ مَجْهُولًا ، أَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي خَبَرِهِ ،
وَاتَّهَمُوا وَهْمَهُ ، نُظِرَ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ ، وَرُدَّ مِنْهُ مَا كَانَ
يُخَالِفُ نَظَائِرَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَالتَّأْوِيلِ ، وَجَازَ الِاجْتِهَادُ
فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ .
قَالَ :
وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ الثِّقَاتُ الْحَدِيثَ :
مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَغَيْرِهِ ، مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَرَوَاهُ ، وَلَمْ
يُعْرَفْ نَشْرُهُ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ فِيهِ
، وَالْحِفْظِ لَهُ ، مِثْلُ : مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَوَابِصَةِ بْنِ مَعْبَدٍ ،
وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ : حَدِيثُهُمْ عِنْدَنَا مَقْبُولٌ ، لِحَمْلِ
الثِّقَاتِ عَنْهُمْ .
وَلِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَخْبَارِهِمْ ،
فَيَرُدُّوا مِنْهَا مَا أَنْكَرُوا بِالتَّأْوِيلِ ، وَالْقِيَاسِ ،
وَالِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ ، فَرَدَّ بَعْضَهُ ،
وَقَبِلَ بَعْضًا ، فَقَبِلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ نَظَائِرُهُ مِنْ
الْأُصُولِ ، وَرَدَّ مِنْهُ
مَا كَذَّبَتْهُ نَظَائِرُهُ ، بِكَوْنِ أَخْبَارِ
هَؤُلَاءِ عِنْدَنَا كَأَخْبَارِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ ،
كَالشُّهُودِ ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ الْمُغَفَّلُ
الَّذِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْوَاضِحِ ، الَّذِي يَرَى الْحَاكِمُ :
أَنَّهُ يَضْبِطُ مِثْلَهُ ، وَيَرُدُّهُ فِي الْأَمْرِ الْمُشْكِلِ الَّذِي يَرَى
: أَنَّهُ
لَا يَضْبِطُ حِفْظَهُ ، وَالْقِيَامَ بِهِ ، أَجَازَ رَدَّ رِوَايَةِ
الْمَجْهُولِ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ ، وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي قَبُولِهَا
وَرَدِّهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَجْهُولَ مِنْ
أَهْلِ عَصْرِهِ ، أَوْ قُبَيْلَ عَصْرِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
الْمَجْهُولَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ : أَنَّ
الْمَجْهُولَ الَّذِي ذُكِرَ أَمْرُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ قُبَيْلَ ذَلِكَ
، فَهَذَا وَجْهُهُ عِنْدَنَا : أَنَّ الْقَرْنَ الرَّابِعَ مِنْ الْأُمَّةِ قَدْ
حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِظُهُورِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ ، بِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ ، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ } فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ
اسْتِعْمَالُهُ لِلْقِيَاسِ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ مِنْ هَذِهِ
الْجِهَةِ
وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَجْهُولُ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْ
صَحَابِيٍّ ، أَوْ تَابِعِيٍّ ، فَإِنَّ عِيسَى قَدْ ذَكَرَ : " أَنَّ
عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا رَدَّ خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ
الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ " لِأَنَّهُ كَانَ
خِلَافَ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ ، وَكَانَ سِنَانٌ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْحِفْظِ
وَالرِّوَايَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَاتُ
الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
مَعْرُوفًا بِتَحَمُّلِ الْعِلْمِ ، وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ ، وَقَبِلَهُ عَبْدُ
اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَفَرِحَ بِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مُوَافِقًا
لِرَأْيِهِ ، فَجَعَلَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ مَذْهَبَهُمَا فِي ذَلِكَ أَصْلًا
فِي جَوَازِ رَدِّ
رِوَايَةِ الْمَجْهُولِينَ مِنْ الرُّوَاةِ ،
لِمُخَالَفَتِهَا الْقِيَاسَ ، وَنَزَّلَ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مَنْزِلَةَ
أَخْبَارِ مَنْ شَكَّ النَّاسُ فِي خَبَرِهِ ، " وَاتُّهِمَ حِفْظُهُ "
عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ
كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ ، وَمُعَارَضَتِهَا بِالْقِيَاسِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَتَحْصِيلُ مَا
رَوَيْنَا عَنْهُ وَجُمْلَتُهُ
: أَنَّهُ نَزَّلَ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى مَنَازِلَ
ثَلَاثٍ : أَحَدُهَا : مَا يَرْوِيهِ عَدْلٌ مَعْرُوفٌ بِحَمْلِ الْعِلْمِ ،
وَالضَّبْطِ ، وَالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ يُنْكَرُ
مِنْ السَّلَفِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ ، فَيَكُونُ
مَقْبُولًا ، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مُعَارِضًا لِلْأُصُولِ الَّتِي هِيَ :
الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ ، وَالِاتِّفَاقُ .
وَلَا يُرَدُّ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ .
وَالثَّانِي :
مَا يَرْوِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ ضَبْطُهُ وَإِتْقَانُهُ
، وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّ الثِّقَاتِ قَدْ
حَمَلُوا عَنْهُ ، فَيَكُونُ حَمْلُهُمْ عَنْهُ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُ ، فَخَبَرُهُ
مَقْبُولٌ ، مَا لَمْ يَرُدَّهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ ، وَيُسَوَّغُ بِهِ رَدُّهُ ،
وَقَبُولُهُ بِالِاجْتِهَادِ .
نَحْوُ مَا ذَكَرَ عِيسَى مِنْ حَدِيثِ : وَابِصَةَ ،
وَابْنِ سِنَانٍ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ ، وَنُظَرَائِهِمْ ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ حَمْلَهُمْ الْعِلْمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ إيَّاهُ ،
إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ : أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ ، فَلَيْسَ
فِي تَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ مَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْهُمْ بِضَبْطِهِ
وَإِتْقَانِهِ .
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي
صِحَّةِ النَّقْلِ : أَعْنِي الْعَدَالَةَ ، وَالضَّبْطَ لِمَا نُقِلَ ، فَإِذَا
لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ضَبْطُ الرَّاوِي لِمَا رَوَاهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ
عَدَالَتُهُ - جَازَ لَنَا النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي ( قَبُولِ رِوَايَتِهِ )
وَرَدِّهَا .
وَالثَّالِثُ مَا : يَرْوِيهِ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ
شَكَّ السَّلَفُ فِي رِوَايَتِهِ ، وَاتَّهَمُوا غَلَطَهُ ، فَرِوَايَتُهُ
مَقْبُولَةٌ ، مَا لَمْ تُعَارِضْهُ الْأُصُولُ
الَّتِي قَدَّمْنَا ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ الْقِيَاسُ
أَيْضًا ، فَإِنَّهُ إذَا عَارَضَهُ الْقِيَاسُ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ
بِقِيَاسِ الْأُصُولِ ، فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يَدُورُ هَذَا الْبَابُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ( أَنَّ ) خَبَرَ
الْوَاحِدِ مَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ - كَانَ
كَالشَّهَادَةِ ، فَمَتَى عَرَضَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي
وَصَفْنَا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهَا وَقَبُولِهَا .
وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الرِّجَالِ : مَا
حَدَّثَنَا عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو
الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : {
تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا ، وَهُوَ مُحْرِمٌ } قَالَ عَمْرٌو فَقُلْتُ لِجَابِرٍ : إنَّ
ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، { أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ وَهُوَ حَلَالٌ } ، فَقَالَ لِي جَابِرٌ
: إنَّ زَيْدًا خَالُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا ، فَقُلْت وَهِيَ
خَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، فَقَالَ لِي : وَأَيْنَ تَجْعَلُ يَزِيدَ بْنَ
الْأَصَمِّ ؟ أَعْرَابِيًّا يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
" فَاعْتُبِرَ حَالُ هَذَا الرَّجُلِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ .
وَقَالَ عِيسَى أَيْضًا ، رَوَى رَجُلٌ مِنْ الثِّقَاتِ
الْمَعْرُوفِينَ خَبَرًا ، وَرَوَى ضِدَّهُ مَنْ قَدْ حَمَلَ
عَنْهُ الثِّقَاتُ ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفِ الضَّبْطِ
وَالْحِفْظِ .
جَازَ قَبُولُ رِوَايَةِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ
بِالْحِفْظِ اجْتِهَادًا ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يَذْكُرْ
هَاهُنَا جَهَالَةَ الرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ : أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ
بِالْحِفْظِ ، وَالْآخَرُ مَعْرُوفٌ بِالْحِفْظِ ، فَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا
قَدَّمْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا بُدَّ مِنْ
اعْتِبَارِ عَدَالَةِ النَّاقِلِ ، وَضَبْطِ مَا يَتَحَمَّلُهُ وَإِتْقَانِهِ ،
لِمَا يُؤَدِّيهِ .
كَمَا يُعْتَبَرُ أَوْصَافُ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا
الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ فِيمَنْ شَاهَدْنَاهُ ، وَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ
لَمْ نُشَاهِدْهُ ، فَإِنَّ نَقْلَ الْعُلَمَاءِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ
مِنْهُمْ فِيهِمْ تَعْدِيلٌ لَهُمْ ، وَلَيْسَ نَقْلُهُمْ عَنْ الْمَجْهُولِ -
وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا لَهُ - حُكْمًا مِنْهُمْ بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ ،
فَكَانَ أَمْرُهُ مَحْمُولًا عَلَى الِاجْتِهَادِ ، فِي قَبُولِ رِوَايَةٍ أَوْ رَدِّهَا .
وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ ، وَالْبَصِيرُ
وَالْأَعْمَى ، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي
قَبُولِهَا أَخْبَارَ الْآحَادِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ كَانُوا
يَسْأَلُونَ نِسَاءَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي
تَخُصُّهُنَّ ، هَلْ عِنْدَهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا
شَيْءٌ ؟ فَقَبِلُوا مَا يُورِدَنهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَانُوا
يَقْبَلُونَ مِنْ رِوَايَاتِ مَنْ كُفَّ بَصَرُهُ .
مِنْهُمْ : ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٌ وَوَاثِلَةُ بْنُ
الْأَسْقَعِ ، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ فِي نَظَائِرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى أَخْبَارًا
مُتَضَادَّةً اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى : وُقُوعِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي كَثِيرٍ
مِنْ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ .
مِنْهَا :
أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ :
أَنَّهَا كَانَتْ مُهِلَّةً بِالْعُمْرَةِ حِينَ حَجَّتْ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْهَا : أَنَّهَا كَانَتْ مُهِلَّةً بِالْحَجِّ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : " أَلَا تَعْجَبُ
مِنْ اخْتِلَافِ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ عُرْوَةُ : أَهَلَّتْ
بِالْحَجِّ .
وَرَوَى { أَنَسٌ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ } .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : " وَهُمْ أَنَسٌ ، إنَّمَا
أَهَلَّ بِالْحَجِّ " .
وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ ، عَنْ { أُمِّ
سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ
صَائِمٌ } رَوَى أَبُو قَيْسٍ قَالَ
: {
سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ : أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ ؟ فَقَالَتْ : لَا .
فَقُلْتُ :
إنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : إنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ
، فَقَالَتْ لَعَلَّهُ إنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا حُبًّا ، أَمَّا إيَّايَ
فَلَا } .
وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ ، مُسْتَدِلًّا
بِهَا عَلَى وُقُوعِ الْغَلَطِ مِنْ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ فِي الْأَخْبَارِ ،
وَأَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْإِقْدَامُ عَلَى إثْبَاتِ
سُنَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
الْوَارِدَةِ ، دُونَ عَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ
جَمِيعِهَا ، وَإِضَافَتُهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ .
فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِمَّا
قَسَمْنَا عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ
الْعَدْلُ الثِّقَةُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْ السَّلَفِ النَّكِيرُ عَلَيْهِ
فِي رِوَايَاتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ - قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { إنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } وقَوْله تَعَالَى
: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ : عَلَى أَنَّ مَنْ
عِنْدَهُ نَصٌّ مِنْ حُكْمِ اللهِ فَأَظْهَرَهُ ، فَقَالَ : هَذَا نَصُّ حُكْمِ
اللهِ تَعَالَى ، لَزِمَ قَبُولُ قَوْلِهِ ، إذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا ،
لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ : عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَا يُقْبَلُ
خَبَرُهُ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ بِالْقِيَاسِ ، مَعَ
أَمْرِ اللهِ تَعَالَى إيَّانَا بِقَبُولِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ
قِيَاسٍ مَعَهُ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْقَوْلَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ،
ثُمَّ يَتْرُكُونَهُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَبُولِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ حَمَلِ
بْنِ مَالِكٍ ، وَتَرْكِ رَأْيِهِ لَهُ ، لِأَنَّهُ قَالَ : " كِدْنَا أَنْ
نَقْضِيَ فِي مِثْلِهِ بِرَأْيِنَا ، وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِنَّ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ : لَوْلَا مَنْ
رَوَاهُ لَكَانَ رَأْيُنَا فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : {
كُنَّا لَا نَرَى فِي الْمُخَابَرَةِ بَأْسًا ، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ
خَدِيجٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا } ،
فَتَرَكْنَاهَا " وَأَخْبَارٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْقِيَاسَ
لَهَا ، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ
إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ ،
سَأَلُوا الصَّحَابَةَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَفْزَعُوا إلَى
الْقِيَاسِ ، ( وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِهِ ) ، إلَّا بَعْدَ فَقْدِ السُّنَّةِ .
فَدَلَّ : عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ
عَلَى الْقِيَاسِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ
عَدْلًا ، ( صَادِقًا ) ، ضَابِطًا ،
تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَى خَبَرِهِ - فَهُوَ يَقُولُ لَنَا : هَذَا نَصُّ الْحُكْمِ .
وَالْقَائِسُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ : أَنَّ مَا
أَدَّاهُ إلَيْهِ قِيَاسُهُ حَقِيقَةً حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ
لِلْخَبَرِ مَزِيَّةٌ عَلَى النَّظَرِ
.
وَأَمَّا إذَا كَانَ وُرُودُ الْخَبَرِ مِمَّنْ ظَهَرَ
مِنْ السَّلَفِ التَّثَبُّتُ فِي رِوَايَتِهِ ، وَمُقَابَلَتُهَا بِالْقِيَاسِ ،
أَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي لَهُ مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ ،
فَإِنَّمَا جَازَ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي
تَقْدِمَةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، مِنْ قِبَلِ : أَنَّ السَّلَفَ قَدْ اعْتَبَرُوا
ذَلِكَ وَعَارَضُوا كَثِيرًا مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِالنَّظَرِ
، كَنَحْوِ مُعَارَضَةِ ( ابْنِ عَبَّاسٍ ) لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي {
الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } فَقَالَ : " إنَّا نَتَوَضَّأُ
بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ " وَكَخَبَرِ فَاطِمَةَ بِنْتِ
قَيْسٍ - فِي إبْطَالِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ - قَالَ فِيهِ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ : " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا "
لِقَوْلِ امْرَأَةٍ " .
ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ
قَوْلَهُ : وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا ، إنَّمَا عَنَى بِهِ قِيَاسَ السُّنَّةِ
لَا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ سُنَّةٌ ) بِخِلَافِ مَا
رَوَتْهُ .
( قَالَ ) : وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ
عُمَرَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ مَا رَوَتْهُ فِي غَيْرِ الْحَادِثَةِ لَسَأَلَهَا عَنْ
تَارِيخِ حَدِيثِهَا ، لِيَنْظُرَ أَيُّهُمَا النَّاسِخُ ، فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا
( لَمْ ) يَسْأَلْهَا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصُّ
سُنَّةٍ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ مُرَادَهُ كَانَ : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ
السُّنَّةِ ، وَهِيَ مِمَّنْ يَثْبُتُ لَهَا السُّكْنَى - وَالسُّكْنَى مِنْ
النَّفَقَةِ - فَإِذَا وَجَبَ
بَعْضُهَا ، وَجَبَ جَمِيعُهَا ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَلِأَنَّهَا حِينَ جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ
فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا وَبَقِيَ حَقٌّ فِي الْمَالِ ، كَانَ الْقِيَاسُ :
أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ .
وَكَمَا رَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ ، فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ
بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ ، لِأَنَّهُ كَانَ خِلَافُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ ،
وَلَمْ يَكُنْ الرَّاوِي لَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُ بِالضَّبْطِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ
الْأَعْرَابِيِّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْبَابُ الثَّانِيْ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْقَوْلِِ
فِي الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ مَقْبُولَةٌ .
وَكَذَلِكَ عِنْدِي : قَبُولُهُ فِي أَتْبَاعِ
التَّابِعِينَ ، بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ بِإِرْسَالِ الْحَدِيثِ عَنْ الْعُدُولِ
الثِّقَاتِ .
فَأَمَّا مَرَاسِيلُ مَنْ كَانَ فِي الْقَرْنِ
الرَّابِعِ مِنْ الْأُمَّةِ : فَإِنِّي كُنْت أَرَى بَعْضَ شُيُوخِنَا يَقُولُ : إنَّ
مَرَاسِيلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّ الْكَذِبَ يَفْشُو فِيهِ ، وَحَكَمَ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالصَّلَاحِ
وَالْخَيْرِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي
بُعِثْت فِيهِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ،
ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ } .
قَالَ :
فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ :
الْفَسَادُ وَالْكَذِبُ ، لَمْ نَقْبَلْ فِيهِ إلَّا خَبَرَ مَنْ عَرَفْنَاهُ بِالْعَدَالَةِ
، وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ .
وَلَمْ أَرَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يُفَرِّقُ
بَيْنَ الْمَرَاسِيلِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ .
وَأَمَّا عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَإِنَّهُ قَالَ : مَنْ
أَرْسَلَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ - وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - فَإِنَّ
مُرْسَلَهُ مَقْبُولٌ ، كَمَا يُقْبَلُ مُسْنَدُهُ ، وَمَنْ حَمَلَ عَنْهُ
النَّاسُ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ ، وَلَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ الْمُرْسَلَ ،
فَإِنَّ مُرْسَلَهُ عِنْدَنَا مَوْقُوفٌ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَفَرَّقَ فِي
أَهْلِ زَمَانِهِ : بَيْنَ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرْسَلَ ،
دُونَ مَنْ لَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ إلَّا الْمُسْنَدَ ، وَاَلَّذِي يَعْنِي
بِقَوْلِهِ : حَمَلَ عَنْهُ النَّاسُ ، قَبُولَهُمْ لِحَدِيثِهِ ، لَا سَمَاعَهُ ،
فَإِنَّ سَمَاعَ الْمُرْسَلِ وَغَيْرِ الْمُرْسَلِ جَائِزٌ .
وَقَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ فِي الْمُجْمَلِ
وَالْمُفَسَّرِ : الْمُرْسَلُ أَقْوَى عِنْدِي مِنْ الْمُسْنَدِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي ، وَمَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِينَ
وَأَتْبَاعِهِمْ مَقْبُولٌ ، مَا لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي مِمَّنْ يُرْسِلُ
الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَجَازَ ذَلِكَ لَمْ
تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ ، لَا لِمُسْنَدٍ وَلَا لِمُرْسَلٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا : أَنَّ
ظَاهِرَ أَحْوَالِ النَّاسِ كَانَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ
الصَّلَاحُ وَالصِّدْقُ ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَجْلِهِ كَانَ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا
مَجْلُودًا حَدًّا ، مُجَرَّبًا
عَلَيْهِ شَهَادَةٌ ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ ، أَوْ
قَرَابَةٍ " .
وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ : "
الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ "
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالصَّحِيحُ
عِنْدِي وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ مُرْسَلَ
التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مَقْبُولٌ ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ ، وَكَذَلِكَ
كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ : أَنَّ
مَرَاسِيلَ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَوْثُوقِ بِعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ وَمَنْ
يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ - غَيْرُ مَقْبُولٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ
الْمُرْسَلَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا : مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ
عُمُومِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ .
مِنْهَا : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ
الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ
حُكْمُ دَلَالَتِهَا فِي وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْمُسْنَدِ دُونَ الْمُرْسَلِ ،
لِأَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا قَالَ
: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَيْتَ
وَكَيْتَ ، فَقَدْ بَيَّنَ ، وَتَرَكَ الْكِتْمَانَ ، فَيَلْزَمُ قَبُولُهُ
بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
فَدَلَّ :
عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ مِنْ التَّابِعِينَ إذَا
رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا فَقَالَتْ : أُنْذِرُكُمْ مَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
، وَأُحَذِّرُكُمْ مُخَالَفَتَهُ ، قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُ خَبَرِهَا ، كَمَا دَلَّ
عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الصَّحَابِيِّ إذَا قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَ الْمُسْنَدُ مِنْ أَخْبَارِ
الْآحَادِ مَقْبُولًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسَلُ مِنْهَا بِمَثَابَتِهِ
مِنْ حَيْثُ وَجَبَ الْحُكْمُ بِعَدَالَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ ،
مِنْ حَيْثُ شَهِدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِأَهْلِ عَصْرِهِ وَالتَّابِعِينَ بِالصَّلَاحِ ، كَمَا
شَهِدَ لِلصَّحَابَةِ ، فَوَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ
أَمْرَ الصَّحَابِيِّ ، إذْ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ يَقْضِي تَعْدِيلَهُمْ ، بِشَهَادَةِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ بِذَلِكَ .
أَلَا تَرَى : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ :
أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ فَلَمَّا قَالَ :
نَعَمْ } قَبِلَ خَبَرَهُ .
وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ بِنَفْسِ ظُهُورِ
الْإِسْلَامِ مِنْهُ ، قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِ ،
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، لَمَا سَأَلَهُ هَلْ هُوَ
مُسْلِمٌ أَوْ لَا ؟ كَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الْحُكْمُ لِأَهْلِ عَصْرِ
التَّابِعِينَ ، بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ
بِهِ .
فَيُقْبَلُ خَبَرُ مَنْ رَوَى عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
إذَا لَمْ يُسَمِّهِ ، مَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِذَلِكَ لَنَا مَعْرُوفًا
بِإِرْسَالِ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ ، فَإِنَّ مَنْ
عَرَفْنَاهُ بِذَلِكَ لَمْ نَلْتَفِتْ إلَى خَبَرِهِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ عُرِفَ
مِنْ الصَّحَابَةِ بِزَوَالِ عَدَالَتِهِ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ ، حَتَّى تَثْبُتَ
عَدَالَتُهُ .
وَثُبُوتُهُ كَنَحْوِ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
فِسْقِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا } .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : لِأَنَّ مِنْ فُقَهَاءِ
التَّابِعِينَ مَنْ قَدْ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ : أَنَّهُمْ لَا
يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُمْ .
قَالَ الْأَعْمَشُ : قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ : إنْ
حَدَّثْتنِي فَأَسْنِدْ .فَقَالَ : إذَا قُلْت لَك
حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ : فَهُوَ الَّذِي
حَدَّثَنِي ، وَإِذَا قُلْت لَك : قَالَ عَبْدُ اللهِ ، فَقَدْ حَدَّثَنِي
جَمَاعَةٌ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : ( كُنْت إذَا اجْتَمَعَ
لِي أَرْبَعُ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَرَكْتهمْ ، وَأَسْنَدْته إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ) .
وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، لِعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ ، حَدِيثَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا
أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } وَأَرْسَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَشْهَدُ
عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ؟ فَقَالَ :
نَعَمْ ، أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْعَدْلُ الرَّضِيُّ ، وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخْبَرَهُ .
فَاكْتَفَى مِنْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بِذَلِكَ ، وَقَبِلَهُ ، وَعَمِلَ بِهِ
.
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ،
وَغَيْرُهُمَا ، يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سُئِلُوا عَنْ إسْنَادِهِ أَسْنَدُوهُ إلَى الثِّقَاتِ ،
وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ جَرَى أَمْرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
فِي إرْسَالِهِمْ الْأَخْبَارَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا ، وَالْبَاقِي سَمَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ
يَكَادُ يَذْكُرُ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
إنَّمَا يُرْسِلُهُ عَنْهُ
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
( مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
، وَلَكِنَّا سَمِعْنَاهُ ، وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا ، وَلَكِنَّا لَا نَكْذِبُ ) .
وَكَذَلِكَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ يُقَالُ : إنَّهُ
لَا يُعْرَفُ لَهُ مَا يَحْكِيهِ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
إلَّا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ { إنَّ فِي الْبَدَنِ مُضْغَةً ، إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ
الْبَدَنُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْبَدَنُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } .
وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يُفَرِّقُونَ
بَيْنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا
: أَنَّهُ لَا فُرْقَةَ بَيْنَهُمَا فِي لُزُومِ قَبُولِهِمَا ، وَالْعَمَلِ
بِهِمَا .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إرْسَالُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَحَذَفَ تَسْمِيَةَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ،
لَمْ يَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ
عِنْدَهُمْ : أَنَّ الْمُسْنَدَ وَالْمُرْسَلَ وَاحِدٌ ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ،
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْحُكْمِ ، وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ .
بَلْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَهُ
فَقَدْ أَكَّدَهُ بِإِرْسَالِهِ ، وَقَطَعَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَرْسَلُوهُ ، لِأَنَّ الَّذِي
حَذَفُوا اسْمَهُ لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا ، وَلَا مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ ، أَوْ
كَانَ بَيِّنًا مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ
عِنْدَهُمْ قَبُولُ الْمُرْسَلِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَظُنَّ مِنْهُمْ
أَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ ، وَحَذَفُوا
اسْمَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِوُجُوهٍ : - أَحَدُهَا :
أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إثْبَاتًا مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَقَطْعٌ بِهِ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَرْوِيهِ
غَيْرُ الثِّقَةِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ حَمَلَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ
ثُمَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ
بِأَهْلٍ لِقَبُولِ خَبَرِهِ ، وَإِنْ أَسْنَدَهُ
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ :
إنْ عَظُمَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُسْنَدِ
، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ ، ثُمَّ
يَكْتُمُونَهُ ، وَيَحْذِفُونَ اسْمَهُ ، فَيَعْتَبِرُ بِهِمْ السَّامِعُ ،
وَيَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ ، وَصِحَّتَهُ ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا : أَنْ يَكُونُوا حَمَلُوهُ عَنْ
ثِقَةٍ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ ، وَعِنْدَهُمْ : أَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ ،
لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانُوا قَدْ كَتَمُوا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ .
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِحَمْلِ
الْعِلْمِ عَنْهُ ، وَلَا مَوْثُوقًا بِرِوَايَتِهِ ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ
الْقِسْمَانِ ، صَحَّ الْوَجْهُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَهُ
عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ وَالتَّأْكِيدِ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّا وَجَدْنَا عَامَّةَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ
اللهِ عَلَيْهِمْ ، وَالتَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، يَسْمَعُونَ
الْأَخْبَارَ الْمُرْسَلَةَ فَيَصِيرُونَ إلَيْهَا ، وَيَتْرُكُونَ آرَاءَهُمْ
لَهَا ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ ، وَلَوْ ذَكَرْنَاهُمْ لَطَالَ بِهِمْ الْكِتَابُ
، كَمَا وَجَدْنَاهُمْ يَقْبَلُونَ الْمُتَّصِلَ ، فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا حُجَّةً
فِي قَبُولِ الْمُتَّصِلِ فَهُمْ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ الْمُرْسَلِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّ ظَاهِرَ
أَمْرِهِمْ بِالسَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حَتَّى يَثْبُتَ
غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ وَظَاهِرُ
أَمْرِهِ : أَنَّهُ سَمِعَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : حَدَّثَنِي .
فَلَا يَكُونُ فِي مِثْلِ الْآخَرِ .
وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا يَرْوِي عَنْ
صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ .
وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَقْبُولُو الرِّوَايَةِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ كَانُوا يُجِيزُونَ : أَنَّهُمْ لَمْ
يَسْمَعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ
رَجُلًا ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَسْنَدُوهُ لَهُمْ .
وَأَيْضًا :
فَكَمَا أَنَّ ظَاهِرَ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ :
السَّمَاعُ مِنْهُ ، فَكَذَا ظَاهِرُ مَنْ حَمَلَهُ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ :
أَنَّهُ عَدْلٌ ، مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا يَرْوِي
عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ ، وَكُلُّهُمْ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، فَإِنَّهُ
لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِفِسْقِهِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وَهُوَ : الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ ، وَقَدْ
كَانَ قَوْمٌ آخَرُونَ هُنَاكَ قَدْ رَأَوْا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَعَمِلُوا بَعْدَهُ أَعْمَالًا أَسْقَطَتْ عَدَالَتَهُمْ ، وَهَذَا مَا لَا
خَفَاءَ بِهِ .
أَيْضًا : فَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِشَهَادَةِ
شَاهِدَيْنِ وَأَسْنَدَ بِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّهِمَا - لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ
الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِهِ ، لِأَجْلِ تَرْكِهِ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ ،
وَكَانَ أَمْرُهُمْ مَحْمُولًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ .
كَذَلِكَ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ ، يَجِبُ حَمْلُ
أَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْعَدَالَةِ ، حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ طَرِيقُهُ
الِاجْتِهَادُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ الرَّاوِي عَنْهُ ، وَلَا يَكُونُ عِنْدِي
عَدْلًا ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُتَبَيَّنَ حَيْثُ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُ ، كَمَا
أَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَلَمْ
يُسَمِّيَاهُمَا ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا ، حَتَّى
يُسَمِّيَاهُمَا فَيَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِهِمَا ، كَذَلِكَ الْمُرْسَلُ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَنْ شَاهَدْنَاهُ وَخَبَرْنَا
أَمْرَهُ - فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ فِي جَرْحِهِ وَتَزْكِيَتِهِ إلَى
مَعْرِفَتِنَا بِهِ ، أَوْ مَسْأَلَةِ مَنْ خَالَطَهُ ، وَخَبَرَ أَمْرُهُ -
عَنْهُ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ
الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ
إلَّا بِنَقْلِ
الْأَئِمَّةِ عَنْهُ .
فَتَكُونُ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُ ،
فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَعَقَّبَهُمْ فِي تَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ بِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ : فَلَيْسَتْ
مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ : يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ
الْأَخْبَارِ مَا لَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَاتِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فُلَانٌ عَنْ
فُلَانٍ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدَنِي
عَلَى شَهَادَتِهِ ، فَعَلِمْت : أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ
بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ يَجُوزُ لَهُ
الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ رَاوِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الرَّاوِي : ارْوِهِ
عَنِّي ، وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : أَشْهَدُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ
بِكَذَا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ
: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ ، فَيَحْمِلُهَا إيَّاهُ فَعَلِمْت
بُطْلَانَ اعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ .
وَأَيْضًا
: فَإِنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ
مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْحَاكِمَ : أَنْ يَتَوَصَّلَ
إلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَشْهُودِ عَلَى شَهَادَتِهِ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ .
فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ
الْأَصْلِ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمْ ، وَثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الرُّوَاةِ فَلَا
سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَالِهِمْ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِينَ
عَنْهُمْ ، فَكَانَ نَقْلُهُمْ وَإِرْسَالُهُمْ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ تَعْدِيلًا
مِنْهُمْ إيَّاهُمْ .
أَيْضًا : فَإِنَّ الشُّهُودَ إذَا رَجَعُوا إلَى شَهَادَتِهِمْ
بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، يَلْحَقُهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ .
فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى
شُهُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ رَجَعُوا
.
وَمِنْهُمْ : مَنْ يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ .
فَاحْتَاجَ الْحَاكِمُ إلَى : أَنْ يَعْرِفَهُمْ
بِأَعْيَانِهِمْ ، لِكَيْ إذَا رَجَعُوا لَزِمَهُمْ حُكْمُ مَا يُوجِبُهُ
إشْهَادُهُمْ غَيْرَهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي
الْأَخْبَارِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ ذَلِكَ
بِأَعْيَانِهِمْ ، إنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُمْ تَعْدِيلًا
مِنْهُمْ لَهُمْ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قَبُولِ
الْأَخْبَارِ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ اتِّفَاقٌ .
قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى : قَبُولِ فُلَانٍ
عَنْ فُلَانٍ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَمَاعًا ، إذَا كَانَ مِمَّنْ قَدْ لَقِيَهُ
، وَلَوْ كَانَ الْمُرْسَلُ غَيْرَ مَقْبُولٍ - لَمَا جَازَ : قَبُولُ فُلَانٍ
عَنْ فُلَانٍ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ سَمَاعٌ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّ مَنْ رَوَى
عَمَّنْ لَقِيَهُ : أَنَّهُ سَمَاعٌ حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ ؟ بَلْ الظَّاهِرُ :
أَنَّهُ يَرْوِي عَنْهُ سَمَاعًا تَارَةً ، وَيَرْوِيهِ تَارَةً سَمَاعًا مِنْ
غَيْرِهِ عَنْهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ
الْحَدِيثَ إلَّا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَحْتَاجُ أَنْ يَثْبُتَ : أَنَّهُ
عَدْلٌ عِنْدِي .
قِيلَ لَهُ : وَيَحْتَاجُ : أَنْ يَثْبُتَ عِنْدِي :
أَنَّهُ سَمَاعٌ ، إذَا قَالَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ
عِنْدَك :
أَنَّهُ سَمَاعٌ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ : أَنْ يُقْبَلَ
الْمُرْسَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ : أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدِي ، فَاكْتَفَى تَعْدِيلُهُ
إيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ عَنْهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ :
لِلْمُسْتَفْتِي حَكَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
ذَلِكَ بِكَذَا .
أَوْ قَالَ فِيهِ : كَذَا ، لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ ،
مَعَ حَذْفِ سَنَدِهِ ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي إثْبَاتِ
الْمُسْنَدِ ، فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْمُرْسَلِ أَيْضًا .
وَزَعَمَ بَعْضُ مُخَالِفِينَا : أَنَّهُ إنَّمَا رَوَى
التَّابِعُونَ الْمُرْسَلَ لِيُطْلَبَ فِي الْمُسْنَدِ .
فَيُقَالُ لَهُ : مَعْنَى قَوْلِك لِيَطْلُبَ فِي
الْمُسْنَدِ ، كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُمْ إسْنَادٌ ، فَإِنْ كُنْت
تَعْنِي ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا وَهُمْ يَسْمَعُونَ ، وَهَذَا
يُوجِبُ أَنْ يَحْصُرُوا الْمَرَاسِيلَ لِيُنْظَرَ هَلْ تُوجَدُ فِي الْمُسْنَدِ ،
وَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ -
لَمَا كَانُوا أَهْلًا لِقَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ أَصْلًا : الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ جَمِيعًا .
وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ - فَمَا الَّذِي
مَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ سَنَدِهِ
وَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ ؟ فَعَلِمْت أَنَّ هَذَا
الْفَصْلَ مِنْ كَلَامِهِ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي
الْمُرْسَلِ - لَجَازَ لِمُبْطِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ
الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ إنَّمَا رَوَوْا الْآحَادَ لِيُطْلَبَ فِي
التَّوَاتُرِ ، وَالِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ : بِأَنَّ الْمُرْسَلَ لَوْ كَانَ
مَقْبُولًا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْإِسْنَادِ وَجْهٌ .
فَيُقَالُ :
يَقُولُ لَك مُبْطِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ : لَوْ كَانَ
خَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا لَمَا كَانَ لِسَمَاعِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَثَلَاثَةٍ
، وَأَرْبَعَةٍ ، مَعْنًى .
فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُطْلَبَ الْأَثَرُ مِنْ وُجُوهٍ
مُخْتَلِفَةٍ ، وَيُرْوَى مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ جَوَازَ
الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدِ ، كَذَلِكَ يُرْوَى الْحَدِيثُ ، فَيُذْكَرُ
إسْنَادُهُ تَارَةً ، وَلَا يَدُلُّ
: عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَرْسَلَ التَّابِعُونَ
الْأَخْبَارَ إعْلَامًا مِنْهُمْ لِسَامِعِيهَا : أَنَّ الْمَحْذُوفَ اسْمُهُ فِي
السَّنَدِ لَيْسَ مِمَّنْ يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ أَخْبَرُوا هُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
بِخِلَافِ ذَلِكَ .
فَإِنْ صَدَّقْتهمْ كُنْت كَاذِبًا فِيمَا حَكَيْت
عَنْهُمْ ، وَإِنْ أَكْذَبْتهمْ فَلَا تَقْبَلْ رِوَايَاتِهِمْ ، لَا مُرْسِلًا
وَلَا مُسْنِدًا .
وَأَيْضًا : فَمَا الَّذِي حَمَلَهُمْ : عَلَى أَنْ
يَرْوُوا مَا لَا يَجُوزُ قَبُولُهُ ، ثُمَّ يَكْتُمُوا إسْنَادَهُ .
فَيَعْرِفُوا
النَّاسَ بِهِ ، وَكَانَ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
أَنْ يَسْكُتُوا عَنْهُ .
فَلَا يَرْوُوهُ .
وَعَلَى أَنَّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَا يَجُوزُ
الرِّوَايَةُ عَنْهُ ثُمَّ كَتَمَهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهُ ، صَارَ مِنْ
الْمَجْرُوحِ ، وَالْمَطْعُونِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ .
وَهَذَا يُوجِبُ الطَّعْنَ عَلَى عَامَّةِ التَّابِعِينَ
، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا الْأَخْبَارَ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِ : أَنَّهُ يُرْسِلُ
الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَا يُوثَقُ بِرِوَايَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْعِلْمِ عَنْهُ
، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ
الْمَرَاسِيلِ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مِنَّا
فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ عِنْدَهُ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ التَّابِعِينَ
يُرْسِلُ الْحَدِيثَ فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ أَخْبَرَ بِهِ ، وَكَانَ كَاذِبًا .
قِيلَ لَهُ : مَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ
فَعَلَ ذَلِكَ .
وَعَلَى أَنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرِّوَايَتَيْنِ
لِأَنَّ مَنْ رَوَى عَنْ كَذَّابٍ وَكَتَمَ أَمْرَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ
الرِّوَايَةِ ، لَا سِيَّمَا إذَا حَذَفَ اسْمَهُ مِنْ الْإِسْنَادِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ احْتَجَّ فِي إبْطَالِ
الْمَرَاسِيلِ : بِأَنَّ التَّابِعِينَ قَدْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي
الْإِرْسَالِ عَمَّنْ لَوْ كَشَفَ عَنْهُ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ ، كَانَتْ حَالُهُ
بِخِلَافِهَا إذَا أَرْسَلَ عَنْهُ ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ : أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ قَالَ لَهُ : إنَّ حَدِيثَ الْوُضُوءِ مِنْ
الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ يَدُورُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ .
فَقُلْت لَهُ : قَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ : أَنَا
حَدَّثْت بِهِ الْحَسَنَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ ، فَقُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَقَدْ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ
مُرْسَلًا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : حَدَّثَنِي شَرِيكٌ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ .
قَالَ : أَنَا حَدَّثْت بِهِ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ ، فَقُلْت لَهُ : قَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ مُرْسَلًا .
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : قَرَأْت هَذَا الْحَدِيثَ
فِي كِتَابِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ أَرْقَمَ ، عَنْ الْحَسَنِ
.
قَالَ الْقَائِلُ : فَإِذَا سَمِعَ السَّامِعُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ
مُرْسَلَةً يَقُولُ : قَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَأَبُو
الْعَالِيَةِ .
ثُمَّ إذَا كَشَفَ عَنْهُ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي
الْعَالِيَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْعَجَبُ مِنْ
غَبَاوَةِ هَذَا الْقَائِلِ ، حِينَ جَعَلَ قَوْلَ فُلَانٍ : أَنَا حَدَّثْت بِهِ
فُلَانًا
نَفْيًا ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حَدَّثَهُ بِهِ غَيْرُهُ ،
أَوْ سَمِعَهُ مِنْ سِوَاهُ .
وَلَا يَمْتَنِعُ : أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ رَجُلٌ
مُرْسَلًا ، وَقَدْ سَمِعَهُ هُوَ مُتَّصِلًا مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ دَارَ الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي
الْعَالِيَةِ مَا الَّذِي كَانَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِ ؟ وَقَدْ رَوَى هَذَا
الْحَدِيثَ عَبْدُ الْكَرِيمِ ، عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَقَدْ
رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ ثَبَتَ : أَنَّ الْحَسَنَ وَالزُّهْرِيَّ قَدْ
رَوَيَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ ،
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
، وَلَيْسَ غَرَضُنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا
فِيهَا مِنْ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فارغة
الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْخَبَرَيْنِ
الْمُتَضَادَّيْن
فارغة
بَابٌ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
تَعَارُضُ الْخَبَرَيْنِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَنْحَاءٍ : مِنْهَا : مَا يَكُونُ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ ، وَنَتَيَقَّنُ مَعَهُ
وَهْمَ رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ
.
وَمِنْهَا : مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ
مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ .
وَلَا يُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ بَقَاءُ حُكْمِهِمَا بِلَا
مَحَالَةٍ ، إنْ ثَبَتَا ، وَصَحَّا ، فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ مَتْرُوكُ
الْحُكْمِ .
وَمِنْهَا :
مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ ، وَيَكُونَا
جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي حَالَيْنِ ، أَوْ فِي شَيْئَيْنِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ
وَهُوَ مُحْرِمٌ } .
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ } .
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَغَيْرُ جَائِزٍ : أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَغَيْرَ
مُحْرِمٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ
.
وَنَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا يَوْمَ
الْفَتْحِ .
وَقَالَ بِلَالٌ : بِأَنَّهُ صَلَّى فِيهَا } مَعَ
عِلْمِنَا : بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَكَرِوَايَةِ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفْرَدَ
بِالْحَجِّ } .
وَرَوَى جَابِرٌ وَأَنَسٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ كَانَ قَارِنًا } .
وَنَحْوُ مَا رَوَى زَوْجُ بَرِيرَةَ : " إنَّهُ
كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ كَانَ عَبْدًا .
مَتَى أَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِ فِي الرِّقِّ
وَالْحُرِّيَّةِ عِنْدَ عِتْقِهَا كَانَ الْخَبَرَانِ مُتَضَادَّيْنِ ، نَعْلَمُ
يَقِينًا أَنَّ ( أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ ) مُخْطِئٌ .
وَكَرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ
الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { إنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّهَا عَلَيْهِ
بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ } ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا تَقَعُ
الْإِشَارَةُ فِيهَا إلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ ، بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي
مَعْنًى وَاحِدٍ ، فَمَعْلُومٌ فِيهَا غَلَطُ رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ ، مَعَ
ثُبُوتِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ .
وَالثَّانِي مِنْهُمَا : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ } ،
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهُ { نَهَى عَنْ أَكْلِ
الضَّبِّ } وَرُوِيَ " أَنَّهُ أَبَاحَهُ " .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ
يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ } وَرُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّهُ كَانَ لَا
يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ } هَذِهِ الْأَخْبَارُ
يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ ، وَأَنْ يَكُونَ
بَعْضُهَا مَنْسُوخًا بِبَعْضٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَهْمًا
وَغَلَطًا ، لِأَنَّهَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ .
إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ثُبُوتُ حُكْمِ جَمِيعِهَا
لِتَنَافِيهَا ، وَتَضَادِّهَا ، وَلِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ : عَلَى أَنَّ
بَعْضَهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ دُونَ جَمِيعِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْهَا : أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ
فِي الظَّاهِرِ ، فَيُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا فِي حَالَيْنِ ، أَوْ عَلَى
وَجْهَيْنِ ، نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ } ، وَقَالَ : {
أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ
} .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَنَّهُ
قَالَ : { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } .
وَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ،
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ } مَحْمُولٌ عَلَى
حَالِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا
بِمِثْلٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا
بِيَدٍ } ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرِدُ فِيهِ الْخَبَرُ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا رِبَا إلَّا فِي
النَّسِيئَةِ } مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، فِيمَا ذُكِرَ
فِي الْخَبَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ
" وَكَالتَّمْرِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ
بِالْفِضَّةِ " كَمَا قَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ { وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ ، يَدًا بِيَدٍ } .
وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ حُكْمَ الْخَبَرَيْنِ
الْمُتَضَادَّيْنِ ، فَجَعَلَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لِأَحَدِهِمَا :
وُجُودَ عَمَلِ النَّاسِ ، دُونَ الْآخَرِ ، فَيَكُونُ الْمَعْمُولُ ثَابِتَ
الْحُكْمِ ، نَاسِخًا ، وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا ، إنْ صَحَّتْ فِي الْأَصْلِ
رِوَايَتُهُ .
قَالَ : وَإِنْ اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي
تَثْبِيتِ أَحَدِهِمَا .
قَالَ :
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ
وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا ، - فَإِنْ احْتَمَلَا
الْمُوَافَقَةَ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا - اُسْتُعْمِلَ الِاجْتِهَادُ .
وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ ، فَالْآخَرُ
نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ ، إنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ عَمِلَ بِهِ النَّاسُ ، وَهُوَ
الظَّاهِرُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاَلَّذِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ .
وَيَكُونُ الْآخَرُ مِنْهُمَا خَامِلًا ، لَا يَعْمَلُ
بِهِ إلَّا الشَّاذُّ مِنْ النَّاسِ ، فَحِينَئِذٍ نَنْظُرُ إلَى الَّذِينَ
عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ .
فَإِنْ وَجَدْنَاهُمْ يُجَوِّزُونَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا
بِالْآخَرِ ، وَلَا يَعْتِبُونَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ
فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُمْ يَعِيبُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ
خَالَفَهُمْ ، كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى مَا عَمِلَ النَّاسُ ، وَظَهَرَ
فِي أَيْدِيهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ الشَّاذِّ الَّذِي قَدْ عَابُوهُ
عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا ظَهَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ
وَعَمِلُوا بِهِ ثُمَّ نُسِخَ ، ظَهَرَ نَسْخُهُ مِنْهُمْ ، كَمَا ظَهَرَ
لِلْغَيْرِ نَصُّهُ ، حَتَّى لَا يَشِذَّ إلَّا عَلَى الْقَلِيلِ .
كَالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ ، وَالشُّرْبِ
فِي الظُّرُوفِ ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَنَسْخِهَا ،
وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ لَمَّا نُسِخَتْ هَذِهِ
الْأَحْكَامُ ظَهَرَ نَسْخُهَا ، كَظُهُورِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ابْتِدَاءً .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : جَعَلَ عِيسَى
اسْتِعْمَالَ النَّاسِ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مُوجِبًا لِثُبُوتِ حُكْمِهِ دُونَ
الْآخَرِ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا تَسَعُ مُخَالَفَتُهُ ، وَلَا
يَجُوزُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ مَعَهُ ، فَالْخَبَرُ الَّذِي سَاعَدَهُ
الْإِجْمَاعُ مِنْهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ ، وَالْآخَرُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ
مَنْسُوخًا ، أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفُوا فَاسْتَعْمَلَ بَعْضُهُمْ
الْآخَرَ ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا ، فَيَكُونُ مَا
عَاضَدَهُ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ ، مِنْ قِبَلِ :
أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِأَوْلَى
بِاسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ فِي ظَاهِرِ وُرُودِهِمَا ، كَانَ مَا
شَهِدَ لَهُ الْأُصُولُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ ، لِأَنَّ شَوَاهِدَ
الْأُصُولِ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْ الْخَبَرِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْيِهَا ،
فَإِذَا سَاعَدَتْ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ .
وَأَيْضًا :
فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ عَرْضُهُمْ كَثِيرًا
مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى الْأُصُولِ ، وَمُقَابَلَتُهَا بِالْقِيَاسِ
وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ حَسَبَ مَا حَكَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ، فَصَارَ بِشَهَادَةِ
الْأُصُولِ تَأْثِيرٌ فِي رَدِّ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَحَسَبَ كَوْنِ
مُسَاعَدَتِهَا لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ - مُوجِبَةً
لِاسْتِعْمَالِهِ ، دُونَ الْآخَرِ الَّذِي يُخَالِفُهَا .
وَأَيْضًا : لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْخَبَرَيْنِ
، وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ، فَقَدْ سَوَّغُوا
الِاجْتِهَادَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا بِالنَّظَائِرِ ، كَسَائِرِ
الْحَوَادِثِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى
الْآخَرِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِمَا ، فَإِنْ احْتَمَلَا الْمُوَافَقَةَ
سَاغَ الِاجْتِهَادُ ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَجْعَلُوا الْآخَرَ
قَاضِيًا عَلَى الْأَوَّلِ ، فَقَدْ سَوَّغُوا
الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا ، فَمَتَى أَدَّى الِاجْتِهَادُ
إلَى حَمْلِهِمَا عَلَى الْوِفَاقِ حَمَلْنَاهُمَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ
أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَدَلَالَةِ الْأُصُولِ
عَلَيْهِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ -
فَإِنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا الْأَوَّلَ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ
الْآخَرَ ثَابِتٌ إذْ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِهِ
دُونَهُ ، وَفِي ثُبُوتِ الْآخَرِ نَفْيُ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ إلَّا
الشَّاذُّ مِنْهُمْ ، وَسَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْآخَرِ ،
وَلَمْ يَعِيبُوا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّمَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ
فِيهِ ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ اتَّفَقُوا فِي هَذِهِ عَلَى تَسْوِيغِ
الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ ، فَلِذَلِكَ كَانَ
الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ .
وَأَمَّا إذَا عَابُوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الْخَبَرِ
الْآخَرِ ، فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ،
وَظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمْ ، دُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّاذُّ مِنْهُمْ ، مِنْ
قِبَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ الْأَوَّلَ يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَثَبَاتَهُ ،
فَلَوْ كَانَ الْآخَرُ ثَابِتًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ الْأَوَّلَ ، وَلَمَا
أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ
وَاسْتَفَاضَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ نُسِخَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ نَسْخَهُ فِيمَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فِي حُكْمِهِ
بَدْرً ، فَدَلَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ
حُكْمِ الْخَبَرِ الْآخَرِ ، أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ ، وَأَنَّ
الثَّانِيَ شَاذٌّ ، لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْجُمْهُورَ لَمَّا عَلِمُوا بِالْخَبَرِ
الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ رُوِيَ - فَهُمْ
لَا يَتْرُكُونَ الْحُكْمَ بِالثَّانِي ، إلَّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ
الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الثَّانِي نَاسِخًا لَهُ
عِنْدَهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرُوا الثَّانِيَ وَثَبَتُوا عَلَى
الْأَوَّلِ ، عَلِمْنَا : أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا
شُذُوذَ الثَّانِي ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى
الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُوجِبٌ لِتَقْوِيَةِ
بَقَاءِ حُكْمِ خَبَرِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ :
مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ اجْتِهَادًا ، عَلَى حَسَبِ مَا
تَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا ، وَمِنْ شَهَادَةِ
الْأُصُولِ لَهَا ، أَوْ مُخَالَفَتِهَا إيَّاهَا ، فَكَانَ مَا وَصَفْنَا فِي
هَذَا
الْفَصْلِ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ ، تَقْوَى مَعَهُ
فِي النَّفْسِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ بَيَّنَّا
فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَبْوَابِ النَّسْخِ : مَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا
: إنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ أَوْلَى ، وَاحْتِجَاجَهُ لَهُ ، بَلْ الْإِبَاحَةُ
لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْأَصْلُ ، وَالْحَظْرُ طَارِئٌ عَلَيْهِ ، كَانَ حُدُوثُ
الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مُتَيَقَّنًا ، وَلَسْنَا نَتَيَقَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ
حُدُوثَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ .
وَذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الصَّيْدِ ،
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ ، وَنَحْوُ مَا رُوِيَ { أَنَّ الْفَخِذَ
عَوْرَةٌ } وَمَا رُوِيَ فِي " إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَيْهَا " وَمَا
جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ .
وَحَكَيْنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ
الِاسْتِحْسَانِ : بِأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ
الْمَاءِ وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ رَأْيٌ فِي
تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ : أَنَّهُ يَسْقُطُ خَبَرُهُمَا جَمِيعًا ،
وَيَكُونُ الْمَاءُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ .
وَبَيَّنَّا : أَنَّ نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ
مِنْ أَخْبَارِ أَحْكَامِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بَدَأَ
فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ فِيهِ غَلَطٌ لَا
مَحَالَةَ ، كَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى : أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ ، وَمَنْ رَوَى : أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ
نَظِيرَ الْمَاءِ ، لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ ،
اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا : أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا
صَحِيحَيْنِ فِي الْأَصْلِ ، وَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ بِالْآخَرِ ، وَلَيْسَ مَا
ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ
وَنَجَاسَتِهِ مُخَالِفَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا فِي
صَدْرِ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ :
أَسْقِطْ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي
تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا .
وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ
، نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَتِهِ : " أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا
" ، ( لِتَعَارُضِهَا مَعَ رِوَايَةِ ) يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ : "
أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا ، كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، لِعَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ ، حِينَ عَارَضَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ هَذَا
الْخَبَرِ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهَا إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ ،
أَوْجَبَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ الْخَبَرُ بِنَجَاسَةِ
الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ أَصْلًا لِلْإِخْبَارِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ ،
وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ
إسْقَاطِ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّ
الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ حُكْمُهَا : أَنْ تَكُونَ
مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ
الْحَوَادِثَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا
أُصُولٌ مِنْ النُّصُوصِ ، وَأَشْبَاهٌ وَنَظَائِرُ ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ
بِحُكْمِهَا خَبَرٌ .
فَمَتَى خَلَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا أَخْبَارُ
الْآحَادِ ، حُمِلَ عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْأُصُولِ ، فَإِذَا عَارَضَتْ
الْأُصُولُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ كَانَ
الْحُكْمُ لَهُ ، دُونَ مَا خَالَفَتْهُ .
وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتُهُ فَلَيْسَ
لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ إذَا تَعَرَّتْ مِنْ الْخَبَرِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ
عِنْدَ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ
.
اطِّرَاحُهُمَا ، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِ مَا
كَانَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ سَوَّى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بَيْنَ حُكْمِ
الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا تَعَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ
يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ ، مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ ، فَإِنَّ
سَبِيلَهُمَا : أَنْ يَسْقُطَ ، كَأَنَّهُمَا لَمْ يُرْوَيَا ، وَجَعْلُهُمَا
بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ
إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ ، وَالْآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ ،
وَتَسَاوَيَا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ .
فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا .
وَذُكِرَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ :
فِي الرَّجُلَيْنِ حِينَ اخْتَلَفَا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ : أَنَّهُمَا أَسْقَطَا
خَبَرَهُمَا وَشَرِبَا .
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يَحْتَجُّ لِتَرْجِيحِ خَبَرِ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى خَبَرِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ : بِأَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ حَادِثٍ عَلِمَهُ ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ ،
وَأَبُو رَافِعٍ ، وَمَنْ رَوَى : أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا .
إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلِمَهُ بَدْءًا
، مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ
حُدُوثَ إحْرَامِهِ ، فَكَانَ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ : أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ
كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ ، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَادِثَةٍ
عَلِمَهَا ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ قَدْ كَانَ
عَبْدًا مَرَّةً ، وَمَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا .
فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ
بَدْءًا مِنْ رِقِّهِ .
وَلَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ عِتْقِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ } .
فَقَدْ عَلِمَ حُدُوثَ نِكَاحٍ لَمْ يَعْلَمْهُ مَنْ
أَخْبَرَ : أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ .
فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ يَجْرِي حُكْمُ
الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ إذَا كَانَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا ،
وَظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ حِجَاجُهُ لِتَثْبِيتِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ
الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْنَا : أَنْ نَقُولَ مِثْلَهُ فِي
الْخَبَرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ ، فَنَجْعَلُ الْخَبَرَ
بِالنَّجَاسَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ عَلِمَ حُدُوثَ نَجَاسَةٍ لَمْ يَعْلَمْهُ
الْمُخْبِرُ بِطَهَارَتِهِ ، وَإِنَّ الْمُخْبِرَ
بِطَهَارَتِهِ إنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَهُ مِنْ
حَالِهِ بَدْءًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيَجُوزُ أَنْ
نُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَزْوِيجِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَيْمُونَةَ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي
تَارِيخِهِ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَخْيِيرِ بَرِيرَةَ
لَمَّا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُعْتِقَتْ .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِهِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : كَانَ بَعْدَ عِتْقِ زَوْجِهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : قَبْلَ عِتْقِ زَوْجِهَا .
فَكَانَ خَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ بِتَارِيخِ الْإِحْرَامِ ،
وَتَارِيخِ عِتْقِ زَوْجِ بَرِيرَةَ ، مُقَدِّمًا لِعِتْقِهَا .
أَوْ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ : أَنَّهُ أَعْتَقَهُ
مُنْذُ شَهْرٍ ، وَأَخْبَرَ اثْنَانِ : أَنَّهُ مُنْذُ سَنَةٍ .
أَنَّ الْوَقْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى .
فَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا فِي تَارِيخِ الْحُكْمِ ،
وَكَانَ لِمَا أَثْبَتْنَاهُ ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ ، وَكَانَ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ
وَطَهَارَتِهِ ، فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى وَصْفَيْنِ
مُتَضَادَّيْنِ ، فَجَازَ إسْقَاطُ خَبَرَيْهِمَا إذَا تَسَاوَيَا ، وَلَمْ يَكُنْ
نَظِيرًا لِمَا وَصَفْنَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ
مُتَضَادَّانِ : أَحَدُهُمَا بَانَ عَلَى أَصْلٍ قَدْ ثَبَتَ ، وَالْآخَرُ ،
نَاقِلٌ عَنْهُ ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي جِهَةِ النَّقْلِ ، وَسَائِرِ
الْأَسْبَابِ ،
فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ النَّاقِلُ عَنْ
الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ الْبَانِي عَلَيْهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، سَوَاءً كَانَ
النَّاقِلُ مُبِيحًا لِشَيْءٍ قَدْ ثَبَتَ حَظْرُهُ ، أَوْ حَاظِرًا لِشَيْءٍ قَدْ
ثَبَتَ إبَاحَتُهُ .
وَيَنْبَغِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
وَعَنْ عِيسَى أَنْ يَسْقُطَا جَمِيعًا ، وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ
، أَنَّ الشَّيْءَ إنْ كَانَ مَنْفِيًّا فِي الْأَصْلِ ، فَخَبَرُ الْإِثْبَاتِ
أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ ، فَخَبَرُ النَّفْيِ أَوْلَى ،
لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ : مِنْ أَنَّ وُرُودَ الْإِثْبَاتِ
عَلَى النَّفْيِ مُتَيَقَّنٌ ، وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ عَلَى
مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الْإِثْبَاتِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّيْءُ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ ثُمَّ
وَرَدَ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي إثْبَاتِهِ ، وَالْآخَرُ فِي نَفْيِهِ ،
فَخَبَرُ النَّفْيِ أَوْلَى ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَاهُ طَارِئًا عَلَى
الْإِثْبَاتِ بَدْءًا ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِثْبَاتِ وَارِدًا
عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا
رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَانَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ } .
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى نَقْلِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ
كَانَ .
ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ : تَرَكَ الْقُنُوتَ بَعْدَ
فِعْلِهِ .
فَكَانَ الْمُثْبِتُ لِلْقُنُوتِ ثَابِتًا عَلَى أَصْلِ
مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ .
وَالنَّافِي لَهُ أَخْبَرَ : أَنَّ التَّرْكَ كَانَ
طَارِئًا عَلَى الْفِعْلِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ التَّرْكِ
، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَ بَعْدَ الْفِعْلِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، لِمَا
وَصَفْنَا .
وَعَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى : يَنْبَغِي أَنْ
يَسْقُطَا جَمِيعًا ، وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ
وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ .
وَإِنْ وَرَدَ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا يُوجِبُ شَيْئًا ،
وَالْآخَرُ يَنْهَى عَنْهُ ، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ
الْإِبَاحَةَ ، فَإِنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِبَاحَةِ
: إمَّا إلَى إيجَابٍ ، أَوْ إلَى حَظْرٍ .
فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ : إنَّ الْإِبَاحَةَ
قَدْ زَالَتْ ، وَلَمْ يَثْبُتْ حَظْرٌ ، وَلَا إيجَابٌ ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ
مَوْقُوفًا ، لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ
.
وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ : يُطْرَحُ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا
، فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ .
وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ : فِي أَحَدِهِمَا
فِعْلٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَيْءٍ ، وَفِي
الْآخَرِ النَّهْيُ عَنْهُ وَتَسَاوَيَا ، فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ
أَوْلَى ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ } ،
فَهَذَا فِعْلٌ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي
الصَّلَاةِ } وَأَنَّهُ قَالَ : { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ
مَوَاطِنَ } وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَالَ الرُّكُوعِ ، فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ
أَوْلَى لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا
: أَنَّ فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَسْتَحِقُّ
فَاعِلُهُ الْعِقَابَ .
وَتَرْكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ ، بِظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إيَّاهُ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ
أَفْعَالًا لِنَفْسِهِ لَا يُرِيدُهَا مِنَّا ، وَلَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ ، أَوْ
يَنْهَى عَنْهُ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ
وَالنَّهْيُ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَصْلِيِّ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، فَلَا يُعَارِضُ
، الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالْفِعْلِ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ قَدْ { أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ
النَّارُ } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ : أَكَلَ
لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } فَعَارَضَتْ
الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ وَجَعَلَتْ الْفِعْلَ أَوْلَى مِنْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ،
لِأَنَّا إنَّمَا شَرَطْنَا فِيمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ
وَتَسَاوِيهَا فِي الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَبُولِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ
أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ مُعَارَضَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ
، لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا فِيمَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ .
فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا قَبُولُهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُهُ
؟ وَخَبَرُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النَّقْلِ
مِنْ الْكَافَّةِ ، لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَلَمْ يُسَاوِ خَبَرَ نَفْيِ
الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ .
وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا .
فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَقَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا
وَرَدَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ : عَلَى أَنَّ
فِي ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا نَفْيًا لِلْآخَرِ .
مِثْلُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ سُئِلَ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ .
فَقَالَ : لَا شَيْءَ لَهُمَا } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا
وَارِثَ لَهُ } ، فَلَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرُهُمَا لَمْ يَتَعَارَضَا ،
وَاسْتُعْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا وَرَدَ ، لِأَنَّ نَفْيَ مِيرَاثِ
الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ غَيْرُ نَافٍ لِمِيرَاثِ الْخَالِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ .
إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَنَّ الْخَالَ إنْ ثَبَتَ مِيرَاثُهُ - كَانَ مِيرَاثُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ
ثَابِتًا .
وَأَنَّهُ
.
إنْ سَقَطَ مِيرَاثُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ سَقَطَ
مِيرَاثُ الْخَالِ .
صَارَ انْضِمَامُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي
ذَكَرْنَا إلَى الْخَبَرِ مُوجِبًا لِتَعَارُضِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ ، ثُمَّ
يَكُونُ إثْبَاتُ الْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَاقِلٌ مِنْ الْأَصْلِ ،
وَنَفْيُ الْمِيرَاثِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّ فِي خَبَرِنَا إثْبَاتَ الْمِيرَاثِ ، وَفِي
خَبَرِهِمْ نَفْيَهُ ، وَمَتَى اجْتَمَعَ خَبَرٌ نَافٍ وَخَبَرٌ مُثْبِتٌ كَانَ
الْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنْ النَّافِي
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَمَّا عَدَدُ
الْمُخْبِرِينَ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُضَادَّيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ
عِنْدَنَا ، إذَا لَمْ يَبْلُغْ مِقْدَارًا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَلَا فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَرْوِيَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَاحِدٌ ، وَيَرْوِي الْآخَرَ اثْنَانِ .
وَزِيَادَةُ الْعَدَدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجِبُ
تَرْجِيحَ أَكْثَرِهِمَا عَدَدًا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمَا عَدَدًا أَقْوَى
فِي النَّفْسِ مِنْ أَقَلِّهِمَا عَدَدًا ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْأَرْبَعَةِ
بِمِلْكِ هَذَا الْعَبْدِ لِعَمْرٍو أَقْوَى فِي
النَّفْسِ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ بِهِ لِزَيْدٍ ،
وَلَوْ اجْتَمَعُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَلَيْسَ لِزِيَادَةِ
الشُّهُودِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا ، لِأَنَّهُمْ
قَدْ قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي عَارَضَهَا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ ،
وَالثَّلَاثَةِ ، أَخْبَارًا كَثِيرَةً ، أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَلَمْ
يَلْتَفِتُوا إلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ
.
وَمَا سَمِعْنَا أَيْضًا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَطُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فِي
طُولِ مَا جَارَيْنَاهُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ، بَلْ كَانَ الْمَفْهُومُ
عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا شَكَّ فِيهِ اعْتِقَادُهُ ، وَمَا يَجْرِي
عَلَيْهِ حِجَاجُهُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، وَخَبَرِ
الْوَاحِدِ ، وَلَا حُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا .
وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا
يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : يَلْزَمُ مَنْ قَالَ : لَا أَلْتَفِتُ
إلَى عَمَلِ النَّاسِ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ ، أَنْ يَقُولَ :
إذَا تَضَادَّتْ الْأَخْبَارُ أَخَذْت بِأَقْوَاهَا إسْنَادًا ، وَأَصَحِّهَا فِي
الْخَبَرِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى أَنْ
يُعْمَلَ بِهِ مِمَّا جَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقْوَى
فِي الْخَبَرِ مِنْ الْوَاحِدِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَظَاهِرُ هَذَا
الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى : أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ كَانَ مُتَقَرِّرًا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ خَصْمِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ ، فِي أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ
لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَا أَقْوَى فِي
النَّفْسِ مِنْهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ
الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ رَجُلَانِ ثِقَتَانِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ
أَوْ طَهَارَتِهِ ، وَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ ثِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ : أَنَّهُ
يَعْمَلُ بِقَوْلِ الِاثْنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَا عَبْدَيْنِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ
الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا
.
قَالَ : وَإِنْ أَخْبَرَهُ حُرَّانِ ثِقَتَانِ
بِالْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَعَبْدَانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ الْآخَرِ .
أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ ، لِأَنَّ
شَهَادَتَهُمَا تُقْطَعُ بِهَا الْأَحْكَامُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا لَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ
: عَلَى أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ
الْوَاحِدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ نَاقِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ
أَنَّ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ ، وَأَنَّهُمَا
سَوَاءٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ، يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى
الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْحُرَّيْنِ ، وَخَبَرُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ ،
لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ الْحُرَّانِ يُقْطَعُ
بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يُقْطَعُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بَيْنَ
خَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ ، وَشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ .
وَهُمَا مَحْدُودَانِ فِي قَذْفٍ ، غَيْرِ تَائِبَيْنِ
مِنْهُ ، وَبَيْنَ خَبَرِ اثْنَيْنِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ
، لَيْسَ بِأَصْلِ الْأَخْبَارِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الدِّينِ .
أَوَلَا تَرَى : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا شُرِطَ فِي
أَقَلِّ عَدَدِهَا اثْنَانِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ ،
وَحُكْمُ الْأَرْبَعَةِ .
كَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ ، لَمَّا
كَانَ أَقَلُّ مَنْ يُقْبَلُ فِيهِ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ
الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ .
الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي
اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي زِيَادَاتِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي
زِيَادَاتِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ
كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
يَذْهَبُ إلَى أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ وَاحِدًا ، ثُمَّ اخْتَلَفَ
الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي زِيَادَةِ أَلْفَاظِهِ وَنُقْصَانِهَا : إنَّ الْأَصْلَ
هُوَ مَا رَوَاهُ الَّذِي سَاقَهُ بِزِيَادَةٍ ، وَأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا هُوَ
إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ : { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا
، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ ، أَوْ يَتَرَادَّانِ } وَمِنْ النَّاسِ مِنْ
يَرْوِي هَذَا الْخَبَرَ فَلَا يَذْكُرُ فِيهِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِعَيْنِهَا .
فَالْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَحَذْفُ قِيَامِ
السِّلْعَةِ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ .
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ : مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ
لَمَّا كَانَ رَاوِي الْخَبَرِ وَاحِدًا ، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا : أَنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ .
ذَكَرَ فِي إحْدَاهُمَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ ،
وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْأُخْرَى فَلَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ
فِيهِ إثْبَاتَ خَبَرِ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ .
وَأَمَّا إذَا رُوِيَ الْخَبَرُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةٍ ، أَوْ أَكْثَرَ ،
فَكَانَ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَفِي بَعْضِ
أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ زِيَادَةٌ
.
فَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ ، وَالْخَبَرُ الْمُطْلَقُ
أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رَوَى عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ
حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَزَادَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ ذِكْرَ الْمُسْلِمِينَ .
وَرَوَى جَمَاعَةٌ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ
وَعَبْدٍ ، صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ }
.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذَانِ
الْخَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ ، فَهُمَا مُسْتَعْمَلَانِ
جَمِيعًا ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَمْلُ الْخَبَرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَبَرِ
الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا وَصَفْنَا أَنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً .
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ } .
وَرُوِيَ فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ ابْنِ
عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ
يُقْبَضْ } فَاسْتَعْمَلَ الْخَبَرَيْنِ ، وَلَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ عَلَى
أَنَّهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ حَذَفَ مِنْهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الزِّيَادَةِ .
أَلَا تَرَى : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ أَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ مُبْتَدَأُ الْقَوْلِ مُطْلَقًا حِينَ
بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ : انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : بَيْعِ مَا لَمْ
يُقْبَضْ ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ، وَعَنْ
شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ قَدْ قَالَهُمَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : مَسَحَ بِبَعْضِ رَأْسِهِ } ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ { أَنَّهُ مَسَحَ
بِجَمِيعِ رَأْسِهِ } ، فَهَلَّا أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ " .
قِيلَ لَهُ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَنَا ،
إلَّا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَا يَتْرُكُ الْمَفْرُوضَ بِحَالٍ
.
وَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَنْدُوبَ فِي حَالٍ ، وَيَتْرُكَهُ
فِي آخَرَ ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى وَجْهِ
التَّعْلِيمِ ، وَإِذَا رَوَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا رَفَعَهُ إلَى
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، ثُمَّ رُوِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ
الصَّحَابِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُفْسِدٍ
لِرِوَايَةِ
مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ
رِوَايَتَهُ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
يُوجِبُ تَأْكِيدَ رِوَايَتِهِ ، وَيَكُونُ دَلِيلًا :
عَلَى أَنَّهُ رَآهُ ثَابِتَ الْحُكْمِ ، غَيْرَ مَنْسُوخٍ .
وَقَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُصَنِّفُونَ
الرُّوَاةَ ، فَيَجْعَلُونَهُمْ طَبَقَاتٍ ، فَإِذَا رَوَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا حَدِيثًا قَبِلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَنْ هُوَ فِي
طَبَقَتِهِ ، وَلَمْ يَقْبَلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَنْ هُوَ دُونَ طَبَقَتِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَسْنَدَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَرَفَعَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ هُوَ دُونَ طَبَقَتِهِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُسْنَدًا ،
وَإِنْ رَفَعَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى
الصَّحَابِيِّ ، وَرَفَعَهُ مَنْ هُوَ فِي طَبَقَةٍ دُونَهَا ، كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
مَوْقُوفًا ، وَلَمْ يَكُنْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا يُرْسِلُهُ وَاحِدٌ ،
وَيُسْنِدُهُ آخَرُ ، عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ
مُعَارَضَتَهَا لِلْأُصُولِ وَدَلَائِلِهَا ، وَإِنَّمَا يُصَحِّحُونَ
الرِّوَايَاتِ بِالرِّجَالِ فَحَسْبُ
.
وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُ
فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ اعْتِبَارَهُمْ .
فارغة
الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْقَوْلِ
فِيمَنْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَهُوَ يُنْكِرُهُ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَهُوَ
يُنْكِرُهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ كَثِيرٌ
مِنْ شُيُوخِنَا يَسْتَدِلُّ عَلَى فَسَادِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ،
عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
: أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } بِمَا ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ
هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ، فَكَانُوا يَجْعَلُونَ إنْكَارَ
الزُّهْرِيِّ لِذَلِكَ مُفْسِدًا لِرِوَايَةِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ .
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي
صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } فَلَمَّا سُئِلَ سُهَيْلٌ عَنْهُ قَالَ :
لَا أَعْرِفُهُ
فَقِيلَ لَهُ : فَإِنَّ رَبِيعَةَ يَرْوِيهِ عَنْك ،
فَقَالَ : إنْ كَانَ رَبِيعَةُ يَرْوِيهِ عَنِّي فَهُوَ كَمَا قَالَ .
قَالَ : فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : حَدَّثَنِي
رَبِيعَةُ عَنِّي .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
فِي قَاضٍ اُدُّعِيَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ -
فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً لِتَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ لَهُ بِذَلِكَ :
أَنَّ لِلْقَاضِي أَلَّا يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَسْمَعُ مِنْهَا
، وَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ .
فَإِنْ حَمَلْنَا الْخَبَرَ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى
قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ - فَالْوَاجِبُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
يُوسُفَ : أَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَدِيثَ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ
، وَإِنْ كَانَ الرَّاوِي لَهُ ثِقَةً
.
وَيَجِبُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ يَقْبَلَ .
وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ عَمَّارٍ : أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ
حِينَ خَالَفَهُ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ : أَمَا تَذْكُرُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّا كُنَّا فِي الْإِبِلِ فَأَجْنَبْت ، فَتَمَعَّكْت فِي
التُّرَابِ ، ثُمَّ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
: إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْك ،فَتَمْسَحَ بِهَا وَجْهَك
وَذِرَاعَيْك } .
فَلَمْ يُقْنِعْ عُمَرَ قَوْلُ عَمَّارٍ وَهُوَ عِنْدَهُ
ثِقَةٌ أَمِينٌ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا لِلْأَمْرِ الَّذِي
قَالَهُ .
فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ ،
فَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ الْحَدِيثِ بِجُحُودِ
الْمَرْوِيِّ عَنْهُ إيَّاهُ
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ : فِي أَنَّ
شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ لَوْ قَالَا لِرَجُلٍ : قَدْ كُنْت أَشْهَدْتنَا عَلَى
شَهَادَتِك : أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ لَا
يَذْكُرُ ذَلِكَ ، أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ الْقَاضِي بِمَا
قَالَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ
الشَّهَادَةَ لَمْ يَسَعْهُ إقَامَتُهَا ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُؤَيِّدُ
قَوْلَ مَنْ أَفْسَدَ الْحَدِيثَ بِمَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْسَاهُ بَعْدَ
رِوَايَتِهِ ، إيَّاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عَنْهُ .
قِيلَ لَهُ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي
نَسِيَ ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَزِيدُ ، فَسَمِعَهُ مِنْهُ ، وَهُوَ إنَّمَا سَمِعَهُ
مِنْ غَيْرِهِ ، فَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، فَلِمَ جَعَلْت
الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَوْلَى بِالنِّسْيَانِ مِنْ الرَّاوِي ؟ وَأَمَّا مَنْ لَا
يَفْسُدُ الْحَدِيثُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ لَهُ ، فَإِنَّهُ يُذْهَبُ
فِيهِ إلَى أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ ، وَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَى
الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ، فَلَا يُفْسِدُهُ .
وَقَدْ { قَبِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، حِينَ قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ :
أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمَا ، فَقَالَ : أَحَقٌّ
مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ } فَقَبِلَ خَبَرَهُمَا .
وَقَبِلَ عُمَرُ قَوْلَ أَنَسٍ فِي أَمَانِ
الْهُرْمُزَانِ حِينَ ، قَالَ لَهُ
: " أَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ حَيٍّ أَمْ بِكَلَامِ
مَيِّتٍ ؟ " فَقَالَ : تَكَلَّمْ بِكَلَامِ حَيٍّ " وَلَمْ يَذْكُرْ عُمَرُ مَا
قَالَهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَبِلَ قَوْلَ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ .
وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ مَنْ
خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ، وَعُمَرُ
فِي قِصَّةِ الْهُرْمُزَانِ ، ذَكَرَا ذَلِكَ بَعْدَ إخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَهُمَا
بِهِ .
فارغة
الْبَابُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي
رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ وَغَيْرِهِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ:فِيْ جَوَازِ أَنْ يَقْرَأَ الرَّجُلُ
عَلَى الْمُحَدِّثِ فَيَقُوْلُ:حَدَّثَنَا إِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ يَسْمَعُ وَ
يَضْبِطُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ وَغَيْرِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
التَّدْلِيسُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ آخَرَ لَقِيَهُ ،
وَيُوهِمَ السَّامِعَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَاعٌ ، وَلَا يَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ
مِنْهُ ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَيَقُولُ : قَالَ فُلَانٌ ،
وَذَكَرَ فُلَانٌ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ
.
وَقَدْ كَانَ الْأَعْمَشُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَهِشَامٌ
، فِي آخَرِينَ يُدَلِّسُونَ الْأَخْبَارَ .
وَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ : لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ .
وَالْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَنَا : أَنَّهُ إنْ كَانَ
الْمُدَلِّسُ مَشْهُورًا بِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ إلَّا عَمَّنْ يَجُوزُ قَبُولُ
رِوَايَتِهِ ، فَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِيمَا دَلَّسَ ، وَإِنْ كَانَ
الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ دَلَّسَ : مِنْ ثِقَةٍ أَوْ
غَيْرِ ثِقَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ تَذْكُرَ سَمَاعَهُ
فِيهِ ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي إرْسَالِهِ الْحَدِيثَ ، وَلَا سِيَّمَا كُلُّ
مَنْ أَسْقَطَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ رَجُلًا مُدَلِّسًا ،
لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا
مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يَسْمَعُوهَا ، وَحَذَفُوا ذِكْرَ مَنْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَنْ
قَالُوا : قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ ، وَلَا يُسَمَّوْنَ مُدَلِّسِينَ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ إنَّمَا قَصَدُوا الِاخْتِصَارَ ،
وَتَقْرِيبَ الْإِسْنَادِ عَلَى السَّامِعِينَ مِنْهُمْ .
الْآخَرُ :
أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْإِسْنَادِ تَأْكِيدَ
الْحَدِيثِ ، وَالْقَطْعَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: بِأَنَّهُ قَالَهُ ، وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّزَيُّنَ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ .
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ ، مَنْ قَصَدَ
مِنْهُمْ بِحَذْفِ الرَّجُلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ :
أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
.
فَإِنَّا لَا نُسَمِّيهِ مُدَلِّسًا ، وَإِنَّمَا
الْمُدَلِّسُ مَنْ يَقْصِدُ بِحَذْفِ الرَّجُلِ الَّذِي سَمِعَهُ : التَّزَيُّنَ
بِعُلُوِّ السَّنَدِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَهَذَا الْقَصْدُ غَيْرُ مَحْمُودٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ
مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ ، فَهُوَ مَقْبُولُ
الْخَبَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا .
وَمَنْ يُدَلِّسُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ فَالْأَظْهَرُ
مِنْ أَمْرِهِ : أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ.
فَصْلٌ
وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقْرِئَ الْمُحَدِّثَ
فَيَقُولَ فِيهِ : حَدَّثَنَا إذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ يَسْمَعُ وَيَضْبِطُ مَا
يُقْرَأُ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
، أَنَّهُ قَالَ : إنَّ قِرَاءَتَك عَلَيَّ لِمُحَدِّثٍ أَثْبَتُ مِنْ قِرَاءَتِهِ
عَلَيْك .
وَوَجْهُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا كَانَ قَارِئًا لَمْ
يَعْقِلْ شَيْئًا مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ هُوَ السَّامِعُ ، فَقَدْ يَجُوزُ
أَنْ يَعْقِلَ بَعْضَ مَا يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ .
وَمِثْلُهُ يَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَاتُ ، وَهِيَ
أَكْبَرُ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَخْبَارِ ، لِأَنَّك لَوْ قَرَأْت صَكًّا عَلَى
إنْسَانٍ بِحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَقُلْت لَهُ : أَشْهَدُ عَلَيْك بِذَلِكَ ، فَقَالَ
: نَعَمْ .
وَسِعَك أَنْ تَقُولَ : أَقَرَّ عِنْدِي فُلَانٌ
بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ
.
وَأَمَّا مَنْ كُتِبَ إلَيْهِ بِحَدِيثٍ ، فَإِنَّهُ
إذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إمَّا بِقَوْلِ ثِقَةٍ ، أَوْ بِعَلَامَاتٍ
مِنْهُ وَخَطِّهِ ، يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ
أَنَّهُ كِتَابُهُ ، فَإِنَّهُ يَسَعُ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ الْكِتَابُ أَنْ
يَقُولَ : أَخْبَرَنِي فُلَانٌ ، يَعْنِي الْكَاتِبَ إلَيْهِ ، وَلَا يَقُولُ
حَدَّثَنِي .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ : إنْ
أَخْبَرْت فُلَانًا بِسِرِّ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ ،
وَوَصَلَ إلَيْهِ كِتَابَاتُهُ
.
فَقَدْ أَخْبَرَ ، وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا
اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي
كِتَابِهِ
وَجَائِزٌ لَنَا أَنْ نَقُولَ : أَخْبَرَنَا اللَّهُ
بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ : حَدَّثَنَا .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ
إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، { وَكَتَبَ إلَى
الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } .
وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُكَيْمٍ : وَرَدَ
عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْ لَا
تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ } .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ مِنْ
ذَلِكَ : هُوَ إخْبَارٌ مِنْ الْكَاتِبِ بِهِ .
وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِ رَجُلٍ وَمَذْهَبِهِ
فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ بِهِ قَدْ تَنَاوَلَتْهُ النُّسَخُ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ
لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنْ يَقُولَ : قَالَ فُلَانٌ كَذَا ، وَمَذْهَبُ فُلَانٍ
كَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ .
مِثْلُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَمُوَطَّأِ
مَالِكٍ ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ ،
لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ
وَالِاسْتِفَاضَةِ ، لَا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إلَى إسْنَادٍ ، وَقَدْ عَابَ بَعْضُ
أَغْمَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ
حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْكُتُبِ فَقِيلَ لَهُ : أَسَمِعْتهَا مِنْ أَبِي
حَنِيفَةَ ؟ فَقَالَ : لَا .
فَقِيلَ لَهُ : أَسَمِعْتهَا مِنْ أَبِي يُوسُفَ ؟
فَقَالَ : لَا .
وَإِنَّمَا أَخَذْنَاهَا مُذَاكَرَةً .
فَأَنْكَرَ هَذَا الْقَائِلُ بِجَهْلِهِ عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنْ يَحْكِيَ عَنْهُمْ أَقَاوِيلَهُمْ الَّتِي
فِي كُتُبِهِمْ الْمُصَنَّفَةِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ .
وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ
إلَى سَمَاعٍ ، وَلَا إسْنَادٍ ، لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هَكَذَا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ
أَنْ يَقُولَ لِمُوَطَّإِ مَالِكٍ ، أَوْ كِتَابِ أَبِي يُوسُفَ : هَذَا كِتَابُ
فُلَانٍ ، وَهَذَا كِتَابُ فُلَانٍ ، إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهُ بِإِسْنَادٍ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ الرَّاوِي لِرَجُلٍ : قَدْ أَجَزْت
لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَارْوِهِ عَنِّي
فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا مَا فِيهِ ، جَازَ لَهُ أَنْ
يَرْوِيَهُ عَنْهُ فَيَقُولُ : حَدَّثَنِي ، وَأَخْبَرَنِي ، كَمَا أَنَّ
رَجُلًا لَوْ كَتَبَ صَكًّا وَالشُّهُودُ يَرَوْنَهُ ،
ثُمَّ قَالَ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ ، جَازَ لَهُمْ إقَامَةُ
الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ
.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الرَّاوِي ، وَلَا
السَّامِعُ بِمَا فِيهِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ : أَخْبَرَنِي فُلَانٌ بِذَلِكَ ، كَمَا قَالُوا فِي
الصَّكِّ إذَا أَشْهَدَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ : لَمْ يَصِحَّ
الْإِشْهَادُ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا لَهُ : أَجَزْنَا لَك مَا
يَصِحُّ عِنْدَك مِنْ حَدِيثِنَا ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، كَمَا لَوْ
قَالَ : مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ صَكٍّ فِيهِ إقْرَارِي فَاشْهَدْ بِهِ عَلَيَّ
.لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فارغة
الْبَابُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي قَوْلِ
الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا ، وَنُهِينَا عَنْ كَذَا ، وَالسُّنَّةُ كَذَا
فارغة
بَابٌ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا ،
وَنُهِينَا عَنْ كَذَا ، وَالسُّنَّةُ كَذَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا ، وَنُهِينَا
عَنْ كَذَا .
وَقَوْلُهُ :
السُّنَّةُ كَذَا .لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ
مِنْهُ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذْ كَانَ الْأَمْرُ
وَالنَّهْيُ وَالسُّنَّةُ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، دُونَ
غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } .
فَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْأَمِيرِ
وَالْوُلَاةِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِي مِثْلِهِ عَلَى : أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ ، فَقَدْ
تَكُونُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
مِنْ بَعْدِي } .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ
سُنَّةً حَسَنَةً } .
وَقَالَ :
{ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا
وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً
سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا ، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لِرَبِيعَةَ ، حِينَ
سَأَلَهُ عَنْ أَرْشِ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ إذَا كُنَّ ثَلَاثًا فَقَالَ : "
فِيهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا .
فَقَالَ : فِيهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ .
قُلْت : لَمَّا كَثُرَ جُرْحُهَا وَعَظُمَتْ
مُصِيبَتُهَا نَقَصَ أَرْشُهَا ؟ فَقَالَ : أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ ؟ هَكَذَا
السُّنَّةُ " وَإِنَّمَا مَخْرَجُ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ،
فَسَمَّاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ سُنَّةً .
وَحُكِيَ لَنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ : " إذَا
قَالَ مَالِكٌ : السُّنَّةُ كَذَا ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ سُنَّةَ سُلَيْمَانَ بْنِ
بِلَالٍ ، وَكَانَ عَرِيفَ السُّوقِ
" .
وَأَمَّا إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ : أَمَرَنَا رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا ، أَوْ نَهَانَا عَنْ كَذَا ،
وَسَنَّ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا ، أَوْ
قَالَ هَذِي سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ
مِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى أَنْ يُوجِبَ بِمِثْلِهِ حُكْمًا ، حَتَّى يَحْكِيَ
لَفْظَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ ، لِأَنَّهُ
جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ لَفْظًا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي ، فَتَأَوَّلَهُ
عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ ، وَنَحْنُ فَلَا يَلْزَمُنَا تَأْوِيلُهُ ، لَا
سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ مَذْهَبِ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ نَقْلَ
الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : حُكْمُ مَا هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ
ثَابِتٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ
الْعُدُولُ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ مِنْ
أَهْلِ اللِّسَانِ وَمِمَّنْ يُوثَقُ بِضَبْطِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَهُوَ يَعْرِفُ
مَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ .
فَلَوْ كَانَ مَصْدَرُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَهُ عَنْ
لَفْظٍ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَبَيَّنَ حِكَايَةَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ ،
فَلَمَّا اقْتَصَرَ عَلَى إجْمَالِ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلِمْنَا :
أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ عِنْدَهُ لَمْ يُغَيِّرْ مَا حَكَيْنَاهُ .
وَلَوْ سَاغَ الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ قَائِلُ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ إذَا قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَيْتَ وَكَيْتَ " ،
لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرْوِي نَقْلَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ .
مِنْهُمْ : الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَمِنْهُمْ :
مَنْ يَرَى نَقْلَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ ، فَيَجُوزُ
عَلَى مَوْضُوعِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا إنَّمَا حَكَى
مَعْنَى مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَا لَفْظَهُ
بِعَيْنِهِ ، لِأَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمَعْنَى
دُونَ اللَّفْظِ ، فَلَمَّا أَبْطَلَ ذَلِكَ .
وَكَانَ قَوْلُهُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَذَا
.
مَحْمُولًا عَلَى حِكَايَةِ لَفْظٍ وَحَقِيقَةِ
مَعْنَاهُ ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ
قَوْلُهُ :
" أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكَذَا : وَنَهَانَا عَنْ كَذَا ، وَسَنَّ لَنَا كَذَا ، عَلَى
حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ " كَأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَيْنِهِ
.
وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ
تَكْتَفِي فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ سُنَنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْكَامَهُ ، وَسَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِسَمَاعِ
هَذَا اللَّفْظِ ، فِيمَا يَزِيدُ مَعْرِفَةً مِنْ
النُّصُوصِ وَالسُّنَنِ ، أَلَا تَرَى : أَنَّ صَفْوَانَ
بْنَ عَسَّالٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، قَالَ : {
أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفَرًا :
أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا ، لَيْسَ الْجَنَابَةَ
، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَمْرِ
مُجْمَلًا ، دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِ أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَقَنَعَ السَّائِلُ أَيْضًا مِنْهُ بِذَلِكَ ، دُونَ مُطَالَبَتِهِ بِإِيرَادِ
لَفْظِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : {
كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا ، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ
خَدِيجٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا ،
فَتَرَكْنَاهَا } فَاكْتَفَى مِنْهُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّهْيِ ، دُونَ
حِكَايَةِ لَفْظِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ ، يَطُولُ الْكِتَابُ
بِذِكْرِهِ ، وَمِنْ نَحْوِهِ : قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ ، حِينَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ :
السُّنَّةُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ :
" هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك
" وَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ إضَافَتِهِ السُّنَّةَ إلَى
النَّبِيِّ : إلَى حِكَايَةِ لَفْظِهِ أَوْ فِعْلِهِ .
الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي
الصَّحَابِيِّ إذَا رَوَى خَبَرًا ثُمَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الصَّحَابِيِّ إذَا رَوَى خَبَرًا
ثُمَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إنْ كَانَ الْخَبَرُ
يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تَأْوِيلِ الصَّحَابِيِّ وَلَا
غَيْرِهِ ، وَأَمْضَى الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، إلَّا أَنْ تَقُومَ
الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ صَرْفِهِ إلَى مَا يُؤَوِّلُهُ الرَّاوِي .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنْ يَرْوِيَهُ ثُمَّ يَقُولَ
بِخِلَافِهِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ
اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ .
فَهَذَا يَدُلُّ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِهِ : أَنَّهُ قَدْ
عُلِمَ نَسْخُ الْخَبَرِ ، أَوْ عُقِلَ مِنْ ظَاهِرِ حَالِهِ : أَنَّ مُرَادَهُ
كَانَ النَّدْبَ ، دُونَ الْإِيجَابِ
.
فَالْأَوَّلُ : نَحْوُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : {
الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا } .
وَالتَّفْرِيقُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ ، وَيَكُونُ
بِالْفِعْلِ ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ
.
وَكَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ عَلَى
التَّفْرِيقِ بِالْأَبْدَانِ .
وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ ، فَلَا يَقْضِي تَأْوِيلَهُ
عَلَى مُرَادِ الْخَبَر .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : نَحْوُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فِي { غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ
الْكَلْبِ سَبْعًا } .
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَا رُوِيَ { عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ
عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : مَا هُوَ
إلَّا أَنْ سَمِعْت النِّدَاءَ ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى
أَنْ تَوَضَّأْت ، فَقَالَ عُمَرُ : وَلِلْوُضُوءِ
أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْت : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْغُسْلِ
} .
فَأَخْبَرَ :
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ
بِالْغُسْلِ ، ثُمَّ قَالَ هُوَ : إنَّ الْوُضُوء يُجْزِئُ عَنْهُ ، وَالْأَمْرُ
بِالْغُسْلِ لَا يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْوُضُوءِ .
فَعَلِمْنَا : أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ بِإِجْزَاءِ
الْوُضُوءِ عَنْ الْغُسْلِ ، إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فَحْوَى
خِطَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمِنْ
دَلَالَةِ الْحَالِ ، وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ : أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ كَانَ
عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ .
وَنَحْوُهُ مَا رَوَى عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ
، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ
} .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ : " لَمْ يَرْفَعْهُمَا "
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ
} .
ثُمَّ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهُ : " صَلَّى خَلْفَ
ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ ، إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ "
فَدَلَّ تَرْكُهُمَا الرَّفْعَ بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى :
أَنَّهُمَا قَدْ عَرَفَا نَسْخَ الْأَوَّلِ ، لَوْلَاهُ لَمَا تَرَكَاهُ ، إذْ
غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِمَا مُخَالَفَةُ سُنَّةٍ رَوَيَاهَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ
لِلتَّأْوِيلِ .
قَالَ عِيسَى : وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الْخَبَرِ
مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَالْعَمَلُ عَلَى
الْخَبَرِ ، دُونَ مَا رَوَى الصَّحَابِيُّ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّهُ قَالَ : { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ،
جَلْدُ مِائَةٍ ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ " نَفَى رَجُلًا ، فَلَحِقَ بِالرُّومِ .
فَقَالَ
عُمَرُ : لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَحَدًا " .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ : " كَفَى بِالتَّفْرِقَةِ فِتْنَةً " فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ
حَدًّا ثَابِتًا لَمَا تَرَكُوهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهَا ، إذَا صِرْت عَلَيْهَا .
مُتْعَةِ النِّسَاءِ ، وَمُتْعَةِ الْحَجِّ " .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ " هُمْ شَهِدُوا ، وَهُمْ
نَهَوْا عَنْهَا ، فَمَا فِي رَأْيِهِمْ مَا يُرْغَبُ عَنْهُ ، وَلَا فِي
نَصِيحَتِهِمْ
مَا يُتَّهَمُ " .
وَمِنْهَا :
{ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَسَمَ خَيْبَرَ
حِينَ افْتَتَحَهَا } وَفَتَحَ عُمَرُ السَّوَادَ فَلَمْ يَقْسِمْهُ ، وَتَرَكَهَا
فِي أَيْدِي أَهْلِهَا ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ : أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قِسْمَةِ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا ، لِأَنَّ مَا لَا
يَجُوزُ غَيْرُهُ ، لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِالْمَدِينَةِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " إنْ جَمَعَا
بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ " وَلَوْ كَانَ
الْجَمْعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا ثَابِتًا - لَمَا خَفَى
مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ يَصْحَبُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ خَفِيَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ نَسْخُ التَّطْبِيقِ ، وَكَانَ يُطَبِّقُ بَعْدَ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مَعَ قُرْبِ مَحَلِّهِ مِنْ النَّبِيِّ ،
وَمُلَازَمَتِهِ إيَّاهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّطْبِيقِ
عَمْدًا ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ لَفْظَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ
عَلَى الرُّخْصَةِ ، لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ : " شَكَا إلَيْهِ مَشَقَّةَ
التَّطْبِيقِ فَقَالَ : { اسْتَعِينُوا بِالرَّكْبِ } .
وَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ : التَّرْخِيصُ ،
فَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ عِنْدَهُ : أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ ،
فَاخْتَارَهُ ، لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْمُصَلِّي .
قَالَ عِيسَى : فَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِمَّا
يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الصَّحَابِيِّ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ : رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ
طَوَافِ الصَّدْرِ } وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " تُقِيمُ حَتَّى
تَطْهُرَ فَتَطُوفَ " .
وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى عُمَرَ .
فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.
قَالَ : وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ : أَمَرَ
بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ }
وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ : " لَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ
" ، وَمِثْلُهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ، فَلَا يُعْتَرَضُ
بِخِلَافِهِ عَلَى الْخَبَرِ ، وَلَا يُوهِنُهُ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ " فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، الَّذِي لَا يَثْبُتُ
عَلَى الرَّاحِلَةِ "
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا
يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " فَهَذِهِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ خَفَاءُ
مِثْلِهَا عَلَى هَؤُلَاءِ ، فَلَا تَقْدَحُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيهَا فِي الْخَبَرِ
، وَيُحْمَلُ أَمْرُهُ عَلَى : أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ قَدْ كَانَ بَلَغَهُمْ لَصَارُوا
إلَيْهِ ، وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ
.
بَابٌ الْقَوْلُ فِي رَاوِي الْخَبَرِ كَيْفَ سَبِيلُهُ
أَنْ يُؤَدِّيَهُ
الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي
رَاوِي الْخَبَرِ كَيْفَ سَبِيلُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي رَاوِي الْخَبَرِ كَيْفَ سَبِيلُهُ
أَنْ يُؤَدِّيَهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
قَدْ حَكَيْنَا عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ :
أَنَّهُمَا كَانَا يُحَدِّثَانِ بِالْمَعَانِي ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ - مِنْهُمْ
ابْنُ سِيرِينَ - يُحَدِّثُ بِاللَّفْظِ .
وَالْأَحْوَطُ عِنْدَنَا إذًا اللَّفْظُ وَسِيَاقُهُ
عَلَى وَجْهِهِ ، دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَعْنَى ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ
مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ .
إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مِثْلَ : الْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ
، فِي إتْقَانِهِمَا لِلْمَعَانِي وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ وَفْقَهَا غَيْرُ
فَاضِلَةٍ عَنْهَا ، وَلَا مُقَصِّرَةٍ
.
وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا كَانَ يَفْعَلَانِهِ فِي
اللَّفْظِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ، وَيَكُونُ لِلْمَعْنَى عِبَارَاتٌ
مُخْتَلِفَةٌ ، فَيُعَبِّرَانِ تَارَةً بِعِبَارَةٍ ، وَتَارَةً بِغَيْرِهَا .
فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ
الْأَلْفَاظِ فَإِنَّا لَا نَظُنُّ بِهِمَا : أَنَّهُمَا كَانَا يُغَيِّرَانِهِ
إلَى لَفْظٍ غَيْرِهِ ، مَعَ احْتِمَالِهِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى لَفْظِ
الْأَصْلِ ، وَأَكْثَرُ فَسَادِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَتَنَاقُضِهَا
وَاسْتِحَالَتِهَا إنَّمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ
كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي ، فَيُعَبِّرُ
هُوَ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ ، وَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا ، عَلَى أَنَّهُ
هُوَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيَفْسُدُ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ
نَقْلِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا
سَمِعَهَا .
فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ
حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } .
فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَقْلِ اللَّفْظِ
بِعَيْنِهِ لِيَعْتَبِرَهُ الْفُقَهَاءُ ، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي
يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهَا .
فارغة
الْبَابُ السِّتُّوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي أَفْعَالِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ ) ( فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
أَفْعَالُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَاقِعَةُ
عَلَى قَصْدٍ مِنْهُ يَقْتَسِمُهَا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ .
وَاجِبٌ ، وَنَدْبٌ ، وَمُبَاحٌ ، إلَّا مَا قَامَتْ
الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ الْمَعْفُوَّةِ .
فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِعْلٌ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ
دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ ، عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي
ذَكَرْنَا ، فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْنَا مِنْ
حُكْمِهَا .
فَقَالَ قَائِلُونَ : وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ
مِثْلَهُ ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ وَاجِبٌ
عَلَيْنَا فِعْلُهُ ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِ ، وَلَنَا
فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، إذْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى مَنَازِلِ
أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : نَقِفُ فِيهِ ، وَلَا نَفْعَلُهُ ،
لَا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا غَيْرِهَا ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إذَا عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَى
شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ : مِنْ الْإِبَاحَةِ ، وَالنَّدْبِ
وَالْإِيجَابِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ ،
وَإِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ ، حَتَّى
تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ : ظَاهِرُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَلْزَمُنَا بِهِ
شَيْءٌ ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِهِ لَنَا ، وَلَا أَحْفَظُ عَنْهُ
الْجَوَابَ أَيْضًا ، إذَا عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا ، وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي مِنْ مَذْهَبِهِ ، أَنَّهُ
عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ ،
فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا فِعْلَ مِثْلِهِ - قَوْلُ اللهِ
تَعَالَى {
أَطِيعُوا اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى { فَاتَّبِعُوهُ }
وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ
اللَّهُ } فَلَمَّا أَمَرْنَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ
وَاتِّبَاعُهُ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِأَنْ نُوقِعَ أَفْعَالَنَا عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَّا .
وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ عِبَارَةً عَنْ إرَادَتِهِ
ذَلِكَ مِنَّا ، وَلَا كَانَ فِي ظَاهِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ
لَنَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ، مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ
يُرِيدُ ذَلِكَ مِنَّا ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُنَا لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
طَاعَةً ، وَلَا اتِّبَاعًا لَهُ ، وَلِأَنَّا مَتَى أَقْدَمْنَا عَلَى ذَلِكَ
فَقَدْ قَضَيْنَا بِأَنَّهُ مُرِيدٌ مِنَّا ذَلِكَ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا إثْبَاتُ
إرَادَتِهِ لِذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ ، وَظُهُورُ فِعْلِهِ لَا
يَدُلُّ عَلَيْهَا ، أَوْ قَدْ يَفْعَلُ هُوَ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا وَلَا يُرِيدُ
مِنَّا مِثْلَهُ ، فَإِذًا لَيْسَ وُجُودُ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مَعَ
عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَلَيْسَ ظُهُورُ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
كَظُهُورِ أَمْرِهِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى إرَادَتِهِ مِنَّا ، لِأَنَّهُ لَا
يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ
فَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي إرَادَةَ الْمَأْمُورِ
مِنَّا .
فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَا
اسْتَدْلَلْت بِهِ مِنْ الْآيِ هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِهِ
عَلَيْنَا ، لِأَنَّهُ حِينَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ ، فَقَدْ أَمَرَنَا بِأَنْ
نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ ، إذْ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْ لَفْظِ الِاتِّبَاعِ ،
أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ
.
قِيلَ : لَا يَخْلُو شَرْطُ الِاتِّبَاعِ : مِنْ أَنْ
يَكُونَ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَهُ ، مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ مِنَّا ، أَوْ أَنْ
نَفْعَلَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُهُ مِنَّا ، وَمَتَى فَعَلَهُ فِي صُورَتِهِ
مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِهِ بِإِرَادَتِهِ إيَّاهُ مِنَّا ، لَكُنَّا مُتَّبِعِينَ
إذَا نَهَانَا عَنْهُ ، وَفَعَلَهُ هُوَ فِي
نَفْسِهِ ، فَفَعَلْنَا مِثْلَ فِعْلِهِ لِوُجُودِ مِثْلِهِ
فِي صُورَتِهِ مِنَّا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكُنَّا مُطِيعِينَ لَهُ بِذَلِكَ
، لِأَنَّ مُتَّبِعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ
مُطِيعًا لَهُ : فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا عَاصِيًا ، فَلَمَّا بَطَلَ
هَذَا عَلِمْنَا : أَنَّ شَرْطَ اتِّبَاعِهِ فِي فِعْلِهِ : أَنْ نُوقِعَهُ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهِ وَأَرَادَهُ مِنَّا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُ ظَاهِرُ
فِعْلِهِ دَلَالَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا عَلَى
أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إيقَاعُهُ عَلَى جِهَةِ
الْإِيجَابِ ، مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ مِنَّا بِالْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ
عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا : فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِعْلُهُ
عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ ثُمَّ فَعَلْنَاهُ نَحْنُ عَلَى وَجْهِ
الْوُجُوبِ - لَمْ نَكُنْ مُتَّبِعِينَ لَهُ ، لِأَنَّ شَرْطَ الِاتِّبَاعِ
إيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ ، وَمَتَى خَالَفْنَاهُ
فِي هَذَا الْوَجْهِ خَرَجْنَا مِنْ حَدِّ الِاتِّبَاعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَفَعَلَ
غَيْرُهُ مِثْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ لَهُ وَالْمُضَاهَاةِ لِفِعْلِهِ
قَاصِدًا الْمُعَارَضَةَ وَمُبَارَاتَهُ ، لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لَهُ ، وَإِنْ
كَانَ قَدْ أَوْقَعَ فِعْلًا مِثْلَ فِعْلِهِ فِي الظَّاهِرِ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْله
تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَالْفِعْلُ يَجُوزُ أَنْ
يَتَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عِبَارَةً عَنْ شَأْنِهِ وَطَرِيقَتِهِ
.
كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ
بِرَشِيدٍ } وَقَالَ تَعَالَى {
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى {
قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَضَمَّنَ
قَوْله تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } النَّهْيَ
عَنْ مُخَالَفَتِهِ : فِي شَأْنِهِ ، وَطَرِيقَتِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، وَأَحْوَالِهِ
فِيهِ .
قِيلَ لَهُ :أَوَّلُ مَا فِي هَذَا : أَنَّ إطْلَاقَ
لَفْظِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ :
افْعَلْ ، وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ ، إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ لَا يَنْتَفِي
عَنْ هَذَا الْقَوْلِ ، إذَا أُرِيدَ بِهِ إلْزَامُ الْفِعْلِ بِحَالٍ ،
وَيَنْتَفِي لَفْظُ الْأَمْرِ عَنْ الْفِعْلِ بِأَنْ يُقَالَ : الْفِعْلُ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى
الْحَقِيقَةِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفْصِلَ
بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ ، وَيَعْطِفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَقُولَ :
فِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ - لَجَازَ أَنْ
يُقَالَ : لِكُلِّ فِعْلٍ أَمْرٌ ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ صَلَاتَنَا
أَمْرٌ ، وَقُعُودَنَا ، وَأَكْلَنَا ، وَشُرْبَنَا ، أَمْرٌ .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا : أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي فِي
مُقَابَلَةِ الْأَمْرِ - وَهُوَ النَّهْيُ - إنَّمَا يَكُونُ قَوْلًا لَا فِعْلًا
، فَكَذَلِكَ ضِدُّهُ ، وَمَا فِي مُقَابَلَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلًا .
وَأَيْضًا : فَلَوْ صَحَّ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ
يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت ،
لِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى : ( عَنْ أَمْرِهِ ) رَاجِعٌ إلَى
اللهِ تَعَالَى ، دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ
حُكْمَ الْكِنَايَةِ أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهَا ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى مَا
تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، فَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَلِي الْكِنَايَةَ اسْمَ اللهِ
تَعَالَى ، لِأَنَّهُ قَالَ : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِوَاذًا } وَقَالَ :
{ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى ، وَإِذَا
صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى اللهِ تَعَالَى لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ إلَى الرَّسُولِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَ الْوَاحِدِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَكَانَ
تَقْدِيرُ الْآيَةِ ، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللهِ ،
فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ
مِنْ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } .
قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : أَيْ لَا تَدْعُوهُ كَمَا
يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنْكُمْ : يَا مُحَمَّدُ ،
بَلْ يَدْعُوهُ بِأَنْبَهِ أَسْمَائِهِ وَأَشْرَفِهَا ، فَيَقُولُ : يَا نَبِيَّ
اللهِ ، وَيَا رَسُولَ اللهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُ ضَمِيرِ الْكِنَايَةِ
إلَيْهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا } فَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَى التِّجَارَةِ
، وَقَدْ تَوَسَّطَهَا ذِكْرُ اللَّهْوِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْته ، لِأَنَّ
الْأَصْلَ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى مَا يَلِيهَا ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا
تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : ( انْفَضُّوا إلَيْهَا
) قَدْ عَادَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَهُمَا
جَمِيعًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحَصَلَ قَوْلُهُ : ( أَوْ لَهْوًا ) مُنْفَرِدًا
عَنْ خَبَرِهِ ، فَيَبْطُلُ فَائِدَتُهُ ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ : أَوْ لَهْوًا ،
مُفْتَقِرًا إلَى خَبَرٍ ، وَلَا خَبَرَ لَهُ غَيْرُ مَا فِي الْآيَةِ عَلِمْنَا
أَنَّ قَوْلَهُ : انْفَضُّوا إلَيْهَا خَبَرٌ لَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا خَصَّ
التِّجَارَةَ بِالْكِنَايَةِ ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ : أَنَّ تَفَرُّقَ النَّاسِ
إلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَجَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ
اقْتَضَتْ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاهِرُ فِعْلِهِ مُوجِبًا عَلَيْنَا فِعْلَ مِثْلِهِ
، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَذَّرَ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ ، وَمَتَى لَمْ يَعْلَمْ عَلَى
أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِنْ إيجَابٍ ، أَوْ نَدْبٍ ، أَوْ
إبَاحَةٍ ، ثُمَّ فَعَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ
وَأَرَادَهُ مِنَّا فَإِنَّ ذَلِكَ إلَى مُخَالَفَتِهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى
الْمُتَابَعَةِ ، وَلَيْسَ تَرْكُ الْمُخَالَفَةِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ ،
فِي صُورَتِهِ ، دُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى إرَادَتِهِ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ
لَوْ نَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ ، وَإِنْ فَعَلَ مِثْلَ
مَا فَعَلَ .
وَأَيْضًا : لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ لَفْظَ
الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ ، لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُرَادًا
بِالْآيَةِ عِنْدَنَا ، وَإِنْ رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ : أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ
الْقَوْلُ مُرَادٌ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ امْتَنَعَ دُخُولُ
الْفِعْلِ فِيهِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ
يَتَنَاوَلَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ .
وَأَيْضًا :
فَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ جَمِيعَ مَا ادَّعَوْهُ فِي
الْآيَةِ : مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا : طَرِيقَتُهُ ،
وَشَأْنُهُ ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
لَمَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي إيجَابِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ
الْعُمُومِ فِي لُزُومِ سَائِرِ أَفْعَالِهِ لَنَا ، وَمَا لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ
الْعُمُومِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُهُ : فَلْيَحْذَرْ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ بَعْضِ أَفْعَالِهِ ، فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ الْبَعْضُ
إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ ، وَلُزُومِ فِعْلِهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ
مُجْمَلًا ، مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { فَاتَّبِعُوهُ }
يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِ عَلَيْنَا
.
قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ
تَدُلُّ : عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْنَا ،
لِتَعَذُّرِ اتِّبَاعِهِ فِيهِ ، عِنْدَ فَقْدِنَا الْعِلْمَ بِالْوَجْهِ الَّذِي
أُوقِعَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً ، وَمَتَى فَعَلْنَاهُ عَلَى
جِهَةِ الْوُجُوبِ وَنَحْنُ لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى
غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَاعَةٍ ، فَلَا نَكُونُ مُتَّبِعِينَ
لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ ، لِأَنَّهُ
قَالَ : { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } وَمَعْنَاهُ
يَخَافُ اللَّهَ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ ،
لِأَنَّهُ قَالَ : لَكُمْ أَنْ تَتَأَسَّوْا بِهِ ، وَهَذَا نَدْبٌ وَلَيْسَ
بِإِيجَابٍ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ ،
لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : كَانَ يَفْعَلُ كَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ،
وَإِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، لَوْ قَالَ : عَلَيْك بِهِ ، أَنْ تَفْعَلَ
كَذَا .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : عَلَيْكُمْ
.كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وقَوْله تَعَالَى : {
وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ } مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ .
قِيلَ الْحَقِيقَةُ : مَا وَصَفْنَا ، وَهَذَا مَجَازٌ ،
لَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : {
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ } فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ،
لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ ، أَبَانَ بِهِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ
الثَّوَابِ بِالتَّأَسِّي بِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِالْفِعْلِ لَا
يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ النَّدْبَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ
، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ
.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَعْنَى :
يَخَافُ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ - غَلَطٌ ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ غَيْرُ
الْخَوْفِ فِي اللُّغَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : أَرْجُو الثَّوَابَ ،
وَلَا تَقُولُ : أَرْجُو الْعِقَابَ
.
وَإِنَّمَا تَقُولُ : أَخَافُ الْعِقَابَ ، وَقَالَ
تَعَالَى: { يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } ، فَالرَّجَاءُ
يَتَعَلَّق بِضِدِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَوْفُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ
عَلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ ، وَصَرْفُهُ إلَى ضِدِّ مُوجِبِهِ .
وَأَيْضًا : لَوْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا دَلَّ
عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ
التَّأَسِّي بِهِ ، لِيَكُونَ فِعْلًا مُسَاوِيًا لِفِعْلِهِ فِي الْحُكْمِ ،
فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ ، ثُمَّ فَعَلْته
أَنَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ،فَلَيْسَ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ طَاعَةٌ ، وَإِذَا فَعَلَهُ هُوَ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً وَفَعَلْته
أَنَا عَلَى الْوُجُوبِ فَقَدْ خَالَفْته ، وَمُخَالَفَتُهُ لَيْسَتْ بِطَاعَةٍ .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَ مَعْلُومًا تَعَذُّرُ
التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لُزُومَ سَائِرِ
أَحْوَالِهِ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ ، صَارَ مَا بَدَرَ إلَيْهِ مِنْ التَّأَسِّي
بِهِ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضِ أَفْعَالِهِ ، لِاسْتِحَالَةِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ
فِيهِ
فَصَارَ تَقْدِيرُهُ : لَكُمْ التَّأَسِّي بِهِ فِي
بَعْضِ أَفْعَالِهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ اللَّفْظِ فِي
إثْبَاتِ الْوَجْهِ الَّذِي يَتَأَسَّى بِهِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } يَدُلُّ عَلَى : أَنَّ مَا فَعَلَهُ يَجِبُ عَلَيْنَا
فِعْلُ مِثْلِهِ ، لِأَنَّهُ مِمَّا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : ( مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ ) وَبَيْنَ
لَوْ قَالَ : مَا أَتَى الرَّسُولُ بِهِ فَخُذُوهُ ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ
قَوْلِهِ : " مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ "
وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ : مَا نَهَى عَنْهُ فَانْتَهُوا
عَنْهُ .
فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
مَا آتَاكُمْ ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : مَا أَتَى بِهِ
فَخُذُوهُ ، بِقَصْرِ الْأَلِفِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( مَا آتَاكُمْ ) بِمَعْنَى
مَا أَعْطَاكُمْ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي خِطَابَنَا بِهِ ، وَإِرَادَتَهُ مِنَّا ، وَمَا
فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَدْ أَتَانَا فِي
نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَا يُرِيدُهَا مِنَّا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } ، فَإِنَّ
النَّهْيَ لَا يَكُونُ إلَّا خِطَابًا لَنَا ، وَذَلِكَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ ،
فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَوْ
قَالَ : مَا نَهَانَا عَنْهُ ، يُبَيِّنُ لَكُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : أَتَى فُلَانٌ
كَذَا : أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِعْلًا
فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ ، وَإِذَا قِيلَ : آتَى كَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ
يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ، يَنْبَغِي إعْطَاءً ، فَيَقْتَضِي مُعْطِيًا ،
فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ فِيمَا وَصَفْنَا خِطَابَ الْغَيْرِ بِهِ ، وَأَمَّا فِعْلٌ
يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا { خَلَعَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ خَلَعَ الْقَوْمُ نِعَالَهُمْ } ، فَدَلَّ : عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ
لِلْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قِيلَ لَهُ : هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْرُونَةٍ
بِدَلَالَةٍ ، مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ
الْوُجُوبَ ؟ دُونَ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ ؟ وَهَذَا
الْخَبَرُ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِي
أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ { النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَلَّمَ قَالَ لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟
فَقَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا .
فَقَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ بِهَا
قَذَرًا } فَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِيهِ - لَمَا كَانَ
أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ خَلْعَهَا فِي الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةً ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ ،
ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى اجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ
لَهُمْ : خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ } فَدَلَّ عَلَى : أَنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى
فِعْلِ الشَّيْءِ مُوجِبٌ لِلتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ ، لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ
لِقَوْلِهِ : خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ مَعْنًى .
قِيلَ لَهُ : هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى
نَفْيِ الْوُجُوبِ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا :
أَنَّ كَلَامَنَا فِي ظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ هَلْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَمْ لَا ؟ وَلَمْ نَتَكَلَّمْ فِي الْمُدَاوَمَةِ
، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمْ لَيْلَتَيْنِ ، وَأَخْبَرَ
مَعَ ذَلِكَ : أَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِفِعْلِهِ ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ يَقْتَضِي
الْوُجُوبَ لَكَانَ قَدْ وَجَبَ بِأَوَّلِ لَيْلَةٍ .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ
لَوْ دَاوَمْت ، فَأَخْبَرَ : أَنَّهَا كَانَتْ تُكْتَبُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ
الْفِعْلِ ، وَلَوْ كَانَتْ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ
لَقَالَ : لَوْ دَاوَمْت عَلَيْهَا لَوَجَبَتْ بِالْمُدَاوَمَةِ ، وَكَانَ لَا
يَحْتَاجُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهَا .
وَقَوْلُهُ : " خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ
" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ فِي مِثْلِهِ : أَنَّهُ إذَا دَاوَمَ
عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا ، وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُدَاوِمْ لَمْ
تُكْتَبْ ، فَكَانَ لُزُومُهُ لِلْفُرُوضِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ ، كَمَا
كَانَ لُزُومُ الْخَمْسِينَ صَلَاةً أَوْ الْخَمْسَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي
أُسْرِيَ بِهِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ
: أَنَّ أَفْعَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْتَوِرُهَا مَعْنَيَانِ : الْأَخْذُ ،
وَالتَّرْكُ .
فَلَمَّا كَانَ التَّرْكُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَهُوَ أَحَدُ
قِسْمَيْ الْفِعْلِ ، كَانَ الْأَخْذُ مِثْلَهُ .
وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ
فِي ظَاهِرِ الْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ ، كَمَا أَنَّهُ
لَيْسَ فِي ظَاهِرِ التَّرْكِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ : مِنْ
وُجُوبٍ ، أَوْ نَدْبٍ ، أَوْ إبَاحَةٍ
.
فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ وُجُوبُ الْفِعْلِ
عَلَيْنَا بِوُجُودِهِ " مِنْهُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ " فَإِنْ
قِيلَ : قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ
الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ
مُتَنَازِعَيْنِ ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ خَصْمَيْنِ بِالْقَضَاءِ لِأَحَدِهِمَا
عَلَى الْآخَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ أَفْعَالِهِ بِمَثَابَتِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِعْلَهُ ،
فَهُوَ سُؤَالٌ سَاقِطٌ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ وُرُودَ فِعْلِهِ مَوْرِدَ
الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ، وَإِنَّمَا نَقُولُ : إنَّ وُرُودَ
فِعْلِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ إذَا كَانَ بَيَانًا
لِلَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ ،وَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا لِمَا لَا يَقْتَضِي
الْإِيجَابَ فَلَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ
.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى
الْآخَرِ وَنَحْوِهِ - فَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ
قَامَتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ ، فَلَزِمَنَا الِاقْتِدَاءُ
فِيهِ .
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنَّ مَا عَلِمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ مِنْهَا فَوَاجِبٌ
عَلَيْنَا فِعْلُهُ .
وَالْكَلَامُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ
ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ - خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَا يَقْتَضِي
وُجُوبَ مِثْلِهِ عَلَيْنَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُنَا عُمُومَ مِثْلِ
أَفْعَالِهِ ، لِأَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا نَتَوَصَّلُ إلَيْهِ ،
لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُلَازَمَتِهِ ، وَتَرْكُ مُفَارَقَتِهِ
، فَاسْتَحَالَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَكْلِيفُنَا عُمُومَ أَفْعَالِهِ ، فَلَمَّا
اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُ وَاجِبًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يُمَيِّزَ مَا هُوَ وَاجِبٌ مِنْهَا مِمَّا
لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، بِدَلَالَةِ غَيْرِ الْفِعْلِ ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ
الِاسْتِدْلَال بِظَاهِرِ فِعْلِهِ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ مِثْلِهِ عَلَيْنَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ أَفْعَالُهُ
وَاجِبَةً عَلَيْنَا حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا
غَيْرُ وَاجِبٍ ، فَيَخْرُجُ عَلَى حَدِّ الْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ
لِذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُسَوِّغُ
أَنْ يُقَالَ فِيمَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ جَمِيعِهِ ، ثُمَّ يَرِدُ لَفْظٌ يَقْتَضِي
لُزُومَ الْجَمِيعِ .
فَيُقَالُ : إنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ ، إلَّا مَا قَامَ
دَلِيلُهُ ، فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ جَمِيعِهِ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّ
جَمِيعَهُ وَاجِبٌ ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ ، وَعَلَى أَنَّك لَمْ تُعَضِّدْ
هَذَا الْقَوْلَ بِدَلِيلٍ .
وَلِخَصْمِك أَنْ يَقُولَ : إنَّ جَمِيعَهُ غَيْرُ
وَاجِبٍ ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ دَلَّلْنَا
عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ(فِعْلِهِ؟؟) عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْتَضِي
وُجُوبَ مِثْلِهِ عَلَيْنَا .
وَنُدَلِّلُ الْآنَ : عَلَى أَنَّا مَتَى وَقَفْنَا
عَلَى حُكْمِ فِعْلِهِ : مِنْ إبَاحَةٍ ، أَوْ نَدْبٍ ، أَوْ إيجَابٍ ، فَعَلَيْنَا
اتِّبَاعُهُ ، وَالتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : قَوْله تَعَالَى : { فَاتَّبِعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ }
وَقَالَ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وَالِاتِّبَاعُ :
أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ ، وَفِي حُكْمِهِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَاجِبًا ، فَعَلْنَا
عَلَى الْوُجُوبِ ، وَإِذَا فَعَلَهُ نَدْبًا ، أَوْ مُبَاحًا ، فَعَلْنَاهُ
كَذَلِكَ ، لِنَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الِاتِّبَاعَ حَقَّهُ ، وَفِيمَا
يَقْتَضِيهِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى : {
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فَإِذَا عَلِمْنَاهُ فَعَلَ فِعْلًا
عَلَى الْوُجُوبِ قُلْنَا : التَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ،
فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا بِوُقُوفِنَا عَلَى جِهَةِ فِعْلِهِ ،
أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ - لَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِيهِ ، عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ - لَا يَجُوزُ
فِعْلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَكَذَلِكَ مَا عَلِمْنَا مِنْ أَفْعَالِهِ :
أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ .
قُلْنَا :
فَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، بِظَاهِرِ الْآيَةِ ،
فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ صَارَ نَدْبًا لَمَا جَازَ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ
النَّدْبِ ، وَالتَّأَسِّي بِهِ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ ، وَفِي حُكْمِهِ سَوَاءٌ
، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ فِعْلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ
وَقَعَ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّأَسِّي بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، لِمَا
وَصَفْنَا .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ
قَدْ عَقَلُوا فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
أَنَّهُ وَسَائِرَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ ، إلَّا مَا خَصَّهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَأَفْرَدَهُ بِحُكْمِهِ ، دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ
، كَمَا عَقَلُوا : أَنَّ أَهْلَ سَائِرِ الْأَعْصَارِ بَعْدَ النَّبِيِّ فِي
حُكْمِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَكَمَا عَقَلُوا :
أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنْ
حُكْمٍ ، جَارٍ فِي سَائِرِ الْأُمَّةِ
.
فَإِنْ كَانَ حُكْمًا مُبْتَدَأً فَالْجَمِيعُ فِيهِ
سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ فَبِحُدُوثِ ( السَّبَبِ ) .
فَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ وَالْمَفْهُومِ مِنْ
دِينِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَافَقُوا عَلَى نَقْلِ أَحْكَامِ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ
، إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، لِأَنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّهَا أَحْكَامٌ جَارِيَةٌ فِي
جَمِيعِهِمْ ، إلَّا مَنْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا }
فَأَخْبَرَ : أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِيَكُونَ
حُكْمًا جَارِيًا فِي أُمَّتِهِ ، وَنَبَّهْنَا بِهِ ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمَّتَهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ ، إلَّا مَا
خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ : مِنْ نَحْوِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ
أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ
.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى : {
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } إلَى قَوْله
تَعَالَى {
خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } لَمَّا
أَرَادَ إفْرَادَ النَّبِيِّ بِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ
غَيْرَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخُصَّهُ لَعَقَلَتْ
الْأُمَّةُ مُسَاوَاتَهَا لَهُ فِيهِ
.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ : حَدِيثُ { الْمَرْأَةِ الَّتِي
سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ حِينَ بَعَثَ بِهَا زَوْجُهَا إلَيْهَا
لِتَسْأَلَهَا عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ ،
فَأَخْبَرَتْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : لَسْت كَالنَّبِيِّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِنَبِيِّهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ ، وَمَا تَأَخَّرَ ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
سَأَلَتْهُ ، فَقَالَ : النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ : هَلَّا
أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ :
قَدْ أَخْبَرْتهَا بِذَلِكَ ، فَقَالَ زَوْجُهَا : لَسْت كَالنَّبِيِّ ، إنَّ
اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَا تَأَخَّرَ ،
فَغَضِبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَالَ : إنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ
أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ } .
فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّ وُجُودَ
فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ كَافِيًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِهِ
عَنْ حُكْمِ نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَمَا
عَلِمْنَاهُ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِعًا عَلَى
وَجْهِهِ كَانَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ ، فِي إيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ ،
قُلْنَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، إذْ كَانَتْ أَدْنَى مَنَازِلِ
أَفْعَالِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ بَدْءًا ، وَلَا وَاجِبًا ، لِأَنَّ
فِيهِ زِيَادَةَ حُكْمٍ لَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : شَرْطُ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ
وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنْ يَكُونَ هُوَ فَعَلَهُ ،
حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا مِثْلَهُ .
قِيلَ لَهُ : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّبِعُوهُ
} وَقَالَ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فَكَانَ
الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي : أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ ، عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا
إيقَاعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ
أَرَادَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَّا ، بِإِرَادَةٍ مَقْرُونَةٍ
بِفِعْلِ مِثْلِهِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ ، مِنْ الْجِهَةِ
الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَأَيْضًا :
لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ لَنَا الدَّلَائِلَ : عَلَى
أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ ، إلَّا
فِيمَا خَصَّهُ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا : أَنْ نَفْعَلَ
مِثْلَ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَنَكُونَ
بِذَلِكَ مُتَّبِعِينَ وَمُتَأَسِّينَ بِهِ ، وَلَا
نَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى : فِي أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ
غَيْرَ مَا وَصَفْنَا
وَقَدْ ذَكَرْنَا : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ :
إنِّي إذَا لَمْ أَعْلَمْ وُقُوعَ فِعْلِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ
وَقَفْت فِيهِ ، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ، حَتَّى أَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ ، فَأَقْتَدِيَ
بِهِ فِيهِ ، لِأَنِّي إذَا فَعَلْته عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا آمَنُ أَنْ
يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ فِيهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ
عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ ، أَوْ الْوُجُوبِ .
وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّهُ لَا
يَخْلُو فِي قَوْلِهِ : أَقِفُ فِيهِ
: مِنْ أَنْ يَمْنَعَ فِعْلَ مِثْلِهِ وَيَحْظُرَهُ ،
أَوْ يَقُولَ : إنِّي لَا أَمْنَعُهُ ، وَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ ، فَإِنْ
حَظَرَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ - فَقَدْ حَكَمَ بِحَظْرِهِ وَأَبْطَلَ الْوَقْفَ ، وَهَذَا
عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ إذَا كَانَ حَاظِرًا لِمَا اسْتَبَاحَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِعْلَهُ .
وَإِنْ قَالَ : لَا أَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَلَا
أَلُومُ فَاعِلَهُ .
قِيلَ لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْإِبَاحَةُ الَّتِي
أَنْكَرْتهَا ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بِالْوَقْفِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ
وَجْهِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّا
قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ فَعَلَهُ لَمْ يَقِفْ
فِيهِ ، فَالْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فَاسِدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَنْتَ إذَا فَعَلْته عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ
فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَعَلَهُ
نَدْبًا ، أَوْ إيجَابًا ،
فَتَكُونَ قَدْ خَالَفْته .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى أَحَدِ
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ مِنَّا
الْحَاجَةَ إلَيْهِ ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ : عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَجَازَ
لَنَا فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ
الْإِبَاحَةِ لَبَيَّنَهُ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ
عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى
وَجْهِ النَّدْبِ وَالْإِيجَابِ
.
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ لَا يُبَيِّنَ الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا ،
إذْ لَيْسَ بِنَا حَاجَةٌ إلَيْهَا فِي دِينِنَا ، إذْ لَا نَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهَا
ثَوَابًا ، وَلَا بِتَرْكِهَا عِقَابًا
.
وَأَمَّا النَّدْبُ ، وَالْوَاجِبُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُتْرَكَ بَيَانُهُ ، لِأَنَّ مِنَّا الْحَاجَةَ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ،
لِنَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ ، وَلِئَلَّا نُوَاقِعَ
الْمَحْظُورَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي التَّرْكِ
، كَقَوْلِنَا فِي الْفِعْلِ ، فَمَتَى رَأَيْنَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ تَرَكَ فِعْلَ شَيْءٍ وَلَمْ نَدْرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَرَكَهُ ، قُلْنَا :
تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِبَاحَةِ ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْنَا ، إلَّا أَنْ
يَثْبُتَ عِنْدَنَا : أَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ التَّأَثُّمِ بِفِعْلِهِ ،
فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهُ حِينَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، حَتَّى يَقُومَ
الدَّلِيلُ : عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ دُونَنَا.
الْبَابُ الْحَادِيْ وَالسِّتُّوْنَ:فِي الْقَوْلِ
فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى
أَحْكَامِ أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُكْمِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : أَنْ يَرِدَ فِعْلُهُ مَوْرِدَ بَيَانِ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي
الْإِيجَابَ ، أَوْ النَّدْبَ ، أَوْ الْإِبَاحَةَ ، فَيَكُونَ حُكْمُ فِعْلِهِ
تَابِعًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ ، فَإِنْ اقْتَضَتْ الْجُمْلَةُ الْإِيجَابَ كَانَ فِعْلُهُ
وَاجِبًا ، وَإِنْ اقْتَضَتْ النَّدْبَ كَانَ فِعْلُهُ نَدْبًا ، وَكَذَلِكَ إنْ
اقْتَضَتْ الْإِبَاحَةَ كَانَ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ مُبَاحًا ، وَذَلِكَ :
لِأَنَّهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا
فَعَلَهُ ، فَيَكُونُ تَابِعًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ ، عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا .
فَأَمَّا وُقُوعُ الْبَيَانِ بِفِعْلِهِ فِيمَا
يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، فَنَحْوُ فِعْلِهِ لِأَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ
الْمَفْرُوضَةِ ، هُوَ بَيَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ }
وَفِعْلُهُ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ بَيَانُ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } ، وَفِعْلُهُ لِبَيَانِ جُمْلَةٍ يَقْتَضِي النَّدْبَ
نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } وَلَيْسَ الْخَيْرُ كُلُّهُ حَتْمًا ،
وَلَا الْإِحْسَانُ وَاجِبًا فِيمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
مِنْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ ، أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ ، وَنَحْوِهِمَا ، مَفْعُولٌ
بِالْآيِ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ ، إذَا لَمْ تَكُنْ الْجُمْلَةُ
الَّتِي هَذَا بَيَانٌ عَنْهَا مُقْتَضِيَةً لِلْوُجُوبِ ، وَمَا فَعَلَهُ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
مِنْ اسْتِخْرَاجِ حَقٍّ مِنْ رَجُلٍ لِغَيْرِهِ ،
وَمِنْ عُقُوبَةِ رَجُلٍ عَلَى فِعْلٍ كَانَ مِنْهُ ، فَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ ،
لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا عَلَى جِهَةِ
النَّدْبِ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً } فَمَا
وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَمِنْ أَفْعَالِهِ مَا يُقَارِنُهُ أَمْرٌ مِنْهُ
بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ لُزُومَ فِعْلِهِ لَنَا ، حَتَّى
تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خُذُوا
عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَكَقَوْلِهِ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي }
وَقَوْلُهُ : { أَقِيمُونِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ } فَيَقْتَضِي
هَذَا الْقَوْلُ لُزُومَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ ،
وَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي } أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي وُجُوبِ أَفْعَالِهِ فِيهَا
، لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَى وَصْفٍ ، وَهُوَ : أَنْ
نُصَلِّيَ كَمَا رَأَيْنَاهُ صَلَّى ، فَنَحْتَاجُ أَنْ نَعْلَمَ كَيْفَ صَلَّى :
مِنْ نَدْبٍ ، أَوْ فَرْضٍ ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ ، وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا
يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْعَادَةِ : مِنْ نَحْوِ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْقِيَامِ
، وَالْقُعُودِ ، وَالنَّوْمِ ، وَنَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ { كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ يَخْصِفُ
النَّعْلَ ، وَيَخِيطُ الثَّوْبَ
} فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ ، لِأَنَّا
قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْفَكُّ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ ،
وَالْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهَا ضَرُورَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا
سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيهَا ، لِاسْتِحَالَةِ لُزُومِهِ فِي سَائِرِ
أَحْوَالِهِ ، وَخَصْفُ النَّعْلِ ، وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ ، قَدْ عُلِمَ
بِظَاهِرِ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إيجَابَهُ عَلَيْنَا .
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ يَرِدُ لِمِثْلِ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ قُرْبَةً ، مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ بِهِ مِنْ التَّوَاضُعِ ،
وَتَرْكِ الْكِبْرِ ، وَمُسَاوَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ ، لِيَسْتَحِقَّ بِهِ
الثَّوَابَ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِيهِ .
الْبَابُ الثَّانِيْ وَالسِّتُّوْن:فِي الْقَوْلِ فِي
سُنَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي سُنَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَا فَعَلَهُ ، أَوْ قَالَهُ ، لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ ، وَيُدَاوَمَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُنَنِ الطَّرِيقِ ، وَهِيَ
جَادَّتُهُ الَّتِي يَكُونُ الْمُرُورُ فِيهَا .
وَسُنَنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهَيْنِ : قَوْلٌ وَفِعْلٌ .
فَأَمَّا الْقَوْلُ : فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
سَائِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ : مِنْ حُكْمِ الْأَقْوَالِ ، وَالْأَوَامِرِ ، وَالنَّوَاهِي
وَغَيْرِهَا .
وَالْفِعْلُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : فِعْلٌ
يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَيَدُلُّنَا عَلَى حُكْمِهِ ، عَلَى الْوُجُوهِ
الَّتِي ذَكَرْنَا ، لِنَفْعَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ .
وَالثَّانِي : تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلٍ
يَرَاهُ يَفْعَلُ فِعْلًا عَلَى وَجْهٍ ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ
بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ مِنْهُ ، فِي تَجْوِيزِ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ،
فَإِنْ رَآهُ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ
وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ رَآهُ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فَأَقَرَّهُ
عَلَيْهِ كَانَ نَدْبًا ، وَكَذَلِكَ الْإِبَاحَةُ عَلَى هَذَا ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللهِ
تَعَالَى ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا بَعَثَهُ دَاعِيًا إلَيْهِ ،
وَآمِرًا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، فَلَوْ كَانَ مَا رَآهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِ مَنْ شَاهَدَهُ مُنْكَرًا
لَأَنْكَرَهُ ، وَوَقَفَهُ عَلَى مَا يَجُوزُ مِنْهُ ، مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي
تَرْكِهِ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ وَصَفْنَا شَأْنَهُ ، دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ
إيقَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ
.
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ
مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
قَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَحْكَامُ السُّنَّةِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : فَرْضٌ ، وَوَاجِبٌ ، وَنَدْبٌ ، وَلَيْسَ يَكَادُ يُطْلَقُ
عَلَى الْمُبَاحِ لَفْظُ السُّنَّةِ ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا : أَنَّ مَعْنَى السُّنَّةِ
: أَنْ يَفْعَلَ ، أَوْ يَقُولَ ، لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ ، وَيُدَاوَمَ عَلَيْهِ
، وَيُسْتَحَقَّ بِهِ الثَّوَابُ ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ .
فَأَمَّا الْفَرْضُ : فَهُوَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى
مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ .
وَالْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّا
نَقُولُ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ
، وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، { غُسْلُ الْجُمُعَةِ
وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْفَرْضَ ، وَلَا يَجُوزُ
لَنَا أَنْ نَقُولَ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ، وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ قَدْ يُخَالِفُ مَعْنَى الْوَاجِبِ : أَنَّهُ قَدْ
يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الْفَرْضِ فِيمَا لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ إطْلَاقُ الْوَاجِبِ ،
لِأَنَّا نُطْلِقُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ
مُجَازَاةُ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ فِي الْأَصْلِ :
هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِالْجَزَاءِ الْوَاقِعِ فِي السُّنَّةِ وَنَحْوِهَا
فَشِبْهُ مَا لَزِمَ وَثَبَتَ بِذَلِكَ الْأَثَرُ ، وَالْوُجُوبُ فِي الْأَصْلِ
هُوَ السُّقُوطُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا }
يَعْنِي سَقَطَتْ ، وَيُقَالُ : وَجَبَتْ الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى كَانَ أَوَّلَ وَاجِبِ
يَعْنِي سَاقِطٍ ، فَجَعَلَ مَا لَزِمَ فِي الشَّرْعِ
بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي سَقَطَ ، وَيَثْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ ، فَكَانَ
مَعْنَى الْفَرْضِ أَثْبَتَ مِنْهُ ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَثَرًا لَا يَزُولُ ،
وَالسَّاقِطُ فِي الْمَوْضِعِ فَقَدْ زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ
يَحْصُلُ فِيهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْفَرْضُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَثْبَتَ مِنْ
الْوُجُوبِ ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
قُلْنَا : إنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ اللُّزُومِ ،
وَالثُّبُوتِ .
وَالْفَرْضُ ، أَيْضًا التَّقْدِيرُ .
مِنْهُ : فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ ، وَفَرَائِضُ
الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ
اللُّزُومُ مِنْ هَذَا أَيْضًا ، كَأَنَّهُ قُدِّرَ لَهُ شَيْءٌ مَنَعَ تَرْكَهُ ،
وَمُجَاوَزَتَهُ ، إلَى غَيْرِهِ
.
الْبَابُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَسُنُّ ( مِنْ ) طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ ؟
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَسُنُّ ( مِنْ ) طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ : فَقَالَ قَائِلُونَ :
لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكُمُ فِي شَيْءٍ
مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
وَقَالَ آخَرُونَ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جُعِلَ لَهُ ( أَنْ يَقُولَ ) مِنْ طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ
.
وَقَالَ آخَرُونَ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ
سُنَّتِهِ وَحْيًا ، وَبَعْضُهَا إلْهَامًا ، وَشَيْءٌ يُلْقَى فِي رَوْعِهِ ،
كَمَا ( قَالَ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ
فِي رَوْعِي : أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يَقُولُهُ نَظَرًا
وَاسْتِدْلَالًا ، وَتُرَدُّ الْحَوَادِثُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا إلَى
نَظَائِرِهَا مِنْ النُّصُوصِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَنَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جُعِلَ لَهُ أَنْ
يَقُولَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } عُمُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ
جَمَاعَةِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِمْ ، وَفِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
أَجَلِّهِمْ وَيَدُلَّ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ دَاوُد
وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، ثُمَّ قَالَ : { فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا }
وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ
طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّهُمَا لَوْ حَكَمَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَمَا
خُصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِيهَا دُونَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهَا أَيْضًا : أَنَّ دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ
أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ ، أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمُسْتَنْبِطَ أَعْلَى
دَرَجَةً مِنْ الْحَافِظِ غَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ ، فَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ
لِيَحْرِمَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ دَرَجَاتِ الْعِلْمِ الَّتِي
هِيَ دَرَجَةُ الِاسْتِنْبَاطِ
.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ : قَوْله تَعَالَى : {
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } وَلَا يَخْلُو الْمَعْنَى فِيهِ : مِنْ أَنْ يَكُونَ
مُشَاوَرَتُهُ إيَّاهُمْ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِمْ فِيمَا
لَا نَصَّ فِيهِ ، فَأَمَرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُقَرِّبَ وَجْهَ الرَّأْيِ فِيهِ
، وَلِيَزْدَادَ ( بَصِيرَةً فِي رَأْيِهِ إنْ ) كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِمْ .
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : لَا مَعْنَى لَهُ ، وَلَا فَائِدَةَ
فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي أَنَّ فَرْضَ الظُّهْرِ
أَرْبَعُ ( رَكَعَاتٍ ) وَلَا فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَلَا
فِي سَائِرِ مَا فِيهِ النُّصُوصُ ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ يَكُونُ
تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ ( فَلَغْوٌ سَاقِطٌ ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا )
أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ ، عَلِمُوا
أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ ، وَلَا فَائِدَةَ ، ثَبَتَ الْوَجْهُ
الثَّانِي .
وَأَيْضًا : فَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَصْحَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ
بِالدِّينِ ، مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا ، أَلَا تَرَى : { أَنَّهُ
لَمَّا أَرَادَ النُّزُولَ دُونَ بَدْرٍ قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ
أَرَأْيٌ رَأَيْته يَا رَسُولَ اللهِ ؟ أَمْ وَحْيٌ ؟ فَقَالَ : بَلْ رَأْيٌ
رَأَيْته .
فَقَالَ :
إنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ فَفَعَلَ } {
وَشَاوَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا ، فِي أَسَارَى بَدْرٍ
} .
{ وَرَأَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْخَنْدَقِ
نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، فَكَتَبَ الْكِتَابَ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ
يُشْهِدَ فِيهِ وَحَضَرَ الْأَنْصَارُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأْيٌ
رَأَيْته ؟ أَمْ وَحْيٌ ؟ فَقَالَ
: بَلْ رَأْيِي .
فَقَالُوا : فَإِنَّا لَا نُعْطِيهِمْ شَيْئًا .
وَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ،
أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إلَّا قِرًى ، أَوْ مُشْرًى ، فَكَيْفَ وَقَدْ
أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ } ؟ { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ : أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكَانَ يُفْطِرُك ؟ فَكَذَلِكَ
الْقُبْلَةُ }
{ وَقَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى
أَبِيك دَيْنٌ فَتَقْضِيَنه أَكَانَ يُجْزِي ؟ قَالَتْ:
نَعَمْ
.
قَالَ :
فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ } وَلَمَّا { أَخْبَرَهُ عَبْدُ
اللهِ بْنُ زَيْدٍ بِمَا رَأَى فِي أَمْرِ الْأَذَانِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ
بِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ الْوَحْيِ } ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ .
فَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْتَهِدُ
فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ } ،
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَبَيْنَهُ فِي حَوَادِثِ
الْأَحْكَامِ ، ( وَمِمَّا فَعَلَهُ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى مُعَاتَبَتَهُ : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت
لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } ،
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِ ، وَعَاتَبَهُ
عَلَيْهِ ) .
وَمِمَّا لَمْ يُعَاتَبْ عَلَيْهِ وَأُمِرَ فِيهِ
بِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ سُورَةَ
بَرَاءَةٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَوْحَى
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنْك إلَّا رَجُلٌ مِنْك ، فَأَخَذَهَا
مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَدَفَعَهَا إلَى عَلِيٍّ ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ } ، {
وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ فَجَاءَ جَبْرَائِيلُ
فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا بَعْدُ ،
وَأَمَرَهُ بِالْمُضِيِّ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ } .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ خَطَأَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
أَكْلِ الشَّجَرَةِ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ :
لَوْ جَازَ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ لِغَيْرِهِ )مِنْ الصَّحَابَةِ
مُخَالَفَتُهُ ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ
فَكُلُّ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِهِ ،
وَجَازَ لَهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِهِ فِيهِ ، وَفِي اتِّفَاقِ جَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا وَحْيًا وَتَنْزِيلًا .
قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا
قَالَ قَوْلًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَأَغْفَلَ مَوْضِعَ الصَّوَابِ
نَبَّهَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يُخَلِّيَهُ مَوْضِعَ إغْفَالِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنْك
لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى } فَإِذَا كَانَ
هَذَا سَبِيلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ
يُوَافِقُنَا : عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ
، وَقَدْ يَثْبُتُ عِنْدَنَا ذَلِكَ أَيْضًا بِالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ ، ثُمَّ
إذَا انْعَقَدَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ
لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ ، كَذَلِكَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَقُولُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَيَكُونُ لِاجْتِهَادِهِ مَزِيَّةٌ لَا
يَحِقُّ مِنْ أَجْلِهَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُخَالِفَهُ ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى :
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَإِنَّ فِيهِ
جَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ ، لِأَنَّهُ قَالَ
تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ الْقُرْآنُ إذَا
نَزَلَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَمَّا
كَانَ مَصْدَرُهُ عَنْ الْوَحْيِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِهِ ، فَدَلَّ
عَلَيْهِ -
جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ
اجْتِهَادٌ فَهُوَ عَنْ وَحْيٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ بِاسْتِعْمَالِ
الِاجْتِهَادِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَمَا
تَوَقَّفَ فِي كَثِيرٍ ( مِمَّا يُسْأَلُ ) عَنْهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْت
لِأَنَّهُ ، جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ وَانْتِظَارُهُ لِلْوَحْيِ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ ، وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ فِي شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ ، فَتَوَقَّفَ فِيهِ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
قَدْ كَانَ يَقْوَى طَمَعُهُ فِي مِثْلِهِ : أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ
فَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْحُكْمِ فِيهِ
.
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ أُوحِيَ
إلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ ، بِأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ الِاجْتِهَادَ
إذَا سُئِلَ عَنْهُ وَيَنْتَظِرَ الْوَحْيَ فِيهِ.
الْبَابُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِي
أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ ( مَجِيءِ ) السَّمْعِ فِي الْحَظْرِ
وَالْإِبَاحَةِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ (
مَجِيءِ ) السَّمْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ الْوَاقِعَةِ عَنْ
قَصْدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فِي الْعَقْلِ : مُبَاحٌ ، وَوَاجِبٌ ،
وَمَحْظُورٌ
فَالْمُبَاحُ : مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمُكَلَّفُ
بِفِعْلِهِ ثَوَابًا ، وَلَا بِتَرْكِهِ عِقَابًا .
وَالْوَاجِبُ : مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ ،
وَبِتَرْكِهِ الْعِقَابَ .
وَالْمَحْظُورُ : مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الْعِقَابَ
، وَبِتَرْكِهِ الثَّوَابَ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ( حُكْمِ )
الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : هِيَ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ ، إلَّا
مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ ، أَوْ عَلَى وُجُوبِهِ .
فَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ : الْكُفْرُ ،
وَالظُّلْمُ ، وَالْكَذِبُ ، وَنَحْوُهَا ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَحْظُورَةٌ فِي
الْعَقْلِ .
وَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى وُجُوبِهِ : التَّوْحِيدُ ،
وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ .
وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ ، قَالُوا :
وَمَعْنَى قَوْلِنَا مُبَاحٌ : أَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ
بِفِعْلِهِ ثَوَابًا ، عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَا عَدَا مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى
وُجُوبِهِ مِنْ نَحْوِ : الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ
، وَنَحْوِهِمَا فَهُوَ مَحْظُورٌ
.
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُقَالُ فِي الْأَشْيَاءِ قَبْلَ
وُرُودِ السَّمْعِ : إنَّهَا مُبَاحَةٌ ( وَلَا يُقَالُ ) : إنَّهَا مَحْظُورَةٌ ،
لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَقْتَضِي مُبِيحًا ، وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا ، وَقَالُوا
مَعَ ذَلِكَ : لَا تَبِعَةَ
عَلَى فَاعِلِ شَيْءٍ مِمَّا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى
قُبْحِهِ : مِنْ نَحْوِ الظُّلْمِ وَالْكُفْرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَنَقُولُ : إنَّ حُكْمَ
الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ : ثَلَاثَةُ أَنْحَاءٍ .
مِنْهَا :
وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّغْيِيرُ (
وَالتَّبْدِيلُ ) نَحْوُ : الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ ، وَوُجُوبِ
الْإِنْصَافِ .
وَمِنْهَا :
مَا هُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ ، مَحْظُورٌ ، لَا
يَتَبَدَّلُ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ ، نَحْوُ : الْكُفْرِ ، وَالظُّلْمِ
، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ .
وَمِنْهَا مَا هُوَ ذُو جَوَازٍ فِي الْعَقْلِ : يَجُوزُ
إبَاحَتُهُ تَارَةً ، وَحَظْرُهُ أُخْرَى ، وَإِيجَابُهُ أُخْرَى ، عَلَى حَسَبِ
مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَضَارِّهِمْ .
فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ
فَهُوَ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
ضَرَرٌ أَكْثَرَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّفْعِ ، وَيَجُوزُ مَجِيءُ
السَّمْعِ تَارَةً بِحَظْرِهِ ، وَتَارَةً بِإِبَاحَتِهِ ، وَأُخْرَى بِإِيجَابِهِ
، عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا وَصَفْنَا لِفَاعِلِهَا
مِنْ الْمُكَلَّفِينَ : أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ
الْمُكَلَّفِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ
مَعَانٍ .
إمَّا : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لَا
لِيَنْفَعَ أَحَدًا ، وَهَذَا عَبَثٌ وَسَفَهٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ
عَنْهُ ، أَوْ يَكُونُ خَلَقَهَا لِيَضُرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ ، وَهَذَا
أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، أَوْ أَنْ
يَكُونَ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ
الْمَنَافِعُ ، وَ ( لَا ) الْمَضَارُّ
.
فَثَبَتَ أَنَّهُ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ
، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي
لَهُمْ ذَلِكَ مِنْهَا ، مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِمَّا يُجْتَلَبُ
بِهِ مِنْ النَّفْعِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَهَا لِيَسْتَدِلَّ
بِهَا الْمُكَلَّفُونَ كَانَ لَهُمْ الِاسْتِدْلَال بِهَا ، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ
الِانْتِفَاعِ ، كَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَأَتَّى لَهُمْ فِيهَا مِنْ وُجُوهِ
الِانْتِفَاعِ ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُمْ إتْيَانُهَا .
دَلِيلٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّا لَمَّا وَجَدْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْفُسَنَا دَلَائِلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، وَلَا دَلَالَةَ
فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى حَظْرِهَا لَمَا جَازَ وُرُودُ
الشَّرْعِ بِإِبَاحَتِهَا ، لِأَنَّ مُوجِبَ دَلَائِلِ اللهِ تَعَالَى لَا
يَنْقَلِبُ ، فَعَلِمْنَا : أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَظْرِهَا .
وَلَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمَا أَخْلَاهَا مِنْ دَلِيلٍ
يُوجِبُ حَظْرَهَا ، وَقُبْحَ مُوَاقَعَتِهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا
مُبَاحَةٌ ، وَأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِيهَا ، لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى
الْإِنْسَانِ مِنْ فِعْلِهِ تَبِعَةٌ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ تَبِعَةً ،
لِيَنْتَهِيَ عَنْهُ ، هَذَا حُكْمُ الْعَقْلِ ، وَ ( قَدْ ) أَكَّدَ السَّمْعُ
هَذَا الْمَعْنَى ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى ) : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ
قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ } الْآيَةَ .
فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ
فَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ
.
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي
وَصَفْنَا أَمْرَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا .
أَوْ مَحْظُورَةً ، أَوْ بَعْضُهَا مَحْظُورٌ ،
وَبَعْضُهَا مُبَاحٌ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : جَمِيعُهَا ، لِأَنَّهُ
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا عَلَى الْإِنْسَانِ : الْحَرَكَةُ ، وَالسُّكُونُ
، وَالْقِيَامُ ، وَالْقُعُودُ ، وَالِاضْطِجَاعُ ، وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا
بِأَنْ : يَخْلُوَ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ
عَلِمْنَا : أَنَّ بَعْضَهَا مُبَاحٌ ، ثُمَّ الْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَخْلُو مِنْ
أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا ، فَلَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ الْمُبَاحِ ، فَلَمَّا عَدِمْنَا
الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ : عَلِمْنَا أَنَّ الْبَعْضَ مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ ( فِي بَابِ
فَقْدِ الدَّلِيلِ عَلَى حَظْرِهِ وَمَا سَاوَى الْمُبَاحَ ) فِي هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ
مُبَاحٌ .
فَثَبَتَ : أَنَّ الْجَمِيعَ مُبَاحٌ .
وَأَيْضًا :
فَإِنَّ فِي حَظْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكْلِيفًا
وَمَشَقَّةً تَدْخُلُ عَلَى النَّفْسِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِنْسَانِ إدْخَالُ الضَّرَرِ
وَالْمَشَقَّةِ عَلَى نَفْسِهِ ، مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابِ نَفْعٍ ، وَلَا دَلِيلَ
فِي الْعَقْلِ يُوجِبُ ذَلِكَ ، فَقَبُحَ إلْزَامُهُ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْفَرْضِ لُطْفٌ مِنْ
اللهِ تَعَالَى فِي التَّمَسُّكِ بِمَا فِي الْمَعْقُولِ إيجَابُهُ ، وَمِنْ
أَجْلِهِ حَسُنَ إيجَابُهَا ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِهِ ، إنْ كَانَ
مَحْظُورًا .
فَدَلَّ عَلَى ( أَنَّ ) مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ
مِمَّا لَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِإِيجَابِهِ وَحَظْرِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ تَلَفَ النَّفْسِ ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ إذَا لَمْ يُؤَدِّ
إلَى نَفْعٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِ ، فَلَمَّا لَمْ
يُعْلَمْ : أَنَّ لَهُ نَفْعًا فِي تَرْكِهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ فِي
الْعَقْلُ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ ،
وَهِيَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُلْكُ اللهِ تَعَالَى ، وَفِي عَقْلِ كُلِّ
عَاقِلٍ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إلَّا بِإِذْنِهِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورًا لِعَيْنِهِ ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِانْتِفَاعُ
بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ ، نَحْوُ
: أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ حَائِطِهِ ، وَيَقْعُدَ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ ، وَيُسْرِجَ
مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ
الْغَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ قَبِيحًا مِنْ أَجْلِ وُقُوعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ
- عَلِمْنَا أَنَّ : الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَالْمُسْتَدِلُّ
عَلَى حَظْرِ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْغَيْرِ ، وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ
بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُخْطِئٌ
.
فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ،
وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ
بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ حُكْمُ ( انْتِفَاعُ
الْوَاحِدِ ) مِنَّا بِظِلِّ حَائِطِ غَيْرِهِ ،
وَبِضَوْءِ سِرَاجِهِ ، وَالِاسْتِصْبَاحِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى الْمَالِكُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِانْتِفَاعِ
الْمُنْتَفِعِ مِنَّا بِهَا ، وَلَا ضَرَرَ يَلْحَقُنَا بِهَا أَعْظَمَ مِمَّا
نَرْجُوهُ مِنْ النَّفْعِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْنَا فِيهِ
ضَرَرٌ فِي الدِّينِ لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْ تَوْقِيفٍ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا الْإِقْدَامُ
عَلَيْهِ كَمَا جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا
لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا
بَيْنَنَا فَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا لِأَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ
عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، كَمَا احْتَجْنَا نَحْنُ إلَيْهِ ،
فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَنْفَعَ أَنْفُسَنَا بِضَرَرِ غَيْرِنَا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
نُوصِلَهُ بِهِ نَفْعًا أَعْظَمَ مِنْهُ ، إلَّا أَنْ يُبِيحَهُ لِي ( مَالِكُهُ )
وَمَالِكُ الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْته
وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا : أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إتْلَافَ مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِظْلَالِ
بِظِلِّ حَائِطِ الْإِنْسَانِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ
عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ
: إتْلَافُهُ إيَّاهَا لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مِلْكِ
مَالِكِهَا ( لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ لَهَا ) قَبْلَ الْإِتْلَافِ
وَبَعْدَهُ ، إذْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إعَادَتِهَا إلَى مَا كَانَتْ ، فَلَمْ
يَخْرُجْ بِالْإِتْلَافِ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْحَائِطُ
وَالسِّرَاجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِانْتِفَاعِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْوُجُوهِ
الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ
الَّذِي ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِظِلِّ
حَائِطِهِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ هُوَ : أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مَالِكِهِ
فِيهِ ، وَلِهَذَا فِيهِ نَفْعٌ
.
فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَصَفْنَا
مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَهُ فِيهَا
نَفْعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى مَالِكِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ( حُكْمُهَا
حُكْمَ ) مَا وَصَفْنَا ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةٍ : أَنَّ
فِي أَحَدِهِمَا إتْلَافًا ، وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ ، مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا
مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَقُولُ : إنَّهَا
مُبَاحَةٌ ، وَلَا مَحْظُورَةٌ ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَقْتَضِي مُبِيحًا ، وَالْحَظْرَ
يَقْتَضِي حَاظِرًا ، فَإِنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ إطْلَاقَ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ (
وَالْحَظْرِ ) وَوَافَقَ فِي الْمَعْنَى ، حِينَ قَالَ : لَا تَبِعَةَ عَلَى
فَاعِلِهَا ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ صُورَةُ الْمُبَاحِ ، إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِفِعْلِهِ
الثَّوَابَ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ مِنْ
الْأَشْيَاءِ : إنَّهُ وَاجِبٌ ، قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ ، مِنْ نَحْوِ
الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ ، وَوُجُوبِ الْإِنْصَافِ ، (
وَأَنْ لَا يَقُولَ : إنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَالظُّلْمَ وَالْكَذِبَ
مَحْظُورٌ ، قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَقْتَضِي مُوجِبًا ،
وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا
.
فَإِنْ قَالَ : الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِ الْإِيمَانِ ،
وَالْحَاظِرُ لِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ : هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، الَّذِي أَقَامَ
الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : فَهَلَّا قُلْت مِثْلَهُ فِي هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ ؟ لِأَنَّ الْمُبِيحَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
الَّذِي خَلَقَهَا ) لِلِانْتِفَاعِ بِهَا ، ثُمَّ لَمْ يُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى
حَظْرِهَا .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ مَا لَا تَبِعَةَ عَلَى
فَاعِلِهِ مُبَاحًا ، لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ مُبَاحَةً لِلْبَهَائِمِ
، وَالْمَجَانِينِ ، وَالسَّاهِي
.
قِيلَ لَهُ
: لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا : إنَّ حَدَّ
الْمُبَاحِ مَا لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ ، وَيَكُونُ
فِيمَا ذَكَرْت ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ ، وَالسَّاهِي فِعْلُهُ غَيْرُ وَاقِعٍ
عَنْ قَصْدِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ
إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي حُكْمِ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ ،
ثُمَّ جَاءَ السَّمْعُ بِتَأْكِيدِ مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ إبَاحَتُهُ ، وَهُوَ :
قَوْله تَعَالَى { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مِنْهُ } وَقَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ...}
وَقَالَ تَعَالَى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ } الْآيَةَ وَقَالَ : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا
دِفْءٌ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ
.
فِي آيٍ أُخَرَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ
الْخُشَنِيِّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ
فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا ، وَنَهَى
عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ
لَهَا رَحْمَةً لَكُمْ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا } وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ
عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ } فَأَخْبَرَ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
( مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ ) وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ
عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفِي
كُلِّ عَامٍ ؟ فَقَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَمَا إنِّي لَوْ قُلْت : نَعَمْ
لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ ، اُسْكُتُوا عَنِّي
مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ
سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ
لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } } وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّمْنِ وَالْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ فَقَالَ :
الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا }
الْبَابُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّوْنَ: فِي الْكَلَامِ فِي
الْإِجْمَاعِ
فارغة
بَابٌ الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ
الْأَوَّلِ ، وَأَنَّهُ حُجَّةُ اللهِ ، لَا يَسَعُ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ
خِلَافُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً
، كَمَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُ سَائِرِ الْأُمَمِ حُجَّةً .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَعْرِفَةُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ
مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ .
فَأَمَّا الْعَقْلُ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ
وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ مِنْ أُمَّتِنَا عَلَى خَطَأٍ ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأُمَمِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ : قَوْلُ اللهِ
تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ
عَلَى حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ فِي اللُّغَةِ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ*** إذَا
طَرَقَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
يَعْنِي : هُمْ عُدُولٌ .
فَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّةَ
بِالْعَدَالَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ : قَبُولَ قَوْلِهَا ، وَصِحَّةَ مَذْهَبِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى : {
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
، فَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، كَمَا جُعِلَ الرَّسُولُ
شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا وَقَوْلُهُمْ
حُجَّةٌ ، وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ ، كَمَا أَنَّهُ ( لَمَّا ) وَصَفَ
الرَّسُولُ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا } أَفَادَ بِهِ : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ، وَشَهَادَتُهُ صَحِيحَةٌ .
وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي
قَوْله تَعَالَى { هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
فَثَبَتَ : أَنَّهَا إذَا قَالَتْ قَوْلًا فِي الشَّرِيعَةِ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهَا ، وَلَمْ
يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهَا
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَوَاجِبٌ ( عَلَى ) هَذَا أَنْ
يُحْكَمَ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَنْ
لَيْسَ بِعَدْلٍ ، بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَيُجْعَلَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
حُجَّةً .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَحْكُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ( بِالْعَدَالَةِ فِي
عَيْنِهِ ) وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَا لِجَمَاعَةِ الْأُمَّةِ ، وَأَفَادَ : أَنَّ جَمَاعَتَهَا
تَشْتَمِلُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا تَقُولُ إلَّا الْحَقَّ ، فَيَكُونُ ( قَوْلُهُمْ
) حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ
.
وَيَجُوزُ هَذَا الْإِطْلَاقُ ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ
وَصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ بِالْعَدَالَةِ ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً } وَمَعْنَاهُ : أَنَّ قَوْمًا مِنْكُمْ قَالُوهُ .
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا
فَادَّرَأْتُمْ فِيهَا } وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ قَتَلَهَا بَعْضُكُمْ ، وَكَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } مَعْنَاهُ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ .
وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْعَادَةِ أَيْضًا ، كَقَوْلِ
الْقَائِلِ : بَنُو هَاشِمٍ حُكَمَاءُ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فُقَهَاءُ ،
وَالْعَرَبُ ( تُقْرِي الضَّيْفَ وَتَحْمِي الدِّيَارَ ) وَتَمْنَعُ الْجَارَ ،
وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ .
وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ : مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، فَإِذَا
ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ جُمْلَةَ الْأُمَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى عُدُولٍ
شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ؛ إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ
جَمِيعَهُمْ كَذَلِكَ ، ثَبَتَ أَنَّ إجْمَاعَهَا حُجَّةٌ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ
أَخْبَرَ : أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ
اللَّهُ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، ثُمَّ إذَا شَهِدُوا لَمْ تَصِحَّ
شَهَادَتُهُمْ ، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا
جَعَلَ الرَّسُولَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إخْبَارًا لِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ
عَلَيْهِمْ ، وَلَزِمَهُمْ قَبُولُ قَوْلِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ شَهَادَةً صَحِيحَةً لَازِمَةً لِلْأُمَّةِ
بِنَفْسِ الْقَوْلِ دُونَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ
عَلَى يَدِهِ .
وَكَذَلِكَ (
الْأُمَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ) قَوْلُهَا
حُجَّةً وَصِدْقًا إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ : أَنَّهَا لَا تَقُولُ إلَّا
الْحَقَّ ، مِنْ غَيْرِ جِهَةِ وَصْفِهَا بِالشَّهَادَةِ .
قِيلَ لَهُ : الَّذِي أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى
صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ
: هُوَ الَّذِي حَكَمَ لِلْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ ،
فَلَمْ تَخْلُ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا قَدْ صَارَ حَقًّا
وَصِدْقًا ، بِدَلِيلٍ غَيْرِ قَوْلِهَا ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ لَهَا بِذَلِكَ ، وَشَهَادَتُهُ
لَهَا بِهِ ، وَلَوْ قَدْ جَازَ عَلَى الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا الْخُرُوجُ عَنْ
صِفَةِ الْعَدَالَةِ وَصَارَتْ كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا - لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ
تَكُونَ عُدُولًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِهَا وَصِفَتِهَا .
فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا
عُدُولٌ لَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَوْمًا
نَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي إيجَابِ قَبُولِ
شَهَادَتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى حَقِيقَةِ صِدْقِهَا ، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ
مِنَّا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
نَقْطَعَ عَلَى غَيْبِهِمَا بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَيْسَ فِي لُزُومِ
قَبُولِ شَهَادَتِهَا حُكْمٌ بِصِدْقِهَا ، وَلَا الْقَطْعُ عَلَى غَيْبِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَنُصَّ لَنَا عَلَى ( وُجُوبِ ) قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ
بِأَعْيَانِهِمَا ، وَلَمْ يَحْكُمْ لَهُمَا بِالْعَدَالَةِ ، وَإِنَّمَا
أَمَرَنَا فِي الْجُمْلَةِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ عُدُولٍ عِنْدَنَا ، وَمَنْ فِي
غَالِبِ ظَنِّنَا أَنَّهُمْ عُدُولٌ وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ،فَلِذَلِكَ
لَمْ يَجُزْ لَنَا الْقَطْعُ عَلَى غَيْبِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى
شَهِدَ لِشَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ -
لَقَطَعْنَا عَلَى غَيْبِهِمَا ، وَحَكَمْنَا بِصِدْقِهِمَا ، وَأَمَّا الْأُمَّةُ
فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ
بَعْدَهَا ، عَلَى مَعْنَى : أَنَّهَا تَشْتَمِلُ ( عَلَى ) مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ
، فَمَتَى وَجَدْنَاهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى شَيْءٍ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ حُكْمُ
اللهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ الْعُدُولَ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ
قَدْ قَالَتْ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهَا صِدْقٌ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا
حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا ، فَيَكُونُونَ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ ، وَلَا
دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى : أَنَّهُمْ عُدُولٌ فِي الدُّنْيَا .
قِيلَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَهُمْ
وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ
مُسْتَحِقُّونَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الدُّنْيَا مَا جَازَ أَنْ يُوصَفُوا بِهَا
فِي الْآخِرَةِ ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا صِفَةَ مَدْحٍ
وَثَوَابٍ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا فِي الْآخِرَةِ .
وَأَيْضًا لَمَّا جَعَلَ لِلْأُمَّةِ فِي كَوْنِهَا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي (
وَكَوْنِهِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ) مُسْتَحِقًّا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا .
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِيمَا
يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْأُمَّةَ شُهَدَاءُ
فِي الْآخِرَةِ ، وَلَيْسَتْ شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ
مِثْلُهُ فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا لَمْ يُخَصِّصْ وَصْفَهَا بِذَلِكَ
حَالًا دُونَ حَالٍ اقْتَضَى عُمُومُ الْآيَةِ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الصِّفَةِ
لَهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ
.
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ } كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَفِيهِمْ مَنْ عَبَدَ ، وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ .
وَكَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ الْأُمَّةِ تَضْيِيعُ
الشَّهَادَةِ ، كَمَا جَازَ مِنْ بَعْضِ مَنْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ تَرْكُهَا .
قِيلَ لَهُ : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي
الْأُمَّةِ - لَجَازَ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلُهُ ، فَلَمَّا
كَانَ وَصْفُهُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى قَبُولَ شَهَادَتِهِ
، وَلُزُومَ قَوْلِهِ ، كَانَتْ الْأُمَّةُ مِثْلَهُ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ
يُقَالَ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ - لَمْ يَجُزْ فِي الْأُمَّةِ مِثْلُهُ ، وَفَارَقَ
الْعِبَادَةَ مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ بِالشَّهَادَةِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ ( لَمَّا ) وَصَفَ الْأُمَّةَ
بِالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }
فَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ بَعْدَ ( وَصْفِهِ إيَّاهُمْ ) بِالْعَدَالَةِ .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْوَصْفُ لَهُمْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ
، لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَهُمْ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ
بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ ،
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } يَعْنِي
: أَنَّهُمْ كَذَلِكَ ، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا
لِيَعْبُدُونِ } لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ إرَادَتِهِ خَلْقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ
، لَا عَلَى وَجْهِ وُقُوعِ الْحُكْمِ لَهُمْ بِالْعِبَادَةِ .
وَأَيْضًا
: فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَسْتَشْهِدْهُمْ (
عَلَى النَّاسِ ) إلَّا وَقَوْلُهُمْ مَقْبُولٌ ، وَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ ،
لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَشْهِدَ مَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ ،
لِأَنَّهُ عَبَثٌ ، وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } فَإِنَّهُ إخْبَارٌ أَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا
لِخَلْقِهِ إيَّاهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ ، لِيَسْتَحِقُّوا بِهَا الثَّوَابَ
الْجَزِيلَ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَإِنْ تَرَكُوهَا هُمْ .
وَأَيْضًا : لَمَّا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
لِعِبَادَتِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ عَبَدَ .
وَوِزَانُ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْأُمَّةِ ( أَنْ يَكُونَ
) فِيهِ عُدُولٌ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ
.
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ
يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ ،
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ بِهِ اتِّبَاعَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ ، وَحَظَرَ مُخَالَفَتَهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ
، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } ( وَفِي هَذَا )
وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِمْ
مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ لَا
يَكُونُ إلَّا حَقًّا وَصَوَابًا ، ثُمَّ أَكَّدَ بِإِلْحَاقِهِ بِتَارِكِ
اتِّبَاعِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ
: إنَّمَا أُلْحِقَ الذَّمُّ بِتَارِكِ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ إذَا شَاقَّ الرَّسُولَ مَعَ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ )
{ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } فَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ
بِالْأَمْرَيْنِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ ، دُونَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ ؟ .
قِيلَ لَهُ
: لَوْلَا أَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ فِعْلٌ مَذْمُومٌ
- لَمَا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ ، فَلَمَّا
قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَأُلْحِقَ الذَّمُّ بِفَاعِلِهِ -دَلَّ
عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ فِعْلٌ مَذْمُومٌ
عَلَى الِانْفِرَادِ لَمَا جَمَعَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ ذَمَّهُ عَلَى الْفِعْلَيْنِ
جَمِيعًا ، وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى
يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الذَّمَّ لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ إذَا شَاقَّ الرَّسُولَ
مَعَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى:
{وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلَهًا آخَرَ
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
يَزْنُونَ } قَدْ دَلَّ ( عَلَى ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ
مَذْمُومٌ عَلَى حِيَالِهِ ، يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ ، وَإِنْ جَمَعَهَا
فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى
: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } سَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ، وَبَيْنَ مَنْ اتَّخَذَهَا مِنْ دُونِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَدَلَّ عَلَى
( أَنَّ مُخَالِفَ الْمُؤْمِنِينَ تَارِكٌ لِلْحَقِّ )
كَمُخَالِفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } فَشَهِدَ لِلْأُمَّةِ بِهَذِهِ
الْخِصَالِ ، وَلَوْ جَازَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَمَا كَانُوا بِهَذِهِ
الصِّفَةِ ، وَلَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا - عَلَى الْمُنْكَرِ ، وَتَرَكُوا
الْمَعْرُوفَ ، وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ،
بِوَصْفِهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ،
وَالْمَعْنَى وَصْفُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ : أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْ
هَذِهِ صِفَتُهُ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَفِي الْأُمَّةِ لَا مَحَالَةَ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ ،
فَوَجَبَ اتِّبَاعُ جَمَاعَتِهَا
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مُنِيبِينَ
إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : قَوْله تَعَالَى : { هُوَ سَمَّاكُمْ ==
===================
اسلام صبحي
لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3
عقائد فاسدة
اسلام صبحي سورة هود
https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3
الاثنين، 7 نوفمبر 2022
ج5.وج6. كتاب أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصولالإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله
كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...
-
اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3 هيتميل اسلام صبحي اسلام صبحي سورة هود https...
-
التصنيـف الـعـام الكـتـب الـجديـدة الأكــثـر قـراءةً أخـبر صديـقـك اقــترح كـتابـاً العلماء وطلبة العلم أفـكـار دعـوية للنـسـاء...
-
كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق