ج8. صفحة : 2100 .
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت وحال من دونها الإسلام والحـرج
فقد أباكرها صرفـا وأمـزجـهـا ريا وأطرب أحـيانـا وأمـتـزج
وقد تقوم على رأسـي مـنـعـمة خود إذا رفعت في صوتها غنـج
ترفع الصوت أحيانا وتخـفـضـه كما يطم ذباب الروضة الـهـزج يرد على امرأة ظنت أنه فر من المعركة أخبرني الجوهري والمهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة وقال: لما انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنته منهزما؛ فأنشأت تعيره بفراره:
من فارس كره الطعان يعيرني رمحا إذا نزلوا بمن الصفـر فقال لها أبو محجن:
إن الكرام على الجياد مبيتـهـم فدعي الرماح لأهلها وتعطري يرثي أبا عبيد بعد أن قتله الفيل
وذكر السري، عن شعيب، عن سيف في خبره، ووافقته رواية ابن الأعرابي عن المفضل: أن الناس لما التقوا مع العجم يوم قس الناطف، كان مع الأعاجم فيل يكر عليهم؛ فلا تقوم له الخيل؛ فقال أبو عبيد بن مسعود: هل له مقتل? فقيل له: نعم؛ خرطومه إلا أنه لا يفلت منه من ضرب؛ قال: فأنا أهب نفسي لله، وكمن له حتى إذا أقبل وثب إليه فضرب خرطومه بالسيف؛ فرمى به، ثم شد عليه الفيل فقتله، ثم استدار فطحن الأعاجم وانهزموا، فقال أبو محجن الثقفي يرثي أبا عبيد:
أنى تسـدت نـحـونـا أم يوسـف ومن دون مسراها فياف مجاهـل
إلى فتية بالطف نيلت سـراتـهـم وغودر أفراس لـهـم ورواحـل
وأضحى أبو جبر خـلاء بـيوتـه وقد كان يغشاها الضعاف الأرامل
وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم إلى جانب الأبـيات جـود ونـائل
وما لمت نفسي فيهم غـير أنـهـا لها أجل لم يأتهـا وهـو عـاجـل
وما رمت حتى خرقوا بسلاحـهـم إهابي وجادت بالدمـاء الأبـاجـل
وحتى رأيت مهـرتـي مـزوئرة من النبل يدمى نحرها والشواكـل
وما رحت حتى كنـت آخـر رائح وصرع حولي الصالحون الأماثـل
مررت على الأنصار وسط رحالهم فقلت: ألا هل منكم اليوم قـافـل?
وقربت رواحا وكورا ونـمـرقـا وغودر في ألـيس بـكـر ووائل
ألا لعـن الـلـه الـذين يسـرهـم رداي وما يدرون ما الله فـاعـل يقسم أن لا يشرب الخمر أبدا
قال الأخفش في روايته، عن الأحول، عن ابن الأعرابي، عن المفضل: قال أبو محجن في تركه الخمر:
رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تهلك الرجل الحليما
فلا والله أشربها حـياتـي ولا أسقي باه أبدا نـديمـا معاوية وابن أبي محجن
أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثنا العمري، عن لقيط، عن الهيثم بن عدي. وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا: دخل ابن أبي محجن على معاوية، فقال له: أليس أبوك الذي يقول:
إذا مت فادفني إلى أصل كـرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالـفـلاة فـإنـنـي أخاف إذا ما مـت ألا أذوقـهـا فقال ابن أبي محجن: لو شئت لذكرت ما هو أحسن من هذا من شعره؛ قال: وما ذاك? قال: قوله:
لا تـسـألـي الـنـاس عـن مـالـي وكـثـــرتـــه وسـائلـي الـنـاس مـا فـعـلـي ومـا خـلـقـــي
أعـطـي الـسـنـان غـداة الـروع حــصـــتـــه وعـامـل الـرمـح أرويه مــن الـــعـــلـــق
وأطـعـن الـطـعـنة الـنـجـلاء عـــن عـــرض وأحـفـظ الـسـر فـيه ضــربة الـــعـــنـــق
عف المطالب عما لست نائلهوإن ظلرمت شديد الحق والحنق
وقد أجود وما لي بذي فنع وقـد أكـر وراء الـمـحـــجـــر الـــبـــرق
والـقـوم أعـلـم أنـي مـــن ســـراتـــهـــم إذا سـمـا بـصـر الـرعــديدة الـــشـــفـــق
قد يعـسـر الـمـرء حـينـــا وهـــو ذو كـــرم وقـد يثـوب سـوام الـعـاجــز الـــحـــمـــق
سيكـثـر الـمـال يومـا بـعـــد قـــلـــتـــه ويكـتـسـي الـعـود بـن الـيبــس بـــالـــورق
صفحة : 2101
فقال معاوية: لئن كنا أسأنا لك القول لنخسنن لك الصفد ، ثم أجزل جائزته وقال: إذا ولدت النساء فلتلد ملك.
عمر بن الخطاب يحده وجماعة
من أصحابه في شربهم الخمر
أخبرني الحسن بن علي وعيسى بن الحسين الوراق، قالا: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني صالح بن عبد الرحمن الهاشمي، عن العمري، عن العتبي، قال: أيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجماعة فيهم أبو محجن الثقفي وقد شربوا الخمر، فقال: أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله ورسوله، فقالوا: ما حرمها الله ولا رسوله؛ إن الله تعالى يقول: )ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات( ؛ فقال عمر لأصحابه: ما ترون فيهم? فاختلفوا فيهم فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فشاوره؛ فقال علي: إن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلوا الميتة والدم ولحم الخنزير؛ فسكتوا، فقال عمر لعلي: ما ترى فيهم? قال: أرى إن كانوا شربوها مستحلين لها أن يقتلوا، وإن كانوا شربوها وهم يؤمنين أنها حرام أن يحدوا، فسألهم؛ فقال: والله ما شككنا في أنها حرام، ولكنا قدرها أن لنا نجاة فيما قلناه، فجعل يحدهم رجلا رجلا، وهم يخرجون حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده أنشأ يقول:
ألم تر أن الدهر يعثر بالـفـتـى ولا يستطيع المرء صرف المقادر
صبرت فلم أجزع ولم أك كـائعـا لحادث دهر في الحكومة جـائر
وإني لذو صبر وقد مات إخوتـي ولست عن الصهباء يوما بصابـر
رماها أمير المؤمنين بحتـفـهـا فخلانها يبكون حول المعـاصـر فلما سمع عمر قوله:
ولست عن الصهباء يوما بصابر قال: قد أبديت ما في نفسك ولأزيدنك عقوبة لإصرارك على شرب الخمر؛ فقال له علي عليه السلام: ما ذلك لك، وما يجوز أن تعاقب رجلا قال: لأفعلن وهو لم يفعل، وقد قال الله في سورة الشعراء: )وأنهم يقولون ما لا يفعلون( ، فقال عمر: قد استثنى الله منهم قوما فقال: )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات( . فقال علي عليه السلام: أفهؤلاء عندك منهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لا يشرب العبد الخمر حين يشربها وهو مؤمن(.
قبره في أذربيجان نبتت عليه كرمة
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس، قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، قال: أخبرني من مر بقبر أبي محجن الثقفي في نواحي أذربيجان -أو قال في نواحي جرجان- فرأيت قبره وقد نبتت عليه ثلاثة أصول كرم قد طالت وأثمرت وهي معروشة، وعلى قبره مكتوب: هذا قبر أبي محجن الثقفي، فوقفت طويلا أتعجب مما اتفق له حتى صار كأمنية بلغها حيث يقول:
إذا مت فادفني إلى أصل كـرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
صوت
ألا يا لقومي لا أرى النجم طالعا ولا الشمس إلا حاجبي بيمينـي
معزيتي خلف القفا بعمـودهـا فجل نكيري أن أقول ذرينـي
أمين على أسرارهن وقـد أرى أكون على الأسرار غير أمين
فللموت خير من حداج موطـأ مع الظعن لا يأتي المحل لحين عروضه من الطويل؛ والمعزية: امرأة تكون مع الشيخ الخرف تكلؤه. وقوله: أمين على أسرارهن.
أي أن النساء صرن يتحدثن بين يدي بأسرارهن، ويفعلن ما كن قبل ذلك يرهبنني فيه؛ لأني لا أضرهن. والحداج والحذج: مركب من مراكب النساء.
الشعر لزهير بن جناب الكلبي، والغناء لأهل مكة، ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن الهشامي وحبش، وفيه لحنين ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبار زهير بن جناب ونسبه
نسبه
زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
شاعر جاهلي،وهو أحد المعمرين، وكان سيد بني كلب وقائدهم في حروبهم، وكان شجاعا مظفرا ميمون النقيبة في غزواته، وهو أحد من مل عمره فشرب الخمر صرفا حتى قتلته.
ولم يوجد شاعر في الجاهلية والإسلام ولد من الشعراء أكثر ممن ولد زهير، وسأذكر أسماءهم وشيئا من شعرهم بعقب ذكر خبره إن شاء الله تعالى.
سبب غزوه غطفان
صفحة : 2102
قال ابن الأعرابي: كان سبب غزوة زهير بن جناب غطفان أن بني بغيض حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرضت لهم صداء وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم وبنو بغيض سائرون بأهليهم ونسائهم وأموالهم، فقاتلوا عن حريمهم فظهروا على صداء فأوجعوا فيهم ونكأوا ، وعزت بنو بغيض بذلك وأثرت وأصابت غنائم؛ فلما رأوا ذلك قالوا: أما والله لنتخذن حرما مثل حرم مكة لا يقتل صيده، ولا يعضد شجره، ولا يهاج عائذه ، فوليت ذلك بنو مرة بن عوف.
ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رياح بن ظالم، ففعلوا ذلك وهم على ماء لهم يقال له بس وبلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب وهو يومئذ سيد بني كلب؛ فقال: والله لايكون ذلك أبدا وأنا حي، ولا أخلي غطفان تتخذ حرما أبدا.
قبل فارسهم الأسير ورد نساءهم وقال شعرا في ذلك.
فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم، فذكر حال غطفان وما بلغه عنها؛ وأن أكرم مأثرة يعتقدها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك وحولوا بينهم، فأجابوه، واستمد بني القين من جشم فأبعوا أن يغزوا معه، فسار في قومه حتى غزا غطفان؛ فقاتلهم فظفر بهم زهير وأصاب حاجته فيهم، وأخذ فارسا منهم أسيرا في حرمهم الذي بنوه، فقال لبعض أصحابه: اضرب رقبته، فقال، إنه بسل فقال زهير: وأبيك ما بسل علي بحرام.
ثم قام إليه فضرب عنقه وعطل ذلك الحرم؛ ثم من على غطفان ورد النساء واستاق الأموال؛ وقال زهير في ذلك:
ولم تصبر لنا غطفـان لـمـا تلاقينا وأحـرزت الـنـسـاء
فلولا الفضل منا ما رجعـتـم إلى عذراء شيمتهـا الـحـياة
وكم غادرتـم بـطـلا كـمـيا لدى الهيجاء كان لـه غـنـاء
فدونكم ديونا فـاطـلـبـوهـا وأوتارا ودونـكـم الـلـقـاء
فإنا حيث لانخفـي عـلـيكـم ليوث حين يحتضـر الـلـواء
فخلى بعدها غطـفـان بـسـا وما غطفان والأرض الفضاء
فقد أضحى لحي بني جـنـاب فضاء الأرض والماء الـرواء
ويصدق طعننـا فـي كـل يوم وعند الطعن يختبر الـلـقـاء
نفينا نـخـوة الأعـداء عـنـا بأرماح أسنـتـهـا ظـمـاء
ولولا صبرنا يوم الـتـقـينـا لقينا مثل ما لـقـيت صـداء
غداة تعرضوا لبنـي بـغـيض وصدق الطعن للنوكى شفـاء
وقد هربت حذار الموت قـين على آثار من ذهب العـفـاء
وقد كنـا رجـونـا أن يمـدوا فأخلفنا من أخوتنـا الـرجـاء
وألهى القين عن نصر الموالي حلاب النيب والمرعى الضراء طعنه ابن زيابة وظن أنه مات فحمل إلى قومه وعوفي وقال أبو عمرو الشيباني: كان أبرهة حين طلع نجدا أتاه زهير بن جناب، فأكرمه أبرهة وفضله على من أتاه من العرب، ثم أمره على ابني وائل: تغلب وبكر، فوليهم حتى أصابتهم سنة شديدة، فاشتد عليهم ما يطلب منهم زهير، فأقام بهم زهير في الجدب، ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك ابن زيابه-أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وكان رجلا فاتكا-بيت زهيرا وكان نائما في قبة له من أدم، فدخل فألفى زهيرا نائما، وكان رجلا عظيم البطن، فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير حتى أخرجه من ظهره مارقا بين الصفاق، ولمت أعفاج بطنه ، وظن التيمي أنه قد قتله، وعلم زهير أنه قد سلم، فتخوف أن يتحرك فيجهز عليه، فسكت. وانصرف ابن زيابة إلى قومه، فقال لهم: قد-والله-قتلت زهيرا وكفيتكموه، فسرهم ذلك. ولما علم زهير أنه لم يقدم عليه إلا عن ملأمن قومه بكر وتغلب- وإنما مع زهير نفر من قومه بمنزلة الشرط-أمر زهير قومه فغيبوه بين عمودين في ثياب ثم أتوا القوم فقالوا لهم: إنكم قد فعلتم بصاحبنا ما فعلتم، فأذنوا لنا في دفنه، ففعلوا.
شعر ابن زيابة في نبو سيفه عنه فحملوا زهيرا ملفوفا في عمودين والثياب عليه، حتى إذا بعدوا عن القوم أخرجوه فلففوه في ثيابه، ثم حفروا حفيرة وعمقوا، ودفنوا فيها العمودين، ثم ساروا ومعهم زهير، فلما بلغ زهير أرض قومه جمع لبكر وتغلب الجموع، وباغهم أن زهيرا حي، فقال ابن زيابة:
طعنة ما طعنت في غبش اللي ل زهيرا وقد توافى الخصوم
صفحة : 2103
حين تجبي له المواسم بـكـر أين بكر، وأين منها الحلـوم
خانني السيف إذ طعنت زهيرا وهو سيف مضلل مـشـؤوم غزا بكرا وتغلب وشعره في ذلك
قال: وجمع زهير بني كلب ومن تجمع له من شذاذ العرب والقبائل ، ومن أطاعه من أهل اليمن، فغزا بكرا وتغلب ابني وائل، وهم على ماء يقال له الحبي ، وقد كانوا نذروا به، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انهزمت بكر وأسلمت بني تغلب، فقاتلت شيئا من قتال ثم انهزمت، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، واستيقت الأموال، وقتلت كلب في تغلب قتلى كثيرة، وأسروا جماعة من فرسانهم ووجوههم، وقال زهير بن جناب في ذلك:
تبـا لـتـغـلـب أن تـسـاق نـســاؤهـــم سوق الإمـاء إلـى الـمـواسـم عــطـــلا
لحـقـت أوائل خـيلـنـا سـرعـانـــهـــم حتى أسـرن عـلـى الـحـبـي مـهـلـهـلا
إنامهلهلما تطيش رماحناأيام تنقف في يديك الحنظلا
ولت حماتك هاربين من الوغى وبـقـيت فـي حـلـق الـحـديد مـكـبــلا
فلـئن قـهـرت لـقـد أسـرتـك عــنـــوة ولـئن قـتـلـت لـقـد تـكـون مـؤمـــلا وقال أيضا يعير بني تغلب بهذه الواقعة في قصيدة أولها:
حي دارا تغيرت بالجنـاب اقفرت من كواعب أتراب يقول فيها:
أين أين الفرار من حذر الـمـو ت وإذ يتـقـون بـالأسـلاب
إذ أسرنا مـهـلـهـلا وأخـاه وابن عمرو في القد وابن شهاب
وسبينا من تغلب كـل بـيضـا ء رقود الضحى برود الرضاب
يوم يدعو مهلهـل بـالـبـكـر ها أهذي حفيظة الأحـسـاب
ويحكم ويحكم أبيح حمـامـكـم يا بني تغلب أما من ضـراب
وهم هاربـون فـي كـل فـج كشريد النعام فوق الـروابـي
واستدارت رحى المنايا علـيهـم بليوث من عـامـر وجـنـاب
طحنتهم أرحاؤهـا بـطـحـون ذات ظـفـر حـديدة الأنـياب
فهم بـين هـارب لـيس يألـو وقتيل معفـر فـي الـتـراب
فضل العز عزنا حين نسـمـو مثل فضل السماء فوق السحاب وفد مع أخيه حارثة أحد ملوك غسان
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عمي، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال: وفد زهير بن جناب وأخوه حارثة على بعض ملوك غسان، فلما دخلا عليه حدثاه وأنشداه، فأعجب بهما ونادمهما، فقال يوما لهما: إن أمي عليلة شديدة العلة، وقد أعياني دواؤها، فهل تعرفان لها دواء? فقال حارثة: كميرة حارة -وكانت فيه لوثة- فقال الملك: أي شيء قلت? فقال له زهير: كميئة حارة تطعمها، فوثب الملك -وقد فهم الأولى والآخرة- يريهما أنه يأمر بإصلاح الكمأة لها، وحلم عن مقالة. وقال حارثة لزهير: يا زهير اقلب ما شئت ينقلب، فأرسلها مثلا.
ذهب عقله آخره عمره فكان يخرج فيرد
أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد بن الغيث الباهلي عن أبيه، قال: كان من حديث زهير بن جناب الكلبي أنه كان قد بلغ عمرا طويلا حتى ذهب عقله، وكان يخرج تائها لا يدري أين يذهب، فتلحقه المرأة من أهله والصبي، فترده وتقول له: إن أخاف عليك الذئب أن يأكلك، فأين تذهب? فذهب يوما من أيامه، ولحقته ابنة له فردته، فرجع معها وهو يهدج كأنه رأل ، وراحت عليهم سماء في الصيف فعلتهم منها بغشة ثم أردفها غيث، فنظر وسمع له الشيخ زجلا منكرا. فقال: ما هذا يا بنية? فقالت: عارض هائل إن أصابنا دون أهلنا هلكنا، فقال: انعتيه لي، فقالت: أراه منبطحا مسلنطحا ، قد ضاق ذرعا وركب ردعا ، ذا هيدب يطير، وهماهم وزفير، ينهض نهض الطير الكسير، عليه مثل شباريق الساج، في ظلمة الليل الداج، يتضاحك مثل شعل النيران، تهرب منه الطير، وتوائل منه الحشرة. قال: أي بنية، وائلي منه إلى عصر قبل أن لا عين ولا أثر.
كان يدعى الكاهن لصحة رأيه
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أحمد بن عبيد، عن ابن الكلبي، عن أبيه، عن مشيخة من الكلبيين قالوا:
صفحة : 2104
عاش زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله ومائتي سنة أوقع فيها مائتي وقعة في العرب، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى حن بن زيد العذري، ولم يكن في اليمن أشجع ولا أخطب ولا أوجه عند الملوك من زهير. وكان يدعى الكاهن، لصحة رأيه.
عمر حتى مل عمره، وشعره في ذلك
قال هشام: ذكر حماد الراوية أن زهيرا عاش أربعمائة وخمسين سنة، قال: وقال الشرقي بن القطامي: عاش زهير أربعمائة سنة، فرأته ابنة له فقالت لابن ابنها: خذ بيد جدك، فقال له: من أنت? فقال: فلان بن فلان بن فلانة، فأنشأ يقول:
أبنـي إن أهـلـك فـقـد أورثتكم مـجـدا بـنـيه
وتركتـكـم أبـنـاء سـا دات زنـادكـــم وريه
ولكل مـا نـال الـفـتـى قد نلـتـه إلا الـتـحـيه
والموت خير لـلـفـتـى فليلكـهـن وبـه بـقـيه
من أن يرى الشيخ البـجـا ل وقد تهادى بالـعـشـيه
ولقد شهدت النـار لـلأس لاف توقد فـي طـمـيه
ولقد رحلـت الـبـازل ال كوماء ليس لـهـا ولـيه
وخطبت خطـبة مـاجـد غير الضعيف ولا العـييه
ولقد غدوت بمـشـرف ال قطرين لم يغمز شـظـيه
فأصبت من بقر الـجـنـا ب ضحى ومن حمر القفيه
قال ابن الكلبي: وقال زهير في كبره أيضا:
ألا يا لقومي لا أرى النجم طالعا ولا الشمس إلا حاجبي بيمينـي
معزبتي عند القفا بعـمـودهـا فأقصى نكيري أن أقول ذريني
أمين على أسرارهن وقـد أرى أكون على الأسرار غير أمـين
فللموت خير من حداج مـوطـأ على الظعن لا يأتي المحل لحين قال: وقال زهير أيضا في كبره:
إن تنـسـنـي الأيام إلا جـلالة أمت حين لا تأسى علي العوائد
فيأذى بي الأدنى ويشمت بي العد ويأمن كيدي الكاشحون الأباعـد قال: وقال زهير أيضا:
لقد عمرت حتى لا أبـالـي احتفي في صباحي أم مسائي
وحق لمن أتت مائتان عامـا عليه أن يمل مـن الـثـواء
شهدت الموقدين على خزازى وبالسلان جمعـا ذا زهـاء
ونادمت الملوك من آل عمرو وبعدهم بني ماء السـمـاء خالفه ابن أخيه فشرب الخمر
قال ابن الكلب: وكان زهير إذا قال: ألا إن الحي طاعن، ظعنت قضاعة؛ وإذا قال: ألا أن الحي مقيم، نزلوا وأقاموا. فلما أن أسن نصب ابن أخيه عبد الله بن عليم للرياسة في كلب، وطمع أن يكون كعمه وتجتمع قضاعة كلها عليه، فقال زهير يوما: ألا إن الحي ظاعن، فقال عبد الله: ألا إن الحي مقيم، فقال زهير: ألا إن الحي مقيم، فقال عبد الله: ألا إن الحي ظاعن، فقال زهير: من هذا المخالف علي منذ اليوم? فقالوا: ابن أخيك عبد الله بن عليم، فقال: أعدى الناس للمرء ابن أخيه إلا أنه لا يدع قاتل عمه أو يقتله. ثم أنشأ يقول:
وكيف بمن لا أستطيع فـراقـه ومن هو إن لم تجمع الدار آلف
أمير شقاق إن أقم لا يقم معـي ويرحل، وإن أرحل يقم ويخالف ثم شرب الخمر صرفا حتى مات.
قال: وممن شرب الخمر صرفا حتى مات عمرو بن كلثون التغلبي، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة.
قال هشام : عاش هبل بن عبد الله جد زهير بن جناب ستمائة سنة وسبعين، وهو القائل:
يا رب يوم قد غني فيه هبـل له نـوال ودرور وجـــذل
كأنه في العز عوف أو حجل قال: عوف وحجل: قبيلتان من كلب.
كان نازلا مع الجلاح بن عوف
فأنذرته فخالفه الجلاح فرحل هو وقال شعرا.
وقال أبو عمر الشيباني: كان الجلاح بن عوف السحمي قد وطأ لزهير بن جناب وأنزله معه، فلم يزل في جناحه حتى كثر ماله وولده، وكانت أخت زهير متزوجة في بني القين بن جسر، فجاء رسولها إلى زهير ومعه برد فيه صرار رمل وشوكة قتاد، فقال زهير لأصحابه: أتتكم شوكة شديدة، وعدد كثير فاحتملوا، فقال له الجلاح: أنحتمل لقول امرأة والله لا نفعل، فقال زهير:
صفحة : 2105
أما الجلاح فإنني فـارقـتـه لا عن قلى ولقد تشط بنا النوى
فلئن ظعنت لأصبحن مخـيمـا ولئن أقمت لأظعنن على هوى قال: فأقام الجلاح، وظعن زهير، وصبحهم فقتل عامة قوم الجلاح وذهبوا بماله.
قال: واسم الجلاح عامر بن عوف بن بكر بن عامر بن عوف بن عذرة.
اجتمع مع عشيرته فقصده الجيش
فهزمهم وقتل رئيسا منهم
ومضى زهير لوجهه حتى اجتمع مع عشيرته من بني جناب، وبلغ الجيش خبره فقصدوه، فحاربهم وثبت لهم فهزمهم وقتل رئيسا منهم، فانصرفوا عنه خائبين، فقال زهير:
أمن آل سلمى ذا الخيال المـؤرق وقد يمق الطيف الغريب المشوق
وأنى اهتدت سلمى لوجه محلـنـا وما دونها من مهمه الأرض يخفق
فلم تر إلا هاجعـا عـنـد حـرة على ظهرها كور عتيق ونمـرق
ولما رأتني والطليح تـبـسـمـت كما انهل أعلى عارض يتـألـق
فحـييت عـنـا زودينـا تـحـية لعل بها العاني من الكبل يطـلـق
فردت سلاما ثـم ولـت بـحـاجة ونحن لعمري يابنة الخير أشـوق
فيا طيب ما ريا ويا حسن منـظـر لهوت به لو أن رؤياك تـصـدق
ويوم أثالى قد عرفت رسـومـهـا فعجنا إليها والدمـوع تـرقـرق
وكادت تبين القول لما سألـتـهـا وتخبرني لو كانت الدار تنـطـق
فيا دار سلمى هجت للعين عبـرة فماء الهوى يرفض أو يترقـرق وقال زهير في هذه القصيدة يذكر خلا الجلاح عليه:
أيا قومنا إن تقبلـوا فـانـتـهـوا وإلا فأنياب من الحرب تـحـرق
فجاءوا إلى رجراجة مكفـهـرة يكاد المدير نحوها الطرف يصعق
سيوف وأرمـاح بـأيدي أعــزة وموضونة مما أفـاد مـحـرق
فما برحوا حتى تركنا رئيسـهـم وقد مار فيه المضرحي المذلـق
وكائن ترى من ماجد وابن ماجـد له طعنة نجلاء للوجه يشـهـق وقال زهير في ذلك أيضا:
سائل أميمة عني هل وفيت لهـا أم هل منعت من المخزاة جيرانا
لا يمنع الضيف إلا ماجد بطـل إن الكريم كريم أينـمـا كـانـا
لما أبى جيرتي إلا مـصـمـمة تكسو الوجوه من المخزاة ألوانا
لمنا عليهم بورد لا كـفـاء لـه يفلقن بالبيض تحت النقع أبدانـا
إذا ارجحنوا علونا هامهم قدمـا كأنما نختلي بالهام خطـبـانـا
كم من كريم هوى للوجه منعفرا قد اكتسى ثوبه في النقع ألوانـا
ومن عميد تناهى بعد عثـرتـه تبدو ندامته للـقـوم خـزيانـا كل أولاده شعراء وهذه نماذج من شعرهم
وأما الشعراء من ولد زهير: فمنهم مصاد بن أسعد بن جنادة بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، وهو القائل:
تمنيت أن تلقى لقاح ابن محرز وقبلك شامتها العيون النـواظ
ممنحة في الأقربين مـنـاخة وللضيف فيها والصديق معاقر
فهلا بني عيناء عاينت جمعهـم بحالة إذا سدت عليك المصادر ومنهم حريث بن عامر بن الحارث ابن امرئ القيس بن زهير بن جناب، وهو القائل:
أرى قومي بني قطن أرادوا بألا يتركـوا بـيدي مـالا
فإن لم أجزهم غيظاص بغيظ وأوردهم على عجل شلالا
فليت التغلبية لـم تـلـدنـي ولا أغنت بما ولدت قبـالا ومنهم الحزنبل بن سلامة بن زهير بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، وهو القائل:
عبثت بمنخرق القميص كـأنـه وضح الهلال على الخمور معذل
يا سلم ويحك والخليل مـعـاتـب أزمعت أن تصلي سواء وتبخلي
لما رأيت بعارضـي ولـمـتـي غير المشيب على الشباب المبدل
صرمت حبل فتى يهش إلى الندى لو تطلبين نـداه لـم يتـعـلـل
إنا لنصبر عند معترك الـوغـى ونبذ مكرمة الكريم المفـضـل ومنهم غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب، وهو القائل:
صفحة : 2106
أبلغ أبـا عـمـرو وأن ت علي ذو النعم الجزيله
أنا مـنـعـنـا أن تـذل بلادكم وبنـو جـديلـه
وطرقـتـهـم لـيلا أخ برهم بهم ومعي وصيله
فصدقتهم خيري فـطـا روا في بلادهم الطويله ومنهم عرفجة بن جنادة بن أبي النعمان بن زهير بن جناب، وهو القائل:
عفا أبرق العزاف من أم جابر فمنعرج الوادي عفا فحفـير
فروض ثوير عن يمين روية كأن لم تربعه أوانس حـور
رقاق الثنايا والوجوه، كأنهـا ظباء الفلا في لحظهن فتور ومنهم المسيب بن رفل بن حارثة بن جناب بن قيس بن امرئ القيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب، وهو القائل:
قتلنا يزيد بن المهلب بـعـدمـا تمنيتم أن يغلب الحق باطـلـه
وما كان منكم في العراق منافق عن الدين إلا من قضاعة قاتله
تجلله قحل بـأبـيض صـارم حسام جلا عن شفرتيه صياقله يعني بالفحل ابن عياش بن شمر بن أبي سراحيل بن غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب، وهو الذي قتل يزيد بن المهلب.
ومن بني زهير شعراء كثير، ذكت منهم الفحول دون غيرهم.
صوت
تدعى الشـوق إن نـأت وتـجـنـى إذا دنـت
سرني لو صبرت عـن ها فتجزى بما جـنـت
إن سلمى لـو اتـقـت ربها فـي أنـجـزت
زرعت في الحشا الهوى وسقته حتـى نـبـت الشعر لمسلم بن الوليد، والغناء لعريب خفيف ثقيل. وقيل: إنه لأبي العبيس بن حمدون. وذكر الهشامي أن لإسحاق في: إن سلمى... وما بعده من الثقيل الأول بالبنصر.
نسب مسلم بن الوليد وأخباره
نسبه
وهو مسلم بن الوليد، أبوه الوليد مولى الأنصار ثم مولى أبي أمامة أسعد بن زرارة الخزرجي.
كان يلقب صريع الغواني
يلقب صريع الغواني، شاعر متقدم من شعراء الدولة العباسية، منشؤه ومولده الكوفة.
وهو -فيما زعموا- أول من قال الشعر المعروف بالبديع، هو لقب هذا الجنس البديع واللطيف . وتبعه فيه جماعة، وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فإنه جعل شعره كله مذهبا واحدا فيه. ومسلم كان متقننا متصرفا في شعره.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: قال أبو العباس محمد بن يزيد: كان مسلم شاعرا حسن النمط، جيد القول في الشراب ، وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى. وهو أول من عقد هذه المعاني الظريفة واستخرجها.
اتهم بأنه أول من أفسد الشعر
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: سمعت أبي، يقول: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، جاء بهذا الذي سماه الناس البديع، ثم جاء الطائي بعده فتفنن فيه .
كان منقطعا إلى يزيد بن يزيد
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم الدينوري، قال: كان مسلم بن الوليد وأخوه سليمان منقطعين إلى يزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد، ثم الفضل بن سهل بعد ذلك. وقلد الفضل مسلما المظالم بجرجان فمات بها.
أخبرني علي بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان السبب في قول مسلم:
تدعي الشوق إن نأت وتجنـى إذا دنـت غازل جارية منزلها في مهب الشمال
من منزله، ولم يكن يهواها
أنه علق جارية ذات ذكر وشرف ، وكان منزلها في مهب الشمال من منزله، وفي ذلك يقول: صوت
أحب الريح ما هبت شمـالا وأحسدها إذا هبت جنـوبـا
أهابك أن أبوح بذات نفسـي وأفرق إن سألتك أن أخيبـا
وأهجر صاحبي حب التجني عليه إذا تجنت الـذنـوبـا
كأني حين أغضي عن سواكم أخاف لكم على عيني رقيبا غنى عبد الله بن العباس الربيعي في هذه الأبيات هزجا بالبنصر عن الهشامي.
كان يحب جاريته محبة شديدة
قال: وكانت له جارية يرسلها إليها ويبثها سره، وتعود إليه بأخبارها ورسائلها؛ فطال ذلك بينهما؛ حتى أحبتها الجارية التي علقها مسلم ومالت إليها، وكلتاهما في نهاية الحسن والكمال.
صفحة : 2107
وكان مسلم يحب جاريته هذه محبة شديدة، ولم يكن يهوى تلك، إنما كان يريد الغزل والمجون والمراسلة، وأن يشيع له حديث بهواها، وكان يرى ذلك من الملاحة والظرف والأدب، فلما رأى مودة تلك لجاريته هجر جاريته مظهرا لذلك، وقطعها عن الذهاب إلى تلك، وذلك قوله:
وأهجر صاحبي حب التجني عليه إذا تجنيت الذنـوبـا وراسلها مع غير جاريته الأولى، وذلك قوله:
تدعى الشـوق إن نـأت وتـجـنـى إذا دنـت
واعدتنـا وأخـلـفـت ثم ساءت فأحـسـنـت
سرني لو صبرت عـن ها فتجزى بما جـنـت
إن سلمى لـو اتـقـت ربها فـي أنـجـزت
زرعت في الحشا الهوى وسقته حتـى نـبـت أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن يزيد، قالا: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: لقي مسلم بن الوليد أبا نواس فقال له: ما أعرف لك بيتا إلا فيه سقط، قال: فما تحفظ من ذلك? قال: قل أنت ما شئت حتى أريك سقطه فيه، فأنشده:
ذكر الصبوح سحيرة فارتاحا وأمله ديك الصباح صياحـا فقال له مسلم: فلم أمله وهو الذي أذكره وبه ارتاح? فقال أبو نواس: فأنشدني شيئا من شعرك ليس فيه خلل، فأنشده مسلم:
عاصى الشباب فراح غير مفند وأقام بين عزيمة وتـجـلـد فقال له أبو نوس: قد جعلته رائحا مقيما في حال واحدة وبيت واحد. فتشاغبا وتسابا ساعة، وكلا البيتين صحيح المعنى.
ذكر أمام المأمون شعره فأعجبه
أخبرني جعفر بن قدامة قال: قال لي محمد بن عبد الله بن مسلم: حدثني أبي، قال: اجتمع أصحاب المأمون عنده يوما، فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد? قال: حيث يقول ماذا? قال: حيث يقول وقد رثى رجلا:
أرادوا ليخفوا قبره عـن عـدوه فطيب تراب القبر دل على القبر وحيث مدح رجلا بالشجاعة فقال:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بهـا والجود بالنفس أقصى غاية الجود وهجا رجلا بقبح الوجه والأخلاق فقال:
قبحت مناظره فحين خبرته حسنت مناظره لقبح المخبر وتغازل فقال:
هوى يجد وحبيب يلعب أنت لقى بينهما معذب فقال المأمون: هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره.
الرشيد ينبه يزيد من مزيد إلى ما قاله
فيه مسلم من مدح
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي الخفاف، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني قعنب بن المحرز، وابن النطاح، عن القحذمي، قال: قال يزيد بن مزيد: أرسل إلي الرشيد يوما في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي فأتيته لابسا سلاحي، مستعدا لأمر إن إراده، فلما رآني ضحك إلي ثم قال: يا يزيد خبرني من الذي يقول فيك:
تراه في الأمن في درع مضاعـفة لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
صافي العيان طموح العين همتـه فك العناة وأسر الفاتك الخـطـل
لله من هاشم في أرضـه جـبـل وأنت وابنك ركنا ذلك الـجـبـل فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا تعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله، وهو مسلم بن الوليد. فانصرفت به ووصلته ووليته.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي، والحسن بن علي الخفاف، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سليمان الحنفي ذو الهدمين، قال: حدثني أبي، قال: دخل يزيد بن مزيد على الرشيد فقال له: يا يزيد، من الذي يقول فيك:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ولا يمسح عينيه من الكحـل
قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يتبعنه في كل مرتحـل يزيد بن مزيد يسمع مدحه فيه
ويأمر له بجائزة
صفحة : 2108
فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين. فقال له هارون: أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله فخرج من عنده خجلا، فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له: من بالباب من الشعراء? قال: مسلم بن الوليد، فقال: وكيف حجبته عني فلم تعلمني بمكانه? قال: أخبرته أنك مضيق ، وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه، وسألته الإمساك والمقام أياما إلى أن تتسع. قال: فأنكر ذلك عليه وقال: أدخله إلي. فأدخله إليه، فأنشده قوله:
أجـررت حـبـل خـلـيع فـي الـصـبــا غـــزل وشـمـرت هـمـم الـعـذال فـــي عـــذلـــي
رد الـبـكـار عـلـى الـعـين الـطـمـوح هـــوى مفـــرق بـــين تـــوديع ومـــرتـــحـــل
أمـا كـفـى الـبـين أن أرمـى بـأســهـــمـــه حتـى رمـانـي بـلـحـظ الأعـين الـنـــجـــل
مما جنت لي وإن كانت منى صدقتصبابة خلس التسليم بالمقل فقال له: قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم، فاقبضها واعذر. فخرج الحاجب فقال لمسلم: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم، خمسون ألفا لك وخمسون ألفا لنفقته. وأعطاه إياها، وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد، فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم وقال: اقض الخمسين التي أخذها الشاعر وزده مثلها. وخذ مائة ألف لنفقتك. فافتك ضيعته، وأعطى مسلما خمسين ألفا أخرى.
يزوره صديق فيبيع خفيه ليقدم له طعاما
أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني علي بن عبيد الكوفي، وعلي بن الحسن كلاهما، قال: أخبرني علي بن عمرو، قال: حدثني مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني قال: كنت يوما جالسا في دكان خياط بإزاء منزلي، إذ رأيت طارقا ببابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قم، فسررت به، وكأن إنسانا لطم وجهي، لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه، فقمت فسلمت عليه، وأدخلته منزلي، وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، وكتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السوق، أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لي لحما وخبزا بشيء سميته. فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترى لها ما قد حددته له، وقد باع الخفين بتسعة دراهم، فكأنها إنما جاءت بخفين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ، وسألت جارا لي أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجه بها إلي، وأمرت الجارية بأن تغلق باب الدار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه، ليبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف.
يصل إليه رسول يزيد بن مزيد ويدفع إليه عشرة آلاف درهم فإنا لجاسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت لجاريتي: انظري من هذا. فنظرت من شق الباب فإذا رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة وعه شاكري، فخبرتني بموضعه فأنكرت أمره ، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة، ولا للسلطان علي سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابته وقال: أأنت مسلم بن الوليد? قلت: نعم. فقال: كيف لي بمعرفتك? قلت: الذي دلك على منزلي يصحح لك معرفتي. فقال لغلامه: امض إلى الخياط فسله عنه. فمضى فسأله عني فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج إلي كتابا من خفه، وقال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي، يأمرني ألا أفضه إلا عند لقائك، فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم، التي أنفذتها تكون له في منزله، وادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمل بها إلينا. فأخذت الثلاثة والعشرة، ودخلت إلى منزلي والرجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، وازددت فيه وفي الشراب، واشتريت فاكهة، واتسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله.
يذهب إلى يزيد وينشده قصيدة في مدحه وأخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرقة إلى باب يزيد، فدخل الرجل وإذا هو أحد حجابه، فوجده في الحمام، فخرج إلي فجلس معي قليلا، خبر الحاجب بأنه قد خرج من الحمام، فأدخلني إليه، وإذا هو على كرسي جالس، وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، ومشط يسرح لحيته، فقال لي: يا مسلم، ما الذي بطأ بك عنا? فقلت: أيها الأمير، قلة ذات اليد. قال: فأنشدني. فأنشدته قصيدتي التي مدحته فيها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل وشمرت همم العذال في عذلـي فلما صرت إلى قولي:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ولا يمسح عينيه من الكحل يقص عليه سبب دعوته له
صفحة : 2109
وضع المرآة في غلافها، وقال للجارية: انصرفي، فقد حرم علينا مسلم الطيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلم، أتدري ما الذي حداني إلى أن وجهت إليك? فقلت: لا والله ما أدري. قال: كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه، إذ قال لي: يا يزيد، من القائل فيك:
سل الخليفة سيفا من بني مطر يمضي فيخرتم الأجساد والهاما
كالدهر لا ينثني عما يهـم بـه قد أوسع الناس إنعاما وإرغاما فقلت: لا والله ما أدري. فقال الرشيد: يا سبحان الله أنت مقيم على أعرابيتك، يقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله فسألت عن قائله، فأخبرت أنك أنت هو، فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين.
يدخل على الرشيد ويمدحه فيأمر له بجائزة
ثم قام فدخل على الرشيد، فما علمت حتى خرج علي الإذن فأذن لي، فدخلت على الرشيد، فأنشدته ما لي فيه من الشعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم، فلما انصرف إلى يزيد أمر لي بمائة وتسعين ألفا، وقال: لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين. وأقطعني إقطاعات تبلغ غلتها مائتي ألف درهم.
يهجو يزيد فيدعوه الرشيد ويحذره
قال مسلم: ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني فهجوته، فشكاني إلى الرشيد، فدعاني وقال: أتبيعني عرض يزيد? فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لي: فكم? فقلت: برغيف خبز. فغضب حتى خفته على نفسي، وقال: قد كنت على أن أشتريه منك بمال جسيم، ولست أفعل ولا كرامة، فقد علمت إحسانه إليك، وأنا نفي من أبي، ووالله ثم والله لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من بين فكيك، فأمسكت عنه بعد ذلك، وما ذكرته بخير ولا شر.
البيدق يصله بيزيد بن مزيد
ويسمعه شعره فيأمر له بجائزة
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن معرويه، قال: حدثني محمد بن عبد الله اليعقوبي، قال: حدثني البيدق الراوية -وكان من أهل نصيبين- قال: دخلت دار يزيد بن مزيد يوما وفيها الخلق، وإذا فتى شاب جالس في أفناء الناس، ولم يكن يزيد عرفه بعد، وإذا هو مسلم بن الوليد، فقال لي: ما في نفسي أن أقول شعرا أبدا، فقلت: ولم? قال: لأني قد مدحت هذا الرجل بشعر ما مدح بمثله قط، ولست أجد من يوصله، فقلت له: أنشدني بعضه، فأنشدني منه:
موف على مهج فـي يوم ذي رهـج كأنـه أجـل يسـعـى إلـى أمـل
يقري السيوف نفوس الناكـثـين بـه ويجعل الروس تيجان القنا الـذبـل
لا يعبق الطيب خـديه ومـقـرفـه ولا يمسح عينـيه مـن الـكـحـل
إذا انتضى سيفه كانت مـسـالـكـه مسالك الموت في الأجسام والقـلـل
وإن خلت بحديث النفس فـكـرتـه عاش الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالمـوت راحـتـه لا يسـتـريح إلـى الأيام والـدول
لله من هاشم فـي أرضـه جـبـل وأنت وابنك ركنا ذلـك الـجـبـل
صدقت ظني وصدقت الظنـون بـه وحط جودك عقد الرحل عن جملـي قال: فأخذت منها بيتين، ثم قلت له: أنشدني أيضا ما لك فيه، فأنشدني قصدية أخرى ابتداؤها:
طيف الخيال حمدنا منك إلماما داويت سقما وقد هيجت أسقاما يقول فيها:
كالدهر لا ينثني عما يهـم بـه قد أوسع الناس إنعاما وإرغاما قال: فأنشدت هذه الأبيات يزيد بن مزيد، فأمر له بخمسمائة درهم. ثم ذكرته بالرقة فقلت له: هذا الشاعر الذي قد مدحك فأحسن، تقتصر به على خمسمائة درهم فبعث إليه بخمسمائة درهم أخرى، قال: فقال لي مسلم: جاءتني وقد رهنت طيلساني على رؤوس الإخوان ، فوقعت مني أحسن موقع.
يزيد يغسل عنه الطيب لئلا يكذب قوله أخبرني محمد بن عمران، قال: حدثنا العنزي، عن محمد بن بدر العجلي، عن إبراهيم بن سالم، عن أبي فرعون مولى يزيد بن مزيد قال: ركب يزيد يوما إلى الرشيد فتغلف بغالية ، ثم لم يلبث أن عاد فدعا بطست فغسل الغالية، وقال: كرهت أن أكذب قول مسلم بن الوليد:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ولا يمسح عينيه من الحكل يشير على يزيد بإحراق كتاب وصله أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة، قال:
صفحة : 2110
كان مسلم بن الوليد جالساص بين يدي يزيد بن مزيد فأتاه كتاب فيه مهم له، فقرأه سرا ووضعه، ثم أعاد قراءته ووضعه، ثم أراد القيام، فقال له مسلم بن الوليد:
الحزم تحريقه إن كنت ذا حـذر وإنما الحزم سوء الظن بالناس
لقد أتاك وقـد أدى أمـانـتـه فاجعل صيانته في بطن أرماس قال: فضحك يزيد وقال: صدقت لعمري. وخرق الكتاب، وأمر بإحراقه.
انقطع إلى محمد بعد موت أبيه ثم هجره حدثني عمي وجحظة، قالا: حدثنا علي بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: حدثني أبو محلم، وحدثني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة، قال: كان مسلم بن الوليد صديقا ليزيد بن مزيد ومداحا له، فلما مات انقطع إلى ابنه محمد بن يزيد، ومدحه كما مدح أباه، فلم يصنع إليه خيرا، ولم يرضه ما فعله به، فهجره وانقطع عنه، فكتب إليه يستحفيه ويومه على انقطاعه عنه، ويذكره حقوق أبيه عليه، فكتب إليه مسلم:
لبست عزاء عن لقاء محـمـد وأعرضت عنه منصفا وودودا
وقلت لنفس قادها الشوق نحوه فعوضها حب اللقاء صـدودا
هبيه امرأ قد كان أصفاك وده فمات وإلا فاحسـبـيه يزيدا
لعمري لقد ولى فلم الق بعـده وفاء لذي عهد يعد حـمـيدا مات يزيد ببرذعة فرثاه مسلم أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أحمد بن محمد بن أبي سعد، قال: أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية وهو يأكل، فلما رفع الطعام من بين يديه وطئها فلم ينزل عنها، إلا ميتا، وهو ببرذعة ، فدفن في مقابر برذعة، وكان مسلم معه في صحابته فقال يرثيه:
قبر ببرذعة استسر ضـريحـه خطرا تقاصر دونه الأخطـار
أبقى الزمان على ربعية بعـده حزنا كعمر الدهر ليس يعـار
سلكت بك العبر السبيل إلى العلا حتى إذا بلغوا المدى بك حاروا ويروى:
حتى إذا سبق الردى بك حاروا -هكذا أنشده الأخفش:
نفضت بك الأحلاس نفض إقامة واسترجعت روادها الأمصـار
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة أثنى عليها السهـل والأوعـار قصة راويته الذي أرسله إلى المهلبي
نسخت من كتاب جدي يحيى بن محمد بن ثوابة: حدثني الحسن بن سعيد، عن أبيه، قال: كان داود بن يزيد بن حاتم المهلبي يجلس للشعراء في السنة مجلسا واحدا فيقصدونه لذلك اليوم وينشدونه، فوجه إليه مسلم بن الوليد راويته بشعره الذي يقول فيه:
جعلته حيث ترتاب الرياح به وتحسد الطير فيه أضبع البيد فقدم عليه يوم جلوسه للشعراء، ولحقه بعقب خروجهم عنه، فتقدم إلى الحاجب وحسر لثامه عن وجهه ثم قال له: استأذن لي على الأمير. قال: ومن أنت? قال: شاعر. قال: قد انصرف وقتك، وانصرف الشعراء، وهو على القيام. فقال له: ويحك، قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله. قال: وكان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع، فقال: هات حتى أسمع، فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه. فأنشده بعض القصيدة، فسمع شيئا يقصر الوصف عنه، فدخل على داود فقال له: قد قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيه مثله، فقال: أدخل قائله. فأدخله، فلما مثل بين يديه سلم وقال: قدمت على الأمير -أعزه الله- بمدح يسمعه فيعلم به تقدمي على غيري ممن امتدحه. فقال: هات. فلما افتتح القصيدة وقال:
لا تدع بي الشوق إني غير معـمـود نهى النهى عن هوى البيض الرعاديد استوى جالسا وأطرق، حتى أتي الرجل على آخر الشعر، ثم رفع رأسه إليه ثم قال: أهذا شعرك? قال: نعم أعز الله الأمير، قال: في كم قلته يا فتى? قال: في أربعة أشهر، أبقاك الله، قال: لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسنا، وقد اتهمتك لجودة شعرك وخمول ذكرك، فإن كنت قائل هذا الشعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله، وأمرت بالإجراء عليك، فإن جئتنا بمثل هذا الشعر وهبت لك مائة ألف درهم وإلا حرمتك. فقال: أو الإقالة، أعز الله الأمير. قال: أقلتك، قال: الشعر لمسلم بن الوليد، وأنا راويته والوافد عليك بشعره. فقال: أنا ابن حاتم ، إنك لما افتتحت شعره فقلت:
لا تدع بي الشوق إني غير معمود
صفحة : 2111
سمعت كلام مسلم يناديني فأجبت نداءه واستويت جالسا. ثم قال: يا غلام، أعطه عشرة آلاف درهم، واحمل الساعة إلى مسلم مائة ألف درهم.
أنشد الفضل شعرا فولاه بريد جرجان
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني مسعود بن عيسى العبدي، قال: أخبرني موسى بن عبد الله التميمي، قال: دخل مسلم بن الوليد الأنصاري على الفضل بن سهل لينشده شعرا، فقال له: أيها الكهل، إني أجلك عن الشعر فسل حاجتك، قال: بل تستتم اليد عندي بأن تسمع، فأنشده:
دموعها من حذار البين تنسكب وقلبها مغرم من حرها يجب
جد الرحيل به عنها ففارقهـا لبينه اللهو واللذات والطـرب
يهوى المسير إلى مرو ويحزنه فراقها فهو ذو نفسين يرتقب فقال له الفضل: إن لأجلك عن الشعر، قال: فأغنني بما أحببت من عملك؛ فولاه البريد بجرجان.
قال بيتا من الشعر أخذ معناه من التوراة
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني الحسين بن أبي السري. وأخبرني بهذه الأخبار محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني إبراهيم بن محمد الوراق، عن الحسين بن أبي السري، قال: قيل لمسلم بن الوليد: أي شعرك أحب إليك? قال: إن في شعري لبيتا أخذت معناه من التوراة، وهو قولي:
دلت علي عيبها الدنيا وصـدقـهـا ما استرجع الدهر مما كان أعطاني قذف في البحر بدفتر فيه شعره فقل شعره
قال الحسين: وحدثني جماعة من أهل جرجان أن راوية مسلم جاء إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره، فتغافله مسلم، ثم أخذ منه الدفتر الذي في يده، فقذف به في البحر، فلهذا قل شعره، فليس في أيدي الناس منه إلا ما كان بالعراق، وما كان في أيدي الممدوحين من مدائحهم.
كان يكره لقب صريع الغواني
قال الحسين: وحدثني الحسين بن دعبل، قال: قال أبي لمسلم: ما معنى ذلك:
لا تدع بي الشوق إني غير معمود قال: لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك؛ وكان يلقب هذا اللقب وكان له كارها.
عتب عليه عيسى بن داود ثم رضي عنه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: عتب عيسى بن داود على مسلم بن الوليد فهجره، وكان غليه محسنا، فكتب إليه مسلم:
شكرتك للنعمى فلـمـا رمـيتـنـي بصدك تأديبا شكرتك في الـهـجـر
فعندي للتـأديب شـكـر ولـلـنـدى وإن شئت كان العفو أدعى إلى الشكر
إذا ما اتقاك المـسـتـلـيم بـعـذره فعفوك خير من ملام عـلـى عـذر قال: فرضي عنه وعاد له إلى حاله.
كان بخيلا أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: حدثني محمد بن الأشعث، قال: حدثني دعبل بن علي، قال: كان مسلم بن الوليد من أبخل الناس، فرأيته يوما وقد استقبل الرضا عن غلام له بعد موجدة، فقال له: قد رضيت عنك وأمرت لك بدرهم.
يذمه دعبل عند الفضل بن سهل فيهجوه أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: حدثني محمد بن عمرو بن سعيد قال: خرج دعبل إلى خراسان لما بلغه حظوة مسلم بن الوليد عند الفضل بن سهل. فصار إلى مرو، وكتب إلى الفصل بن سهل:
لا تعبأن بابن الوليد فإنـه يرميك بعد ثلاثة بمـدل
إن الملول وإن تقادم عهده كانت مودته كفيء ظلال قال: فدفع الفضل إلى مسلم الرقعة وقال له: انظر يا أبا الوليد إلى رقعة دعبل فيك، فلما قرأها قال له: هل عرفت لقب دعبل وهو غلام أمرد وهو يفسق به? قال: لا، قال: كان يلقب بمياس، ثم كتب له:
مياس قل لي: أين أنت من الورى لا أنت معلوم ولا مـجـهـول
أما الهجاء فدق عرضـك دونـه والمدح عنك كما علمت جلـيل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنـه عرض عززت به وأنت ذلـيل ما جرى بينه وبين دعبل بسبب جارية أخبرني محمد بن الحسين الكندي الكوفي مؤدبي، قال: حدثني أزهر بن محمد، قال: حدثني الحسين بن دعبل، قال سمعت أبي يقول: بينا أنا بباب الكرخ إذ مرت بي جارية لم ار أحسن منها وجها ولا قدا تتثنى في مشيها وتنظر في أعطافها، فقلت متعرضا لها:
صفحة : 2112
دموع عيني بها انبساط ونوم عيني به انقباض فأجابتني بسرعة فقالت:
فهل لمولاي عطف قلـب وللذي في الحشا انقراض فأجابتني غير متوقفة فقالت:
إن كنت تعوى الوداد منا فالود في ديننا قراض قال: فما دخل أذني كلام قط أحلى من كلامها، ولا رأيت أنضر وجها منها، فعدلت بها عن ذلك الشعر وقلت:
أترى الزمان يسرنا بتلاق ويضم مشتاقا إلى مشتاق فأجابتني بسرعة فقالت:
ما للزمان وللتحكم بيننـا أنت الزمان فسرنا بتلاق قال: فمضيت أمامها أؤم بها دار مسلم بن الوليد وهي تتبعني، فصرت إلى منزله، فصادفته على عسرة، فدفع إلي منديلا وقال: اذهب فبعه، وخذ لنا ما نحتاج إليه وعد؛ فمضيت مسرعا. فلما رجعت وجدت مسلما قد خلا بها في سرداب. فلما أحس بي وثب إلي وقال: عرفك الله يا أبا علي جميل ما فعلت. ولقاك ثوابه، وجعله أحسن حسنة لك، فغاظني قوله وطنزه ، وجعلت أفكر أي شيء أعمل به، فقال: بحياتي يا أبا علي أخبرني من الذي يقول:
بت في درعها وبات رفيقي جنب القلب طاهر الأطراف فقلت:
من له في حر أمه ألف قرن قد أنافت على علو منـاف وجعلت أشتمه وأثب عليه، فقال لي: يا أحمق، منزلي دخلت، ومنديلي بعت، ودراهمي أنفقت، على من تحرد أنت? واي شيء سبب حردك يا قواد? فقلت له: مهما كذبت علي فيه من شيء فما كذبت في الحمق والقيادة.
هجاؤه ثلاثة كانوا يصلونه
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهرويه والعنزي، عن محمد بن عبد الله العبدي، قال: هجا مسلم بن الوليد سعيد بن سلم ويزيد بن مزيد وخزيمة بن خازم فقال:
ديونك لا يقضى الزمان غريمها وبخلك بخل الباهلي سـعـيد
سعيد بن سلم أبخل الناس كلهـم وما قومه من بخله بـبـعـيد
يزيد له فضل ولـكـن مـزيدا تدارك فينا بـخـلـه بـيزيد
خزيمة لا عيب له غـير أنـه لمطبخه قفـل وبـاب حـديد هجاؤه سعيد بن سلم أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة، قال: حدثنا الأصمعي، قال: قال لي سعيد بن سل: قدمت علي امرأة من باهلة من اليمامة، فمدحتني بأبيات، ما تم سروري بها حتى نغصنيها مسلم بن الوليد بهجاء بلغني أنه هجاني به، فقلت: ما الأبيات التي مدحت به? فأنشدني:
قتيبة قيس ساد قيسا وسلـمـهـا فلما تولى ساد قيسا سعـيدهـا
وسيد قيس سيد الناس كـلـهـا وإن مات من رغم وذل حسودها
هم رفعوا كفيك بالمجد والعـلا ومن يرفع الأبناء إلا جدودهـا
إذا مد للعلـيا سـعـيد يمـينـه ثنت كفه عنها أكفـا تـريدهـا قال الأصمعي: فقلت له: فبأي شيء نغصها عليك مسلم? فضحك وقال: كلفتني شططا، ثم أنشد:
وأحببت من حبها الباخلـين حتى ومقت ابن سلم سعيدا
إذا سيل عرفا كسا وجهـه ثيابا من النقع صفرا وسودا
يغار على المال فعل الجوا د وتأبى خلائقه أن يجـودا يهجو بعض الكتاب لأنه لم يعجبه شعره أخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني، قال: حدثني النوشجاني الخليل بن أسد، قال: حدثني علي بن عمرو، قال: وقف بعض الكتاب على مسلم بن الوليد وهو ينشد شعرا له في محفل، فأطال ثم انصرف، وقال لرجل كان معه: ما أدري أي شيء أعجب الخليفة والخاصة من شعر هذا? فوالله ما سمعت منه طائلا، فقال مسلم: ردوا علي الرجل، فرد إليه، فأقبل عليه ثم قال:
أما الهجاء فدق عرضك دونـه والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه عرض عززت به وأنت ذليل كان أستاذا لدعبل ثم تخاصما ولم يلتقيا أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني إبراهيم بن محمد الوراق، قال: حدثني الحسين بن أبي السري، قال: كان مسلم بن الوليد أستاذ دعبل وعنه أخذ، ومن بحره استقى. وحدثني دعبل أنه كان لا يزال يقول الشعر فيعرضه على مسلم، فيقول له: إياك أن يكون أول ما يظهر لك ساقطا فتعرف به، ثم لو قلت كل شيء جيدا كان الأول أشهر عنك، وكنت أبدا لا تزال تعير به، حتى قلت:
صفحة : 2113
أين الشباب وأية سلكا فلما سمع هذه قال لي: أظهر الآن شعرك كيف شئت.
قال الحسن: وحدثني أبو تمام الطائي قال: ما زال دعبل متعصبا لمسلم، مائلا إليه، معترفا بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان، فجفاه مسلم، وهجره دعبل، فكتب إليه:
أبا مخلد كـنـا عـقـيدي مـودة هوانا وقلبانا جميعا معـا مـعـا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي وأجزع إشفاعا بأن تـتـوجـعـا
فصيرتني بعد انتكاثك متـهـمـا لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعـا
وأنزلت من بين الجوانح والحشـا ذخيرة ود طال ما قد تمـنـعـا
فلا تلحيني ليس لي فيك مطمـع تخرقت حتى لم أجد لك مرقعـا
فهبك يميني استأكلت فقطعتـهـا وجشمت قلبي صبره فتشجـعـا قال: ثم تهاجرا بعد ذلك، فما التقيا حتى ماتا.
محمد بن أبي أمية يمزح معه أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: أخبرني أحمد بن أبي أمية، قال: لقي أخي محمد بن أبي أمية مسلم بن الوليد وهو يتثنى ، ورواته مع بعض أصحابه ، فسلم عليه، ثم قال له: قد حضرني شيء. فقال: هاته، قال: على أنه مزاح ولا تغضب، قال: هاته ولو كان شتما، فأنشدته:
من رأى فيما خلا رجلا تيهه أربى على جدته
يتمشى راجلا وله شاكري في قلنسيته فسكت عنه مسلم ولم يجبه، وضحك ابن أبي أمية وافترقا لقي محمد بن أبي أمية بعد موت برذونه فرد عليه مزاحه قال: وكان لمحمد برذون يركبه فنفق، فلقيه مسلم وهو رجال، فقال: ما فعل برذونك? قال: نفق، قال: فنجازيك إذا على ما أسلفتناه، ثم أنشده:
قل لابن مي لا تكن جازعا لن يرجع البرذون باللـيث
طامن أحشاءك فـقـدانـه وكنت فيه عالي الصـوت
وكنت لا تنزل عن ظهـره ولو من الحش إلى البـيت
ما مات من سقم ولـكـنـه مات من الشوق إلى الموت أبو تمام يحفظ شعره وشعر أبي نواس
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن سعيد الحريري أن أبا تمام حلف ألا يصلي حتى يحفظ شعر مسلم وأبي نواس، فمكث شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما. قال: ودخلت عليه فرأيت شعرهما بين يديه، فقلت له: ما هذا? فقال: اللات والعزى وأنا أعبدهما من دون الله.
اجتمع مع أبي نواس فتناشدا شعرهما أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني سمعان بن عبد الصمد، قال: حدثني دعبل بن علي، قال: كان أبو نواس يسألني أن أجمع بينه وبين مسلم بن الوليد؛ وكان مسلم يسألني أن أجمع بينه وبين أبي نواس، وكان أبو نواس إذا حضر تخلف مسلم، وإذا حضر مسلم تخلف أبو نواس، إلى أن اجتمعا، فأنشده أبو نواس:
أجارة بيتـينـا أبـوك غـيرو وميسور ما يرجى لديك عسير وأنشده مسلم:
لله من هاشم في أرضه جبل وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل فقالت لأبي نواس: كيف رأيت مسلما? فقال: هو أشعر الناس بعدي. وسألت مسلما وقلت: كيف رأيت أبا نواس? فقال: هو أشعر الناس وأنا بعده.
أمر له ذو الرياستين بمال عظيم بعد أن أنشده شعرا شكا في حاله أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الخالق الأنصاري من ولد النعمان بن بشير، قا: حدثني مسلم بن الوليد، قال: وجه إلي ذو الرياستين، فحملت إليه، فقال: أنشدني قولك:
بالغمر من زينب أطلال مرت بها بعدك أحوال فأنشدته إياها حتى انتهيت إلى قولي:
وقائل ليست لـه هـمة كلا ولكن ليس لي مال
وهيمة المقتـر أمـنـية هم مع الدهر وأشغـال
لا جدة أنهض عزمي بها والناس سؤال وبـخـال
فاقعد مع الدهر إلى دولة ترفع فيها حالك الحـال قال: فلما أنشدته هذا البيت قال: هذه والله الدولة التي ترفع حالك . وأمر لي بمال عظيم وقلدني -أو قال قبلني- جوز جرجان .
هجا معن بن زائدة ويزيد بن مزيد فهدده الرشيد حدثني جحظة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال:
صفحة : 2114
كان مسلم بن الوليد قد انحرف عن معن بن زائدة بعد مدحه إياه، لشيء أوحشه منه، فسأله يزيد بن مزيد أن يهبه له، فوعده ولم يفعل، فتركه يزيد خوفا منه، فهجاه هجاء كثيرا، حتى حلف له الرشيد إن عاود هجاءه قطع لسانه، فمن ذلك قوله فيه:
يا معن إنك لم تزل في خزية حتى لففت أباك في الأكفان
فاشكر بلاء الموت عندك إنه أودى بلؤم الحي من شيبـان قال: وهجا أيضا يزيد بن مزيد بعد مدحه إياه فقال:
أيزيد يا مغرور ألأم من مشـى ترجو الفلاح وأنت نطفة مزيد
إن كنت تنكر منطقي فاصرخ به يوم العروبة عند باب المسجـد
في من يزيد فإن أصبت بمـزيد فلسا فهاك على مخاطـرة يدي هكذا روى جحظة في هذا الخبر، والشعران جميعا في يزيد بن مزيد، فالأول منهما أوله:
أيزيد إنك لم تزل في خزية وهكذا هو في شعر مسلم. ولم يلق مسلم معن بن زائدة، ولا له فيه مدح ولا هجاء.
رثاؤه يزيد بن مزيد
أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن جشم، قال: كان يزيد بن مزيد قد سأل مسلم بن الوليد عما يكفيه ويكفي عياله، فأخبره فجعله جراية له، ثم قال: ليس هذا مما تحاسب به بدلا من جائزة أو ثواب مديح. فكان يبعث به إليه في كل سنة، فلما مات رثاه مسلم فقال:
أحـقــا أنـــه أودى يزيد تبين أيها الناعي الـمـشـيد
أتدري من نعيت وكيف دارت به شفتاك دار بها الصـعـيد
أحامي المجد والإسـلام أودى فما للأرض ويحك لا تمـيد
تأمل هل ترى الإسلام مالـت دعائمه وهل شـاب الـولـيد
وهل شيمت سيوف بني نـزار وهل وضعت عن الخيل اللبود
وهل تسقي البلاد عشار مزن بدرتها وهل يخضـر عـود
أما هدت لمصـرعـه نـزار بلى وتقوض المجد المـشـيد
وحل ضريحـه إذ حـل فـيه طريف المجد والحسب التلـيد
أما والله ما تنـفـك عـينـي عليك بدمعهـا أبـدا تـجـود
وإن تجمد دمـوع لـئيم قـوم فليس لدمع ذي حسب جمـود
أبعد يزيد تختزن الـبـواكـي دموعا أو تصان لهـا خـدود
لتبكـك قـبة الإسـلام لـمـا وهت أطنابها ووهى العمـود
ويبكك شاعر لـم يبـق دهـر له نشبا وقد كسد الـقـصـيد
فإن يهلك يزيد فـكـل حـي فريس للـمـنـية أو طـريد هكذا في الخبر، والقصيدة للتيمي.
مدح الفضل بن سهل
أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الهشامي، قال: حدثني عبد الله بن عمرو، قال: حدثني موسى بن عبد الله التميمي، قال: دخل مسلم بن الوليد على الفضل بن سهل، فأنشده قوله فيه:
لو نطق الناس أو أنبوا بعلمهـم ونبهت عن معالي دهرك الكتب
لم يبلغوا منك أدنى ما تمت بـه إذا تفاخرت الأملاك وانتسبـوا فأمر له عن كبي بيت من هذه القصيدة بألف درهم.
رثاؤه الفضل بن سهل ثم قتل الفضل فقال يرثيه:
ذهلت فلم أنقع غلـيلا بـعـبـرة وأكبرت أن ألقى بيومك نـاعـيا
فلما بدا لـي أنـه لاعـج الأسـى وأن ليس إلا الدمع للحزن شافـيا
أقمت لك الأ،واح ترتـد بـينـهـا مآتم تندبن النـدى والـمـعـالـيا
وما كان منعى الفضل منعاة واحد ولكن منعى الفضل كان منـاعـيا
أللبأس أو للـجـود أم لـمـقـاوم من الملك يزحمن الجبال الرواسيا
عفت بعدك الأيام لا بل تـبـدلـت وكن كأعياد فـعـدن مـبـاكـيا
فلم أر إلا قبل يومك ضـاحـكـا ولم أر إلا بعـد يومـك بـاكـيا عابه ابن الأحنف في مجلس فهجاه
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محمد بن عجلان، قال: حدثان يعقوب بن السكيت، قال: أخبرني محمد بن المهنأ، قال:
صفحة : 2115
كان العباس بن الأحنف مع إخوان له على شراب، فذكروا مسلم بن الوليد، فقال بعضهم: صريع الغواني، فقال العباس: ذاك ينبغي أن يسمى صريع الغيلان لا صريع الغواني، وبلغ ذلك مسلما فقال يهجوه:
بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهـم فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا
فاذهب فأنت طليق الحلم مرتهن بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا
اذهب إلى عرب ترضى بنسبتهم إني أرى لك خلقا يشبه العربـا
منيت وقد جد الـجـراء بـنـا بغاية منعتك الفوت والطـلـبـا ينصرف عن هجاء خزيمة بن خازم ويتمسك بهجاء سعيد بن سلم أخبرني محمد بن يزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده، قال: قلت لمسلم بن الوليد: ويحك أما استحييت من الناس حين تهجو خزيمة بن خازم، ولا استحييت منا ونحن إخوانك، وقد علمت أنا نتولاه وهو من تعرف فضلا وجودا? فضحك، وقال لي: يا أبا إسحاق، لغيرك الجهل، أما تعلم أن الهجاء آخذ بضبع الشاعر وأجدى عليه من المديح المضرع? وما ظلمت مع ذلك منهم أحدا، ما مضى فلا سبيل إلى رده، ولكن قد وهبت لك عرض خزيمة بعد هذا. قال: ثم أنشدني قوله في سعيد بن سلم:
ديونك لا يقضى الزمان غريمها وبخلك بخل الباهلي سـعـيد
سعيد بن سلم أبخل الناس كلهـم وما قومه من بخله بـبـعـيد فقلت له: وسعيد بن سلم صديقي أيضا، فهبه لي، فقال: إن أقبلت على ما يعنيك، وإلا رجعت فيما وهبت لك من خزيمة، فأمسكت عنه راضيا بالكفاف.
مدح محمد بن يزيد بن مزيد ثم انصرف عنه أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن موسى بن عمر بن حمزة بن بزيع، قال: حدثني عبد الله بن الحسن اللهبي، قال: كان مسلم بن الوليد مداحا ليزيد بن مزيد، وكان يؤثره ويقدمه ويجزل صلته، فلما مات وفد على ابنه محمد، فمدحه وعزاه عن أبيه، وأقام ببابه فلم ير منه ما يحب، فانصرف عنه وقال فيه:
لبست عزاء عن لقاء محـمـد وأعرضت عنه منصفا وودودا
وقلت لنفس قادها الشوق نحوه فعوضها منه اللقاء صـدودا
هبيه امرأ قد كان أصفاك وده ومات وإلا فاحسـبـيه يزيدا
لعمري لقد ولى فلم ألق بعـده وفاء لذي عهد يعد حـمـيدا مدح الفضل بن يحيى فأجزل له العطاء ووهبه جارية أعجبته بعد أن قال فيها شعرا أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود، قال: دخل مسلم بن الوليد يوما على الفضل بن يحيى، وقد كان أتاه خبر مسيره، فجلس للشعراء فمدحوه وأثابهم، ونظر في حوائج الناس فقضاها وتفرق الناس عنه، وجلس للشرب، ومسلم غير حاضر لذلك، وإنما بلغه حين انقضى المجلس، فجاءه فأدخل إليه فاستأذن في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قوله فيه:
أتتك المطايا تهتـدي بـمـطـية عليها فتى كالنصل مؤنسه النصل يقول فيها:
وردت رواق الـفـضـل آمـــل فـــضـــلـــه فحـط الـثـنـاء الـجـزل نـائلـــه الـــجـــزل
فتـى تـرتــعـــي الآمـــال مـــزنة جـــوده إذا كـان مـرعـاهـا الأمـانـي والـــمـــطـــل
تساقط يمناه الندى وشماله الردى وعيون القول منطقه الفصل
ألح على الأيام يفري خطوبها علـى مـنـهـج ألـفـى أبــاه بـــه قـــبـــل
أنـاف بـه الـعـــلـــياء يحـــيى وخـــالـــد فلـيس لـه مـثـل ولا لــهـــمـــا مـــثـــل
فروع أصـابـت مـغـرسـا مـتــمـــكـــنـــا وأصـلا فـطـابـت حـيث وجـهـهـــا الأصـــل
بكـف أبـي الـعـبـاس يسـتـمـطـر الـغــنـــى وتسـتـنـزل الـنـعـمـى ويسـتـرعـف الـنـصـل قال: فطرب الفضل طربا شديدا، وأمر بأن تعد الأبيات، فعد فكانت ثمانين بيتا فأمر له بثمانين ألف درهم، وقال: لولا أنها أكثر ما وصل به الشعراء لزدتك، ولكن شأو لا يمكنني أن أتجاوزه- يعني أن الرشيد رسمه لمروان بن أبي حفصة- وأمره بالجلوس معه والمقام عنده لمنادمته، فأقام عنده، وشرب معه، وكان على رأس الفضل وصيفة تسقيه كأنها لؤلؤة، فلمح الفضل مسلما ينظر إليها، فقال: قد -وحياتي يا أبا الوليد- أعجبتك، فقل فيها أبياتا حتى أهبها لك، فقال:
صفحة : 2116
إن كنت تسقين غير الراح فاسقني كأسا ألذ بها من فيك تشـفـينـي
عيناك راحي، وريحاني حديثك لي ولون حديك لون الوريد يكفينـي
إذا نهاني عن شرب الطلا حـرج فخمر عينيك يغنيني ويجـزينـي
لولا علامات شيب لو أتت وعظت لقد صحوت ولكن سوف تأتينـي
أرضي الشباب فإن أهلك فعن قدر وإن بقيت فإن الشيب يشقـينـي فقال له: خذها بورك لك فهيا، وأمر بتوجيهها مع بعض خدمها إليه.
ماتت زوجته فجزع عليها وتنسك
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد ابن إبراهيم، قال: كانت لمسلم بن الوليد زوجة من أهله، كانت تكفيه أمره وتسره فيما تليه له منه، فماتت فجزع عليها جزعا شديدا، وتنسك مدة طويلة، وعزم على ملازمة ذلك، فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل، فأكلوا وقدموا الشراب، فامتنع منه مسلم وأباه، وأنشأ يقول:
بكاء وكأس، كـيف يتـفـقـان? سبيلاهما في القلب مختلـفـان
دعاني وإفراط البكاء فـإنـنـي أرى اليوم فيه غير مـا تـريان
غدت والثرى أولى بها من وليهـا إلى منزل نـاء لـعـينـك دان
فلا حزن حتى تذرف العين ماءها وتعترف الأحشاء للخـفـقـان
وكيف يدفع اليأس للوجد بعدهـا وسهماهما في القلب يعتلجـان هاجاه ابن قنبر فأمسك عنه بعد أن بسط لسانه فيه أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني علي بن الصباح، قال: حدثني مالك بن إبراهيم، قال: كان مسلم بن الوليد يهاجي الحكم بن قنبر المازني، فغلب عليه ابن قنبر مدة وأخرسه، ثم اثاب مسلم بعد أن انخزل وأفحم، فهتك ابن قنبر حتى كف عن مناقضته، فكان يهرب منه، فإذا لقيه مسلم قبض عليه وهجاه وأنشده ما قال فيه فيمسك عن إجابته؛ ثم جاءه ابن قنبر إلى منزله واعتذر إليه مما سلف، وتحمل عليه بأهله وسأله الإمساك فوعده بذلك، فقال فيه:
حلم ابن قنبر حين أقصر جهـلـه هل كان يحلم شاعر عن شاعر?
ما أنت بالحكم الـذي سـمـيتـه غالتك حلمك هفوة من قـاهـر
لولا اعتذارك لارتمى بك زاخـر مرح العباب يفوت طرف الناظر
لا ترتعن لحمي لسانك بـعـدهـا إني أخاف عليك شفـرة جـازر
واستغنم العفـو الـذي أوتـيتـه لا تأمنن عـقـوبة مـن قـادر مسلم وابن قنبر يتهاجيان في مسجد الرصافة أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبو بكر العبدي، قال: رأيت مسلم بن الوليد وابن قنبر في مسجد الرصافة في يوم جمعة، وكل واحد منهما بإزاء صاحبه، وكانا يتهاجيان، فبدأ مسلم فقال:
أنا النار في أحجارها مستـكـنة فغن كنت ممن يقدح النار فاقدح فأجابه ابن قنبر فقال:
قد كنت تهوي وما قوسي بموتـرة فكيف ظنك بي والقوس في الوتر قال: فوثب إليه مسلم وتواخزا وتواثبا، وحجز الناس بينهما فتفرقا.
لامه رجل من الأنصار على انخزاله أمام ابن قنبر فعاد إلى هجائه أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني علي بن عبيد الكوفي، قال: حدثني علي بن عمروس الأنصاري، قال: جاء رجل من الأنصار ثم من الخزرج إلى مسلم بن الوليد فقال له: ويلك ما لنا ولك، قد فضحتنا وأخزيتنا، تعرضت لابن قنبر فهاجيته، حتى إذا أمكنته من أعراضنا انخزلت عنه وأرعيته لحومنا، فلا أنت سكت ووسعك ما وسع غيرك، ولا أنت لما انتصرت أنصفت. فقال له مسلم: فما أصنع? فأنا أصبر عليه، فإن كف وإلا تحملت عليه بإخوانه، فإن كف وإلا وكلته إلى بغيه، ولنا شيخ يصوم الدهر ويقوم الليل، فإن أقام على ما هو عليه سألته أن يسهر له ليلة يدعو عليه فيها فإنها تهلكه، فقال له الأنصاري: سخنت عينك أو بهذا تنتصف ممن هجاك? ثم قال له:
قد لاذ من خوف ابن قنبر مسلم بدعاء والده مـع الأسـحـار
ورأيت شر وعيده أن يشتكـي ما قد عراه إلى أخ أو جـار
صفحة : 2117
ثكلتك أمك قد هتكت حريمنـا وفضحت أسرتنا بني النجار
عممت خزرجنا ومعشر أوسنا خزيا جنيت به على الأنصار
فعليك من مولى وناصر أسرة وعشيرة غضب الإله الباري قال: فكاد مسلم أن يموت غما وبكاء وقال له: أنت شر علي من ابن قنبر. ثم أثاب وحمي، فهتك ابن قنبر ومزقه حتى تركه، وتحمل عليه بابنه وأهله حتى أعفاه من المهاجاة.
رجع الحديث عما وقع بين وبين ابن قنبر ونسخت هذا الخبر من كتاب جدي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه، قال: حدثني الحسن بن سعيد، قال: حدثني منصور بن جمهور قال: لما هجا ابن قنبر مسلم بن الوليد أمسك بعد أن أشلى عليه لسانه قال: فجاءه عم له فقال له: يا هذا الرجل، إنك عند الناس فوق ابن قنبر في عمود الشعمر، وقد بعث عليك لسانه ثم أمسكت عنه، فإما أن قارعته أو سالمته. فقال له مسلم: إن لنا شيخا وله مسجد يتهجد فيه، وله بين ذلك دعوات يدعو بهن، ونحن نسأله أن يجعله من بعض دعواته، فإنا نكفاه، فأطرق الرجل ساعة ثم قال:
غلب ابن قنبر واللئيم مغلب لما اتقيت هجاءه بـدعـاء
ما زال يقذف بالهجاء ولذعه حتى اتقوه بدعوة الآبـاء قال: فقال له مسلم: والله ما كان ابن قنبر يبلغ مني هذا كله، فأمسك لسانك عني، وتعرف خبره بعد هذا. قال: فبعث -والله- عليه من لسان مسلم ما أسكته، هكذا جاء في الأخبار.
وقد حدثني بخبر مناقضته ابن قنبر جماعة ذكروا قصائدهما جميعا، فوجدت في الشعر الفضل لابن قنبر عليه، لأن له عدة قصائد لا نقائض لها، يذكر فيها تعريده عن الجواب، وقصائد يذكر فيها أن مسلما فخر على قريش وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ورماه بأشيء تبيح دمه، فكف مسلم عن مناقضته خوفا منها، وجحد أشياء كان قالها فيه.
فمن أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الوليد مولى الأنصار، وكان عالما بشعر مسلم بن الوليد وأخباره، قال: سبب المهاجاة بينه وبين ابن قنبر كان سبب المهاجاة بين مسلم بن الوليد والحكم بن قنبر أن الطرماح بن حكيم قد كان هجا بني تميم بقصيدته التي يقول فيها:
لا عز نصر امرئ أضحى له فرس على تميم يريد النصر مـن أحـد
إذا دعا بشعـار الأزد نـفـرهـم كما ينفر صوت الليث بالـنـقـد
لوحان ورد تميم ثـم قـيل لـهـم: حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
أو أنزل الله وحـيا أن يعـذبـهـا إن لم تعد لقتال الأزد، لـم تـعـد وهي قصيدة طويلة، وكان الفرزدق أجاب الطرماح عنها، ثم إن ابن قنبر المازني قال بعد خبر طويل يرد على الطرماح:
يا عاويا هاج ليثـا بـالـعـواء لـه شثن البراثن ورد الـلـون ذا لـبـد
أي الموارد هابـت جـم غـمـرتـه بنو تميم عـلـى حـال فـلـم تـرد
ألم ترد يوم قـنـدابـيل مـعـلـمة بالخيل تضبر نحـو الأزد كـالأسـد
بفتية لم تنازعهـا فـتـطـبـعـهـا بلؤمـهـا طـيء ثـديا ولـم تـلـد
خاضت إلى الأزد بحرا ذا غوارب من سمر طوال وبحرا من قنـا قـصـد
فأوردتهـا مـنـاياهـا بـمـرهـفة ملس المضارب لم تفلل ولـم تـكـد وهي قصيدة طويلة. وقد كان الطرماح قال أيضا:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلت
أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى عظام المخازي عن تميم تجلت وقد كان الفرزدق أيضا أجابه عنها، وقال ابن قنبر ينقضها:
لعمرك ما ضلت تميم ولا جرت على إثر أشياخ عن المجد ضلت
ولا جبنت بل أقدمت يوم كسرت لها الأزد أغماد السيوف وسلت
بغائط قندابيل والمـوت خـائض عليها بآجال لها قـد أظـلـت
فما رحت تسقى كؤوس حمامها إذا نهلت كروا عليها فعـلـت
إلى أنا أبدتهم تمـيم وأكـذبـت أماني للشيطان عنها اضمحلـت
وحان فراق منهـم كـل خـدلة مفارقة بعلا به قـد تـمـلـت
صفحة : 2118
وهي أيضا طويل قال: فبلغ مسلم بن الوليد هجاء ابن قنبر للأزد وطيء ورده على الطرماح بعد موته. فغضب من ذلك. وقال: ما المعنى في مناقضة رجل ميت وإثارة الشر بذكر القبائل، لا سيما وقد أجابه الفرزدق عن قوله? فأبى ابن قنبر إلا تماديا في مناقضته، فقال مسلم قصيدته التي أولها:
آيات أطـلال بـــرامة درس هجن الصبابة إذا ذكرت معرسي
أوحت إلى درر الدموع فأسبلـت واستفهمتها غير أن لم تنـبـس يقو فيها يصف الخمر:
صفراء من حلب الكروم كسوتها بيضاء من حلب الغيوم البجـس
طارت ولاوذها الحباب فحاكهـا فكأن حليتها جني الـنـرجـس ويقول فيها يصف السيوف:
وتـفـارق الأغـــمـــاد تـــبـــدو تـــارة حمـرا وتـخــفـــى تـــارة فـــي الأرؤس
حرب يكـون وقـــودهـــا أبـــنـــاءهـــا لقـحـت عـلـى عـقـر ولـمـا تـنـــفـــس
من هـارب ركـب الـنـجـاء ومــقـــعـــص جثـمـت مـنـيتـه عـلـى الـمـتـنـــفـــس
غصـبـتـه أطـراف الأســنة نـــفـــســـه فثـــوى فـــريسة ولـــغ أو نـــهــــس
إن كـنـت نـازلة الـيفـاع فــنـــكـــبـــي دار الـربـــاب وخـــزرجـــي أو أوســـي
وتـجـنـبـي الـجـعـراء إن ســـيوفـــهـــم حدث وإن قـنـاتـهـــم لـــم تـــضـــرس
عل طـيء الأجـبــال شـــاكـــرة امـــرئ ذاد الـقـوافـي عـن حـمـــاهـــا مـــدرس
أحمي أبا نفر عظام حفيرةدرست وباقي غرسها لم يدرس
كافأت نعمتها بضعف بلائها ثم انـفـردت بـمـنــصـــب لـــم يدنـــس
وإذا افـتـخـرت عـددت سـعـــي مـــآثـــر قصـرت عـلـى الإغـضـاء طـرف الأشـــوس
رفـعـت بـنـو الـنـجـار حـلـفـي فــيهـــم ثم انـفـردت فـأفـسـحـوا عـن مـجـلـســـي
فاعـقـل لـسـانـك عـن شـتـائم قـومـــنـــا لا يعـلـقـنـك خـــادر مـــن مـــأنـــس
أخـلـفـت فـخـرك مـن أبـيك وجـئتـــنـــي بأب جـديد بـعــد طـــول تـــلـــمـــس
أخـذت عـلـيه الـمـحـكـمـات طـريقــهـــا فغـدا يهـاجـي أعـظـمـا فـي مـــرمـــس قال: فلم يجبه ابن قنبر عن هذه بشيء، ثم التقيا فتعاتبا، واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال مسلم يهجوه:
حلم ابن قنبر حين قصر شعره هل كان يحلم شاعر عن شاعر يهجو قريشا ويفخر بالأنصار
وقد مضت هذه الأبيات متقدما. قال: ومكث ابن قنبر حينا لا يجيبه عن هذا ولا عن غيره بشيء طلبا للكفاف، ثم هجا مسلما قريشا وفخر بالأنصار فقال:
قل لـمـن تـاه إذ بـنـا عـــز جـــهـــلا ليس بـالـتـــيه يفـــخـــر الأحـــرار
فتـنـاهـوا وأقـصـروا فـلـــقـــد جـــا رت عـن الـقـصـد فـيكـم الأنـــصـــار
أيكـــم حـــاط ذا جـــوار بـــعــــز قبـل أن تـحـتـــويه مـــنـــا الـــدار
أو رجـا أن يفـوت قـــومـــا بـــوتـــر لم تـزل تـمـتـــطـــيهـــم الأوتـــار
لم يكن ذاك فيكم فدعوا الفخر بما لا يسوغ فيه افتخار
ونزارا ففاخروا تفضلوهم ودعـوا مــن لـــه عـــبـــيدا نـــزار
فبـنـا عـز مـنـــكـــم الـــذل والـــد هر عـــلـــيكـــم بـــريبة كــــرار
حاذروا دولة الــزمـــان عـــلـــيكـــم إنـــه بـــين أهـــلـــه أطـــــوار
فتـردوا ونــحـــن لـــلـــحـــالة الأو لى ولــلأوحـــد الأذل الـــصـــغـــار
فاخرتنا لما بسطنا لها الفخر قريش وفخرها مستعار
ذكرت عزها وما كان فيها قبـل أن يسـتـجـيرنـا مـســتـــجـــار
إنـمـا كـان عـزهــا فـــي جـــبـــال ترتـقـيهـا كـمـا تـرقـــى الـــوبـــار
أيها الفاخرون بالعز، والعز لقوم سواهم والفـخـار
أخبرونا من الأعز أألمن صور حـتـى اعـتـلـى أم الأنـــصـــار?
فلـنـا الـعـز قــبـــل عـــز قـــريش وقـريش تـلـك الــدهـــور تـــجـــار ابن قنبر يجيبه قال: فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال:
ألا أمثل أمير المؤمنين بمسـلـم وأفلق به الأحشاء من كل مجرم
ولا ترجعن عن قتله باستـتـابة فما هو عن شتم النبي بمحـرم
ولا عن مساواة له ولـقـومـه قريش بأصداء لعاد وجـرهـم
ويفخر بالأنصار جهلا على الذي بنصرته فازوا بحظ ومـغـنـم
وسموا به الأنصار لا عز قـائل أراد قريشا بالمقال الـمـذمـم
صفحة : 2119
ومنهم رسول الله أزكى من انتمـى إلى نسـب زاك ومـجـد مـقـدم
وما كانت الأنصار قبل اعتصامـهـا بنصر قريش في المحل المعـظـم
ولا بالألى يعلون أقـدار قـومـهـم صداء وخولان ولخـم وسـلـهـم
ولكنهم باللـه عـاذوا ونـصـرهـم قريشا ومن يستعصم اللـه يعـصـم
فعزوا وقد كانوا وفطـيون فـيهـم من الذل في باب من العز مبـهـم
يسومهم الفطـيون مـا لا يسـامـه كريم ومن لا ينكر الظلـم يظـلـم
وإن قريشا بالـمـآثـر فـضـلـت على الخلق طرا من فصيح وأعجم
فما بال هذا العلج ضـل ضـلالـه يمد إليهـم كـف أجـذم أعـسـم
يسامي قريشا مـسـلـم وهـم هـم بمولى بـمـانـي وبـيت مـهـدم
إذا قام فيه غيرهـم لـم يكـن لـه مقام بن من لؤم مبـنـى ومـدعـم
جعاسيس أشبه القـرود لـو أنـهـم يباعون ما ابتيعوا جميعـا بـدرهـم
وما مسلـم مـن هـؤلاء ولا ألـى ولكنه من نسل عـلـج مـلـكـم
تولى زماناص غيرهم ثمت ادعـى إليهم فـلـم يكـرم ولـم يتـكـرم
فإن يك منهم بالنـضـير ولـفـهـم مواليه لا من يدعي بـالـتـزعـم
وإنه تدعه الأنصار مولى أسمـهـم بقافية تستكـره الـجـلـد بـالـدم
عقابا لهم في إفكـهـم وادعـائهـم لأقلف منقـوش الـذراع مـوشـم
فلا تدعوه وانتفوا منه تـسـلـمـوا بنفيكمـوه مـن مـقـام ومـأثـم
وإلا فغضوا الطرف وانتظروا الردى إذا اختلفت فيكم صوادر أسهـمـي
ولم تجدوا منها مجنـا بـجـنـكـم إذا ذلعت من كل فـج ومـعـلـم
وأنتم بنـو أذنـاب مـن أنـتـم لـه ولستم بأبناء الـسـنـام الـمـقـدم
ولا ببني الرأس الرفـيع مـحـلـه فيسمو بكم مولى مسام وينـتـمـي
فكيف رضيتم أن يسامـى نـبـيكـم بيتكم الرث القـصـير الـمـهـدم
سأحطم من سامى النبـي تـطـاولا عليه وأكوي منتـمـاه بـمـيسـم
أيعـدل بـيت يثـربـي بـكـعـبة ثوتها قريش في المكان المـحـرم
قريش خيار الله واللـه خـصـهـم بذلك فاقعس أيها العـلـج وارغـم
ومن يدعي منـه الـولاء مـؤخـرا إذا قيل للجاري إلى المجـد أقـوم قال: وكان مسلم قال هذه القصيدة في قريش وكتمها، فوقعت إلى ابن قنبر، وأجابه عنها، واستعلى عليه وهتكه، وأغرى به السلطان، فلم يكن عند مسلم في هذا جواب من الانتفاء منها، ونسبتها إلى ابن قنبر، والادعاء عليه أنه ألصقها به ونسبها إليه، ليعرضه للسلطان، وخافه فقال ينتفي من هذه القصيدة ويهجو تميما: قصيدته في هجاء تميم
دعـوت أمـير الـمـؤمـنـين ولـم تـــكـــن هنـاك، ولـكـن مـن يخـف يتــجـــســـم
وإنـك إذ تـدعـو الـخـلـــيفة نـــاصـــرا لكـالـمـتـرقـي فـي الـسـمـاء بـسـلـــم
كذاك الـصـدى تـدعـو مـن حــيث لا تـــرى وإن تـتـوهـمـه تـمـت فـي الـتـــوهـــم
هجـوب قـريشـا عـامـدا ونـحـلـتـــنـــي رويدك يظـهـر مـا تـقـول فـــيعـــلـــم
إذا كـان مـثـلـي فـي قـبـيلـتـي فــإنـــه علـى ابـنـي لـؤي قـصـرة غـير مـتـهـــم
سيكـشـفـك الـتـعـديل عـمـا قـرفـتـنـــي به فـتـأخــر عـــارفـــا أو تـــقـــدم
فإن قـــريشـــا لا تـــغـــير ودهــــا ولا يسـتـمـال عـهـدهـا بـالــتـــزعـــم
مضى سـلـف مـنـهـم وصـلـى بـعـقـبـهـم لنـا سـلـف فـي الأول الــمـــتـــقـــدم
جروا فـجـرينـا سـابـقـين بـسـبـقــهـــم كمـا اتـبـعـت كـف نـواشـر مـعــصـــم
وإن الـذي يسـعـى لـيقـطـع بـــينـــنـــا كمـلـتـمـس الـيربـوع فـي جـحـر أرقـــم
أضـلـك قـدع الآبـــدات طـــريقـــهـــا فأصـبـحـت مـن عـمـيائهـا فـي تــهـــيم
وخانتك عند الجري لما اتبعتهاتميم فحاولت العلا بالتقحم
فأصبحت ترميني بسهمي وتتقى يدي بـيدي، أصـلـيت نـــارك فـــاضـــرم ابن قنبر يهجوه
صفحة : 2120
قال: ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أولها:
قل لعبد النضير مسلم الوغد الدني اللئيم شيخ النصـاب
اخس يا كلب إذ نبحث فإني لسـت مـمـت يجـيب نـبــح الـــكـــلاب
أفـأرضـى ومـنـصـبـي مـنـصـب الـعـــز وبـــيتـــي فـــي ذروة الأحـــســـاب
أن أحـط الـرفـيع مـن سـمــك بـــيتـــي بمـــهـــاجـــاة أوشـــب الأوشــــاب
من إذا سيل: من أبوه? بدامنه حياء يحميه رجع الجواب
وإذا قيل حين يقبل: من أنت ومن تعتزيه في الأنساب قلت: هاجي ابن قنبر، فتسربلت بذكري فخرا لدى النساب ابن قنبر يتابع هجاءه وهي قصيدة طويلة، فلم يجبه مسلم عنها بشيء، فقال فيه ابن قنبر أيضا:
لست أنفيك إن سواي نفاكـا عن أبيك الذي له منتماكـا
ولما أنفـيك يا بـن ولـيد من أب إن ذكرته أخزاكـا
ولو أني طلبت ألأم مـنـه لم أجده إن لم تكن أنت ذاكا
لو سواه أباك كان جعلـنـا ه إن الناس طاوعونا أباكـا
حاك دهرا بغير حذق لبرد وتحوك الأشعار أنت كذاكا وهي طويلة، فلم يجبه مسلم عنها بشيء، فقال ابن قنبر أيضا يهجوه:
فخر العبد عبـد قـن الـيهـود بضعيف من فـخـره مـردود
فاخر الغر من قريش بـإخـوا ن خنازير من يثرب والقـرود
يتولى بني الـنـضـير ويدعـو بهم الفخر من مكـان بـعـيد
وبني الأوس والخزرج أل الـذ ل في سالف الزمان الـتـلـيد
إذ رضوا بافتضاض فطيون منهم كل بكـر ريا الـروادف رود
وبنو عمها شـهـود لـمـا يف عل فطيون قبحوا من شـهـود
خلف باب الفطيون والبغل منهم لا بـذي غـيره ولا بـنـجـيد
فإذا ما قضى اليهودي مـنـهـا نحبه قنعـوا بـخـزي جـديد قال: فلما أفحش في هذه القصيدة وفي عدة قصائد قالها، ومسلم لا يجيبيه، مشى إليه قوم من مشيخة الأنصار، واستعانوا بمشيخة من قراء تميم وذوي العلم والفضل منهم، فمشوا معهم إليه وقالوا له: ألا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك? أنت بدأت الرجل فأجابك، ثم عدت فكف، وتجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض الأنصار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحميها ويذب عنها ويصونها، لغير حال أحلت لك ذلك منهم، فما زالوا يعظونه ويقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم، فانقطعت.
صوت
ثلاثة تشرق الدنيا ببـهـجـتـهـم شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
يحكي أفاعيلـه فـي كـل نـائبة الغيث والليث والصمصامة الذكر الشعر لمحمد بن وهيب، والغناء لعلويه ثقيل أولى بالوسطى، وفيه لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول آخر عن الهشامي.
أخبار محمد بن وهيب
شعراء الدولة العباسية
محمد بن وهيب الحميري صليبة شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية، وأصله من البصرة ، وله أشعار كثيرة يذكرها فيها ويتشوقها، ويصف إبطانه إياها ومنشأه بها.
مدح الحسن بن رجاء ثم المأمون
وكان يستمنح الناس بشعره، ويتكسب بالمديح، ثم توسل إلى الحسن بن سهل بالحسن بن رجاء بن أبي الضحاك ومدحه، فأوصله إليه وسمع شعره فأعجب به واقتطعه إليه، وأوصله إلى المأمون حتى مدحه وشفع له فأسنى جائزته، ثم لم يزل منقطعا إليه حتى مات. وكان يتشيع، وله مراث في أهل البيت.
منزلته
هو متوسط من شعراء طبقته، وفي شعره أشياء نادرة فاضلة، وأشياء متكلفة .
المعتصم يسمع مديحه ويجيزه دون غيره أخبرنا محمد خلف وكيع، قال: زعم أبو محلم، وأخبرني عمي، عن علي بن الحسين بن عبد الأعلى، عن أبي محلم، قال: اجتمع الشعراء على باب المعتصم فبعث إليهم محمد بن عبد الملك الزيات أن أمير المؤمنين يقول لكم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد:
خليفة الـلـه إن الـجـود أودية أحلك الله منها حيث تجتـمـع
من لم يكن بأمين الله معتصمـا فليس بالصلوات الخمس ينتفـع
إن أخلف القطر لم تخلف مخايله أو ضاق أمر ذكرناه فيتـسـع
صفحة : 2121
فليدخل وإلا فلينصرف، فقام محمد بن وهيب فقال: فينا من يقول مثله، قال: وأي شيء قلت? فقال:
ثلاثة تشرق الدنيا ببـهـجـتـهـم شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
تحي أفاعـيلـه فـي كـل نـائبة الغيث والليث والصمصامة الذكر فأمر بإدخاله وأحسن جائزته.
رجع الحديث عن صلته بالحسن بن رجاء
أخبرني عمي، قال: حدثان عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد بن مروان بن موسى قال: حدثني محمد بن وهيب الشاعر قال: لما تولى الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الجبل قلت فيه شعرا وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي وأبا سعد المخزومي، وأبا تمام الطائي، فاستحسنوا الشعر وقالوا: هذا لعمري من الأشعار التي تلقى بها الملوك، فخرجت إلى الجبل فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي:
أجارتنا إن التعـفـف بـالـياس وصبرا على استدرار دنيا بإبساس
حريان ألا يقـذفـا بـمـــذلة كريما وأل يحوجاه إلى الـنـاس
أجارتنـا إن الـقـداح كـواذب وأكثر أسباب النجاح مع الـياس فأمر حاجبه بإضافتي فأقمت بحضرته كلما دخلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى انصرم الصيف فقال لي: يا محمد إن الشتاء عندنا علج فأعد يوما للوداع. فقلت: خدمة الأمير أحب غلي، فلما كاد الشتاء أن يشتد قال لي: هذا أوان الوداع، فأنشدني الثلاثة الأبيات فقد فهمت الشعر كله، فلما أنشدته:
أجارتنا إن الـقـداح كـواذب وأكثر أسباب النجاح مع الياس قال: صدقت، ثم قال: عدوا أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتا، فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم، وكان فيما أنشدته في مقامي واستحسنه قولي: صوت
دماء المحبين لا تـعـقـل أما في الهوى حكم يعدل
تعبدني حور الـغـانـيات ودان الشباب له الأخطـل
ونظرة عين تعلـلـتـهـا غرارا كما ينظر الأحول
مقسمة بين وجه الحبـيب وطرف الرقيب متى يغفل في هذه الأبيات هزج طنبوري سمعته من جحظة فذكر أنه يراه للمسدود ولم يحقق صانعه.
قال الأصبهاني: وهذه الأبيات له في المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي.
قال محمد بن وهيب: وأهدي إلى الحسن بن رجاء غلام فأعجب به فكتب إليه:
ليهنك الزائر الـجـديد جرى به الطائر السعيد
جاء مشوق إلى مشوق فذا ودود وذا ودود
يوم نعـيم ويوم لـهـو خصصت فيه بما تريد
إلف مشوق أتاه ألـف فسمتفاد ومسـتـفـيد حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار بهذا الحديث، عن يعقوب بن إسرائيلي قرقارة، عن محمد بن مروان بن موسى، عن محمد بن وهيب، فذكر مثل الذي قبله وزاد فيه، فلم يزل يستعيدني:
أجارتنا إن الـقـداح كـواذب وأكثر أسباب النجاح مع الياس وأنا أعيده عليه، فانصرفت من عنده بأكثر مما كنت أؤمل.
دخل على أبي دلف فأعظمه لإعجابه بشعره حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني خالي، قال: كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى، فدخل عليه محمد بن وعيب الشاعر فأعظمه جدا، فلما انصرف قال له أخوه معقل: يا أخي، قد فعلت بهذا ما لم يستحقه، ما هو في بيت من الشرف، ولا في كمال من الأدب، ولا بموضع من السلطان، فقال: بلى يا أخي، إنه لحقيق بذلك، أو لا يستحقه وهو القائل: صوت
يدل على أنني عـاشـق من الدمع مستشهد ناطق
ولي مالك أنا عـبـد لـه مقر بأنـي لـه وامـق
إذا ما سموت إلى وصله تعرض لي دونه عـائق
وحاربني فيه ريب الزمان كأن الزمان له عاشـق في هذه الأبيات رمل طنبوري أظنه لجحظة.
هنأ المطلب بعد عودته من الحج فوصله
بصلة كبيرة
حدثني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، قال:
صفحة : 2122
لما قدم المطلب بن عبد الله بن مالك من الحج لقيه محمد بن وهيب مستقبلا مع من تلقاه، ودخل إليه مهنئا بالسلامة بعد استقراره، وعاد إليه في الثالثة فأنشده قصيدة طويلة مدحه بها، يقول فيها:
وما زلت أسترعي لك الله غـائبـا وأظهر إشفاقا عـلـيك وأكـتـم
وأعلم أن الجود ما غبـت غـائب وأن الندى في حيث كنت مخـيم
إلى أن زجرت الطير سعدا سوانحا وحم لقاء بالـسـعـود ومـقـدم
وظل يناجيني بمدحـك خـاطـر وليلي ممدود الـرواقـين أدهـم
وقال: طواه الحج فاخشع لفـقـده ولا عيش حتى يستهل المـحـرم
سيفخر ما ضم الحطـيم وزمـزم بمطـلـب لـو أنـه يتـكـلـم
وما خلقت إلا من الجـود كـفـه على أنها والبأس خـدنـان تـوأم
أعدت إلى أكناف محكم بـهـجة خزاعية كانت تجـل وتـعـظـم
ليالي سمار الحجوان إلى الصفـا خزاعة إذ خلت لها البيت جرهـم
ولو نطقت بطحاؤها وحجونـهـا وخيف مني والمأزمان وزمـزم
إذا لدعت أجزاء جسمك كـلـهـا تنافس في أقسامه لـو تـحـكـم
ولو رد مخلوق إلى بدء خـلـقـه إذا كنت جسما بينهـن تـقـسـم
سما بك منها كل خـيف أبـطـح نما بك منه الجوهر المـتـقـدم
وحن إليك الركن حـتـى كـأنـه وقد جئته خل علـيك مـسـلـم قال: فوصله صلة سنية وأهدى إليه هدية حسنة من طرف ما قدم به وحمله، والله أعلم.
مدح الحسن بن سهل فأطربه
ولم يقصد غيره إلى أن مات
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني الحسن بن الحسن بن رجاء، عن أبيه وأهله، قالوا: كان محمد بن وهيب الحميري لما قدم المأمون من خراسان مضاعا مطرحا، إنما يتصدى للعامة وأوساط الكتاب والقواد بالمديح ويسترفدهم فيحظى باليسير، فلما هدأت الأمور واستقرت واستوسقت جلس أبو محمد الحسن بن سهل يوما منفردا بأهله وخاصته وذوي مودته ومن يقرب من أنسه، فتوسل إليه محمد بن وهيب بأبي حتى أوصله مع الشعراء، فلما انتهى إليه القول استأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده قصيدته التي أولها:
ودائع أسرار طوتها الـسـرائر وباحت بمكتوماتهن النـواظـر
ملكت بها طي الضمير وتحتـه شبا لوعة عضب الغرارين باتر
فأعجم عنها ناطق وهو معـرب وأعربت العجم الجفون العواطر
ألم تغذني السراء في ريق الهوى غريرا بما تجني علي الـدوائر
تسالمني الأيام في عنـفـوانـه ويكلؤني طرف من الدهر ناظر حتى انتهى إلى قوله:
إلى الحسن الباني العلا يممـت بـنـا عوالي المنى حيث الحيا المتظاهـر
إلى الأمل المبسـوط والأجـل الـذي بأعدائه تكبوا الجـدود الـعـواثـر
ومن أنبعت عين المـكـارم كـفـه يقوم مقام القطـر والـروض داثـر
تعصب تاج الملك في عـنـفـوانـه وأطت بع عصر الشباب المنـابـر
تعظمـه الأوهـام قـبـل عـيانـه ويصدر عنه الطرف والطرف حاسر
به تجتدى النعمى وتستدرك المـنـى وتستكمل الحسنى وترعى الأواصـر
أصات بنا داعـي نـوالـك مـؤذنـا فجـوادك إلا أنــه لا يحـــاور
قسمت صروف الدهر بأسـا ونـائلا فمالك مـوتـور وسـيفـك واتـر
ولما رأى الله الخـلافة قـد وهـت دعائمها والـلـه بـالأمـر خـابـر
بنى بك أركانـا عـلـيك مـحـيطة فأنت لها دون الـحـوادث سـاتـر
وأرعـن فـيه لـلـسـوابـغ جـنة وسقف سماء أنشأتـه الـحـوافـر يعني أن على الدروع من الغبار ما قد غشيها فصار كالجنة لها.
لها فلـك فـيه الأسـنة أنـجـم ونقع المنايا مسـتـطـير وثـائر
أجزت قضاء الموت في مهج العدا ضحى فاستباحتها المنايا الغـوادر
لك اللحظات الكالئات قـواصـدا بنعمى وبالبأساء وهـي شـوازر
ولم لم تكن إلا بنفسـك فـاخـرا لما انتسبت إلا إليك المـفـاخـر
صفحة : 2123
قال: فطرب أبو محمد حتى نزل عن سريره إلى الأرض وقال: أحسنت والله وأجملت، ولو لم تقل قط ولا تقول في باقي دهرك غير هذا لما احتجت إلى القول، وأمر له بخمسة آلاف دينار فأحضر واقتطعه إلى نفسه، فلم يزل في جنبته أيام ولايته وبعد ذلك إلى أن مات ما تصدى لغيره.
تردد على علي بن هشام فهجاه
هجاء موجعا
حدثني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: كان محمد بن وهيب الحميري الشاعر قد مدح علي بن هشام وتردد غليه وإلى بابه دفعات، فحجبه ولقيه يوما، فعرض له في طريقه وسلم عليه، فلم يرفع إليه طرفه، وكان فيه تيه شديد، فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها، فلما وصلت إليه خرقها وقال: أي شيء يريد هذا الثقيل السيئ الأدب? فقيل له ذلك فانصرف مغضبا وقال: والله ما أردت ماله وإنما أردت التوسل بجاهه سيغني الله عز وجل عنه، أما والله ليذمن مغبة فعله. وقال يهجوه:
أزرت بجود عـلـي خـيفة الـعـدم فصد منهزما عن شأو ذي الـهـمـم
لو كان من فارس في بيت مـكـرمة أو كان من ولد الأملاك في العـجـم
أو كان أوله أهل الـبـطـاح أو الـر كب الملبون إهـلالا إلـى الـحـرم
أيام تـتـخـذ الأصـنــام آلـــهة فلا ترى عاكفا إلا عـلـى صـنـم
لشجعته على فعل الـمـلـوك لـهـم طبائع لم ترعـهـا خـيفة الـعـدم
لو تند كفاك من بذل الـنـوال كـمـا لم يند سـيفـك مـذ قـلـدتـه بـدم
كنت امرأ رفعـتـه فـتـنة فـعـلا أيامها غادرا بـالـعـهـد والـذمـم
حتى إذا انكشفت عنـا عـمـايتـهـا ورتب الناس بالأحـسـاب والـقـدم
مات التخلق وارتدتـك مـرتـجـعـا طبـيعة نـذلة الأخـلاق والـشـيم
كذاك من كـان لا رأسـا ولا ذنـبـا كز اليدين حديث العهـد بـالـنـعـم
هيهات ليس بـحـمـال الـديات ولا معطي الجزيل ولا المرهوب ذي النقم قال: فحدثني بني هاشم أن هذه الأبيات لما بلغت علي بن هشام ندم على ما كان منه، وجزع لها وقال: لعن الله اللجاج فإنه شر خلق تخلقه الناس، ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال: الله يعلم أني لا أدخل على الخليفة وعلي السيف إلا وأنا مستح منه، أذكر قول ابن وهيب في:
لم تند كفاك من بذل النوال كما لم يند سيفك مذ قلدتـه بـدم حدثني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: من سمع ابن الأعرابي، يقول: أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهيب:
لم تند كفاك من بذل النوال كما لم يند سيفك مذ قلدتـه بـدم تعرض لأعرابية فأجابته جوابا مسكتا
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن مرزوق البصري، قال: حدثني محمد بن وهيب قال: جلست بالبصرة إلى عطار فإذا أعرابية سوداء قد جاءت فاشترت من العطار خلوقا فقلت له: تجدها اشترت لابنتها وما ابنتها إلا خنفساء، فالتفتت إلي متضاحكة، ثم قالت: لا والله، لكن مهاة جيداء ، إن قامت فقناة، وإن قعدت فحصاة، وإن مشت فقطاه، أسفلها كثيب، وأعلاها قضيب، لا كفتياتكم اللواتي تسمونهن بالفتوت ، ثم انصرفت وهي تقول:
إن الفتوت للفتاة مضـرطـه يكربها في البطن حتى تثلطه فلا أعلمني ذكرتها إلا أضحكني ذكرها.
تردد على مجلس يزيد بن هارون ثم تركه حدثني عيسى بن الحسين الوراق، قال: حدثنا أبو هفان، قال: كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس يزيد بن هارون، فلزمه عدة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، لا يذكر شيئا من فضائل علي عليه السلام، فقال فيه ابن وهيب:
آتي يزيد بن هـارون أدالـجـه في كل يوم ومالي وابن هارون
فليت لي بيزيد حـين أشـهـده راحا وقصفا وندمانا يسلـينـي
أغدو إلى عصبة صمت مسامعهم عن الهدى بين زنديق ومأفـون
لا يذكرون عليا في مشاهـدهـم ولا بنيه بني البيض المـيامـين
الله يعـلـم أنـي لا أحـبـهـم كما هم بيقـين لا يحـبـونـي
ويستطيعون عن ذكرى أبا حسن وفضله قطعوني بالسكـاكـين
صفحة : 2124
ولست أترك تفضيلـي لـه أبـدا حتى الممات على رغم الملاعين مذهبه من شعره
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني إسحاق بن محمد الكوفي، قال: حدثني محمد بن القاسم بن يوسف. وأخبرني به الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن القاسم، قال: حدثني إسحاق، عن محمد بن القاسم بن يوسف قال: كان محمد بن وهيب يأتي أبي فقال له أبي يوما: إنك تأتينا وقد عرفت مذاهبنا فنحب أن تعرفنا مذهبك فنوافقك أو نخالفك، فقال له: في غد أبين لك أمري ومذهبي، فلما كان من غد كتب إليه:
أيها السائل قد بينت إن كنت ذكيا
أحمد الله كثيرا بأياديه عــــلـــــــيا
شاهـــدا أن لا إلــــــه غيره مـا دمـــت حـــيا
وعـلـى أحـمـد بـالـصــد ق رســـولا ونـــبـــيا
ومـنـحـت الـود قـربـــا ه ووالــيت الـــوصـــيا
وأتـانـي خـبـر مـطــرح لم يك شـــــــــــيا
أن عـلـى غـير اجـتـمـاع عقــدوا الأمـــر بـــديا
فوقـفـت الـقـوم تـيمـــا وعــــديا وأمـــــــيا
غير شـتـام ولـكـــنـــي تولـــيت عـــلـــــيا اعتزازه بشعره
حدثني جحظة، قال: حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: بلغ محمد بن وهيب أن دعبل بن علي قال: أنا ابن قولي :
لا تعجبي يا سلم من رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى وأن أبا تمام قال: أنا ابن قولي :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للـحـبـيب الأول فقال محمد بن وهيب: وأنا بن قولي :
ما لمن تمت محـاسـنـه أن يعادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حـسـنـا ولنا أن نعمل الـحـدقـا قال أبو الفرج الأصبهاني : وهذا من جيد شعره ونادره، وأول هذه الأبيات قوله:
نم فقد وكلت بـي الأرقـا لاهيا تغري بمن عشـقـا
إنما أبقيت مـن جـسـدي شبحا غير الذي خـلـقـا
كنت كالنقصان في قمـر ماحقا منه الذي اتسـقـا
وفتى ناداك مـن كـثـب أسعرت أحشاؤه حـرقـا
غرقت في الدمع مقلـتـه فدعا إنسانها الـغـرقـا
نما عـاقـبـت نـاظـره أن أعاد اللحظ مستـرقـا
ما لمن تمت محـاسـنـه أن يعادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حـسـنـا ولنا أن نعمل الـحـدقـا
قدحت كفاك زنـد هـوى في سواد القلب فاحترقـا وصف غلمان أحمد بن هشام فوهبه غلاما فمدحه حدثني عمي، قال: حدثني أبو عبد الله الهشامي، عن أبيه، قال:
دخل محمد بن وهيب على أحمد بن هشام يوما وقد مدحه، فرأى بين يديه غلمانا روقة مردا وخدما بيضا فرها في نهاية الحسن والكمال والنظافة، فدهش لما رأى وبقي متبلدا لا ينطق حرفا، فضحك أحمد منه وقال له: ما لك? ويحك تكلم بما تريد، فقال:
قد كانت الأصنام وهي قديمة كســـــــــــــــرت وجـــــــــــــــدعـــــــــــــــهـــــــــــــــن إبــــــــــــــــــــــــراهـــــــــــــــــــــــــــــــيم
ولـــــــــــــــديك أصـــــــــــــــنـــــــــــــــام ســـــــــــــــلـــــــــــــــمـــــــــــــــن مــــــــــــــــــــــــن الأذى وصـــــــــفـــــــــــــــت لـــــــــــــــهـــــــــــــــن غـــــــــــــــضـــــــــــــــارة ونـــــــــــــــعـــــــــــــــيم
وبـــــــنـــــــا إلـــــــى صـــــــنـــــــــــــم نـــــــــــــــلـــــــــــــــوذ بـــــــــــــــركـــــــــــــــنـــــــــــــــه فقـــــــــــــــــــــر وأنـــــــــــــــــــــــــــــــت إذا هـــــــــــــــــــــــــــــــززت كـــــــــــــــــــــــــــــــريم فقال له: اختر من شئت، فاختار واحدا منهم، فأعطاه إياه، فقال يمدحه:
فضلت مكارمه على الأقوام وعلا فحاز مكـارم الأيام
وعلته أبهة الجلال كـأنـه قمر بدا لك من خلال غمام
إن الأمير على البرية كلها بعد الخليفة أحمد بن هشام الحسن بن سهل يصله بالمأمون
وأخبرني جعفر بن قدامة في خبره الذي ذكرته آنفا عنه، عن الحسن بنالحسن رن رجاء، عن أبيه، قال: لما قدم المأمون، لقيه أبو محمد الحسن بن سهل، فدخلا جميعا، فعارضهما ابن وهيب وقال:
اليوم جددت النعماء والـمـنـن فالحمد لله حل العقدة الـزمـن
اليوم أظهرت الدنيا محاسنـهـا للناس لما التقى المأمون والحسن قال: فلما جلسا سأله المأمون عنه فقال: هذا رجل من حمير، شاعر مطبوع، اتصل بي متوسلا إلى أمير المؤمنين وطالبا الوصول مع نظرائه، فأمر المأمون بإيصاله مع الشعراء، فلما وقف بين يديه، وأذن له في الإنشاد، أنشده قوله:
صفحة : 2125
طللان طال عليهمـا الأمـد دثرا فلا علـم ولا نـضـد
لبسا البلى فكأنـمـا وجـدا بعد الأحبة مثـل مـا أجـد
حييتما طللين، حـالـهـمـا بعد الأحبة غير ما عهـدوا
إما طواك سـلـو غـانـية فهواك لا ملـل ولا فـنـد
إن كنت صادقة الهوى فردي في الحب منهلي الـذي أرد
أدمي هرقت وأنـت آمـنة أم ليس لي عقل ولا قود ?
إن كنت فت وخانني سبـب فلربما يخطئ مجـتـهـد حتى انتهى إلى قوله في مدح المأمون:
يا خير منتسب لمـكـرمة في المجد حيث تبحبح العدد
في كل أنملة لـراحـتـه نوء يسح وعارض حشـد
وإذا القنا رعفت أسـنـتـه علقما وصم كعوبها قصـد
فكأن ضوء جبينـه قـمـر وكأنه فـي صـولة أسـد
وكـأنـه روح تـدبـرنـا حركاته وكأنـنـا جـسـد المأمون يستشير فيه الحسن بن سهل ثم يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة فاستحسنها المأمون وقال لأبي محمد: احتكم له، فقال: أمير المؤمنين أولى بالحكم، ولكن إن أذن لي في المسألة سألت له، فأما الحكم فلا، فقال: سل، فقال: يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة، فقال: ذلك والله أردت، وأمر بأن تعد أبيات قصيدته ويعطى لكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت خمسين، فأعطي خمسين ألف درهم.
من مدائحه للمأمون قال الأصبهاني: وله في المأمون والحسن بن سهل خاصة مدائح شريفة نادرة، من عيونها قوله في المأمون في قصيدة أولها:
العذر أن أنصفت متـضـح وشهيد حبك أدمع سـفـح
فضحت ضميرك عن ودائعه إن الجفون نواطق فصـح
وإذا تكلمت العيون عـلـى إعجامها فالسر مفتـضـح
ربما أبيت معانقـي قـمـر للحسن فيه مخايل تـضـح
نشر الجمال على محاسنـه بدعا وأذهب همه الفـرح
يختال في حلل الشباب بـه مرح وداؤك أنـه مـرح
ما زال يلثمني مـراشـفـه ويعلني الإبريق والـقـدح
حتى استرد الليل خلعـتـه ونشا خلال سواده وضـح
وبدا الصباح كأن غـرتـه وجه الخليفة حين يمـتـدح يقول فيها:
نشرت بك الدنيا محاسنهـا وتزينت بصفاتك المـدح
وكأن ما قد غاب عنك لـه بإزاء طرفك عارضا شبح
وإذا سلمت فكـل حـادثة جلل فلا بؤس ولا تـرح مدح المطلب بن عبد الله فوصله وأقام عنده مدة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني أهلنا: أن محمد بن وهيب قصد المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي -عم أبي- وقد ولي الموصل وكان له صديقا حفيا، وكان كثير الرفد له والثواب على مدائحه، فأنشده قوله فيه: صوت
دمـاء الـمـحـبـــين لا تـــعـــقـــل أمـا فـي الـهـوى حـــاكـــم يعـــدل
تعـبـــدي حـــور الـــغـــانـــيات ودان الـشـبـــاب لـــه الأخـــطـــل
ونـظـرة عــين تـــلافـــيتـــهـــا غرارا كـمـــا ينـــظـــر الأحـــول
مقسمة بين وجه الحبيب وطرف الرقيب متى يغفل
أذم على غربات النوى إلـــيك الـــســـلـــو ولا أذهــــل
وقـالـوا عـزاؤك بـعـــد الـــفـــراق إذا حـم مــكـــروهـــه أجـــمـــل
أقـيدي دمـا سـفـكـتـــه الـــعـــيون بإيمـاض كـحـــلاء لا تـــكـــحـــل
فكـل سـهـامـك لــي مـــقـــصـــد وكـل مـواقـعـهـــا مـــقـــتـــل
سلام عـلـى الـمـنـزل الـمـسـتـحـــيل وإن ضـن بـالـمـنـطـق الـمـــنـــزل
وعـضـب الـضـريبة يلـقـى الـخـطــوب بجـد عـن الـــدهـــر لا ينـــكـــل
تغـلـغـل شـرقـا إلـــى مـــغـــرب فلـمـا تـبـدت لــه الـــمـــوصـــل
ثوى حـــيث لا يســـتـــمـــال الأريب ولا يؤلـف الــلـــقـــن الـــحـــول
لدى مـلـك قـابـلـتـه الـــســـعـــود وجـانـــبـــه الأنـــجـــم الأفـــل
لأيامـــه ســـطـــوات الـــزمـــان وإنـــعـــامـــه حـــين لا مـــوئل
سمـا مـا لـك بـك لـلـــبـــاهـــرات وأوحــدك الـــمـــربـــأ الأطـــول
ولـيس بـعـيدا بـــأن تـــحـــتـــذي مذاهـــب آســـادهـــا الأشـــبـــل
صفحة : 2126
قال: فوصله وأحسن جائزته وأقام عنده مدة، ثم استأذنه في الإنصراف فلم يأذن له، وزاد في ضيافته وجراياته وجدد له صلة، فأقام عنده برهة أخرى، ثم دخل عليه فأنشده:
ألا هل إلى ظل العقيق وأهلـه إلى قصر أوس فالحزير معاد?
وهل لي بأكناف المصلى فسفحه إلى السور مغدى ناعم ومراد?
فلم تنسني نـهـر الأبـلة نـية ولا عرصات المربدين بـعـاد
هنالك لا تبني الكواعب خـيمة ولا تتهادى كلـثـم وسـعـاد
أجدي لا ألقى النوى مطـمـئنة ولا يزدهيني مضجع ومـهـاد فقال له: أبيت إلا الوطن والنزاع إليه ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، وأوقر له زورقا من طرف الموصل وأذن له.
المأمون يتمثل من شعره
حدثني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني أبو عبد الله الماقطاني، عن علي بن الحسين بن عبد الأعلى، عن سعيد بن وهيب، قال: كان المأمون كثيرا ما يتمثل إذا كربه الأمر:
ألا ربما ضاق الفضاء بأهلـه وأمكن من بين الأسنة مخرج قصيدته في ابن عباد وزير المأمون حين أبعده قال الأصبهاني: وهذا الشعر لمحمد بن وهيب يقوله في ابن عباد وزير المأمون، وكان له صديقا، فلما ولي الوزارة اطرحه لانقطاعه إلى الحسن بن سهل فقال فيه قصيدة أولها:
تكلم بالوحي البنـان الـمـخـضـب ولله شكوى معجم كـيف يعـرب?
أإيماء أطراف البنـان ووجـهـهـا أباتا له كيف الضمير الـمـغـيب?
وقد كان حسن الظن أنـجـب مـرة فأحمد عقبى أمره الـمـتـعـقـب
فلما تدبرت الـظـنـون مـراقـبـا تقلب حالـيهـا إذا هـي تـكـذب
بدأت بإحسان فـلـمـا شـكـرتـه تنكرت لي حتى كـأنـي مـذنـب
وكل فتى يلقي الخطوب بـعـزمـه له مذهب عمن له عنـه مـذهـب
وهل يصرع الحب الكريم وقـلـبـه عليم بمـا يأتـي ومـا يتـجـنـب
تأنيت حتى أوضح الـعـلـم أنـنـي مع الدهر يوما مصعد ومـصـوب
وألحقت أعجاز الأمور صـدورهـا وقومها غمز القداح الـمـقـلـب
وأيقنت أن اليأس للـعـرض صـائن وأن سوف أغضي للقذى حين أرغب
أغادرتني بين الـظـنـون مـمـيزا شواكل أمر بـينـهـن مـجـرب
يقربني من كنـت أصـفـيك دونـه بودي وتنـأى بـي فـلا أتـقـرب
فلله حظي منـك كـيف أضـاعـه سلوك عنـي والأمـور تـقـلـب
أبعدك أستـسـقـي بـوارق مـزنة وإن جاد هطل من المـزن هـيدب
إذا ما رأيت البرق أغضـيت دونـه وقلت إذا ما لاح: ذا البرق خـلـب
وإن سنحت لي فرصة لم أسامـهـا وأعرضت عنها خوف ما أتـرقـب
تأدبت عن حسن الرجاء فـلـن أرى أعـود لـه إن الـزمـان مـؤدب وقال له أيضا:
هل الـهـم إلا كـربة تـتـفـرج لها معقب تحـدى إلـيه وتـزعـج
وما الدهر إلا عائد مـثـل سـالـف وما العيش إلا جـدة ثـم تـنـهـج
وكيف أشيم البرق والبـرق خـلـب ويطمعني ريعانـه الـمـتـبـلـج
وكيف أديم الصبر لا بـي ضـراعة ولا الرزق مجظور ولا أنا محرج?
ألا ربمـا كـان الـتـصـبـر ذلة وأدنى إلى الحال التي هي أسـمـج
وهل يحمل الهم الفتى وهو ضامـن سرى الليل رحال العشيات مـدلـج
ولا صبر ما أعدى على الدهر مطلب وأمكن إدلاج وأصحـر مـنـهـج
ألا ربما ضاق الفضـاء بـأهـلـه وأمكن من بين الأسـنة مـخـرج
وقد يركب الخطب الذي هو قـاتـل إذا لم يكـن إلا عـلـيه مـعـرج مدح الأفشين فأجازه المعتصم حدثني بعض أصحابنا عن أحمد بن أبي كامل قال: كان محمد بن وهيب تياها شديد الذهاب بنفسه، فملا قدم الأفشين -وقد قتل بابك- مدحه بقصيدته التي أولها:
طلول ومغانيها تناجيها وتبكيها يقول فيها:
بعثت الخيل، والخير عقيد في نواصيها وهي من جيد شعره، فأنشدناها ثم قال: ما لها عيب سوى أنها لا أخت لها.
صفحة : 2127
قال: وأمر المعتصم للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلاثمائة ألف درهم جرت تفرقتها على يد ابن أبي داود، فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفا، وأعطى أبا تمام عشرة آلاف درهم. قال ابن أبي كامل: فقلت لعلي بن يحيى المنجم: ألا تعجب من هذا الحظ? يعطى أبو تمام عشرة آلاف وابن وهيب ثلاثين ألفا، وبينهما كما بين السماء والأرض. فقال: لذلك علة لا تعرفها؛ كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان، فلذلك وصل إلى هذه الحال.
يذكر الدنيا ويصل حاله وهو عليل
أخبرني محمد بن يحيى الصولي. قال: حدثني أبو زكوان، قال: حدثني من دخل إلى محمد بن وهيب يعوده وهو عليل قال: فسألته عن خبره فتشكى ما به ثم قال:
نفوس المنايا بالنفوس تـشـعـب وكل له من مذهب الموت مذهب
نراع لذكر الموت سـاعة ذكـره وتعترض الدنيا فنلهو ونلـعـب
وآجالـنـا فـي كـل يوم ولـيلة إلينا على غراتـنـا تـتـقـرب
أأيقن أن الشيب ينعـى حـياتـه مدر لأخلاف الخطيئة مـذنـب
يقين كأن الشك أغـلـب أمـره عليه وعرفان إلى الجهل ينسـب
وقد ذمت الدنيا إلي نـعـيمـهـا وخاطبني إعجامها وهو معـرب
ولكنني منها خلقـت لـغـيرهـا وما كنت منه فهو عندي محبـب ابن أبي فنن وأبو يوسف يطعنان عليه فيرد عليهما من ينصفه أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن أبي كامل، قال: كنا في مجلس ومعنا أبو يوسف الكندي وأحمد بن أبي فنن، فتذاكرنا شعر محمد بن وهيب فطعن عليه ابن أبي فنن وقال: هو متكلف حسود، إذا أنشد شعرا لنفسه قرظه ووصفه في نصف يوم وشكا أنه مظلوم منحوس الحظ وأنه لا تقصر به عن مراتب القدماء حال، فإذا أنشد شعر غيره حسده، وإن كان على نبيذ عربد عليه، وإن كان صاحيا عاداه واعتقد فيه كل مكروه. فقلت له: كلاكما لي صديق، وما أمتنع من وصفكما جميعا بالتقدم وحسن الشعر، فأخبرني عما أسألك عنه إخبار منصف، أو يعد متكلفا من يقول:
أبى لي إغضاء الجفون على القذى يقيني أن لا عسـر إلا مـفـرج
ألا ربما ضاق الفضاء بـأهـلـه وأمكن من بين الأسنة مخـرج? أو يعد متكلفا من يقول:
رأت وضحا من مفرق الرأس راعها شريحين مـبـيض بـه وبـهـيم? فأمسك ابن أبي فنن، واندفع الكندي فقال: كان ابن وهيب ثنويا. فقلت له: من أين علمت ذاك? أكلمك على مذهب الثنوية قط? قال: لا، ولكني استدللت من شعره على مذهبه، فقلت: حيث يقول ماذا? فقال: حيث يقول:
طللان طال عليهما الأمد وحيث يقول:
تفتر عن سمطين من ذهب إلى غير ذلك مما يستعمله في شعره من ذكر الاثنين.
فشغلني والله الضحك عن جوابه. وقلت له: يا أبا يوسف، مثلك لا ينبغي أن يتكلم فيما لم ينفذ فيه علمه.
يستنجز محمد بن عبد الملك الزيات حاجته أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، عن أبيه، قال: سأل محمد بن وهيب محمد بن عبد الملك الزيات حاجة فأبطأ فيها، فوقف عليه ثم قال له:
طبـع الـكـريم عــلـــى وفـــائه وعـلـى الـتـفـضـل فـي إخـــائه
تغني عنايته الصديق عن التعرض لاقتضائه
حسب الكريم حياؤه فكـل الـكـــريم إلـــى حـــيائه فقال له: حسبك فقد بلغت إلى ما أحببت ، والحاجة تسبقك إلى منزلك. ووفى له بذلك.
صوت
وددت على ما كان من سرف الهوى وغي الأماني أن ما شئت يفـعـل
فتـرجـع أيام تـقـضـت ولـذة تولت، وهل يثنى من الدهـر أول الشعر لمزاحم العقيلي والغناء لمقاسة بن ناصح، خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي. قال الهشامي: لأحمد بن يحيى المكي رمل.
أخبار مزاحم ونسبه
نسبه
هو مزاحم بن عمرو بن الحارث بن مصرف بن الأعلم بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.
وقيل: مزاحم بن عمرو بن مرة بن الحارث بن مصرف بن الأعلم، وهذا القول عندي أقرب إلى الصواب.
بدوي شاعر فصيح إسلامي، صاحب قصيدة ورجز، كان في زمن جرير والفرزدق. وكان جرير يصفه ويقرظه ويقدمه.
بيتان له تمنى جرير أنهما له
صفحة : 2128
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي، عن إسحاق الموصلي، قال: قال لي عمارة بن عقيل: كان جرير يقول: ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي:
وددت على ما كان من سرف الهوى وغي الأماني أن ما شئت يفـعـل
فتـرجـع أيام مـضـين ولــذة تولت وهل يثنى من العـيش أول قال المفضل: قال إسحاق: سرف الهوى: خطؤه، ومثله قول جرير:
أعطوا هنيدة تحدوها ثمانـية ما في عطائهم من ولا سرف أراد أنهم يحفظون مواضع الصنائع، لا أنه وصفهم بالاقتصاد والتوسط في الجود.
إسحاق يعجب بشعره
قال إسحاق: وواعدني زياد الأعرابي موضعا من المسجد، فطلبته فيه فلم أجده، فقلت له بعد ذلك: طلبتك لموعدك فلم أجدك. فقال: أين طلبتني? فقلت: في موضع كذا وكذا، فقال: هناك والله سرفتك، أي أخطأتك.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: أنشدني حماد عن أبيه لمزاحم العقيلي قال -وكان يستجيدها ويستحسنها-:
لصفراء في قلبي من الحب شعبة حمى لم تبحه الغانيات صـمـيم
بها حل بيت الحب ثم ابتنى بـهـا فبانت بيوت الحي وهو مـقـيم
بكت دارهم من نأيهم فتهـلـلـت دموعي فأي الجازعـين ألـوم
أمستعبرا يبكي من الحزن والجوى أم آخر يبكي شجـوه فـيهـيم?
تضمنه من حب صفراء بعـدمـا سلا هيضات الحب فهو كـلـيم
ومن يتهيض حـبـهـن فـؤاده يمت أو يعش ما عاش وهو سقيم
كحران صاد ذيد عن برد مشرب وعن بللات الريق فهـو يحـوم منعه عمه من زواجه بابنته لفقره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السكري، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن ابن أبي الدنيا العقيلي -قال ابن حبيب: وهو صاحب الكسائي وأصحابنا- قال: كان مزاحم العقيلي خطب ابنة عم له دنية فمنعه أهلها لإملاقه وقلة ماله، وانتظروا بها رجلا موسرا في قومها كان يذكرها ولم يحقق، وهو يومئذ غائب. فبلغ ذلك مزاحما من فعلهم، فقال لعمه: يا عم، أتقطع رحمي وتختار علي غيري لفضل أباعر تحوزها وطفيف من الحظ تحظى به وقد علمت أني أقرب إليك من خاطبها الذي تريده، وأفصح منه لسانا، وأجود كفا، وأمنع جانبا، وأغنى عن العشيرة فقال له: لا عليك فإنها إليك صائرة، وإنما أعلل أمها بهذا، ثم يكون أمرها لك، فوثق به.
تزوجت ابنة عمه في غيابه فقال وأقاموا مدة، ثم ارتحلوا ومزاحم غائب، وعاد الرجل الخاطب لها فذاكروه أمرها، فرغب فيها، فأنكحوه إياها، فبلغ ذلك مزاحما فأنشأ يقول:
نزلت بمفضى سيل حرسين والضحى يسيل بأطراف المـخـارم آلـهـا
بمسقية الأجفان أنـفـد دمـعـهـا مقـاربة الألاف ثـم زيالـهـــا
فلما نهاها اليأس أن تؤنس الحـمـى حمى البئر جلى عبرة العين جالهـا
أيا ليل إن تشحط بك الـدار غـربة سوانا ويعيي النفس فيك احتيالـهـا
فكم ثم كم من عبرة قـد رددتـهـا سريع على جيب القميص انهلالهـا
خليلي هل من حيلة تعلـمـانـهـا يقرب من ليلى إلينا احـتـيالـهـا
فإن بأعـلـى الأخـشـبـين أراكة عدتني عنها الحرب دان ظلالـهـا
وفي فرعها لو تستطاع جنـابـهـا جنى يجتنيه المجتني لـو ينـالـهـا
هنيئا لليلى مهجة ظـفـرت بـهـا وتزويج ليلى حين حان ارتحالـهـا
فقد حبسوها محبس البدن وابتـغـى بها الربح أقوام تساخف مـالـهـا
فإن مع الركب الذين تـحـمـلـوا غمامة صيف زعزعتها شمالـهـا سجنه ثم هربه
وقال محمد بن حبيب في خبره، قال ابن الأعرابي:
صفحة : 2129
وقع بين مزاحم العقيلي وبين رجل من بني جعدة لحاء في ماء فتشاتما وتضاربا بعصيهما، فشجه مزاحم شجة أمته ، فاستعدت بنو جعدة على مزاحم فحبس حبسا طويلا، ثم هرب من السجن، فمكث في قومه مدة، وعزل ذلك الوالي وولى غيره، فسأله ابن عم لمزاحم يقال له مغلس أن يكتب أمانا لمزاحم، فكتبه له، وجاء مغلس والأمان معه، فنفر مزاحم وظنها خيلة من السلطان، فهرب وقال في ذلك:
أتاني بقرطاس الأمير مـغـلـس فأفزع قرطـاس الأمـير فـؤاديا
فقلت له: لا مرحبا بك مـرسـلا إلي ولا لي مـن أمـيرك داعـيا
أليست جبال القهر قعسا مكانـهـا وعروى وأجبال الوحاف كما هيا?
أخاف ذنوبي أن تـعـد بـبـابـه وما قد أزل الكاشحـون أمـامـيا
ولا أستريم عقبة الأمر بـعـدمـا تورط في بهماء كعبي وسـاقـيا هوى امرأة من قومه وتزوجت غيره أخبرني محمد بن مزيد، وأحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان مزاحم العقيلي يهوى امرأة من قومه يقال لها مية، فتزوجت رجلا كان أقرب إليها من مزاحم، فمر عليها بعد أن دخل بها زوجها، فوقف عليها ثم قال:
أيا شفتي مي أما مـن شـريعة من الموت إلا أنتما تـوردانـيا
ويا شفتي مي أمالي إلـيكـمـا سبيل وهذا الموت قد حل دانيا
ويا شفتي مي أما تبـذلان لـي بشيء وإن أعطيت أهلي وماليا فقالت: أعزز علي يا بن عم بأن تسأل ما لا سبيل إليه، وهذا أمر قد حيل دونه، فاله عنه. فانصرف.
جرير يتمنى أن يكون له بعض شعره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثني عمارة بن عقيل قال: قال لي أبي: قال عبد الملك بن مروان لجرير: يا أبا حزرة، هل تحب أن يكون لك بشيء من شعر غيرك? قال: لا، ما أحب ذلك، إلا أن غلاما ينزل الروضات من بلاد بني عقيل يقال له مزاحم العقيلي، يقول حسنا من الشعر لا يقدر أحد أن يقول مثله، كنت أحب أن يكون لي بعض شعره مقايضة ببعض شعري.
هوى امرأة من قومه يقال لها ليلى وتزوجت من غيره أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثني عمي، عن العباس بن هشام، عن أبيه، قال: كان مزاحم العقيلي يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، فغاب غيبة عن بلاده، ثم عاد وقد زوجت، فقال في ذلك:
أتاني بظهر الغيب أن قد تزوجت فظلت بي الأرض الفضاء تدور
وزايلني لبي وقد كان حاضـرا وكاد جناني عـنـد ذاك يطـير
فقلت وقد أيقنت أن ليس بينـنـا تلاق وعيني بالدموع تـمـور
أيا سرعة الأخبار حين تزوجـت فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير
ولست بمحص حب ليلى لسـائل من الناس إلا أن أقول كـثـير صوت
لها في سواد القلب تسعة أسهم وللناس طرا من هواي عشير قال ابن الكلبي: ومن الناس من يزعم أن ليلى هذه التي يهواها مزاحم العقيلي هي التي كان يهواها المجنون، وأنهما اجتمعا هو ومزاحم في حبها.
هوى امرأة أخرى من قشير وتزوجت بغيره قال الأصبهاني: وقد أخبرني بشرح هذا الخبر الحسن بن علي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعدة، عن علي بن الصباح، عن ابن الكلبي، قال: كان مزاحم بن مرة العقيلي يهوى امرأة من قشير يقال لها ليلى بنت موازر، ويتحدث إليها مدة حتى شاع أمرهما، وتحدثت جواري الحي به، فنهاه أهلها عنها، وكانوا متجاورين، وشكوه إلى الأشياخ من قومه فنهوه واشتدوا علبه، فكان يتفلت إليها في أوقات الغفلات، فيتحدثان ويتشاكيان، ثم انتجعت بنو قشير في ربيع لهم ناحية غير تلك قد نضرها غيث وأخصبها، فبعد عليه خبرها واشناقها، فكان يسأل عنها كل وارد، ويرسل إليها بالسلام مع كل صادر، حتى ورد عليه يوما راكب من قومها، فسأله عنها فأخبره أنها خطبت فزوجت، فوجم طويلا ثم أجهش باكيا وقال:
أتاني بظهر الغيب أن قد تزوجت فظلت بي الأرض الفضاء تدور وذكر الأبيات الماضية.
وقد أنشدني هذه القصيدة لمزاحم ابن أبي الأزهر، عن حماد عن أبيه، فأتى بهذه الأبيات وزاد فيها:
صفحة : 2130
وتنشر نفسي بعد موتي بذكرهـا مرارا فموت مـرة ونـشـور
عججت لربي عجة ما ملكتـهـا وربي بذي الشوق الحزين بصير
ليرحم ما ألقى ويعـلـم أنـنـي له بالذي يسدي إلـي شـكـور
لئن كان يهدى برد أنيابها العـلا لأحوج مني إننـي لـفـقـير الفرزدق وجرير وذو الرمة يفضلونه على أنفسهم
حدثني عمي، قال: حدثني أبو أيوب المديني، قال: قال أبو عدنان: أخبرنا تميم بن رافع قال: حدثت أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان -أو بعض بنيه- فقال له: يا فرزدق، أتعرف أحدا أشعر منك? قال: لا، إلا غلاما من بني عقيل، يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد، ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه، فلم يلبث أن جاءه ذو الرمة فقال له: أنت أشعر الناس? قال: لا، ولكن غلام من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الروضات. يقول وحشيا من الشعر لا يقدر على مثله، فقال: فأنشدني بعض ما تحفظ من ذلك، فأنشده قوله:
خليلي عوجا بي على الدار نسأل متى عهدها بالظاعن المترحـل
فعجت وعاجوا فوق بيداء مورت بها الريح جولان التراب المنخل حتى أتى على آخرها ثم قال: ما أعرف أحدا يقول قولا يواصل هذا.
صوت
أكذب طرفي عنك في كل ما أرى وأسمع أذني منك ما ليس تسمـع
فلا كبدي تبلـى ولا لـك رحـمة ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع
لقيت أمورا فيك لم ألق مثـلـهـا وأعظم منها فـيك مـا أتـوقـع
فلا تسألينـي فـي هـواك زيادة فأيسره يجـزي وأدنـاه يقـنـع الشعر لبكر بن النطاح، والغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي.
أخبار بكر بن النطاح ونسبه
اسمه ونسبه
بكر بن النطاح الحنفي . يكنى أبا وائل، هكذا أخبرنا وكيع عن عبد الله بن شبيب، وذكر غيره أن عجلي من بني سعد بن عجل، واحتج من ذكر أنه عجلي بقوله:
فإن يك جد القوم فهر بن مالك فجدي عجل قرم بكر بن وائل وأنكر ذلك من زعم أنه حنفي وقال: بل قال:
فجدي لجيم قرم بكر بن وائل وعجل بن لجيم وحنيفة بن لجيم أخوان.
وكان بكر بن النطاح صعلوكا يصيب الطريق، ثم أقصر عن ذلك، فجعله أبو دلف من الجند، وجعل له رزقا سلطانيا، وكان شجاعا بطلا فارسا شاعرا حسن الشعر والتصرف فيه، كثير الوصف لنفسه بالشجاعة والإقدام.
قصته مع أبي دلف
فأخبرني الحسن بن علي ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أبي، قال: قال بكر بن النطاح الحنفي قصيدته التي يقول فيها:
هنيئا لإخواني ببغداد عيدهـم وعيدي بحلوان قراع الكتائب وأنشدها أبا دلف فقال له: إنك لتكثر الوصف لنفسك بالشجاعة، وما رأيت لذلك عندك أثرا قط، ولا فيك، فقال له: أيها الأمير وأي غناء يكون عند الرجل الحاسر الأعزل? فقال: أعطوه فرسا وسيفا وترسا ودرعا ورمحا، فأعطوه ذلك أجمع، فأخذه وركب الفرس وخرج على وجهه، فلقيه مال لأبي دلف يحمل من بعض ضياعه، فأخذه وخرج جماعة من غلمانه فمانعوه عنه، فجرحهم جميعا وقطعهم وانهزموا. وسار بالمال، فلم ينزل إلا على عشرين فرسخا، فلما اتصل خبره بأبي دلف قال: نحن جنينا على أنفسنا، وقد كنا أغنياء عن إهاجة أبي وائل، ثم كتب إليه بالأمان، وسوغه المال، وكتب إليه: صر إلينا فلا ذنب لك، لأنا نحن كنا سبب فعلك بتحريكنا إياك وتحريضنا؛ فرجع ولم يزل معه يمتدحه، حتى مات.
قصته مع الرشيد ويزيد بن مزيد
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثني الحسن بن إسماعيل، عن ابن الحفصي، قال: قال يزيد بن مزيد: وجه إلي الرشيد في وقت يرتاب فيه البريء، فلما مثلت بين يديه قال: يا يزيد، من الذي يقول:
ومن يفتقر منا يعش بحسـامـه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل فقلت له: والذي شرفك وأكرمك بالخلافة ما أعرفه، قال: فمن الذي يقول:
وإن يك جد القوم فهر بن مالك فجدي لجيم قرم بكر بن وائل
صفحة : 2131
قلت: لا والذي أكرمك وشرفك يا أمير المؤمنين ما أعرفه، قال: والذي كرمني وشرفني إنك لتعرفه، أتظن يا يزيد أني إذا أوطأتك بساطي وشرفتك بصنيعتي أني أحتملك على هذا? أو تظن أني لا أراعي أمورك وأتقصاها، وتحسب أنه يخفى علي شيء منها? والله إن عيوني لعليك في خلواتك ومشاهدك، هذا جلف من أجلاف ربيعة عدا طوره وألحق قريشا بربيعة فأتني به. فانصرفت وسألت عن قائل الشعر، فقيل لي: هو بكر بن النطاح، وكان أحد أصحابي، فدعوته وأعلمته ما كان من الرشيد، فأمرت له بألفي درهم، وأسقطت اسمه من الديوان، وأمرته ألا يظهر ما دام الرشيد حيا، فما ظهر حتى مات الرشيد، فلما مات ظهر، فألحق اسمه وزدت في عطائه .
شعره في جارية تدعى رامشنة
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني محمد بن حمزة العلوي، قال: حدثني أبو غسان دماذ، قال: حضرت بكر بن النطاح الحنفي في منزل بعض الحنفيين، وكانت للحنفي جارية يقال لها رامشنة، فقال فيها بكر بن النطاح:
حيتك بالرامشن رامشـنة أحسن من رامشنة الآس
جارية لم يقتسم بعضـهـا ولم تبت في بيت نخـاس
أفسدت إنسانا على أهلـه لا مفسد الناس على الناس وقال فيها:
أكذب طرفي عنك والطرف صادق وأسمع أذني منك ما ليس تسمـع
ولم أسكن الأرض التي تسكنينـهـا لكي لا يقولوا صابر ليس يجـزع
فلا كبدي تبلـى ولا لـك رحـمة ولا عنك إقصار ولا فيك مطمـع
لقيت أمورا فيك لم الق مثـلـهـا وأعظم منها منـك مـا أتـوقـع
فال تسألينـي فـي هـواك زيادة فأيسره يجـزي وأدنـاه يقـنـع المأمون يعجب بشعره وينقد سلوكه
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، عن علي بن الصباح -وأظنه مرسلا وأن بينه وبينه ابن أبي سعد أو غيره، لأنه لم يسمع من علي بن الصباح- قال: حدثني أبو الحسين الراوية، قال لي المأمون: أنشدني أشجع بيت وأعفه وأكرمه من شعر المحدثين، فأنشدته:
ومن يفتقر منا يعش بحسـامـه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
وإنا لنلهو بالسيوف كما لـهـت عروس بعقد أو سخاب قرنفـل فقال: ويحك من يقول هذا? فقلت: بكر بن النطاح، فقال: أحسن والله، ولكنه قد كذب في قوله، فما باله يسأل أبا دلف ويمتدحه وينتجعه هلا أكل خبزه بسيفه كما قال.
مدح أبا دلف فأعطاه جائزة أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أبو الحسن الكسكري ، قال: بلغني أنا أبا دلف لحق أكرادا قطعوا الطريق في عمله، وقد أردف منهم فارس رفيقا له خلفه، فطعنهما جميعا فأنفذهما، فتحدث الناس بأنه نظم بطعنة واحدة فارسين على فرس، فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النطاح فأنشده: صوت
قالوا: وينظم فارسين بطعنة يوم اللقاء ولا يراه جلـيلا
لا تعجبوا فلو أن طول قناته ميل إذا نظم الفوارس ميلا قال: فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف درهم، فقال بكر فيه:
له راحة لو أن معشار جـودهـا على البر كان البر أندى من البحر
ولو أن خلق الله في جسم فـارس وبارزه كان الخلي من العـمـر
أبا دلف بوركت في كـل بـلـدة كما بوركت في شهرها ليلة القدر عشق غلاما نصرانيا وقال فيه شعرا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، وعيسى بن الحسين، قالا: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثني أبو زائدة، قال: كان بكر بن النطاح الحنفي يتعشق غلاما نصرانيا ويجن به، وفيه يقول:
يا من إذا درس الإنجيل كان له قلب التقي عن القرآن منصرفا
إني رأيتك في نومي تعانقنـي كما تعانق لام الكاتب الألـفـا رده أبو دلف فغضب عليه وانصرف عنه أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي ، قال:
صفحة : 2132
كان بكر بن النطاح يأتي أبا دلف في كل سنة، فيقول له: إلى جنب أرضي أرض تباع وليس يحضرني ثمنها، فيأمر له بخمسة آلاف درهم ويعطيه ألفا لنفقته ، فجاءه في بعض السنين فقال له مثل ذلك، فقال له أبو دلف: ما تفنى هذه الأرضون التي إليها جانب ضيعتك فغضب وانصرف عنه، وقال:
يا نفس لا تجزعي من التلف فإن في الله أعظم الخلـف
إن تقنعي باليسير تغتبطـي ويغنك الله عن أبي دلـف رده قرة بن محرز فغضب عليه وانصرف عنه كذلك قال: وكان بكر بن النطاح يأتي قرة بن محرز الحنفي بكرمان فيعطيه عشرة آلاف درهم، ويجري عليه في كل شهر يقيم عند ألف درهم، فاجتاز به قرة يوما وهو ملازم في السوق وغرماؤه يطالبونه بدين، فقال له: ويحك أما يكفيك ما أعطيك حتى تستدين وتلازم في السوق فغضب عليه وانصرف عنه وأنشأ يقول:
ألا يا قـر لا تـك سـامـريا فتترك من يزورك في جهـاد
أتعجب أن رأيت عـلـي دينـا وقد أودى الطريف مع التـلاد
ملأت يدي من الدنـيا مـرارا فما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت علـي زكـاة مـال وهل تجب الزكاة على جواد مدح أبا دلف ببيتين فأعطاه جائزة أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كنت يوما عند علي بن هشام، وعنده جماعة فيهم عمارة بن عقيل، فحدثته أن بكر بن النطاح دخل إلى أبي دلف وأنا عنده، قال لي أبو دلف: يا أبا محمد أنشدني مديحا فاخرا تستطرفه، فبدر إليه بكر وقال: أنا أنشدك أيها الأمير بيتين قلتهما فيك في طريقي هذا إليك وأحكمك، فقال: هات، فإن شهد لك أبو محمد رضينا، فأنشده:
إذا كان الشتاء فأنت شـمـس وإن حضر المصيف فأنت ظل
وما تدري إذا أعطـيت مـالا أتكثر في سماحـك أم تـقـل فقلت له: أحسن والله ما شاء ووجبت مكافأته، فقال: أما إذ رضيت فأعطوه عشرة آلاف درهم، فحملت إليه، وانصرفت إلى منزلي، فإذا أنا بعشرين ألفا قد سبقت إلي، وجه بها أبو دلف، قال: فقال عمارة لعلي بن هشام: فقد قلت أنا في قريب من هذه القصة:
ولا عـيب فـيهـم غـير أن أكـــفـــهـــم لأمـوالـهـم مـثـل الـسـنـين الـحـواطــم
وأنهم لا يورثون بذيهموإن ورثوا خيرا كنوز الدراهم رثى معقل بن عيسى أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة، قال: كان معقل بن عيسى صديقا لبكر بن النطاح، وكان بكر فاتكا صعلوكا، فكان لا يزال قد أحدث حادثة في عمل أبي دلف، أو جنى جناية، فيهم به فيقوم دونه معقل حتى يتخلصه، فمات معقل فقال بكر بن النطاح يرثيه بقوله:
وحدث عنه بعض مـن قـال إنـه رأت عينه فيما ترى عين حـالـم
كأن الذي يبكي على قبر معـقـل ولم يره يبكي على قبـر حـاتـم
ولا قبر كعب إذ يجود بـنـفـسـه ولا قبر حلف الجود قيس بن عاصم
فأيقنت أن الله فـضـل مـعـقـلا على كل مذكور بفضل المـكـارم هجاه عباد بن الممزق لبخله أخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني، قال: حدثني العمري، قال: كان بكر بن النطاح الحنفي أبو وائل بخيلا، فدخل عليه عباد بن الممزق يوما، فقدم إليه خبزا يابسا قليلا بلا أدم، ورفعه من بين يديه قبل أن يشبع، فقال عباد يهجوه:
من يشتري مني أبا وائل بكر بن نطاح بفلسين?
كأنما الآكل من خبـزه يأكله من شحمة العين قال: وكان عباد هذا هجاء ملعونا، وهو القائل:
أنا الممزق أعراض اللئام كمـا كان الممزق أعراض اللئام أبي مدح مالك بن طوق ثم هجاه أخبرني عمي، قال: حدثنا أبو هفان، قال: كان بكر بن النطاح قصد مالك بن طوق فمدحه، فلم يرض ثوابه، فخرج من عنده وقال يهجوه:
فليت جدا مـالـك كـلـه وما يرتجى منه من مطلب
أصبت بأضعاف أضعافـه ولم أنتجعه ولـم أرغـب
أسأت اختياري منك الثواب لي الذنب جهلا ولم تذنـب وكتبها في رقعة وبعث بها إليه، فلما قرأها وجه جماعة من أصحابه في طلبه، وقال لهم: الويل لكم إن فاتكم بكر بن النطاح.
صفحة : 2133
اعتذر إليه وأعطاه فمدحه ولا بد أن تنكفئوا على أثره ولو صار إلى الجبل، فلحقوه فردوه غليه، فلما دخل داره ونظر إليه قام فتلقاه وقال: يا أخي، عجلت علينا وما كنا نقتصر بك على ما سلف وإنما بعثنا إليك بنفقة، وعولنا بك على ما يتلوها، واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم أعطاه حتى أرضاه، فقال بكر بن النطاح يمدحه:
أقول لمرتاد ندى غـير مـالـك كفى بذل هذا الخلق بعض عداته
فتى جاد بالأموال في كل جانـب وأنهبها فـي عـوده وبـداتـه
فلو خذلت أموالـه بـذل كـفـه لقاسم من يرجوه شطر حـياتـه
ولو لم يجد في العمر قسمة ماله وجاز له الإعطاء من حسناتـه
لجاد بها من غير كفـر بـربـه وشاركهم في صومه وصلاتـه فوصله صلة ثانية لهذه الأبيات، وانصرف عنه راضيا.
هكذا ذكر أبو هفان في خبره وأحسبه غلطا، لأن أكثر مدائح بكر بن النطاح في مالك بن علي الخزاعي -وكان يتولى طريق خراسان- وصار إليه بكر بن النطاح بعد وفاة أبي دلف ومدحه، فأحسن تقبله وجعله في جنده، وأسنى له الرزق، فكان معه، إلى أن قتله الشراة بحلوان، فرثاه بكر بعدة قصائد هي من غرر شعره وعيونه.
كان مع مالك الخزاعي يوم أن قتل فرثاه فحدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، عن أبي وائلة السدوسي، قال: عاثت الشراة بالجبل عيثا شديدا، وقتلوا الرجال والنساء والصبيان، فخرج إليهم مالك بن علي الخزاعي وقد وردوا حلوان، فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم عنها، وما زال يتبعهم حتى بلغ بهم قرية يقال لها: حدان ، فقاتلوه عندها قتالا شديدا، وثبت الفريقان إلى الليل حتى حجز بينهم، وأصابت مالكا ضربة على رأسه أثبتته ، وعلم أنه ميت، فأمر برده إلى حلوان، فما بلغها حتى مات، فدفن على باب حلوان، وبنيت لقبره قبة على قارعة الطريق، وكان معه بكر بن النطاح يومئذ، أبلى بلاء حسنا، وقال بكر يرثيه:
يا عين جودي بالدموع السـجـام على الأمير اليمني الـهـمـام
على فتى الدنـيا وصـنـديدهـا وفارس الدين وسـيف الإمـام
لا تدخري الدمع على هـالـك أيتـم إذ أودى جـمـيع الأنـام
طاب ثرى حلوان إذ ضمـنـت عظامه، سقيا لها من عـظـام
أغلقت الـخـيرات أبـوابـهـا وامتنعت بعدك يا بن الـكـرام
وأصبحت خيلك بعـد الـوجـا والغزو تشكو منك طول الجمام
ارحل بنا نقرب إلـى مـالـك كيما نحيي قبـره بـالـسـلام
كان لأهل الأرض فـي كـفـه غنى عن البحر وصوب الغمام
وكان في الصبح كشمس الضحى وكان في الليل كبدر الـظـلام
وسائل يعـجـب مـن مـوتـه وقد رآه وهو صعب الـمـرام
قلت له عهدي به مـعـلـمـا يضربهم عند ارتفاع الـقـتـام
والحرب من طاولهـا لـم يكـد يفلت من وقع صقيل حـسـام
لم ينظر الدهـر لـنـا إذ عـدا على ربيع الناس في كل عـام
لن يستـقـيلـوا أبـدا فـقـده ما هيج الشجو دعاء الحـمـام قال: وقال أيضا يرثيه:
أي امرئ خضب الخوارج ثوبه بدم عشية راح مـن حـلـوان
يا حفرة ضمت محاسن مالـك ما فيك من كرم ومن إحسـان
لهفي على البطل المعرض خده وجبينه لأسـنة الـفـرسـان
خرق الكتيبة معلما متكـنـبـا والمرهفات عليه كالـنـيران
ذهب بشاشة كل شيء بـعـده فالأرض موحشة بلا عمـران
هدم الشراة غداة مصرع مالـك شرف العلا ومكارم البـنـيان
قتلوا فتى العرب الذي كانت به تقوى على اللزبات في الأزمان
حرموا معدا ما لديه وأوقـعـوا عصبية في قلب كل يمـانـي
تركوه في رهج العجاج كأنـه أسد يصول بسـاعـد وبـنـان
هوت الجدود عن السعود لفقـده وتمسكت بالنحس والـدبـران
لا يبعدن أخو خـزاعة إذ ثـوى مستشهدا في طاعة الرحمـن
صفحة : 2134
عز الـغـواة بـه وذلـت أمة محبـوة بـحـقـائق الإيمـان
وبكاء مصحفه وصدر قناتـنـه والمسلمون ودولة السلـطـان
وغدت تعقر خيله وتقـسـمـت أدراعـه وسـوابـغ الأبـدان
أفتحمد الـدنـيا وقـد ذهـبـت بمن كان المجير لنا من الحدثان تشوقه بغداد وهو بالجبل
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: أنشدني أبو غسان دماذ لبكر بن النطاح يتشوق بغداد وهو بالجبل يومئذ:
نسيم المدام وبرد الـسـحـر هما هيجا الشوق حتى ظهـر
تقول: اجتنب دارنا بالنـهـار وزرنا إذا غاب ضوء القمـر
فإن لـنـا حـرسـا إن رأوك ندمت وأعطوا عليك الظفـر
وكم صنع الـلـه مـن مـرة عليهم وقد أمروا بـالـحـذر
سقى الله بغـداد مـن بـلـدة وساكن بغداد صوب المطـر
ونبئت أن جواري الـقـصـو ر صيرن ذكري حديث السمر
ألا رب سـائلة بـالـعــرا ق عني وأخرى تطيل الذكـر
تقـول: عـهـدنـا أبـا وائل كظبي الفلاة المليح الـحـور
ليالي كـنـت أزور الـقـيان كأن ثيابي بهـار الـشـجـر هوى جارية من القيان وقال فيها شعرا حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: كان بكر بن النطاح يهوى جارية من جواري القيان وتهواه، وكانت لبعض الهاشميين، يقال لها درة، وهو يذكرها في شعره كثيرا، وكان يجتمع معها في منزل رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له: الفرز، فسعى به إلى مولاها، وأعلمه أنه قد أفسدها وواطأها على أن تهرب معه إلى الجبل، فمنعه من لقائها وحجبه عنها، إلى أن خرج إلى الكرج مع أبي دلف، فقال بكر بن النطاح في ذلك:
أهل دار بين الرصافة والجسر أطالوا غيظي بطول الصدود
عذبوني ببعدهم ابتلوا قلبي بحزنين : طارف وتليد
ما تهب الشمال إلا تنفست وقال الفؤاد للعين: جودي
قل عنهم صبري ولم يرحموني فتـحــيرت كـــالـــطـــريد الـــشـــريد
وكلتني الأيام فيك إلى نفسي فأعييت وانتهـى مـجـهـود وقال فيها أيضا وفيه غناء من الرمل الطنبوري:
العين تبدي الحب والبغضـا وتظهر الإبرام والنقضـا
درة ما أنصفتني في الهوى ولا رحمت الجسد المنضى
مرت بنا في قرطق أخضر يعشق منها بعضها بعضـا
غضبى ولا والله يا أهلهـا لا أشرب البارد أو ترضى
كيف أطاعتكم بهجري وقد جعلت خدي لها أرضـا وقال فيها أيضا وفيه رمل طنبوري:
صدرت فأمسى لقاؤها حلـمـا واستبدل الطرف بالدموع دمـا
وسلطت حبها عـلـى كـبـدي فأبدلتنـي بـصـحة سـقـمـا
وصرت فردا أبكي لفرقـتـهـا وأقرع السن بعـدهـا نـدمـا
شق عليها قول الوشـاة لـهـا: أصبحت في أمر ذا الفتى علما
لولا شقـائي ومـا بـلـيت بـه من هجرها ما استثرت ما اكتتما
كم من حاجة في الكتاب بحت بها أبكيت منها القرطاس والقلـمـا وقال فيها أيضا، وفيه رمل لأبي الحسن أحمد بن جعفر جحظة
بعدت عني فتغـيرت لـي وليس عندي لك تـغـيير
فجددي ما رث من وصلنـا وكل ذنب لك مـغـفـور
أطيب النفس بكتمـان مـا سارت به من غدرك العير
وعدك يا سيدتي غـرنـي منك ومن يعشق مغـرور
يحزنني علمي بنفسـي إذا قال خليلي أنت مهجـور
يا ليت من زين هذا لـهـا جارت لنا فيه المـقـادير
ساقي الندامى سقها صاحبي فإنني ويحـك مـعـذور
أأشرب الخمر على هجرها إني إذا بالهجر مسـرور وفيها يقول وقد خرج مع أبي دلف
إلى أصبهان:
يا ظبية السيب التي أحببتـهـا ومنحتها لطفي ولين جناحـي
عيناي باكيتان بعـدك لـلـذي أودعت قلبي من ندوب جراح
صفحة : 2135
سقيا لأحمد من أخ ولـقـاسـم فقدا غدوي لاهـيا ورواحـي
وترددي من بيت فرز آمـنـا من قرب كل مخالف وملاحي
أيام تغبطني الملـوك ولا أرى أحدا له كتدللـي ومـراحـي
تصف القيان إذا خلون مجانتي ويصفن للشرب الكرام سماحي ومما يغنى فيه من شعر بكر بن النطاح في هذه الجارية قوله: صوت
هل يبتلي أحد بـمـثـل بـلـيتـي أم ليس لي في العالمين ضـريب?
قالت عنان وأبصرتني شـاحـبـا: يا بكر مالك قد علاك شـحـوب?
فأجبتها: يا أخـت لـم يلـق الـذي لاقـيت إلا الـمـبـتـلـى أيوب
قد كنت أسمع بالهـوى فـأظـنـه شيئا يلـذ لأهـلــه ويطـــيب
حتى ابتلـيت بـحـلـوه وبـمـره فالحلو منه لـلـقـلـوب مـذيب
والمر يعجز منطقي عن وصـفـه للمر وصف يا عـنـان عـجـيب
فأنا الشقـي بـحـلـوه وبـمـره وأنا المعنى الهـائم الـمـكـروب
يا در حالفك الجـمـال فـمـا لـه في وجه إنسان سـواك نـصـيب
كل الوجوه تشابهت وبـهـرتـهـا حسنا فوجهك في الوجوه غـريب
والشمس يغرب في الحجاب ضياؤها عنا ويشرق وجهك المـحـجـوب ومما يغنى فيه من شعره فيها أيضا
غضب الحبيب علي في حبي له نفسي الفداء لمذنب غضـبـان
ما لي بما ذكر الرسول يدان بل إن تم رأيك ذا خلعت عنانـي
يا من يتوق إلى حبيب مـذنـب طاوعته فجزاك بالعـصـيان
هلا انتحرت فكنت أول هالـك إن لم تكن لك بالصـدور يدان
كنا وكنتم كالبنـان وكـفـهـا فالكف مفردة بغـير بـنـان
خلق السرور لمعشر خلقوا لـه وخلقت للعبـرات والأحـزان
صوت
ليت شـــعـــري أأول الـــهـــرج هـــذا أم زمـان مــن فـــتـــنة غـــير هـــرج
إن يعـش مـصـعـب فـنـحـــن بـــخـــير قد أتـانـا مـن عـيشـنــا مـــا نـــرجـــي
ملـك يطـعـم الــطـــعـــام ويســـقـــي لبـن الـبـخـت فـي عـسـاس الـخـلـــنـــج
جلـب الـخـيل مـن تـــهـــامة حـــتـــى بلـغـت خـــيلـــه قـــصـــور زرنـــج
حيث لم تأت قبله خيل ذي الأكتاف يوجفن بين قف ومرج عروضه من الخفيف. الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات، والغناء ليونس الكاتب ماخوري بالبنصر، وفيه لمالك ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.
مقتل مصعب بن الزبير
خرج لمحاربة عبد الملك بن مروان
وهذا الشعر يقوله عبيد الله بن قيس لمصعب بن الزبير لما حشد للخروج عن الكوفة لمحاربة عبد الملك بن مروان.
استشارة عبد الملك في المسير إلى العراق
وكان السبب في ذلك، فيما أجاز لنا الحرمي بن أبي العلاء روايته عنه، عن الزبير بن بكار، عن المدائني، قال: لما كانت سنة اثنتين وسبعين، استشار عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن الحكم في المسير إلى العراق ومناجزة مصعب، فقال: يا أمير المؤمنين، قد واليت بين عامين تغزو فيهما وقد خسرت خيلك ورجالك، وعامك هذا عام حارد فأرح نفسك ورجلك ثم ترى رأيك. فقال: إني أبادر ثلاثة أشياء، وهي أن الشام أرض بها المال قليل فأخاف أن ينفذ ما عندي، وأشراف أهل العراق قد كاتبوني يدعونني إلى أنفسهم، وثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبروا ونفدت أعمارهم، وأنا أبادر بهم الموت أحب أن يحضروا معي.
ثم دعا يحيى بن الحكم -وكان يقول: من أراد أمرا فليشاور يحيى بن الحكم فإذا أشار عليه بأمر فليعمل بخلافه. فقال: ما ترى في المسير إلى العراق? قال: أرى أن ترضى بالشام وتقيم بها وتدع مصعبا بالعراق، فلعن الله العراق فضحك عبد الملك.
ودعا عبد الله بن خالد بن أسيد فشاوره، فقال: يا أمير المؤمنين قد غزوت مرة فنصرك الله، ثم غزوت ثانية فزادك الله بها عزا، فأقام عامك هذا.
صفحة : 2136
فقال لمحمد بن مروان: ما ترى? قال: أرجو أن ينصرك الله أقمت أم غزوت، فشمر فإن الله ناصرك. فأمر الناس فاستعدوا للمسير، فلما أجمع عليه قالت عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجته: يا أمير المؤمنين، وجه الجنود وأقم، فليس الرأي أن يباشر الخليفة الحرب بنفسه، فقال: لو وجهت أهل الشام كلهم فعلم مصعب أني لست معهم لهلك الجيش كله، ثم تمثل:
ومستخبر عنا يريد بنا الـردى ومستخبرات والعيون سواكب ثم قدم محمد بن مروان ومعه عبد الله بن خالد بن أسيد وبشر بن مروان، ونادى مناديه: إن أمير المؤمنين قد استعمل عليكم سيد الناس محمد بن مروان، وبلغ مصعب بن الزبير مسير عبد الملك، فأراد الخروج فأبى عليه أهل البصرة وقالوا: عدونا مطل علينا -يعنون الخوارج- فأرسل إليهم بالمهلب وهو بالموصل، وكان عامله عليها، فولاه قتال الخوارج، وخرج مصعب فقال بعض الشعراء:
أكل عام لك باجمـيرا تغزو بنا ولا تفيد خيرا القتال بينه وبين عبد الملك
قال: وكان مصعب كثيرا ما يخرج إلى باجميرا يريد الشام ثم رجع، فأقبل عبد الملك حتى نزل الأخنونية ونزل مصعب بمسكن إلى جنب أوانا وخندق خندقا ثم تحول ونزل دير الجاثليق وهو بمسكن، وبين العسكرين ثلاثة فراسخ -ويقال فرسخان- فقدم عبد الملك محمدا وبشرا أخويه وكل واحد منهما على جيش والأمير محمد، وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، ثم كتب عبد الملك إلى أشراف أهل الكوفة والبصرة، يدعوهم إلى نفسه ويمينهم، فأجابوه وشرطوا عليه شروطا، وسألوه ولايات، وسأله ولاية أصبهان أربعون رجلا منهم، فقال عبد الملك لمن حضره: ويحكم ما أصبهان هذه تعجبا ممن يطلبها ، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر: لك ولاية ما سقى الفرات إن تبعتني، فجاء إبراهيم بالكتاب إلى مصعب فقال: هذا كتاب عبد الملك، ولم يخصصني بهذا دون غيري من نظرائي، ثم قال: فأطعني فيهم، قال: أصنع ماذا? قال: تدعوهم فتضرب أعناقهم. قال: أقتلهم على ظن ظننته قال: فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أرض المدائن حتى تنقضي الحرب، قال: إذا تفسد قلوب عشائرهم، ويقول الناس: عبث مصعب بأصحابه. قال: فإن لم تفعل فلا تمدني بهم فإنهم كالمومسة تريد كل يوم خليلا، وهم يريدون كل يوم أميرا.
صفحة : 2137
أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلا يدعوه إلى أن يجعل الأمر شورى في الخلافة، فأبى مصعب، فقدم عبد الملك أخاه محمدا ثم قال: اللهم انصر محمدا -ثلاثا- ثم قال: اللهم انصر أصلحنا وخيرنا لهذه الأمة. قال: وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقت المقدمتان وبين عسكر مصعب وعسكر بن الأشتر فرسخ، ودنا عبد الملك حتى قرب من عسكر محمد، فتناوشوا، فقتل رجل على مقدمة محمد يقال له فراس، وقتل صاحب لواء بشر وكان يقال له أسيد، فأرسل محمد إلى عبد الملك أن بشرا قد ضيع لواءه. فصرف عبد الملك الأمر كله إلى محمد، وكف الناس وتواقفوا، وجعل أصحاب ابن الأشتر يهمون بالحرب ومحمد بن مروان يكف أصحابه، فأرسل عبد الملك إلى محمد: ناجزهم، فأبى، فأوفد إليه رسولا آخر وشتمه، فأمر محمد رجلا فقال له: قف خلفي في ناس من أصحابك فلا تدعن أحدا يأتيني من قبل عبد الملك، وكان قد دبر تدبيرا سديدا في تأخير المناجزة إلى وقت رآه، فكره أن يفسد عبد الملك تدبيره عليه، فوجه إليه عبد الملك عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما رأوه أرسلوه إلى محمد بن مروان: هذا عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: ردوه بأشد مما رددتم من جاء قبله، فملا قرب المساء أمر محمد بن مروان أصحابه بالحرب، وقال: حركوهم قليلا، فتايج الناس، ووجه مصعب عتاب بن ورقاء الرياحي يعجز إبراهيم، فقال له: قد قلت له: لا تمدني بأحد من أهل العراق فلم يقبل، واقتتلوا، وأرسل إبراهيم بن الأشتر إلى أصحابه -بحضرة الرسول ليرى خلاف أهل العراق عليه في رأيه- ألا تنصرفوا عن الحرب عن ينصرف أهل الشام عنكم، فقالوا: ولم لا ننصرف? فانصرفوا وانهزم الناس حتى أتوا مصعبا. وصبر إبراهيم بن الأشتر فقاتل حتى قتل، فلما أصبحوا أمر محمد بن مروان رجلا فقال: انطلق إلى عسكر مصعب فانظر كيف تراهم بعد قتل ابن الأشتر، قال: لا أعرف موضع عسكرهم، فقال له إبراهيم بن عدي الكناني: انطلق فإذا رأيت النخل فاجعله منك موضع سيفك، فمضى الرجل حتى أتى عسكر مصعب، ثم رجع إلى محمد فقال: رأيتهم منكسرين. وأصبح معصب فدنا منه، ودنا محمد بن مروان حتى التقوا، فترك قوم من أصحاب مصعب مصعبا وأتوا محمد بن مروان، فدنا إلى مصعب ثم ناداه: فداك أبي وأمي، إن القوم خاذلوك ولك الأمان، فأبى قبول ذلك، فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح؛ إن القوم خاذلوكم ولك ولأبيك الأمان، وناشده. فرجع إلى بيته فأخبره، فقال: إني أظن القوم سيفون، فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم، فقال: والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى أحتسبك، فتقدم وتقدم ناس معه فقتل وقتلوا، وترك أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة. وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فشد عليه مصعب فقتله، ثم شد على الناس فانفرجوا، ثم رجع فقعد على مرفقة ديباج، ثم جعل يقوم عنها ويحمل على أهل الشام فيفرجون عنه، ثم يرجع فيقعد على المرفقة، حتى فعل ذلك مرارا، وأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة، فقال له: اعزب يا كلب، وشد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فرجع عبيد الله فعصب رأسه، وجاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له: جعلت فداك، قد تركك القوم وعندي خيل مضمرة فاركبها وانج بنفسك، فدفع في صدره وقال: ليس أخوك بالعبد.
مقتل مصعب
ورجع ابن ظبيان إلى مصعب، فحمل عليه، وزرق زائدة بن قدامة مصعبا ونادى: يا لقارات المختار فصرعه، وقال عبيد الله لغلام له : احتز رأسه، فحمله إلى عبد الملك، فيقال: إنه لما وضعه بين يديه سجد. قال ابن ظبيان: فهمت والله أن أقتله فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين من قريش في يوم واحد، ثم وجدت نفس تنازعني إلى الحياة فأمسكت.
قال: وقال يزيد بن الرقاع العاملي أخو عدي بن الرقاع وكان شاعر أهل الشام:
نحن قتلنا ابن الحواري مصعبا أخا أسد والمذحجي اليمانـيا يعني ابن الأشتر، قال:
ومرت عقاب الموت منا بمسلم فأهوت له ظفرا فأصبح ثاويا قال الزبير: ويروى هذا الشعر للبعيث اليشكري، ومسلم الذي عناه هو مسلم بن عمرو الباهلي.
مقتل مسلم بن عمرو الباهلي
صفحة : 2138
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، عن عوانة، قال: كان مسلم بن عمرو الباهلي على ميسرة إبراهيم بن الأشتر، فطعن وسقط فارتث ، فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك، فأرسل غليه: ما تصنع بالأمان وأنت الموت? قال: ليسلم لي مالي ويأمن ولدي. قال: فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك لأهل الشام: هذا أكفر الناس لمعروف، ويحك أكفرت معروف يزيد بن معاوية عندك? فقال له خالد: تؤمنه يا أمير المؤمنين، فأمنه، ثم حمل فلم يبرح الصحن حتى مات، فقال الشاعر:
نحن قتلنا ابن الحواري مصعبا أخا أسد والمذحجي اليمانـيا حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، قال: قال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: بماذا تحتج عند الله عز وجل من قتلك لمصعب? قال: إن تركت أحتج رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان.
مصعب وسكينة بنت الحسين
وقال مصعب الزبيري في خبره: قال الماجشون: فلما كان يوم قتل مصعب دخل على سكينة بنت الحسين عليهما السلام فنزع عنه ثيابه، ولبس غلالة وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سيكنة أنلا لا يريد أن يرجع فصاحت من خلفه: واحزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفى ما في قلبها منه، أوكل هذا لي في قلبك فقالت: إي والله، وما كنت أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي ولك حال، ثم خرج ولم يرجع.
قال مصعب: وحدثني مصعب بن عثمان: أن مصعب بن الزبير لما قدمت عليه سكينة أعطى أخاها علي بن الحسين عليهم السلام -وهو كان حملها إليه- أربعين ألف دينار.
قال مصعب: وحدثني معاوية بن بكر الباهلي قال: قالت سكينة: دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة. قال: وكانت قد ولدت منه بنتا، فقال لها: سميها زبراء، فقالت: بل أسميها باسم بعض أمهاتي، فسمتها الرباب.
قال: فحدثني محمد بن سلام، عن شعيب بن صخر، عن أمه سعدة بنت عبد الله بن سالم، قالت: لقيت سكينة بنت الحسين بين مكة ومنى فقالت: قفي يا بنت عبد الله، ثم كشفت عن ابنتها فإذا هي قد أثقلتها باللؤلؤ. فقالت: والله ما ألبستها إياه إلا لتفضحه، قال: فلما قتل مصعب ولي أمر ماله عروة بن الزبير، فزوج ابنه عثمان بن عروة ابنة أخيه من سكينة وهي صغيرة فماتت قبل أن تبلغ، فورث عثمان بن عروة منها عشرة آلاف دينار.
قال: ولما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك فقالت: والله لا يتزوجني بعده قاتله أبدا. وتزوجت عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ودخلت بينها وبينه رملة بنت الزبير أخت مصعب حتى تزوجها خوفا من أن تصير إلى عبد الملك، فولدت منه ابنا فسمته عثمان -وهو الذي يلقب بقرين- وربيحة ابني عبد الله بن عثمان، فتزوج ربيحة العباس بن الوليد بن عبد الملك.
عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا
ثم مات عبد الله بن عثمان عنها فتزوجها زيد بن عمر بن عثمان بن عفان، فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا: صوت
إن الزرية يوم مسكن والمصيبة والفجيعه
يا بن الحواري الذي لم يعــده يوم الـــوقـــيعـــه
غدرت بـه مـضــر الـــعـــرا ق وأمـكـنـت مـنـه ربــيعـــه
تالـلـه لــو كـــانـــت لـــه بالـدير يوم الـــدير شـــيعـــه
لو وجـــدتـــمـــوه حـــين يد لج لا يعـرس بـالـمـضــيعـــه غناه يونس الكاتب من كتابه، ولحنه خفيف رمل بالوسطى، وفيه لموسى شهوات خفيف رمل بالبنصر عن حبش، وقيل: بل هو هذا اللحن، وغلط من نسبه إلى موسى.
وقال عدي بن الرفاع العاملي يذكر مقتله:
لعمري لقد أصحرت خلينا بأكناف دجلة للمصعـب
يهزون كل طويل القـنـا ة معتدل النصل والثعلـب
فداؤك أمي وأبـنـاؤهـا وإن شئت زدت عليهم أبي
وما قلتها رهـبة إنـمـا يحل العقاب على المذنب
إذا شئت دافعت مستقتـلا أزاحم كالجمل الأجـرب
فمن يك منا يبـت آمـنـا ومن يك من غيرنا يهرب غناه معبد من رواية إسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
صفحة : 2139
ابن قيس يرثي مصعبا
وقال ابن قيس يرثي مصعبا:
لقد أورث المصرين خزيا وذلة قتيل بدير الجاثلـيق مـقـيم
فما قاتلت في الله بكر بن وائل ولا صبرت عند اللقاء تمـيم
ولكنه رام القـيام ولـم يكـن لها مضـري يوم ذاك كـريم مصعب يسأل عن قتل الحسين
قال الزبير: وكان مصعب لما قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن علي عليهما السلام وعن قتله، فجعل عروة بن المغيرة يحدثه عن ذلك، فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة:
فإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التـأسـيا قال عروة: فعلمت أن مصعبا لا يفر أبدا.
الحجاج يتأسى بموقف مصعب
قال الزبير: وقال أبو الحكم بن خلاد بن قرة السدوسي: حدثني أبي، قال: لما كان يوم السبخة حين عسكر الحجاج بإزاء شبيب الشاري قال له الناس: لو تنحيت أيها الأمير عن هذه السبخة? فقال لهم: ما تنحوني -والله- إله أنتن، وهل ترك مصعب لكريم مفرا? ثم تمثل قول الكلحبة:
إذا المرء لم يغش المكارة أوشكت حبال الهوينى بالفتى أن تقطعـا خطبة عبد الله بعد مقتل مصعب
قال الزبير: وحدثني المدائني، عن عوانة والشرقي بن القطامي، عن أبي جناب، قال: حدثني شيخ من أهل مكة، قال: لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياما حتى تحدثت به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم، فنظرت إليه والكآبة على وجهه، وجبينه يرشح عرقا، فقلت لآخر إلى جنبي: ما له لا يتكلم? أتراه يهاب المنطق? فوالله إنه لخطيب، فما تراه يهاب? قال: أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب فهو يفظع لذكره، وغير ملوم فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر ومالك الدنيا والآخرة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ألا إنه لم يذل والله من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا، ولم يعز من كان الباطل معه، وإن كان في العدة والعدد والكثرة، ثم قال: إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعبا قتل رحمة الله عليه ومغفرته، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر. وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأن الله عز وجل جاعل لنا وله ذلك خيرة إن شاء الله تعالى. إن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره، أسلموه إسلام النعم المخطم فقتل، ولئن قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلا، قعصا بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف وليس كما يموت بنو مروان، والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام قط، وإنما الدنيا عارية من الملك القهار، الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.
رجل من بني أسد يرثي مصعبا
وقال رجل من بني أسد بن عبد العزى يرثي مصعبا:
لعمرك إن الموت منا لمـولـع بكل فتى رحب الـذراع أريب
فإن يك أمسى مصعب نال حتفه لقد كان صلب العود غير هيوب
جميل المحيا يوهن القرن غربه وإن عضه دهر فغير رهـوب
أتاه حمام الموت وسط جـنـوده فطاروا شلالا واستقى بذنـوب
ولو صبروا نالوا حبـا وكـرامة ولكنهم ولو بـغـير قـلـوب كان مصعب أشجع الناس
قال: وقال عبد الملك يوما لجلسائه: من أشجع الناس? فأكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمة الحميد بنت عبد الله بن عاصم، وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلت له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده، فأبى قبول ذلك، وطرح كل ما كان مشغوفا به وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قرما يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريما.
ابن قيس الرقيات يمدح مصعبا أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال:
صفحة : 2140
لما ولي مصعب بن الزبير العراق أقر عبد العزيز بن عبد الله بن عامر على سجستان وأمده بخيل، فقال ابن قيس الرقيات:
ليت شـــعـــري أأول الـــهـــرج هـــذا أم زمـان مـن فــتـــنة غـــير هـــرج?
إن يعـش مـصـعـب فـنـحـــن بـــخـــير قد أتـانـا مـن عـيشـنـا مـــا نـــرجـــي
أعطي النصر والمهابة في الأعداء حتى أتوه من كل فج
حيث لم تأت قبله خيل ذي الأكتاف يوجفن بين قف ومرج
ملك يطعم الطعام ويسقى لبـن الـبـخـت فـي عـسـاس الـخـلــنـــج قال الزبير: حدثني عمي مصعب: أن عبيد الله بن قيس كان عند عبد الملك، فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت، فقال عبد الملك: يا بن قيس، أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها:
ملك يطعم الطعـام ويسـقـي لبن البخت في عساس الخلنج? فقال: لا أين يا أمير المؤمنين، لو طرحت عساسك هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه، فضحك عبد الملك ثم قال: قاتلك الله يا بن قيس، فإنك تأبى إلا كرما ووفاء.
قصة يونس الكاتب والوليد بن يزيد حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن الطيب، قال: قال لي أحمد ابن إبراهيم بن إسماعيل بن داود: خرج يونس الكاتب من المدينة يريد الشام بتجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأتته رسله وهو في الخان، وذلك في خلافة هشام، والوليد يومئذ أمير، فقالوا له: أجب الأمير، قال: فذهبت معهم، فأدخلوني عليه ولا أدري من هو إلا أنه حسن الوجه نبيل، فسلمت عليه، فأمرني بالجلوس فجلست، ودعا بالشراب والجواري، فكنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب، وغنيته فأعجبه غنائي، وكان مما أعجبه:
ليت شعري أأول الهرج هـذا أم زمان من فتنة غير هرج? فلم يزل يستعيده إلى الصبح، ثم اصطبح عليه ثلاثة أيام، فقلت: أيها الأمير، أنا رجل تاجر قدمت هذا البلد في تجارة لي، وقد ضاعت، فقال: تخرج غدا غدوة وقد ربحت أكثر من تجارتك. وتمم شربه، فلما أردت الانصراف لحقني غلام من غلمانه بثلاثة آلاف دينار، فأخذتها ومضيت، فلما أفضت الخلافة إليه أتيته، فلم أزل مقيما عنده حتى قتل.
قال أحمد بن الطيب -وذكر مصعب الزبيري- أن يونس قال: كنت أشرب مع أصحاب لي فأردت أن أبول، فقمت وجلست أبول على كثيب رمل، فخطر ببالي قول ابن قيس:
ليت شعري أأول الهرج هذا فغنيت فيه لحنا استحسنته وجاء عجبا من العجب، فألقيته على جاريتي عاتكة، ورددته حتى أخذته، وشاع لي في الناس ، فكان أول صوت شاع لي وارتفع به قدري وقرنت بالفحول من المغنين، وعاشرت الخلفاء من أجله، وأكسبني مالا جليلا.
صوت
ألا ناد جيراننا يقصـدوا فنقضى اللبانة أو نعهد
كأن على كبدي جمـرة حذارا من البين ما تبرد الشعر لكثير، والغناء لأشعب المعروف بالطمع ، ثاني ثقيل بالوسطى، وفي البيت الثاني لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن حبش.
ذكر أشعب وأخباره
نسبه
هو أشعب بن جبير، واسمه شعيب، وكنيته أبو العلاء، كان يقال لأمه: أم الخلندج، وقيل: بل أم جميل، وهي مولاة أسماء بنت أبي بكر واسمها حميدة . وكان أبوه خرج مع المختار بن أبي عبيدة ، وأسره مصعب فضرب عنقه صبرا، وقال: تخرج علي وأنت مولاي? ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبي طالب، وتولت تربيته وكفلته عائشة بنت عثمان بن عفان.
وحكي عنه أنه حكى عن أمه أنها كانت تغري بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها زنت فحلقت وطيف بها، وكانت تنادي على نفسها: من رآني فلا يزنين ، فقالت لها امرأة كانت تطلع عليها: يا فاعلة، نهانا الله عز وجل عنه فعصيناه، أو نطيعك وأنت مجلودة محلوقة راكبة على جمل.
أمه كانت مستظرفة من زوجات النبي
وذكر رضوان بن أحمد الصيدلاني فيما أجاز لي روايته عنه، عن يوسف بن الداية، عن إبراهيم بن المهدي: أن عبيدة بن أشعث أخبره -وقد سأله عن أولهم وأصلهم- أن أباه وجده كانا موليي عثمان، وأن أمه كانت مولاة لأبي سفيان بن حرب، وأن ميمونة أم المؤمنين أخذتها معها لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تدخل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيستظرفنها، ثم إنها فارقت ذلك وصارت تنقل أحاديث بعضهن إلى بعض وتغري بينهن، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليها فماتت.
صفحة : 2141
وذكروا أنه كان مع عثمان -رضي الله عنه- في الدار، فلما حصر جرد مماليكه السيوف ليقاتلوا، فقال لهم عثمان: من أغمد سيفه فهو حر، قال أشعب: فلما وقعت والله في أذني كنت أول من أغمد سيفه، فأعتقت.
سن أشعب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني إسحاق الموصلي، قال: حدثني الفضل بن الربيع، قال: كان أشعب عند أبي سنة أربع وخمسين ومائة، ثم خرج إلى المدينة فلم يلبث أن جاء نعيه. وهو أشعب بن جبير، وكان أبوه مولى لآل الزبير، فخرج مع المختار، فقتله مصعب صبرا مع من قتل.
أخبرني الجوهري، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل اليزيدي، قال: حدثني التوزي، عن الأصمعي، قال: قال أشعث: نشأت أنا وأبو الزناد في حجر عائشة بنت عثمان، فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عبيد الله بن الحسن والي المأمون على المدينة، قال: حدثني محمد بن عثمان بن عفان قال: قلت لأشعب: لي إليك حاجة، فحلف بالطلاق لابنة وردان : لا سألته حاجة إلا قضاها، فقلت له: أخبرني عن سنك، فاشتد ذلك عليه حتى ظننت أنه سيطلق، فقلت له: على رسلك، وحلفت له إني لا أذكر سنه ما دام حيا، فقال لي: أما إذ فعلت فقد هونت علي، أنا والله حيث حصر جدك عثمان بن عفان، أسعى في الدار ألتقط السهام، قال الزبير : وأدركه أبي.
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني محمد بن عبد الله اليعقوبي، عن الهيثم بن عدي، قال: قال أشعب: كنت ألتقط السهام من دار عثمان يوم حوصر، وكنت في شبيبتي ألحق الحمر الوحشية عدوا.
أمه يطاف بها بعد أن بغت
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الجهم أبو مسلم وأحمد بن إسماعيل، قالا: أخبرنا المدائني، قال: كان أشعب الطامع -واسمه شعيب- مولى لآل الزبير من قبل أبيه، وكانت أمه مولاة لعائشة بنت عثمان بن عفان؛ وكانت بغت فضربت وحلقت وطيف بها وهي تنادي: من رآني فلا يزنين، فأشرفت عليها امرأة فقالت: يا فاعلة، نهانا الله عز وجل عن الزنا فعصيناه، ولسنا ندعه لقولك وأنت محلوقة مضروبة يطاف بك.
أخبرني أحمد، قال: حدثنا أحمد بن مهرويه، قال: كتب إلي ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد الله أخبره، قال: اسم أشعب شعيب، ويكنى أبا العلاء، ولكن الناس قالوا أشعب فبقيت عليه، وهو شعيب بن جبير مولى آل الزبير، وهم يزعمون اليوم أنهم من العرب، فزعم أشعب أن أمه كانت تغري بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهم، وامرأة أشعب بنت وردان، ووردان الذي بنى قبر النبي صلى الله عليه وسلم حين بنى عمر بن عبد العزيز المسجد.
كان أشعب حسن الصوت بالقرآن
أخبرني أحمد قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: وكتب إلي ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد الله أخبره، قال: كان أشعب من القراء للقرآن، وكان قد نسك وغزا، وكان حسن الصوت بالقرآن، وربما صلى بهم القيام.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد القاسم، قال: حدثني أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغني أصواتا فيجيدها، وفيه يقول عبد الله بن مصعب الزبيري: صوت
إذا تمـززت صـراحـية كمثل ريح المسك أو أطيب
ثم تغنى لي بـأهـزاجـه زيد أخو الأنصار أو أشعب
حسبت أني ملك جـالـس حفت به الأملاك والموكب
وما أبالـي وإلـه الـورى أشرق العالم أم غـربـوا غنى في هذه الأبيات زيد الأنصاري خفيف رمل بالبنصر.
وقد روى أشعب الحديث عن جماعة من الصحابة: أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد أن الربيع بن ثعلب حدثهم، قال: حدثني أبو البحتري: حدثني أشعب، عن عبد الله بن جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت(.
أشعب وسالم بن عبد الله
صفحة : 2142
قال ابن أبي سعد، وروي عن محمد بن عباد بن موسى، عن عتاب بن إبراهيم ، عن أشعب الطامع -قال عتاب: وإنما حملت هذا الحديث عنه لأنه عليه- قال: دخلت إلى سالم بن عبد الله بستانا له فأشرف علي وقال: يا أشعب، ويلك لا تسأل، فإني سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )ليأتين أقوام يوم القيامة ما في وجوههم مزعة لحم ، قد أخلقوها بالمسألة(.
ويروى عن يزيد بن موهب الرملي ، عن عثمان بن محمد، عن أشعب، عن عبد الله بن جعفر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه.
أخبرني أحمد، قال: حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني الأصمعي، عن أشعب، قال: استنشدني ابن لسالم بن عبد الله بن عمر غناء الركبان بحضرة أبيه سالم فأنشدته، ورأس أبيه سالم في بت فلم ينكر ذلك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أبو مسلم، عن عبد الرحمن بن الحكم ، عن المدائني، قال: دفعت عائشة بنت عثمان في البزازين فقالت له بعد حول: أوجهت لشيء? قال: نعم، تعلمت نصف العمل وبقي نصفه، قالت: وما تعلمت? قال: تعلمت النشر وبقي الطي.
أشعب يدعو الله أن يذهب عنه الحرص
ثم يستقيل ربه
قال المدائني: وقال أشعب: تعلقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عني الحرص والطلب إلى الناس، فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطني أحد شيئا، فجئت إلى أمي فقال: ما لك قد جئت خائبا? فأخبرتها، فقالت: لا والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك، فرجعت فقلت: يا رب أقلني، ثم رجعت، فلم أمر بمجلس لقريش وغيرهم إلا أعطوني ووهب لي غلام، فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء، فقالت: ما هذا الغلام? فخفت أن أخبرها بالقصة فتموت فرحا، فقلت: وهبوا لي، قالت: أي شيء? قلت: غين، قالت: أي شيء غين? قلت: لام، قالت: وأي شيء لام? قلت: ألف، قالت: وأي شيء ألف? قلت: ميم، قالت: وأي شيء ميم? قلت: غلام. فغشي عليها. ولو لم أقطع الحروف لماتت الفاسقة فرحا.
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثني العباس بن ميمون، قال: سمعت الأصمعي، يقول: سمعت أشعب يقول : سمعت الناس يموجون في أمر عثمان. قال الأصمعي: ثم أدرك المهدي.
صفته
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق بن سعيد الربيع ، قال: حدثني عند بن حمدان الأرقمي المخزومي، قال: أخبرني أبي، قال: كان أشعب أزرق أحول أكشف أقرع .
قال: وسمعت الأرقمي يقول: كان أشعب يقول: كنت أسقي الماء في فتنة عثمان بن عفان. والله أعلم.
أشعب والدينار
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا عيسى بن موسى، قال: حدثنا الأصمعي، قال: أصاب أشعب دينارا بالمدينة، فاشترى به قطيفة، ثم خرج إلى قباء يعرفها، ثم أقبل علي فيما أحسب -شك أبو يحيى- فقال: أتراها تعرف.
قال أحمد: وحدثناه أبو محمد بن سعد، قال: حدثني أحمد بن معاوية بن بكر، قال: حدثني الواقدي، قال: كنت مع أشعب نريد المصلى، فوجد دينارا، فقال لي: يا بن واقد، قلت: ما تشاء? قال: وجدت دينارا فما أصنع به? قال: قلت: عرفه، قال: أم العلاء إذا طالق، قال: قلت: فما تصنع به إذا? قال: أشتري به قطيفة أعرفها.
قال: وحدثني محمد بن القاسم، قال: وحدثنيه محمد بن عثمان الكريزي، عن الأصمعي: أن أشعب وجد دينارا فتخرج من أخذه دون أن يعرفه، فاشترى به قطيفة، ثم قام على باب المسجد الجامع فقال: من يتعرف الوبدة ? أخبرني أحمد الجوهري، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: سألت العنزي، فقال: الوبد من كل شيء: الخلق؛ وبد الثوب وومد إذا أخلق.
أشعب يطرب الناس بغنائه
أخبرنا أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا عيسى بن موسى، قال: حدثنا الأصمعي، قال: رأيت أشعب يغني وكأنه صوته صوت بلبل.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن عبد الله في رفقة فيها ألف محمل، وكان ثم قاص يقص عليهم، فجئت فأخذت في أغنية من الرقيق، فتركوه وأقبلوا إلي، فجاء يشكوني إلى سالم فقال: إن هذا صرف وجوه الناس عني، قال: وأتيت سالما -وأحسبه قال- والقاسم، فسألتهما بوجه الله العظيم، فأعطياني، وكانا يبغضانني أو أجدهما يبغضني في الله، قال: قلنا: لا تجعل هذا في الحديث، قال: بلى.
صفحة : 2143
حدثنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: وحدثناه قعنب بن محرز الباهلي، قال: أخبرنا الأصمعي، عن أشعب، قال: قدم علينا قاص كوفي يقص في رفقته، وفيها ألف بعير، فخرجنا وأحرمنا من الشجرة بالتلبية، فأقبل الناس إلي وتركوه. قال: ابن أم حميد، فجاء إلي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، فقال: إن مولاك هذا قد ضيق علي معيشتي.
أشعب وزياد بن عبد الله الحارثي
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم، عن المدائني، قال: تغدى أشعب مع زياد بن عبد الله الحارثي، فجاءوا بمضيرة ، فقال أشعب لخباز: ضعها بين يدي، فوضعها بين يديه، فقال زياد: من يصلي بأهل السجن? قال: ليس لهم إمام، قال: أدخلوا أشعب يصلي بهم، قال أشعب: أو غير ذلك أصلح الله الأمير? قال: وما هو? قال: أحلف ألا آكل مضيرة أبدا.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: قعنب بن المحرز، قال: حدثنا الأصمعي، قال: ولى المنصور زياد بن عبد الله الحارثي مكة والمدينة، قال أشعب: فلقيته بالجحفة فسلمت عليه، قال: فحضر الغداء، وأهدي إليه جدي فطبخه مضيرة، وحشيت القبة قال: فأكلت أكلا أتملح به، وأنا أعرف صاحبي، ثم أتي بالقبة، فشققتها، فصاح الطباخ: إنا لله شق القبة، قال: فانقطعت، فلما فرغت قال: يا أشعب هذا رمضان قد حضر، ولا بد أن تصلي بأهل السجن، قلت: والله ما أحفظ من كتاب الله إلا ما أقيم به صلاتي، قال: لا بد منه، قال: قلت: أو لا آكل جديا مضيرة? قال: وما أصنع به وهو في بطنك? قال: قلت: الطريق بعيد أريد أن أرجع إلى المدينة، قال: يا غلام، هات ريشة ذنب ديك -قال أشعب: والجحفة أطول بلاد الله ريشة ذنب ديك- قال: فأدخلت في حلقي فتقيأت ما أكلت، ثم قال لي: ما رأيك? قال: قلت: لا أقيم ببلدة يصاح فيها: شق القبة، قال: لك وظيفة على السلطان وأكره أن أكسرها عليك، فقل ولا تشطط قال: قلت: نصف درهم كراء حمار يبلغني المدينة، قال: أنصفت وأعطانيه.
من طرائف أشعب
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرني أبو مسلم، عن المدائني، قال: أتي أشعب بفالوذجة عند بعض الولادة، فأكل منها، فقيل له: كيف تراها يا أشعب? قال: امرأته طالق إن لم تكن عملت قبل أن يوحي الله عز وجل إلى النحل.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثنا عبد الله بن شعيب الزبيري ، عن عمه. قال أبو بكر: وحدثني ابن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن شعيب وهو أتم من هذا وأكثر كلاما، قال: جاء أشعب إلى أبي بكر بن يحيى من آل الزبير، فشكا إليه، فأمر له بصاع من تمر، وكانت حال أشعب رثة، فقال له أبو بكر بن يحيى: ويحك يا أشعب أنت في سنك وشهرتك تجيء في هذه الحال فتضع نفسك فتعطى مثل هذا? اذهب فادخل الحمام فاخضب لحيتك، قال أشعب: ففعلت، ثم جئته فألبسني ثياب صوف له وقال: اذهب الآن فاطلب، قال: فذهبت إلى هشام بن الوليد صاحب البغلة من آل أبي ربيعة، وكان رجلا شريفا موسرا، فشكا إليه فأمر له بعشرين دينارا، فقبضها أشعب وخرج إلى المسجد، وطفق كلما جلس في حلقة يقول: أبو بكر بن يحيى، جزاه الله عني خيرا، أعرف الناس بمسألة، فعل بي وفعل، فيقص قصته، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: يا عدو نفسه فضحتني في الناس، أفكان هذا جزائي.
أخبرنا أحمد، قال: قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرني محمد بن الحسين بن عبد الحميد، قال: حدثني شيخ أنه نظر إلى أشعب بموضع يقال له الفرع يبكي وقد خضب بالحناء، فقالوا: يا شيخ ما يبكيك? قال: لغربة هذا الجناح، وكان على دار واحدة ليس بالفرع غيره.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني محمد بن الحسين، قال: حدثني أبي، قال: نظرت إلى أشعب يسلم على رسول الله )صلى الله عليه وسلم قال: وهو يدعو ويتضرع، قال: فأدمت نظري إليه، فكلما أدمت النظر إليه كلح وبث أصابعه في يده بحذائي حتى هربت فسألت عنه فقالوا: هذا أشعب.
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عجلان الفهري، قال: إن أشعب مر برش قد رش من الليل في بعض نواحي المدينة فقال: كأن هذا الرش كساء برنكاني فلما توسطه قال: أظنني والله قد صدقت، وجلس يلمس الأرض.
صفحة : 2144
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا بعض المدنيين، قال: كان لأشعب خرق في بابه، فينام ويخرج يده من الخرق ويطمع أن يجيء إنسان فيطرح في يده شيئا؛ من الطمع.
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري، قال: صلى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، وكان مروان عظيم الخلق والعجيزة، فأفلتت منه ريح عند نهوضه، لها صوت، فانصرف أشعب من الصلاة، فوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح، فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له: الدية، فقال: دية ماذا? فقال: دية الضرطة التي تحملتها عنك، والله وإلا شهرتك، فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحا.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثني إبراهيم بن الجنيد، قال: حدثني سوار بن عبد الله ، قال: حدثني مهدي بن سليمان المنقري مولى لهم، عن أشعب، قال: دخلت على القاسم بن محمد وكان يبغضني في الله وأحبه فيه، فقال: ما أدخلك علي? اخرج عني، فقلت: أسألك بالله لما جددت عذقا، قال: يا غلام، جد له عذقا، فإنه سأل بمسألة لا يفلح من ردها أبدا.
أخبرنا أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا الرياشي، قال: حدثني أبو سلمة أيوب بن عمر، عن المحرزي، وهو أيوب بن عباية أبو سليمان، قال: كان لأشعب علي في كل سنة دينار، قال: فأتاني يوما ببطحان فقال: عجل لي ذلك الدينار، ثم قال: لقد رأيتني أخرج من بيتي فلا أرجع شهرا مما آخذ من هذا وهذا وهذا.
بين أشعب وابنه
أخبرنا أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، قال: سمعت أبي يحكي عن بعض المدنيين، قال: كبر أشعب فمله الناس وبرد عندهم، ونشأ ابنه فتغنى وبكى وأندر ، فاشتهى الناس ذلك، فأخصب وأجدب أبوه، فدعاه يوما وجلس هو وعجوزه، وجاء ابنه وامرأته فقال له: بلغني أنك قد تغنيت وأندرت وحظيت ، وأن الناس قد مالوا إليك فهلم حتى أخايرك ، قال: نعم، فتغنى أشعب فإذا هو قد انقطع وأرعد، وتغنى ابنه فإذا هو حسن الصوت مطرب، وانكسر أشعب ثم أندر فكان الأمر كذلك، ثم خطبا فكان الأمر كذلك، فاحترق أشعب فقام فألقي ثيابه، ثم قال: نعم، فمن أين لك مثل خلقي? من لك بمثل حديثي? قال: وانكسر الفتى، فنعرت العجوز ومن معها.
حديثه عن وفاة بنت الحسين بن علي
أخبرني أحمد، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثني علي بن الحسين بن هارون، قال: حدثني محمد بن عباد بن موسى، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر بن سليمان وكان جارنا هنا، قال: دخلت على جعفر بن سليمان وعند أشعب يحدثه قال:
صفحة : 2145
كانت بنت حسين بن علي عند عائشة بنت عثمان تربيها حتى صارت امرأة، وحج الخليفة فلم يبق في المدينة خلق من قريش إلا وافى الخليفة إلا من لا يصلح لشيء، فماتت بنت حسين بن علي، فأرسلت عائشة إلى محمد بن عمرو بن حزم وهو والي المدينة، وكان عفيفا حديدا عظيم اللحية، له جارية موكلة بلحيته إذا ائتزر لا يأتزر عليها، وكان إذا جلس للناس جمعها ثم أدخلها تحت فخذه. فأرسلت عائشة: يا أخي قد ترى ما دخل علي من الصيبة بابنتي، وغيبة أهلي وأهلها، وأنت الوالي، فأما ما يكفي النساء من النساء فأنا أكفيكه بيدي وعيني، وأما ما يكفي الرجال من الرجال فاكفنيه، مر بالأسواق أن ترفع، وأمر بتجويد عمل نعشها، ولا يحملها إلا الفقهاء الألباء من قريش بالوقار والسكينة، وقم على قبرها ولا يدخله إلا قرابتها من ذوي الحجا والفضل، فأتى ابن حزم رسولها حين تغدى ودخل ليقيل، فدخل عليه فأبلغه رسالتها، فقال ابن حزم لرسولها: أقرئ ابنة المظلوم السلام وأخبرها أني قد سمعت الواعية وأردت الركوب إليها فأمسكت عن الركوب حتى أبرد، ثم أصلي، ثم أنفذ كل ما أمرت به. وأمر حاجبه وصاحب شرطته برفع الأسواق، ودعا الحرس وقال: خذوا السياط حتى تحولوا بين الناس وبين النعش إلا ذوي قرابتها بالسكينة والوقار، ثم نام وانتبه وأسرج له، واجتمع كل من كان بالمدينة، وأتى باب عائشة حين أخرج النعش، فلما رأى الناس النعش التقفوه، فلم يملك ابن حزم ولا الحرس منه شيئا، وجعل ابن حزم يركض خلف النعش ويصيح بالناس من السفلة والغوغاء: اربعوا أي ارفقوا فلم يسمعوا، حتى بلغ بالنعش القبر، فصلى عليها، ثم وقف على القبر فنادى: من ها هنا من قريش? فلم يحضره إلا مروان بن أبان بن عثمان، وكان رجلا عظيم البطن بادنا لا يستطيع أن ينثني من بطنه، سخيف العقل، فطلع وعليه سبعة قمص، كأنها درج، بعضها اقصر من بعض ورداء عدني يثمن ألف درهم، فسلم وقال له ابن حزم: أنت لعمري قريبها، ولكن القبر ضيق لا يسعك، فقال: أصلح الله الأمير إنما تضيق الأخلاق. قال ابن حزم: إنا لله، ما ظننت أن هذا هكذا كما أرى، فأمر أربعة فأخذوا بضبعه حتى أدخلوه في القبر، ثم أتى خراء الزنج، وهو عثمان بن عمرو بن عثمان فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، ثم قال: واسيدتاه وابنت أختاه فقال ابن حزم: تالله لقد كان يبلغني عن هذا أنه مخنث، فلم أكن أرى أنه بلغ هذا كله، دلوه فإنه عورة هو والله أحق بالدفن منها، فلما أدخلا قال مروان لخراء الزنج: تنح إليك شيئا فقال له خراء الزنج: الحمد لله رب العالمين، جاء الكلب الإنسي يطرد الكلب الوحشي، فقال لهما ابن حزم: اسكتا قبحكما الله وعليكما اللعنة، أيكما الإنسي من الوحشي، والله لئن لم تسكتا لآمرن بكما تدفنان، ثم جاء خال للجارية من الحاطبيين وهو ناقة من مرض لو أخذ بعوضة لم يضبطها فقال: أنا خالها وأمي سودة وأمها حفصة، ثم رمى بنفسه في القبر، فأصاب ترقوة خراء الزنج فصاح: أوه ألح الله الأمير دق والله عرقوبي، فقال ابن حزم: دق الله عرقوبك، وترقوتك اسكت ويلك، ثم أقبل على أصحابه فقال: ويحكم إني خبرت أن الجارية بادن، ومروان لا يقدر أن ينثني من بطنه، وخراء الزنج مخنث لا يعقل سنة ولا دفنا، وهذا الحاطبي لو أخذ عصفورا لم يضبطه لضعفه، فمن يدفن هذه الجارية? والله ما أمرتني بهذا بنت المظلوم، فقال له جلساؤه: لا والله ما بالمدينة خلق من قريش، ولو كان في هؤلاء خير لما بقوا، فقال: من هاهنا من مواليهم? فإذا أبو هانئ الأعمى وهو ظئر لها، فقال ابن حزم: من أنت رحمك الله? فادفن هؤلاء الأحياء، حتى يدلى عليك الموتى ثم أقبل على أصحابه فقال: إنا لله -وهذا أيضا أعمى لا يبصر، فنادوا: من ها هنا من مواليهم فإذا برجل يزيدي يقال له أبو موسى قد جاء، فقال له ابن حزم: من أنت أيضا? قال: أنا أبو موسى صالمين، وأنا بن السميط سميطين والسعيد سعيدين، والحمد لله رب العالمين، فقال ابن حزم: والله العظيم لتكونن لهم خامسا، رحمك الله يا بنت رسول الله، فما اجتمع على جيفة خنزير ولا كلب ما اجتمع على جثتك فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأظنه سقط رجل آخر .
صفحة : 2146
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثني اليعقوبي محمد بن عبد الله، قال: حدثني أبو بكر الزلال الزبيري، قال: حدثني من رأى أشعب وقد علق رأس كلبه وهو يضربه ويقول له: تنبح الهدية وتبصبص للضيف.
أرضع أشعب جديا لبن زوجته
أخبرنا أحمد، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد الزبيري أبو الطاهر، قال: حدثني يحيى بن محمد بن أبي قتيلة، قال: إذا أشعب جديا بلبن زوجته وغيرها حتى بلغ الغاية، قال: ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته: أي ابنة وردان، إن أحب أن ترضعيه لبنك. قال: ففعلت، قال: ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: بالله إنه لابني، قد رضع بلبن زوجتي وقد حبوتك به، ولم أر أحدا يستأهله سواك، قال: فنظر إسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذبح وسمط، فأقبل عليه أشعب، فقال: المكافأة، فقال: ما عندي والله اليوم شيء، ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك، فلما يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمد، ثم اندفع يشهق حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلني، قال: ما معنا أحد يسمع لا عين عليك، قال: وثب ابنك إسماعيل على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه، قال: فارتاع جعفر وصاح: ويلك وفيم? وتريد ماذا? قال: أما ما أريد فوالله ما لي إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا وأدخله منزله، وأخرج إليته مائتي دينار وقال له: خذ هذه ولك عندما ما تحب، قال: وخرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مترسل في مجلسه، فلما رأى وجه أبيه نكره، وقام إليه، فقال: يا إسماعيل أو فعلتها بأشعب? قتلت ولده، قال: فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته كذا، وخبره الخبر، فأخبره أبوه ما كان منه وصار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعبتني رعبك الله فيقول: روعة ابنك والله إياي في الجدي أكبر من روعتك أنت في المائتي دينار.
حزن أشعب لوفاة خالد بن عبد الله
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن إسحاق المسيبي ، قال: حدثني عمير بن عبد الله بن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة -قال: وعمير لقب واسمه عبد الرحمن- عن أشعب، قال: أتيت خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ليلة أسأله، فقال لي: أنت على طريقة لا أعطي على مثلها، قلت: بلى جعلت فداءك، فقال: قم فإن قدر شيء فسيكون، قال: فقمت، فإني لفي بعض سكك المدينة، قال: كم عيالك? فأخبرته قال: قد أمرت أن أجري عليك وعلى عيالك ما كنت حيا، قال: من أمرك? قال: لا أخبرك ما كانت هذه فوق هذه، يريد السماء، وأشار إليها قال: قلت: إن هذا معروف يشكر، قال: الذي أمرني لم يرد شكرك، وهو يتمنى ألا يصل مثلك. قال: فمكثت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، قال: فشهدته قريش وحفل له الناس قال: فشهدته فلقيني ذلك الرجل فقال: يا أشعب انتف رأسك ولحيتك، هذا والله صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك، وكان والله يتنمى مباعدة مثلك، قال: فحمله والله الكرم إذ سألته أن فعل بك ما فعل، قال عمير: قال أشعب: فعملت بنفسي والله حينئذ ما حل وحرم.
أشعب في المسجد
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: كان أشعب يوما في المسجد يدعو وقد قبض وجهه فصيره كالصبرة المجموعة، فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه: يا أشعب، إذا تناجى ربك فناجه بوجه طلق، قال: فأرخى لحيه حتى وقع على زوره، قال: فأعرض عنه عامر وقال: ولا كل هذا.
جزء أشعب لحيته
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثني الزبير، قال: حدثني مصعب، قال: جز أشعب لحيته فبعث إليه نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير: ألم أقل لك إن البطال أملح ما يكون إذا طالت لحيته فلا تجزز لحيتك.
طرائف من طمعه وبخله
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائني، قال: وقف أشعب على امرأة تعمل طبق خوص فقال: لتكبريه فقالت: لم? أتريد أن تشتريه? قال: لا، ولكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إلي فيه ، فيكون كبيرا خير من أن يكون صغيرا.
صفحة : 2147
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى قال: أخبرنا المدائني، قال: قالت صديقة أشعب لأشعب: هب لي خاتمك أذكرك به، قال: اذكريني أني منعتك إياه؛ فهو أحب إلي.
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم قال: أخبرنا المدائني، قال: قال أشعب مرة للصبيان: هذا عمرو بن عثمان يقسم مالا، فمضوا، فلما أبطؤوا عنه اتبعهم؛ يحسب أن الأمر قد صار حقا كما قال.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا المدائني، قال: دعا زياد بن عبد الله أشعب فتغدى معه، فضرب بيده إلى جدي بين يديه، وكان زياد أحد البخلاء بالطعام، فغاظه ذلك، فقال لخدمه: أخبروني عن أهل السجن ألهم إمام يصلي بهم? وكان أشعب من القراء لكتاب الله تعالى، قالوا: لا، قال: فأدخلوا أشعب فصيروه إماما لهم، قال أشعب: أو غير ذلك? قال: وما هو? قال: أحلف لك -أصلحك الله- ألا أذوق جديا أبدا، فخلاه.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: رأيت أشعب بالمدينة يقلب مالا كثيرا فقلت له: ويحك ما هذا الحرص ولعلك أن تكون أيسر ممن تطلب من ، قال: إن قد مهرب في هذه المسألة، فأنا أكره أن أدعها فتنفلت مني.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك? قال: ما رأيت اثنين يتساران قط إلا كنت أراهما يأمران لي بشيء.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: قال أشعب لأمه: رأيتك في النوم مطلية بعسل وأنا مطلي بعذرة، فقالت: يا فاسق هذا عملك الخبيث كساكه الله عز وجل، قال: إن في الرؤيا شيئا آخر، قالت: ما هو? قال: رأيتني ألطعك وأنت تلطعيني ، قالت: لعنك الله يا فاسق.
أخبرنا أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: كان أشعب يتحدث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف ذلك، فقالت لها جاراتها يوما: لو سألته شيئا فإنه موسر، فلما جاء قالت: إن جاراتي ليقلن لي: ما يصلك بشيء، فخرج نافرا من منزلها، فلم يقربها شهرين، ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب، فأخرجت إليه قدحا ملآن ماء، فقالت: اشرب هذا من الفزع، فقال: اشربيه أنت من الطمع.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم وأحمد بن يحيى -واللفظ لأحمد- قال: أخبرنا المدائني عن جهم بن خلف، قال: حدثني رجل قال: قلت لأشعب: لو تحدثت عندي العشية? فقال: أكره أن يجيء ثقيل، قال: قلت: ليس غيرك وغيري، قال: فإذا صليت الظهر فأنا عندك، فضلى وجاء، فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدق الباب، فقال: ألا ترى قد صرت إلى ما أكره? قال: قلت: إن عندي فيه عشر خصال، قال: فما هي? قال: أولها أنه لا يأكل ولا يشرب، قال: التسع الخصال لك، أدخله. قال أبو مسلم :إن كرهت واحدة منها لم أدخله.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: دخل أشعب يوما على الحسين بن علي وعند أعرابي قبيح المنظر مختلف الخلقة، فسبح أشعب حين رآه، وقال للحسين عليه السلام: بأبي أنت وأمي، أتأذن لي أن أسلح عليه? فقال الأعرابي: ما شئت، ومع الأعرابي قوس وكنانة، ففوق له سهما وقال: والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها، قال أشعب للحسين: جعلت فداءك، قد أخذني القولنج .
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: ذكر أشعب بالمدينة رجلا قبيح الاسم، فقيل له: يا أبا العلاء، أتعرف فلانا? قال: ليس هذا من الأسماء التي عرضت على آدم.
وجدت في بعض الكتب، عن أحمد بن الحارث الخراز ، عن المدائني، قال: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى فقيل له: لم تركت غسل اليمنى? قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )أمتي غر محجلون من آثار الوضوء، وأنا أحب أن أكون أغر محلا مطلق اليمنى(.
وأخبرت بهذا الإسناد قال:
صفحة : 2148
سمع أشعب حبي المدينية تقول: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي، فقال لها: يا فاسقة أنت لم تسألي الله المغفرة إنما سألته عمر الأبد، يريد أنه لا يغفر لها أبدا.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا المدائني، عن فليح بن سليمان، قال: ساوم أشعب رجلا بقوس عربية فقال الرجل: لا أنقصها عن دينار، قال أشعب: أعتق ما أملك لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشويا بين رغيفين ما أخذتها بدينار.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: أهدى رجل من بني عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر بن محمد فالوذجة، وأشعب حاضر، قال: كل يا أشعب، فلما أكل منها قال: كيف تجدها يا أشعب? قال: أنا بريء من الله ورسوله إن لم تكن عملت قبل أن يوحي الله عز وجل إلى النحل، أي ليس فيها من الحلاوة شيء.
أخبرنا أحمد قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: سأل سالم بن عبد الله أشعب عن طعمه، قال: قلت لصبياني مرة: هذا سالم قد فتح باب صدقة عمر ، فانطلقوا يعطكم تمرا، فمضوا، فلما أبطؤوا ظننت أن الأمر كما قلت فاتبعتهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرني المدائني، قال: بينا أشعب يوما يتغدى إذ دخلت جارة له، ومع أشهب امرأته تأكل، فدعاها لتتغدى، فجاءت الجارة فأخذت العرقوب بما عليه -قال: وأهل المدينة يسمونه عرقوب رب البيت- قال: فقام أشعب فخرج ثم عاد فدق الباب، فقالت له امرأته: يا سخين العين ما لك قال: أدخل? قالت: أتستأذن أنت، وأنت رب البيت? قال: لو كنت رب البيت ما كانت العرقوب بين يدي هذه.
أشعب يبكي نفسه
أخبرني بعض أصحابنا، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني مصعب، قال: قال لي ابن كليب: حدثت مرة أشعب بملحة فبكى، فقلت: ما يبكيك? قال: أنا بمنزلة شجرة الموز إذا نشأت ابنتها قطعت، وقد نشأت أنت في موالي وأنا الآن أموت، فإنما أبكي على نفسي.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: كان أشعب الطمع يغني وله أصوات قد حكيت عنه، وكان ابنه عبيدة يغنيها، فمن أصواته هذه:
أروني من يقوم لكم مقامـي إذا ما الأمر جل عن الخطاب
إلى من تفزعون إذا حثـوتـم بأيديكم علي مـن الـتـراب أشعب وسكينة بنت الحسين أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا شعيب بن عبيدة بن أشعب، عن أبيه، عن جده، قال:
صفحة : 2149
كانت سكينة بنت الحسين بن علي عليهم السلام عند زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان قال: وقد كانت أحلفته ألا يمنعها سفرا ولا مدخلا ولا مخرجا فقالت: اخرج بنا إلى حمران من ناحية عسفان، فخرج بها فأقامت، ثم قالت له: اذهب بنا نعتمر، فدخل بها مكة، فأتاني آت، فقال: تقول لك ديباجة الحرم -وهي امرأة من ولد عتاب بن أسيد-: لك عشرون دينارا إن جئتني بزيد بن عمرو الليلة في الأبطح، قال أشعب: وأنا أعرف سكينة وأعلم ما هي، ثم غلب علي طباع السوء والشره، فقلت لزيد فيما بيني وبينه: إن ديباجة الحرم أرسلت إلي بكيت وكيت، فقال: عدها الله بالأبطح ، فأرسلت إليها فواعدتها الأبطح وإذا الديباجة قد افترشت بساطا في الأبطح وطرحت النمارق، ووضعت حشايا وعليها أنماط، فجلست عليها، فلما طلع زيد قامت إليه، فتلقته وسلمت عليه، ثم رجعت إلى مجلسها، فلم ننشب أن سمعنا شحيج بلغة سكينة، فلما استبانها زيد قام فأخذ بركابها، واختبأت ناحية، فقامت الديباجة إلى سكينة فتلقتها وقبلت بين عينيها، وأجلستها على الفراش، وجلست هي على بعض النمارق، فقالت سكينة: أشعب والله صاحب هذا الأمر، ولست لأبي إن لم يأت يصيح صياح الهرة لن يقوم لي بشيء أبدا، فطلعت على أربع أصيح صياح الهرة ، ثم دعت جارية معه مجمر كبير فحفنت منه وأكثرت، وصبت في حجر الديباجة، وحفنت لمن معها فصبته في حجورهن وركبت وركب زيد وأنا معهم، فلما صارت إلى منزلها قالت لي: يا أشعب أفعلتها? قلت: جعلت فداءك، إنما جعلت لي عشرين دينارا، وقد عرفت طمعي وشرهي، والله لو جعلت لي العشرين دينارا على قتل أبوي لقتلتهما، قال: فأمرت بالرحيل إلى الطائف، فأقامت بالطائف وحوطت من ورائها بحيطان ومنعت زيدا أن يدخل عليها. قال: ثم قالت لي يوما: قد أثمنا في زيد وفعلنا ما لا يحل لنا، ثم أمرت بالرحيل إلى المدينة، وأذنت لزيد فجاءها.
قال الزبير: وحدثني عبد الله بن محمد بن أبي سلمة قال: جاء أشعب إلى مجلس أصحابنا فجلس فيه، فمرت جارية لأحدهم بحزمة عراجين من صدقة عمر، فقال له أشعب: فديتك، أنا محتاج إلى حطب فمر لي بهذه الحزمة، قال: لا، ولكن أعطيك نصفها على أن تحدثني بحديث ديباجة الحرم، فكشف أشعب ثوبه عن استه واستوفز وجعل يخنس ويقول: إن لهذا زمانا ، وجعلت خصيتاه تخطان الأرض، ثم قال: أعطاني والله فلان في حديث ديباجة الحرم عشرين دينارا، وأعطاني فلان كذا ، وأعطاني فلان كذا، حتى عد أموالا، وأنت الآن تطلبها مني بنصف حزمة عراجين ثم قام فانصرف.
وفي ديباجة الحرم يقول عمر بن أبي ربيعة: صوت
ذهبت ولم تلمم بديباجة الـحـرم وقد كنت منها في عناء وفي سقم
جننت بها لما سمعت بـذكـرهـا وقد كنت مجنونا بجاراتها القـدم
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما لهوي فكن حجرا بالحزن من حرة أصم غناه مالك بن أبي السمح من رواية يونس عن حبيش .
قال الزبير: وحدثني شعيب بن عبيدة، عن أبيه، قال: دخل رجل من قريش على سكينة بنت الحسين عليهما السلام، قال: فإذا أنا بأشعب متفحج جالس تحت السرير، فلما رآني جعل يقرقر مثل الدجاجة فجعلت أنظر إليه وأعجب، فقالت: ما لك تنظر إلى هذا? قلت: إنه لعجب، قالت: إنه لخبيث، قد أفسد علينا أمورنا بغباوته، فحضنته بيض دجاج، ثم أقسمت أنه لا يقوم عنه حتى ينفق . وهذا الخبر عندنا مشروح، ولكن هذا ما سمعناه، ونسخته على الشرح من أخبار إبراهيم بن المهدي التي رواها عنه يوسف بن إبراهيم، وقد ذكر في أخبار سكينة.
وروى عن أحمد بن الحسن البزاز: وجدت بخط ابن الوشاء، عن أبي الوشاء، عن الكديمي، عن أبي عاضم قال: قيل لأشعب الطامع: أرأيت أحدا قط أطمع منك، قال: نعم كلبا يتبعني أربعة أميال على مضغ العلك .
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، وعمي عبد العزيز بن أحمد ، وحبيب بن نصر المهلبي، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب، عن عثمان بن المنذر، عن عبد الله بن أبي بشر بن عثمان بن المغيرة، قال: سمعت جلبة شديدة مقبلة من البلاط، وأسرعت فإذا جماعة مقبلة، وإذا امرأة قد فرعتهم طولا، وإذا أشعب بين أيديهم بكفه دف وهو يغني به ويرقص ويحرف استه ويحركها ويقول:
ألا حي التي خجـرت قبيل الصبح فاختمرت
صفحة : 2150
يقال بعينهـا رمـد ولا والله ما رمدت فإذا تجاوز في الرقص الجماعة رجع إليهم حتى يخالطهم ويستقبل المرأة فيغني في وجهها وهي تبسم وتقول: حسبك الآن، فسألت عنها، فقالوا: هذه جارية صريم المغنية استلحقها صريم عند موته، واعترف بأنها بنته، فحاكمت ورثته إلى السطان، فقامت لها البينة فألحقها به وأعطاها الميراث منه، وكانت أحسن خلق الله غناء، كان يضرب بها المثل في الحجاز فيقال: أحسن من غناء الصريمية.
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا الدمشقي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني أبي، قال: اجتازت جنازة الصريمية بأشعب وهو جالس في قوم من قريش فبكى عليها ثم قال: ذهب اليوم الغناء كله، وعلى أنها الزانية كانت -لا رحمها الله- شر خلق الله، فقيل: يا أشعب ليس بين بكائك عليها ولعنك إياها فصل في كلامك، قال: نعم، كنا نجيئها الفاجرة بكبش، فيطبخ لنا في دارها ثم لا تعشينا -يشهد الله- إلا بسلق.
أشعب والغاضري
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا مصعب: بلغ أشعب أن الغاضري قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره، وأن جماعة قد استطابوه، فرقبه حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم فصار إليه، ثم قال له: قد بلغني أنك قد نحوت نحوي وشغلت عني من كان يألفني فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضن وجهه وعرضه وشنجه حتى صار عرضه أكثر من كوله، وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل وجهه وقال له: افعل هكذا وطول وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيفه، ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، وصار طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم نزع سراويله وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض، ثم خلاهما من يده ومشى وجعل يخنس وهما يخطان الأرض، ثم قام فتطاول وتمدد وتمطى حتى صار أطول ما يكون من الرجال، فضحك والله القوم حتى أغمي عليهم وقطع الغاضري فما تلكم بنادرة، ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء لا أعاود ما تكره، إنما أنا تلميذك وخريجك، ثم انصرف أشعب وتركه.
من أخلاق أمه
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، عن إبراهيم بن المهدي، عن عبيدة بن أشعب، عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، وأنا أباه كان من مماليك عثمان، وأن أمه كانت تنقل كلام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعضهن إلى بعض، فتلقي بينهن الشر، فتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فدعا الله عز وجل عليها فأماتها، وعمر ابنها أشعب حتى هلك في أيام المهدي.
كان من المعتزلة
وكان في أشعب خلال، منها أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة وأكثرهم نادرة، ومنها: أنه كان أحسن الناس أداء لغناء سمعه، ومنها: أنه أقوم أهل دهره بحجج المعتزلة وكان امرأ منهم.
أشعب وعبد الله بن عمر
صفحة : 2151
قال إبراهيم بن المهدي فحدثني عبيدة بن أشعب، عن أبيه، قال: بلغني أن عبد الله بن عمر كان في مال له يتصدق بثمرته، فركبت ناضحا ووافيته في ماله، فقلت: يا بن أمير المؤمنين ويا بن الفارق أوقر لي بعيري هذا تمرا، فقال لي: أمن المهاجرين أنت? قلت: اللهم لا، قال: فمن الأنصار أنت? فقلت: اللهم لا، قال: أفمن التابعين بإحسان? فقلت: أرجو، فقال: إلى أن يحقق رجاؤك، قال: أفمن أبناء السبيل أنت? قلت: لا، قال: فعلام أوقر لك بعيرك تمرا? قلت: لأني سائل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن أتاك سائل على فرس فلا ترده(، فقال: لو شئنا أن نقول لك: إنه قال: لو أتاك على فرس، ولم يقل أتاك على ناضح بعير لقلنا، ولكني أمسك عن ذلك لاستغنائي عنه؛ لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب: إذا أتاني سائل على فرس يسألني أعطيته? فقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه، فقال لي: نعم إذا لم تصب راجلا ونحن أيها الرجل نصيب رجال فعلام أعطيك وأنت على بعير? فقلت له: بحق أبيك الفاروق، وبحق الله عز وجل، وبحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوقرته لي تمرا، فقال لي عبد الله: أنا موقره لك تمرا، ووحق الله ووحق رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت لك قسمك، ولو أنك اقتصرت على استحلافي بحق أبي علي في تمرة أعطيكها لما أنفدت قسمك، لأني سمعت أبي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي بيثرب، ولا يبر امرؤ قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحق الله وحق رسوله، ثم قال للسودان في تلك الحال : أوقروا له بعيره تمرا، قال: ولما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت: إن السودان أهل الطرب، وإن أطربتهم أجادوا حشو غرائري، فقلت: يا بن الفاروق، أتأذن لي في الغناء فأغنيك? فقال لي: أنت وذلك ، فاندفعت في النصب ، فقال لي: هذا الغناء الذي لم نزل نعرفه. ثم غنيته صوتا آخر لطويس المغني وهو:
خليلي ما أخفي من الحب ناطق ودمعي بما قلت الغداة شهـيد فقال لي عبد الله: يا هناه، لقد حدث في هذا المعنى ما لم نكن نعرفه، قال: ثم غنيته لابن سريج:
يا عين جودي بالدموع السفـاح وابكي على قتلى قريش البطاح فقال: يا أشعب، ويحك، هذا يحيق الفؤاد -أراد: يحرق الفؤاد، لأنه كان ألثغ لا يبين بالراء ولا باللام. قال أشعب: وكان بعد ذلك لا يرائي إلا استعادني هذا الصوت.
من نوادره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، قال: لقي أشعب صديق لأبيه فقال له: ويحك يا أشعب، كان أبوك ألحى وأنت أنط فإلى من خرجت? قال: إلى أمي.
من حيله
أخبرني الحسن بن علي: قال: أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله، عن مصعب بن عثمان، قال:
صفحة : 2152
لقي أشعب سالم بن عبد الله بن عمر فقال: يا أشعب، هل لك في هريس قد أعد لنا? قال: نعم، بأبي أنت وأمي. قال: فصر إلي، فمضى إلى منزله، فقالت له امرأته: قد وجه إليك عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك. قال: ويحك، إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعاني إليها، وعبد الله بن عمرو في يدي متى شئت، وسالم إنما دعوته للناس فلتة، وليس لي بد من المضي إليه. قالت: إذا يغضب عبد الله، قال: آكل عنده، ثم أصير إلى عبد الله. فجاء إلى سالم وجعل يأكل أكل متعالل فقال له: كل يا أشعب وابعث ما فضل عنك إلى منزلك، قال: ذاك أردت بأبي أنت وأمي، فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله ومضى معه فجاء به امرأته فقالت له: ثكلتك أمك، قد حلف عبد الله أن لا يكلمك شهرا، قال: دعيني وإياه، هاتي شيئا من الزعفران، فأعطته ودخل الحمام يمسح وجهه ويديه وجلس في الحمام حتى صفره، ثم خرج متكئا على عصا يرعد، حتى أتى دار عبد الله بن عمرو، فلما رآه حاجبه قال: ويحك، بلغت بك العلة ما أرى? ودخل وأعلم صاحبه فأذن له، فلما دخل عليه إذا سالم بن عبد الله عنده، فجعل يزيد في الرعدة ويقارب الخطو، فجلس وما يقدر أن يستقل، فقال عبد الله: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك، فقال له سالم: ما لك ويلك ألم تكن عندي آنفا وأكلت هريسة? فقال له: وأي أكل ترى بي? قال: ويلك ألم أقل لك كيت وكيت وتقل لي كيت وكيت? قال له: شبه لك، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله إني لأظن الشيطان يتشبه بك. ويلك أجاد أنت? قال: علي وعلي إن كنت خرجت منذ شهر . فقال له عبد الله: اعزب ويحك أتبهته، لا أم لك قال: ما قلت إلا حقا، قال: بحياتي اصدقني وأنت آمن من غضبي، قال: لا وحياتك لا صدق. ثم حدثه بالقصة فضحك حتى استلقى على قفاه.
ابنه يذكر بعض طرائف أبيه
أخبرني رضوان بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم، عن إبراهيم بن المهدي: أن الرشيد لما ولاه دمشق بعث إليه عبد الله بن أشعب، وكان يقدم عليه من الحجاز إذا أراد أن يطرب.
قال إبراهيم: وكان يحدثني من حديث أبيه بالطرائف: عادلته يوما وأنا خارج من دمشق في قبة على بغل لألهو بحديثه، فأصابنا في الطريق برد شديد فدعوت بدواج سمور لألبسه، فأتيت به فلما لبسته أقبلت على ابن أشعب فقلت: حدثني بشيء من طمع أبيك. فقال لي: ما لك ولأبي، ها أنا إذا دعوت بالدواج فما شككت والله في أنك إنما جئت به لي، فضحكت من قوله، ودعوت بغيره فلبسته وأعطيته إياه، ثم قلت له: ألأبيك ولد غيرك? فقال: كثير، فقلت: عشرة? قال: أكثر، قلت: فخمسون? قال: أكثر كثير، قلت: مائة? قال: دع المئين وخذ الألوف، فقلت: ويلك أي شيء تقول? أشعب أبوك ليس بينك وبينه أب، فكيف يكون له ألوف من الولد? فضحك ثم قال: لي في هذا خبر ظريف، فقلت له: حدثني به، فقال: كان أبي منقطعا إلى سكينة بنت الحسين، وكانت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان وكانت محبة له، فكان لا يستقر معها، تقول له: أريد الحج فيخرج معها، فإذا أفضوا إلى مكة تقول: أريد الرجوع إلى المدينة، فإذا عاد إلى المدينة، قالت: أريد العمرة، فهو معها في سفر لا ينقضي. قال عبد الله: فحدثني أبي قال:
صفحة : 2153
كانت قد حلفته بما لا كفارة له ألا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يلم بنسائه وجواريه إلا بإذنها، وحج الخليفة في سنة من السنين فقال لها: قد حج الخليفة ولا بد لي من لقائه، قالت: فاحلف بأنك لا تدخل الطائف، ولا تلم بجواريك على وجه ولا سبب، فحلف لها بما رضيت به من الإيمان على ذلك، ثم قالت له: احلف بالطلاق، فقال: لا أفعل، ولكن ابعثي معي بثقتك، فدعتني وأعطتني ثلاثين دينارا وقالت لي: اخرج معه، وحلفتني بطلاق بنت وردان زوجتي ألا أطلق له الخروج إلى الطائف بوجه ولا سبب، لحلفت لها بما أثلج صدرها، فأذنت له فخرج وخرجت معه. فلما حاذينا الطائف قال لي: يا أشعب، أنت تعرفني وتعرف صنائعي عندك، وهذه ثلاثمائة دينار، خذها بارك الله لك فيها وأذن لي ألم بجواري، فلما سمعتها ذهب عقلي ثم قلت: يا سيدي، هي سكينة، فالله الله في. فقال: أو تعلم سكينة الغيب فلم يزل بي حتى أخذتها وأذنت له، فمضى وبات عند جواريه. فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا، فلبست حلة وشيء كانت لزيد قيمتها ألف دينار، وركبت فرسه وجئت إلى النساء فسلمت فرددن، ونسبنني نسب زيد، فحادثنني وأنسن بي. وأقبل رجال الحي، وكلما جاء رجل سأل عن نسبي فخبر به هابني وسلم علي وعظمني وانصرف، إلى أن أقبل شيخ كبير منكر مبطون، فلما خبر بي وبنسبي شال حاجبيه عن عينيه، ثم نظر إلي وقال: وأبي ما هذه خلقة قرشي ولا شمائله، وما هو إلا عبد لهم ناد، وعلمت أنه يريد شرا، فركبت الفرس ثم مضيت، ولحقني فرماني بسهم فما أخطأ قربوس السرج، وما شككت أنه يلحقني بآخر يتقلني فسلحت -يعلم الله- في ثيابي فلوثها ونفذ إلى الحلة فصيرها شهرة ، وأتيت رحل زيد بن عمرو فجلست أغسل الحلة وأجففها، وأقبل زيد بن عمرو، فرأى ما لحق الحلة والسرج، فقال لي: ما القصة? ويلك فقلت: يا سيدي الصدق أنجى، وحدثته الحديث فاغتاظ ثم قال لي: ألم يكفك أن تلبس حلتي وتصنع بها ما صنعت وتركب فرسي وتجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي وفضحتني، وجعلتني عند العرب ولاجا جماشا ، وجرى عليك ذل نسب إلي، أنا نفي من أبي ومنسوب إلى أبيك إن لم أسؤك وأبلغ في ذلك.
ثم لقي الخليفة وعاد ودخلنا إلى سكينة، فسألته عن خبره كله فخبرها حتى انتهى إلى ذكر جواريه، فقالت: إيه وما كان من خبرك في طريقك? هل مضيت إلى جواريك بالطائف? فقال لها: لا أدري، سلي ثقتك. فدعتني فسألتني، وبدأت فحلفت لها بكل يمين محرجة أنه ما مر بالطائف ولا دخلها ولا فارقني، فقال لها: اليمين التي حلف بها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف وبت عند جواري وغسلتهن جميعا، وأخذ مني ثلاثمائة دينار، وفعل كذا وكذا، وحدثها الحديث كله وأراها الحلة والسرج، فقالت لي: أفعلها يا أشعب أنا نفية من أبي إن أنفقتها إلا فيما يسوءك، ثم أمرت بكبس منزلي وإحضارها الدنانير فأحضرت، فاشترت بها خشبا وبيضا وسرجينا، وعملت من الخشب بيتا فحبستني فيه وحلف ألا أخرج منه ولا أفارقه حتى أحضن البيض كله إلى أن ينقب، فمكثت أربعين يوما أحضن لها البيض حتى نقب، وخرج منه فراريج كثيرة فربتهن وتناسلن فكن بالمدينة يسمين بنات أشعب ونسل أشعب، فهؤلاء إلى الآن بالمدينة نسل يزيد على الألوف، كلهن أهلي وأقاربي.
قال إبراهيم: فضحكت والله من قوله ضحكا ما أذكر أني ضحكت مثله قط ووصلته، ولم يزل عندي زمانا حتى خرج إلى المدينة وبلغني أنه مات هناك .
يتسور البستان طلبا للطعام أخبرني أحمد، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله بن عثمان، قال: قال رجل لأشعب: إن سالم بن عبد الله قد مضى إلى بستان فلان و معه طعام كثير، فبادر حتى لحقه فأعلق الغلام الباب دونه، فتسور عليه، فصاح به سالم: بناتي ويلك بناتي، فناداه أشعب: )لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد( ، فأمر بالطعام فأخرج إليه منه ما كفاه.
يقوقئ مثل الدجاجة
صفحة : 2154
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، قال: بعثت سكينة إلى أبي الزناد فجاءها تستفتيه في شيء، فاطلع أشعب عليه من بيت وجعل يقوقئ مثل ما تقوقئ الدجاجة، قال: فسبح أبو الزناد وقال: ما هذا? فضحكت وقالت : إن هذا الخبيث أفسد علينا بعض أمرنا، فحلفت أن يحضن بيضا في هذا البيت و لا يفارقه حتى ينقب، فجعل أبو الزناد يعجب من فعلها.
وقد أخبرني محمد بن جعفر النحوي بخبر سكينة الطويل على غير هذه الرواية،وهو قريب منها، وقد ذكرته في أخبار سكينة بنت الحسين مفردا عن أخبار أشعب هذه في أخبارها مع زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان.
عبد يسلح في يده أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب، قال: حدثني بعض المدنيين، قال: كان لأشعب حرق في بابه، فكان ينام ثم يخرج يده من الخرق يطمع في أن يجيء إنسان يطرح في يده شيئا من شدة الطمع، فبعث إليه بعض من كان يعبث به من مجان آل الزبير بعبد له فسلح في يده، فلم يعد بعدها إلى أن يخرج يده.
وأخبرني به الجوهري، عن ابن مهرويه، عن محمد بن الحسن، عن مصعب، عن بعض المدنيين فذكر نحوه ولم يذكر ما فعل به الماجن.
أشعب وسالم بن عبد الله بن عمر أخبرني أحمد بن بد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد الزبيري أبو طاهر، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن أبي قتيلة، قال: حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرج أن أشعب حدثه، قال: جاءني فتية من قريش فقالوا: إنا نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتا من الغناء وتعلمنا ما يقول لك، وجعلوا لي على ذلك جعلا فتنني ، فدخلت على سالم فقلت: يا أبا عمر، إن لي مجالسة وحرمة ومودة وسنا، وأنا مولع بالترنم، قال: وما الترنم? قلت: الغناء، قال: في أي وقت? قلت: في الخلوة ومع الإخوان في المنزه، فأحب أن أسمعك، فإن كرهته أمسكت عنه، وغنيته فقال: ما أرى بأسا، فخرجت فأعلمتهم، قالوا: وأي شيء غنيته? قلت: غنيته:
قربا مربط النعـامة مـنـي لقحت حرب وائل عن حيالي فقالوا: هذا بارد ولا حركة فيه، ولسنا نرضى، فلما رأيت دفعهم إياي وخفت ذهاب ما جعلوه لي رجعت فقلت: يا أبا عمر، آخر، فقال: ما لي ولك? فلم أملكه كلامه حتى غنيت، فقال: ما أرى بأسا، فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا: وأي شيء غنيته? فقلت غنيته قوله:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلـنـا وأخو الحرب من أطاق النزالا فقالوا: ليس هذا بشيء، فرجعت إليه فقال: مه، قلت: وآخر، فلم أملكه أمره حتى غنيت:
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ماذا لقيت من الهوى ولقينـا فقال: نهلا نهلا ، فقلت: لا والله إلا بذاك السداك، وفيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال: هو لك، فخرجت به عليهم وأنا أخطر فقالوا: مه، فقلت: غنيت الشيخ:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ...... فطرب وفرض لي فأعطاني هذا، وكذبتهم، والله ما أعطانيه إلا استكفافا حتى صمت، قال ابن أبي سعد: السداك: الزبيل الكبير. وفرض لي أي نقطني، يعني ما يهبه الناس للمغني ويسمونه النقط.
كانت له ألحان مطربة وشهد له معبد حدثني الجوهري، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثني قعنب بن المحرز، عن الأصمعي، قال: حدثني جعفر بن سليمان، قال: قدم أشعب أيام أبي جعفر، فأطاف به فتيان بني هاشم وسألوه أن يغنيهم فغنى فإذا ألحانه مطربة وحلقه على حاله، فقال له جعفر بن المنصور: لمن هذا الشعر والغناء:
لمن طلل بذات الجيش أمسى دارسا خلقا? فقال له: أخذت الغناء عن معبد، وهو للدلال، ولقد كنت آخذ اللحن عن معبد فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب فإنه أحسن تأدية له مني.
أشعب يلازم جريرا ويغنيه في شعره أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن عبد الله بن مصعب، قال:
صفحة : 2155
قدم جرير المدينة، فاجتمع إليه الناس يستنشدونه ويسألونه عن شعره، فينشدهم ويأخذون عنه وينصرفون، ولزمه أشعب من بينهم فلم يفارقه، فقال له جرير: أراك أطولهم جلوسا وأكثرهم سؤالا، وإني لأظنك ألأمهم حسبا، فقال له: يا أبا حزرة، أنا والله أنفعهم لك، قال: وكيف ذلك?قال: أنا آخذ شعرك فأحسنه وأجوده، قال: كيف تحسنه وتجوده? قال: فاندفع فغناه في شعره والغناء لابن سريج: صوت
يا أخت ناجية السلام عليكـم قبل الرحيل وقبل لوم العدل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال: فطرب جرير حتى بكى وجعل يزحف إليه حتى لصقت ركبته بركبته وقال: أشهد أنك تحسنه وتجوده، فأعطاه من شعره ما أراد، ووصله بدنانير وكسوة.
حدثني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثني أبي، قال: قال الهيثم بن عدي: لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا? قال: يسألون عن أحاديث الملوك ويعطون إعطاء العبيد.
أشعب وأم عمر بنت مروان
حدثني أحم، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا مصعب، قال: حجت أم عمر بنت مروان فاستحجبت أشعب وقالت له: أنت أعرف الناس بأهل المدينة، فأذن لهم على مراتبهم، وجلست لهم مليا، ثم قامت فدخلت القائلة، فجاء طويس فقال لأشعب: استأذن لي على أم عمر، فقال: ما زالت جالسة وقد دخلت، فقال له: يا أشعب ملكت يومين فلم تفت بعرتين ولم تقطع شعرتين، فدق أشعب الباب ودخل إليها، فقال لها: أنشدك الله يا بنة مروان، هذا طويس بالباب فل ا تتعرضي للسانه ولا تعرضيني، فأذنت له، فلما دخل إليها قال لها: والله لئن كان بابك غلقا لقد كان باب أبيك فلقا ، ثم أخرج دفه ونقر به وغنى:
ما تمنعني يقظي فقد تؤتـينـه في النوم غير مصر محسوب
كان المنى بلقائها فلقـيتـهـا فلهوت من لهو امرئ مكذوب قالت: أيهما أحب إليك العاجل أم الآجل? فقال: عاجل وآجل، فأمرت له بكسوة.
أخبرني الجوهري، قال: حدثني ابن مهرويه، عن أبي مسلم، عن المدائني، قال: حدث رجل من أهل المدينة أشعب بحديث أعجبه فقال له: في حديثك هذا شيء، قال: وما هو? قال: تقليبه على الرأس.
أشعب والوليد بن يزيد
أخبرني الجوهري، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: حدثنا المدائني، قال: بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعدما طلق امرأته سعدة فقال له: يا أشعب، لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة، فقال له: أحضر المال حتى أنظر إليه، فأحضر الوليد بدرة فوضعها أشعب على عنقه، ثم قال: هات رسالتك يا أمير المؤمنين، قال: قل لها: يقول لك:
أسعدة هل إليك لـنـا سـبـيل وهل حتى القيامة من تلاقي?
بلى، ولعل دهـرا أن يواتـي بموت من حليلـك أو طـلاق
فأصبح شامتا وتقـر عـينـي ويجمع شملنا بعـد افـتـراق قال: فأتى أشعب الباب، فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرشت لها فرش وجلست فأذنت له، فدخل وأنشدها ما أمره، فقالت لخدمها: خذوا الفاسق، فقال: يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم، قالت: والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني، قال: وما تهبين لي? قالت: بساطي الذي تحتي، قال: قومي عنه، فقالت فطواه ثم قال: هاتي رسالتك جعلت فداءك، قالت: قل له:
أتبكي على لبنى وأنت تركتـهـا فقد ذهبت لنبى فما أنت صانع? فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت، فقال: أوه قتلتني والله، ما تراني صانعا بك يا بن الزانية? اختر إما أن أدليك منكسا في بئر، أو أرمي بك من فوق القصر منكسا، أو أضرب رأسك عمودي هذا ضربة، فقال: ما كنت فاعلا بي شيئا من ذلك، قال: ولم? قال: لأنك لم تكن لتعذب رأسا فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال: صدقت يا بن الزانية، اخرج عني.
وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد، عن حماد، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، أن سعدة لما أنشدها أشعب قوله:
أسعدة هل إليك لـنـا سـبـيل وهل حتى القيامة من تلاقي? قالت: لا والله لا يكون ذلك أبدا، فلما أنشدها:
بلى ولعل دهرا أن يواتـي بموت من حليلك أو طلاق قالت: كلا إن شاء الله، بل يفعل الله ذلك به، فلما أنشدها:
صفحة : 2156
فأصبح شامتا وتقر عيني ويجمع شملنا بعد افتراق قالت: بل تكون الشماتة به، وذكر باقي الخبر مثل حديث الجوهري، عن ابن مهرويه.
أخبرني عمي، قال: حدثنا محمد بن سعيد الكراني، قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، قال: كتب الوليد بن يزيد في إشخاص أشعب من الحجاز إليه وجمله على البريد، فحمل إليه، فلما دخل أمر بأن يلبس تبانا ويجعل فيه ذنب قرد، ويشد في رجليه أجراس، وفي عنقه جلاجل، ففعل به ذلك، فدخل وهو عجب من العجب، فلما رآه ضحك منه وكشف عن أيره، قال أشعب: فنظرت إليه كأنه ناي مدهون، فقال لي: أسجد للأصم ويلك، يعني أيره، فسجدت، ثم رفعت رأسي وسجدت أخرى، فقال: ما هذا? فقلت: الأولى للأصم، والثانية لخصيتيك، فضحك وأمر بنزع ما كان ألبسنيه ووصلني، ولم أزل من ندمائه حتى قتل.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: قال رجل لأشعب إنه أهدي إلى زياد بن عبد الله الحارثي قبة أدم قيمتها عشرة آلاف درهم فقال: امرأته الطلاق لو أنها قبة الإسلام ما ساوت ألف درهم. فقيل له: إن معها جبة وشي حشوها قز قيمتها عشرون ألف دينار، فقال: أمه زانية لو أن حشوها زغب أجنحة الملائكة ما ساورت عشرين دينارا.
أشعب ورجل من ولد عامر بن لؤي أخبرني عمي، قال: حدثني أبو أيوب المدائني، قال: حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري، عن أبيه، قال: حدثني أشعب، قال: ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي، وكان أبخل الناس وأنكدهم ، وأغراه الله بي يطلبني في ليه ونهاره، فإن هربت منه هجم على منزلي بالشرط، وإن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده يطلبني منه، فيطالبني بأن أحدثه وأضحكه، ثم لا أسكت ولا ينام ، ولا يطعمني ولا يعطيني شيئا، فلقيت منه جهدا عظيما وبلاء شديدا، وحضر الحج، فقال لي: يا أشعب، كن معي، فقلت: بأبي أنت وأمي، أنا عليل، وليست لي نية في الحج. فقال: عليه وعليه، وقال: إن الكعبة بيت النار، لئن لم تخرج معي لأودعنك الحبس حتى أقدم، فخرجت معه مكرها، فلما نزلنا المنزل أظهر أنه صائم ونام حتى تشاغلت، ثم أكل ما سفرته، وأمر غلامه أن يطعمني رغيفين بملح، فجئت وعندي أنه صائم، ولم أزل أنتظر المغرب أتوقع إفطاره، فلما صليت المغرب قلت لغلامه: ما ينتظر بالأكل? قال: قد أكل منذ زمان، قلت: أو لم يكن صائما? قال: لا، قلت: أفأطوي أنا? قال: قد أعد لك ما تأكله فكل، وأخرج إلي الرغيفين والملح فأكلتهما وبت ميتا جوعا، وأصبحت فسرنا حتى نزلنا المنزل، فقال لغلامه: ابتع لنا لحما بدرهم، فابتاعه، فقال: كبب لي قطعا، ففعل، فأكله ونصب القدر، فلما اغبرت قال: اغرف لي منها قطعا، ففعل، فأكلها، ثم قال: اطرح فيها دقة وأطعمني منها، ففعل، ثم قال: ألق توابلها وأطعمني منها، ففعل؛ وأنا جالس أنظر إليه لا يدعوني، فلما استوفى اللحم كله قال: يا غلام، أطعم أشعب، ورمي إلى برغيفين، فجئت إلى القدر وإذا ليس فيها غلا مرق وعظام، فأكلت الرغيفين، وأخرج له جرابا فيه فاكهة يابسة، فأخذ منها حفنة فأكلها، وبقي في كفه كف لوز بقشره، ولم يكن له فيه حيلة، فرمى به إلي وقال: كل هذا يا أشعب، فذهبت أكسر واحدة منها فإذا بضرسي قد انكسرت منه قطعة فسقطت بين يدي، وتباعدت أطلب حجرا أكسره به، فوجدته، فضربت له لوزة فطفرت -يعلم الله- مقدار رمية حجر، وعدوت في طلبها، فبينما أنا في ذلك إذ أقبل بنو مصعب -يعني ابن ثابت وإخوانه- يلبون بتلك الحلوق الجهورية، فصحت بهم: الغوث الغوث العياذ بالله وبكم يا آل الزبير، الحقوني أدركوني، فركضوا إلي، فلما رأوني قالوا: أشعب، ما لك ويلك قلت: خذوني معكم تخلصوني من الموت، فحملوني معهم، فجعلت أرفرف بيدي كما يفعل الفرخ إذا طلب الزق من أبويه، فقالوا: ما لك ويلك قلت: ليس هذا وقت الحديث، زقوني مما معكم، فقد مت ضرا وجوعا منذ ثلاث، قال: فأطعموني حتى تراجعت نفسي، وحملوني معهم في محمل، ثم قالوا: أخبرنا بقصتك، فحدثتهم وأريتهم ضرسي المكسورة، فجعلوا يضحكون ويصفقون وقالوا: ويلك من أين وقعت على هذا? هذا من أبخل خلق الله وأدنئهم نفسا، فحلفت بالطلاق أني لا أدخل المدينة ما دام بها سلطان، فلم أدخلها حتى عزل.
أشعب يسقط الغاضري
صفحة : 2157
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدثنا إبراهيم بن المهدي، قال: حدثني عبيدة بن أشعب، قال: كان الغاضري مندر أهل المدينة ومضحكهم قبل أبي، فأسقطه أبي واطرح، وكان الغاضري حسن الوجه ماد القامة غبلا فخما، وكان أبي قصيرا دميما قليل اللحم؛ إلا أنه كان يتضرم ويتوقد ذكاء وحدة وخفة روح، وكان الغاضري يحسده إلا أنهما متساويان، وكان الغاضري لقيطا منبوذا لا يعرف له أب، فمر يوما -ومعه فتية من قريش- بأبي في المسجد وقد تأذى بثيابه فنزعها، وتجرد وجلس عريانا، فقال لهم الغاضري: أنشدتكم الله هل رأيتم أعجب من هذه الخلقة يريد خلقة أبي، فقال له أبي: إن خلقتي لعجيبة، وأعجب منها أنه زقني اثنان فصرا نضوا ، وزقك واحد فصرت بختيا ، قال: وأهل المدينة يسمون المهلوس من الفراخ النضو والمسرول البختي، فغضب الغاضري عند ذلك وشتمه، فسقط واستبرد، وترك النوادر بعد ذلك، وغلب أبي على أهل المدينة واستطابوه، وكان هذا سببه.
أشعب وزياد بن عبد الله الحارثي أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان زياد بن عبد الله الحارثي أبخل خلق الله، فأولم وليمة لطهر بعض أولاده، وكان الناس يحضرون ويقدم الطعام فلا يأكلون منه إلا تعللا وتشعثا لعلمهم به، فقدم فيما قدم جدي مشوي فلم يعرض له أحد، وجعل يردده على المائدة ثلاثة أيام والناس يجتنبونه إلى أن انقضت الوليمة، فأصغى أشعب إلى بعض من كان هناك فقال: امرأته الطلاق إن لم يكن هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطوال عمرا وأمد حياة منه قبل أن يذبح، فضحك الرجل، وسمعها زياد فتغافل.
غضبت سكينة عليه فأمرت بحلق لحيته أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، عن إسحاق، قال: حدثني إبراهيم بن المهدي، عن عبيدة بن أشعب، قال: غضبت سكينة على أبي في شيء خالفها فيه فحلفت لتحلقن لحيته، ودعت بالحجام فقالت له: احلق لحيته، فقال له الحجام: انفخ شدقيك حتى أتمكن منك، فقال له: يا بن البطراء، أمرتك أن تحلق لحيتي أو تعلمني الزمر خبرني عن امرأتك إذا أردت أن تحلق حرها تنفخ أشداقه فغضب الحجام وحلف ألا يحلق لحيته وانصرف، وبلغ سكينة الخبر وما جرى بينهما فضحكت وعفت عنه.
بين زياد بن عبد الله الحارثي وكاتبه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو العيناء، عن الأصمعي، قال: أهدى كاتب لزياد بن عبد الله الحارثي إليه طعاما، فأتي به وقد تغدى فغضب وقال: ما أصنع به وقد أكلت? ادعوا أهل الصفة يأكلونه، فبعث إليهم وسأل كاتبه: فيم دعا أهل الصفة? فعرف، فقال الكاتب: عرفوه أن في السلال أخبصة وحلواء ودجاجاص وفراخا، فأخبر بذلك، فأمر بكشفها، فلما رآها أمر برفعها فرفعت، وجاء أهل الصفة فأعلم، فقال: اضربوهم عشرين عشرين درة، واحبسوهم فإنهم يفسون في مسجد رسول الله صلى الله عليهم وسلم ويؤذون المصلين، فكلم فيهم، فقال: حلفوهم ألا يعاودوا وأطلقوهم.
أشعب وأبان بن عثمان والأعرابي أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا ابن زبالة، قال: حدثنا ابن زبنج راوية بن هرمة، عن أبيه، قال:
صفحة : 2158
كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم ، وبلغ من عبثه أنه كان يجيء بالليل إلى منزل رجل في أعلى المدينة له لقب يغضب منه فيقول له: أنا فلان فلان، ثم يهتف بلقبه، فيشتمه اقبح شتم وأبان يضحك. فبينما نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب إذ أقبل أعرابي ومعه جمل له، والأعرابي أشق أزرق أزعر غضوب يتلظى كأنه أفعى، ويتبين الشر في وجهه ما يدنو منه أحد إلا شتمه ونهره، فقال أشعب لأبان: هذا والله من البادية ادعوه، فدعي وقيل له: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك، فأتاه فسلم عليه، فسأله أبان عن نسبه فانتسب له، فقال: حياك الله يا خالي، حبيب ازداد حبا، فجلس، فقال له: إني في طلب جمل مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهي بهذه الصفة، وهذه القامة، واللون، والصدر، والورك، والأخفاف، فالحم لله الذي جعل ظفري به من عند من أحبه، أتبيعه? فقال: نعم أيها الأمير، فقال: فإني قد بذلت لك به مائة دينار -وكان الجمل يساوي عشرة دنانير- فطمع الأعرابي وسر وانتفخ، وبان السرور والطمع في وجهه، فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب إن خالي هذا من أهلك وأقاربك -يعني في الطمع- فأوسع له مما عندك. فقال له: نعم بأبي أنت وزيادة، فقال له أبان: يا خالي، إنما زدتك في الثمن على بصيرة وإنما الجمل يساوي ستين دينارا، ولكن بذلت لك مائة لقلة النفذ عندنا، وإني أعطيك به عروضا تساوي مائة، فزاد طمع الأعرابي وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير، فأسر إلي أشعب، فأخرج شيئا مغطى فقال له: أخرج ما جئت به، فأخرج جرد عمامة خز خلق تساوي أربعة دراهم، فقال له: قومها يا أشعب، فقال له: عمامة الأمير تعرف به، ويشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء؛ خمسون دينارا. فقال: ضعها بين يديه: وقال لابن زبنج، أثبت قيمتها. فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدي الأعرابي، فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام، ثم قال: هات قلنسوتي، فأخرج قلنسوة طويلة خلقة قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت، تساوي نصف درهم، فقال: قوم، فقال: قلنسوة الأمر تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات الخمس، ويجلس للحكم؛ ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، ووضعت القلنسوة بين يدي الأعرابي، فتربد وجهه وجحظت عيناه وهم بالوثوب، ثم تماسك وهو متقليل.
ثم قال لأشعب: هات ما عندك، فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا وتفتقا، فقال له: قوم، فقال: خفا الأمير، يطأ بهما الروضة، ويعلو بهما منبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أربعون دينارا. فقال: ضعها بين يديه فوضعهما. ثم قال للأعرابي: اضمم إليك متاعك، وقال لبعض الأعوان: اذهب فخذ الجمل، وقال لآخر: امض مع الأعرابي فاقبض منه ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع وهو عشرون دينارا، فوثب الأعرابي فأخذ القماش فرب به وجوه القوم لا يألو في شدة الرمي به، ثم قال له: أتدري أصلحك الله من أي شيء أموت? قال: لا، قال: لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك، ثم نهض مثل المجنون حتى أخذ برأس بعيره، وضحك أبان حتى سقط وضحك كل من كان معه. وكان الأعرابي بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له: هلم إلي بابن الخبيثة حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قوم، فيهرب أشعب منه.
يخشى أن تحسده العجوز على خفة موته أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني، قال: حدثني شيخ من أهل المدينة قال: كانت بالمدينة عجوز شديدة العين، لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته ، فدخلت على أشعب وهو في الموت، وهو يقول لبنته: يا بنية، إذا مت فلا تندبيني والناس يسمعونك، فتقولين: وا أبتاه أندبك للصوم والصلوات، وا أبتاه أندبك للفقه والقراءة، فيكذبك الناس ويلعنوني. والتفت أشعب فرأى المرأة، فغطى وجهه بكمه وقال لها: يا فلانة بالله إن كنت استحسنت شيئا مما أنا فيه فصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لا تهلكيني. فغضبت المرأة وقالت: سخنت عينك ، في أي شيء أنت مما يستحسن أنت في آخر رمق قال: قد علمت ولكن قلت لئلا تكون قد استحسنت خفة الموت علي وسهولة النزع، فيشتد ما أنا فيه. وخرجت من عنده وهي تشتمه، وضحك كل من كان حوله من كلامه، ثم مات.
أمثلة من طرائف وطمعه أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثنا أبو أيوب المديني، عن مصعب، قال:
صفحة : 2159
لا عب أشعب رجلا بالنرد، فأشرف على أن يقمره إلا بضرب دويكين، ووقع الفصان في يد ملاعبه، فأصابه زمع وجزع، فضرب يكين وضرط مع الضربة فقال له أشعب: امرأته طالق إن لم أحسب لك الضرطة بنقطة حتى يصير لك اليكان دوويك وتقمر . وسلم له القمر بسبب الضرطة.
أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثني أبو أيوب، عن حماد، عن ابن إسحاق، عن أبيه، قال: قال رجل لأشعب: كان أبوك ألحى وأنت أثط فإلى من خرجت? قال: إلى أمي، فمر الرجل وهو يعجب من جوابه، وكان رجلا صالحا.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني الرياشي، قال: سمعت أبا عاصم النبيل يقول: رأيت أشعب وسأله رجل: ما بلغ من طمعك? قال: ما زفت عروس بالمدينة إلى زوجها قط إلا فتحت بابي، رجاء أن تهدى إلي.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، عن عمه، قال: تظلمت امرأة أشعب منه إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم وقالت: لا يدعني أهدأ من كثرة الجماع، فقال له أشعب، أتراني أعلف ولا أركب، لتكف ضرسها لأكف أيري.
قال: وشكا خال لأشعب غليه امرأته وأنها تخونه في ماله، فقال له: فديتك لا تأمنن قحبة، ولو أنها أمك، فانصرف عنه وهو يشتمه.
أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني قعنب بن المحرز، عن الأصمعي، عن جعفر بن سليمان، قال: قدم علينا أشعب أيام جعفر، فأطاف به فتيان بني هاشم، وسألوه أن يغني فغناهم فإذا ألحانه مطربة وحلقه على حاله، فسألوه: لمن هذا اللحن:
لمن طلل بذات الجيش أمسى دارسا خلقا? فقال: للدلال، وأخذته عن معبد، ولقد كنت آخذ عنه الصوت، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب فإنه أحسن أداء له مني.
الحسن بن الحسن بن علي يعبث به أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: ذكر الزبير بن بكار، عن شعيب بن عبيد بن أشعب، عن أبيه، قال: كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يعبث بأبي أشد عبث، وربما أراه في عبثه أنه قد ثمل وأنه يعربد عليه، ثم يخرج إليه بسيف مسلول ويريه أنه يريد قتله، فيجري بينهما في ذلك كل مستمع، فهجره أبي مدة طويلة، ثم لقيه يوما فقال له: يا أشعب، هجرتني وقطعتني ونسيت عهدي، فقال له: بأبي أنت وأمي، لو كنت تعربد بغير السيف ما هجرتك، ولكن ليس مع السيف لعب، فقال له: فأنا أعفيك من هذا فلا تراه مني أبدا، وهذه عشرة دنانير، ولك حماري الذي تحت أحملك عليه، وصر إلى ولك الشرط ألا ترى في داري سيفا، قال: لا والله أو تخرج كل سيف في دارك قبل أن نأكل قال: ذلك لك، قال: فجاءه أبي، ووفى له بما قال من الهبة وإخراج السيوف، وخلف عنده سيفا في الدار، فلما توسط الأمر قام إلى البيت فأخرج السيف مشهورا، ثم قال: يا أشعب إنما أخرجت هذا السيف لخير أريده بك، قال: بأبي أنت وأمي، وأي خير يكون مع السيف? ألست تذكر الشرط بيننا? قال له: فاسمع ما أقول لك، لست أضربك به، ولا يلحقك منه شيء تكرهه، وإنما أريد أن أضجعك وأجلس على صدرك، ثم آخذ جلدة حلقك بإصبعي من غير أن أقبض على عصب ولا ودج ولا مقتل، فأحزها بالسيف، ثم أقوم عن صدرك وأعطيك عشرين دينارا، فقال: نشدتك الله يا بن رسول الله ألا تفعل بي هذا وجعل يصرخ ويبكي ويستغيث، والحسن لا يزيده على الحلف له أنه لا يقتله، ولا يتجاوز به أن يحز جلده فقط، ويتوعده مع ذلك بأنه إن لم يفعله طائعا فعله كارها، حتى إذا طال الخطب بينهما، واكتفى الحسن من المزح معه، أراه أنه يتغافل عنه، وقال له: أنت لا تفعل هذا طائعا، ولكن أجيء بحبل فأكتفك به، ومضى كأنه يجيء بحبل، فهرب أشعب وتسور حائطا بينه وبين عبد الله بن حسن أخيه فسقط إلى داره، فانفكت رجله وأغمي عليه، فخرج عبد الله فزعا، فسأله عن قصته، فأخبره، فضحك منه وأمر له بعشرين دينارا، وأقام في منزله يعالجه ويعوله إلى أن صلحت حال. قال: وما رآه الحسن بن الحسن بعدها.
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، قال:
صفحة : 2160
دعا حسن بن حسن بن علي عليهم السلام أشعب، فأقام عنده، فقال لأشعب يوما: أنا أشتهي كبد هذه الشاة -لشاة عند عزيزة عليه فارهة- فقال له أشعب: بأبي أنت وأمي أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة، فقال: أخبرك أني أشتهي كبد هذه وتقول لي: أسمن شاة بالمدينة، اذبح يا غلام، فذبحها وشوى له من كبدها وأطايبها، فأكل. ثم قال لأشعب من الغد: يا أشعب أنا أشتهي كبد نجيبي هذا -لنجيب كان عند ثمنه ألوف الدراهم- فقال له أشعب: يا سيدي في ثمن هذا والله غناي، فأعطنيه وأنا والله أطعمك من كبد كل جزور بالمدينة، فقال: أخبرك أني أشتهي من كبد هذا وتطعمني من غيره يا غلام انحر، فنحر النجيب وشوى كبده فأكلا، فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا والله أشتهى أن آكل من كبدك، فقال له: سبحان الله أتأكل من أكباد الناس قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فاكسرت رجله، فقيل له: ويلك أظننت أنه يذبحك? فقال: والله لو أن كبدي وجميع أكباد العالمين جميعا اشتهاها لأكلها. وإنما فعل حسن بالشاة والنجيب ما فعل توطئة للعبث بأشعب.
تمت أخباره
صوت
ألمت خناس وإلمامـهـا أحاديث نفس وأحلامهـا
يمانية من بنـي مـالـك تطاول في المجد أعمامها الشعر لعويف القوافي الفزاري والغناء للهذلي رمل بالوسطى، عن عمرو، وذكر حماد بن إسحاق، عن أبيه أن فيه لحنا لجميلة ولم يذكر طريقته، وفيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.
أخبار عويف ونسبه
نسبه
هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن، وقيل: ابن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤية بن لودان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
بيوتات العرب المشهورة بالشرف ثلاثة
قال أبو عبيدة: حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل بعد بيت هاشم بن عبد مناف في قريش ثلاثة بيوت، ومنهم من يقول أربعة، أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري بيت قيس، وبيت آل زرارة بن عدس الدارميين بيت تميم، وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام بيت شيبان، وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن.
وأما كندة فلا يعدو من أهل البيوتات، إنما كانوا ملوكا.
كسرى يسأل النعمان عن شرف القبيلة
وقال ابن الكلبي: قال كسرى للنعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة? قال: نعم. قال: بأي شيء? قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع، والبيت من قبيلته فيه، قال: فاطلب لي ذلك، فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر بيت قيس بن عيلان، وآل حاجب بن زارة بيت تميم، وآل ذي الجدين بيت شيبان، وآل الأشعث بن قيس بيت كندة. قال: فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم، فأقعد لهم الحكام العدول، فأقبل من كل قوم منهم شاعرهم، وقال لهم: ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه وفعالهم، وليقل شاعرهم فيصدق، فقام حذيفة بن بدر -وكان أسن القوم وأجرأهم مقدما- فقال: لقد علمت معد أن منا الشرف الأقدم، والعز الأعظم، ومأثرة الصنيع الأكرم، فقال من حوله: ولم ذاك يا أخا فزارة? فقال: ألسنا الدعائم التي لا ترام، والعز الذي لا يضام قيل له: صدقت، ثم قام شاعرهم فقال:
فزارة بيت العـز والـعـز فـيهـم فزارة قيس حسب قيس نضالـهـا
لا العزة القعساء والحـسـب الـذي بناه لقيس في الـقـديم رجـالـهـا
فمن ذا إذا مد الأكف إلـى الـعـلا يمد بأخرى مثلـهـا فـينـالـهـا
فهيهات قد أعيا القرون التي مضـت مآثر قيس مجدهـا وفـعـالـهـا
وهل أحد إن مـد يومـا بـكـفـه إلى الشمس في مجرى النجوم ينالها
وإن يصلحوا يصلح لذاك جمـيعـنـا وإن يفسدوا يفسد على الناس حالهـا
صفحة : 2161
ثم قام الأشعث بن قيس -وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته بالنعمان- فقال: لقد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر، وقديم زحفها الأكبر، وأنا غياث للزبات . فقالوا: لم يا أخا كندة? قال: لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه، وتقلدنا منكبه الأعظم، وتوسطنا بحبوحة الأكرم، ثم قام شاعرهم فقال:
إذا قست أبيات الرجال ببيتـنـا وجدت له فضلا على من يفاخر
فمن قال: كلا أو أتانا بـخـطة ينافرنا يوما فنحن نـخـاطـر
تعالوا فعدوا يعلم الـنـاس أينـا له الفضل فيما أورثته الأكابـر ثم قام بسطام بن قيس فقال: لقد علمت ربيعة أنا بناة بيتها الذي لا يزول، ومغرس عزها الذي لا ينقل، قالوا: ولم يا أخا شيبان? قال: لأنا أدركهم للثأر، وأقتلهم للملك الجبار، وأقولهم للحق، وألدهم للخصم، ثم قام شاعرهم فقال:
لعـمـري لـبـسـطـام أحـق بـفـضــلـــهـــا وأولـى بـبـيت الـعـز عــز الـــقـــبـــائل
فسائل أبيت اللعن عن عز قومناإذا جد يوم الفخر كل مناضل
ألسنا أعز الناس قوما وأسرة وأضـربـهـم لـلـكـبـش بـين الـــقـــبـــائل
فيخـبـرك الأقـوام عـنــهـــا فـــإنـــهـــا وقـائع لـيسـت نـهــزة لـــلـــقـــبـــائل
وقــائع عـــز كـــلـــهـــا ربـــعـــية تذل لـهـم فـيهـا رقـاب الـــمـــحـــافـــل
إذا ذكـرت لـم ينـكـر الـنـاس فـضــلـــهـــا وعـاذ بـهـا مـن شـــرهـــا كـــل قـــائل
وإنـا مـلـوك الـنـاس فـــي كـــل بـــلـــدة إذا نـزلـت بـالـــنـــاس إحـــدى الـــزلازل ثم قام حاجب بن زرارة فقال: لقد علمت معد أنا فرع دعامتها، وقادة زحفها، فقالوا له: بم ذاك يا أخا بني تميم? قال: لأنا أكثر الناس إذا نسبنا عددا ، وأنجبهم ولدا، وأنا أعطاهم للجزيل، وأحملهم للثقيل، ثم قام شاعرهم فقال:
لقـد عـلـمـت أبـنـاء خـنـدف أنــنـــا لنا الـعـز قـدمـا فـي الـخـطـوب الأوائل
وأنـا هـجـان أهـل مــجـــد وثـــروة وعـز قـديم لـيس بـالـمــتـــضـــائل
فكـم فـيهـم مـن ســـيد وابـــن ســـيد أغـر نـجـيب ذي فـــعـــال ونـــائل
فسائلأبيت اللعنعنا فإننادعائم هذا الناس عند الجلائل ثم قام قيس بن عاصم فقال: لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم، وأثبتهم في النائبات مقاوم، قالوا: ولم ذاك يا أخا بني سعد? قال: لأنا أمنعهم للجار، وأدركهم للثأر، وأنا لا ننكل إذا حملنا، ولا نرام إذا حللنا، ثم قام شاعرهم فقال:
لقد علمت قيس وخنـدف كـلـهـا وجل تميم والجموع الـتـي تـرى
بأنا عـمـاد فـي الأمـور وأنـنـا لنا الشرف الضخم المركب في الندى
وأنا ليوث الناس فـي كـل مـأزق إذا اجتز بالبيض الجماجم والطـلـى
وأنـا إذا داع دعـانـا لـنـجــدة أجبنا سراعا في العلا ثم مـن دعـا
فمن ذا ليوم الفخر يعدل عـاصـمـا وقيسا إذا مد الأكف إلـى الـعـلا
فهيهات قد أعيا الجميع فـعـالـهـم وفاتوا بيوم الفخر مسعاة من سعـى فلما سمع كسرى ذلك منهم قال : ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه، فأثنى حباءهم.
سبب تسميته عويف القوافي
وإنما قيل لعويف: عويف القوافي لبيت قاله، نسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن الحسن بن دريد ولم أسمعه منه. قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي، قال: أقبل عويف القوافي-وهو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن بن حذيفة الفزاري، وإنما قيل له عويف القوافي، كما حدثني عمار بن أبان بن سعيد بن عيينة، ببيت قاله:
سأكذب من قد كان يزعم أنني إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا قال: فوقف على جرير بن عبد الله البجلي وهو في مجلسه فقال:
أصب على بجيلة من شقاها هجائي حين أدركني المشيب فقال له جرير: ألا أشتري منك أعراض بجيلة? قال: بلى، قال: بكم? قال: بألف درهم وبرذون، فأمر له بما طلب فقال:
لولا جرير هلكت بجيلة نعم الفتى وبئست القبيلة
صفحة : 2162
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري في كتاب ))من قال بيتا فلقب به(( قال: أخبرني محمد بن حبيب قال: وإنما قيل لعويف: عويف القوافي لقوله، وقد كان بعض الشعراء عيره بأنه لا يجيد الشعر، فقال أبياتا منها:
سأكذب من قد كان يزعم أنني إذا قلت شعرا لا أجيد القوافيا فسمي عويف القوافي.
قصته مع عبد الملك بن مروان
أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أحمد بن إسحاق، عن أبيه، قال: حدثني عزيز بن طلحة بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم المخزومي، قال: حدثني غير واحد من مشيخة قريش، قالوا: لم يكن رجل من ولاة أولاد عبد الملك بن مروان كان أنفس على قومه، ولا أحسد لهم من الوليد بن عبد الملك. فأذن يوما للناس فدخلوا عليه؛ وأذن للشعراء، فكان أول من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاري، فاستأذنه في الإنشاد فقال: ما بقيت لي بعدما قلت لأخي بني زهرةقال: وما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين?قال: ألست الذي تقول:
يا طلح أنت أخو الندى وحليفه إن الندى من بعد طلحة ماتا
إن الفعال إليك أطلق رحلـه فبحيث بت من المنازل باتـا أو لست الذي تقول:
إذا ما جاء يومك يا بـن عـوف فلا مطرت على الأرض السماء
ولا سار البشير بـغـنـم جـيش ولا حملت على الطهر النسـاء
تساقى الناس بعدك يا بن عـوف ذريع الموت ليس لـه شـفـاء ألم تقم علينا الساعة يوم قامت عليه? لا والله لا أسمع منك شيئا، ولا أنفعك بنافعة أبدا، أخرجوه عني.
قصته مع طلحة أخي بني زهرة فلما أخرج قال له القرشيون والشاميون: وما الذي أعطاك طلحة حين استخرج هذا منك? قال: أما والله لقد أعطاني غيره أكثر من عطيته، ولكن لا والله ما أعطاني أحد قط أحلى في قلبي ولا أبقى شكرا ولا أجدر ألا أنساها ما عرفت الصلات من عطيته، قالوا: وما أعطاك? قال: قدمت المدينة ومعي بضيعة لي لا تبلغ عشرة دنانير، أريد أن أبتاع قعودا من قعدان الصدقة، فإذا برجل في صحن السوق على طنفسة قد طرحت له، وإذا الناس حوله، وإذا بين يديه إبل معلوفة له، فظننت أنه عامل السوق، فسلمت عليه، فأثبتني وجهلته، فقلت: أي رحمك الله، هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي? فقال: نعم، أو معك ثمنه? فقلت: نعم، فأهوى بيده إلي فأعطيته بضيعتي، فرفع طنفسته وألقاها تحتها، ومكث طويلا، ثم قمت إليه فقلت: أي رحمك الله، انظر في حاجتي فقال: ما منعني منك إلا النسيان، أمعك حبل? قلت: نعم قال: هكذا أفرجوا، فأفرجوا عنه حتى استقبل الإبل التي بين يديه، فقال: اقرن هذه وهذه وهذه، فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة أدنى بكرة منها-ولا دنية فيها-خير من بضاعتي. ثم رفع طنفسته فقال: وشأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه، فقلت: أي رحمك الله، أتدري ما تقول فما بقي عنده إلا من نهرني وشتمني، ثم بعث معي نفرا فأطردوها حتى أطلعوها من رأس الثنية، فوالله لا أنساه ما دمت حيا أبدا.
وهذا الصوت المذكور تمثل به إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن علي يوم مقتله.
حدثني ابن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني ميسرة بن سيار أبو محمد، قال: حدثني إبراهيم بن علي الرافقي، عن المفضل الضبي، وحدثنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني عبد الملك بن سليمان، عن علي بن الحسن، عن المفضل الضبي؛ورواية ابن عمار أتم من هذه الرواية .
ونسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي عثمان اليقطري ، عن أبيه عن المفضل، وهو أتم الروايات، وأكثر اللفظ له قال: قال المفضل: خرجت مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن بح حسن، فلما صار بالمربد، وقف على رأس سليمان بن علي فأخرج إليه صبيان من ولده، فضمهم إليه وقال: هؤلاء والله منا ونحن منهم، إلا أن آباءهم فعلوا بنا وصنعوا، وذكر كلاما يعتد عليهم فيه بالإساءة، ثم توجه لوجهه وتمثل:
مهلا بني عمنا ظلامتنـا إن بنا سورة من القلـق
لمثلكم نحمل السيوف ولا تغمز أحسابنا من الدقـق
إني لإنمي إذا انتميت إلى عز عزيز ومعشر صدق
صفحة : 2163
بيض سباط كأن أعينهم تكحل يوم الهياج بالعلق فقلت: ما أفحل هذه الأبيات، فلمن هي? قال: لضرار بن الخطاب الفهري، قالها يوم الخندق، وتمثل بها علي بن أبي طالب عليه السلام يوم صفين، والحسين بن علي يوم قتل، وزيد بن علي عليهم السلام، ولحق القوم، ثم مضى إلى باخمرى ، فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد، فتمثل:
نبئت أن بني ربيعة أجـمـعـوا أمرا خلالهم لتـقـبـل خـالـدا
إن يقتلوني لا تصب أرماحـهـم ثأري ويسعى القوم سعيا جاهـدا
أرمي الطريق وإن صددت بضيقة وأنازل البطل الكمي الجـاحـدا فقلت: لمن هذه الأبيات? فقال: للأحوص بن جعفر بن كلاب، تمثل بها يوم شعب جبلة، وهو اليوم الذي لقيت فيه قيس تميما، قال: وأقبلت عساكر أبي جعفر، فقتل من أصحابه وقتل من القوم، وكاد أن يكون الظفر له .
قال ابن عمار في حديثه: قال المفضل: فقال لي: حركني بشيء، فأنشدته هذه الأبيات:
ألا أيها الناهي فزارة بـعـدمـا أجدت بسير إنما أنـت حـالـم
أبى كل حر أن يبـيت بـوتـره ويمنع منه النوم إذا أنـت نـائم
أقول لفتيان العشي: تـروحـوا على الجرد في أفواههن الشكائم
قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها ومن يخترم لا تتبعـه الـلـوائم
وهل أنت إن باعدت نفسك منهم لتسلم فيما بعـد ذلـك سـالـم فقال لي: أعد، فتنبهت، وندمت، فقلت: أو غير ذلك? فقال: لا، أعدها، فأعدتها، فتمطى في ركابيه حتى خلته قد قطعهما، ثم خمل فكان آخر العهد به.
هذه رواية ابن عمار، وفي الرواية الأخرى : فحمل فطعن رجلا، وطعنه آخر، فقلت: أتباشر الحرب بنفسك والعسكر منوط بك? فقال: إليك يا أخا بني ضبة، كأن عويفا أخا بني فزارة نظر في يومنا هذا حيث يقول:
ألمت خناس وإلمامـهـا أحاديث نفس وأحلامهـا
يمانية من بنـي مـالـك تطاول في المجد أعمامها
وإن لنا أصل جـرثـومة ترد الحـوادث أيامـهـا
ترد الكتـيبة مـغـلـولة بها أفنها وبهـا آمـهـا قال: وجاءه السهم العائر فشغله عني.
اعترض عمر بن عبد العزيز وأسمعه شعرا أخبرني محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني محمد بن معاوية الأسدي، قال: حدثني أصحابنا الأسديون، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: حضرت مع عمر بن عبد العزيز جنازة، فلما انصرف انصرفت معه، وعليه عمامة قد سدلها من خلفه، فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به:
أجبني أبا حفص لقيت محمدا على حوضه مستبشرا وراكا فقال له عمر: لبيك، ووقف الناس معه، ثم قال له: فمه، فقال:
فأنت امرؤ كلتا يديك مفـيدة شمالك خير من يمين سواكا قال: ثم مه، فقال:
بلغت مدى المجرين قبلك إذ جروا ولم يبلغ المجرون بعد مـداكـا
فجداك لا جدين أكرم منـهـمـا هناك تناهى المجد ثم هـنـاكـا فقال له عمر: ألا أرك شاعرا ما لك عندي من حق، قال: لا، ولكني سائل وابن سبيل وذو سهمة فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال: أعطه فضل نفقتي، قال: وإذا هو عويف القوافي الفزاري.
هجا بني مرة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، قال: لما كان يوم ابن جرح، وافتتلت بنو مرة وبنو حن بن عذرة، قال عويف القوافي لبني مرة يهجوهم ويوبخهم بتركهم نصرهم:
كنا لكم يا مر أمـا حـفـية وكنتم لنا يا مر بوا مجلـدا
وكنتم لنا سيفا وكنا وعـاءه إذا نحن خفنا أن يكل فيغمدا عقيل بن علفة يجيبه بقصيدة فأجابه عقيل بن علفة بقصيدته التي أولها:
أماوي إن الركب مرتحل غدا وحق ثوي نـازل أن يزودا يقول فيها يخاطب عويفا:
إذا قلت: قد سامحت سهما ومازنـا أبى النسب الداني وكفرهـم الـيدا
وقد أسلموا أستاهـهـم لـقـبـيلة قضاعية يدعـون حـنـا وأصـيدا
فما كنت أما بل جعلتـك لـي أخـا وقد كنت في الناس الطريد المشردا
صفحة : 2164
عويف استها قد رمت ويلك مجدنا قديما فلم تعد الحمار المـقـيدا
ولو أنني يوم ابن جرح لقيتـهـم لجردت في الأعداء عضبا مهندا وأبيات عويف هذه يقولها يوم مرج راهط؛ وهي الحرب التي كانت بين قيس وكلب.0 يوم مرج راهط أخبرني بالسبب فيه أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: أخبرني سليمان بن أيوب بن أعين أبو أيوب المديني ، قال: حدثنا المدائني، قال: كان بدء حرب قيس وكلب في فتنة ابن الزبير ما كان من وقعة مرج راهط، وكان من قصة المرج أن مروان بن الحكم بن أبي العاص قدم بعد هلاك يزيد بن معاوية والناس يموجون، وكان سعيد بن بحدل الكلبي على قنرسين، فوثب عليه زفر بن الحارث فأخرجه منها وبايع لابن الزبير، فلما قعد زفرعلى المنبر، قال: الحمد لله الذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر، وحصر، فضحك الناس من قوله، وكان النعمان بن بشير على حمص، فبايع لابن الزبير. وكان حسان بن بحدل على فلسطين والأردن، فاستعمل على فلسطين روح بن زنباع الجذامي، ونزل هو الأردن فوثب نابل بن قيس الجذامي على روح بن زنباع، فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير.
موقف الضحاك بن قيس القهري وكان الضحاك بن قيس القهري عاملا ليزيد بن معاوية على دمشق حتى هلك، فجعل يقدم رجلا ويؤخر أخرى، إذ جاءته اليمانية وشيعة بني أمية أخبرهم أنه أموي، وإذا جاءته القيسية أخبرهم أنه يدعو إلى ابن الزبير، فلما قدم مروان قال له الضحاك: هل لك أن تقدم على ابن الزبير ببيعة أهل الشام? قال: نعم، وخرج من عنده، فلقيه عمرو بن سعيد بن العاص، ومالك بن هبيرة، وحصين بن نمير الكنديان، وعبيد الله بن زياد، فسألوه عما أخبره به الضحاك، فأخبرهم، فقالوا له: أنت شيخ بني أمية، وأنت عم الخليفة، هلم نبايعك. فلما فشا ذلك أرسل الضحاك إلى بني أمية يعتذر إليهم، ويذكر حسن بلائهم عنده، وأنه لم يرد شيئا يكرهونه، فاجتمع مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية وقال لهم: اكتبوا إلى حسان بن بحدل فليسر من الأردن حتى ينزل الجابية، ونسير من ها هنا حتى نلقاه، فيستخلف رجلا ترضونه، فكتبوا إلى حسان، فأقبل في أهل الأردن، وسار الضحاك بن قيس وبنو أمية في أهل دمشق، فلما استقلت الرايات من جهة دمشق، قالت القيسية للضحاك: دعوتنا لبيعة ابن الزبير، وهو رجل هذه الأمة، فلما تابعناك خرجت تابعا لهذا الأعرابي من كلب تبايع لابن أخته تابعا له، قال: فتقولون ماذا? قالوا: نقول: أن تنصرف وتظهر بيعة ابن الزبير ونظهرها معك، فأجابهم إلى ذلك، وسار حتى نزل مرج راهط، وأقبل حسان حتى لقي مروان بن الحكم، فسار حتى دخل دمشق، فأتته اليمانية تشكر بلاء بني أمية، فساروا مع مروان حتى نزلوا المرج على الضحاك، وهم نحو سبعة آلاف، والضحاك في نحو من ثلاثين ألفا، فلقوا الضحاك، فقتل الضحاك، وقتل معه أشراف من قيس، فأقبل زفر هاربا من وجهه ذاك حتى دخل قرقيسيا، وأقام عمير بن الحباب شيئا على طاعة بني مروان، ثم أقبل حتى دخل قرقيسيا على زفر فأقام معه، وذلك بعد يوم خازر حين قتل عبيد الله بن زياد.
ما قيل في يوم المرج وأقبل زفر يبكي قتلى المرج يقول:
لعمري لقد أبقت وقـيعة راهـط لمروان صدعا بيننـا مـتـنـائيا
أتذهب كلب لم تنلها رمـاحـنـا ويترك قتلى راهط هي ما هـيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أبعد ابن صقر وابن عمرو تتابعـا ومصرع همام أمنى الأمـانـيا فقال ابن المخلاة الكلبي يجيبه:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط على زفر داء من الداء باقـيا
تبكي على قتلى سليم وعامـر وذبيان مغرورا وتبكى البواكيا وقال ابن المخلاة في يوم المرج:
ويوم ترى الرايات فيه كأنهـا حوائم طير مستـدير وواقـع
مضى أربع بعد اللقاء وأربـع وبالمرج باق من دم القوم ناقع
طعنا زيادا في استه وهو مدبر وثور أصابته السيوف القواطع
ونجى حبيشا ملهب ذو عـلالة وقد جذ من يمنى يديه الأصابع
صفحة : 2165
وقد شهد الصفين عمرو بن محرز فضاق عليه المرج والمرج واسع وقال رجل من بني عذرة:
سائل بني مروان أهل العـج رهط النبي وولاة الـحـج
عنا وعن قيس غداة المـرج إذ يثقفون ثـقـفـا بـنـج
تسديس أطراف القنا المعوج إذا أخلف الضحاك ما يرجي
مذ تركوا من بعد طول هرج لحم ابن قيس للضباع العرج وقال جواس بن القعطل الكلابي في يوم المرج:
هم قتلوا براهط جـد قـيس سليما والقبائل مـن كـلاب
وهم قتلوا بني بدر وعبـسـا وألصق حر وجهك بالتراب
تذكرت الذحول فلن تقصـى ذحولك أو تساق إلى الحساب
إذا سارت قبائل من جـنـاب وعوف أشحنوا شم الهضاب
وقد حاربتنا فوجدت حـربـا تغصك حين تشرب بالشراب فأقبل عمير يخطر، فخرج من قرقيسيا يتطرف بوادي كلب، فيغير عليها وعلى من أصاب من قضاعة وأهل اليمن، ويخص كلبا ومعشر تغلب ، قبل أن تقع الحرب بين قيس وتغلب، فعل أهل البادية ينتصفون من أهل القرار كلهم. فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم، وأنهم لا يمتنعون من خيل الحاضرة، اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل، فسار بهم حتى نزل تدمر، وبه بنو نمير، وقد كان بين النميريين خاصة وبين الكلبيين الذي بتدمر عقد مع ابن بخدل بن بعاج الكلبي، فأرسلت بنو نمير رسلا إلى حميد يناشدونه الحرمة، فوثب عليهم ابن بعاج الكلبي فذبحهم، وأرسلوا إليهم: إنا قد قطعنا الذي بينا وبينكم، فالحقوا بما يسعكم من الأرض، فالتقوا فقتل ابن بعاج وظفر بالنميريين فقتلوا قتلا ذريعا وأسروا ، فقال راعي الإبل في قتل ابن بعاج ولم يذكر غيره من الكلبيين:
تجيء ابن بعاج نسور كأنـهـا مجالس تبغي بيعة عند تاجـر
تطيف بكلبـي عـلـيه جـدية طويل القرا يقذفنه في الحناجر
يقول له من كان يعلم علـمـه كذاك انتقام الله من كل فاجـر وقد كان زفر بن الحارث لما أغار عمير بن الحباب على الكلبيين قال يعيرهم بقوله:
يا كلب قد كلب الزمان عليكم وأصابكم مني عذاب مرسل
إن السماوة لا سماوة فالحقي بمنابت الزيتون وابنيبحـدل
وبأرض عك والسواحل إنها أرض تذوب باللقاح وتهزل حميد بن بحدل يغير على بوادي قيس
صفحة : 2166
فجمع لهم حميد بن الحريث بن بحدل، ثم خرج يريد الغارة على بوادي قيس، فانتهى إلى ماء لبني تغلب، فإذا النساء والصبيان يبكون، فقالت لهم النساء -وهن يحسبنهم قيسا-: ويحكم، ما ردكم إلينا، فقد فعلتم بنا بالأمس ما فعلتم فقالت لهم كلب: وما لكم? قالوا: أغار علينا بالأمس عمير بن الحباب، فقتل رجالنا، واستاق أموالنا، ولم يشككن أن الخيل خيل قيس وأن عميرا عاد إليهن، فقال بعض كلب لحميد: ما تريد من نسوة قد أغير عليهن وحربن، وصبية يتامى، وتدع عميرا. فاتبعوه، فبينا هم يسيرون إذ أخذوا رجلا ربيئة للقوم. فسألوه فقال لهم: هذا الجيش ها هنا والأموال، وقد خرج عمير في فوارس يريد الغارة على أهل بيت من بني زهير بن جناب، أخبر عنهم مخبر، فأقام حميد حتى جن عليه الليل، ثم بيت القوم بياتا. وقال حميد لأصحابه: شعاركم: نحن عباد الله حقا. فأصابوا عامة ذلك العسكر، ونجا فيمن نجا رجل عريان قذف ثوبه وجلس على فرس عري، فلما انتهى إلى عمير، قال عمير: قد كنت أسمع بالنذير العريان فلم أره، فهو هذا، ويلك ما لك قال: لا أدري غير أنه لقينا قوم فقتلوا من قتلوا وأخذوا العسكر، فقال: أفتعرفهم? قال: لا، فقصد عمير القوم وقال لأصحابه: إن كانت الأعاريب فسيسارعون إلينا إذا رأونا، وإن كانت خيول أهل الشام فستقف. وأقبل عمير، فقال حميد لأصحابه: لا يتحركن منكم أحد، وانصبوا القنا، فحمل عمير حملة لم تحركهم، ثم حمل فلم يتحركوا، فنادى مرارا: ويحكم من أنتم? فلم يتكلموا، فنادى عمير أصحابه: ويلكم خيل بني بحدل والأمانة، وانصرف على حاميته، فحمل عليه فوارس من كلب يطلبونه، ولحقه مولى لكلب يقال له شقرون، فاطعنا، فجرح عمير وهرب حتى دخل قرقيسيا إلى زفر، ورجع حميد إلى من ظفر به من الأسرى والقتلى، فقطع سبالهم وأنفهم، فجعلها في خيط، ثم ذهب بها إلى الشام، وقال قائل: بل بعث بها إلى عمير وقال: كيف ترى? أوقعي أم وقعك? فقال في ذلك سنان بن جابر الجهني:
لقـد طـار فـي الآفـــاق أن ابـــن بـــحـــدل حمـيدا شـفـى كـلـبـا فـقـرت عــيونـــهـــا
وعـرف قـيسـا بـالـهـــوان ولـــم تـــكـــن لتـنـزع إلا عــنـــد أمـــر يهـــينـــهـــا
فقلت له: قيس بن عيلان إنهسريع إذا ما عضت الحرب لبنها
سما بالعتاق الجرد من مرج راهط وتـدمـر ينـوي بـذلـهـــا لا يصـــونـــهـــا
فكـان لـهـا عــرض الـــســـمـــاوة لـــيلة سواء عـلـيهـا سـهـلـهــا وحـــزونـــهـــا
فمـن يحـتـمـل فـي شـأن كـلــب ضـــغـــينة علـينـا إذا مـا حـان فـي الـحـرب حـينـــهـــا
فإنـا وكـلـبـا كـالـيدين مــتـــى تـــضـــع شمـالـك فـي شـيء تـعـنـهـا يمــينـــهـــا
لقـد تـركـت قـتـلـى حـمـيد بــن بـــحـــدل كثـيرا ضـواحـيهـا قـلـــيلا دفـــينـــهـــا
وقـيسـية قـد طـلـقـتـهـــا رمـــاحـــنـــا تلـفـت كـالـصـيداء أودى جـــنـــينـــهـــا وقال سنان أيضا في هذا الأمر بعدما أوقع ببني فزارة:
يا أخت قيس سلي عنا علانـية كي تخبري من بيان العلم تبيانا
إنا ذوو حسب مال ومـكـرمة يوم الفخار وخير الناس فرسانا
منا ابن مرة عمرو قد سمعت به غيث الأرامل لا يردين ما كانا
والبحدلي الذي أردت فوارسـه قيسا غداة اللوى من رمل عدنانا
فغادرت حلبسا منها بمعـتـرك والجعد منعرفا لم يكس أكفانـا
كائن تركنا غداة العاه من جزر للطير منهم ومن ثكلى وثكلانـا
ومن غوان تبكي لا حميم لـهـا بالعاه تدعو بني عم وإخـوانـا فلما انتهى الخبر إلى عبد الملك بن مروان، وعبد الله ومصعب يومئذ حيان، وعند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل وعبد الله بن مسعدة بن حكم الفزاري، وجيء بالطعام، فقال عبد الملك لابن مسعدة: ادن، فقال ابن مسعدة: لا والله، لقد أوقع حميد بسليم وعامر وقعة لا ينفعني بعدها طعام حتى يكون لها غير، فقال له حسان: أجزعت أن كان بيني وبينكم في الحاضرة على الطاعة والمعصية، فأصبنا منكم يوم المرج، وأغار أهل قرقيسيا بالحاضرة على البادية بغير ذنب? فلما رأى حميد ذلك طلب بثأر قومه، فأصاب بعض ما أصابهم، فجزعت من ذلك، وبلغ حميدا قول ابن مسعدة فقال: والله لأشغلنه بمن هو أقرب إليه من سليم وعامر.
صفحة : 2167
ذكر في شعره إيقاع حميد ببني فزارة فخرج حميد في نحو من مائتي فارس، ومعه رجلان من كلب ودليلان، حتى انتهى إلى بني فزارة أهل العمود لخمس عشرة مضت من شهر رمضان، فقال: بعثني عبد الملك بن مروان مصدقا: فابعثوا إلى كل من يطيق أن يلقانا، ففعلوا، فقتلهم أو من استطاع منهم، وأخذ أموالهم، فبلغ قتلاهم نحوا من مائة ونيف، فقال عويف القوافي:
منا الله أن ألقى حميد بن بحـدل بمنزلة فيها إلى النصف معلمـا
لكيما نعاطيه ونبـلـو بـينـنـا سريجية يعجمن في الهام معجما
ألا ليت أني صادفتني مـنـيتـي ولم أر قتلى العام يا أم أسلـمـا
ولم أر قتلى لم تدع لي بعـدهـا يدين فما أرجوا من العيش أجذما
وأقسم ما ليث بخـفـان خـادر بأشجع من جعد جنانا ومقـدمـا يعني الجعد بن عمران بن عيينة وقتل يومئذ.
أسماء بن خارجة يشكو حميدا إلى عبد الملك فلما رجع عبد الملك من الكوفة وقتل مصعب، لحقه أسماء بن خارجة بالنخيلة، فكلمه فيما أتى حميد به إلى أهل العمود من فزارة، وقال: حدثنا أنه مصدقك وعاملك، فأجبناك وبك عذنا، فعليك وفي ذمتك ما على الحر في ذمته، فأقدنا من قضاعي سكير، فأبى عبد الملك وقال: انظر في ذلك وأستشير وحميد يجحد وليست لهم بينة، فوداهم الف وألف ومائتي ألف، وقال: إني حاسبها في أعطيات قضاعة، فقال في ذلك عمرو بن مخلاة الكلبي.
صوت
خذوها يا بني ذبيان عـقـلا على الأجياد واعتقدوا الخداما
دراهم من بني مروان بيضـا ينجمها لكم عاما فـعـامـا
وأيقـن أنـه يوم طـــويل على قيس يذيقهم السمـامـا
ومختب أمام القوم يسـعـى كسرحان التنوفة حين سامـا
رأى شخصا على بلد بـعـيد فكبر حين أبصره وقـامـا
وأقبل يسأل البشـرى إلـينـا فقال: رأيت إنسا أو نعامـا
وقال لخيله سـيري حـمـيد فإن لكل ذي أجل حمـامـا
فما لاقيت من سجـح وبـدر ومرة فاتركي حطبا حطاما
بكل مقلص عـبـل شـواه يدق بوقع نابيه اللـجـامـا
وكل طمرة مرطى سبـوح إذا ما شد فارسها الحزامـا
وقائلة على دهـش وحـزن وقد بلت مدامعها اللثـامـا
كأن بني فزارة لم يكـونـوا ولم يرعوا بأرضهم الثمامـا
ولم أر حاضرا منهم بـشـاء ولا من يملك النعم الركامـا فزارة تنتقم من قيس قال: فلما أخذوا الدية انطلقت فزارة فاشترت خيلا وسلاحا، ثم استتبعت سائر قبائل قيس، ثم أغارت على ماء يدعى بانت قين، يجمع بطونا كلب كثيرة وأكثر من عليه بنو عبد ود وبنو عليم بن جناب، وعلى قيس يومئذ سعيد بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وحلحلة بن قيس بن الأشيم بن يسار أحد بني العشراء ، فلما أغاروا نادوا بني عليم: إنا لا نطلبكم بشيء، وإنما نطلب بني عبد ود بما صنع الدليلان اللذان حملا حميدا، وهما المأمور ورجل آخر اسمه أبو أيوب، فقتل من العبديين تسعة عشر رجلا، ثم مالوا على العليميين فقتلوا منهم خمسين رجلا، وساقوا أموالا.
موقف عبد الملك بن مروان وعرضه الدية
فبلغ الخبر عبد الملك، فأمهل حتى إذا ولي الحجاج العراق كتب إليه يبعث إليه سعيد بن عيينة وحلحلة بن قيس ومعهما نفر من الحرس، فلما قدم بهما عليه قذفهما في السجن وقال لكلب: والله لئن قتلتم رجلا لأهريقين داماءكم، فقدم عليه من بني عبد ود عياض ومعاوية ابنا ورد، ونعمان بن سويد أبوه ابن مالك يومئذ أشرف من قتل يوم بنات قين، وكان شيخ بني عبد ود، فقال له النعمان: دماءنا يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: إنما قتل منكم الصبي الصغير والشيخ الفاني، فقال النعمان: قتل منا والله من لو كان أخلا لأبيك لاختير عليك في الخلافة، فغضب عبد الملك غضبا شديدا، فقال له معاوية وعياض: يا أمير المؤمنين، شيخ كبير موتوتر.
صفحة : 2168
فأعرض عنه عبد الملك وعرض الدية، وجعل خالد بن يزيد بن معاوية ومن ولدته كلب يقولون: القتل، ومن كانت أمه قيسية من بني أمية يقولون: لا، بل الدية كما فعل بالقوم، حتى ارتفع الكلام بينهم بالمقصورة، فأخرجهم عبد الملك ودفع حلحلة إلى بعض بني عبد ود، ودفع سعيد بن عيينة إلى بعض بني عليم، وأقبل عليهما عبد الملك فقال: ألم تأتياني تستعدياني فأعديتكما وأعطيتكما الدية، ثم انطلقتما فأخفرتما ذمتي وصنعتما ما صنعتما، فكلمه سعيد بكلام يستعطفه به ويرققه، فضرب حلحلة صدره وقال: أترى خضوعك لابن الزرقاء نافعك عنده، فغضب عبد الملك وقال: اصبر حلحلة، فقال له: أصبر من عود بجنبيه جلب فقتلا وشق ذلك على قيس، وأعظمه أهل البادية منهم والحاضرة، فقال في ذلك علي بن الغدير الغنوي:
لحلحلة القتيل ولابن بـدر وأهل دمشق أنجبة تبـين
فبعـد الـيوم أيام طـوال وبعد خمود فتنتكم فتـون
وكل صنيعة رصد لـيوم تحل به لصاحبها الزبون
خليفة أمة قسرت علـيه تخمط واستخف بمن يدين
فقد أتيا حميد ابن المنـايا وكل فتى ستشعبه المنون وقال رجل من بني عبد ود:
نحن قتلنا سيديهم بشيخنـا سويد فما كانا وفاء به دما وقال حلحلة وهو السجن
لعمري لئن شيخا فزارة أسلـمـا لقد خزيت قيس وما ظفرت كلب وقال أرطاة بن سهية يحرض قيسا:
أيقتل شيخنـا ويرى حـمـيد رخي البال منتشيا خمـورا
فإن دمنا بذاك وطال عـمـر بنا وبكم ولم نسمع نـكـيرا
فناكت أمها قـيس جـهـارا وعضت بعدها مضر الأيوار وقال عميرة بنت حسان الكلبية تفخر بفعل حميد في قيس:
سمت كلب إلى قيس بجمـع يهد مناكب الأكم الصعـاب
بذي لجب يدق الأرض حتى تضايق من دعا بهلا وهاب
نفين إلى الجزيرة فل قـيس إلى بق بهـا وإلـى ذنـاب
وألفينا هجين بـنـي سـلـيم يفدي المهر من حب الإياب
فلولا عدوة المهر المـفـدى لأبت وأنت منخرق الإهاب
ونجاه حثيث الركض مـنـا أصيلانا ولون الوجه كابـي
وآض كأنه يطلـى بـورس ودق هوي كاسرة عـقـاب
حمدت الله إذ لقى سـلـيمـا على دهمان صقر بني جناب
تركن الروق من فتيات قيس أيامى قد يئسن من الخضاب
فهن إذا ذكرن حميد كـلـب نعقن برنة بعد انـتـحـاب
متى تذكر فتى كلب حمـيدا تر القيسي يشرق بالشـراب مدح عيينة بن أسماء رغم تطليقه أخته
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: أنشدني رجل من بني فزارة لعويف القوافي -وهو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن بن حذيفة الفزاري- وكانت أخته عند عيينة بن أسماء بن خارجة فطقلها، فكان عويف مراغما لعيينة وقال: الحرة لا تطلق بغير ما بأس، فلما حبس الحجاج عيينة وقيده قال عويف:
منع الرقاد فما يحس رقادخبر أتاك ونامت العواد
خبر أتاني عن عيينة موجع ولـمـثـلـه تـتـصــدع الأكـــبـــاد
بلـغ الـنـفـوس بـلاؤهـا فـكـأنــنـــا موتـى وفـينـا الــروح والأجـــســـاد
ساء الأقـارب يوم ذاك فـأصـبـــحـــوا بهـجـين قـد سـروا بـه الـحـــســـاد
يرجـون عـثـرة جـدنـا ولـو أنــهـــم لا يدفـعـون بـنـا الـمـكــاره بـــادوا
لمـا أتـانـــي عـــن عـــيينة أنـــه عان تـظـاهـر فـــوقـــه الأقـــياد
نخـلـت لـه نـفـسـي الـنـصـيحة إنــه عنـد الـشـدائد تـذهــب الأحـــقـــاد
وذكـت أي فـتـى يسـد مــكـــانـــه بالـرفـد حـين تـقـاصـــر الأرفـــاد
أم مـن يعـين لـنـا كــرائم مـــالـــه ولـنـا إذا عـدنــا إلـــيه مـــعـــاد
لو كـان مـن حـضـن تـضـاءل ركـنــه أو مــــن نـــــــضـــــــاد مدح عبد الرحمن ابن مروان وهو صغير
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: قال العتبي:
صفحة : 2169
سأل عويف القوافي في حمالة، فمر به عبد الرحمن بن محمد بن مروان وهو حديث السن، فقال له: لا تسأل أحدا وصر إلي أكفك، فأتاه فاحتملها جمعاء له، فقال عويف يمدحه:
غلام رماه الله بالـخـير يافـعـا له سيمياء لا تشق على البـصـر
كأن الثريا علقت فـي جـبـينـه وفي حده الشعرى وفي جيده القمر
ولما رأى المجد استعيرت ثـيابـه تردى رداء واسع الـذيل واتـزر
إذا قيلت العوراء أغضـى كـأنـه ذليل بلا ذل ولو شاء لانـتـصـر
رآني فآساني ولـو صـد لـم ألـم على حين لا باد يرجى ولا حضر قال أبو زيد: هذه الأبيات لابن عنقاء الفزاري، يقولها في ابن أخ له، كان قوم من العرب أغاروا على نعم ابن عنقاء، فاستقوها، حتى لم يبق لها منها شيء، فأتى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، إنه قد نزل بعمك ما ترى، فهل من حلوبة? قال: نعم يا عم، يروح المال وأبلغ مرادك، فلما راح ماله قاسمه إياه وأعطاه شطره، فقال ابن عنقاء:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى إلى ماله حالي أسر كما جهر وذكر بعد هذا البيت باقي الأبيات. قال أبو زيد: وإنما تمثلها عويف.
رثى سليمان بن عبد الملك ومدح عمر بن عبد العزيز أخبرني محمد بن خلف وكيع، والحسن بن علي قالا: حدثنا الغلابي، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان، قال: لما مات سليمان بن عبد الملك وولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، وفد إليه عويف القوافي وقال شعرا رثى به سليمان ومدح عمر فيه، فلما دخل إليه أنشده:
لاح سحاب فرأينـا بـرقـه ثم تدانى فسمعنا صـعـقـه
وراحت الريح تزجي بلـقـه ودهمه ثم تـزجـي ورقـه
ذاك سقى قبرا فروى ودقـه قبر امرئ عظم ربي حقـه
قبر سليمان الذي من عـقـه وجحد الخير الذي قد بـقـه
في المسلمين جـلـه ودقـه فارق في الجحود منه صدقه
قد ابتلى الله بخير خـلـقـه ألقى إلى خير قريش وسقـه
يا عمر الخير الملقى وفقـه سميت بالفاروق فافرق فرقه
وارزق عيال المسلمين رزقه واقصد إلى الجود ولا توقـه
بحرك عذب الماء ما أعقـه ريك فالمحروم من لم يسقـه فقال له عمر: لسنا من الشعر في شيء، ومالك في بيت المال حق، فألح عويف يسأله فقال: يا مزاحم، انظر فيما بقي من أرزاقنا فشاطره إياه، ولنصبر على الضيق إلى وقت العطاء، فقال له عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الملك: بل توفر يا أمير المؤمنين وعلي رضا الرجل، فقال: ما أولاك بذلك، فأخذ بيده وانصرف به إلى منزله، وأعطاه حتى رضى.
صوت
صفرا يطويها الضجيع لصلبها طي الحمالة لين مثـنـاهـا
نعم الضجيع إذا النجوم تغورت بالغور أولاها على أخراهـا
عذب مقبلها وثـير ردفـهـا عبل شواها طيب مجنـاهـا
يا دار صهباء التي لا أنتهـي عن حبها أبدا ولا أنـسـاهـا الشعر لعبد الله بن جحش الصعاليك، والغناء فيه لعلي بن هشام ثقيل أول بالوسطى من كتاب أحمد بن المكي.
أخبار عبد الله بن جحش
طلاق صهباء من ابن عمها
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن غسان بن عبد الحميد قال: كان بالمدينة امرأة يقال لها: صهباء من أحسن الناس وجها، وكانت من هذيل، فتزوجها ابن عم لها، فمكث حينا معها لا يقدر عليها من شدة ارتتاقها، فأبضغته وطالبته بالطلاق، فطلقها. ثم أصاب الناس مطر شديد في الخريف، فسال العقيق سيلا عظيما، وخرج أهل المدينة، وخرجت صهباء معهم، فصادفت عبد الله بن جحش وأصحابه في نزهة، فرآها وافترقا.
يهيم بصهباء ويتقدم لخطبتها
صفحة : 2170
ثم مضت إلى أقصى الوادي فاستنقعت في الماء وقد تفرق الناس وخفوا، فاجتاز بها ابن جحش فرآها فتهالك عليها وهام بها، وكان بالمدينة امرأة تدل على النساء يقال لها: قطنة، كانت تداخل القرشيات وغيرهن، فلقيها ابن جحش فقال لها: اخطبي علي صهباء، فقالت: قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأجابوه، ولا اراهم يخارونك عليه، فشتمها ابن جحش وقال لها: كل مملوك له فهو حر، لئن لم تحتالي فيها حتى أتزوجها لأضربنك ضرب بالسيف -وكان مقداما جسورا- فرقت منه فدخلت على صهباء وأهلها، فتحدثت معهم، ثم ذكرت ابن عمها، فقالت لعمة صهباء: ما باله فارقها، فأخبرتها خبرها، وقالت: لم يقدر عليها وعجز عنها. فقالت لها: وأسمعت صهباء-: إن هذا ليعتري كثيرا من الرجال فلا ينبغي أن تتقدموا في أمرها إلا على من تختبرونه، وأما والله لو كان ابن جحش لصهباء لثقبها ثقب اللؤلؤ ولو رنقت بحجر، ثم خرجت من عندهم.
زواجه بصهباء فأرسلت إليها صهباء: مري ابن جحش فليخطبني، فلقيته قطنة فأخبرته الخبر، فمضى فخطبها، فأنعمت له وأبى أهلها إلا عيسى بن طلحة، وأبت هي إلا ابن جحش، فتزوجته ودخل بها وافتضها، وأحب كل واحد منهما صاحبه فقال فيها:
نعم الضجيع إذا النجوم تغورت بالغور أولاها على أخـراهـا
عذب مقبلهـا وثـير ردفـهـا عبل شواها طيب مجـنـاهـا
صراء يطويها الضجيع لجنبهـا طي الحمالة لين مـتـنـاهـا
لو يستطيع ضجيعها لأجنـهـا في الجوب حب نسيمها ونشاها
يا دار صهباء التي لا أنتـهـي عن ذكرها أبدا ولا أنسـاهـا كان عبد الملك بن مروان معجبا بشعره
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد بن الفرج، قال: حدثني محمد بن عبد الله، قال: كان عبد الملك بن مروان معجبا بشعر عبد الله بن جحش، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فورد كتابه وقد توفي، فقال إخوانه لابنه: طرده عبد الملك لتضييعه أدب أبيه لو شخصت إلى أمير المؤمنين عن إذنه لأبيك لعله كان ينفعك، ففعل، فبينا هو في طريقه إذ ضاع منه كتاب الإذن، فهم بالرجوع، ثم مضى لوجهه، فلما قدم على عبد الملك سأله عن أبيه فأخبره بوفاته، ثم سأله عن كتابه فأخبره بضياعه، فقال له: أنشدي قول أبيك: صوت
هل يبـلـغـنـهـا الـــســـلام أربـــعة منـي وإن يفـعـلـوا فـقـد نـفــعـــوا
علـى مـصـكـين مـن جـمـالـــهـــم وعـنـتـريسـين فـيهـمــا ســـطـــع
قرب جـيرانـنـا جـــمـــالـــهـــم صبحا فـأضـحـوا بـهـا قـد انـتـجـعـوا
ما كـنـت أدري بـوشـك بـــينـــهـــم حتـى رأيت الـحـداة قـد طـلـــعـــوا
قد كاد قلبي والعين تبصرهملما تولى بالقومينصدع
ساروا وخلفت بعدهم دنفا ألـيس بـالـلـه بـئس مـا صـنــعـــوا قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أرويه، قال: لا عليك، فأنشدني قول أبيك: صوت
أجد اليوم جيرتك الـغـيارا رواحا أم أرادوه ابتـكـارا
بعينك كان ذاك وإن يبينـوا يزدك البين صدعا مستطارا
بلى أبقت من الجيران عندي أناسا ما أوافقهـم كـثـارا
وماذا كثرة الجيران تغنـي إذا ما بان من أهوى فسارا قال: لا والله ما أرويه يا أمير المؤمنين، قال: ولا عليك، فأنشدني قول أبيك:
دار لصهباء التي لا ينـثـنـي عن ذكرها قلبي ولا أنساهـا
صفراء يطويها الضجيع لصلبها طي الحمالة لين مـتـنـاهـا
لو يستطيع ضجيعها لأجنـهـا في القلب شهوة ريحها ونشاها قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أرويه، وإن صهباء هذه لأمي، قال: ولا عليك، قد يبغض الرجل أن يشبب بأمه، ولكن إذا نسب بها غير أبيه، فأف لك ورحم الله أباك، فقد ضيعت أدبه وعققته؛ إذ لم ترو شعره. اخرج فلا شيء عندنا.
صوت
أماطت كساء الخز عن حر وجهها وأدنت على الخدين بردا مهلهـلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسـبة ولكن يقتلن البرء الـمـغـفـلا
صفحة : 2171
رأتني خضيب الرأس شمرت مئزري وقد عهدتني أسود الرأس مسـبـلا
خطوا إلى اللذات أجررت مـئزري كإجرارك الحبل الجواد المحـجـلا
صريع الهوى لا يبرح الحب قـائدي بشر فلم أعدل عن الشـر مـعـدلا
لدى الجمرة القصوى فريعت وهللت ومن ريع في حج من الناس هلـلا الشعر للعرجي، والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات، وهو من جيد الغناء وفاخر الصنعة، ويقال: أنه أول شعر صنعه، ولعزاز المكي في الثالث وما بعده ثاني ثقيل، عن يحيى المكي وغيره، وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريج وإلى الغريض، وفيه لإبراهيم لحن من كتابه غير مجنس، وأنا ذاكر ها هنا أخبارا لهذا الشعر من أخبار العرجي؛ إذ كان أكثر أخباره قد مضى سوى هذه.
بعض أخبار للعرجي
امرأة تتمثل بشعره
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا إسماعيل بن مجمع، عن المدائني، عن عبد الله بن سليم، قال: قال عبد الله بن عمر العمري: خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة الله، ألست حاجة أما تخافين الله فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عمي، فإني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفـلا قال: فقلت لها: فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال لها: اعزبي قبحك الله، ولكنه ظرف عباد الحجاز.
وقد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار.
أخبرني به وكيع، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا مصعب الزبيري، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الحسن وقد روى عنه ابن أبي ذئب، قال: بينا أبو حازم يرمي الجمار إذ هو بامرأة متشعبذة -يعني حاسرة-فقال لها: أيتها المرأة استتري، فقالت: إني والله من اللواتي قال فيهن الشاعر قوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفـلا
وترمي بعينيها القلوب ولا ترى لها رمية لم تصم منهن مقتـلا فقال أبو حازم لأصحابه: ادعوا الله لهذه الصورة الحسنة ألا يعذبها بالنار.
وأبو حازم هذا هو أبو حازم بن دينار من وجوه التابعين، قد روى عن سهل بن سعد وأبي هريرة، وروى عنه مالك وابن ذئب ونظراؤهما.
حدثني عمي، قال: حدثني الكراني، قال: حدثني العمري، عن العتبي، عن الحكم بن صخر، قال: انصرف من منى فسمعت زفنا من بعض المحامل، ثم ترنمت جارية فتغنت:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفـلا فقلت لها: أهذا مكان هذا يرحمك الله فقالت: نعم وإياك أن تكونه.
أخبار عبد الله بن العباس الربيعي
نسبه
عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع -على ما يدعيه أهله- ابن يونس بن أبي فروة، وقيل: إنه ليس ابنه، وآل أبي فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط، وجد منبوذا، فكفله يونس بن أبي فروة ورباه، فلما خدم المنصور ادعى عليه ، وأخباره مذكورة مع أخبار ابنه الفضل في شعر يغنى به من شعر الفضل وهو:
كنت صبا وقلبي اليوم سالي ويكنى عبد الله بن العباس أبا العباس.
كان شاعرا مطبوعا ومغنيا جيد الصنعة
وكان شاعرا مطبوعا، ومغنيا محسنا جيد الصنعة نادرها، حسن الرواية، حلو الشعر ظريفه، ليس من الشعر الجيد الجزل ولا من المرذول، ولكنه شعر مطبوع ظريف مليح المذهب، من أشعار المترفين وأولاد النعم.
حدثني أبو القاسم الشيربابكي -وكان نديما لجدي يحيى بن محمد- عن يحيى بن حازم، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال:
صفحة : 2172
دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنيه، وقد استعادني صوتا فاستحسنته، فقال له محمد بن عبد الملك: هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه واستحسانك له واصطناعك إياه، فقال: أجل، هذا مولاي وابن مولاي وابن موالي لا يعرفون غير ذلك، فقال له: ليس كل مولى -يا أمير المؤمنين- بولي لمواليه، ولا كل مولى متجمل بولائه، يجمع ما جمع عبد الله من ظرف وأدب وصحة عقل وجودة شعر، فقال الحسن له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لمحضره ، فقلت له في أضعاف كلامي: وأفرط الوزير -أعزه الله- في وصفي وتقريظي بكل شيء حتى وصفني بجودة الشعر وليس ذلك عندي، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة، ولو كان عندي أيضا شيء بعد ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير، ومحله في هذا الباب المحل الرفيع المشهور، فقال: والله يا أخي، لو عرفت مقدار شعرك وقولك:
يا شادنا رام إذ مر في السعانين قتلي
يقول لي: كيف أصبحت كيف يصبح مثلي لما قلت هذا القول، والله لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك: )كيف يصبح مثلي( لكنت شاعرا مجيدا.
حدثني جحظة، قال: حدثني أحمد بن الطيب، قال: حدثني حماد بن إسحاق، قال: سمعت عبد الله بن العباس الربيعي يقول: أنا أول من غنى بالكنكلة في الإسلام ووضعت هذا الصوت عليها:
أتاني يؤامرني في الصبو ح ليلا فقلت له: غادها سبب تعلمه الغناء
حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا علي بن يحيى المنجم، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه أني كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع، فكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندي فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في ستر عن جدي، وكان جدي وعمتي في حال من الرقة علي والمحبة لي لا نهاية وراءها، لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل، فقالت: يا بني، وما دعاك إلى ذلك? فقلت: شهوة غلبت على قلبي إن منعت منها مت غما، وكان لي في الغناء طبع قوي، فقالت لي: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني لكارهة أن تحذق ذلك وتشهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك، فقلت: لا تخافي ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، ولازمت الجارية لمحبتي إياها بعلة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدمت الجماعة حذقا، وأقررن لي بذلك، وبلغت ما كنت أريد من أمر الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي فكان يسر بذلك ويظنه تقربا مني إليه، وإنما كان وكدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بين دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته، فكنت سريع الأخذ، وإنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثا، وقد صح لي وأحسست من نفسي قوة في الصناعة، فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها وأدنت على الخدين بردا مهلهـلا ثم صنعت في:
أقفر من بعد خلة سـرف فالمنحنى فالعقيق فالجرف وعرضتها على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما، فقالت: لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا، وكان جواري الحارث بن بسخنر وجواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضا مني ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية، فأخذنهما مني وسألن الجارية عنهما، فأخبرتهن أنهما من صنعتي، فسألنها أن تصححهما لهن، ففعلت فأخذنهما عنها، ثم اشتهر حتى غني الرشيد بهما يوما، فاستظرفهما وسأل إسحاق: هل تعرفهما? فقال: لا، وإنهما لمن حسن الصنعة وجيدها ومتقنها، ثم سأل الجارية عنهما فتوقفت خوفا من عمتي وحذرا أن يبلغ جدي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد، فأخبرته بالقصة.
جده ينفي معرفته بأنه يغني
صفحة : 2173
فوجه من وقته فدعا بجدي، فلما أحضره قال له: يا فضل، يكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جواري القيان ولا تعلمني بذلك? كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن فقال له جدي: وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك، وإلا فأنا نفي منهما بري من بيعتك وعلي العهد والميثاق والعتق والطلاق، إن كنت علمت بشيء م هذا قط إلا منك الساعة، فمن هذا من ولدي? قال: عبد الله بن العباس هو، فأحضرنيه الساعة. فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعاني، فلما خرجت إليه شتمني وقال: يا كلب، بلغ من أمرك ومقدارك أن تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذني، ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري، ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بسخنر، فاشتهرت وبلغ أمرك أمير المؤمنين، فتنكر لي ولامني وفضحت آبائك في قبورهم، وسقطت الأبد إلا من المغنين وطبقة الخنياكرين . فبكيت غما بما جرى، وعلمت أنه قد صدق، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين: إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهي موصولة بحياتي، ومصيبة باقية العار علي وعلى أهلي بعدي، وبكى وقال: عز علي يا بني أن أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحب، وليست لي في هذا الأمر حيلة، لأنه أمر قد خرج عن يدي، ثم قال: جئني بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة، وإلا جئته بك منفردا وعرفته خبرك واستعفيته لك، فأتيته بعود وغنيته غناء قديما، فقال: لا، بل غني صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيته إياهما فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك، فواحزني عليك وعلى أبيك فقلت له: يا سيدي، ليتني مت من قبل ما أنكرته أو خرست، وما لي حيلة ولكني وحياتك يا سيدي، وإلا فعلي عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها حالف لازمة لي، لا غنيت أبدا إلا لخليفة أو ولي عهد، فقال: قد أحسنت فيما نبهت عليه من هذا.
غنى أمام الرشيد فطرب وكافأه
ثم ركب وأمرني، فأحضرت فوقفت بين يدي الرشيد وأنا أرعد فاستدناني حتى صرت أقرب الجماعة إليه ومازحني وأقبل علي وسكن مني، وأمر جدي بالانصراف وأمر الجماعة فحدثوني ، وسقيت أقداحا وغنى المغنون جميعا، فأومأ إلي إسحاق الموصلي بعينه أن أبدأ فغن إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك، ليكون ذلك أصلح وأجود بك، فلما جاءت النوبة إلي أخذت عودا ممن كان إلى جنبي وقمت قائما واستأذنت في الغناء، فضحك الرشيد وقال: عن جالسا، فجلست وغنيت لحني الأول فطرب واستعاده ثلاث مرات، وشرب عليه ثلاثة أنصاف، ثم غنيت الثاني، فكانت هذه حاله، وسكر، فدعا بمسرور فقال له: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوبا من فاخر ثيابي، وعيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك أجمع معي.
المعتصم يأمره بالتكفير عن يمينه
والغناء لأصحابه جميعا
قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولي عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي أهو أم غيره دعاني فأمرني بأن أغني، فأعرفه بيميني، فيستأذن الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه ولي عهد، وإلا عرف أنه غير حتى كان آخرهم الواثق، فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء، فأذن لي، ثم دعاني من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سري وسر الخلفاء قبلي، ولقد هممت أن آمر بضرب رقبتك. لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فوالله لئن بلغني لأقتلنك، فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلق من كان يوجد عندك من الحرائر، واستبدل بهن وعلي العوض من ذلك، وأرحنا من يمينك هذه المشؤومة، فقمت وأنا لا أعقل خوفا منه، فأعتقت جميع من كان بقي عندي من مماليكي، الذي حلفت يومئذ وهم في ملكي، وتصدقت بجملة، واستفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها، وغنيت بعد ذلك إخواني جميعا حتى اشتهر أمري، وبلغ المعتصم خبري، فتخلصت منه، ثم غضب علي الواثق لشيء أنكره، وولي الخلافة وهو ساخط علي فكتبت إليه:
اذكر أمير المؤمنين وسائلي أيام أرهب سطوة السيف
أدعو إلهي أن أراك خليفة بين المقام ومسجد الخيف فدعاني ورضي عني.
حدثني سليمان بن أبي شيخ قال:
صفحة : 2174
دخلت على العباس بن الفضل بن الربيع ذات يوم وهو مختلط مغتاظ وابنه عبد الله عنده، فقلت له: ما لك أمتع الله بك? قال: لا يفلح والله ابني عبد الله أبدا. فظننته قد جنى جناية، وجعلت أعتذر إليه له، فقال: ذنبه أعظم من ذلك وأشنع، فقلت: وما ذنبه? قال: جاءني بعض غلماني فحدثني أنه رآه بقطربل يشرب نبيذ الداذي بغير غناء، فهل هذا فعل من يفلح? فقلت له وأنا أضحك: سهلت علي القصة، قال: لا تقل ذاك فإن هذا من ضعة النفس وسقوط الهمة، فكنت إذا رأيت عبد الله بعد ذلك في جملة المغنين، وشاهدت تبذله في هذه الحال وانخفاضه عن مراتب أهله تذكرت قول أبيه فيه.
صنع غناء في شعر لأبي العتاهية
قال: وسمعته يوما يغني بصنعته في شعر أبي العتاهية:
أنا عبد لها مقر وما يملك غيرها من الناس رقا
ناصح مشفق وإن كنت ما أر زق مـنـهـا والـحـمـد لـلـه عـتـقـا
ليتـنـي مـت فـاسـتـرحـت فـإنـــي أبـدا مـا حـييت مـنـهـا مـلــقـــى لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر رمل.
إسحاق الموصلي يصنع له لحنا من شعره أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني علي بن يحيى وأحمد بن حمدون، عن أبيه. وأخبرني جحظة، عن أبي عبد الله الهاشمي، إن إسحاق الموصلي دخل يوما إلى الفضل بن الربيع وابن ابنه عبد الله بن العباس في حجره قد أخرج إليه وله نحو السنتين، وأبوه العباس واقف بين يديه، فقال إسحاق للوقت:
مد لك الله الحـياة مـدا حتى يكون ابنك هذا جدا
مؤزرا بمجـده مـردى ثم يفدى مثل ما تفـدى
أشبه منك سـنة وخـدا وشيما محمودا ومجـدا
كأنه أنت إذا تـبـدى قال: فاستحسن الفضل الأبيات وصنع فيها إسحاق لحنه المشهور، وقال جحظة في خبره عن الهاشمي، وهو رمل ظريف من حسن الأرمال ومختارها، فأمر له الفضل بثلاثين ألف درهم.
أصبح العباس بن الفضل مهموما فنشطه الشعر والشراب أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني عبد الله بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، قال: حدثني بعض ندماء الفضل بن الربيع قال: كنا عند الفضل بن الربيع في يوم دجن، والسماء ترش وهو أحسن يوم وأطيبه، وكان العباس يومئذ قد أصبح مهموما، فجهدنا أن ينشط، فلم تكن لنا في ذلك حيلة، فبينا نحن كذلك إذ دخل عليه بعض الشعراء، إما الرقاشي وإما غيره من طبقته، فسلم وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:
ألا أنعم صباحا يا أبا الفضل واربع على مربع القطربلي المشعشـع
وعلل نداماك العطاش بـقـهـوة لها مصرع في القوم غير مروع
فإنك لاق كـلـمـا شـئت لـيلة ويوما يغصان الجفون بـأدمـع قال: فبكى العباس وقال: صدقت والله، إن الإنسان ليلقى ذلك متى يشاء، ثم دعا بالطعام فأكل، ثم دعا بالشراب فشرب ونشط، ومر لنا يوم حسن طيب.
وسط أحمد بن المرزبان المنتصر حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: جاءني عبد الله بن العباس في خلافة المنتصر وقد سألني عرض رقعة عليه، فأعلم أني نائم، وقد كنت شربت بالليل شربا كثيرا، فصليت الغداة ونمت، فلما انتبهت إذا رقعة عند رأسي وفيها مكتوب:
أنا بالباب واقف منذ أصبحت على السرج ممسك بعناني
وبعين البواب كل الذي بي ويرانـــي كـــأنــــه لا يرانـــــــي فأمرت بإدخاله، فدخل، فعرفته خبري واعتذرت إليه وعرضت رقعته على المنتصر وكلمته حتى قضى حاجته.
غناؤه مع إسحاق اخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: دعا عبد الله بن العباس الربيعي يوما أبي، وسأله أن يبكر إليه ففعل ، فلما دخل بادر إليه عبد الله بن العباس ملتقيا وفي يده العود وغناه:
قم نصطبح يفديك كل مبخـل عاب الصبوح لحبه للـمـال
من قهوة صفراء صرف مزة قد عتقت في الدن مذ أحوال قال: وقدم الطعام فأكلنا واصطبحنا، واقترح أبي هذا الصوت عليه بقية يومه.
يناشد الشعر مع إسحاق بعد أن غنى قال: وأتيته في داره بالمطيرة عائدا، فوجدته في عافية، فجلسنا نتحدث فأنشدته لذي الرمة:
إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنـه بلا إحنة بين النفوس ولا ذحل
صفحة : 2175
تبسمن عن نور الأقاحي في الثرى وفترن عن أبصار مكحولة نجل
وكشفن عن أجياد غزلان رمـلة هجان فكان القتل أو شبهة القتل
وإنا لنرضى حين نشكو بخـلـوة إليهن حاجات النفوس بـلا بـذل
وما الفقر أزرى عندهن بوصلنـا ولكن جرت أخلاقهن على البخل قال: فأنشدني هو:
أنى اهتدت لمناخنا جمـل ومن الكرى لعيوننا كحل
طرقت أخا سفر وناجـية خرقاء عرفني بها الرحل
في مهمه هجع الدليل به وتعللت بصريفها البـزل
فكأن أحدث من ألـم بـه درجت على آثاره النمل قال إسحاق: فقال لي عبد الله بن العباس: كل ما يملك في سبيل الله إن فارقتك ولم نصطبح على هذين الشعرين، وأنشدك وتنشدني، ففعلنا ذلك وما غنينا ولا غنينا.
اصطبح مع خادم صالح بن عجيف على زنا بنت الخس أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: لقيت عبد الله بن العباس يوما في الطريق فقلت له: ما كان خبرك أمس? فقال: اصطبحت، فقلت: على ماذا ومع من? فقال: مع خادم صالح بن عجيف، وأنت به عارف، وبخبري معه ومحبتي له عالم، فاصطبحنا على زنا بنت الخس لما حملت من زنا، وقد سئلت: ممن حملت? فقالت:
أشم كغصن البان جعد مرجـل شغفت به لو كان شيئا مدانـيا
ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه سلافا ولا عذبا من الماء صافيا
وأقسم لو خيرت بين فـراقـه وبين ابي لاخترت أن لا أبا ليا
فإن لم أوسد ساعدي بعد هجعة غلاما هلاليا فشلت بـنـانـيا فقلت له: أقمت على لواط وشربت على زنا، والله ما سبقك إلى هذا أحد.
طلب من فائز غلام محمد بن راشد الغناء وهم يشربون أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: أخبرني ميمون بن هارون، قال: كان محمد بن راشد الخناق عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع على القاطول في أيام المعتصم، وكان لمحمد بن راشد غلام يقال له: فائز، يغني غناء حسنا، فأظلتهم سحابة وهم يشربون، فقال عبد الله بن العباس:
محمد قد جادت علينا بـمـائهـا سحابة مزن برقهـا يتـهـلـل
ونحن من القاطول في متـربـع ومنزلنا فيه المنابـت مـبـقـل
فمر فائزا يشدو إذا ما سقيتـنـي أعن ظعن الحي الألى كنت تسأل
ولا تسقني إلا حـلالا فـإنـنـي أعاف من الأشياء ما لا يحـلـل قال: فأمر محمد بن راشد غلامه فائزا، فغناه بهذا الصوت، وشرب عليه حتى سكر.
قال: وكان أبو أحمد بن الرشيد قد عشق فائزا، فاشتراه من محمد بن راشد بثلاثمائة ألف درهم، فبلغ ذلك المأمون، فأمر بأن يضرب محمد بن راشد ألف سوط، ثم سئل فيه فكف عنه، وارتجع منه نصف المال، وطالبه بأكثر فوجده قد أنفقته وقضى دينه، ثم حجر على أبي أحمد بن الرشيد، فلم يزل محجورا عليه طوال أيام المأمون؛ وكان أمر بماله مردودا إلى مخلد بن أبان.
شرب الخمر في رمضان إلى الفجر
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني ابن الجرجاني ، قال: اتفق يوم النيروز في شهر رمضان، فشرب عبد الله بن العباس بن الفضل في تلك الليلة إلى أن بدا الفجر أن يطلع، وقال في ذلك وغنى فيه قوله:
اسقني صفراء صافـية ليلة النـيروز والأحـد
حرم الصوم اصطباحكما فتزود شربهـا لـغـد صنع لحنا للواثق وغناه في يوم نيروز فلم يستعد غيره أخبرني عمي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني غبراهيم بن المدبر، قال: قال لي محمد بن الفضل الجرجاني: أنشدت عبد الله بن العباس الربيعي للمعلى الطائي:
باكر صبوحك صبحة النيروز واشرب بكأس مترع وبكوز
ضحك الربيع إليك عن نواره آس ونسرين ومر ماحـوز فاستعادنيهما فأعدتهما عليه، وسألني أن أمليهما، وصنع فيهما لحنا غنى به الواثق في يوم نيروز، فلم يستعد غيره يومئذ، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
تأثر من شعر لجميل إلى أن بكى أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني علي بن يحيى، قال:
صفحة : 2176
أنشدني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع لجميل، وأنشدنيه وهو يبكي ودموعه تنحدر على لحيته.
صوت
فما لك لما خبر الناس أنـنـي غدرت بظهر الغيب لم تسليني
فأحلف بتا أو أجيء بشـاهـد من الناس عدل إنهم ظلموني قال: وله فيه صنعة من خفيف الثقيل وخفيف الرمل.
كان مصطبحا دهره
ويقول الشعر في الصبوح
أخبرني عمي، قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثنا نافذ مولانا، قال: كان عبد الله بن العباس صديقا لأبيك، وكان يعاشره، كثيرا وكان عبد الله بن العباس مصطبحا دهره يفوته ذلك إلا في يوم جمعة أصوم شعر رمضان، وكان يكثر المدح للصبوح ويقول الشعر فيه، ويغني فيما يقوله، قال عبيد الله: فأنشدني نافذ مولانا وغيره من اصحابنا في ذلك، منهم حماد بن إسحاق: صوت
ومستطيل على الصهباء باكرها في فتية باصطباح الراح حذاق
فكل شيء رآه خالـه قـدحـا وكل شخص رآه خاله الساقي قال: ولحنه فيه خفيف رمل ثقيل. قال حماد: وكان أبي يستجيد هذا الصوت من صنعته ، ويستحسن شعره ويعجب من قوله:
فكل شيء رآه خاله قـدحـا وكل شخص رآه خاله الساقي ويعجب من قوله:
ومستطيل على الصهباء باكرها ويقول: وأي شيء تحته من المعاني الظريفة.
قال: وسمعه أبي يغنيه فقال له: كأنك والله يا عبد الله خطيب يخطب على المنبر، قال عبد الله بن محمد: فأنشدني حماد له في الصبوح:
لا تعذلن في صبوحـي فالعيش شرب الصبوح
ما عاب مصطبحـا ق ط غير وغد شـحـيح قال عمي: قال عبيد الله: دخل يوما عبد الله بن العباس الربيعي على أبي مسلما، فلما استقر به المجلس وتحادثا ساعة قال له: أنشدني شيئا من شعرك، فقال: إنما أعبث ولست ممن يقدم عليك بإنشاد شعره، فقال: أتقول هذا وأنت القائل:
يا شادنا رام إذ مر في الشعانين قتلي
تقول لي: كيف أصبحت? كيف يصبح مثلي أنت والله أعزك الله أغزل الناس وأرقهم شعرا، ولو لم تقل غير هذا البيت الواحد لكفاك ولكنت شاعرا.
كتب شعرا في ليلة مقمرة
وصنع فيه لحنا
أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي، قالا: حدثنا أحمد بن أبي الطاهر، قال: حدثني أحمد بن الحسين الهشامي أبو عبد الله، قال: حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: كنت جالسا على دجلة في ليلة من الليالي، وأخذت دواة وقرطاسا وكتبت شعرا حضرني وقلته في ذلك الوقت: صوت
أخلفك الدهر ما تـنـظـره فاصبر فذا جل أمر ذا القدر
لعلنا أن نـديل مـن زمـن فرقنا والزمـان ذو غـير قال: ثم أرتج علي فلمأدر ما أقول حتى يئتس من أن يجيئني شيء، فالتفت فرأيت القمر وكانت ليلة تتمته فقلت:
فانظر إلى البدر فهو يشبهه إن كان قد ضن عنك بالنظر ثم صنعت فيه لحنا من الثقيل الثاني. قال أبو عبد الله الهشامي: وهو والله صوت حسن.
وصف البرق وصنع فيه لحنا غناه للواثق أخبرني جحظة عن ابن حمدون، وأخبرني الكوكبي، عن علي بن محمد بن نصر، عن خالد بن حمدون، قال: كنا عند الواثق في يوم دجن، فلاح برق واستطار، فقال: لو في هذا شيء ، فبدرهم عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، فقال هذين البيتين:
أعني على لامع بارق خفي كلمحك بالحاجب
كأن تألقه في السمـاء يدا كاتب أو يدا حاسب وصنع فيه لحنا شرب فيه الواثق بقية يومه، واستحسن شعره ومعناه وصنعته، ووصل عبد الله بصلة سنية.
صنع لحنا في شعر الحسين بن الضحاك وغناه حدثني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد بن مروان، قال: حدثني الحسين بن الضحاك، قال: كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، وهو مصطبح، وخادم له قائم يسقيه فقال لي: يا أبا علي، قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل، فقلت:
أحيت صبوحي فكاهة اللاهي وطاب يومي بقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكـامـنـه من قبل يوم منغص ناهـي
صفحة : 2177
بابنة كرم من كف منتطـق مؤتزر بالـمـجـون تـياه
يسقيك من طرفه ومـن يده سقي لطيف مجرب داهي
طاسا وكاسا كأن شاربـهـا حيران بين الذكور والساهي فاستحسنه عبد الله، وغنى فيه لحنا مليحا، وشربنا عليه بقية يومنا.
قصته مع جارية نصرانية أحبها أخبرني عمي، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن المرزبان بن الفيرزن ، قال: حدثني شيبة بن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قد علق جارية نصرانية قد رآها في بعض أعياد النصارى، فكان لا يفارق البيع في أعيادهم شغفا بها، فخرج في عيد ماسرجيس فظفر بها في بستان إلى جانب البيعة، وقد كان قبل ذلك يراسلها ويعرفها حبه لها، فلا تقدر على مواصلته ولا على لقائه إلا على الطريق، فلما ظفر بها التوت عليه وأبت بعض الإباء، ثم ظهرت له وجلست معه، وأكلوا وشربوا، وأقام معها ومع نسوة كن معها أسبوعا، ثم انصرفت في يوم خميس، فقال عبد الله بن العباس في ذلك وغنى فيه:
رب صهباء من شراب المجوس قهوة بـابـلـية خـنـدريس
قد تجليتـهـا بـنـاي وعـود قبل ضرب الشماس بالناقـوس
وغـزال مـكـحـل ذي دلال ساحر الطرف سامري عروس
قد خلونا بطيبـه نـجـتـلـيه يوم سبت إلى صباح خـمـيس
يتثنى بـحـسـن جـيد غـزال وصليت مفضض آبـنـوسـي
كم لثمت الصليب في الجيد منها كهلال مكـلـل بـشـمـوس تطير من الغراب واستبشر بالهدهد أخبرني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، عن شيبة بن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس يوما جالسا ينتظر هذه النصرانية التي كان يهواها، وقد وعدته بالزيارة، فهو جالس ينتظرها ويتفقدها إذ سقط غراب على برادة داره فنعب مرة واحدة ثم طار، فتطير عبد الله من ذلك ولم يزل ينتظرها يومه فلم يراها، فأرسل رسوله عشاء يسأل عنها، فعرف أنها قد انحدرت مع أبيها إلى بغداد، فتنغص عليه يومه، وتفرق من كان عنده، ومكث مدة لا يعرف لها خبرا. فبينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه، إذ سقط هدهد على برادته، فصاح ثلاثة أصوات وطار، فقال عبد الله بن العباس: وأي شيء أبقى الغراب للهدهد علينا? وهل ترك لنا أحد يؤذينا بفراقه? وتطير من ذلك، فما فرغ من كلامه حتى دخل رسولها يعلمه أنها قد قدمت منذ ثلاثة أيام، وأنها قد جاءته زائرة على إثر رسولها، فقال في ذلك من وقته:
سقاك الله يا هدهد وسميا من القطـر
كما بشرت بالوصل ومـا أنـذرت بـالـهـــجـــر
فكـم ذا لـك مـن بـــشـــرى أتـتـنـي مـنـك فـي سـتـــر
كمـا جـاءت ســـلـــيمـــان فأوفـت مـنـه بــالـــنـــذر
ولا زال غراب البين في قفاعة الأسر
كما صرح بالبين ومـا كـــنـــت بـــه أدري ولحنه في هذا الشعر هزج.
غني للمتوكل لحنا لم يعجبه فذكره بألحان له سابقة حدثني عمي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن مصعب: قال لي عبد الله بن العباس الربيعي: لما صنعت لحني في شعري:
ألا أصبحاني يوم السعانـين من قهوة عتقت بكـركـين
عند أناس قلبي بهم كـلـف وإن تولوا دينا سوى دينـي
قد زين الملك جعفر وحكى جود أبيه وبـأس هـارون
وأمن الخائف البريء كمـا أخاف أهل الإلحاد في الدين دعاني المتوكل فلما جلست في مجلس المنادمة غنيت هذا الصوت فقال لي: يا عبد الله، إين غناؤك في هذا الشعر في أيامي هذه من غنائك في:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها وأدنت على الخدين بردا مهلهـلا ومن غنائك في:
أفقر من بعد حلة سـرف فالمنحنى فالعقيق فالجرف ومن سائر صنعتك المتقدمة التي استفرغت محاسنك فيها، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إني كنت أتغنى في هذه الأصوات ولي شبابا وطرب وعشق، ولو رد علي لغنيت مثل ذلك الغناء، فأمر بجائزة واستحسن قولي.
غنى للمنتصر بشعر لم يطلبه منه فلم يصله بشيء حدثني عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال:
صفحة : 2178
ذكر المنتصر يوما عبد الله بن العباس وهو في قراح النرجس مصطبح، فأحضره وقال له: يا عبد الله، اصنع لحنا في شعري الفلاني، وغنني به، وكان عبد الله حلف لا يغني في شعره، فأطرق مليا، ثم غنى في شعر قاله للوقت وهو:
يا طيب يومي في قراح النرجس في مجلس ما مثله من مجلس
تسقى مشعشعة كأن شعاعـهـا نار تشب لبائس مسـتـقـبـس قال: فجهد أبي بالمنتصر يوما واحتال عليه بكل حيلة أن يصله بشيء فلم يفعل.
غنى للمتوكل فأطربه وأمر له بجائزة حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: غضبت قبيحة على المتوكل وهاجرته، فجلس ودخل الجلساء والمغنون، وكان فيهم عبد الله بن العباس الربيعي، وكان قد عرف الخبر، فقال هذا الشعر وغنى فيه:
لسـت مـنـي ولـسـت مـنـك فـدعـنــي وامـض عـنـي مـصـاحـبـا بـســـلام
لم تجد علة تجنى بها الذنب فصارت تعتل بالأحلام
فإذا ما شكوت ما بي قالت: قد رأينـا خـلاف ذا فـي الــمـــنـــام قال: فطرب المتوكل وأمر له بعشرين ألف درهم وقال له: إن في حياتك يا عبد الله لأنسا وجمالا وبقاء للمروءة والظرف.
غني بشعر للسليك أخبرني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: كنت في بعض العساكر فأصابتنا السماء حتى تأذينا، فضربت لي قبة تركية، وطرح لي فيها سريران، فخطر بقلبي قول السليك: صوت
قرب النخام واعجل يا غـلام واطرح السرج عليه واللجام
أبلغ الفتـيان أنـى خـائض غمرة الضرب فمن شاء أقام فغنيت فيه لحني المعروف، وغدونا فدخلت مدينة، فإذا أنا برجل يغني به والله ما سبقني إليه أحد ولا سمعه مني أحد، فما أدري من الرجل، ولا من أين كان له، وما أرى إلا أن الجن أوقعته في لسانه.
غنى لمحمد بن الجهم فاحتمل خراجه في سنة حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: كنت عند محمد بن الجهم البرمكي بالأهواز، وكانت ضيعتي في يده، فغنيته في يوم مهرجان وقد دعانا للشرب: صوت
المهـرجـان ويوم الاثـنـين يوم سرور قد حف بـالـزين
ينقل من وغرة المصيف إلـى برد شتاء ما بين فـصـلـين
محمد يا بن الجهم ومن بـنـى للمجد بيتا من خـير بـيتـين
عش ألف نيروز ومهرج فرحا في طيب عيش وقرة العـين قال: فسر بذلك واحتمل خراجي في تلك السنة، وكان مبلغه ثلاثين ألف درهم.
عشق جارية عند أبي عيسى بن الرشيد
فوجه بها معه إلى منزله
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني ابن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة القطراني، عن محمد بن حسين ، قال: كنا عند أبي عيسى بن الرشيد في زمن الربيع ومعنا مخارق، وعلوية، وعبد الله بن العباس الربيعي، ومحمد بن الحارث بن بسخنر ، ونحن مصطحبون في طارمة مضروبة على بستانه، وقد تفتح فيه ورد وياسمين وشقائق، والسماء متغيمة غيما مطبقا، وقد بدأت ترش رشا ساكبا ، فنحن في أكمل نشاط وأحسن يوم إذ خرجت قيمة دار أبي عيسى فقالت: يا سيدي، قد جاءت عساليج، فقال: لتخرج إلينا، فليس بحضرتنا من تحتشمه، فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة، حسنة العقل والهيئة والأدب، في يدها عود. فسلمت، فأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست، وغنى القوم حتى انتهى الدور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئا وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنت غناء حسنا مطربا متقنا، ولم تدع أحدا ممن حضر إلا غنت صوتا من صنعته وأدته على غاية الإحكام، فطربنا واستحسنا غناءها وخاطبناها بالاستحسان، وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر إليها، فقال له أبو عيسى: عشقتها وحياتي يا عبد الله، قال: لا والله يا سيدي وحياتك مع عشقتها، ولكني استحسنت كل ما شاهدت منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء، فقال له أبو عيسى: فهذا والله هو العشق وسببه، ورب جد جره اللعب. وشربنا، فلما غلب النبيذ على عبد الله غنى أهزاجا قديمة وحديثة، وغنى فيما غنى بينهما هزجا في شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى وهو: صوت
صفحة : 2179
نطق السكر بـسـري فـبـدا كم يرى المكتوم يخفى لا يضح
سحر عينـيك إذا مـا رنـتـا لم يدع ذا صبوة أو يفتـضـح
ملكت قلبا فأمسـى غـلـقـا عندها صبا بها لـم يسـتـرح
بجـمـال وغـنـاء حـسـن جل عن أين ينتقيه المقـتـرح
أورث القلب همومـا ولـقـد كنت مسرورا بمـرآه فـرح
ولكم مغتـبـق هـمـا وقـد بكر اللهو بكور المصطـبـح -الغناء لعبد الله بن العباس هزج- فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، وطار طربا ، وشرب على الصوت وقال له: صح والله قولي لك في عساليج. وأنت تكابرني حتى فضحك السكر. فجحد، وقال: هذا غناء كنت أرويه، فحلف أبو عيسى أنه ما قاله ولا غناه إلا في يومه، وقال له: احلف بحياتي أن الأمير ليس هو كذلك، فلم يفعل، فقال له أبو عيسى: والله لو كانت لي لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى بن معاذ، والله لئن باعوها لأملكنك إياها ولو بكل ما أملك، وحياتي لتنصرفن قبلك إلى منزلك، ثم دعا بحافظتها وخادم من خحدمه، فوجه بها معهما إلى منزله. والتوى عبد الله قليلا وتجلد، وجاحدنا أمره ثم انصرف.
اشترت عمته عساليج ثم وهبتها له واتصل الأمر بينهما بعد ذلك، فاشترتها عمته رقية بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت.
فحدثني جعفر بن قدامة بن زياد عن بعض شيوخه -سقط عني اسمه- قال: قالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغني أنك عشقت جارية يقال لها عساليج فاعرضها علي، فإما أن عذرتك وإما أن عذلتك، فوجه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هي يا ستي فانظري واسمعي، ثم مريني بما شئت أطعك، فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله أتشاور في? فوالله ما شاروت لما صاحبتك، فنعرت بذل وصاحت: إيه، أحسنت والله يا صبية، ولو لم تحسني شيئا ولا كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة، أحسنت والله، ثم قالت لعبد الله: ما ضيعت ، احتفظ بصاحبتك.
غني الواثق في يوم نيروز فأمر له بجائزة حدثني عمي، قال: حدثني محمد بن المرزبان، عن أبيه، عن عبد الله بن العباس، قال: دعانا الواثق في يوم نوروز، فلم دخلت عليه غنيته في شعر قلته وصنعت فيه لحنا وهو:
هي للنيروز جـامـا ومدامـا ونـدامـى
يحمدون اللـه والـوا ثق هـارون الإمـام
ما رأى كسرى أنوشر وإن مثل العام عامـا
نرجسا غضـا ووردا وبهارا وخـزامـى قال: فطرب واستحسن الغناء، وشرب عليه حتى سكر، وأمر بثلاثين ألف درهم.
حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني شيبة بن هشام قال: ألقت متيم على جوارينا هذا اللحن وزعمت أنها أخذته من عبد الله بن العباس والصنعة له: صوت
اخـذت عـــدوة فسقى الإله عدوتي
وفديتها بـأقـاربـي وبأسرتي وبجيرتي
جدلت كجدل الخيزرا ن وثنيت فتثـنـت
واستيقنت أن الفـؤا د يحبهـا فـأدلـت عشق مصابيح وقال فيها شعرا قال: ثم حدثتنا متيم أن عبد الله بن العباس كان يتعشق مصابيح جارية الأحدب المقين ، وأنه قال هذا الشعر فيها، وغنى فيه هذا اللحن بحضرتها، فأخذته عنه. هكذا ذكر شيبة بن هشام من أمر مصابيح، وهي مشهورة من جواري آل يحيى بن معاذ، ولعلها كانت لهذا المقين قبل أن يملكها آل يحيى، وقبل أن تصل إلى رقية بنت الفضل بن الربيع.
وحدثنا أيضا عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، عن شيبة ابن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس يتعشق جارية الأحدب المقين -ولم يسمها في هذا الخبر- فغاضبها في شيء بلغه عنها، ثم رام بعد ذلك أن يترضاها فأبت، وكتب إليها رقعة يحلف لها على بطلان ما أنكرته، ويدعو الله على من ظلم، فلم تجبه عن شيء مما كتب به، ووقعت تحت دعائه: آمين، ولم تجب عن شيء مما تضمنته الرقعة بغير ذلك، فكتب إليها:
أما سروري بالكـتـا ب فليس يفنى ما بقينا
وأتى الكتاب وفيه لي آمين رب العالمينـا
صفحة : 2180
قال: وزارته في ليلة من ليالي شهر رمضان وأقامت عنده ساعة، ثم انصرفت وأبت أن تبيت وتقيم ليلتها عنده، فقال هذا الشعر وغنى فيه هزجا وهو مشهور من أغانيه وهو: صوت
ما ين لهم أمسـى يؤرقـنـي حتى مضى شطر ليلة الجهني
عني ولم أدر أنها حـضـرت كذاك من كان حزنه حزنـي
إني سـقـيم مـولـه دنـف أسقمني حسن وجهك الحسـن
جودي له بالشفـاء مـنـيتـه لا تهجري هائما عليك ضني قال: وليلة الجهني ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قال رجل من جهينة: إنه رأى فيها ليلة القدر فيما يرى النائم فسميت ليلة الجهني.
غني في دار محمد بن حماد أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدثني شيبة بن هشام، قال: دعانا محمد بن حماد بن دنقش وكان له ستارة في نهاية الوصف، وحضر معنا عبد الله بن العباس، فقال عبد الله وغنى فيه:
دع عنك لومي فإني غير منقـاد إلى الملام وإن أحببت إرشـادي
فلست أعرف لي يوما سررت به كمثل يومي في دار ابن حمـاد غنى الواثق بشعر ذكرت فيه أعياد النصارى فخشي أن يتنصر أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثني أبو أيوب المديني، قال: حدثني ابن المكي، عن عبد الله بن العباس، قال: لما صنعت لحني في شعري:
يا ليلة ليس لـهـا صـبـح وموعدا لـيس لـه نـجـح
من شادن مر على وعده المي لاد والـسـلاق والـذبــح -هذه أعياد النصارى- غنيته الواثق فقال: ويلكم، أدركوا هذا لا يتنصر، وتمام هذا الشعر:
وفي السعانين لو أنـي بـه وكان أقصى الموعد الفصح
فالله أستعدي علـى ظـالـم لم يغن عنه الجود والشـح نسخت من كتاب أبي سعيد السكري: قال أبو العتاهية: وفيه لعبد الله بن العباس غناء حسن:
أنا عبد لها مقر وما يملك لي غيرها من الناس رقا
ناصح مشفق وإن كنت ما أر زق مـنـهـا والـحـمـد الـلـه عـتـقـــا
ومن الحين والشقاء تعلقت مليكا مستكبرا حين يلقى
إن شكوت الذي لقيت إليه صدعـنـي وقـال: بـعـدا وسـحـــقـــا حكى حاله في غناء بحضرة حمدون بن إسماعيل أخبرني عمي، حدثني علي بن محمد بن نصر، عن جده حمدون بن إسماعيل، قال: دخلت يوما إلى عبد الله بن العباس الربيعي، وخادم له يسقيه، وبيده عوده، وهو يغني هذا الصوت:
إذا اصطبحت ثلاثـا وكان عودي نديمـي
والكأس تغرب ضحكا من كف ظبي رخيم
فما عـلـي طـريق لطارقات الهـمـوم قال: فما رأيت أحسن مما حكى حاله في غنائه، ولا سمعت أحسن مما غنى.
عشق غلام حزام خادم المعتصم أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني دوسر الخراساني قال: اشترى حزام خادم المعتصر خادما نظيفا، كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يتعشقه، فسأله هبته له أو بيعه منه فأبى، فقال عبد الله أبياتا وصنع فهيا غناء، وهي قوله:
يوم سبت فصرفا لي المداما واسقياني لعلني أنا أنـامـا
شرد النوم حب ظبي غـرير ما أراه يرى الحرام حراما
اشتراه يوما بـعـلـفة يوم أصبحت عنده الدواب صياما فاتصلت الأبيات وخبرها بحزام، فخشي أن تشتهر ويسمعها المعتصم فيأتي عليه؛ فبعث بالغلام إلى عبد الله، وسألن عن يمسك عن الأبيات، ففعل.
إبراهيم الموصلي يغني أمام الرشيد لحنا من صنعته فيرسل إليه ويلازمه حدثني الصولي، قال: حدثني الحسين بن يحيى، قال: قلت لعبد الله بن العباس: إنه بلغني لك خبر مع الرشيد أو ما شهرت بالغناء، فحدثني به، قال: نعم أول صوت صنعته:
أتاني يؤامرني في الصبو ح ليلا فقلت له: غادها
صفحة : 2181
فلما تأتى لي وضربت عليه بالكنكلة؛ عرضته على جارية لنا يقال لها راحة، فاستحسنته وأخذته عني، وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلي، فسمعها يوما تغنيه وتناغي به جارية من جواريه، فاستعادها إياه وأعادته عليه، فقال لها: فمن هذا? فقالت: صوت قديم، فقال لها: كذبت، لو كان قديما لعرفته، وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له بأنه من صنعتي، فعجب من ذلك، ثم غناه يوما بحضرة الرشيد، فقال له: لمن هذا اللحن يا إبراهيم? فأمسك على الجواب وخشي أن يكذبه فينمي الخبر إليه من غيره، وخاف من جدي أن يصدقه، فقال له: ما لك لا تجيبني? فقال: لا يمكنني يا أمير المؤمنين، فاستراب بالقصة، ثم قال: والله، وتربة المهدي لئن لم تصدقني لأعاقبنك عقوبة موجعة، وتوهم أنه لعلية أو لبعض حرمه فاستطير غضبا، فلما رأى إبراهيم الجد منه صدقه فيما بينه وبينه سرا، فدعا لوقته الفضل بن الربيع ثم قال له: أيصنع ولدك غناء ويرويه الناس ولا تعرفني? فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط، ولا سمع به إلا في وقته ذلك، فقال له: ابن ابنك عبد الله بن العباس أحضرنيه الساعة، فقال: أنا أمضي وأمتحنه، فإن كان يصلح للخدمة أحضرته، وإلا كان أمير المؤمنين أولى من ستر عورتنا، فقال: لا بد من إحضاره. فجاء جدي فأحضرني وتغيظ علي، فاعتذرت وحلفت له أن هذا شيء ما تعمدته، وإنما غنيت لنفسي، وما أدري من أين خرج، فأمر بإحضار عود فأحضر، وأمرني فغنيته الصوت، فقال: قد عظمت مصيبتي فيك يا بني، فحلفت له بالطلاق والعتاق ألا أقبل على الغناء رفدا أبدا، ولا أغني إلا خليفة أو ولي عهد، ومن لعله أن يكون حاضرا مجالسهم، فطابت نفسه. فأحضرني ، فغنيت الرشيد الصوت فطرب وشرب عليه أقداحا، وأمرني بالملازمة مع الجلساء، وجعل لي نوبة، وأمر بحمل عشرة آلاف دينار إلى جدي، وأمره أن يبتاع ضيعة لي بها، فابتاع لي ضيعتي بالأهواز، ولم أزل ملازما للرشيد حتى خرج إلى خراسان، وتأخرت عنه وفرق الموت بيننا.
اقترض الواثق مالا ليعطيه له
قال ابن المرزبان: فكان عبد الله بن العباس سببا لمعرفة أولياء العهود برأي الخلفاء فيهم، فكان منهم الواثق، فإنه أحب أن يعرف: هل يوليه المعتصم العهد بعده أم لا، فقال له عبد الله: أنا أدلك على وجه تعرف به ذلك، فقال: ما هو? فقال: تسأل أمير المؤمنين أن يأذن للجلساء والمغنين أن يصيروا إليك، فإذا فعل ذلك فاخلع عليهم وعلي معهم، فإني لا أقبل خلعتك لليمين التي علي؛ ألا أقبل رفدا إلا من خليفة أو ولي عهد. فقعد الواثق ذات يوم وبعث إلى المعتصم وسأله الإذن إلى الجلساء ، فأذن لهم، فقال عبد الله بن العباس: قد علم أمير المؤمنين يميني، فقال له: امض إليه فإنك لا تحنث، فمضى إليه وأخبره الخبر فلم يصدقه، وظن أنه يطيب نفسه، فخلع عليه وعلى الجماعة، فلم يقبل عبد الله خلعته، وكتب إلى المعتصم يشكوه، فبعث إليه: اقبل الخلعة، فإنه ولي عهدي، ونمى إليه الخبر أن هذا كان حيلة من عبد الله، فنذر دمه، ثم عفا عنه.
وسر الواثق بما جرى، وأمر إبراهيم بن رياح، فاقترض له ثلثمائة ألف درهم، ففرقها على الجلساء، ثم عرف غضب المعتصم على عبد الله بن العباس واطراحه إياه، فاطرحه هو أيضا. فلما ولي الخلافة استمر على جفائه، فقال عبد الله:
ما لي جفيت وكنت لا أجفى أيام أرهب سطوة السـيف
أدعو إلهي أن أراك خلـيفة بين المقام ومسجد الخـيف ودس من غناه الواثق، فلما سمعه سأل عنه، فعرف قائله، فتذمم ودعا عبد الله فبسطه ونادمه إلى أن مات.
وذكر العتابي عن ابن الكلبي أن الواثق كان يشتهي على عبد الله بن العباس:
أيها العاذل جهـلا تـلـوم قبل أن ينجاب عنه الصريم وأنه غناه يوما فأمر بأن يخلع عليه خلعة، فلم يقبلها ليمينه، فشكاه إلى المعتصم، فكاتبه في الوقت، فكتب إليهمع مسرور سمانة: اقبل خلع هارون فإنك لا تحنث، فقبلها وعرف الواثق أنه ولي عهد.
خرج يوم الشعانين ليرى محبوبته النصرانية حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني شيبة بن هشام، قال:
صفحة : 2182
كان عبد الله بن العباس يهوى جارية نصرانية لم يكن يصل إليها ولا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة، فخرجنا يوما معه إلى السعانين، فوقف حتى إذا جاءت فرآها، ثم أنشدنا لنفسه، وغنى فيه بعد ذلك:
إن كنت ذا طب فداويني ولا تلم فاللوم يغـرينـي
يا نظرة أبقت جوى قائلا من شادن يوم السعانـين
ونظرة من ربرب عـين خرجن في أحسن تزيين
خرجن يمشين إلى نزهة عواتقا بين البـسـاتـين
مزنرات بهـمـايينـهـا والعيش ما تحت الهمايين لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر هزج.
شرب ليلة الشك في رمضان في نيروز
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا محمد بن عمر الجرجاني، ومحمد بن حماد كاتب راشد، قالا: كتب عبد الله بن العباس الربيعي في يوم نيروز -واتفق في يوم الشك بين شهري رمضان وشعبان- إلى محمد بن الحارث بن بسخنر يقول:
اسقني صفراء صافـية ليلة النـيروز والأحـد
حرم الصوم اصطباحكما فتزود شربهـا لـغـد
وأتنا أو فادعنا عـجـلا نشترك في عيشة رغد قال: فجاءه محمد بن الحارث بن بسخنر فشربا ليلتهما.
صنع لحنا من شعره للواثق فأمر بجائزة
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثنا أبو أيوب المديني، قال: حدثنا أحمد بن المي، قال: حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي، قال: جمع الواثق يوما المغنين ليصطبح، فقال: بحياتي إلا صنعت لي هزجا حتى أدخل وأخرج إليكم الساعة، ودخل إلى جواريه، فقلت هذه الأبيات وغنيت فيها هزجا قبل أن يخرج، وهي: صوت
بأبي زور أتاني بـالـغـلـس قمت إجلالا له حتى جـلـس
فتعانـقـا جـمـيعـا سـاعة كادت الأرواح فيها تختـلـس
قلت: يا سؤلي ويا بدر الدجـى في ظلام الليل ما خفت العس
قال: قد خفت ولكن الـهـوى آخذ بالروح مني والـنـفـس
زارني يخطر في مـشـيتـه حوله من نور خـديه قـبـس قال: فلما خرج من دار الحرم قال لي: يا عبد الله، ما صنعت? فغنيته، فشرب حتى سكر، وأمر لي بخمسة آلاف درهم، وأمرني بطرحه على الجواري، فطرحته عليهن.
صنع لحنا جميلا من شعر يوسف بن الصقيل أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثنا أبو أيوب المديني، عن حماد، قال: من مليح صنعة عبد الله بن العباس الربيعي، والشعر ليوسف بن الصيقل، ولحنه هزج: صوت
أبعد المـواثـيق لـي وبعد السؤال الحفـي
وبعد اليمـين الـتـي حلفت على المصحف
تركت الهوى بينـنـا كضوء سراج طفـي
فليتك إذا لـم تـفـي بوعدك لم تخلـفـي غنى للواثق لحنا من شعر الأحوص فأعطاه ألف دينار حدثني الصولي، قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي، قال: كان الواثق قد غضبت على فريدة لكلام أخفته إياه فأغضبته، وعرفنا ذلك وجلس في تلك الأيام للصبوح، فغناه عبد الله بن العباس: صوت
لا تأمني الصرم مني أن تري كلـفـي وإن مضى لصفاء الـود أعـصـار
ما سمي القلـب إلا مـن تـقـلـبـه والرأي يصـرف والأهـواء أطـوار
كم من ذي مقة قبـلـي وقـبـلـكـم خانوا فأضحوا إلى الهجران قد صاروا فاستعاده الواثق مرارا، وشرب عليه وأعجب به، وأمر لعبد الله بألف دينار وخلع عليه.
الشعر للأحوص، والغناء لعبد الله بن العباس هزج بالوسطى عن عمرو.
فضله المتوكل على سائر المغنين
وأخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، قال: غنيت المتوكل ذات يوم:
أحب إلينا منـك دلا ومـا يرى له عند فعلي من ثواب ولا أجر فطرب وقال: أحسنت والله يا عبد الله، أما والله لو رآك الناس كلهم كما أراك لما ذكروا مغنيا سواك أبدا.
أشار بذكره ابن الزيات عند المعتصم
نسخت من كتاب لأبي العباس بن ثوابة بخطه: حدثني أحمد بن إسماعيل بن حاتم، قال: قال لي عبد الله بن العباس الربيعي:
صفحة : 2183
دخلت على المعتصم أودعه وأنا أريد الحج، فقبلت يده وودعته، فقال: يا عبد الله إن فيك لخصالا تعجبني كثر الله في موالي مثلك، فقبلت رجله والأرض بين يديه، وأحسن محمد بن عبد الملك الزيات محضري وقال له: إن له يا أمير المؤمنين، أدبا حسنا وشعرا جيدا، فلما خرجت قلت له: أيها الوزير، ما شعري أنا في الشعر تستحسنه وتشيد بذكره بي يدي الخليفة فقال: دعنا منك، تنتفي من الشعر وأنت الذي تقول:
يا شـادنـا مـر إذ را م في السعانين قتلـي
يقول لي: كيف أصبح ت، كيف يصبح مثلي أحسنت والله في هذا، ولو لم تقل غير هذا لكنت شاعرا.
طلب من سوار بن عبد الله القاضي أن يصنع له لحنا من شعر قاله أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، قال: قال أبي: قال عبد الله بن العباس الربيعي: لقيني سوار بن عبد الله القاضي -وهو سوار الأصغر- فأصغى إلي وقال: إن لي إليك حاجة فأتني في خفي، فجئته، فقال: لي إليك حاجة قد أنست بك فيها، لأنك لي كالولد، فإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذلك للقاضي علي شرط واجب، فقال: إني قلت أبياتا في جارية لي أميل إليها وقد قلتني وهجرتني: وأحببت أن تصنع فيها لحنا وتسمعنيه، وإن أظهرته وغنيته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أتفعل ذلك? قلت: نعم حبا وكرامة، فأنشدني: صوت
سلبت عظامي لحمها فتركـتـهـا عواري في أجلادها تـتـكـسـر
وأخليت منها محهـا فـكـأنـهـا أنابيب في أجوافها الريح تصفـر
إذا سمعت باسم الفراق تـرعـدت مفاصلها من هول ما تـتـحـذر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري بلى جسدي لكنـنـي أتـسـتـر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روح تذوب فـتـقـطـر -اللحن الذي صنعه عبد الله بن العباس في هذا الشعر ثقيل أول- قال عبد الله: فصنعت فيه لحنا، ثم عرفته خبره في رقعة كتبتها إليه، وسألته وعدا يعدني به للمصير إليه، فكتب إلي: نظرت في القصة فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم علي حضورك وسماعي إياك، وأسأل الله أن يسرك ويبقيك. فغنيت الصوت ظهر حتى تغنى به الناس، فلقيني سوار يوما فقال لي: يا بن أخلي، قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنا لم نعرف القصة فيه، وجعلنا جميعا نضحك.
صنع لحنا جيدا في شفاء بشر
خادم بن عجيف
كان بشر خادم صالح بن عجيف عليلا ثم برئ، فدخل إلى عبد الله بن العباس، فلما رآه قام فتلقاه وأجلسه إلى جانبه، وشرب سرورا بعافيته، وصنع لحنا من الثقيل الأول وهو من جيد صنعته: صوت
مولاي ليس لعيش لست حاضره قدر ولا قيمة عندي ولا ثـمـن
ولا فقدت من الدنـيا ولـذتـهـا شيئا إذا كان عندي وجهك الحسن غنى الواثق بعد شفائه لحنا فأجازه
حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي، قال: جمعنا الواثق يوما بعقب علة غليظة كان فيها، فعوفي وصح جسمه، فدخلت إليه مع المغنين وعودي في يدي، فلما وقعت عيني عليه من بعيد، وصرت بحيث يسمع صوتي، ضرب وغنيت في شعر قلته في طريقي إليه، وصنعت فيه لحنا وهو: صوت
اسلـم وعـمـرك الإلـه لأمة بك أصبحت قهرت ذوي الإلحاد
لو تستطيع وقـتـك كـل أذية بالنـفـس والأمـوال والأولاد فضحك وسر وقال: أحسنت يا عبد الله وسررتني، وتيمنت بابتدائك، ادن مني، فدنوت منه حتى كنت أقرب المغنين إليه، ثم استعادني الصوت، فأعدته ثلاث مرات، وشرب عليه ثلاث أقداح، وأمر لي بعشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه.
فاجأته محبوبته النصرانية بالوداع فقال
حدثني الصولي، قال: حدثني عون بن محمد الكندي، قال: كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يهوى جارية نصرانية، فجاءته يوما تودعه، فأعلمته أن أباها يردي الانحدار إلى بغداد والمضي بها معه، فقال في ذلك وغنى فيه: صوت
أفـدي الـتـي قـلـت لـهــا والـبـين مـنـا قــد دنـــا:
فقدك قد أنحل جسمي وأذاب البدنا
قالت: فماذا حيلتي كذاك قــد ذبـــت أنـــا
صفحة : 2184
باليأس بعدي فاقتنع قلت: إذا قل الغنا طلب من علي بن عيسى تأجيل الصوم
ومباشرة الشرب فأجابه
حدثني الصولي، قال: حدثني عون بن محمد، قال: حدثني علي بن عيسى بن جعفر الهاشمي، قال: دخل علي عبد الله بن العباس في يوم النصف من شعبان، وهو يوم سبت، وقد عزمت على الصوم، فأخذ بعضادتي باب مجلسي، ثم قال: يا أميري:
تصبح في السبت غير نشـوان وقد مضى عنك نصف شعبان فقلت: قد عزمت على الصوم، فقال: أفعليك وزر إن أفطرت اليوم -لمكاني وسررتني بمساعدتك لي- وصمت غدا، وتصدقت مكان إفطارك? فقلت: أفعل، فدعوت بالطعام فأكلت، وبالنبيذ فشربنا، وأصبح من غد عندي، فاصطبح وساعدته، فلما كان اليوم الثالث انتبهت سحرا وقد قال هذا الشعر وغنى فيه:
شعـبـان لـم يبــق مـــنـــه إلا ثـــلاث وعـــشـــــر
فبـاكـر الــراح صـــرفـــا لا يسـبـقـنــك فـــجـــر
فإن يفـتـك صــطـــبـــاح فلا يفـوتـنـــك ســـكـــر
ولا تناد فتى وقت شربه الدهر عصر قال: فأطربني واصطبحت معه في اليوم الثالث، فلما كان من آخر النهار سكر وانصرف، وما شربنا يومنا كله إلا على هذا الصوت.
دخل على المتوكل آخر شعبان وطلب الشراب
فأجابه
حدثن عمي، قال: حدثني ابن دهقانة النديم، قال: دخل عبد الله بن العباس إلى المتوكل في آخر شعبان فأنشده:
علـلانـي نـعـمـتــمـــا بـــمـــدام واسـقـيانـي مـن قـبـل شـهـر الـصـيام
حرم الـلـه فـي الـصـيام الـتـصـابـــي فتـركــنـــاه طـــاعة لـــلإمـــام
أظهر العدل فاستنار به الدين وأحيا شرائع الإسلام فأمر المتوكل بالطعام فأحضر، وبالنديم وبالجلساء فأتي بذلك، فاصطبح وغناه عبد الله في هذه الأبيات، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
حرم المرابين من مائة ألف دينار
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي، قال: حدثني عبد الله بن العباس قال: كنت مقيما بسر من رأى وقد ركبني دين ثقيل أكثره عينة وربا، فقلت في المتوكل:
اسقياني سحرا بالكـبـره ما قضى الله ففيه الخيره
أكرم الله الإمام المرتضى وأطال الله فينا عـمـره
إن أكن أقعدت عنه هكذا قدر الله رضنـا قـدره
سره الله وأبـقـاه لـنـا ألف عام وكفانا الفجـره وبعثت بالأبيات إليه، وكنت مسرورا من الغرماء، فقال لعبيد الله بن يحيى: وقع إليه: من هؤلاء الفجرة الذين استكفيت الله شرهم? فقلت: المعينون الذين قد ركبني إليهم أكثر مما أخذت منهم من الدين بالربا، فأمر عبيد الله أن يقضي ديني، وأن يحتسب لهم رؤوس أموالهم، ويسقط الفضل، وينادي بذلك في سر من رأى حتى لا يقضي أحد أحدا إلا رأس ماله، وسقط عن وعن الناس من الأرباح زهاء مائة ألف دينار كانت أبياتي هذه سببها.
عتب على إخوانه لأنهم لم يعودوه في مرضه فجاءوه معتذرين حدثني الصولي، قال: حدثني غون بن محمد الكندي، قال: حدثني أبي، قال: مرض عبد الله بن العباس بسر من رأى في قدمة قدمها غليها، فتأخر عنه من كان يثق به، فكتب إليهم:
ألا قل لمن بالجـانـبـين بـأنـنـي مريض عداني عن زيارتهم ما بـي
فلو بهم بعض الذي لـي لـزرتـهـم وحاش لهم من طول سقمي وأوصابي
وإن أقشعت عني سحـابة عـلـتـي تطاول عتبي إن تأخـر إعـتـابـي قال: فما بقي أحد من إخوانه إلا جاءه عائدا معتذرا.
غنى عند علوية بشعر في النصرانية
التي كان يهواها
أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد بن موسى، قال: سمعت عبد الله بن العباس يغني ونحن مجتمعون عند علوية بشعر في النصرانية التي كان يهواها والصنعة له: صوت
إن في القلب من الظبي كلوم فدع اللوم فإن الـلـوم لـوم
حبذا يوم السـعـانـين ومـا نلت فيه من نعـيم لـو يدوم
إن يكن أعظمت أن همت به فالذي تركب من عذلي عظيم
لم أكن أول من سن الهـوى فدع اللـوم فـذا داء قـديم الغناء لعبد الله هزج بالوسطى.
علم وصيفته هيلانة الغناء
صفحة : 2185
حدثني أبو بكر الربيعي، قال: حدثتني عمتي -وكانت ربيت في دار عمها عبد الله بن العباس- قالت: كان عبد الله لا يفارق الصبوح أبدا إلا في يوم جمعة، أو شهر رمضان، وإذا حج. وكانت له وصيفة يقال لها: هيلانة قد رباها وعلمها الغناء، فأذكره يوما وقد اصطبح، وأنا في حجره جالسة والقدح في يده اليمنى، وهو يلقي على الصبية صوتا أوله:
صدع البين الفؤادا إذ به الصائح نادي فهو يردده، ويومئ بجميع أعضائه إليها يفهمها نغمه، ويوقع بيده على كتفي مرة وعلى فخذي أخرى، وهو لا يدري حتى أوجعني، فبكيت وقلت: قد أوجعتني مما تضربني وهيلانة لا تأخذ الصوت وتضربني أنا، فضحك حتى استلقى واستملح قولي، فوهب لي ثوب قصب أصفر، وثلاثة دنانير جددا، فما أنسى فرحي بذلك وقيامي به إلى أمي، وأنا أعدوا إليها وأضحك فرحا به.
نسبة هذا الصوت صوت
صدع البـين الـفـؤادا إذ به الصـائح نـادى
بينما الأحباب مجـمـو عون إذ صاروا فرادى
فأتى بـعـض بـلادا وأتى بـعـض بـلادا
كلما قلت: تـنـاهـى حدثان الدهـر عـادا
صوت
حضر الرحيل وشدت الأحداج وغدا بهن مشمر مـزعـاج
للسوق نيران قدحن بقـلـبـه حتى استمر به الهوى المجاج
أزعج هواك إلى الذين تحبهم إن المحب يسوقه الإزعـاج
لن يدنينك للحبيب ووصـلـه إلا السرى والبازل الهجهاج الشعر لسلم الخاسر، والغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى.
أخبار سلم الخاسر ونسبه
نسبه، ومقدرته الشعرية
سلم بن عمرو مولى بني تيم بن مرة، ثم مولى أبي بكر الصديق، رضوان الله عليه، بصري، شاعر مطبوع متصرف في فنون الشعر، من شعراء الدولة العباسية. وهو راوية بشار بن برد وتلميذه، وعنه أخذ، ومن بحره اغترف، وعلى مذهبه ونمطه قال الشعر.
سبب تلقيبه سلم الخاسر
ولقب سلم بالخاسر -فيما يقال- لأنه ورث من أبيه مصحفا، فباعه واشترى بثمنه طنبورا. وقيل: بل خلف له أبوه مالا، فأنفقه على الأدب والشعر، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقب بذلك.
صداقته للموصلي وأبي العتاهية
وانقطاعه للبرامكة
وكان صديقا لإبراهيم الموصلي، ولأبي العتاهية خاصة من الشعراء والمغنين، ثم فسد ما بينه وبين أبي العتاهية. وكان سلم منقطعا إلى البرامكة، وإلى الفضل بن يحيى خصوصا من بينهم. وفيه يقول أبو العتاهية:
إنما الفضل لسلم وحـده ليس فيه لسوى سلم درك من قول أبي العتاهية له
وكان هذا أحد الأسباب في فساد ما بينه وبين أبي العتاهية. ولسلم يقول أبو العتاهية وقد حج مع عتبة :
والـلـه والـلـه مـا أبـــالـــي مـــتـــى ما مـت يا سـلـم بـعــد ذا الـــســـفـــر
أليس قد طفت حيث طافت وقبلت الذي قبلت من الحجر وله يقول أبو العتاهية وقد حبس إبراهيم الموصلي:
سلــم يا ســـلـــم لـــيس دونـــك ســـر حبـس الـمـوصـلـي فــالـــعـــيش مـــر
ما استطاب اللذات مذ سكن المطبق رأس اللذات والله، حر
ترك الموصل من خلق الل ه جـمـيعـا وعـيشـهـم مــقـــشـــعـــر يرد مصحفا ويأخذ مكانه دفاتر شعر
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني علي بن الحسن الواسطي، قال: حدثني أبو عمرو سعيد بن الحسن الباهلي الشاعر، قال: لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه، فوقع في قسط سلم مصحف، فرده وأخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه، فلقب الخاسر بذلك.
أجازه المهدي أو الرشيد بمائة ألف
درهم ليكذب تلقيبه بالخاسر
أخبرني الحسن، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني، قال: ورث سلم الخاسر أباه مأئة ألف درهم، فأنفقها على الأدب، وبقي لاشيء عنده، فلقبه الجيران ومن يعرفه بسلم الخاسر، وقالوا: أنفق ماله على ما لا يتفعه. ثم مدح المهدي، أو الرشيد -وقد كان بلغه اللقب الذي لقب به- فأمر له بمائة ألف درهم، وقال له: كذب بهذا المال جيرانك، فجاءهم بها، وقال لهم: هذه المائة الألف التي أنقفتها وربحت الأدب، فأنا سلم الرابح، لا سلم الخاسر.
صفحة : 2186
ورث مصحفا فباعه واشبرى طنبورا
فلقب الخاسر
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، قال: إنما لقب الخاسر لأنه ورث عن أبيه مصحفا فباعه، واشترى بثمنه طنبورا.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمر الفضل، قال: قال لي الجماز: سلم الخاسر خالي لحا ، فسألته: لم لقب الخاسر? فضحك، ثم قال: إنه قد كان نسك مدة يسيرة، ثم رجع إلى أقبح ما كان عليه، وباع مصحفا له ورثه عن أبيه-وكان لجده قبله-واشترى بثمنه طنبورا.فشاع خبره وافتضح، فكان يقال له: ويلك هل فعل أحد ما فعلت? فقال: لم أجد شيئا أتوسل به إلى إبليس هو أقر لعينه من هذا.
أخبرني عمي، قال: أنبأنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد بن صالح المؤدب، وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى إجازة، قال: حدثني أبي، عن أحمد بن صالح، قال: قال بشار بن برد: صوت
لا خير في العيش إن دمنا كذا أبدا لا نلتقي وسبيل الملتقـى نـهـج
قالوا حرام تلاقينا فقـلـت لـهـم ما في التلاقي ولا في غيره حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجتـه وقاز بالطيبات الفاتك الـلـهـج قال: فقال سلم الخاسر أبياتا، ثم أخذ معنى هذا البيت، فسلخه، وجعله في قوله:
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الـجـسـور سبب غضب بشار عليه ثم رضاه عنه
فبلغ بيته بشارا، فغضب واستشاط، وحلف ألا يدخل إليه، ولا يفيده ولا ينفعه ما دام حيا. قاسبشفع إليه بكل صديق له، وكل من يثقل عليه رده، فكلموه فيه، فقال: أدخلوه إلي، فأدخلوه إليه فاستدناه، ثم قال: إيه يا سلم، من الذي يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللـهـج قال: أنت يا أبا معاذ، قد جعلني الله فداءك قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجـسـور? قال: تلميذك، وخريجك، وعبدك يا أبا معاذ، فاجتذبه إليه، وقنعه بمخصرة كانت في يده ثلاثا، وهو يقول: لا أعود يا أبا معاذ إلى ما تنكره، ولا آتي شيئا تذمه، إنما أنا عبدك، وتلميذك، وصنيعتك، وهو يقول له: يا فاسق???? أتجيء إلى معنى قد سهرت له عيني، وتعب فيه فكري وسبقت الناس إليه، فتسرقه، ثم تختصره لفظا تقربه به، لتزري علي، وتذهب ببيتي? وهو يحلف له ألا يعود، والجماعة يسألونه. فبعد لأي وجهد ما شفعهم فيه، وكف عن ضربه، ثم رجع له، ورضي عنه.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، قال: أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور، قال: حدثني عبد الوهاب بن مرار، قال: حدثني أبو معاذ النميري رواية بشار، قال: قد كان بشار قال قصيدة فيها هذا البيت:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللـهـج قال: فقلت له يا أبا معاذ قد سلم الخاسر بيتا، هو أحسن وأخف على الألسن من بيتك هذا، قال: وما هو? فقلت:
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الـجـسـور فقال بشار: ذهب والله بيتنا، أما والله لوددت أنه ينتمي في غير ولاء أبي بكر-رضي الله عنه-وأني مغرم ألف دينار محبة مني لهتك عرضه وأعراض مواليه قال: فقلت له: ما أخرج هذا القول منك إلا عم. قال: أجل، فو الله لا طعمت اليوم طعاما، ولا صمت.
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني محمد بن إسحاق بن محمد النخعي ، قال: قال أبو معاذ النميري: قال بشار قصيدة، وقال فيها:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللـهـج فعرفته أن سلما قد قال:
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الـجـسـور فلما سمع بشار هذا البيت قال: سار والله بيت سلم، وخمل بيتنا قال: وكان كذلك، لهج الناس ببيت سلم، ولم ينشد بيت بشار أحد.
شعره في قصر صالح بن المنصور
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني أبو مالك محمد بن موسى اليماني، قال: لما بنى صالح بن المنصور قصره بدجلة قال فيه سلم الخاسر:
يا صالح الجود الذي مجده أفسد مجد الناس بالجـود
بنيت قصرا مشرفا عاليا بطائري سعد ومسعـود
صفحة : 2187
كأنـمـا يرفـع بـنـيانـه جن سـلـيمـان بـن داود
لا زلت مسرورا به سالمـا على اختلاف البيض والسود يعني الأيام والليالي-، فأمر له صالح بألف درهم.
ينشد عمر بن العلاء قصيدة لبشار فيه،
ثم ينشده لنفسه
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني بعض آل ولد حمدون بن إسماعيل -وكان ينادم المتوكل-عن أبيه، قال: كان سلم الخاسر من غلمان بشار، فلما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء -وهي التي يقول فيها:
إذا نبهتك صعاب الأمور فنبه لها عمرا ثـم نـم
فتى لا يبيت على دمـنة ولايشرب الماء إلا بدم بعث بها مع سلم الخاسر إلى عمر بن العلاء، فوافاه فأنشده إياها، فأمر لبشار بمائة ألف درهم. فقال له سلم: إن خادمك-يعني نفسه- قد قال في طريقه فيك قصيدة، قال: فإنك لهناك ? قال: تسمع، ثم تحكم، ثم قال: هات، فأنشده: صوت
قد عزني الداء فما لـي دواء مم ألاقي من حسان النسـاء
قلب صحيح كنت أسطو بـه أصبح من سلمى بداء عـياء
أنفاسها مسك وفي طرفـهـا سحر ومالي غيرها من دواء
وعدتني وعدا فـأوفـي بـه هل تصلح الخمرة إلا بماء? ويقول فيها:
كم كربة قد مسني ضرها ناديت فيها عمر بن العلاء قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول عطية سنية وصلت إليه.
صداقته لعاصم بن عتبة ومدحه إياه
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: وجدت في كتاب بخط الفضل بن مروان: وكان عاصم بن عتبة الغساني جد أبي السمراء الذي كان مع عبد الله بن طاهر صديقا لسلم الخاسر، كثير البر به، والملاطفة له، وفيه يقول سلم:
الجود في قحطان ما بقيت غسـان
اسلم ولا أبالـي ما فعل الإخوان
ما ضر مرتجيه ما فعل الزمان
من غاله مخوف فعاصـم أمـان وكانت سبعين بيتا، فأعطاه عاصم سبعين ألف درهم، وكان مبلغ ما وصل إلى سلم من عاصم خمسمائة ألف درهم، فلما حضرته الوفاة دعا عاصما فقال له: إني ميت ولا ورثة لي، وإن مالي مأخوذ، فأنت أحق به، فدفع إليه خمسمائة ألف درهم، ولم يكن لسلم وارث. قال: وكان عاصم هذا جوادا.
ابن مزيد يحسد عاصما على شعره فيه
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن طهمان، قال: أخبرني القاسم بن موسى بن مزيد.
أن يزيد بن مزيد قال: ما حسدت أحدا قط على شعر مدح به إلا عاصم بن عتبة الغساني، فإني حسدته على قول سلم الخاسر فيه:
لعاصم سـمـاء عارضها تهتان
أمطارها اللجين والدر والعقـيان
ونـاره تـنـادي إذ خبت النيران
الجود في قحطان ما بقيت غسـان
اسلم ولا أبالـي ما فعل الإخوان
صلت له المعالي والسيف والسنان كان يقدم أبا العتاهية على بشار
ثم فسد ما بينهما
أخبرني أحمد بن علي، عن ابن مهرويه، عن الغريبي، عن محمد بن عمر الجرجاني، قال: كان سلم تلميذ بشار، إلا أنه كان تباعد ما بينهما، فكان سلم يقدم أبا العتاهية، ويقول: هو أشعر الجن والإنس، إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلما:
تعالى الله يا سلم بن عمـرو أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى زوال قال: وبلغ الرشيد هذا الشعر فاستحسنه، وقال: لعمري إن الحرص لمفسدة لأمر الدين والدنيا، وما فتشت عن حريص قط مغيبه إلا انكشف لي عما أذمه. وبلغ ذلك سلما، فغضب على أبي العتاهية، وقال: ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق زعم أني حريص، وقد كنز البدور وهو يطلب وأنا في ثوبي هذين، لا أملك غيرهما. وانحرف عن أبي العتاهية بعد ذلك.
رده على أبي العتاهية حين اتهمه بالحرص في شعر له
صفحة : 2188
أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: أخبرني محمد بن أسماعيل السدوسي، قال: حدثني جعفر العاصمي، وأخبرني عمي، عن أحمد بن أبي طاهر، عن القاسم بن الحسن، عن زكريا بن يحيى المدائني، عن علي بن المبارك القضاعي، عن سلم الخاسر.
أن أبا العتاهية لما قال هذا الشعر فيه كتب إليه:
ما أقبح التزهيد من واعـظ يزهد الـنـاس ولا يزهـد
لو كان في تزهيده صـادقـا أضحى وأمسى بيته المسجد
ورفض الدنيا ولم يلـقـهـا ولم يكن يسعى ويستـرفـد
يخاف أن تـنـفـذ أرزاقـه والرزق عند الله لا ينـفـد
الرزق مقسوم على من ترى ينالـه الأبـيض والأسـود
كل يوفى رزقـه كـامـلا من كف عن جهد ومن يجهد ابن أخته ينتصر له من أبي العتاهية أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أبو العسكر المسمعي، وهو محمد بن سليمان، قال: حدثني العباس بن عبد الله بن سنان بن عبد الملك بن مسمع، قال: كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان، وهو يومئذ أمير البصرة، وعنده أبو العتاهية ينشده شعره في الزهد، فقال لي: قثم: يا عباس اطلب لي الجماز الساعة حيث كان فجئني به، ولك سبق ، فطلبته؛ فوجدته جالسا ناحية عند ركن دار جعفر بن سليمان، فقلت له: أجب الأمير، فقام معي حتى أتى قثم فجلس في ناحية مجلسه وأبو العتاهية ينشده، ثم قام إليه الجماز فواجهه، وأنشد قول سلم الخاسر فيه:
ما أقبح التزهيد من واعـظ يزهد الـنـاس ولا يزهـد
لو كان في تزهيده صادقـا أضحى وأمسى بيته المسجد وذكر الأبيات كلها، فقال أبو العتاهية: من هذا أعز الله الأمير? قال: هذا الجمازا، وهو ابن أخت سلم الخاسر، انتصر لخاله منك حيث قلت له:
تعالى الله يا سلم بن عمـرو إذل الحرص أعتاق الرجال قال: فقال أبو العتاهية للجماز: يا بن أخي، إني لم أذهب في شعري الأول حيث ذلك خالك؛ ولا أردت أن أهتف به، ولا ذهبت أيضا في حضوري وإنشادي حيث ذهبت من الحرص على الرزق، والله يغفر لكما ثم قام فانصرف.
مبلغ ما وصل إليه من الرشيد والبرامكة
أخبرني عمي، عن أحمد بن أبي طاهر، عن أبي هفان، قال: وصل إلى سلم الخاسر من آل برمك خاصة سوى ما وصل إليه من غيرهم عشرون ألف دينار، ووصل إليه من الرشيد مثلها.
يطلب إلى أبي محمد اليزيدي أن يهجوه فيفعل فيندم أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عماي عبيد الله والفضل؛ عن أبيهما، عن أبي محمد اليزيدي: أنه حضر مجلس عيسى بن عمر، وحضر سلم الخاسر، فقال له: يا أبا محمد، اهجني على روي قصيدة امرئ القيس:
رب رام من بني ثعل مخرج كفيه في ستره قال: فقلت له: ما دعاك إلى هذا? قال: كذا أريد. فقلت له: يا هذا أنا وأنت أغنى الناس عما تستدعيه من الشر فلتسعك العافية، فقال: إنك لتحتجز مني نهاية الاحتجاز، وأراد أن يوهم عيسى أني مفحم عيي لا أقدر على ذلك، فقال لي عيسى: أسألك يا أبا محمد بحقي عليك إلا فعلت. فقلت:
رب مغمـوم بـعـاقـبة غمط النعمة من أشـره
وامرئ طالبت سلامتـه فرماه الدهر من غـيره
بسهـام غـير مـشـوية نقصت منه قوى مـرره
وكذاك الدهر منـقـلـب بالفتى حالين من عصره
يخلط العسر بـمـيسـرة ويسار المرء في عسره
عق سلم أمـه صـغـرا وأبا سلم علـى كـبـره
كلي يوم خلـفـه رجـل رامح يسعى على أثـره
يولج الغرمول سـبـتـه كولوج الضب في جحره قال: فاغتم سلم وندم، وقال: هكذا تكون عاقبة البغي والتعرض للشر، فضحك عيسى، وقال له: قد جهد الرجل أن تدعه، وصيانته ودينه فأبيت إلا أن يدخلك في حر أمك.
ترفهه وتخشن مروان بن أبي حفصة أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، قال: سمعت أبي يقول:
صفحة : 2189
كان المهدي يعطي مروان وسلما الخاسر عطية واحدة، فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفاره، قيمته عشرة آلاف درهم، بسرج ولجام مفضضين، ولباسه الخز والوشي، وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان ورائحة المسك والطيب والغالية تفوح منه، ويجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو كبل وقميص كرابيس وعمامة كرابيس وخفا كبل وكساء غليظ، وهو منتن الرائحة. وكان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلا، فإذا قرم أرسل غلامه، فاشترى له رأسا فأكله. فقال له قائل: أراك لا تأكل إلا الرأس قال: نعم، أعرف سعره، فآمن خيانة الغلام، ولا أشتري لحما فيطبخه فيأكل منه، والرأس آكل منه ألوانا: آكل منه عينيه لونا، ومن غلصمته لونا، ومن دماغه لونا.
ابتلاؤه بالكيمياء ثم انصرافه عنها
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا يحيى بن الحسن الربيعي، قال: أخبرني أبي، قال: كان سلم الخاسر قد بلي بالكيمياء فكان يذهب بكل شيء له باطلا، فلما أراد الله -عز وجل- أن يصنع له عرف أن بباب الشام صاحب كيمياء عجيبا، وأنه لا يصل إليه أحد إلا ليلا، فسأل عنه فدلوه عليه.
قال: فدخلت إليه إلى موضع معور ، فدققت الباب فخرج إلي، فقال: من أنت عافاك الله? فقلت: رجل معجب بهذا العلم. قال: فلا تشهرني، فإني رجل مستور، إنما أعمل للقوت. قال: قلت: لأني لا أشهرك، إنما أقتبس منك، قال: فاكتم ذلك. قال: وبين يديه كوز شبه صغير. فقال لي: اقلع عروته، فقلعتها. فقال: اسبكها في البوطقة، فسبكتها، فأخرج شيئا من تحت مصلاه، فقال: ذره عليه، ففعلت. فقال: أفرغه، فأفرغته. فقال: دعه معك، فإذا أصبحت فاخرج، فبعه وعد إلي، فأخرجته إلى باب الشام، فبعت المثقال بأحد وعشرين درهما، ورجعت إليه فأخبرته. فقال: اطلب الآن ما شئت. قلت: تفيدني. قال: بخمسمائة درهم على أن لا تعلمه أحدا، فأعطيته، وكتب لي صفة، فامتحنتها، فإذا هي باطلة. فعدت إليه، فقيل لي: قد تحول، وإذا عروة الكوز المشبه من ذهب مركبة عليه، والكوز شبه. ولذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلا، ليخفى عليه، فانصرفت، وعلمت أن الله -عز وجل- أراد بي خيرا، وأن هذا كله باطل.
يرثي البانوكة بنت المهدي أخبرني محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثنا العنزي، قال: حدثني أبو مالك اليماني، قال: حدثني أبو كعب، قال: لما ماتت البانوكة بنت المهدي رثاها سلم الخاسر بقوله:
أودى ببانوكة ريب الـزمـان مؤنسة المهدي والخـيزران
لم تنطو الأرض على مثلهـا مولودن حن لها الـوالـدان
بانوك يا بنت إمـام الـهـدى أصبحت من زينة أهل الجنان
بكت لك الأرض وسكانـهـا في كل أفق بين إنس وجـان كان يهاجي والبة بن الحباب أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني، قال: حدثني أبو المستهل الأسدي، وهو عبد الله بن تميم بن حمزة، قال: كان سلم الخاسر يهاجي والبة بن الحباب، فأرسلني إليه وقال: قل له:
يا والب بن الحباب يا حلقـي لست من أهل الزناء فانطلق
دخل فيه الغرسول تولـجـه مثل ولوج المفتاح في الغلق قال: فأتيت والبة فقلت له ذلك، فقال لي: قل له: يا بن الزانية، سل عنك ريعان التميمي -يعني أنه ناكه- قال: وكان ريعان لوطيا آفة من الآفات، وكان علامة ظريفا.
قال: فحدثني جعفر بن قدامة عن محمد العجلي، عن أحمد بن معاوية الباهلي، قال: سمعت ريعان يقول: نكت الهيثم بن عدي، فمن ترونه يفلت مني بعده? يعتذر إلى المهدي من مدحه لبعض العلويين وأخبرني أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا العنزي، قال: حدثني أبو مالك محمد بن موسى اليماني، قال: كان سلم الخاسر مدح بعض العلويين، فبلغ ذلك المهدي، فتوعده وهم به، فقال سلم فيه:
إني أتتني على المهدي مـعـتـبة تكاد من خوفها الأخشاء تضطرب
اسمع فداك بنو حـواء كـلـهـم وقد يجور برأس الكاذب الكـذب
فقد حلفت يمـينـا غـير كـاذبة يوم المغيبة لم يقطع لها سـبـب
ألا يحالف مدحي غـيركـم أبـدا ولو تلاقى علي الغرض والحقب
صفحة : 2190
ولو ملكت عنان الريح أصرفها في كل ناحية ما فاتها الطلب
مولاك لا تـشـمـت أعـاديه فما وراءك لي ذكر ولا نسب فعفا عنه.
كان لا يحسن المدح ويحسن الرثاء وأخبرني أحمد بن العباس ، وأحمد بن عبيد الله بن عمار، قالا: حدثنا العنزي، قال: حدثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان، قال: حدثني موسى بن عبد الله بن شهاب المسمعي، قال: سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول: كان سلم الخاسر لا يحسن أن يمدح، ولكنه كان يحسن أن يرثي ويسأل.
يعد الرثاء في حياة من يعنيه رثاؤهم أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد القاسم بن مهرويه، قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني، قال: حدثني أبو المستهل، قال: دخلت يوما على سلم الخاسر، وإذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي ببعضها أم جعفر، وببعضها جارية غير مسماة، وببعضها أقواما لم يموتوا، وأم جعفر يومئذ باقية. فقلت له: ويحك ما هذا? فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها، ويستعجلوننا ، ولا يحمل بنا أن نقول غير الجيد، فنعد لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديما، على أنه قيل في الوقت.
إعجاب المأمون ببيت: تعالى الله يا سلم أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: قال عبد الله بن الحسن الكاتب: أنشد المأمون قول أبي العتاهية:
تعالى الله يا سلم بن عمـرو أذل الحرص أعناق الرجال فقال المأمون: صدق لعمر الله، إن الحرص لمفسدة للدين والمروءة، والله ما رأيت من رجل قط حرصا ولا شرها، فرأيت فيه مصطنعا. فبلغ ذلك سلما الخاسر، فقال: ويلي على ابن الفاعلة بياع الخزف، كنز البدور بمثل ذلك الشعر المفكك الغث، ثم تزهد بعد أن استغنى، وهو دائبا يهتف بي، ينسبني إلى الحرص، وأنا لا أملك إلا ثوبي هذين.
يسكت أبا الشمقمق عن هجائه بخمسة دنانير
أخبرني عمي والحسن بن علي، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا زكريا بن مهران قال: طالب أبو الشمقمق سلما الخاسر بأن يهب له شيئا، وقد خرجت لسلم جائزة، فلم يفعل، فقال أبو الشمقمق يهجوه:
يا أم سلم هداك اللـه زورينـا كيما ننيكك فردا أو تنيكـينـا
ما إن ذكرتك إلا هاج لي شبق ومثل ذكراك أم السلم يشجينا قال: فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير، وقال: أحب أن تعفيني من استزارتك أمي وتأخذ هذه الدنانير فقتنفقها.
من شعره حين ولى يعقوب بن داود بعد أبي عبيد الله أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن القاسم بن الربيع عن أبيه، قال: دخل الربيع على المدهي وأبو عبيد الله جالس يعرض كتبا، فقال له أبو عبيد الله: مر هذا أن يتنحى -يعني الربيع- فقال له المهدي: تنح، فقال: لا أفعل. فقال: كأنك تراني بالعين الأولى فقال: لا، بل أراك بالعين التي أنت بها. قال: فلم لا تتنحى إذ أمرتك? فقال له: أنت ركن الإسلام، وقد قتلت ابن هذا، فلا آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها، فقام المهدي مذعورا، وأمر بتفتيشه، فوجدوا بين جوربه وخفه سكينا، فردت الأمور كلها إلى الربيع، وعزل أبو عبيد الله، وولي يعقوب بن داود، فقال سلم الخاسر فيه:
يعـقـوب ينـظـر فـي الأمـــو ر وأنـت تـنـظـر نــاحـــيه
أدخلته فعلا عليك كذاك شؤم الناصيه قال: وكان بلغ المهدي من جهة الربيع أن أبي عبيد الله زنديق، فقال له المهدي: هذا حسد منك. فقال: افحص عن هذا، فإن كنت مبطلا بلغت مني الذي يلزم من كذلك. فأتى بابن عبيد الله، فقرره تقريرا خفيا، فأقر بذلك، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فقال لأبيه: اقتله، فقال: لا تطيب نفسي بذلك. فقتله وصلبه على باب أبي عبيد الله.
قال: وكان أبي عبيد الله هذا من أحمق الناس: وهب له المهدي وصيفة، ثم سأله بعد ذلك عنها، فقال: ما وضعت بيني وبين الأرض حشية قط أوطأ منها حاشا سامع ، فقال المهدي لأبيه: أتراه يعنيني، أو يعنيك? قال: بل يعني أمه الزانية، لا يكنى.
شعره في الفضل حين أخذ البيعة للمهدي
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني يحيى بن الحسن، قال: حدثني أبي، قال:
صفحة : 2191
كنت أنا والربيع نسير قريبا من محمل المنصور حين قال للربيع: رأيت كأن الكعبة تصدعت، وكأن رجلا جاء بحبل أسود فشددها، فقال له الربيع: من الرجل? فلم يجبه، حتى إذا اعتل قال للربيع: أنت الرجل الذي رأيته في نومي شدد الكعبة فأي شيء تعمل بعدي? قال: ما كنت أعمل في حياتك، فكان من أمره في أخذ البيعة للمهدي ما كان، فقال سلم الخاسر في الفضل بن الربيع:
يا بن الذي جبر الإسلام يوم وهي واستنفذ الناس من عمياء صيخود
قالت قريش غداة أنهاض ملكهم: أين الربيع وأعطوا بالمقـالـيد
فقام بالأمر مئنـاس بـوحـدتـه ماضي العزيمة ضراب القماحيد
إن الأمور إذا ضاقت مسالكهـا حلت يد الفضل منها كل معقود
إن الربيع وإن الفضل قد بـنـيا رواق مجد على العباس ممدود قال: فوهب له الفضل خمسة آلاف دينار.
شعره حين عقدت البيعة للأمين
أخبرني عمي، قال: حدثنا أبو هفان، قال: حدثني سعيد أبو هريم وأبو دعامة، قالا: لما قال سلم الخاسر في الرشيد حين عقد البيعة لابنه محمد الأمين:
قد بايع الثقلان في مهد الهـدى لمحمد بن زبيدة ابنـه جـفـر
وليته عهـد الأنـام وأمـرهـم فدمغت بالمعروف رأس المنكر أعطته زبيدة مائة ألف درهم.
المهدي يأمر له بخمسمائة ألف درهم لقصيدته فيه أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو، قال: حدثني أحمد بن محمد بن علي الخراساني ، عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، عن أبيه، قال: قال سلم الخاسر في المهدي قصديته التي يقول فيها:
له شيمة عند بذل العـطـا ء لا يعرف الناس مقدارها
ومهدي أمـتـنـا والـذي حماها وأدرك أوتـارهـا فأمر له المهدي بخمسمائة ألف درهم.
طلب إلى الرشيد أن يفضله في الجائزة على مروان بن أبي حفصة فأجابه أخبرنا وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، قال: شهدت المهدي وقد أمر لمروان بن أبي حفصة بأربعين ألف درهم، وفرض على اهل بيته وجلسائه ثلاثين ألف درهم. وأمر الرشيد بعد ذلك لما ولى الخلافة لسلم الخاسر - وقد مدحه- بسبعين ألف درهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أكثر ما أعطى المهدي مروان سبعون ألف درهم، فزدني وفضلني عليه، ففعل ذلك، وأعطاه تتمة ثمانين ألف درهم، فقال سلم: فخره على مروان بجائزته ورد مروان عليه
ألا قل لمروان أتتـك رسـالة لها نبأ لا ينثني عن لـقـائكـا
حباني أمير المؤمنين بنـفـحة مشهرة قد طأطأت من حبائكا
ثمانين الفا حزت من صلب ماله ولم يك قسما من أولى وأولائكا فأجابه مروان فقال:
أسلم بن عمرو قد تعاطيت غاية تقصر عنها بعد طول عنائكـا
فأقسم لولا ابن الربيع ورفـده لما ابتلت الدلو التي في رشائكا
وما نلت مذ صورت إلا عطية تقوم بها مصرورة في ردائكا مات عن غير وارث فوهب الرشيد تركته
حدثني وسواسة بن الموصلي، وهو محمد بن أحمد بن غسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثني حماد، عن أبيه قال: استوهب أبي من الرشيد تركة سلم الخاسر، وكان قد مات عن غير وارث، فوهبها له قبل أن يتسلمها صاحب المواريث، فحصل منها خمسين ألف دينار.
أخبرني عمي، قال: حدثني أبو هفان، عن سعيد بن هريم وأبي دعامة أنه رفع إلى الرشيد أن سلما الخاسر قد توفي، وخلف مما أخذه منه خاصة ومن زبيدة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم سوى ما خلفه من عقار وغيره مما اعتقده قديما، فقبضه الرشيد. وتظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق، رضوان الله عليهم، فقال: هذا خادمي ونديمي، والذي خلفه من مالي، فأنا أحق به، فلم يعطهم إلا شيئا يسيرا من قديم أملاكه.
رثاؤه معن بن زائدة ومالكا وشهابا ابني عبد الملك بن مسمع
صفحة : 2192
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل، عن القحذمي، قال: كان مالك وشهاب ابنا عبد الملك بن مسمع ومعن بن زائدة متواخين، لا كادون يفترقون. وكان سلم الخاسر ينادمهم ويمدحهم، ويفضلون عليه ولا يحوجونه إلى غيرهم، فتوفي مالك ثم أخوه ثم معن في مدة متقاربة، فقال سلم يرثيهم:
عين جـودي بـعـــبـــرة تـــهـــتـــان وانـذبـي مــن أصـــاب ريب الـــزمـــان
وإذا مـا بـكــيت قـــومـــا كـــرامـــا فعـلـى مـــالـــك أبـــي غـــســـان
أين مـعـن أبــو الـــولـــيد ومـــن كـــا ن غـياثـا لـلــهـــالـــك الـــحـــيران
طرقتك المنون لا واهي الحبل ولا عاقدا بحلـف يمـان
وشهاب وأين مثل شهاب عنـد بـذل الـنـدى وحــر الـــطـــعـــان
رب خرق رزئته من بني قيس وخرق رزئت من شيبان
در در الأيام ماذا أجنت منـهـم فـي لـفـــائف الـــكـــتـــان
ذاك مـعـن ثـوى بـبــســـت رهـــينـــا وشـهــاب ثـــوى بـــأرض عـــمـــان
وهـمـا مـا هـمـا لـبـذل الـــعـــطـــايا ولـــلـــف الأقـــران بـــالأقـــــران
يسـبـقـان الـمـنـون طـعـنـا وضـــربـــا ويفــكـــان كـــل كـــبـــل وعـــان أمر له الرشيد بمائة ألف درهم في قصيدة أنشده إياها أخبرني وكيع، قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي، قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: لما أنشد سلم الخاسر الرشيد قصيدته فيه:
حضر الرحيل وشدت الأحداج أمر له بمائة ألف درهم.
من شعره في الفضل بن يحيى وجائزته عليه حدثني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: دخل سلم الخاسر على الفضل بن يحيى في يوم نيروز والهدايا بين يديه، فأنشده:
أمـن ربـــع تـــســـائلـــه وقـد أقــوت مـــنـــازلـــه
بقـلـبـي مـن هــوى الأطـــلا ل حـــب مـــا يزايلــــــه
رويدكـم عـن الـمــشـــغـــو ف إن الـحـب قـــاتـــلـــه
بلابــل صـــدره تـــســـري وقـد نــامـــت عـــواذلـــه
أحق الناس بالتفصيل من ترجى فواضله
رأيت مكارم الأخلا ق مـا ضـمـت حـمـــائلـــه
فلـسـت أرى فـتـي فـي الـنـــا س إلا الـفـضـل فـاضـــلـــه
يقـول لــســـانـــه خـــيرا فتـفـعـلــه أنـــامـــلـــه
ومـهـمــا يرج مـــن خـــير فإن الـفـضـل فــاعـــلـــه وكان إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق حاضرين، فقال لإبراهيم: كيف ترى وتسمع? قال: أحسن مرئي ومسموع، وفضل الأمير أكثر منه. فقال: خذوا جميع ما أهدي إلي اليوم فاقتسمواه بينكم أثلاثا إلا ذلك التمثال، فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير، ثم قال: لا، والله، ما هكذا تفعل الأحرار، يقوم وندفع إليهم ثمنه، ثم نهديه. فقوم بألف دينار، فحملها إلى القوم من بيت ماله، واقتسموا جميع الهدايا بينهم.
شعر له يعده معن بن زائدة أحسن ما مدح به أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني عيسى بن إسماعيل تينة، قال: حدثني القحذمي، قال: قيل لمعن بن زائدة: ما أحسن ما مدحت به من الشعر عندك? قال: قول سلم الخاسر:
أبلغ الفتـيان مـألـكة أن خير الود ما نفعـا
أن قرما من بني مطر أتلفت كفاه ما جمعـا
كلما عدنـا لـنـائلـه عاد في معروفه جذعا شعر له في الفضل بن يحيى وقد أشار برأي أخذ به أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة، وأخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، عن أبي توبة، قال: حدث في أيام الرشيد أمر فاحتاج فيه إلى الرأي، فأشكل، وكان الفضل بن يحيى غائبا، فورد في ذلك الوقت، فأخبروه بالقصة، فأشار بالرأي في وقته، وأنفذ الأمر على مشورته، فحمد ما جرى فيه، فدخل عليه سلم الخاسر فأنشده:
بديهته وفكـرتـه سـواء إذا ما نابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأيا إذا عي المشاور والمشير فأمر له بعشرة آلاف درهم.
اشترى سكوت أبي الشمقمق عن هجائه أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو العيناء، قال: حدثني الجماز أن أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه، فقال له: اسمع إذا ما قلته، وأنشده:
حدثونـي أن سـلـمـا يشتـكـي جـارة أيره
فهو لا يحـسـد شـيئا غير أير في است غيره
صفحة : 2193
وإذا ســــــرك يومـــــــا يا خـلـيلـــي نـــيل خـــيره
قم فمر راهبك الأصلع يقرع باب ديره فضحك سلم، وأعطاه خمسة دنانير، وقال له: أحب -جعلت فداءك- أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا.
أنشد الرشيد فتطير وأمر بإخراجه أخبرنا الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن أبي كامل، قال: حدثني أبو دعامة، قال: دخل سلم الخاسر على الرشيد، فأنشده:
حي الأحبة بالسلام فقال الرشيد:
حياهم الله بالسلام فقال:
على وداع أم مقام فقال الرشيد: حياهم الله على أي ذلك كان، فأنشده:
لم يبق منك ومـنـهـم غير الجلود على العظام فقال له الرشيد: بل منك، وأمر بإخراجه، وتطير منه، ومن قوله، فلم يسمع منه باقي الشعر ولا أثابه بشيء.
شعره في الهادي حين بويع له أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: أتت وفاة المهدي إلى موسى الهادي، وهو بجرجان، فبويع له هناك، فدخل عليه سلم الخاسر مع المهنئين، فنأه بخلافة الله، ثم أنشده:
لما أتت خير بني هـاشـم خلافة الله بـجـرجـان
شمر للحزم سـرابـيلـه برأي لا غـمـر ولا وان
لم يدخل الشورى على رأيه والحزم لا يمضـيه رأيان
يقر بأستاذية بشـار لـه أخبرني الحسن بن علي وعمي، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني صالح بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: دخل سلم الخاسر على الرشيد، وعنده العباس بن محمد وجعفر بن يحيى، فأنشده قوله فيه:
حضر الرحل وشدت الأحداج فلما انتهى إلى قوله:
إن الـــمـــنـــايا فـــي الـــســـــيوف كـــــــوامـــــــن حتـــى يهـــيجـــهـــــــا فـــــــتـــــــى هـــــــياج
فقال الرشيد: كان ذلك معن بن زائدة، فقال: صدق أمير المؤمنين، ثم أنشد حتى انتهى إلى قوله:
ومدحج يغشى المضيق بسيفه حتـــى يكـــــون بـــــــســـــــيفـــــــه الإفـــــــراج فقال الرشيد: ذلك يزيد بن مزيد، فقال: صدق أمير المؤمنين، فاغتاظ جعفر بن يحيى، وكان يزيد بن مزيد عدوا للبرامكة، مصافيا للفضل بن الربيع، فلما انتهى إلى قوله:
نزلت نجوم الليل فوق رؤوسهم ولكل قوم كـوكـب وهـاج قال له جعفر بن يحيى: من قلة الشعر حتى تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره هذا لبشار في فلان التميمي، فقال الرشيد: ما تقول يا سلم? قال: صدق يا سيدي، وهل أنا إلا جزء من محاسن بشار، وهل أنطلق إلا بفضل منطقه وحياتك يا سيدي إني لأروي له تسعة آلاف بيت ما يعرف أحد غيري منها شيئا، فضحك الرشيد، وقال: ما أحسن الصدق امض في شعرك، وأمر له بمائة ألف درهم، ثم قال للفضل بن الربيع: هل قال أحد غير سلم في طينا المنازل شيئا? -وكان الرشيد قد انصرف من الحج، وطوى المنازل.
وصفه هو والنمري على الرشيد للمنازل فوصف ذلك سلم - فقال الفضل: نعم يا أمير المؤمنين، النمري، فأمر سلما أن يثبت قائما حتى يفرغ النمري من إنشاده، فأنشده النميري، قوله:
تخرق سربال الشباب مع البرد وحالت لنا أم الوليد عن العهد فقال الرشيد للعباس بن محمد: أيهما أشعر عندك يا عم? قال: كلاهما شاعر، ولو كان الكلام يستفحل لجودته حتى يؤخذ منه نسل لاستفحلت كلام النمري، فأمر له بمائة الف درهم أخرى.
رثاه أشجع السلمي أخبرني عمي، قال: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لأشجع السلمي يرثي سلما الخاسر ومات سلم قبله:
يا سلم إن أصبحت في حفرة موسدا تربـا وأحـجـارا
فرب بيت حسـن قـلـتـه خلفته في الـنـاس تـيارا
قلـدتـه ربـا وسـيرتـه فكان فخرا منك أو عـارا
لو نطق الشعر بكى بعـده عليه إعـلانـا وإسـرارا
صوت
يا ويح من لعب الهوى بحياته فأماته من قبل حين مماتـه
من ذا كذا كان الشقي بشادن هاروت بين لسانه ولهاتـه
وحياة من أهوى فإني لم أكن يوما لأحلف كاذبا بحـياتـه
لأخالفن عواذلي في لـذتـي ولأسعدن أخي على لذاتـه الشعر لبعض شعراء الحجازيين ولم يقع إلينا اسمه، والغناء لأبي صدقة رمل بالبنصر .
أخبار أبي صدقة
صفحة : 2194
اسمه وولاؤه
اسمه مسكين بن صدقة من أهل المدينة، مولى لقريش. وكان مليح الغناء، طيب الصوت، كثير الرواية، صالح الصنعة؛ من أكثر الناس نادرة، وأخفهم روحا، وأشدهم طمعا، وألحهم في مسألة. وكان له ابن يقال له: صدقة يغني، وليس من المعدودين، وابن ابنه أحمد بن صدقة الطنبوري -أحد المحسنين من الطنبوريين، وله صنعة جيدة، وكان أشبه الناس بجده في المزح والنوادر. وأخباره تذكر بعد أخبار جده. وأبو صدقة من المغنين الذين أقدمهم هارون الرشيد من الحجاز في أيامه.
يذكر أسباب كثرة سؤاله
أخبرني علي بن عبد العزيز، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: قيل لأبي صدقة ما اكثر سؤالك، وأشد إلحاحك فقال: وما يمنعني من ذلك، واسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، وامرأتي فاقة، وابني صدقة.
يتغنى مع مغني الرشيد
فيشتد طرب الرشيد لغنائه
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن الرشيد قال للحارث بن بسخنر: قد اشتهيت أن أرى ندمائي ومن يحضر مجلسي من المغنين جميعا في مجلس واحد، يأكلون ويشربون، ويبتذلون منبسطين على غير هيبة ولا حتشام، بل يفعلون ما يفعلون في منازلهم وعند نظرائهم، وهذا لا يتم إلا بأن أكون بحيث لا يرونني، عن غير علم منهم برؤيتي إياهم. فأعد لي مكانا أجلس فيه أنا وعمي سليمان وأخوتي: إبراهيم بن المهدي، وعيسى بن جعفر ، وجعفر بن يحيى. فإنا مغلسون عليك غداة غد، واستزر أنت محمد بن خالد بن برمك، وخالدا أخا مهرويه، والخضر بن جبريل، وجميع المغنين، وأجلسهم بحيث لا نراهم ولا يروننا، وابسط الجميع، وأظهر برهم، واخلع عليهم، ولا تدع من الإكرام شيئا إلا فعلته بهم. ففعل ذلك الحارث، وقدم إليهم الطعام فأكلوا، والرشيد ينظر إليهم، ثم دعا لهم بالنبيذ، فشربوا، وأحضرت الخلع، وكان ذلك اليوم شديد البرد، فخلع على ابن جامع جبة خز طاروني مبطنة بسمور صيني، وخلع على إبراهيم الموصلي جبة وشي كوفي مرتفع مبطنه بفنك ، وخلع على أبي دراعة ملحم خراساني محشوة بقز، ثم تغنى ابن جامع، وتغنى بهذه إبراهيم، وتلاهما أبو صدقة فغنى لابن سريج:
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقتي أكلفها سير الكلال مع الظـلـع فأجاده، واستعاده الحارث ثلاثا وهو يعيده. فقال له الحارث: أحسنت والله يا أبا صدقة قال له: هذا غنائي وقد قرصني البرد، فكيف تراه -فديتك- كان يكون لو كان تحت دراعتي هذه شعيرات? يعني الوبر، والرشيد يسمع ذلك فضحك، فامر بأن يخلع عليه دراعة ملحم مبطنة بفنك، ففعلوا، ثم تغنى الجماعة، وغنى أبو صدقة لمعبد:
بأن الخليط على بزل مـخـيسة هدل المشافر أدنى سيرها الرمل ثم تغنى بعده لمعبد أيضا:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا وقطعو من حبال الوصل أقرانا فأقام فيهما جميعا القيامة، فطرب الرشيد حتى كاد أن يخرج إلى المجلس طربا فقال له الحارث: أحسنت والله يا أبا صدقة -فديتك- وأجملت، فقال أبو صدقة: فكيف ترى -فديتك- الحال تكون لو كانت على هذه الدراعة نقيطات? يعني الوشم، فحضك الرشيد حتى ظهر ضحكه، وعلموا بموضعه، وعرف علمهم بذلك فأمر بإدخالهم غليه، وأمر بأن يخلع على أبي صدقة دراعة أخرى مبطنة، فخلعت عليه.
صادره الحسن بن سليمان على جعل
يأخذه ويكف عن السؤال فلم يف له
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: سأل الحسن بن سليمان أخو عبيد الله بن سليمان الطفيلي الفضل وجعفرا ابني يحيى أن يقيما عند يوما، فأجاباه ، فواعد عدة من المغنين، فيهم أبو صدقة المدني، فقال لأبي صدقة: إنك تبرم بكثرة السؤال: فصادرني على شيء أدفعه إليك ولا تسأل شيئا غيره، فصادره على شيء أعطاه إياه. فلما جلسوا وغنوا أعجبوا بغناء أبي صدقة، واقترحوا عليه أصواتا من غناء ابن سريج ومعبد وابن محرز وغيرهم، فغناهم، ثم غنى -والصنعة له رمل:
يا ويح من لعب الهوى بحياته فأماته من قبل حين مماتـه
من ذا كذا كان الشقي بشهادن هارون بين لسانه ولهـاتـه
صفحة : 2195
وذكر الأبيات الأربعة المتقدم ذكرها، قال: فأجاد وأحسن ما شاء، وطرب جعفر، فقال له: أحسنت وحياتي، وكان عليه دواج خز مبطن بسمور جيد، فلما قال له ذلك شرهت نفسه وعاد إلى طبعه، فقال: لو أحسنت ما كان هذا الدواج عليك، ولتخلعنه علي، فألقاه عليه، ثم غنى أصواتا من القديم والحديث، وغنى بعدها من صناعته في الرمل:
لم يطل العهد فتنـسـانـي ولم أغب عنك فتناعـنـي
بدلت بي غيري وباهتنـي ولم تكن صاحب بهـتـان
لا وثقت نفسي بـإنـسـان بعدك في سـر وإعـلان
أعطيتني ما شئت من موثق منك ومن عهـد وأيمـان فقال له الفضل: أحسنت وحياتي فقال: لو أحسنت لخلعت علي جبة تكون شكلا لهذا الدواج، فنزع جبته وخلعها عليه، وسكروا وانصرفوا. فوثب الحسن بن سليمان، فقال له: قد وافقتك على ما أرضاك، ودفعته إليك على ألا تسأل أحدا شيئا، فلم تف، وقد أخذت مالك والله لا تركت عليك شيئا مما أخذته، ثم انتزعه منه كرها وصرفه، فشكاه أبو صدقة إلى الفضل وجعفر، فضحكا منه، وأخلفا عليه ما ارتجعه الطفيلي منه من خلعهما.
نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الغناء صوت
بان الخليط على بزل مـخـيسة هدل المشافر أدنى سيرها الرمل
من كل أعيس نضاح القفا قطـم ينفي الزمام إذا ما حنت الإبـل الغناء لابن عائشة، خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو الهشامي، وقال الهشامي خاصة: فيه لابن محرز هزج، ولإسحاق ثقيل أول، ووافقه ابن المكي. وما وجدت لمعبد فيه صنعة في شيء من الروايات، إلا في المذكور.
وأما:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا فقد مضى في المائة المختارة، ونسب هناك وذكرت أخباره.
يذكر للرشيد أسباب إلحاحه في المسألة
أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي، قال: كان أبو صدقة أسأل خلق الله وألحهم، فقال له الرشيد: ويلك ما أكثر سؤالك فقال: وما يمنعني من ذلك، واسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، واسم ابني صدقة، وكانت أمي تلقب فاقة، واسم أبي صدقة، فمن أحق مني بهذا? كثرة عبث الرشيد معه وكان الرشيد يعبث به عبثا شديدا، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلي وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوصا وبن ابي مريم المديني: إذا رأيتموني قد طابت نفسي، فليسألني كل واحد منهم حاجة، مقدارها مقدار صلته. وذكر لكل واحد منهم مقدار ذلك، وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة، فقال لهم مسرور ما أمره به، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، قد أضجرتني بكثرة مسألتك، وأنا في هذا اليوم ضجر، وقد أحببت أن أتفرج وأفرح، ولست آمن أن تنغص علي مجلس بمسألتك، فإما أن أعفيتني من أن تسألني اليوم حاجة وإلا فانصرف. فقال له: يا سيدي لست أسألك في هذا اليوم، ولا إلى شهر حاجة، فقال له الرشيد: أما إذا شرطت لي هذا على نفسك، فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار، وها هي ذو فخذها هنيئا معجلة، فإن سألتني شيئا فعدها في هذا اليوم، فلا لوم علي إن لم أصلك سنة بشيء. فقال له: نعم، وسنتين. فقال له الرشيد: زدني في الوثيقة، فقال: قد جعلت أمر أم صدقة في يدك، فطلقها متى شئت، إن شئت واحدة، وإن شئت ألفا إن سألتك في يومي هذا حاجة. وأشهد الله ومن حضر على ذلك، فدفع إليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنين فحضروا، وشرب القوم.
صفحة : 2196
فلما طابت نفس الرشيد قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيتي، وكثر إحسانك إلي حتى كبت أعدائي وقتلتهم. وليست لي بمكة دار تشبه حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به دارا، وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم- فعل، فقال: وكم قدرت لذلك? قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. ثم قام إبراهيم الموصلي فقال له: قد ظهرت نعمتك علي وعلى أكابر ولدي، وفي أصاغرهم من قد بلغ، وأريد تزويجه، ومن أصاغرهم من أحتاج إلى أن أطهره، ومنهم صغار أحتاج إلى أن أتخذ لهم خدما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك فعل، فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع، وجعل كل واحد منهم يقوم فيقول من الثناء ما يحضره، ويسأل حاجة على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إليهم وإلى الأموال تفرق يمينا وشمالا، فوثب على رجليه قائما، وقال للرشيد: يا سيدي، أقلني، أقال الله عثرتك فقال له الرشيد: لا أفعل، فجعل يستحلفه ويضطرب4 ويلح، والرشيد يضحك ويقول: ما إلى ذلك سبيل، الشرط أملك.
فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، وقال له: هاكها قد رددتها عليك وزدتك فرج أم صدقة فطلقها إن شئت واحدة، وإن شئت ألفا. وإن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد بن الباردة عمرو الغزل ، وكانت صلته ألف دينار. فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم رد عليه الخمسمائة الدينار، وأمر له بألف دينار معها. وكان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات، فانصرف يومئذ بألف وخمسمائة دينار.
عبث جعفر بن يحيى والرشيد به أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدثني يوسف بن إبراهيم، قال: حدثني أبو إسحاق، قال: مطرنا ونحن مع الرشيد بالرقة مطرا مع الفجر، واتصل إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد، وأنه مقيم عند أم ولده المسماة بسحر، فتشاغلنا في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد، فحضرنا جميعا، وأقبل يسأل واحدا واحدا عن يومه الماضي: ما صنع فيه فيخبره، إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره، فقال: كان عندي أبو زكار الأعمى وأبو صدقة، فكان أبو زكار كلما غنى صوتا لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة، فإذا انتهى الدور إليه أعاده، وحكى أبا زكار فيه وفي شمائله وحركاته، ويفطن أبو زكار لذلك فيجن ويموت غيظا، ويشتم أبا صدقة كل شتم حتى يضجر، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به، وأنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب وسئمنا من العبث به، فقلت له: دع هذا وغن غناءك، فغنى رملا ذكر أنه من صنعته، طربت له -والله يا أمير المؤمنين- طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين، وهو: صوت
فتنتني بقاحم الـلـون جـعـد وبثغـر كـأنـه نـظـم در
وبوجه كأنـه طـلـعة الـبـد ر وعين في طرفها نفث سحر فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: إني قد بنيت دارا حتى أنفقت عليها حريبتي ، وما أعددت لها فرشا، فافرشها لي، نجد الله لك في الجنة ألف قصر. فتغافلت عنه، وعاود الغناء، فتعمدت أن قلت له: أحسنت، ليعاود مسألتي وأتغافل عنه، فسألني وتغافلت، فقال لي: يا سيدي هذا التغافل متى حدث لك? سألتك بالله، وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم فأقبلت عليه وقلت له: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض، واكفف عن هذه المسألة الملحة، فوثب بين يدي، وظننت أنه خرج لحاجة، وإذا هو قد نزع ثيابه وتجرد منها خوفا من أن تبتل، ووقف تحت السماء، لا يواريه منها شيء والمطر يأخذه، ورفع رأسه، وقال: يا رب أنت تعلم أني مله، ولست نائحا، وعبدك هذا الذي رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي: أحسنت، لا يقول لي: أسأت، وأنا منذ جلست أقول له: بنيت، لم أقل: هدمت، فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض، فاحكم بيني وبينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين.
صفحة : 2197
فغلبني الضحك، وأمرت به فتنحى، وجهدت به أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أني أفرش له داره، وخدعته فلم أسم له ما أفرشها به، فقال الرشيد: طيب والله الآن تم لنا به اللهو، وهو ذا أدعو به، فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي، فهو يتنجز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له، فقل له: أنا أفرشها لك بالبواري ، وحاكمه إلي. ثم دعا به فأحضر، فما استقر في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحيى: الفرش الذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري، تقدم فيه، فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبواري، وإن شئت بالبردي من الحصر، فضج واضطرب.
فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة? فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسم النوع ولا حددت القيمة، فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبردي أو بما دون ذلك فقد وفى يمينه، وإنما خدعك، ولم تفطن له أنت، ولا توثقت، وضيعت حقك. فسكت، وقال: نوفر البردي والبواري عليه أيضا، أعزه الله. وغنى المغنين حتى انتهى إليه الدور، فأخذ يغني غناء الملاحين والبنائين والسقائين وما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: أيش هذا الغناء ويلك قال: من فرشت داره بالبواري والبرى فهذا الغناء كثير منه، وكثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد وطرب وصفق، ثم له بألف دينار من ماله وقال له: افرش دارك من هذه، فقال: وحياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني، وإلا مت والله أسفا لفوات ما حصل في طمعي ووعدت به، فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار، فقبلها جعفر، وأمر له بها.
قصة وصوله إلى السلطان
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أن أبي لما حج مر بالمدينة، فاحتاج إلى قطع ثياب، فالتمس خياطا حاذقا، فدل على أبي صدقة، ووصف به بالحذق في الخياطة والحذق في الغناء، وخفة الروح، فأحضره فقطع له ما أراد وخاطه، وسمع غناءه فأعجبه؛ وسأله عن حاله، فشكا إليه الفقر، فخلف لعياله نفقة سابغة لسنة، ثم أخذه معه وخلطه بالسلطان.
قال حماد: فقال أبو صدقة يوما لأبي: قد اقتصرت بي على صنعة أبي إسحاق أبيك، رحمه الله عندي، وأنت لا، رب ذلك بشيء، فقال له: هذه الصينية الفضة التي بين يدي لك إذا انصرفت، فشكره وسر بذلك، ولم يزل يغنيه بقية يومه، فلما أخذ النبيذ فيه قام قومة ليبول، فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنينته وقدحه فيها، ورفع الصينية الفضة، فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل، ودفعها إلى غلامه، وقال له: بت الليلة عندي واصطبح غدا، واردد دابتك. فقال: إني إذا لأحمق، أدفع إلى غلامي صينية فضة، فيأخذها ويطمع فيها أو يبيعها، ويركب الدابة ويهرب، ولكني أبيت عندك، فإذا انصرفت غدا أخذتها معي، وبات وأصبح عندنا مصطبحا، فلما كان وقت انصرافه أخذها ومضى، فلم يلبث من غد أن جاءنا والصينية معه، فإذا هو قد وجه بها لتباع، فعرفوه أنها رصاص، فلما رآه أبي من بعيد ضحك، وعرف القصة، وتماسك، فقالله أبو صدقة: نعم الخلافة خلفت أباك، وما أحسن ما فعلت بي قال: وأي شيء فعلت بك? قال: أعطيتني صينية رصاص، فقال له أبي: سخنت عينك سخرت امرأتك بك، وأنا من أين لي صينية رصاص? فتشكك ساعة، ثم قال: أظم والله أن ذلك كذلك، فقام. فقال له أبي: إلى أين? قال: أضع والله عليها السوط فأضربها به حتى ترد الصينية، فلما رأى أبي الجد منه قال له: اجلس يا أبا صدقة، فإنما مزحت معك، وأمر له بوزنها دراهم.
صوت
إن من يملك رقـي مالك دق الرقـاب
لم يكن يا أحسن العا لم هذا في حسابي الشعر لفضل الشاعرة، والغناء لعريب خفيف ثقيل بالوسطى، عن ابن المعتز .
أخبار فضل الشاعرة
نشأتها وصفاتها
صفحة : 2198
كانت فضل جارية مولدة من مولدات البصرة، وكانت أمها من مولدات اليمامة. بها ولدت، ونشأت في دار رجل من عبد القيس، وباعها بعد أن أدبها وخرجها، فاشتريت وأهديت إلى المتوكل. وكانت هي تزعم أن الذي باعها أخوها، وأنا أباها وطئ أمها فولدتها منه، فأدبها وخرجها معترفا بها، وأن بنيه من غير أمها تواطئوا على بيعها وجحدها، ولم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبدية. وكانت حسنة الوجه والجسم والقوام، أديبة فصيحة سريعة البديهة، مطبوعة في قول الشعر. ولم يكن في نساء زمانها أشعر منها.
كانت تجلس لرجال ويجيبها الشعراء
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: كانت فضل الشاعرة لرجل من النخاسين، بالكرخ يقال له: حسنويه، فاشتراها محمد بن الفرج أخو عمر بن الفرج الرخجي، وأهداها إلى المتوكل، فكانت تجلس للرجال، ويأتيها الشعراء، فألقى عليها أبو دلف القاسم بن عيسى:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهـم أشهى المطي إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلـؤ مـثـقـوبة نظمت وحبة لؤلؤ لم تثـقـب فقالت فضل مجيبة له:
إن المطية لا يلد ركوبهـا ما لم تذلل بالزمام وتركب
والدري ليس بنافع أصحابه حتى يؤلف للنظام بمثقب شعرها في المتوكل حين دخلت عليه
حدثني عمي ومحمد بن خلف، قالا: حدثنا أبو العيناء، قال: لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها: أشاعرة أنت? قالت: كذا زعم من باعني واشتراني، فضحك وقال: أنشدينا شيئا من شعرك فأنشدته:
استقبل الملك إمام الهدى عام ثلاث وثـلاثـينـا -تعني سنة ثلاث وثلاثين من سني الهجرة-:
خلافة أفضت إلى جعفر وهو ابن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهـدى أن تملك الناس ثمانـينـا
لا قدس الله امرأ لم يقـل عند دعائي لك: آمـينـا شعرها على لسان المعتمد في جارية
حدثني عمي، قال: حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون، قال: عرضت على المعتمد جارية تباع في خلافة المتوكل، وهو يومئذ حديث السن، فاشتط مولاها في السوم، فلم يشترها، وخرج بها إلى ابن الأغلب، فبيعت هناك. فلما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها، وقد ذكرها فأعلم أنها بيعت وأولدها مولاها، فقال لفضل الشاعرة: قولي فيها شيئا، فقالت:
علـم الـجـمـال تـركـــتـــنـــي في الـحـب أشـهـر مـن عـــلـــم
ونـصـبـتـنــي يا مـــنـــيتـــي غرض الـمـظـنة والـــتـــهـــم
فارقتني بعد الدنو فصرت عندي كالـحـلـم
فو أن نفسي فارقت جسـمـي لـفـقـدك لــم تـــلـــم
ما كان ضرك لو وصلت فخف عن قلبي الألم
برسالة تهدينها أو زورة تـحـــت الـــظـــلـــم
أو لا فـطـيفـي فـي الـــمـــنـــا م فـلا اقـل مـــن الـــلـــمـــم
صلة الـمـحـــب حـــبـــيبـــه الـلـــه يعـــلـــمـــه كـــرم شعر لها تجيب به
عن شعر في الشوق إليها
حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: كتب بعض أهلنا إلى فضل الشاعرة:
أصبحت فردا هائم العـقـل إلى غزال حسن الشـكـل
أضنى فؤادي طول عهدي به وبعده مني ومن وصـلـي
منية نفسي في هوى فضـل أن يجمع الله بها شمـلـي
أهواك يا فضل هوى خالصا فما لقلبي عنك من شـغـل قال: فأجابته: صوت
الصبر ينقص والـسـقـام يزيد والدار دانـية وأنـت بـعـيد
أشكوك أم أشكو إلـيك فـإنـه لا يستطيع سواهما المجـهـود
إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى من أن يطاع لديك في حسـود في هذه الأبيات رمل طنبوري. وأظنه لجحظة.
شعر آخر تبادل فيه شوقا بشوق
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني الحسن بن عيسى الكوفي، قال: حدثنا أبو دهمان، وأخبرني أيضا به عبد الله بن نصر المروزي، قالا: كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجها وخلقا وخلقا وأرقهم شعرا، فكتب إليها بعض من كان يجمعه وإياها مجلس الخليفة، ولا تطلعه على حبها له:
ألا ليت شعري فيك هل تذكريني فذكراك في الدنيا إلي حـبـيب
صفحة : 2199
وهل لي نصيب في فؤادك ثابت كما لك في الفـؤاد نـصـيب
ولست بموصول فأحـيا بـزورة ولا النفس عند اليأس عنك تطيب قال: فكتبت إليه:
نعم وإلهـي إنـنـي بـك صـبة فهل أنت يا من لا عدمت مثيب?
لمن أنت منه في الفؤاد مـصـور وفي العين نصب العين حين تغيب
فثق بوداد أنت مظهـر مـثـلـه على أن بي سقما وأنت طـبـيب
تجيز بيتا أنشده المتوكل
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال: حدثني الفضل بن العباس الهاشمي، قال: حدثتني بنان الشاعرة، قالت : اتكأ المتوكل على يدي ويد فضل الشاعرة، وجعل يمشي بيننا، ثم قال: أجيزا لي قول الشاعر:
تعلمت أسباب الرضا خوف عتبها وعلمها حبي لها كيف تغضـب فقالت له فضل:
تصد وأدنو بالمودة جـاهـدا وتبعد عني بالوصال وأقرب فقلت أنا:
وعندي لها العتبى على كل حالة فما منه لي بد ولا عنه مذهب تجيب ببيت عن بيت ألقي عليها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة:
ومستفتح باب البلاء بنظـرة تزود منها قلبه حسرة الدهر فقالت:
فوالله ما يدري أتدري بما جنـت على قلبه أو أهلكته وما تدري? ارتجالها شعرا تجيز به بيتا
أخبرني محمد بن خلف ، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: ألقيت أنا على فضل الشاعرة:
علم الجمال تركتنـي بهواك أشهر من علم فقالت على اليديهية:
وأبـحـتـــنـــي يا ســـيدي سقـمـا يجـل عـن الـسـقـــم
وتركتني غرضا فديتك للعواذل والتهم
صلة المحب حبيبه الـلـه يعـلـــمـــه كـــرم أخبرني محمد بن خلف، قال: حدثني محمد بن الوليد، قال: سمعت علي بن الجهم يقول: كنت يوما عند فضل الشاعرة، فلحظتها لحظة استرابت بها، فقالت:
يا رب رام حسن تعـرضـه يرمي ولا يشعر أني غرضه فقلت:
أي فتى لحظك ليس يمرضه وأي عقد محكم لا ينقضه فضحكت، وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
تتشوق إلى حبيب
حدثني عمي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني إبراهيم بن المدبر، قال: كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيام كانت بينهما محبة وتواصل:
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى لأقصرت عن أشياء في الهزل والجد
ولكنـنـي أبـدي لـهـذا مـودتـي وذاك، وأخلو فيك بالبـث والـوجـد
مخافة أن يغري بنا قـول كـاشـح عدوا فيسعى بالوصال إلى الـصـد فكتب إليها سعيد:
تنامين عن ليل وأسهـره وحـدي وأنهى جفوني أن تبثك ما عنـدي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلـتـه بنا فانظري ماذا على قاتل العمد? قال عمي: هكذا ذكر ابن مهرويه.
وحدثني به علي بن الحسين بن عبد الأعلى، فذكر أن بيتي سعيد كانا الابتداء، وأن أبيات فضل كانت الجواب. وذكر لهما خبرا في عتاب عاتبها به، ولم أحفظه، وإنما سمعته يذكره، ثم أخرج إلي كتابا بعد ذلك فيه أخبار عن علي بن الحسين، فوجدت هذا الخبر فيه، فقرأته عليه.
قال علي بن الحسين بن عبد الأعلى: حضر سعيد بن حميد مجلسا حضرته فضل الشاعرة وبنان، وكان سعيد يهواها، وتظهر له هوى، ويتهمها مع ذلك ببنان، فرأى فيها إقبالا شديدا على بنان، فغضب وانصرف، فكتبت إليه فضل بالأبيات الأول، وأجابها بالبيتين الآخرين، فاتفقت رواية ابن مهرويه وعلي بن الحسين في هذا الخبر.
تعتذر من حجب زائرين عنها دون علمها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو يوسف بن الدقاق الضرير، قال: صرت أنا وأبو منصور الباخرزي إلى منزل فضل الشاعرة فحجبنا عنها وانصرفنا، وما علمت بنا، ثم بلغها مجيئنا وانصرافنا فكرهت ذلك وغمها، فكتبت إلينا تعتذر:
وما كنت أخشى أن تروا لي زلة ولكن أمر الله ما عنه مذهـب
أعوذ بحسن الصفح منكم وقبلنـا بصفح وعفو ما تعوذ مـذنـب فكتب إليها أبو منصور الباخرزي:
صفحة : 2200
لئن أهديت عتباك لي ولإخوتـي فمثلك يا فضل الفضائل يعتـب
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب شعراه للمتوكل وقد يئست من إيقاظه لموعد بينهما حدثني علي بن هارون بن علي بن يحيى المنجم، قال: حدثني عمي عن جدي، قال: قال لي المتوكل يوما -وفضل واقفة بين يديه: يا علي، كان بيني وبين فضل موعد، فشربت شربا فيه فضل، فسكرت ونمت، وجاءتني للموعد، فحركتني بكل ما ينتبه به النائم من قرص وتحريك وغمز وكلام، فلم أنتبه. فلما علمت أنه لا حيلة لها في كتبت رقعة ووضعتها على مخدتي، فانتبهت فقرأتها، فإذا فيها:
قد بدا شبهك يا مو لاي يحدو بالظلام
قم بنا نقض لبانـا ت التزام والتثـام
قبل أن تفضحنا عو دة أرواح النـيام تهاجي جارية هشام المكفوف أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: كانت فضل الشاعرة تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف، وكانت شاعرة، وكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلا عليها، ويهجوها مع فضل. وكان القصيدي والحفصي يعينان خنساء على فضل وأبي شبل، فقال أبو شبل على لسان فضل:
خنـسـاء طــيري بـــجـــنـــاحـــين أصـبـحـت مـعــشـــوقة نـــذلـــين
من كـان يهـوى عــاشـــقـــا واحـــدا فأنـت تـــهـــوين عـــشـــيقـــين
هذا القصيدي وهذا الفتى الحفصي قد زاراك فردين
نعمت من هذا وهذا كما ينـعـم خـــنـــزير بـــحـــشـــين فقالت خنساء تجيبها:
ماذا مقال لك يا فضل بـل مقال خنـزيرين فـردين
يكنى أبا الشبل ولو أبصرت عيناه شبـلا راث كـرين وقالت فضل في خنساء:
إن خـنـسـاء لا جـعـلـت فــداهـــا اشـتـراهـا الـكـسـار مـن مـولاهــا
ولها نكهة يقول محاذيها أهذا حديثها أم فساها وقالت خنساء في فضل وأبي شبل:
تقول له فضل إذا ما تـخـوفـت ركوب قبيح الذل في طلب الوصل
حر أم فتى لم يلق في الحـب ذلة فقلت لها لا بل حر أم أبي الشبـل وقالت خنساء تهجو أبا شبل:
ما ينقضي فكري وطول تعجبي من نعجة تكنى أبا الـشـبـل
لعب الفحول بسفلها وعجانهـا فتمردت كتمـرد الـفـحـل
لما اكتنيت بما اكتـنـيت بـه وتسمت النقصان بالـفـضـل
كادت بنا الدنيا تمـيد ضـحـى ونرى السماء تذوب كالمهـل قال: فغضب أبو شبل لذلك، ولم يجبها، وقال يهجو مولاها هشاما:
نعـم مـأوى الـعـزاب بـيت هــشـــام حين يرمـي الـلـثـام بـاغـي الـلـثــام
من أراد الـسـرور عـنــد حـــبـــيب لينـال الـسـرور تـحـت الـــظـــلام
فهشام نهاره ودجى الليل سواء نفسي فداء هشام
ذاك حر دواته ليس تخلو أبـدا مـــن تـــخـــرق الأقـــلام زارت سعيد بن حميد فأعجلها طلب الخليفة حدثني عمي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: زارت فضل الشاعرة سعيد بن حميد ليلة على موعد مسبق بينهما، فلما حصلت عنده جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها، فقامت مبادرة فمضت، فلما كان من غد كتب إليها سعيد:
ضن الزمان بها فلما نلتـهـا ورد الفراق فكان أقبح وارد
والدمع ينطق للضمير مصدقا قول المقر مكذبا للجـاحـد ترثي المنتصر وتبكيه
حدثني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني ميسرة بن محمد، قال: حدثني عبيد بن محمد، قال: قلت لفضل الشاعرة: ماذا نزل بكم البارحة? -قال: وذلك في صبيحة قتل المنتصر المتوكل - فقالت وهي تكبي:
إن الزمان بذحل كان يطلبـنـا ما كان أغفلنا عنه وأسهانـا
مالي وللدهر قد أصبحت همته مالي وللدهر ما للدهر لا كانا شعرها في حضرة المتوكل يوم نيروز
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن الفضل، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني أحمد بن أبي فنن، قال:
صفحة : 2201
خرجت قبيحة إلى المتوكل يوم نيروز وبيدها كأس بلور بشراب صاف، فقال لها: ما هذا فديتك? قالت: هديتي لك في هذا اليوم، عرفك الله بركته فأخذه من يدها، وإذا على خدها: جعفر، مكتوبا بالمسك، فشرب الكأس وقبل خدها، وكانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت: صوت
وكاتبة بالمسك في الخد جعـفـرا بنفسي سواد المسك من حيث أثرا
لئن أثرت بالمسك سطرا بخـدهـا لقد أودعت قلبي من الحزن أسطرا
فيا من مناها في السريرة جعـفـر سقى الله من سقيا ثناياك جعـفـرا الغناء لعريب، خفيف رمل. قال: وأمر عريب فغنت فيه. وقالت فضل في ذلك أيضا:
سلافة كالقمر الـبـاهـر في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف كبدر الدجى فوق قضيب أهيف ناضر
على فتى أروع من هاشـم مثل الحسام المرهف الباتر وقد رويت الأبيات الأول لمحبوبة شاعرة المتوكل، ولها أخبار وأشعار كثيرة قد ذكرت بعضها في موضع آخر من هذا الكتاب.
تتشوق إلى سعيد بن حميد
أخبرني محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو الفضل المروروذي، قال: كتبت فضل الشاعر إلى سعيد بن حميد:
بثثت هواك في بدني وروحي فألف فيهما طمـعـا بـياس
فأجابها سعيد في رقعتهـا:
كفانا الله شر اليأس إني لبغض اليأس أبغض كل آسي بين بنان وسعيد بن حميد حدثني عمي، قال: حدثني ابن أبي المدور الوراق، قال: كنت عند سعيد بن حميد، وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل الشاعرة يتشعب، وقد بلغه ميلها إلى بنان وهو بين المصدق والمكذب بذلك، فأقبل على صديق له فقال: أصبحت والله من أمر فضل في غرور، أخادع نفسي بتكذيب العيان، وأمنيها ما قد حيل دونه. والله إن إرسالي إليها بعدما قد لاح من تغيرها لذل، وإن عدولي عنها وفي أمرها شبه لعجز، وإن تبصري عنها لمن دواعي التلف، ولله در محمد بن أمية حيث يقول:
يا ليت شعري ما يكون جوابـي أما الرسول فقد مضى بكتابـي
وتعجلت نفسي الظنون وأشعرت طمع الحريص وخيفة المرتاب
وتروعني حركات كل محـرك والباب يقرعه وليس ببـابـي
كم نحو باب الدار لي من وثـبة أرجو الرسول بمطمع كـذاب
والويل لي من بعد هذا كـلـه إن كان ما أخشاه رد جوابـي تعتذر إلى بنان فلا يقبل عذرها حدثن جحظة، قال: حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها، فاعتذرت إليه، فلم يقبل معذرتها، فأنشدتني لنفسها في ذلك:
يا فضل صبرا إنها مـيتة يجرعها الكاذب والصادق
ظن بنان أننـي خـنـتـه روحي إذا من بدني طالق تجيز بيتا لعلي بن الجهم طلب إجازته
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو العباس المروزي، قال: قال المتوكل لعلي ابن الجهم: قل بيتا، وطالب فضل الشاعر بأن تجيزه، فقال علي: أجيزي يا فضل:
لاذ بها يشتكي إليهـا فلم يجد عندها ملاذا قال: فأطرقت هنيهة ثم قالت:
فلم يزل ضارعا إليهـا تهطل أجفـانـه رذاذا
فعاتبوه فزاد عـشـقـا فمات وجدا فكان ماذا? فطرب المتوكل، وقال: أحسنت وحياتي يا فضل، وأمر لها بمائتي دينار، وأمر عريب فغنت في الأبيات.
قال مؤلف هذا الكتاب : أعرف في هذه الأبيات هزجا لا أدري أهو هذا اللحن، أم غيره? ولم أره في أغاني عريب، ولعله شذ عنها.
صوت
أمامة لا أراك الـل ه ذل معـيشة أبـدا
ألا تستصلحين فتـى وقاك السوء قد فسدا
غلام كان أهلك مر ة يدعـونـه ولـدا الشعر لعبد الله بن محمد بن سالم الخياط، والغناء للرطاب الجدي، ثاني ثقيل، بالوسطى عن عمرو، وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى عن إسحاق وأحمد بن المكي.
وذكر عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام عن قلم الصالحية أنها أخذت اللحن المنسوب إلى الرطاب عن تينة، وسألته عن صانعه فأخبرها أنه له.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء العشرون
صفحة : 2202
نسب ابن الخياط وأخباره
نسبه وولاؤه
هو عبد الله بن محمد بن سالم بن يونس بن سالم. ذكر الزبير بن بكار أنه مولى لقريش، وذكر غيره أنه مولى لهذيل.
أوصافه
وهو شاعر ظريف، ماجن خليع، هجاء خبيث، مخضرم من شعراء الدولة الأموية والعباسية. وكان منقطعا إلى آل زبير بن العوام مداحا لهم، وقدم على المهدي مع عبد الله بن مصعب فأوصله إليه، وتوصل له إلى أن سمع شعره وأحسن صلته.
يمدح المهدي فيجيزه
ثم يمدحه فيضعف جائزته:
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني يونس بن عبد الله بن سالم الخياط قال: دخل أبي على المهدي فمدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم، فقال يمدحه:
أخذت بكفي كفه أبتغي الغنـى ولم أدر أن الجود من كفه يعدى
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغـنـى أدت وأعداني فأتلفت ما عنـدي قال: فبلغ المهدي خبره، فأضعف جائزته، وأمر بحملها إليه إلى منزله.
قال الزبير بن بكار: سرق ابن الخياط هذا المعنى من ابن هرمة.
كان من الهجائين
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثني مصعب بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: لم يبرح هذه الثنية قط أحد يقذف أعراض الناس ويهجوهم، قلت: مثل من? قال: الحزين الكناني، والحكم بن عكرمة الدؤلي، وعبد الله بن يونس الخياط، وابنه يونس، وأبو الشدائد.
عقوق ابنه يونس له
أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: كان يونس بن الخياط عاقا لأبيه، فقال أبوه فيه:
يونس قلبي عليك يلتـهـف والعين عبرى دموعها تكف
تلحفني كسوة العقـوق فـلا برحت منها ما عشت تلتحف
أمرت بالخفض للجناح وبالر فق فأمسى يعوقك الأنـف
وتلك واللـه مـن زبـانـية إن سلطوا في عذابهم عنفوا فأجابه ابنه يونس، فقال:
أصبح شيخي يزري به الخرف ما إن له حرمة ولا نصـف
صفاتنا في العـقـوق واحـدة ما خلتنا في العقوق نختلـف
لحفته سالـفـا أبـاك فـقـد أصبحت مني كذاك تلتحـف يهجو رجلا شيد دارا وكان يعرفه بالضعة
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني طلحة بن عبد الله قال: حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال: مر ابن الخياط بدار رجل كان يعرفه قبل ذلك بالضعة وخساسة الحال، وقد شيد بابها وطرمح بناءها، فقال:
أطله فما طول البناء بنافـع إذا كان فرع الوالدين قصيرا يهجو موسى بن طلحة فلا يكترث لهجائه فيناشده أن يكتم عليه: أخبرني وكيع قال: أخبرني إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن صالح قال: أخبرني العامري قال: هجا ابن الخياط موسى بن طلحة بن بلال التيمي، فقال:
عجب الناس للعجيب المـحـال حاض موسى بن طلحة بن بلال
زعموه يحيض في كل شـهـر ويرى صفـرة لـكـل هـلال قال: فلقيه موسى، فقال: يا هذا، وأي شيء عليك? نعم حضت، وحملت، وولدت وأرضعت. فقال له ابن الخياط: أنشدك الله ألا يسمع هذا منك أحد فيجترئ على شعري الناس، فلا يكون شيئا، ولن يبلغك عني ما تكره بعد هذا، فتكافا.
شعره في جارية القتيلي
أخبرني الحرمي قال: حدثني الزبير قال: حدثني مصعب بن عثمان قال: ما رأيت بريق صلع الأشراف في سوق الرقيق أكثر منها يوم رحب القتيلة جارية إبراهيم بن أبي قتيلة، وكان يعشقها، وبيعت في دين عليه، فبلغت خمسمائة دينار فقال المغيرة بن عبد الله لابن أبي قتيلة: ويحك اعتقها فتقوم عليك، فتتزوجها، ففعل. فرفع ذلك إلى أبي عمران - وهو القاضي يومئذ- فقال: أخطأ الذي أشار عليه في الحكومة. أما نحن في الحكومة فقد عرفنا أن قد بلغت خمسمائة دينار، فاذهبوا فقوموها، فإن بلغت القيمة أكثر من هذا ألزمناه، وإلا فخذوا منه خمسمائة دينار، فاستحسن هذا الرأي، وليس عليه الناس قبلنا، فقال ابن الخياط يذكر ذلك من أمر ابن قتيلة وما كان من أمر جاريته:
يا معشر العشاق من لم يكـن مثل القتيلـي فـلا يعـشـق
لما رأى السوام قد أحـدقـوا وصيح في المغرب والمشرق
صفحة : 2203
واجتمع الناس عـلـى درة نظيرها في الخلق لم يخلق
وأبدت الأموال أعناقـهـا وطاحت العسرة للمملـق
قلب فيه الرأي في نفسـه يدير ما يأتي وما يتـقـي
أعتقها والنفس في شدقهـا للمعتق المن على المعتق
وقال للحاكم في أمـرهـا إن افترقنا فمتى نلتقـي? وأخبرني بهذا الخبر وكيع قال: قال الزبير بن بكار، وذكر مثل ما ذكره الحرمي، وزاد فيه: فكان فيهم -يعني فيمن حضر- لابتياعها موسى بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، وغيرهم. قال: فرأيتهم قياما في الشمس يتزايدون فيها. وقال في خبره: ابن أبي قتيلة بالتاء.
يسأل سائل عنه ابنه يونس فيمضي به إليه فيستنشده شعره في العصبية: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني يونس بن عبد الله بن سالم الخياط قال: كنت ذات عشية في مسجد رسول الله) وقت العصر في أيام الحاج، فإذا أنا برجل جميل عليه مقطعات خز، وإذا معه جماعة. فوقف إلى جانبي فصلى ركعتين، ثم أقبل علي -وكان ذلك من أسباب الرزق- فقال: يا فتى، أتعرف عبد الله ابن سالم الخياط? فقلت: نعم. فلما صلينا قال: امض بنا إليه، فمضيت به ، فاستخرجت له أبي من منزله، فقال الرجل: بلغني أنك قلت شعرا في أمر العصبية، فقال له أبي: ومن أنت بأبي أنت وأمي? فقال: أنا خزيم بن أبي الهيذام، فقال له أبي: نعم قد قلته، وأنشده:
اسـقـيانـي مـن صـرف هـذي الــمـــدام ودعـانـي وأقـصـر مــن مـــلامـــي
واشـربـا حـيث شـئتـمــا إن قـــيســـا قد عـلا عـــزهـــا فـــروع الأنـــام
ليس والـلـــه بـــالـــشـــآم يمـــان فيه روح ولا بـــغـــير الـــشـــــآم
يطعم النوم حين تكتحل الأعين بالنوم عند وقت المنام
حذرا من سيوف ضرغامة عا د عـلـى الـهـول بـاســـل مـــقـــدام
من بـنـي مــرة الأطـــايب يكـــنـــى عنـد دسـر الـرمــاح بـــالـــهـــيذام ابنه يونس ينافسه ليحرمه جائزة
قال: فأشرع الفتى يده إليه بشيء وجزاه خيرا. قال يونس: فبادرت فأخذت بيد المري وقلت له: لا تعجل فإني قد قلت شعرا أجود من شعره. قال أبي: ويلك يا يونس يا عاض بظر أمه تحرمني? فقلت: دع هذا عنك، فوالله لا تجوع امرأتي وتشبع امرأتك، فقلت ليونس: ومن كانت امرأة أبيك يومئذ? فقال: أمي، وجمعت والله عقوقهما . فقال لي المري أنشد فأنشدته:
اسقياني يا صاحبي اسقيانـي ودعاني من الملام دعانـي
اسقياني هديتما من كـمـيت بننت عشر مشمولة أسقياني
فض عنها ختامها إذ سباهـا واضح الخد من بني عدنـان
نتحايا بالكأس أربعة في الـد ور هذان نـاعـمـان وذان
ذا لهذا ريحانة مـثـل هـذا ك لهذا من طيب الريحـان
فنهضنا لموعد كـان مـنـا إذ سمعنا تجارب البكـمـان
فنعمنا حولين بهرا وعشـنـا بين دف ومسـمـع ودنـان
ثم هجنا للحرب إذ شبت الحر ب ففزنا فيها بسبق الرهان
إن قيسا في كل شرق وغرب خارج سهمها على السهمان
منع الله ضيمنا بأبي الـهـي ذام حلف السماح والإحسان
واليمانون يفخـرون أمـا يد رون أن النبي غـير يمـان قال: فقال الفتى لأبي: قد وجب علينا من حقه ما وجب علينا من حقك يا شيخ؛ واستظرف ما جرى بيني وبين أبي، وقسم الدنانير بيننا، وكانت خمسين دينارا.
ابنه يعصر حلقه
فيعترف لمنقذه بأن عق أباه من قبله:
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني الزبير قال: مر رجل بيونس بن عبد الله بن الخياط -وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقا به- فقال له: ويلك أتفعل هذا بأبيك? وخلصه من يده، ثم أقبل على الأب يعزيه ويسكن منه، فقال له الأب: يا أخي لا تلمه، واعلم أنه ابني حقا. والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه. فانصرف عنه الرجل وهو يضحك.
يشكو حاله إلى محمد بن سعيد
فيأمر له بمعونة فيمدحه:
صفحة : 2204
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن عمه عيسى قال: شكا عبد الله بن يونس الخياط إلى محمد بن سعيد بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حاله وضيقا قد ناله، فأمر له بدنانير وكسوة وتمر، فقال يمدحه:
يا بن سعيد يا عقـيد الـنـدى يا بارع الفضل على المفضل
حللت في الذروة من هاشـم وفي يفاع من بني نـوفـل
فطاب في الفرعين هـذا وذا ما اعتم من منصبك الأطوال
قد قلت للدهر وقد نـالـنـي بالناب والمخلب والكلـكـل
قد عذت من ضرك مستعصما بها شمي ماجـد نـوفـلـي
فقال لي أهلا وسهلا مـعـا فزت ولم يمنع ولم يبـخـل
الدهر شقـان فـشـق لـه لين وشق خشن الـمـنـزل
وأخشن الشقين عني نـفـي وشقه الألين ما عـاش لـي
فقل لهذا الدهر ما عـاش لا تبق ولا ترع ولا تـأتـلـي يأخذه والى الحجاز بالصلاة فيحاول أن يعفيه منها:
أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: أخذ أبي -لما ولي الحجاز عبد الله بن يونس الخياط- بأن يصلي الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد رسول الله )، فجاءني هو ومحمد بن الضحاك وجعفر بن الحسين اللهبي، فوقف بين يدي، ثم أنشدني:
قل للأمير يا كريم الجـنـس يا خير من بالغور أو بالجلس
وعدتي لولـدي ونـفـسـي شغلتني بالصلوات الخمـس فقلت له: ويلك أتريد أن أستعفيه لك من الصلاة? والله ما يعفيك، وإن ذلك ليبعثه على اللجاج في أمرك، ثم يضرك عنده. فمضى وقال: نصبر إذن حتى يفرج الله تعالى.
شعره في صديق كان يدعوه للشرب
أخبرني محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا يونس بن الخياط قال: كان لأبي صديق، وكان يدعوه ليشرب معه، فإذا سكر خلع عليه قميصه، فإذا صحا من غد بعث إليه فأخذه منه فقال أبي فيه:
كاني قميصا مرتين إذا انـتـشـى وينزعه مني إذا كـان صـاحـيا
فلي فرحة في سكره بقـمـيصـه وروعاته في الصحو حصت شواتيا
فياليت حظي من سروري وروعتي تكون كفافـا لا عـلـي ولا لـيا ابنه يعقه، وابن ابنه يعق أباه: أخبرنا وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزرفي قال: قال يونس بن عبد الله الخياط لأبيه، وكان عاقا به:
ما زال بي ما زال بي طعن أبي في النسب
حتى تريبـت وحـت ى ساء ظني بـأبـي قال: ونشأ ليونس ابن يقال له: دحيم، فكان أعق الناس به، فقال يونس فيه:
جلا دحـيم عـمـاية الـريب والشك مني والطعن في النسب
ما زال بي الظن والتشكك حت ى عقني مثل ما عققت أبـي ابنه ينشد سعيد ابن عمرو نسيبا فيقر بعجزه عن مثله: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني يونس بن الخياط قال: أنشدت سعيد بن عمرو الزبيري:
لو فاح ريح حبيبة من حبـهـا فاحت رياح حبيبتي من ريحي قال: فقال لي سعيد بن عمرو: والله إني لأقول النسيب، فلا أقدر على مثل هذا فقلت له: ومن أين تقدر على مثل هذا يا أبا عثمان? لا تقدر والله على مثله حتى يسوء الثناء عليك.
يؤثر ابنه بالفريضة: أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال حدثني يونس بن الخياط قال: لما أعطى المهدي المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث شاء جاءه أبي عبد الله ابن سالم، وقال له:
ألف تدور علـى يد لـمـمـدح ما سوق مادحه لديه بـكـاسـد
الظن مني لو فرضت لـواحـد في الأعجمين خصصتني بالواحد
صفحة : 2205
قال: فقال له المغيرة: أيهما أحب إليك: أأفرض لك أم لابنك يونس? فقال له: أنا شيخ كبير، هامة اليوم أو غد، افرض لابني يونس، ففرض لي في خمسين دينارا، فلما خرجت الأعطية الثلاثة في زمن الرشيد على يدي بكار بن عبد الله قال لي خليفته أيوب بن أبي سمير -وهما يعرضان أهل ديوان العطاء-: أنت من هذيل ونراك قد صرت من آل الزبير فنردك إلى فرائض هذيل خمسة دينارا. فقال لهما بكار: إنما جعلتما لتتبعا ولا تبتدعا، أمضياه، فأعطياني مائة وخمسين دينارا.
ابنه يهجو هشام بن عبد الله حين ولي القضاء ليغض عنه: أخبرني محمد لن خلف وكيع قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرفي قال: حدثني ابن أبي قباحة الزهري قال: لما عزل ابن عمران -وهو عبد الله بن محمد بن عمران التيمي- عن القضاء، واستعمل هشام بن عبد الله بن عكرمة المخزومي، جزع ابن عمران من ذلك، فقال بعض أصحابه ليونس بن عبد الله الخياط: اهج هشاما بما يغض منه، فقال:
كم تغنى لي هـشـام ذلك الجلف الطـويل
بعد وهن وهو في المج لس سكـران يمـيل
هل إلى نار بـسـلـع آخر الدهـر سـبـيل
قلت للنـدمـان لـمـا دارت الراح الشمول
بأبـي مـال هـشـام فكما مال فـمـيلـوا قال: وشهرها في الناس، وبلغ ذلك هشاما: لعنه الله؛ إن كان لكاذبا فقال ابن أبي قباحة: فقلت لابن الخياط كذبت، وأما والله إنه لأمر من ذلك.
ابنه يطعن في نسبه بحضرة أبيه وأصحاب له: أخبرنا وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال: قال يونس بن عبد الله بن الخياط: جئت يوما إلى أبي وهو جالس وعنده أصحاب له؛ فوقفت عليهم لأغيظه، وقلت: ألا أنشدكم شعرا قلته بالأمس? قالوا: بلى، فأنشدتهم:
يا سائلي من أنا أو من يناسبنـي أنا الذي ماله أصل ولا نـسـب
الكلب يختال فخرا حين يبصرني والكلب أكرم مني حين ينتسـب
لو قال لي الناس طرا أنت الأمنا ما وهم الناس في ذاكم ولا كذبوا قال: فوثب إلي ليضربني، وعدوت من بين يديه، فجعل يشتمني وأصحابه يضحكون.
شعر ابنه وقد جلد في الشراب: أخبرني وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود: أن مالك بن أنس جلد يونس بن عبد الله بن سالم الخياط حدا في الشراب. قال: وولي ابن سعيد القضاء بالمدينة، فقال يونس فيه:
بكـتـنـــي الـــنـــاس لأن جلـدت وسـط الـرحــبـــه
وأنــنـــي أزنـــي وقـــد غنـيت فـي الـمـجـتـسـبــه
أعـزف فـيهـم بـعـــصـــا مالـك الـمـقـتـضـــبـــه
فقـلـت لـمــا أكـــثـــروا علـي فـيم الـجـلـــبـــه?
ذا ابـن سـعـيد قـد قـضـــى وحـالـنـا مـقـتـــربـــه
لا بل له التفضيل فيما لم أنل والغلبه
بحسن صوت مطرب وزوجة مـغـتــصـــبـــه ابن الخياط يستزير الزبير ابن بكار
في مرض موته ليجدد له عهدا:
أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء ووكيع، قال الحرمي قال الزبير، وقال وكيع قال الزبير بن بكار: أرسل إلي ابن الخياط يقول: إني عليل منذ كذا وكذا، ومنزلي على طريقك إذا صدرت إلى الثنية ، وأنا أحب أن أجدد بك عهدا، قال: فجعلته على طريقي، فوجدته على فرش مضربة ، وحوله وسائد، وهو مسجى فكشف ابنه الثوب عن وجهه، وقال له: فديتك، هذا أبو عبد الله. فقال له: أجلسني، فأجلسه وأسنده إلى صدره، فجعل يقول بنفس منقطع: بأبي أنت وأمي أموت منذ بضع عشرة ليلة ما دخل علي قرشي غيرك وغير الزبير بن هشام وإبراهيم بن المنذر ومحمد بن عبد الله البكري، ولا والله ما أعلم أحدا أحب قريشا كحبي. قال زبير: وذكر رجلا كان بيني وبينه خلاف فقال: لو كنت شابا لفعلت بأمه كذا وكذا، لا يكنى. ثم قال:
والله لو عادت بني مصعب حليلتي قلت لها: بـينـي
أو ولدي عن حبهم قصروا ضغطتهم بالرغم والهون
أو نظرت عيني خلافا لهم فقأتها عمدا بـسـكـين ثم أقبل على ابنه، فقال: يا بني أقول لك في أبي عبد الله ما قال ابن هرمة لابنه في الحسن بن يزيد:
الله جار عتي دعـوة شـفـقـا من الزمان وشر الأقرب الوالي
صفحة : 2206
من كل أحـيد عـنـه لا يقـربـه وسط النجي ولا في المجلس الخالي يمون في غد اليوم الذي زاره فيه الزبير: قال الزبير: حدثني محمد بن عبد الله البكري: أنه دخل إليه بعدي في اليوم الذي مات فيه، قال: فقال لي: يا أبا عبد الله، أنا أجود بنفسي منذ كذا وكذا ولا تخرج، ما هكذا كانت نفس عبيد ولا لبيد ولا الحطيئة، ما هي إلا نفس كلب؛ قال: فخرجت فما أبعدت حتى سمعت الواعية عليه.
صوت
بأبي مالك عـنـي مائل الطرف كليلا
وأرى بـرك نـزرا وتحفـيك قـلـيلا
وتسمـينـي عـدوا وأسمـيك خـلـيلا
أتعلـمـت سـلـوا أم تبدلـت بـديلا?
أحمد الله فـمـا أغ نى الرجا فيك فتيلا الشعر لعلي بن جبلة، والغناء لزرزور غلام المارقي، خفيف رمل بالبنصر من روايتي الهشامي وعبد الله بن موسى. وفيه لعريب هزج، وفيه ثقيل أول من جيد الغناء. ينسب إليها وإلى علويه، وهو بغنائها أشبه منه بغناء علويه.
أخبار علي بن جبلة
نسبه ولقبه
هو علي بن جبلة بن عبد الله الأبناوي ، ويكنى أبا الحسن، ويلقب بالعكوك، من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد، وبها نشأ، وولد بالحربية من الجانب الغربي، وكان ضريرا، فذكر عطاء الملط أنه كان أكمه، وهو الذي يولد ضريرا، وزعم أنه عمي بعد أن نشأ.
استنفذ شعره في مدح أبي دلف وحميد
وهو شاعر مطبوع، عذب اللفظ جزله، لطيف العاني، مداح حسن التصرف. واستنفذ شعره في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، وأبى غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي، وزاد في تفضيلهما وتفضيل أبي دلف خاصة حتى فضل من أجله ربيعة على مضر، وجاوز الحد في ذلك. فيقال: إن المأمون طلبه حتى ظفر به، فسل لسانه من قفاه، ويقال: بل هرب، ولم يزل متواريا منه حتى مات ولم يقدر عليه؛ وهذا هو الصحيح من القولين، والآخر شاذ.
نشأته وتربيته
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي قال: حدثني الحسين بن عبد الله بن جبلة بن علي بن جبلة قال: كان لجدي أولاد، وكان علي أصغرهم، وكان الشيخ يرق عليه، فجدر، فذهبت إحدى عينه في الجدري، ثم نشأ فأسلم في الكتاب، فحذق بعض ما يحذقه الصبيان، فحمل على دابة ونثر عليه اللوز، فوقعت على عينيه الصحيحة لوزة فذهبت، فقال الشيخ لولده: أنتم لكم أرزاق من السلطان، فإن أعنتموني على هذا الصبي، وإلا صرفت بعض أرزاقكم إليه. فقلنا: وما تريد? قال: تختلفون به إلى مجالس الأدب.
يقصد أبا دلف فيتهم بانتحال القصيدة
فيطلب أن يمتحن:
قال: فكنا نأتي به مجالس العلم ونتشاغل نحن بما يلعب به الصبيان، فما أتى عليه الحول حتى برع، وحتى كان العالم إذا رآه قال لمن حوله: أوسعوا للبغوي وكان ذكيا مطبوعا، فقال الشعر، وبلغه أن الناس يقصدون أبا دلف لجوده وما كان يعطي الشعراء، فقصده -وكان يسمى العكوك- فامتدحه بقصيدته التي أولها:
ذاد ورد الغي عن صـدره وارعوى واللهو من وطره يقول فيه في مدحه:
يا دواء الأرض أن فـسـدت ومديل اليسر مـن عـسـره
كل من في الأرض من عرب بين بـاديه إلـى حـضـره
مستعـير مـنـك مـكـرمة يكتسبهـا يوم مـفـتـخـره
إنـمـا الـدنـيا أبـو دلـف بين مبداه ومـحـتـضـره
فإذا ولـى أبــو دلـــف ولت الدنـيا عـلـى أثـره فلما وصل إلى أبي دلف -وعنده من الشعراء وهم لا يعرفونه- استرابوه بها، فقال له قائده: إنهم قد اتهموك وظنوا أن الشعر لغيرك، فقال: أيها الأمير، إن المحنة تزيل هذا، قال: صدقت فامتحنوه.
القصيدة التي امتحن بها في وصف فرس أبي دلف: فقالوا له: صف فرس الأمير، وقد أجلناك ثلاثا، قال: فاجعلوا معي رجلا تثقون به يكتب ما أقول، فجعلوا معه رجلا، فقال هذه القصيدة في ليلته، وهي:
ريعت لمنشور على مفرقـه ذم لها عهد الصبا حين انتسب
أهداب شيب جدد في رأسـه مكروهة الجدة أنضاء العقب
أشرقن في أسود أزريني بـه كان دجاه لهوى البيض سبب
صفحة : 2207
واعتقن أيام الغواني والـصـبـا عن ميت مطلـبـه حـي الأدب
لم يزدجر مرعويا حين ارعـوى لكن يد لم تتصـل بـمـطـلـب
لم أر كالشيب وقـارا يجـتـوى وكالشباب الغض ظلا يستـلـب
فنازل لـم يبـتـهـج بـقـربـه وذاهب أبقى جوى حـين ذهـب
كان الشباب لـمة أزهـى بـهـا وصاحبا حرا عزيز المطـحـب
إذ أنا أجري سـادرا فـي غـيه لا أعتب الـدهـر إذا الـدهـر
أبعد شأو اللـهـو فـي إجـرائه وأقصد الخود وراء المحتـجـب
وأذعر الربرب عـن أطـفـالـه بأعوجي دلفي الـمـنـتـسـب
تحسبه مـن مـرح الـعـز بـه مستنفرا بروعة أو مـلـتـهـب
مرتهـج يرتـج مـن اقـطـاره كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
تحسبه أقعد في اسـتـقـبـالـه حتى إذا استدبرته قـلـت أكـب
وهو عـلـى إرهـاقـه وطـيه يقصر عنه المحزمان واللـبـب
تقول فيه حـنـب إذا انـثـنـى وهو كمتن القدح ما فيه حـنـب
يخطو على عوج تناهبن الـثـرى لم يتواكل عن شظى ولا عصـب
تحسبـهـا نـاتـئة إذا خـطـب كأنها واطئة عـلـى الـركـب
شتا وقاظ بـرهـتـيه عـنـدنـا لم يؤت من بـر بـه ولا حـدب
يصان عـصـري حـره وقـره وتقصر الخور عليه بالـحـلـب
حتى إذا تمـت لـه أعـضـاؤه لم تنحبس واحدة علـى عـتـب
رمنا به الـصـيد فـرادينـا بـه أوابد الوحش فأجدى واكتـسـب
مجذم الـجـري يبـارى ظـلـه ويعرق الأحقب في شوط الخبب
إذا تـظـنـينـا بـه صـدقـنـا وإن تظنى فوته الـعـير كـذب
لا يبلغ الـجـهـد بـه راكـبـه ويبلغ الريح به حـيث طـلـب
ثم انقضى ذاك كـأن لـم يعـنـه وكل بقيا فـإلـى يوم عـطـب
وخلف الدهـر عـلـى أبـنـائه بالقدح فيهم وارتجاع مـا وهـب
فحمل الدهر ابن عيسى قاسـمـا ينهض به أبلج فراج الـكـرب
كرونق السيف انبلاجا بـالـنـدى وكغراريه علـى أهـل الـريب
ما وسنت عين رأت طـلـعـتـه فاستيقظت بنوبة مـن الـنـوب
لولا ابن عيسى القرم كنا هـمـلا لو يؤتثل مجد ولم يرع حـسـب
ولم يقـم فـي يوم بـأس ونـدى ولا تلاقى سبـب إلـى سـبـب
تكاد تبدى الأرض ما تضـمـره إذا تداعت خيلـه هـلا وهـب
ويسـتـهـل أمـلا وخـــيفة جانبها إذا استـهـل أو قـطـب
وهو وإن كان ابن فـرعـي وائل فبمساعيه يوافى في الـحـسـب
وبـعـلاه وعـــلا آبـــائه تحوى غداة السبق أخطار القصب
يا زهر الدنيا ويا بـاب الـنـدى وما مجير الرعب من يوم الرهب
لولاك ما كـان سـدى ولا نـدى ولا قريش عرفت ولا الـعـرب
خذها إليك من ملـئ بـالـثـنـا لكنه غير مـلـئ بـالـنـشـب
فاثو في الأرض أو استفزز بهـا أنت عليها الرأس والناس الذنـب ?شهادة الشعراء بأنه صاحب مدح أبي دلف قال: فلما غدا عليه بالقصيدة وأنشده إياها استحسنها من حضر، وقالوا: نشهد أن قائل هذه قائل تلك، فأعطاه ثلاثين ألف درهم. وقد قيل: إن أبا دلف أعطاه مائة ألف درهم، ولكن أراها في دفعات؛ لأنه قصده مرارا كثيرة، ومدحه بعدة قصائد.
?المأمون يستنشد بعض جلسائه قصيدته في أبي دلف أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني أحمد بن أبي فنن قال: قال عبد الله بن مالك:
صفحة : 2208
قال المأمون يوما لبعض جلسائه: أقسم على منضر حضر ممن يحفظ قصيدة علي بن جبلة الأعمى في القاسم بن عيسى إلا أنشدنيها، فقال له بعض جلسائه: قد أقسم أمير المؤمنين، ولا بد من إبرار قسمه، وما أحفظها، ولكنها مكتوبة عندي. قال: قم فجئني بها، فمضى وأتاه بها، فأنشده إياها وهي:
ذاد ورد الغي عـن صـدره وارعوى واللهو من وطـره
وأبـت إلا الـبـكـاء لــه ضحكات الشيب في شعـره
ندمي أن الشبـاب مـضـى لم أبـلـغـه مـدى أشـره
وانقضـت أيامـه سـلـمـا لم أجد حولا عـلـى غـيره
حسرت عنـي بـشـاشـتـه وذودي المحمود من ثـمـره
ودم أهـدرت مـن رشــا لم يرد عقلا عـلـى هـدره
فأتت دون الـصـبـا هـنة فليت فوقي عـلـى وتـره
جارتا ليس الشبـاب لـمـن راح محنيا عـلـى كـبـره
ذهبت أشياء كـنـت لـهـا صارها حلمي إلى صـوره
دع جدا قحطان أو مـضـر في يمانيه وفـي مـضـره
وامتـدح مـن وائل رجـلا عصر الآفاق في عـصـره
المـنـايا فـي مـنـاقـبـه والعطايا فـي ذرا حـجـره
ملـك تـنـدى أنـامـلــه كانبلاج النوء من مـطـره
مستهـل عـن مـواهـبـه كابتسام الروض عن زهـره
جبـل عـزت مـنـاكـبـه أمنت عدنـان فـي ثـغـره
إنـمـا الـدنـيا أبـو دلـف بين مبداه ومـحـتـضـره
فإذا ولـى أبــو دلـــف ولت الدنـيا عـلـى أثـره
لست أدري مـا أقـول لـه غير أن الأرض في خفـره
كل من في الأرض من عرب بي بـاديه إلـى حـضـره
مستعـير مـنـك مـكـرمة يكتسيهـا يوم مـفـتـخـره يقول فيها:
وزخرف في صواهلـه كصياح الحشر في أثره
قدته والموت مكـتـمـن في مذاكيه ومشتـجـره
فرمت جيلويه مـنـه يد طوت المنشور من نظره
زرته والخـيل عـابـسة تحمل البؤس على عقره
خارجات تحت رايتـهـا كخروج الطير من وكره
وعلى النعمان عجت بـه عوجة ذادته عن صدره
غمط النعمان صفوتـهـا فرددت الصفو في كدره
ولقرقـور أدرت رحـا لم تكن ترتد في فكـره
قد تأنيت الـبـقـاء لـه فأبى المحترم من قـدره
وطغى حتى رفعت لـه خطة شنعاء من ذكـره قال: فغضب المأمون واغتاظ، وقال: لست لأبي إن لم أقطع لسانه أو أسفك دمه.
?أنشد أبا دلف مدحته بعد أن قتل قرقورا قال ابن أبي فنن: وهذه القصيدة قالها علي بن جبلة وقصد بها أبا دلف بعد قتله الصعلوك المعروف بقرقور، وكان من أشد الناس بأسا وأعظمهم. فكان يقطع هو وغلمانه على القوافل وعلى القرى، وأبو دلف يجتهد في أمره فلا يقدر عليه. فبينا أبو دلف خرج ذات يوم يتصيد وقد أمعن في طلب الصيد وحده إذا بقرقور قد طلع عليه وهو راكب فرسا يشق الأرض بجريه، فأيقن أبو دلف بالهلاك، وخاف أن يولي عنه فيهلك، فحمل عليه وصاح: يا فتيان يمنة يمنة -يوهمه أن معه خيلا قد كمنها له- فخافه قرقور وعطف على يساره هاربا، ولحقه أبو دلف فوضع رمحه بين كتفيه فأخرجه من صدره، ونزل فاحتز رأسه، وحمله على رمحه حتى أدخله الكرج.
قال: فحدثني من رأى رمح قرقور وقد أدخل بين يديه يحمله أربعة نفر. فلما أنشده علي بن جبلة هذه القصيدة استحسنها وسر بها وأمر له بمائة ألف درهم.
اتساع شهرة قصيدته فيه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال: أخبرني إبراهيم بن خلف قال: بينا أبو دلف يسير مع أخيه معقل -وهما إذا ذاك بالعراق- إذ مر بامرأتين تتماشيان، فقالت إحداهما لصاحبتها: هذا أبو دلف، قالت: ومن أبو دلف? قالت: الذي يقول فيه الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلـف بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلـف ولت الدنيا على أثره
صفحة : 2209
قال: فاستعبر أبو دلف حتى جرى دمعه. قال له مقعل: مالك يا أخي تبكي? قال: لأني لم أقض حق علي بن جبلة.
قال: أو لم تعطه مائة ألف درهم لهذه القصيدة? قال: والله يا أخي ما في قلبي حسرة تقارب حسرتي على اني أكن أعطيته مائة ألف دينار. والله لو فعلت لما كنت قاضيا حقه.
شدة إعجاب أبي تمام ببيت من بائيته
حدثني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله ابن محمد بن جرير قال: أنشدت أبا تمام قصيدة علي بن جبلة البائية، فلما بلغت إلى قوله:
ورد البيض والبيض إلى الأغماد والحجب اهتز أبو تمام من فرقه إلى قدمه، ثم قال: أحسن، والله لوددت أن لي هذا البيت بثلاث قصائد من شعري يتخيرها وينتخبها مكانه.
طلب أن ينشد المأمون مدحا فيه ثم يختار الإقالة فرارا من شروط المأمون أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني أبو نزار الضبي الشاعر قال: قال لي علي بن جبلة قلت لحميد بن عبد الحميد الطوسي: يا أبا غانم، إني قد مدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له. قال: فأنشدني، فأنشدته. قال: أشهد أنك صادق، ما يحسن أحد أن يقول هكذا. وأخذ المديح فأدخله إلى المأمون، فقال له: يا حميد، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابا لمديحه، وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف وبين شعره فينا، فإن كان الذي قاله فيكما أجود ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه، وإن كان الذي قاله أجود أعطيناه لكل بيت ألف درهم، وإن شاء أقلناه فقلت له: يا سيدي ومن أنا ومن أبو دلف حتى يمدحنا بأجود مديحك فقال: ليس هذا الكلام من الجواب في شيء، فاعرض ما قلت لك على الرجل. فقال: أفعل. قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى? فقلت: الإقالة أحب إلي، فأخبر المأمون بذلك. فقال: هو أعلم، ثم قال لي حميد: يا أبا الحسن أي شيء يعني من مدائحك لي ولأبي دلف? فقلت: قولي فيك:
لولا حـــمـــيد لـــم يكــــن حســب يعـــد ولا نـــســـب
يا واحد العرب الذي عزت بعزته العرب وقولي في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلـف بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلـف ولت الدنيا على أثره قال: فأطرق حميد ثم قال: لقد انتقد عليك أمير المؤمنين فأجاد، وأمر لي بعشرة آلاف درهم وخلعة وفرس وخادم. وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك في ستر منهما، ما علم به أحد خوفا من المأمون حتى حدثتك به يا أبا نزرا.
يمسك عن زيارة أبي دلف حياء
لكثرة بره به
أخبرني علي بن سليمان قال: حدثني محمد بن يزيد، قال: حدثني علي بن القاسم قال: قال لي علي بن جبلة: زرت أبا دلف، فكنت لا أدخل إليه إلا تلقاني ببره وأفرط، فلما أكثر قعدت عنه حياء منه، فبعث إلي بمعقل أخيه، فأتاني فقال لي: يقول لك الأمير: لم هجرتنا? لعلك استبطأت بعض ما كان مني، فإن كان الأمر كذلك فإني زائد فيما كنت أفعله حتى ترضى، فدعوت من كبت لي، وأمللت عليه هذه الأبيات، ثم دفعتها إلى معقل، وسألته أن يوصلها، وهي:
هجرتك لم أهجرك من كفر نـعـمة وهل يرتجى نيل الزيادة بالـكـفـر
ولـكـنـنـي لـمـا أتـيتـك زائرا فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فهـأنـا لا آتـيك إلا مـسـلـمــا أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر
فإن زدتنـي بـرا تـزايدت جـفـوة ولم تلقني طول الحياة إلى الحـشـر قال: فلما سمعها معقل استحسنها جدا، وقال: جودت والله، أما أن الأمير ليعجب بمثل هذه الأبيات، فلما أوصلها إلى أبي دلف قال: ولله دره ما أشعره، وما أرق معانيه ثم دعا بدواة فكتب إلي:
ألا رب ضيف طارق قد بسطتـه وآنستة قبل الضيافة بـالـبـشـر
أتاني يرجيني فـمـا حـال دونـه ودون القرى من نائلي عنده ستري
وجدت له فضلا علي بـقـصـده إلي وبرا يستحق بـه شـكـري
فلم أعد أن أدنـيتـه وابـتـدأتـه ببشر وإكرام وبـر عـلـى بـر
وزودتـه مـالا قـلـيل بـقـاؤه وزودني مدحا يدوم على الدهـر ثم وجه بهذه الأبيات مع وصيف يحمل كيسا فيه ألف دينار، فذلك حيث قلت له:
صفحة : 2210
إنما الدنيا أبو دلـف بين باديه ومحتضره يقصد عبد الله بن طاهر ليمدحه، فيرده
لغلوه في مدح أبي دلف:
أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني أحمد بن القاسم قال: حدثني نادر مولانا: أن علي بن جبلة خرج إلى عبد الله بن طاهر وإلى خراسان، وقد امتدحه، فلما وصل إليه قال له: ألست القائل
إنما الدنيا أبو دلـف بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلـف ولت الدنيا على أثره قال: بلى، قال: فما الذي جاء بك إلينا، وعدل بك عن الدنيا التي زعمت? ارجع من حيث جئت، فارتحل، ومر بأبي دلف وأعلمه الخبر، فأعطاه حتى أرضاه. قال نادر فرأيته عند مولاي القاسم بن يوسف، وقد سأله عن خبره فقال:
أبو دلف إن تلقه تلـق مـاجـدا جوادا كريما راجح الحلم سـيدا
أبو دلف الخـيرات أنـداهـم يدا وأبسط معروفا وأكرم محـتـدا
تراث أبـيه عـن أبـيه وجـده وكل امرئ يجري على ما تعودا
ولست بشاك غيره لـنـقـيصة ولكنما الممدوح من كان أمجـدا يصف قصر حميد الطوسي ويمدحه
قال ومؤلف هذا الكتاب : والأبيات التي فيها الغناء المذكورة بذكرها أخبار أبي الحسن علي بن جبلة من قصيدة له مدح بها حميد الطوسي، ووصف قصره على دجلة وقال فيها بعد الأبيات التي فيها الغناء:
ليس لي ذنب سوى أن ي أسميك خـلـيلا
وأنـاديك عــزيزا وتـنـادينـي ذلـيلا
أنا أهواك وحـالـي ك صروما ووصولا
ثق بود ليس يفـنـى وبعهد لـن يحـولا
جعل اللـه حـمـيدا لبني الدنيا كـفـيلا
ملك لم يجعل الـلـه له فـيهـم عـديلا
فأقـامـوا فـي ذراه مطمئنـين حـلـولا
لا ترى فيهم مـقـلا يسأل المثرى فضولا
جاد بالأموال حـتـى علم الجود البـخـيلا
وبنى الفخر على الفخ ر بناء مستـطـيلا
صار للخائف أمـنـا وعلى الجود دلـيلا يرثي حميدا الطوسي ولما مات حميد الطوسي رثاه بقصيدته العينية المشهورة، وهي من نادر الشعر وبديعه، وفي أولها غناء من الثقيل الأول، يقال: إنه لأبي العبيس، ويقال: إنه للقاسم ابن زرزور:
أللدهر تبكي أم على الدهر تجـزع? وما صـاحـب الأيام إلا مـفـجـع
ولو سهلت عنك الأسا كان في الأسـا عزاء معز لـلـبـيب ومـقـنـع
تعز بـمـا عـزيت غـيرك إنـهـا سهام المـنـايا حـائمـات ووقـع
أصبنا بـيوم فـي حـمـيد لـو أنـه أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع
وأدبنا مـا أدب الـنـاس قـبـلـنـا ولكنه لم يبق للصـبـر مـوضـع
ألم تر لـلأيام كـيف تـصـرمـت به وبـه كـانـت تـذاد وتـدفــع
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق على جبل كانت به الأرض تمـنـع
ولما انقضت أيامه انقضـت الـعـلا وأضحى به أنف الندى وهو أجـدع
وراح عدو الدين جـذلان ينـتـحـي أماني كانت في حشـاه تـقـطـع
وكان حميد معـقـلا ركـعـت بـه قواعد ما كانت على الضيم تـركـع
وكنـت أراه كـالـرزايا رزئثـهـا ولم أدر أن الخلق يبـكـيه أجـمـع
حمام رماه مـن مـواضـع أمـنـه حمام كذاك الخطب بالخطـب يقـدع
وليس بغـرو أن تـصـيب مـنـية حمى أختها أو أن يذل الـمـمـنـع
لقد أدركت فينا المـنـايا بـثـارهـا وحلت بخطب وهـيه لـيس يرقـع
نعاء حمـيد لـلـسـرايا إذا عـدت تذاد بأطـراف الـرمـاح وتـوزع
وللمرهق المكروب ضاقت بـأمـره فلم يدر في حوماتها كيف يصنـع?
وللبيض خلتها الـبـعـول ولـم يدع لها غيره داعى الصباح الـمـفـزع
كأن حميدا لم يقد جـيش عـسـكـر إلى عسـكـر أشـياعـه لا تـروع
صفحة : 2211
ولم يبعث الخيل المغيرة بالضـحـا مراحا ولي يرجع بها وهي ظلـع
رواجع يحملن النهاب ولـم تـكـن كتائبه إلا على النـهـب تـرجـع
هوى جبل الدنيا المنيع وغـيثـهـا المريع وحاميها الكمي الـمـشـيع
وسيف أمير المؤمنـين ورمـحـه ومفتاح باب الخطب والخطب أفظع
فأقنعه مـن مـلـكـه وربـاعـه ونائله قفر مـن الأرض بـلـقـع
على أي شجو تشتكي النفس بـعـده إلى شجوه أو يذخر الدمع مـدمـع
ألم تر أن الشمس حـال ضـياؤهـا عليه وأضحى لونها وهو أسـفـع
وأوحشت الدنـيا وأودى بـهـاؤهـا وأجدب مرعاها الذي كـان يمـرع
وقد كانت الدنـيا بـه مـطـمـئنة فقد جعلت أوتـادهـا تـتـقـلـع
بكى فقده روح الحياة كمـا بـكـى نداه الندى وابن السبيل الـمـدفـع
وفارقت البيض الخـدور وأبـرزت عواطل حسرى بعـده لا تـقـنـع
وأيقظ أجفانا وكان لـهـا الـكـرى ونامت عيون لم تكن قبل تهـجـع
ولكـنـه مـقـدار يوم ثـوى بـه لكل امرئ منه نهـال ومـشـرع
وقد رأب الله المـلا بـمـحـمـد وبالأصل ينمي فرعه المـتـفـرع
أغر علـى أسـيافـه ورمـاحـه تقسم أنفال الخمـيس وتـجـمـع
حوى عن أبيه بذل راحتـه الـنـدى وطعن الكلى والزاعـبـية شـرع وإنما ذكرت هذه القصيدة على طولها لجودتها وكثرة نادرتها، وقد أخذ البحتري أكثر معانيها فسلخه، وجعله في قصيدته اللتين رثى بهما أبا سعيد الثغري:
انظر إلى العلياء كيف تضام و:
بأي أسى تثنى الدموع الهوامل وقد أخذ الطائي أيضا بعض معانيها، ولولا كراهية الإطالة لشرحت المواضع المأخوذة. وإذا تأمل ذلك منتقد بصير عرفه.
بلغ في مدح حميد الطوسي ما لم يبلغه في مدح غيره أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني أبو وائلة قال: قال رجل لعلي بن جبلة: ما بلغت في مديح أحد ما بلغته في مديحك حميدا الطوسي. فقال: وكيف لا أفعل وأدنى ما وصل إلي منه أني أهديت له قصيدة في يوم نيروز فسر بها، وأمر أن يحمل إلي كل ما أهدى له، فحمل إلي ما قيمته مائتا ألف درهم، وأهديت له قصيدة في يوم عيد فبعث إلي بمثل ذلك.
يصف جيشا ركب فيه حميد قال أبو وائلة. وقد كان حميد ركب يوم عيد في جيش عظيم لم ير مثله، فقال علي بن جبلة يصف ذلك:
غدا بأمير الـمـؤمـنـين ويمـنـه أبو غانم غدو النـدى والـسـحـائب
وضاقت فجاج الأرض عن كل موكب أحاط به مستعـلـيا لـلـمـواكـب
كأن سمو النقع والبـيض فـوقـهـم سماوة ليل فرنـت بـالـكـواكـب
فكان لأهل العيد عيد بـنـسـكـهـم وكان حميد عيدهم بـالـمـواهـب
ولولا حميد لم تبـلـج عـن الـنـدى يمين ولم يدرك غنى كسب كـاسـب
ولو ملك الدنـيا لـمـا كـان سـائل ولا اعتام فيها صاحب فضل صاحب
له ضحكة تستغرق المال بـالـنـدى على عبسة تشجى القنا بـالـتـرائب
ذهبت بـأيام الـعـلا فـاردا بـهـا وصرمت عن مسعاك شأو المطالـب
وعدلت ميل الأرض حتى تـعـدلـت فلم ينأ منها جانـب فـوق جـانـب
بلغت بأدنى الحزم أبعـد قـطـرهـا كأنك منهـا شـاهـد كـل غـائب قصيدة أهادها إليه يوم نيروز قال: والتي أهداها له يوم النيروز قصيدته التي فيها:
حميد يا قاسم الـدنـيا بـنـائلـه وسيفه بين أهل النكـث والـدين
أنت الزمان الذي يجري تصرفه على الأنام بتـشـديد وتـلـيين
لو لم تكن كانت الأيام قد فـنـيت والمكرمات ومات المجد مذ حين
صورك الله من مجد ومن كـرم وصور الناس من ماء ومن طين نسخت من كتاب بخط محمد بن العباس اليزيدي: يدخل على أبي دلف فيستنشده
صفحة : 2212
قال أحمد بن إسماعيل الخصيب الكاتب: دخل علي بن جبلة يوما إلى أبي دلف فقال له: هات يا علي ما معك. فقال: إنه قليل. فقال هاته، فكم من قليل أجود من كثير فأنشده:
الله أجرى من الأرزاق أكثرها على يديك فشكرا يا أبا دلـف
أعطى أبو دلف والريح عاصفة حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف يستنشده أبو دلف فيتطير مما أنشده قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما كان بعد مدة دخل إليه، فقال له: هات ما معك فأنشده:
من ملك الموت إلى قاسـم رسالة في بطن قرطـاس
يا فارس الفرسان يوم الوغى مرني بمن شئت من الناس قال: فأمر له بألفي درهم، وكان قد تطير من ابتدائه في هذا الشعر، فقال: ليست هذه من عطاياك أيها الأمير، فقال: بلغ بها هذا المقدار ارتياعنا من تحملك رسالة ملك الموت إلينا.
يهجو الهيثم بن عدي إجابة لطلب الخزيمي
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن عليل العنزي قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: حدثني علي بن جبلة العكوك المروزي قال: جاءني أبو يعقوب الخزيمي فقال لي: إن لي إليك حاجة. قلت: وما هي? قال: تهجو لي الهيثم بن عدي. فقلت: وما لك أنت لا تهجوه وأنت شاعر? فقال: قد فعلت، فما جاءني شيء كما أريد. فقلت له: فقلت له: كيف أهجو رجلا لم يتقدم إلي منه إساءة، ولا له إلي جرم يحفظني? فقال: تقرضني، فإني ملي بالقضاء، قلت: نعم، فأمهلني اليوم فمضى، وغدوت عليه فأنشدته:
للهيثم بن عدي نسبة جـمـعـت آباءه فأراحتنـا مـن الـعـدد
أعدد عديا فلو مد البـقـاء لـه ما عمر الناس لم ينقص ولم يزد
نفسي نداء بني عبد المدان وقـد تلوه للوجه واستعلوه بالعـمـد
حتى أزالوه كرها عن كريمتهـم وعرفوه بدل أين أصل عـدي?
يا بن الخبيثة من أهجو فأفضحه إذا هجوت وما تنمى إلى أحد? هجاؤه الهيثم مزق بينه وبين زوجه قال: وكان الهيثم قد تزوج إلى بني الحارث بن كعب، فركب محمد بن زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي، أخو يحيى بن زياد، ومعه جماعة من أصحابه الحارثيين إلى الرشيد، فسألوه أن يفرق بينهما. فقال الرشيد: أليس هو الذي يقول فيه الشاعر:
إذا نسبت عديا في بني ثـعـل فقدم الدال قبل العين في النسب قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال فهذا الشعر من قاله? قالوا: هو لرجل من أهل الكوفة من بني شيبان يقال له: ذهل بن ثعلبة فأمر الرشيد داود بن يزيد أن يفرق بينهما، فأخذوه دارا وضربوه بالعصي حتى طلقها.
يشخص إلى عبد الله بن طاهر ويمدحه: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن الحسن بن الخصيب قال: شخص علي بن جبلة إلى عبد الله بن طاهر والي خراسان -وقد مدحه فأجزل صلته- واستأذنه في الرجوع، فسأله أن يقيم عنده، وكان بره يتصل عنده، فلما طال مقامه اشتاق إلى أهله، فدخل إليه فأنشده: ينشد عبد الله بن طاهر شعرا يطلب به أن يأذن له في الرحيل:
راعـه الـشـــيب إذ نـــزل وكـفـاه مــن الـــعـــذل
وانـقـضـت مـدة الـصـبــا فانقـضـى الـلـهـو والـغـزل
قد لـعـمـري دمـلـــتـــه بخـضـاب فـمـا أنـدمـــل
فابـك لـلـشـــيب إذ بـــدا لا عـلـى الـربـع والـطــل
وصل الله للأمير عر الملك فاتصل
ملك عزمه الزما ن وأفـعـــالـــه الـــدول
كســروي بـــمـــجـــده يضـرب الـضـارب الـمـثـل
وإلـــى ظـــل عـــــزه يلـجـأ الـخـائف الـوجـــل
كل خـلـق ســـوى الإمـــا م لإنـعـــامـــه خـــول
ليتـه حـــين جـــاد لـــي بالـغـنـى جـاد بـالـقـفــل قال: فضحك وقال: أبيت إلا أن توحشنا. وأجزل صلته، وأذن له.
ينشد حميدا الطوسي شعرا في أول رمضان: أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثني أبو وائلة السدوسي، قال: دخل علي بن جبلة العكوك على حميد الطوسي في أول يوم من شهر رمضان، فأنشده:
جعل الله مدخل الصوم فوزا لحميد ومتعه في البـقـاء
صفحة : 2213
فهو شهر الربـيع لـلـقـراء وفراق الندمان والصـهـبـاء
وأنا الضامن الملي لـمـن عـا قرها مفطرا بطول الظـمـاء
وكأني أرى الندامى على الخسف يرجون صبحهم بـالـمـسـاء
قد طوى بعضهم زيارة بعـض واستعاضوا مصاحفا بالغـنـاء يقول فيها:
بحمـيد وأين مـثـل حـمـيد فخرت طيء علـى الأحـياء
جوده أظهر السماحة فـي الأر ض وأغنى المقوي عن الإقواء
ملـك يأمـل الـعـبـاد نـداه مثل ما يأملون قطر السـمـاء
صاغه الله مطعم الناس في الأر ض وصاغ الحساب للإسقـاء ينشد حميدا الطوسي شعرا ثاني شوال: قال: فأمر له بخمسة آلاف درهم، وقال: استعن بهذه على نفقة صومك. ثم دخل إليه ثاني شوال، فأنشده:
علـلانـي بـصـفـو مـا فـــي الـــدنـــن واتـركـا مـا بـقــولـــه الـــعـــاذلان
واسبقا فاجع المنيه بالعيش فكل على الجديدين فـإنـي
عللاني بشربة تذهب الهم وتنفي طوارق الأحزان
وانفثا في مسامع سدها الصو م رقـى الـمـوصــلـــي أو دحـــمـــان
قد أتانا شوال فاقتبل العيش وأعدى قسرا على رمضان
نعم عون الفتى على نوب الدهر سمـــاع الـــقـــيان والـــعــــــيان
وكـئوس تــجـــري بـــمـــاء كـــروم ومـطـي الـــكـــئوس أيدي الـــقـــيان
من عـقـار تـمـيت كــل احـــتـــشـــام وتـسـر الـنـدمـان بـــالـــنـــدمـــان
فاشـرب ألـراح واعـص مــن لام فـــيهـــا إنـهـا نـعـــم عـــدة الـــفـــتـــيان
واصـطـحـب الـدهـر بـارتـحــال وحـــل لا تـخـف مـا يجـــره الـــحـــادثـــان
حسـب مـسـتـظـهـر عـلـى الـدهـر ركـنـا بحـمـــيد ردءا مـــن الـــحـــدثـــان
ملـك يقـتـنـي الـمــكـــارم كـــنـــزا وتـراه مـــن أكـــرم الـــفـــتـــيان
خلـقـت راحـتـاه لـلــجـــود وألـــبـــا س وأمـوالـه لـشـكــر الـــلـــســـان
ملـكـتـه عـلـى الـعــبـــاد مـــعـــد وأقـرت لـه بـــنـــو قـــحـــطـــان
أريحـي الـنـدى جـمــيل الـــمـــحـــيا يداه والـسـمـــاح مـــعـــتـــقـــدان
وجـهـه مـشـرق إلـى مـعـــتـــفـــيه ويداه بـالـغـــيث تـــنـــفـــجـــران
جعل الدهر بين يوميه قسمين بعرف جزل وحر طعان
فإذا سار بالخميس لحرب كل عـن نـص جـريه الـخـــافـــقـــان
وإذا مـــا هـــززتـــه لـــنــــــوال ضاق عـن رحــب صـــدر الأفـــقـــان
غيث جـــدب إذا أقــــــام ربـــــــيع يتـغـشـى بـالـسـيب كـــل مـــكـــان
يا أبـا غـانـم بـقـيت عـلــى الـــدهـــر وخـلـدت مـا جــرى الـــعـــصـــران
ما نـبـالــي إذا عـــدت الـــمـــنـــايا من أصـابـت بـكـــلـــكـــل وجـــران
قد جـعـلـنـا إلـيك بـعـث الــمـــطـــايا هربـا مـن زمــانـــنـــا الـــخـــوان
وحـمـلـنـا الـحـاجـات فـوق عـــتـــاق ضامـنـــات حـــوائج الـــركـــبـــان
ليس جـــود وراء جـــودك ينـــتــــــا ب ولا يعـتـفـي لــغـــيرك عـــانـــي فأمر له بعشرة آلاف درهم، وقال: تلك كانت للصوم، فخففت وخففنا، وهذه للفطر، فقد زدتنا وزدناك.
أحب جارية وأحبته على قبح وجهه
أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن الطيب السرخسي قال: حدثنا ابن أخي علي بن جبلة العكوك -قال أحمد: وكان علي جارنا بالربض هو وأهله، وكان أعمى وبه وضح. وكان يهوى جارية أديبة ظريفة شاعرة وكانت تحبه هي أيضا على قبح وجهه وما به من الوضح، حدثني بذلك عمرو بن بحر الجاحظ.
قال عمرو: وحدثني العكوك أن هذه الجارية زارته يوما وأمكنته من نفسها حتى افتضها. قال، وذلك عنيت في قولي:
ودم أهدرت من رشـا لم يرد عقلا على هدره وهي القصيدة التي مدح بها أبا دلف، يعني بالدم: دم البضع .
يستأذن على حميد الطوسي فيمتنع، ثم يأذن له فيمدحه: قال: ثم قصدت حميدا بقصيدتي التي مدحته بها، فلما استؤذن لي عليه أبى أن يأذن لي، وقال: قولوا له: أي شيء أبقيت لي بعد قولك في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلـف بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلـف ولت الدنيا على أثره
صفحة : 2214
فقلت للحاجب: قل لله: الذي قلت فيك أحسن من هذا، فإن وصلتني سمعته، فأمر بإيصالي، فأنشدت قولي فيه:
إنما الدنيا حـمـيد وأياديه الجسـام
فإذا ولى حـمـيد فعلى الدنيا السلام فأمر بمائتي دينار، فنثرتها في حجر عشيقتي، ثم جئته بقصيدتي التي أقول فيها:
دجلة تسقي وأبو غـانـم يطعم من تسقي من الناس فأمر لي بمائتي دينار.
شعره حين غضبت عليه التي أحبها حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن الطيب قال: حدثني ابن أخي علي بن جبلة أيضا: أن عمه عليا كان يهوى جارية، وهي هذه القينة، وكانت له مساعدة، ثم غضبت عليه، وأعرضت عنه، فقال فيها:
تسيء ولا تستنكر السـوء إنـهـا تدل بما تتلوه عنـدي وتـعـرف
فمن أين ما استعطفتها لم ترق لـي ومن أين ما جربت صبري يضعف ينشد لنفسه أقبح ما قيل في ترك الضيافة
أخبرني حبيب بن نصر قال: حدثنا عمر بن شبة قال: تذاكرنا يوما أقبح ما هجي به الناس في ترك الضيافة وإضاعة الضيف، فأنشدنا علي بن جبلة لنفسه:
أقاموا الديدبان علـى يفـاع وقالوا لا تنـم لـلـديدبـان
فإن آنست شخصا من بعـيد فصفق بالبنان على البنـان
تراهم خشية الأضياف خرسا ويأتون الصـلاة بـلا أذان يمدح حميدا الطوسي فيعطيه ألف دينار كان أمر بالتصدق بها: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي قال: حدثني وهب بن سعيد المروزي، كاتب حميد الطوسي، قال: جئت حميدا في أول يوم من شهر رمضان، فدفع إلي كيسا فيه ألف دينار، وقال: تصدقوا بهذه. وجاءه ابنه أصرم فسلم عليه ودعا له، ثم قال له: خادمك علي بن جبلة بالباب، فقال: وما أصنع به? جئتني به يا بني تقابلني بوجهه في أول يوم من هذا الشهر. فقال: إنه يجيد فيك القول. قال: فأنشدني بيتا مما تستجيد له: فأنشده قوله:
حيدي حياد فإن غزوة جيشه ضمنت لجائلة السباع عيالها فقال: أحسن. ائذنوا له، فدخل فسلم، ثم أنشد قوله:
إن أبـا غـانـم حـمـيدا غيث على المعتفين هامي
صوره الله سيف حـتـف وباب رزق علـى الأنـام
يا مانع الأرض بالعوالـي والنعم الجمة الـعـظـام
ليس من السوء في معـاذ من لم يكن منك في ذمـام
وما تعمدت فيك وصـفـا إلا تقـدمـتـه أمـامـي
فقد تناهت بك المعـالـي وانقطعت مـدة الـكـلام
أجد شهرا وأبـل شـهـرا واسلم على الدهر ألف عام قال: فالتفت إلي حميد، وقال: أعطه ذلك الألف الدينار حتى يخرج للصدقة غيره.
يستشفع بحميد الطوسي إلى أبي دلف وكان غضب عليه: حدثني عمي قال: حدثني يعقوب بن إسرائيل قال: حدثني أبو سهيل عن سالم مولى حميد الطوسي قال: جاء علي بن جبلة إلى حميد الطوسي مستشفعا به إلى أبي دلف -وقد كان غضب عليه وجفاه- فكرب معه إلى أبي دلف شافعا، وسأله في أمره، فأجابه واتصل الحديث بينهما وعلي بن جبلة محجوب، فأقبل على رجل إلى جانبه وقال: اكتب ما أقول لك، فكتب:
لا تتركي بباب الدار مطـرحـا فالحر ليس عن الأحرار يحتجب
هبنا بلا شافع جئنـا ولا سـبـب ألست أنت إلى معروفك السبب? قال: فأمر بإيصاله إليه، ورضي عنه ووصله.
يخشاه المخزومي أن ينشد شعرا
في حضرته:
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أحمد بن مروان قال: حدثني أبو سعيد المخزومي قال: دخلت على حميد الطوسي، فأنشدته قصيدة مدحته بها وبين يديه رجل ضرير، فجعل لا يمر ببيت إلا قال: أحسن قاتله الله أحسن ويحه أحسن لله أبوه أحسن أيها الأمير. فأمر لي حميد ببدرة، فلما خرجت قام غلي البوابون، فقلت: كم أنتم? عرفوني أولا من هذا المكفوف الذي رأيته بين يدي الأمير? فقالوا: علي بن جبلة العكوك فارفضضت عرقا. ولو علمت أنه علي بن جبلة لما جسرت على الإنشاد بين يديه.
لا يأذن له المأمون في مدحه إلا بشرط، فيختار الإقالة:
صفحة : 2215
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال: كلم حميد الطوسي المأمون في أن يدخل عليه علي بن جبلة، فيسمع منه مديحا مدحه به، فقال: وأي شيء يقوله في بعد قوله في أبي دلف:
إنما الدنيا أبـو دلـف بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبـو دلـف ولت الدنيا على أثره وبعد قوله فيك:
يا واحد العرب الذي عزت بعزته العرب أحسن أحواله أن يقول في مثل ما قاله في أبي دلف، فيجعلني نظيرا له. هذا إن قدر على ذلك ولم يقصر عنه، فخيروه بين أن أسمع منه، فإن كان مدحه إياي أفضل من مدحه أبا دلف وصلته، وإلا ضربت عنقه أو قطعت لسانه، وبين أن أقيله وأعفيه من هذا وذا. فخيروه بذلك، فاختار الإقالة.
يمدح حميد الطوسي بخير من مدحه أبا دلف: ثم مدح حميدا الطوسي، فقال له: وما عساك أن تقول في بعد ما قلته في أبي دلف، فقال: قد قلت فيك خيرا من ذلك. قال: هات، فأنشده:
دجلة تسقـي وأبـو غـانـم يطعم من تسقي من النـاس
الناس جسم وإمـام الـهـدى رأس وأنت العين في الراس فقال له حميد: قد أجدت، ولكن ليس هذا مثل ذلك، ووصله.
يرثي حميدا الطوسي: قال أحمد بن عبيد، ثم مات حميد الطوسي، فرثاه علي بن جبلة، فلقيته، فقلت له: أنشدني مرثيتك حميدا، فأنشدني:
نعاء حميدا للسرايا إذا غـدت تذاد بأطراف الرماح وتوزع حتى أتى على آخرها.
لا يبلغ شأو الخزيمي في رثاه أبي الهيذام: فقلت له: ما ذهب على النحو الذي نحوته يا أبا الحسن، وقد قاربته وما بلغته. فقال: وما هو? فقلت: أردت قول الخزيمي في مرثيته أبا الهيذام:
وأعددته ذخرا لكل ملـمة وسهم المنايا بالذخائر مولع فقال: صدقت والله، أما والله لقد نحوته وأنا لا أطمع في اللحاق به، لا والله ولا امرؤ القيس لو طلبه وأراده ما كان يطمع أن يقاربه في هذه القصيدة.
هربه من المأمون
وقد طلبه لتفضيله أبا دلف عليه وعلى آله:
أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثني ابن أبي حرب الزعفراني، قال: لما بلغ المأمون قول علي بن جبلة لأبي دلف:
كل من في الأرض من عرب بين بـاديه إلـى حـضـره
مستعـير مـنـك مـكـرمة يكتسيهـا يوم مـفـتـخـره غضب من ذلك، وقال: اطلبوه حيث كان، فطلب فلم يقدر عليه، وذلك أنه كان بالجبل، فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة، وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق في طلبه، فهرب من الجزيرة أيضا، وتوسط الشام فظفروا به، فأخذوه، وحملوه إلى المأمون، فلما صار إليه قال له: يا بن اللخناء ، أنت القائل للقاسم بن عيسى:
كل من في الأرض من عرب بين بـاديه إلـى حـضـره
مستعـير مـنـك مـكـرمة يكتسيهـا يوم مـفـتـخـره جعلتنا ممن يستعير المكارم منه فقال له: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت لا يقاس بكم أحد، لأن الله جل وعز فضلكم على خلقه، واختاركم لنفسه. وإنما عنيت بقولي في القاسم أشكال القاسم وأقرانه، فقال: والله ما استثنيت أحدا عن الكل، سلوا لسانه من قفاه.
أمر المأمون أن يسل لسانه لكفره
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: وحدثني أحمد بن أبي فنن: أن المأمون لما أدخل عليه علي بن جبلة قال له: إني لست أستحل دمك لتفضيلك أبا دلف على العرب كلها وإدخالك في ذلك قريشا- وهم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته- ولكني أستحله بقولك في شعرك وكفرك حيث تقول القول الذي أشركت فيه:
أنت الذي تنزل الأيام منزلهـا وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد إلا قضيت بـأرزاق وآجـال كذبت يا ماص بظر أمه، ما يقدر على ذلك أحد إلا الله -عز وجل- الملك الواحد القهار. سلوا لسانه من قفاه.
صوت
لا بد من سكرة على طرب لعل روحا يدال من كرب -ويروى:
لعل روحا يديل من كرب -وهو أصوب:
فعاطنيها صهباء صـافـية تضحك من لؤلؤ على ذهب
خليفة الله أنت منـتـخـب لخير أم من هـاشـم وأب
صفحة : 2216
اكرم بأصلين أنت فرعهـمـا من الإمام المنصور في النسب الشعر للتيمي، والغناء لسليم بن سلام، خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو، وفيها لنظم العمياء خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي.
أخبار التيمي ونسبه
اسمه وولاؤه وصفته
هو عبد الله بن أيوب، ويكنى أبا محمد مولى بني تميم ثم مولى بني سليم. ذكر ذلك ابن النطاح، وكان له أخ يقال له أبو التيحان، وكلاهما كان شاعرا، وهما من أهل الكوفة، وهما من شعراء الدولة العباسية. أحد الخلعاء المجان الوصافين للخمر، وكان صديقا لإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، ونديما لهما، ثم اتصل بالبرامكة ومدحهم، واتصل بيزيد بن مزيد فلم يزل منقطعا إليه حتى مات يزيد.
أكثر شعره في وصف الخمر
واستنفد شعره أو أكثره في وصفه الخمر، وهو الذي يقول:
شربت من الخمر يوم الخميس بالكاس والطاس والقنـقـل
فما زالت الكأس تغتـالـنـا وتـذهـب بــالأول الأول
إلى أن توافت صلاة العشـا ونحن من السكر لم نعـقـل
فمن كان يعرف حق الخميس وحق المدام فـلا يجـهـل
وما إن جرت بيننـا مـزحة تهيج مراء على السلـسـل وهو القائل:
ولن أنتهي عن طيب الراح أو يرى بوادي عظامي في ضريحي لاحد
أضعت شبابي في الشراب تـلـذذا وكنت امرأ غير الشباب أكـابـد رواية أخرى في ولائه: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني أبو العيناء عن محمد بن عمر، قال: أبو محمد التيمي اسمه عبد الله بن أيوب مولى بني تميم.
يرثى ابنا له: حبان: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن الجراح قال: قال دعبل: كان للتيمي أبي محمد ابن يقال له حبان، ومات وهو حديث السن، فجزع عليه، وقال يرثيه: صوت
أودى بجبان ما لم يترك النـاس فامنح فؤادك من أحبابك الياسا
لما رمته المنايا إذ قصـدن لـه أصبن مني سواد القلب والراسا
وإذ يقول لي العواد إذ حضروا لا تأس أبشر أبا حبان لا تاسى
فبت أرعى نجوم الليل مكتئبـا إخال سنته في الليل قرطاسـا غنى في الأول والرابع من هذه الأبيات حكم الوادي، ولحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وأول هذه القصيدة:
يا دير هند لقد أصبحت لي أنسا وما عهدتك لي يا دير مئناسـا وهي مشهورة من شعره.
يجيز بيتا لإسحاق عجز عن إتمامه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قلت:
وصف الصد لمن أهوى فصد ثم أجبلت ، فمكثت عدة ليال لا يستوى لي تمامه. فدخل علي التيمي فرآني مفكرا، فقال لي: ما قصتك? فأخبرته، فقال:
وبدا يمزح بالهجر فجد ثم أتممتها، فقلت:
ما له يعدل عني وجهـه وهو لا يعدله عندي أحد? وخرجت إلى مدح الفضل بن الربيع، فقلت:
وقد أرادوا غيرة الفضل وهل تطلب الغرة في خيس الأسد
ملك ندفع ما نخـشـى بـه وبه يصلح منا مـا فـسـد
يفعل الناس إذا مـا وعـدوا وإذا ما فعل الفضـل وعـد -لإسحاق في هذا الشعر صنعة، ونسبتها: صوت
وصف الصد لمن نهوى فصد وبدا يمزح بالهجر فـجـد
ما له يعدل عنـي وجـهـه وهو لا يعد له عندي أحـد? الشعر والغناء لإسحاق، خفيف رمل بالبنصر، وله فيه أيضا ثقيل أول، وفيه لزكريا بن يحيى بن معاذ هزج بالبنصر عن الهشامي وغيره. قال الهشامي: وقيل إن الهزج لإسحاق، وخفيف الرمل لزكريا.
اشترك هو وإسحاق في البيتين السابقين: أخبرني جحظة عن علي بن يحيى المنجم عن إسحاق قال: اشتركت أنا وأبو محمد التيمي في هذا الشعر:
وصف الصد لمن نهوى فصد. وذكر البيتين.
يطلب الرشيد إنشاد مرثيته في يزيد بن مزيد: أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان قال: حدثني محمد الراوية الذي يقال له البيذق وكان يقرأ شعر المحدثين على الرشيد -قال:
صفحة : 2217
قال لي الرشيد يوما: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة التي يقول فيها:
كأن الشمس يوم أصيب معن من الإظلام ملبسة جـلالا
هو الجبل الذي كانت معـد تهد من العدو به الجـبـالا
أقمنا باليمامة بعـد مـعـن مقامـا لا نـريد بـه زيالا
وقلنا أين نذهب بعد مـعـن وقد ذهب النوال فلا نـوالا قال: فأنشدته إياها، ثم قال لي، أنشدني قصيدة أبي موسى التيمي في مرثية يزيد بن مزيد، فهي والله أحب إلي من هذه، فأنشدته:
أحـــق أنــــه أودى يزيد تبين أيها الناعـي الـمـشـيد
أتدري من نعيت وكيف فاهـت به شفتاك، كان بك الصـعـيد
أحامي المجـد والإسـلام أودى فما للأرض ويحك لا تـمـيد
تأمل هل ترى الإسلام مـالـت دعائمه وهل شـاب الـولـيد
وهل شيمت سيوف بنـي نـزار وهل وضعت على الخيل اللبود
وهل تسقي البلاد عشار مـزن بدرتها وهل يخـضـر عـود
أما هدت لمـصـرعـه نـزار بلى وتقوض المجد الـمـشـيد
وحل ضـريحـه إذ حـل فـيه طريف المجد والحسب التـلـيد
أما والله ما تـنـفـك عـينـي عليك بدمعـهـا أبـدا تـجـود
فإن تجمـد دمـوع لـئيم قـوم فليس لدمع ذي حسب جـمـود
أبعد يزيد تختـزن الـبـواكـي دموعا أو تصان لهـا خـدود?
لتبكـيك قـبة الإسـلام لـمـا وهت أطنابها ووهي العـمـو
ويبكيك شاعر لـم يبـق دهـر له نشبا وقد كسـد الـقـصـيد
فمن يدعو الإمام لكل خـطـب ينوب وكل معـضـلة تـئود?
ومن يحمي الخميس إذا تـعـايا بحيلة نفسه البطل الـنـجـيد?
فإن يهلـك يزيد فـكـل حـي فريس لـلـمـنـية أو طـريد
ألم تعجـب لـه أن الـمـنـايا فتكن به وهـن لـه جـنـود?
قصدن له وهن يحـدن عـنـه إذا ما الحرب شب لهـا وقـود
لقـد عـوى ربـيعة أن يومـا عليها مـثـل يومـك لا يعـود قال: فبكى هارون الرشيد بكاء اتسع فيه حتى لو كانت بين يديه سكرجة لملأها من دموعه.
يجيز شعرا للأمين: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا محمد بن عمر قال: خرج كوثر خادم محمد الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجلس يبكي، فوجه محمد من جاءه به، وجعل يمسح الدم عن وجهه، وقال:
ضربوا قرة عينـي ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقـلـبـي من أناس أحرقوه قال: وأراد زيادة في الأبيات فلم يواته، فقال للفضل بن الربيع: من ها هنا من الشعراء، فاقل: الساعة رأيت عبد الله بن أيوب التيمي، فقال: علي به. فلما أدخل أنشده محمد هذين البيتين، وقال: أجزهما، فقال:
ما لمن أهـوى شـبـيه فبـه الـدنـيا تـتـيه
وصله حـلـو ولـكـن هجـره مـر كـريه
من رأى الناس له الفض ل علـيهـم حـسـدوه
مثل ما قد حسد الـقـا ئم بالـمـلـك أخـوه فقال محمد: أحسنت، هذا والله خير مما أوردناه، بحياتي عليك يا عباسي إلا نظرت، إن جاء على الظهر ملأت أحمال ظهره دراهم، وإن كان جاء في زورق ملأته. فأوقرت له ثلاثة أبغل دراهم.
يلجأ إلى الفضل بن سهل ليوصله إلى المأمون، فيمدحه، ويعفو المأمون عنه: قال محمد بن يحيى: فحدثني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني محمد بن إدريس قال: لما قتل محمد الأمين خرج إلى أبو محمد التيمي إلى المأمون وامتدحه، فلم يأذن له، فصار إلى الفضل بن سهل ولجأ إليه وامتدحه، فأوصله إلى المأمون. فلما سلم عليه قال له المأمون: إيه يا تيمي:
مثل ما قد حسد القا ئم بالملك أخـوه فقال التيمي: بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
نصر المأمون عبد الل ه لمـا ظـلـمـوه
نقضوا العهد الذي كا نوا قـديمـا أكـدوه
لم يعامـلـه أخـوه بالذي أوصى أبـوه
صفحة : 2218
ثم أنشده قصيدة له امتدحه بها أولها:
جزعت ابن تيم أن أتاك مشيب وبان الشباب والشباب حبيب قال: فلما أنشده إياها وفرغ منها قال: قد وهبتك لله -عز وجل- ولأخي العباسي- يعني الفضل بن سهل- وأمرت لك بعشرة آلاف درهم.
ينشد الأمين أبياتا فيأمر له بمائتي ألف درهم: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني عون بن محمد الكندي قال: حدثني عباد ابن محمد الكاتب عن أبي محمد التيمي الشاعر قال: أنشدت الأمين محمد أول ما ولي الخلافة قولي:
لا بد من سكرة على طرب لعل روحا يديل من كرب الأبيات المذكورة في الغناء. قال: فأمر لي بمائتي ألف درهم، صالحوني منها على مائة ألف درهم.
يدخل على الأمين فيتمنى أنه يكون له مثل مدح أنشده إياه، فيمدحه بقصيدة: وأخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني محمد بن يحيى المنجم قال: وحدثني حسين بن الضحاك قال: قال لي أبو محمد التيمي: دخلت على محمد الأمين أول ما ولي الخلافة، فقال: يا تيمي، وددت أنه قيل في مثل قول طريح بن إسماعيل في الوليد بن يزيد:
طوبى لفرعيك من هنا وهنا طوبي لأعراقك التي تشج فإني والله أحق بذلك منه، فقلت: أنا أقول ذلك يا أمير المؤمنين، ثم دخلت إليه من غد فأنشدته قصيدتي:
لا بد من سكرة على طرب لعل روحا يديل من كرب حتى انتهيت إلى قولي:
أكرم بفرعـين يجـريان بـه إلى الإمام المنصور في النسب فتبسم، ثم قال لي: يا تيمي قد أحسنت، ولكنه كما قيل: مرعى ولا كالسعدان، ثم التفت إلى الفضل بن الربيع فقال: بحياتي أو قر له زورقه مالا، فقال: نعم يا سيدي. فلما خرجت طالبت الفضل بذلك، فقال: أنت مجنون? من أين لنا ما يملأ زورقك? ثم صالحني على مائة ألف درهم.
يمدح الفضل بن يحيى فيأمر له بخمسة آلاف درهم: أخبرني وكيع قال: حدثني ابن إسحاق قال: حدثني أبي قال: كنت على باب الفضل بن يحيى، فأتاني التيمي الشاعر بقصيدة في قرطاس، وسألني أن أوصلها إلى الفضل، فنظرت فيها ثم خرقت القرطاس، فغضب أبو محمد وقال لي: أما كفاك أن استخففت بحاجتي? منعتني أن أدفعها إلى غيرك. فقلت له: أنا خير لك من القرطاس، ثم دخلت إلى الفضل، فلما تحدثنا قلت له: معي هدية وصاحبها بالباب؛ وأنشدته، فقال: كيف حفظتها? قلت: الساعة دفعها إلي على الباب، فحظفتها. فقال: دع ذا الآن. فقلت له: فأدخله، فأدخل، فسأله عن القصة فأخبره. فقال: أنشدني شيئا من شعرك ففعل، وجعلت أردد أبياته، وجعلت أشيعها بالاستحسان، ثم خرج التيمي فقلت: خذ في حاجة الرجل، فقال: أما إذ عنيت به فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم. فقلت له: أما غذ أقللتها فعجلها، فأمر بها فأحضرت. فقلت له: أليس لإعناتك إياي ثمن? قال: نعم. قلت فهاته. قال: لا أبلغ بك في الإعنات ما بلغت بالشاعر في المديح. فقلت: فهات ما شئت، فأمر بثلاثة آلاف درهم، فضممتها إلى الخمسة الآلاف، ووجهت بها غليه.
يسكر هو وأخوه وابن عم له، وينظم في ذلك شعرا بعد انصرافهم: وذكر أحمد بن طاهر عن أبي هفان عن إسحاق قال: كان التيمي وأخوه أبو التيحان وابن عم له يقال له: قبيصة يشرون في حانة حتى سكروا وانصرفوا من غد، فقال التيمي يذكر ذلك ويتشوق مثله: صوت
هل إلـى سـكـرة بـنـاحـــية الـــح يرة شـنـعـاء يا قـبـيص ســـبـــيل
وأبـو الـتـيحـان فـي كـفـه الـقـــر رعة والـرأس فـوقـــه إكـــلـــيل
وعرار كأنه بيذق الشطرنج يفتن فيه قال وقيل الشعر للتيمي والغناء لمحمد بن الأشعث، رمل بالوسطى.
يشتري ضيعة بجائزة له من الأمين: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أبو العيناء عن أبي العالية، قال: أمر محمد الأمين لعبد الله بن أيوب بجائزة عشرة آلاف دينار ثوابا عن بعض مدائحه، فاشترى بها ضيعة بالبصرة، وقال عبد ابتياعه إياها:
إن اشتريت بما وهبت لـيه أرضا أمون بها قرابـتـيه
فبحسن وجهك حين أسأل قل يا بن الربيع احمل إليه ميه فغني بها الأمين، فقال للفضل: بحياتي يا عباسي، احمل إليه مائة ألف، فدعا به فأعطاه خمسين ألفا، وقال له: الخمسون الأخر علي إذا اتسعت أيدينا.
يعشق جارية، ويسأل ثمنها فيعطيه المأمون إياه فيشتريها:
صفحة : 2219
أخبرني الحسن، قال: حدثني أبو العيناء، عن أبي العالية قال: عشق التيمي جارية لبعض الخاسين، فشكا وجده بها إلى أبي عيسى بن الرشيد، فقال أبو عيسى للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن التيمي يجد بجارية لبعض النخاسين، وقد كتب إلي بيتين يسألني فيهما ثمنها، فقال: وهما هما? فقال:
يا أبا عيسى إليك المشتكى وأخو الصبر إذا عيل شكا
ليس لي صبر على فقدانها وأعاف المشرب المشتركا قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم فاشتراها بها .
يمدح الفضل بن الربيع يوم عيد فيعطيه عشرة آلاف درهم: أخبرني الحسن، قال: حدثني أبو العيناء عن أبي العالية قال: دخل التيمي إلى الفضل بن الربيع في يوم عيد فأنشده:
ألا إنما آل الربـيع ربـيع وغيث حيا للمرملين مريع
إذا ما بدا آل الربيع رأيتهم لهم درج فوق العباد رفيع فأمر به بعشرة آلاف درهم.
يمدح الفضل بن يحيى بثلاثة ابيات فيعطيه ثلاثة آلاف درهم: أخبرني عيسى بن الحسن قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: مدح أبو محمد التيمي بن يحيى بثلاثة أبيات ودفعها إلى إسحاق الموصلي، فعرضها على الفضل بن يحيى، فأمر له بثلاثة آلاف درهم، والأبيات:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدة وإن عظموا للفضل إلا صنائع
ترى عظماء الناس للفضل خشعا إذا ما بدا والفضل لله خـاشـع
تواضع لما زاده الـلـه رفـعة وكل جليل عنده مـتـواضـع يسمع كتابا للحجاج إلى قتيبة بن مسلم فينظم شعرا يضمنه معناه: أخبرني جحظة قال: حدثني علي بن يحيى المنجم قال: حدثني إسحاق الموصلي عن محمد بن سلام قال: كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: إني قد نظرت في سني، فإذا أنا ابن ثلاث وخمسين سنة، وأنا وأنت لدة عام. وإن امرأ قد سار إلى منهل خمسين سنة لقريب أن يرده، والسلام.
فسمع هذا أبو محمد التيمي مني فقال:
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
وإن امرأ قد سار خمسين حجة إلى منل من ورده لـقـريب يجيزه المأمون على مدح له في الأمين يذكر فيه الخمر: حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثني أبو دعامة علي بن يزيد قال: حدثني التيمي أبو محمد قال: دخلت على الحسن بن سهل، فأنشدته مديحا في المأمون ومديحا فيه، وعنده طاهر بن الحسين، فقال له طاهر: هذا والله أيها الأمير الذي يقول في محمد المخلوع:
لا بد من سكرة علـى طـرب لعل روحـا يديل مـن كـرب
خليفة الله خـير مـنـتـخـب لخـير أم مـن هـاشـم وأب
خلافة الـلـه قـد تـوارثـهـا آباؤه في سوالـف الـكـتـب
فهـي لـه دونـكـم مــورنة عن خاتم الأنبياء في الحـقـب
يا بن الذرا من ذوائب الشرف ال أقدم أنـتـم دعـائم الـعـرب فقال الحسن: عرض والله ابن اللخناء بأمير المؤمنين، والله لأعلمنه. وقام إلى المأمون فأخبره، فقال المأمون: وما عليه من ذلك، رجل أمل رجلا فمدحه، والله لقد أحسن بنا، وأساء إليه إذ لم يتقرب إليه إلا بشرب الخمر، ثم دعاني فخلع علي وحملني، وأمر لي بخمسة آلاف درهم.
ينشد أول شعر عرف به ووصل به إلى الخليفة: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبو الشبل البرجمي عن أبيه قال: قال لي أبو محمد التيمي: أول شعر عرفت به فشاع فيه ذكري ووصلت به إلى الخليفة قولي: صوت
طاف طيف في المنام بمحب مسـتـهـام
زورة أبقت سقـامـا وشفت بعض السقام
لم يكن ما كان فيهـا من حرام بـحـرام
لم تكـن إلا فـواقـا وهي في ليل التمام
صفحة : 2220
الغناء لإسحاق فقال: فصنع فيها إسحاق لحنا وغنى به الرشيد، فسأله عن قائل الشعر، فقال له: صديق لي شاعر ظريف، يعرف بالتيمي، فطلبت وأمرت بالحضور، فسألت عن السبب الذي دعيت له فعرفته، فأتممت الشعر وجعلته قصيدة مدحت بها هارون. ودخلت إليه فأنشدته إياها، فأمر لي بثلاثين ألف درهم، وصرت في جملة من يدخل إليه بنوبة وأمر أن يدون شعري.
يجتاز بإسحاق الموصلي فيدعوه إلى طعام وشراب: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني عمي طياب بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني أبو محمد التيمي الشاعر قال: اجتزت يوما باخيك إسحاق فقال: ادخل حتى أطعمك طعاما صرفا، وأسقيك شرابا صرفا وأغنيك غناء صرفا، فدخلت إليه، فأطعمني لحما مكببا، وشواء حارا وباردا مبزرا، وأسقاني شرابا عتيقا صرفا، وغناني وحده مرتجلا:
ولو أن أنفاسي أصابت بحرهـا حديدا إذا كـان الـحـديد يذوب
ولو أن عيني أطلق من وكائهـا لما كان في عام الجدوب جدوب
ولو أن سلمى تطلع الشمس دونها وأمسي وراء الشمس حين تغيب
لحدثت نسي أن تريع بها النـوى وقلت لقلبي إنـهـا لـقـريب فلم تزل تلك حالي حتى حملت من بيته سكران .
يستأذن عمرو بن مسعدة في الإنشاد فيجعل الإذن لإسحاق الموصلي فيأذن: أخبرني جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت يوما على مروة بن مسعدة، فإذا أبو محمد التيمي واقف بين يديه يستأذنه في الإنشاد، فقال: ذاك إلى أبي محمد -يعنيني- وكان على التيمي عاتبا، فكره أن يمنعه لعلمه بما بيننا من المودة، فقلت له: أنشد إذ جعل الأمر لي، فأرجو أن يجعل أمر الجائزة أيضا إلي. فتبسم عمرو، وأنشده التيمي:
يا أبـا الـفـضـل كـيف تـغـفـل عـنــي أم تـخـلـى عـنـد الـشـدائد مــنـــي?
أنسيت الإخاء والعهد والود حديثا ما كان ذلك ظني
أنا من قد بلوت في سالف الدهر مضت ضرتي ولم تفن سني
فاصطنعني لما ينوب به الدهر فإني أجوز في كل فن
أنا ليث على عدوك سلم لك في الحرب فابتذلني وصلني
أنا سيف يوم الوغى وسنان ومـجـن إن لـم تـثـق بـــمـــجـــن
أنـا طـب فـي الـرأي فـي مـوضـع الـرأ ي مـعـين عـلـى الـخـصـيم الـمـعــن
وأمين على الودائع والسر إذا ما هويت أن تأتمني قال: فأقبل علي عمرو وهو يضحك، وقال: أتعلم هذا الغناء منك أم كان يعلمه قديما? فقلت له: لم يكذب، أعزك الله. فقال: أفي هذا وحده أو في الجميع? فقلت: أما في هذا فأنا أحق كذبة، والله أعلم بالباقي. ثم أنشده:
وإذا ما أردت حجا فرحا ل دليل إن نام كل ضفن فقال له: إذا عزمنا على الحج امتحناك في هذا، فإني أراك تصلح له، ثم أنشده:
ولبيب على مقال أبي العب اس إني أرى به مس جن فقال: ما أراه أبعد، فقال:
وهو الناصح الشـفـيق ولـكـن خاف هيج الزمان فازور عنـي
وظريف عند المـزاح خـفـيف في الملاهي وفي الصبا متـثـن
كيف باعدت أو جفوت صـديقـا لا ملـولا، لا لا ولا مـتـجـن
صرت بعد الإكرام والأنس أرضى منك بالترهات ما لـم تـهـنـي
لم تخني ولم أخـنـك ولا والـل ه ربي لا خنت من لـم يخـنـي
إن أكن تبت أو هجرت الملاهـي وسلافـا يجـنـهـا بـطـن دن
فحديثي كالـدر فـصـل بـالـيا قوت يجري في جيد ظبي أغـن فأمر له بخمسة آلاف درهم، فقال له: هذا شيء تطوعت به، فأين موضع حكمي? فقال: مثلها، فانصرف بعشرة آلاف درهم.
يمر بخمار بالحيرة وقد أسن، فينشد شعرا في شربه عنده: أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود قال: حدثني علي بن عمرو قال: مر التيمي بالحيرة على خمار كان يألفه، وقد أسن التيمي وأرعش، وترك النبيذ. فقال له الخمار: ويحك أبلغ بك الأمر إلى ما أرى? فقال: نعم والله، لولا ذلك لأكثرت عندك. ثم أنشأ يقول: صوت
هل إلى سكرة بناحية الحيرة يوما قبل الممات سيبل?
وأبو التيحان في كفه القر عة والـــرأس فـــوق الإكـــلـــــيل
صفحة : 2221
وعرار كأنه بيذق الشط رنج يفتن فيه قال وقيل في هذه الأبيات لمحمد بن الأشعث رمل بالوسطى عن الهشامي.
يهوى غلاما ويشغل الغلام عنه بهوى جارية فينظم في هذا شعرا: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل قال: كان أبو محمد التيمي يهوى غلاما، وكان الغلام يهوى جارية من جواري القيان، فكان بها مشغولا عنه، وكانت القينة تهوى الغلام أيضا فلا تفارقه، فقال التيمي:
ويلي على أغيد ممكور وساحر ليس بمسحرو
تؤثره الحور علينا كمـا نؤثره نحن على الحور
علق من علق فيه هوى منتظم الألفة مغمـور
وكل من تهواه في أمره مقلب صفقة مقمـور يمدح الأمين فيأمر بملئ زورقه دراهم: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن أبي سعد قال: حدثني أحمد بن محمد الفارسي قال: حدثنا غسان بن عبد الله عن أبي محمد التيمي قال: لما أنشدت الأمين قولي فيه:
خليفة الله خـير مـنـتـخـب لخـير أم مـن هـاشـم وأب
أكرم بعـرقـين يجـريان بـه إلى الإمام المنصور في النسب طرب، ثم قال للفضل بن الربيع: بحياتي أوقر له زورقه دراهم، فقال: نعم يا سيدي: فلما خرجنا طالبته بذلك، فقال: أمجنون أنت? من أين لنا ما يملأ زورقك? ثم صالحني على مائة ألف درهم، فقبضتها.
يقول شعرا ينهي فيه عن الخضوع لغير الله: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثني محمد بن عبد الله المدني قال: حدثني عبد الله بن أحمد التيمي ابن أخت أبي محمد التيمي الشاعر، قال: أنشدني خالي لنفسه قوله:
لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذاك مضر منك بـالـدين
وارغب إلى الله مما في خزائنه فإنما هو بين الكاف والـنـون
أما ترى كل من ترجو وتأملـه من الخلائق مسكين ابن مسكين
صوت
ألم تر أنني أفنيت عـمـري بمطلبها ومطلبها عسـير?
فلما لم أجد سبـبـا إلـيهـا يقربني وأعيتنـي الأمـور
حججت وقلت قد حجت جنان فجيمعني وإياها المـسـير الشعر لأبي نواس، والغناء للزبير بن دحمان، رمل بالوسطى من رواية أحمد بن المكي وبذل، وغناني محمد بن إبراهيم قريض الجرحي -رحمه الله- فيه لحنا من خفيف الثقيل، فسألته عن صانعه فلم يعرف.
أخبار أبي نواس وجنان خاصة
إذ كانت أخباره قد أفردت خاصة صفات جنان وصدق أبي نواس في حبها: كانت جنان هذه جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي المحدث الذي كان ابن مناذر يصحب ابنه عبد المجيد، ورثاه بعد وفاته، وقد مضت أخبارهما.
وكانت حلوة جميلة المنظر أديبة، ويقال: إن أبا نواس لم يصدق ي حبه امرأة غيرها.
حجت جنان فحج معها أبو نواس: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني إسحاق بن محمد عن أبي هفان عن أصحاب أبي نواس قالوا: كانت جنان جارية حسناء أديبة عاقلة ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار قال اليؤيؤ: خاصة، وكانت لبعض الثقفيين بالبصرة، فرآها أبو نواس فاستحلاها، وقال فيها أشعارا كثيرة، فقلت له يوما: إن جنان قد عزمت على الحج، فكان هذا سبب حجه، وقال: أما والله -لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها، فظننته عابثا مازحا، فسبقها والله إلى الخروج بعد أن علم أنها خارجة، وما كان نوع الحج، ولا أحدث عزمه له إلا خروجها، وقال وقد حج وعاد:
ألم تر أنني أفنيت عـمـري بمطلبها ومطلبها عسـير?
فلما لم أجد سبـبـا إلـيهـا يقربني وأعيتنـي الأمـور
حججت وقلت قد حجت جنان فيجمعني وإياها المـسـير قال اليؤيؤ: فحدثني من شهده لما حج مع جنان وقد أحرم، فلما جنه الليل جعل يلبي بشعر ويحدو ويطرب، فغنى به كل من سمعه، وهو قوله:
إلهنا مـا أعـدلـك مليك كل من ملـك
لبيك قد لـبـيت لـك لبيك إن الحمـد لـك
والملك لا شريك لـك والليل لما أن حلـك
والسابحات في الفلـك على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أمـلـك أنت له حيث سلـك
صفحة : 2222
لولاك يا رب هلك كل نبي ومـلـك
وكل من أهل لـك سبح أو لبى فلـك
يا مخطئا ما أغفلك عجل وبادر أجلك
واختم بخير عملـك لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك والعز لا شريك لك من شعره فيها: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: كانت جنان التي يذكرها أبو نواس جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وفيها يقول:
جفن عيني قد كاد يقط من طول ما اختلج
وفؤادي من حر حبك والهجر قد نضج
خبريني فدتك نف سي وأهـلـي: مـتـى الـفـــرج?
كان مـــيعـــادنـــا خــــرو ج زياد فـــقـــد خــــــرج
أنـت مـــن قـــتـــل عـــائذ بك فـي أضـــيق الـــحـــرج تشهد عرسا فيراها فيرتجل فيها شعرا: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثن إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني الجماز قال ابن عمار: وحدثني به قليب بن عيسى قال: كانت جنان قد شهدت عرسا في جوار أبو نواس، فانصرفت منه وهو جالس معنا، فرآها فأنشدنا بديها قوله:
شهدت جلوة العروس جنـان فاستمالت بحسنها النظـارة
حسبوها العروس حين رأوها فإليها دون العروس الإشارة
قال أهل العروس حين رأوها ما دهانا بها سواك عمـارة قال: وعمارة زوج عبد الرحمن الثقفي، وهي مولاة جنان.
تغضب من كلام له فيرسل معتذرا فلا تحسن الرد فينظم شعرا: أخبرني محمد بن يحيى الصولي ومحمد بن خلف قالا: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن محمد بن عمر قال: غضبت جنان من كلام كلمها به أبو نواس، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له: لا برح الهجران ربعك، ولا بلغت أملك من أحبتك، فرجع إليه، فسأله عن جوابها، فلم يخبره فقال:
فديتك فيم عتبك مـن كـلام نطقت به على وجه جميل?
وقولك للرسول عليك غيري فليس إلى التواصل من سبيل
فقد جاء الرسول له انكسـار وحال ما عليها من قـبـول
ولو ردت جنان مـرد خـير تبين ذاك في وجه الرسـول يعاتبها حتى يستميلها: قال أبو خالد يزيد بن محمد: وكان أبو نواس صادقا في محبة جنان من بين من كان ينسب به من النساء ويداعبه، ورأيت أصحابنا جميعا يصححون ذاك عنه، وكان لها محبا، ولم تكن تبحه، فمما عابتها به حتى استمالها بصحة حبة لها فصارت تحبه بعد نبوها عنه قوله:
جنـان إن جـدت يا مـنـــاي بـــمـــا آمـل لـم تـقـطـر الـسـمـــاء دمـــا
وإن تمادي ولا تماديت فيمنعك أصبح بقفرة رمما
علقت من لو أتى على أنفس الماضين والغابرين ما ندما
لو نظرت عينه إلى حجر ولـد فـيه فـتـورهـا ســـقـــمـــا يسأل امرأة عنها فتخبره أنها رحمته فيقول في ذلك شعرا: أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثني محمد بن القاسم عن أبي هفان عن الجماز، وأخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني عون بن محمد، قال: حدثني الجماز قال: كنت عند أبي نواس جالسا إذ مرت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين، فسألها عن جنان وألحف في المسألة واستقصى، فأخبرته خبرها وقالت : قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم أن أسمع: ويحك قد آذانى هذا الفتى، وأبرمني، وأحرج صدري، وضيق علي الطرق بحدة نظره وتهتكه؛ فقد لهج قلبي بذكره والفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته، ثم التفتت فأمسكت عن الكلام؛ فسر أبو نواس بذلك، فلما قامت المرأة أنشأ يقول:
يا ذا الذي عن جنان ظـل يخـبـرنـا بالله قـل وأعـد يا طـيب الـخـبـر
قال اشتكتك وقالت ما ابـتـلـيت بـه أراه من حيثما أقبـلـت فـي أثـري
ويعمل الطرف نحوي إن مـررت بـه حتى ليخجلني مـن حـدة الـنـظـر
وإن وقفت لـه كـيمـا يكـلـمـنـي في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر
ما زال يفـعـل بـي هـذا ويدمـنـه حتى لقد صار من همي ومن وطـري يمر به القاضي وهو يكلم امرأة فينصحه فيقول في ذلك شعرا:
صفحة : 2223
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي وأحمد بن سليمان بن أبي شيخ قالا: قال ابن عائشة: وأخبرني الحسن بن علي وابن عمار عن الغلابي عن ابن عائشة: قال ابن عمار: وحدثت به عن الجما، وذكره لي محمد بن داود الجراح عن إسحاق النخعي عن أحمد بن عمير: أن محمد بن حفص بن عمر التميمي -وهو أبو ابن عائشة- انصرف من المسجد وهو يتولى القضاء، فرأى أبا نواس قد خلا بامرأة يكلمها. وقال أحمد بن عمير في خبره: وكانت المرأة قد جاءته برسالة جنان جارية عمارة امرأة عبد الوهاب بن عبد المجيد، فمر به عمر بن عثمان التيمي وهو قاضي البصرة- هكذا ذكر أحمد بن عمير وحده- وذكر الباقون جميعا أنه محمد بن حفص.
قال الجماز: وكانت عليه ثياب بياض، وعلى رأسه قلنسوة مضربة فقال له: اتق الله، قال: إنها حرمتي، قال: فصنها عن هذا الموضع. وانصرف عنه، فكتب إليه أبو نواس: صوت
إن الـتـي أبـــصـــرتـــهـــا بكـرا أكـلـمـــهـــا رســـول
أدت إلـــــــي رســـــــالة كادت لـهـا نـفـسـي تـــســـيل
من ساحر العينين يجذب خصره ردف ثقيل
متقلد قوس الصبا يرمــي ولـــيس لـــه رســـيل
فلــو أن أذنـــك بـــينـــنـــا حتـى تـسـمـع مــا تـــقـــول
لرأيت مـا اسـتـقـبـحـــت مـــن أمـري هـو الأمـر الـجـــمـــيل في هذه الأبيات لجنان من الرمل وخفيفه، كلاهما لأبي العبيس بن حمدون.
قال بن عمير: ثم وجه بها فألقيت في الرقاع بين يدي القاضي فلما رآها ضحك وقال إن كانت رسولا فلا بأس.
قال ابن عائشة في خبره: برقعة فيها هذه الأبيات، وقال لي: ادفعها إلى أبيك، فأوصلتها إليه، ووضعتها بين يديه، فلما قرأها ضحك، وقال: قل له: إني لا أتعرض للشعراء.
من شعره يسأل عنها وهي في حكمان: حدثني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان أبو عثمان أخا مولى جنان، وكان مولاها أبو مية زوج عمارة وهي مولاتها، وكانت له بحكمان ضيعة كان ينزلها هو وابن عم له يقال له: أبو مية، فقال أبو نواس فيه قوله:
أسـأل الـقـادمـين مــن حـــكـــمـــان كيف خـلـفـتـمـا أبــا عـــثـــمـــان
وأبـا مـية الـــمـــهـــذب والـــمـــا جد والـمـرتـجـى لــريب الـــزمـــان?
فيقولان لي: جنان كما سرك في حالها فسل عن جنان
ما لهم لا يبارك الله فيهم كيف لـم يغـن عـنـدهـم كـتـمـــانـــي? لم يكن يعشق ولا كانت جنان موضع عشق ولكنه العبث: فأخبرني ابن عمار قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني محمد بن عبد الملك بن مروان الكاتب قالا: كنت جالسا بسر من رأى في شارع أبي أحمد، فأنشدني قول أبي نواس:
أسأل المقبلين من حكمان كيف خلفتما أبا عثمان? وإلى جانبي شيخ جالس فضحك، فقلت له: لقد ضحكت من أمر، فقال: أجل، أنا أبو عثمان الذي قال أبو نواس فيه شعرا، وأبو مية ابن عمي، وجنان جارية أخي، ولم تكن في موضع عشق، ولا كان مذهب أبي نواس النساء، ولكنه عبث خرج منه.
سبقه النابغة الجعدي إلى التكنية في شعره بغير اسم صاحبته: أخبرني علي بن سليمان قال: قال لي أبو العباس محمد ين يزيد: قال النابغة الجعدي:
أكني بغير اسمها وقد علم الله خفيات كل مكتتم وهو سبق الناس إلى هذا المعنى، وأخذوه جميعا منه، وأحسن من أخذه أبو نواس حيث يقول:
أسأل القادمين من حكـمـان كيف خلفتما أبا عثـمـان?
فيقولان لي: جنان كما سـر ك في حالها فسل عن جنان
ما لهم لا يبارك الله فـيهـم كيف لم يغن عندهم كتماني شعره وقد حضرت مأتما في البصرة: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: أنشدني أحمد بن محمد بن صدقة الأنباري لأبي نواس يذكر مأتما بالبصرة، وحضرته جنان:
يا منسي المأتـم أشـجـانـه لما أتاهم في الـمـعـزينـا
سرت قناع الوشي عن صورة ألبسها الله الـتـحـاسـينـا
فاستفتنتهن بـتـمـثـالـهـا فهن للتكـلـيف يبـكـينـا
حق لذاك الوجه أن يزدهـي عن حزنه من كان محزونـا شعره وقد اشرف عليها فرآها تلط في مأتم: أخبرني عمي قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي، قال: حدثنا عبد الملك بن عمر ابن أبان النخعي، وكان صديقا لأبي نواس:
صفحة : 2224
أن أبا نواس أشرف من دار على منزل عبد الوهاب الثقفي، وقد مات بعض أهله وعندهم مأتم، وجنان واقفة مع النساء تلطم وجهها وفي يدها خضاب، فقال:
يا قمـرا أبـرزه مـأتـم يندب شجوا بين أتـراب
يبكي فيذري الدر من عينه ويلطم الورد بـعـنـاب
لا تبك ميتا حل في حفرة وابك قتيلا لك بالـبـاب
أبرزه المأتم لي كـارهـا برغم دايات وحـجـاب
لا زال موتا دأب أحبابـه ولا تزل رؤيتـه دابـي استحسان ابن عيينة لشعره ذاك: فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني محمد بن القاسم، حدثني محمد ابن عائشة قال: قال لي سفيان بن عيينة: لقد أحسن بصريكم هذا أبو نواس حيث يقول - وشدد الواو وفتح النون:
يا قمرا أبصرت في مأتم يندب شجوا بين أتـراب
يبكي فيذري الدر من عينه ويلطم الورد بـعـنـاب قال: وجعل يعجب من قوله: ويلطم الورد بعناب.
ابن أبي عيينة ينشد بيتا من شعره ذاك ويكرر إعجابه ببراعته: وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن محمد قال: حدثني حسين ابن الضحاك قال: أنشد ابن عيينة قول أبي نواس:
يبكي فيذري الدر من عينه ويلطم الورد بـعـنـاب فعجبت منه، وقال: آمنت بالذي خلقه.
روي أن شعره ذاك كان في غير جنان: وقد قيل: إن أبا نواس قال هذا الشعر في غير جنان.
أخبرني بذلك الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني بعض الصيارف بالكرخ، وسماه، قال: كان حارس درب عو يقال له: المبارك، وكان يلبس ثيابا نظيفة سرية، ويركب حمارا، فيطوف عليه السوق بالليل ويكربه بالنهار، فإذا رآه من لا يعرفه ظن أنه من بعض التجار، وكان يصل إليه في كل شهر من السوق ما يسعه ويفضل عنه، وكانت له بنت من أجمل النساء، فمات مبارك وحضره الناس، فلما أخرجت خرجت بنته هذه حاسرة بين يديه، فقال أبو نواس فيها:
يا قمرا أبرزه مـأتـم يندب شجوا بين أتراب وذكر الأبيات كلها.
طلبت قطع صلته بها أياما ففعل: أخبرني محمد بن جعفر قال: حدثني أحمد بن القاسم عن أبي هفان عن الجماز واليؤيؤ وأصحاب أبي نواس أن جنان وجهت إليه: فاقطع زيارتك عني أياما لينقطع بعض القالة، ففعل وكتب إليها:
إنا اهتجرنا للناس إذ فطنـوا وبيننا حين نلتقـي حـسـن
ندافع الأمر وهو مقـتـبـل فشب حتى عليه قد مرنـوا
فليس يقذي عينـا مـعـاينة له ومـا إن تـمـجـه أذن
ويح ثقيف مـاذا يضـرهـم أن كان لي في ديارهم سكن
أريب ما بيننا الحـديث فـإن زدنا فزيدوا وما لذا ثـمـن يكتب إليها من بغداد شعرا: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني ابن أبي سعد قال: بلغني أن أبا نواس كتاب إلى جنان من بغداد:
كفـــى حـــزنـــا ألا أرى وجـــه حــــيلة أزور بـهـا الأحـبـاب فــي حـــكـــمـــان
وأقـسـم لـولا أن تـــنـــال مـــعـــاشـــر جنـانـا بـمـا لا أشـتـهـــى لـــجـــنـــان
لأصبحت منها داني الدار لاصقاولكن ما أخشى فديت عداني
فواحزنا حزنا يؤدي إلى الردى فأصـبـح مـأثـــورا بـــكـــل لـــســـان
أرانـي انـقـضـت أيام وصـلـي مـــنـــكـــم وآذن فـــيكـــم بـــالـــوداع زمـــانـــي شعره وقد شتمته وتنقصته حين ذكر عشقه لها: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه عن يحيى بن محمد عن الخريمي قال: بلغ أبو نواس أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها، فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر، فقال:
وا بأبي مـن إذا ذكـرت لـه وطول وجدي به تنقصـنـي
لو سألوه عن وجه حـجـتـه في سبه لي لقال: يعشقـنـي
نعم إلى الحشر والتناد نـعـم أعشقه أو ألف في كفـنـي
أصيح جهرا لا أستـسـر بـه عنفني فيه من يعنـفـنـي:
يا معشر الناس فاسمعوه وعوا: أن جنانا صديقة الـحـسـن شعره إليها وقد رآها في المنام بعد أن هجرته:
صفحة : 2225
فبلغها ذلك، فهجرته، وأطالت هجره، فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالحته، فكتب إليها:
إذا التقى في النـوم طـيفـانـا عاد لنا الوصل كـمـا كـانـا
يا قرة العـين فـيمـا بـالـنـا نشـقـى ويلـتـذ خـيالانــا
لو شئت إذ أحسنت لي في الكرى أتممت إحسـانـك يقـظـانـا
يا عاشقين اصطلحا في الكـرى وأصبحا: غضبى وغضـبـانـا
كذلـك الأحــلام غـــدارة وربـمـا تـصـدق أحـيانـا الغناء في هذه الأبيات لابن جامع، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.
يهجرها حين جبهته بما يكره، ويراها في المنام تصالحه، فينظم شعرا: وقال الخريمي: ورآها يوما في ديار ثقيف فجبهته بما كره، فغضب وهجرها مدة، فأرسلت إليه رسولا تصالحه فرده، ولم يصالحها، ورآها في النوم تطلب صلحه، فقال:
دست له طيفها كيما تصالـحـه في النوم حين تأبى الصلح يقظانا
فلم يجد عند طيفي طيفها فرجـا ولا رثى لتـشـكـيه ولا لانـا
حسبت أن خيالي لا يكون لـمـا أكون من أجله غضبان غضبانا
جنان لا تسأليني الصلح سرعة ذا فلم يكن هينا منك الذي كـانـا من شعره فيها: وأنشدني علي بن سليمان الأخفش لأبي نواس في جنان:
أما يفنى حديثك عن جـنـان ولا تبقي على هذا اللسـان
أكل الدهر قلت لها وقـالـت فكم هذا أما هـذا بـقـان
جعلت الناس كلـهـم سـواء إذا حدثت عنها في الـبـيان
عدوك كالصديق وذا كـهـذا سواء، والأباعد كـالأدانـي
إذا حدثت عن شأن تـوالـت عجائبه أتـيتـهـم بـشـان
فلو موهت عنها باسم أخـرى علمنا إذ كنيت من أنت حان? شعره وقد بيعت وسافر بها مولاها: أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني يحيى بن محمد السلمي، قال: حدثني أبو عكرمة الضبي: أن رجلا قدم البصرة فاشترى جنان من مواليها، ورحل بها، فقال أبو نواس في ذلك:
أما الديار فقلما لبـثـوا بـهـا بين استياق العيس والركـبـان
وضعوا سياط السوق في أعناقها حتى اطلعن بهم على الأوطان أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثني محمد بن سعد الكراني قال: حدثني أبو عثمان الأشنانداني قال: كتب أبو نواس إلى جنان:
أكثري المحو في كتابك وامحيه إذا ما محوته باللسان
وأمري بالمحاء بين ثنايا ك الـعـذاب الـمـفـلـجـات الـحــســـان
إنـنـي كـلـمـا مـررت بـــســـطـــر فيه مـحـو لـطـعـتـه بـلــســـانـــي
تلـك تـقـبـيلة لـكــم مـــن بـــعـــيد أهـديت لـي ومـا بـرحـت مـكـــانـــي
صوت
تجني علينا آل مكتوبة الـذنـبـا وكانوا لنا سلما فأضحوا لنا حربا
يقولون عز القلب بعد ذهـابـه فقلت ألا طوباي لو أن لي قلبـا عروضه من الطويل. الشعر لابن أبي عيينة، والغناء لسليمان أخي جحظة، رمل بالوسطى عن عمر بن بانة.
ابن أبي عيينة وأخباره
اسمه وكنيته ونسبه: أبو عيينة -فيما أخبرنا به علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد- اسمه وكنيته أبو المنهال، قال: وكل من يدعى أبا عيينة من آل المهلب فأبو عيينة اسمه وكنيته أبو المنهال، وكل من يدعى أبا رهم من بني سدوس فكنيته أبو محمد.
وابن أبي عيينة هو محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة. وقال أبو خالد الأسلمي: هو أبو عيينة المنجاب بن أبي عيينة، وهو الذي كان يهجو ابن عمه خالدا.
واسم أبي صفرة ظالم بن سراق، وقيل: غالب بن إسراق بن صبح بن كندي بن عمرو بن عدي بن وائل بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن الوضاح بن عمرو بن مزيقياء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن الراكب بن الأزد.
هذا النسب الذي عليه آل المهلب، وذكر غيرهم أن أصلهم من عجم عمان وأنهم تولوا الإزد، فلما سار المهلب وشرف وعلا ذكره استلحقوه. وممن ذكر ذلك الهيثم بن عدي وأبو عبيدة وابن مزروع وابن الكلبي وسائر من جمع كتابا في المثالب وهجتهم به الشعراء فأكثرت.
أبو صفرة ليس عربيا:
صفحة : 2226
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: أخبرني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني أبو عدب الله أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان العدوي قال: أخبرني الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عياش الهمداني قال: وفد ابن الجلندي في الأزد، أزد عمان ومواليهم وأحلافهم، فكان فيمن وفد منهم أبو صفرة، وكان يلقب بذلك، لأنه كان يصفر لحيته، فدخل على عمر مع ابن الجلندي ولحيته مخضوبة مصفرة، فقال عمر لابن الجلندي: أكل من معك عربي? قال: لا، فينا العربي وفينا غير ذلك، فالتفت عمر -رحمه الله- إلى أبي صفرة، فقال له: أعربي أنت? قال: لا، أنا ممن من الله عليه بالإسلام.
أبو صفرة يختن وهو شيخ أشمط: قال: وقدم الحكم بن أبي العاصي الثقفي أخو عثمان بأعلاج من شهرك في خلافة عمر قد أسلموا، فأمر عمر عثمان بن أبي العاصي أن يختنهم، وقد كان أبو صفرة حاضرا فقال: ما لهؤلاء يطهرون ليصلوا قال: إنهم يختنون.
قال: إنا والله هكذا مثلهم، قال: فسمع ذلك عثمان بن أبي العاصي، فأمر بأي صفرة فأجلس على جفنة فختن وإنه لشيخ أشمط فكان بها من قال: لسنا نشك في أن زوجته كذلك، فأحضرت وهي عجوز أدماء، فأمر بها القابلة فنظرت إليها وكشفتها، وإذا هي غير مختونة، وذلك منها قد أحشف ، فأمر بها فخفضت.
وقال في ذلك زياد الأعجم، وقد غضب على المهلب:
نحن قطعنا من أبي صفرة قلفته كي يدخل البصـره
لما رأى عثمان غرمـولة أتن على قلفته الشفـره من عمل كتاب المثالب: وليس هذا من الأقوال المعول عليها، لأن أصل المثالب زياد لعنه الله، فإنه لما ادعي إلى أبي سفيان، وعلم أن العرب لا تقر له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم، عمل كتاب المثالب، فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار، وحق باطل، ثم بنى على الهيثم بن عدي -وكان دعيا- فأراد أن يعر أهل البيوتات تشفيا منهم، وفعل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكان أصله يهوديا، أسلم جده على يدي بعض آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فانتمى إلى ولاء بني تميم فجدد كتاب زياد وزاد فيه، ثم نشأ غيلان الشعوبي لعنه الله، وكان زنديقا ثنويا لا يشك فيه، عرف في حياته بعض مذهبه، وكان يوري عنه في عوراته للإسلام بالتشعب والعصبية، ثم انكشف أمره بعد وفاته، فأبدع كتابا عمله لطاهر بن الحسين، وكان شديد التشعب والعصبية، خارجا عن الإسلام بأفاعيله، فبدأ فيه بمثالب بني هاشم وذكر مناكحهم وأمهاتهم وصنائعهم، وبدأ منهم بالطيب الطاهر، رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمصه وذكره، ثم والى بين أهل بيته الأذكياء النجباء عليهم السلام، ثم ببطون قريش على الولاء، ثم بسائر العرب، فألصق بهم كل كذب وزور، ووضع عليهم كل خبر باطل، وأعطاه على ذلك مائتي ألف درهم فيما بلغني.
وإنما جر هذا القول، ذكر المهلب وما قيل فيه، وأني ذكرته فلم أجد بدا من ذكر ما روي فيه؛ وفيما مر عن أهل النسب، ثم قلت ما عندي.
يقرأ كتاب المثالب على عبد الملك، فيأمر بإحراقه: أخبرني حبيب بن نصر قال: أخبرني عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن يحيى أبو عثمان عن أبيه قال: دخل بعض الناس على عبد الملك بن مروان فقال له: هل عندك كتاب زياد في المثالب? فتلكأ، فقال له: لا بأس عليك، وبحقي إلا جئتني به. فمضى فجاء به، فقال له: اقرأ علي، فقرأه وجعل عبد الملك يتغيظ ويعجب مما فيه من الأباطيل، ثم تمثل قول الشاعر:
وأجرأ من رأيت يظهر غـيب على عيب الرجال أولو العيوب ثم أمر بالكتاب فأحرق .
رجع الخبر إلى سياقه أخبار ابن أبي عيينة.
أنفد أكثر شعره في هجاء ابن عمه خالد : وهو شاعر مطبوع ظريف غزل هجاء. وأنفد أكثر أشعاره في هجاء ابن عمه خالد. وأخبارهما تذكر على أثر هذا الكلام وما يصلح تصدير أخباره به. وكان من شعراء الدولة العباسية من ساكني البصرة.
حدثني عمي والصولي قالا: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثني أبي قال: أبو عيينة اسمه كنيته، وهو ابن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة.
كان أبوه يتولى الري للمنصور: وأخبرني محمد بن عرمان الصيرفي قال: حدثني العنزي قال: حدثني أبو خالد الأسلمي قال:
صفحة : 2227
أبو عيينة الشاعر هو أبو عيينة بن النمجاب بن أبي عيينة بن المهلب، وكان محمد بن أبي عيينة أبو أبي عيينة الشاعر يتولى الري لأبي جعفر المنصور، ثم قبض عليه وحبسه وغرمه.
حبس المنصور أباه: وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: قال وهب بن جرير: رأيت في منامي كأن قائلا يقول لي:
ما يلقى أبو حـرب تعالى الله من كرب فلم ألبث أن أخذ المنصور أما حرب محمد بن أبي عيينة المهلبي فحبسه، وكان ولاه الري فأقام بها سنين.
كان يحب امرأة نبيلة ويكنى عنها خوف أهلها: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن يحيى الصولي وعمي قالوا: حدثنا الحزنبل الأصبهاني قال: حدثني الفيض بن مخلد مولى أبي عيينة بن المهلب قال: كان أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة يهوى فاطمة بنت عمر بن حفص الملقب هزار مرد، وكانت امرأة نبيلة شريفة، وكان يخاف أهلها أن يذكرها تصريحا، ويرهب زوجها عيسى بن سليمان، فكان يقول الشعر في جارية لها يقال لها: دنيا، وكانت قيمة دارها، ووالية أمورها كلها. وأنشدنا لابن أبي عيينة فيها، ويكنى باسم دنيا هذه:
ما لقلبي أرق من كـل قـلـب ولحبي أشد مـن كـل حـب
ولدنيا على جـنـونـي بـدنـيا أشتهي قربها وتكره قـربـي
نزلت بي بلـية مـن هـواهـا والبلايا تكون من كل ضـرب
قل لدنيا إن لم تجبك لـمـا بـي رطبة من دموع من عينى كتبي
فعلام انتهرت باللـه رسـلـي وتهددتم بـحـبـس وضـرب
أي ذنب أذنبته لـيت شـعـري كان هـذا جـزاءه أي ذنـب? أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال: كان أبو عيينة من أطبع الناس وأقربهم مأخذا، من غير أدب موصوف ولا رواية كثيرة، وكان يقرب البعيد، ويحذف الفضول، ويقل التكلف. وكان أصغر من أخيه عبد الله ومات قبله.
وقيل لعبد الله: أنت أشعر أم أخوك? فقال: لو كان له علمي لكان أشعر مني، وكان يتعشق فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد التي تزوجها علي بن سليمان، ويسر عشقها، ويلقبها بدنيا كتمانا لأمرها . وكانت امرأة جليلة نبيلة سرية من النساء، وكان أبوها من أشد الفرسان وشجعانهم، فذكر عيسى بن جعفر أن عيسى بن موسى قال للمهلب بن المغيرة بن المهلب: أكان يزيد بن خالد أشجع أم عمر بن حفص هزار مرد? فقال المهلب: لم أشهد من يزيد ما شهدته من عمر بن حفص، وذلك أني رأيته يركب في طلب حمار وحشي حتى إذا حازاه جمع جراميزه وقفز، فصار على ظهره، فقمص الحمار، وجعل عمر بن حفص يحز معرفته إما بسيف وإما بسكين معه حتى قتله.
كان جنديا، ولم يكن يهوى فاطمة بل جارية لها: قال محمد بن يزيد: وحدثت عن محمد بن المهلب أنه أنكر أن يكون أبو عيينة يهوى فاطمة، وقال: إنما كان جنديا في عداد الشطار ، وكانت فاطمة من أنبل النساء وأسراهن، وإنما كان يتعشق جارية لها، وهذه الأبيات التي فيها الغناء من قصيدة له جيدة مشهورة من شعره، يقولها في فاطمة هذه أو جاريتها، ويكنى عنها بدنيا، فمما اختير منها قوله:
وقالوا تجنبنا فقـلـت أبـعـد مـا غلبتم على قلبي بسلطانكم غصبا
غضاب وقد ملوا وقوفي ببابـهـم ولكن دنيا لا ملولا ولا غضـبـى
وقد أرسلت في السر أنـي بـرية ولم تر لي فيما ترى منهم ذنـبـا
وقالت لك العتبى وعندي لك الرضا وما إن لهم عندي رضاء ولا عتبى
ونبئتها تلهوا إذا اشتـد شـوقـهـا بشعري كما تلهي المغنية الشربـا
فأحببتها حبـا يقـر بـعـينـهـا وحبي إذا أحببت لا يشبه الحـبـا
فيا حسرتا نغصت قـرب ديارهـا فلا زلفة منها أرجى ولا قـربـا
لقد شمت الأعداء أن حيل بينـهـا وبيني ألا للشامتين بنا العـقـبـى ومما قاله فيها وغني فيه: صوت
ضيعت عهد فتى لعهدك حافـظ في حفظه عجب وفي تضييعك
ونأيت عنه فما لـه مـن حـيلة إلا الوقوف إلى أوان رجوعك
متخشعا يذري عليك دمـوعـه أسفا ويعجب من جمود دموعك
إن تقتليه وتـذهـب بـفـؤاده فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
صفحة : 2228
عروضه من الكامل، الغناء في هذه الأبيات من الثقيل الأول بالوسطى. ذكر عمرو بن بانة أنه له، وذكر الهشامي أنه لمحمد بن الحارث بن بسخنر، وذكر عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام أنه لإبراهيم الموصلي.
فذكر العتابي ومحمد بن الحسن جميعا، أن محمد بن أحمد بن يحيى المكي حدثهما قال: حدثني عمرو بن بانة قال: ركبت يوما إلى دار صالح بن الرشيد، فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي -وكان معاقرا للصبوح- فألفيته في ذلك اليوم خاليا منه، فسألته عن السبب في تعطيله إياه، فقال: نيران علي غضبي -يعني جارية لبعض النخاسين ببغداد- وكانت إحدى المحسنات، وكانت بارعة الجمال ظريفة اللسان، وكان قد أفرط في حبها حتى عرف به، فقلت له: فما تحب? قال: تجعل طريقك على مولاها فإنه يستخرجها إليك، فإذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها- ودفع إلي رقعة فيها:
ضيعت عهد فتى لعهدك حافـظ في حفظه عجب وفي تضييعك
إن سمته أن تذهبـي بـفـؤاده فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك فقلت له: نعم، أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة، على ما فيها، حفظا لروحك عليك، فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر. فأخذت الرقعة وجعلت طريقي على منزل النخاس، فبعثت إلى الجارية: اخرجي، فخرجت، فدفعت إليها الرقعة، وأخبرتها بخبري فضحكت، ورجعت إلى الموضع الذي أقبلت منه فجلست جلسة خفيفة، ثم إذا بها قد وافتني ومعها الرقعة، فيها: صوت
وما زلت تعصيني وتغري بـي الـردى وتهجرني حتى مرنت على الـهـجـر
وتقطع أسبابـي وتـنـسـى مـودتـي فكيف ترى يا مالكي في الهوى صبري
فأصبحت لا أدري أيأسـا تـصـبـري على الهجر أم جد البـصـيرة لا أدري غنى في هذه الأبيات عمر بن بانة، ولحنه ثقيل أول بالبنصر، ولمقاسة بن ناصح فيها ثقيل آخر بالوسطى.
لحن عمرو في الأول والثالث بغير نشيد.
قال: فأخذت الرقعة منها وأوصلتها إليه، وصرت إلى منزلي، فصنعت في بيتي محمد بن جعفر لحنا وفي أبياتها لحنا، ثم صرت إلى الأمير صالح بن الرشيد، فعرفته ما كان من خبري، وغنيته الصوتين، فأمر بإسراج دوابه فأسرجت، وركب فركبت معه إلى النخاس مولى نيران، فما برحنا حتى اشتراها منه بثلاثة آلاف دينار، وحملها إلى دار محمد بن جعفر فوهبها له، فأقمنا يومنا عنده.
أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: دخلت على الواثق يوما وهو خليفة ورباب في حجره جالسة، وهي صبية، وهو يقلي عليها قوله:
ضيعت عهد فتى لعهدك حافـظ في حفظه عجب وفي وتضييعك وهي تغنيه ويردده عليها، فما سمعت غناء قط أحسن من غنائهما جميعا، وما زال يردده عليها حتى حفظته.
رجع الخبر إلى حديث أبي عيينة شعر لأخيه في فاطمة محبوبته: أخبرني علي بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: قال عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة في فاطمة -بنت عمر بن حفص لما تزوجها عيسى بن سليمان بن علي، وكان عيسى مبخلا ، وكانت له محابس يحبس فيها البياح ويبيعه، وكانت له ضيعة تعرف بدالية عيسى يبيع منها البقول والرياحين، وكان أول من جمع السماد بالبصرة وباعه، فقال فيه أبو الشمقمق:
إذا رزق العباد فإن عيسى له رزق من استاه العباد فلما تزوج عيسى فاطمة بنت عمر بن حفص قال عبد الله بن محمد بن أبي عيينة في ذلك:
أفاطم قد زوجت عيسى فأبـشـري لديه بـذل عـاجـل غـير آجـل
فإنك قد زوجت عن غير خـبـرة فتى من بني العباس ليس بعـاقـل
فإن قلت من رهط النبـي فـإنـه وإن كان حر الأصل عبد الشمـائل
وقد قال فيه جعـفـر ومـحـمـد أقاويل حتى قالـهـا كـل قـائل
وما قلت ما قـالا لأنـك أخـتـنـا وفي البيت منا والذرا والكـواهـل
لعمري لقد أثبته فـي نـصـابـه بأن صرت منه في محل الحـلائل
إذا ما بنو العباس يوما تـنـازعـوا عرا المجد واختاروا كرام الخصائل
رأيت أبا العباس يسمو بـنـفـسـه إلى بيع بياحاتـه والـمـبـاقـل
صفحة : 2229
قال مؤلف هذا الكتاب: وكان عبد الله، أخو أبي عيينة شاعرا، وكان يقدم على أخيه، فأخبرني جحظة قال: حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: قال إسحاق الموصلي: شعر عبد الله بن أبي عيينة أحب إلي من شعر أبيه وأخيه. قال: وكان عبد الله صديقا لإسحاق.
يصرح أخوه بذكر فاطمة وأنه يعنيها: قال محمد بن يزيد: ومما قاله في فاطمة وصرح بذكر القرابة بينهما، وحقق على نفسه أنه يعنيها قوله:
دعوتك بالقـرابة والـجـوار دعاء مصرح بادي السـرار
لأني عنك مشغول بنـفـسـي ومحترق عليك بـغـير نـار
وأنت توقرين وليس عـنـدي على نار الصبابة مـن وقـار
فأنت لأن ما بك دون مـا بـي تدارين الـعــدو ولا أداري
ولو والله تشتـاقـين شـوقـي جمحت إلى مخالعة الـعـذار
ألا يا وهب فيم فضحـت دنـيا وبحت بسرها بين الجـواري
أما والراقصـات بـكـل واد غواد نحو مـكة أو سـواري
لقد فضلتك دنيا فـي فـؤادي كفضل يدي اليمين على اليسار
فقولي ما بدا لك أن تقـولـي فإني لا ألومك أن تـضـاري من ظريف شعره فيها: قال وقال فيها، وهو من ظريف أشعاره:
رق قلبي لك يا نور عـينـي وأبى قلبـك لـي أن يرقـا
فأراك الله مـوتـى فـإنـي لست أرضى أن تموتي وأبقى
أنا من وجد بدنـياي مـنـهـا ومن العذال فيها مـلـقـى صوت
زعموا أني صديق لـدنـيا ليت ذا الباطل قد صار حقا في هذا البيت ثم الذي قبله، ثم الأول لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى عن الهشامي.
قال: وقال فيها أيضا في هذا الوزن، وفيه غناء محدث رمل طنبوري:
عيشـــهـــا حـــلـــو وعــــــيشـــــــك مـــــــر ليس مـــســــــرور كـــــــمـــــــن لا يســـــــر
كمـــد فـــي الـــحـــب تـــســـخــــــن فـــــــيه عينـــه أكـــثـــر مــــمـــــــا تـــــــقـــــــر
قلـــت لـــلائم فـــيهـــا الـــه عـــنـــــــهـــــــا لا يقـــع بـــينـــــي وبـــــــينـــــــك شـــــــر
أتـــرانـــي مـــقـــصـــرا عـــن هـــــواهـــــــا كل مــــمـــــــلـــــــوك إذا لـــــــي حـــــــر
وقال فيها أيضا، وأنشدناه الأخفش عن المبرد، وأنشدناه محمد بن العباس اليزيدي قال: أنشدني عمي عبيد الله لأبي عيينة:
حين قالـت دنـيا عـلام نـهـارا زرت? هلا انتظرت وقت المساء
إن تكن معجـبـا بـرأيك لا تـف رق فاستحي يا قـلـيل الـحـياء
ذاك إذ روحها وروحـي مـزاجـا ن كأصفى خمر بـأعـذب مـاء معنى له يأخذه البحتري: قال محمد بن يزيد: وقد أخذ هذا المعنى غيره منه ولم يسمه، وهو البحتري، فقال: صوت
جعلت حبك من قلبي بمـنـزلة هي المصافاة بين الماء والراح
تهتز مثل اهتزاز الغصن حركه مرور غيث من الوسمي سحاح الغناء في هذين البيتين لرذاذ ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر.
من شعره الذي يكنى فيه عن فاطمة: ومما قاله أبو عيينة في فاطمة هذه، وكنى فيه بدنيا قوله: صوت
ألم تنه قلبك أن يعـشـقـا ومالك والعشق لولا الشقا
أمن بعد شربك كأس النهى وشمك ريحان أهل التقـى
عشقت فأصبحت في العالم ين أشهر من فرس أبلقـا
أدنياي من غمر بحر الهوى خذي بيدي قبل أن أغرقـا
أنا ابن المهلب ما مثـلـه لو أن إلى الخلد لي مرتقى غنى فيه أبو العبيس بن حمدون، ولحنه ثاني ثقيل مطلق، وفيه لعريب ثقيل أول، رواه أبو العبيس عنها.
قصيدة يذكر فيها دنيا ويفخر بمآثر المهلب: وهذه قصيدة طويلة يذكر فيها دنيا ويفخر بعقب النسيب بأبيه، ويذكر مآثر المهلب بالعراق، ولكن مما قاله في دنيا منها قوله:
أدنياي من غمر بحر الهوى خذي بيدي قبل أن أغرقـا
أنا لك عبد فكوني كـمـن إذا سره عبده أعـتـقـا
ألم أخدع الناس عن وصلها وقد يخدع العاقل الأحمقـا
بلى فسبقـتـهـم إنـنـي أحب إلى الخير أن أسبقـا
ويوم الجنازة إذ أرسـلـت على رقعة أن جز الخندقا
صفحة : 2230
وعـج ثـم فـانـظـر لـنـا مـجـلــســـا برفـــق وإياك أن تـــخـــرقــــــا
فجـئنـا كـغـصــنـــين مـــن بـــانة قرينـــي خـــدنـــين قـــد أورقـــا
فقالت لأخت لها استنشديه من شعره المحكم المنتقى
فقلت أمرت بكتمانه وحـــذرت إن شـــاع أن يســـرقــــا
فقـالـت بـعـيشــك قـــولـــي لـــه تمـنـع لـعـلـك أن تـــنـــفـــقـــا من شعره في دنيا وقد أفحش فيه: ومن مشهور قوله في دنيا وهو مما تهتك فيه وصرح وأفحش وهي من جيد قوله قصيدته التي يقول فيها:
أنا الفارغ المشغول والشوق آفـتـي فلا تسألوني عن فارغي وعن شغلي
عجبت لترك الحـب دنـيا خـلـية وإعراضه عنها وإقبالـه قـبـلـي
وما بالها لما كتـبـت تـهـاونـت بكتبي وقد أرسلت فانتهزت رسلـي
وقد جلفت ألا تـخـط بـكـفـهـا إلى قابل خطا غلي ولا تـمـلـي
أبخلا علـيهـا كـل ذا وقـطـيعة قضيت لدينا بالقطـيعة والـبـخـل
سلوا قلب دنيا كيف أطلقه الـهـوى فقد كان في غل وثيق وفي كـبـل
فإن جحدت فاذكر لها قصر معـبـد بمنصف ما بين الأبلة والـحـبـل
وملعبنا في النهر والـمـاء زاخـر قرينين كالغصنين فرعين في أصل
ومن حولنا الريحان غضا وفوقـنـا ظلال من الكرم المعرش والنخـل
إذا شئت مالت بي إليهـا كـأنـنـي إلى غصن بان دعصين من رمـل
ليالي ألقاني الهوى فاستضفـتـهـا فكانت ثناياها بلا حشـمة نـزلـي
وكم لذة لي في هواهـا وشـهـوة وركضي إليها راكبا وعلى رجـل
وفي مأتم المهدي زاحمت ركنـهـا بركني وقد وطنت نفسي على القتل
وبتنا على خوف أسكن قـلـبـهـا بيسراي واليمنى على قائم النصـل
فيا طيب طعم العيش إذ هي جـارة وإذ نفسها وإذ أهـلـهـا أهـلـي
وإذ هي لا تعتـل عـنـي بـرقـبة ولا خوف عين من وشاة ولا بعـل
فقد عفت الآثار بـينـي وبـينـهـا وقد أوحشت مني إلى دارها سبلـي
ولما بلوت الحب بعـد فـراقـهـا قضيت على أم المحبين بالـثـكـل
وأصبحت معزولا وقد كنـت والـيا وشتان ما بين الـولاية والـعـزل من شعره فيها، وقد وصف فيه قصرا: صوت ومما قاله فيها وفيه غناء:
ألا في سبيل الله ما جل بي مـنـك وصبرك عني حين لا صبر لي عنك
وتركك جسمي بعد أخذك مهجـتـي ضئيلا كان من قـبـل ذا تـركـي
فهل حاكم في الحب يحكم بـينـنـا فيأخذ لي حقي وينصفنـي مـنـك لسليم في هذه الأبيات هزج مطلق في مجرى الوسطى، وفي هذه القصيدة يقول يصف قصرا كانوا فيه، وهي من عجيب شعره:
لقد كنت يوم القصر مما ظننت بي بريئا كما أن بريء من الـشـرك
يذكرني الفردوس طورا فأرعـوي وطورا يواتيني إلى القصف والفتك
بغرس كأبكار الـجـواري وتـربة كأن ثراها ماء ورد على مـسـك
وسرب من الغزلان يرتعن حولـه كما استل منظوم من الدر من سلك
وورقاء تحكى الموصلي إذا غـدت بتغريدها أحبب بها وبمن تحـكـي
فيا طيب ذاك القصر قصرا ومنزلا بأفيح سهل غير وعر ولا ضنـك
كأن قصور القوم ينظرن حـولـه إلى ملك موف على منبر الملـك
يدل عليها مستـطـيلا بـظـلـه فيضحك منها وهي مطرقة تبكـي يعده الفضل بن الربيع أشعر زمانه: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن عمرو الأنصاري، قال: سمعت الأصمعي يذكر أن الفضل بن الربيع قال لجلسائه: من أشعر أهل عصرنا? فقالوا فأكثروا، فقال الفضل بن الربيع: أشعر أهل زماننا الذي يقول في قصر عيسى بن جعفر بالخريبة -يعني أبا عيينة:
زر وادي القصر نعم القصر والوادي وحبذا أهله مـن حـاضـر بـادي
ترفا قـراقـيره والـعـيس واقـفة والضب والنون والملاح والحـادي يحذر سعيد بن عباد عاقبة زواج له:
صفحة : 2231
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن مجمع قال: تزوج سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بنت سفيان بن معاوية بن المهلب -وقد كان تزوجها قبله رجلان فدفنتهما، فكتب إليه أبو عيينة:
رأيت أثاثها فرغبت فـيه وكم نصب لغيرك بالأثاث
إلى دار المنون فجزتهـم تحثهم بأربـعة حـثـاث
فصير أمرها بيدي أبيهـا وعيشك من حبالك بالثلاث
وإلا فالسلام عليك مـنـي سأبدأ من غد لك بالمراثي يعاتب إسحاق لتأخره عن دعوة إلى مجلس: أخبرني محمد بن مزيد الصولي قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: كان علي بن هشام قد دعاني وداعا أبا عيينة وتأخرت عنه حتى اصطبحنا شديدا، وتشاغلت برجل كان عندي من الأعراب، وكان فصيحا لأكتب عنه، وكان عنده ? بعض من يعاديني -قال حماد: كأنه يومئ بهذا القول إلى إبراهيم بن المهدي- فسأل أبا عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلي:
يا مليئا بالوعد والخلف والمـط ل بطيئا عن دعوة الأصحـاب
لهجا بـالأعـراب إن لـدنـيا بعض من تشتهي من الأعراب
قد عرفنا الذي شغلت به عنـا وإن كان غير ما في الكتـاب قال: فكتبت إلى الذي حمل أبا عيينة على هذا -يعني إبراهيم بن المهدي:
قد فهمت الكتاب أصلحك الله وعندي إليك رد الجواب
ولعمري ما تنصفون ولا كا ن الـذي جـاء مـنـكـم فـي حـســابـــي
لسـت آتـيك فـاعـــلـــمـــن ولا لـــي فيك حـظ مـن بـعـد هـذا الــكـــتـــاب ينسب إليه شعر وجد منقوشا على حجر: أخبرني عيسى بن الحسين الوراقي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني إبراهيم بن إسحاق العمري قال: حدثنا أبو هاشم الإسكندراني، عن ابن لهيعة قال: حفر حفر في بعض أفنية مكة، فوجد فيه حجر عليه منقوش:
ما لا يكون فلا يكون بحـيلة أبدا وما هو كائن فـيكـون
سيكون هو كائن في وقـتـه وأخو الجهالة متعب محزون
يسعى القوي فلا ينال بسعيه حظا ويحظى عاجز ومهين قال ابن أبي سعد: هكذا في الحديث، وقد أنشدني هذه الأبيات جماعة لأبي عيينة.
هو عند الفضل بن الربيع أشعر من أبي النواس: حدثني عمي قال، حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك، قال: حدثني علي بن عمروس الأنصاري عن الأصمعي قال: قال لي الفضل بن الربيع: يا أصمعي، من أشعر أهل زمانك? فقلت: أبو نواس قال: حيث يقول ماذا? قلت: حيث يقول:
أما ترى الشمس حلت الحملا وقام وزن الزمان فاعتـدلا فقال: والله إنه لذهن فطن، وأشعر عندي منه أبو عيينة .
شعره في دنيا حين زوجت: حدثني عمي، قال: حدثني فضل اليزيدي: عن إسحاق أنه أنشده لأبي عيينة في دنيا التي كان يشبب بها، وقد زوجت وبلغه أنها تهدى إلى زوجها، وكان إسحاق يستحسن هذا الشعر ويستجيده:
أرى عهدها كالـورد لـيس بـدائم ولا خير فيمن لا يدوم لـه عـهـد
وعهدي لها كالآس حسنا وبـهـجة له نضرة تبقى إذا ما انقضى الورد
فما وجد العـذري إذ طـال وجـده بعفراء حتى سل مهجته الـوجـد
كوجدي غداة البين عند التفـاتـهـا وقد شف عنها دون أترابها البـرد
فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها قريب ولكن في تناولـهـا بـعـد
وإني لمن تهـدي إلـيه لـحـاسـد جرى طائري نحسا وطائره سعـد أخوه يهجو عيسى بن سليمان وقد تزوج فاطمة محبوبته: أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد الملبي قال: سألت أبي عن دنيا التي ذكرها أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة في شعره، وقلت: إن قوما يقولون: إنها كانت أمة لبعض مغني البصرة، فقال: لا يا بني، هي فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد بن عثمان بن قبيصة أخي المهلب، وكان عيسى بن سليمان بن علي أخو جعفر ابن سليمان تزوجها، وهجاه عبد الله بن محمد بن أبي عيينة، أخو أبي عيينة فقال:
أفاطم قد زوجت عيسى فأبشري لديه بذل عاجـل غـير آجـل
فإنك قد زوجت عن غير خبرة فتى من بني العباس ليس بعاقل
صفحة : 2232
وذكر باقي الأبيات، وقد مضت متقدما.
يصرح بنسبه الجامع له ولفاطمة: قال أحمد بن يزيد: ثم أنشدني أبي لأبي عيينة يصرح بنسبه الجامع له ولفاطمة من أبيات له:
ولأنت إن مت المصابة بي فتجنبني قتلي بـلا وتـر
فلئن هلكت لتلطمن جزعا خديك قائمة على قبـري من شعره الذي يكنى فيه بدنيا: قال أحمد: وأنشدني أبي أيضا في تصديق ذلك، وأنه كان يكنى بدنيا عن غيرها:
ما لدنيا تجفوك والذنب مـنـهـا إن هذا منها لـخـب ومـكـر
عرفت ذنبهـا إلـي فـقـالـت ابدءوا القوم بالـصـياح يفـروا
قد أمرت الفؤاد بالصبر عنـهـا غير أن ليس مع الحـب أمـر
وكتمت اسمها حذارا من الـنـا س ومن شرهم وفي الناس شر
ويقولون بح لـنـا بـاسـم دنـيا واسم دنيا سر على الناس ذخـر
ثم قالوا ليعلموا ذات نـفـسـي أعوان دنـياك أم هـي بـكـر
فتنفسـت ثـم قـلـت أبـكـر شب يا أخوتي عن الطوق عمرو شعر له ينصح فيه بترك الإلحاح: أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثي هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني أبو خالد الأسلمي قال: كان ابن أبي عيينة المهلبي صديقي، وهو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة، فجاءه رجل من جيرانه كان يستثقله، فسأله حاجة فقضاها، ثم سأله أخرى فوعده بها، ثم سأله ثالثة فقال:
خفف على إخوانك المؤنـا إن شئت أن تبقى لهم سكنا
لا تلحقن إذا سألت ففي ال إلحاف إجحاف بهم وعنـا فقال الرجل وانصرف.
يطلب عزل أمير البصرة فلا يجاب ويمنح صلة عوضا: أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد، قال: حدثني المبرد قال: وفد ابن أبي عيينة إلى طاهر بن الحسين يسأله أن يعزل أمير البصرة، وكان من قبله فدافعه، وعرض عليه عوضا خطيرا من حاجته، ووعده أن يستصلح له ذلك الأمير ويزيله عما كرهه، فأبى عزله وأجزل صلته، فقال ابن أبي عيينة فيه:
يا ذا اليمينين قد أوقرتنـي مـنـنـا تترى هي الغاية القصوى من المنن
ولست أستطيع من شكر أجيء بـه إلا استطاعة ذي روح وذي بـدن
لو كنت أعرف فوق الكشر منـزل أوفى من الشكر عند الله في الثمن
أخلصتها لك من قلـبـي مـهـذبة حذوا على مثل ما أوليت من حسن أسا والي البصرة جواره فطلب عزله فأجيب إلى طلبه: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي عنه أبي عكرمة عامر بن عمران، وأخبرني به عمي عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: كان إسماعيل بن سليمان واليا على البصرة خليفة لطاهر بن الحسين، فأساء مجاورة ابن أبي عيينة حتى تباعد بينهما وقبح، وأظهر إسماعيل تنقصه وعيبه، فخرج إلى طاهر ليشكو إسماعيل، ويسعى في عزله عن البصرة، فبعد ذلك عليه بعض البعد، وسافر طاهر بن الحسين إلى وجه أمر بالخروج إليه، فصحبه ابن أبي عيينة في سفره، فتذمم من ذلك، وأمر بإيصاله إليه، فلما دخل ابن أبي عيينة إليه سأله عن حوائجه وأدناه، وأمره برفعها فأنشده:
من أوحـشـتـه الـــبـــلاد لـــم يقـــم فيهـا ومـــن آنـــســـتـــه لـــم يرم
ومـن يبــت والـــهـــمـــوم قـــادحة في صـدره بــالـــزنـــاد لـــم ينـــم
ومـن ير الـنـقـص مـــن مـــواطـــئه يزل عـن الـنـقـص مـوطـئ الـــقـــدم
والـقـرب مـمـن ينـأى بـجـــانـــبـــه صدع عـلـى الـشـعـب غـير مـلــتـــئم
ورب أمـر يعــيا الـــلـــبـــيب بـــه يظـل مـنـه فـي حـيرة الـــظـــلـــم
صبـر عـلـيه كـظـم عـلـى مــضـــض وتـركـه مــن مـــواقـــع الـــنـــدم
يا ذا الــيمـــينـــين لـــم أزرك ولـــم آتـــك مـــن خـــلة ومـــن عــــدم
إنـي مـن الـلـه فـي مـــراح غـــنـــى ومـغـتـدى واســـع وفـــي نـــعـــم
زارتـــك بـــي هـــمة مـــنـــازعة إلـى الـعـلا مـن كـرائم الـــهـــمـــم
وإنـنـي لـلـجـمـيل مــحـــتـــمـــل في الـقـدر مـن مـنـصـبـي ومـن شـيمـي
وقد تعلقت منك بالذمم الكبرى التي لا تخيب في الذمم
فإن أنل بغيتي فأنت لها في الـحـق حـق الـرجــاء والـــرحـــم
وإن يعـق عـائق فـلــســـت عـــلـــى جمـيل رأي عـنـدي بـــمـــتـــهـــم
صفحة : 2233
في قـدر الــلـــه مـــا أحـــمـــلـــه تعـويق امـرئ فـي الـلـوح والــقـــلـــم
لم يضـق الـصـبـر والـفـجــاج عـــلـــى حر كـريم بـالـصـبـر مـعـــتـــصـــم
ماض كحد السنان في طرف العامل أو حد مصلت خذم
إذا ابتلاه الزمان كشفه عن ثـــوب حـــرية وعـــن كــــــرم
ما ســـاء ظـــنـــي إلا بـــواحـــــدة في الـصـدر مـحـصـورة عـن الـكــلـــم
ليهـن قـوم جـزت الـــمـــدى بـــهـــم ولـم تـقـصـر فـيهـــم ولـــم تـــلـــم
ولـــيس كـــل الــــدلاء راجـــــــعة بالـنـصـف مـن مـلـئهــا إلـــى الـــوذم
ترجع بالحماة القليلة أحيانا ورنق الـصـبـابة الأمـم
ما تنبت الأرض كل زهرتها ولا تـعــم الـــســـمـــاء بـــالـــديم
ما فـي نـقـص عـــن كـــل مـــنـــزلة شريفة والأمـــور بـــالـــقـــســـــم فأجابه طاهر:
من تستضفه الهمـوم لـم ينـم إلا كنوم المريض ذي السـقـم
ولا يزال قلـبـه يكـابـد مـا تولد فيه الهـمـوم مـن ألـم
وقد سمعت الذي هتـفـت بـه وما بأذني عنك مـن صـمـم
وقد علمنا أن لست تصحـبـنـا لفـاقة فـيك لا ولا عـــدم
إلا لحـق وحـرمة وعـلـى مثلك رعي الحقوق والـحـرم
أنت امرء لا تزول عـن كـرم إلا إلى مثلـه مـن الـكـرم
وأنت من أسرة جـحـاجـحة فازوا بحسن الفعال والـشـيم
فما ترم من جـسـيم مـنـزلة فالحكم فيه إليك فـاحـتـكـم
إن كنت مستسقيا سماحـتـنـا منا تـجـدك الـيدان بـالـديم
إنا أناس لـنـا صـنـائعـنـا في العرب معروفة وفي العجم
مغتنمو كسب كـل مـحـمـدة والكسب للحمد غير مغـتـنـم فاحتكم عليه أبو عيينة في عزل إسماعيل بن جعفر عن البصرة، فعزله عنها وأمر له بمائة ألف درهم.
شعره في والي البصرة بعد عزله: فقال أبو عيينة في عزله إسماعيل بن جعفر عن إمارة البصرة:
لا تعدم العزل يا أبا الحسـن ولا هزالا في دولة السمـن
ولا انتقالا من دار عـافـية إلى ديار البلاء والمـحـن
أنا الذي إن كفرت نعمـتـه أذاب ما في جنبيك من عكن يهجو نزارا، فيرد عليه ابن زعبل: حدثني عيسى بن الحسين قال: حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل الأصبهاني قال: كان ابن أبي عيينة قد هجا نزارا بقصيدة له مضهورة، وفضل عليها قحطان، فقال ابن زعبل يهجوه ويرد عليه، واسمه عمرو بن زعبل:
بنـي أبـي عـيينة مــا نطقت به من اللـغـط?
على ما أنت ملـتـحـف من الأوجاع في الوسـط
لما في الدبر مـن نـغـل وما في العرض من سقط
أتتنا الخمـس والـمـائتـا ن بالنعمـاء والـغـبـط
أمير مـن هـلال مـس تطيل الباع مـنـبـسـط
شريف ليس بالـمـدخـو ل في عرض ولا رهـط
أظـنـك مـــن يديه وا قعا لا شـك فـي ورط
ووالى الخرج فـياض ال يدين بـنـائل سـبــط
له نعـم حـبـاك بـهـا فلم تحفـظ لـم تـحـط
وقاض من أمـير الـمـؤ منين يقوم بـالـقـسـط
يســـرك أن مـــن آ ل قحطان على شـحـط
وأنـك إن ذكـرت يقــا ل شيخ فاسق الشـمـط
أعبد من عـبـيد عـمـا ن عاب مناقب السـبـط
وتهجو الغر من مـضـر كفى هذا من الشـطـط
تيمـم فـي مـقـــيرة مسيرا غير مـغـتـبـط
مجـــوفة مـــزينة بودع لاح كـالـرقــط
بنوك تجرهـا بـالـقـل س مؤتـزرين بـالـفـو
متى غمسـوا مـراديهـم لجد السير تـحـتـلـط
وأنت بموضع الـسـكـا ن يمسكـه بـلا غـلـط
عليك عبـاءة مـشـكـو كة بالشوك لـم تـخـط
فطـيب ريح بـلـدتـنـا فرارك خيفة الـشـرط
وأنك قد عرفـت بـكـث رة التخليط والـغـلـط
ترى الخسران إن لم تـز ن فـي يوم ولـم تـلـط طلبه المأمون لهجائه نزارا ففر إلى عمان:
صفحة : 2234
قال: وكان ابن أبي عيينة لما هجا نزارا بلغ شعره المأمون، فنذر دمه، فهرب من البصرة وركب البحر إلى عمان، فلم يزل بها متواريا في نواحي الأزد حتى مات المأمون.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني ابن مهرويه عن أبيه بقصة ابن أبي زعبل، فذكر نحو الخبر المتقدم.
يشبب بوهبة ثم يعدل دنيا: حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي؛ قال: حدثني أبي قال: كان ابن أبي عيينة يشبب بوهبة جارية القروي، وهي التي يقول فيها فروج الزنى قوله:
يا وهب لم يبق لي شيء أسر به إلا الجلوس فتسقيني وأسقـيك ثم عدل عن التشبيب بها إلى دنيا، وذكرهما جميعا في شعره فقال:
أرسلت وهبة لما رأتنـي بعد سقم من هواها مفيقا:
أتغيرت كأن لم تكن لـي قبل أن تعرف دنيا صديقا
قد لعمري كان ذاك ولكن قطعت دنيا عليك الطريقا شعر له يدل على أنه كان يكنى بدنيا عن فاطمة: أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال: لما ولي عمر بن حفص هزار مرد بالبصرة -قال ابن أبي عيينة في ذلك وفي دنيا يكنى بها عن فاطمة بنت عمر بن حفص صاحبته:
هنيئا لدنيا هنـيئا لـهـا قدوم أبيها على البصره
على أنها أظهرت نخـوة وقالت لي الملك والقدره
فيا نور عيني كذا عاجلا علي تطاولت بالإمـره قال: وهذا دليل على أنه كان يكنى عن فاطمة بدنيا، لا أنه كان يهوى جاريتها دنيا.
قال أحمد بن يزيد: وفيها يقول أيضا:
يا حسنها يوم قالـت لـي مـودعة لا تنس ما قلت، من فيها إلى أذني
كأنني لـم أصـل دنـيا عـلانـية ولم أزر أهل دنيا زورة الخـتـن
جسمي معي غير أن الروح عندكم فالروح في وطن والجسم في وطن
فليعجب الناس مني أن لي جـسـدا لا روح فيه ولي روح بـلا بـدن وفي هذه الأبيات هزج طنبوري محدث.
يرثي أخاه داود وقد مات في طريقه إليه: أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال: ورد على ابن أبي عيينة كتاب من بعض أهله بأن أخاه داود خرج إليه ببريد ، فمات بهمذان، فقال ابن أبي عيينة عند ذلك يرثيه:
أنائحة الحمام قفي فـنـوحـي على داود رهنا فـي ضـريح
لدى الأجيال من همذان راحـت به الأيام للـمـوت الـمـريح
ولم يشهد جنازته الـبـواكـي فتبكيه بـمـنـهـل سـفـوح
وكوني مثـلـه إذ كـان حـيا جوادا بالغبوق وبالـصـبـوح
أنائحة الحمام فـلا تـشـحـي عليه فليس بالرجل الشـحـيح
ولا بمـثـمـر مـالا لـدنـيا ولا فيها بمغـمـار طـمـوح
يبيع كثير مـا فـيهـا بـبـاق ثمين من عـواقـبـه ربـيح
ومن آل المهلب فـي لـبـاب لباب الخالص المحض الصريح
همـو أبـنـاء آخـرة ودنـيا وأهداف المراثـي والـمـديح يقدم إلى الكوفة فيحب قينة فيها: أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن يزيد عن أبيه قال: قدم أبو عيينة إلى الكوفة في بعض حوائجه، فعاشره جماعة من وجوه أهلها، وأقام بها مدة، وألف فيها قينة كان يعاشرها وأحبها حبا شديدا، فقال فيها:
لعمري لقد أعطيت بالكوفة المنى وفوق المنى بالغانيات النـواعـم
ونادمت أخت الشمس حسنا فوافقت هواي ومثلي مثلهـا فـلـينـادم
وأنشدتها شعري بدنيا فعـربـدت وقال: ملول عـهـده غـير دائم
فقلت لها يا ظبية الكوفة اغفـري فقد تبت مما قلـت تـوبة نـادم
فقالت قد استوجبت منا عـقـوبة ولكن سنرعى فيك روح ابن حاتم شعره في بستان له وضيعة: قال أحمد بن يزيد، قال لي أبي: كان لابن أبي عيينة بستان وضيعة في بعض قطائع المهلب بالبصرة، فأوطنها وصيرها منزله، وأقام بها، وفيها يقول:
يا جنة فاقت الجنان فما تبلغها قيمة ولا ثـمـن
ألفتها فاتخذتها وطـنـا إن فؤادي لأهلها وطن
زوج حيتانها الضباب بها فهذه كـنة وذا خـتـن
صفحة : 2235
فانظر وفكر فيما نطقت به إن الأريب المفكر الفطن
من سفن كالنعام مقـبـلة ومن نعام كأنهـا سـفـن ينشد الموصلي من شعره: أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا الزبير بن بكار وقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أن أبا عيينة أنشده لنفسه: صوت
لا يكن منك ما بدا لي بعينـي ك من اللحظ حيلة واختداعـا
إن يكن في الفؤاد شـيء وإلا فدعيني لا تقتليني ضـياعـا
فلعلي إذا قربـت تـبـاعـد ت وأظهرت جفوة وامتناعـا
حين نفسي لا تستطيع لما قـد وقعت فيه من هواها ارتجاعا في هذه الأبيات رمل مطلق محدث.
كان أخوه عبد الله شاعرا وله شعر في عتاب خالد البرمكي: أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن يزيد قال: حدثني أبي قال: كان عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة شاعرا، وهو القائل يعاتب محمد بن يحيى بن خالد البرمكي بأبيات رائية أولها:
اسلم وإن كان فيك عـنـي قبض لـكـفـيك وازورار
تلحظني عابسـا قـطـوبـا كأنـمـا بـي إلـيك ثـار
لو كان أمر عتـبـت فـيه يجوز منه لـي اعـتـذار
أو كنـت سـآلة حـريصـا لحان مني لـك الـفـرار
أو كنت نذلا عـديم عـقـل لا منصب لي ولا نـجـار
أولم أكن حاملا بنـفـسـي ما تحمل الأنفس الكـبـار
وأنني من خـيار قـومـي وكل أهلي فـتـى خـيار
عذرت إن نالنـي جـفـاء منك وإن نالـنـي ضـرار
لكـن ذنـبـي إلـيك أنـي قحطان لي الجـد لا نـزار
عليك مني الـسـلام، هـذا أوان ينأى بـي الـمـزار
ما كنت إلا كلـحـم مـيت دعا إلى أكله اضـطـرار
راحت على الناس لابن يحيى محـمـد ديمة غـــزار
ولم يكن ما أنـلـت مـنـه بقدر ما ينجلي الـغـبـار
قد أصبح الناس في زمـان أعلامه السفـلة الـشـرار
يستأخر السابق الـمـذكـى فيه ويستقـدم الـحـمـار
وليس للمرء مـا تـمـنـى يوما وما إن لـه اخـتـيار
ما قـدر الـلـه فـهـو آت وفي مـقـاديره الـخـيار يهجو قبيصة بن روح المهلبي، ويمدح داود بن عمه: أخبرني عمي قال: حدثنا أبو هفان، قال: كان ابن أبي عيينة قد قصد ربيعة بين قبيصة بن روح بن حاتم المعلبي واستماحه، فلم يجد عنده ما قدر فيه، فانصرف مغاضبا، فوجه إليه داود ابن مزيد بن حاتم بن قبيصة، وبلغ ما أحبه ورضيه من بره، ومعونته، فقال يمدحه ويهجو قبيصة:
أقبيص لست وإن جهدت بمدرك سعي ابن عمك ذي العـلا داود
شتان بينك يا قـبـيص وبـينـه إن المذمم ليس كالمـحـمـود
أختار داود بـنـاء مـحـامـد واخترت أكل شبـارق وثـريد
قد كان مجد أبيك لو أحبـبـتـه روح أبى خلف كمـجـد يزيد
لكن جرى داود جري مـبـرز فحوى المدى وجريت جري بليد
داود محمـود وأنـت مـذمـم عجبا لذاك وأنتمـا مـن عـود
ولرب عود قد يشق لمـسـجـد نصفا وسائره لـحـش يهـود
فالحش أنت له وذاك لمسـجـد كم بين موضع مسلح وسجـود
هذا جزاؤك يا قـبـيص لأنـه جادت يداه وأنت قفـل حـديد يدعوه حذيفة مولى جعفر بن سليمان إلى مجلس فيقول في ذلك شعرا: حدثني جعفر بن قدامة قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي قال: كانت لأبي حذيفة مولى جعفر بن سليمان جارية مغنية يقال لها: بستان، فبلغه أن أبا عيينة بن محمد بن عيينة ذكر لبعض إخوانه محبته لها ولاستماع غنائها فدعاه، وسأله أن يطرح الحشمة بينه وبينه، فأجابه إلى ذلك، وقال لما سكر وانصرف من عنده في ذلك:
ألم ترني على كسلي وفتري أجبت أبا حذيفة إذ دعانـي
وكنت إذا دعيت إلى سماع أجبت ولم يكن مني تواني
كأنا من بشاشتنا ظلـلـنـا بيوم ليس من هذا الزمـان
صفحة : 2236
يهجو عيسى بن موسى لأنه لم يعطه سمادا لضيعته: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بالقاسم بن مهرويه قال: حدثني محمد بن عمثان قال: كانت لعيسى بن موسى ضيعة إلى جانب ضيعة ابن أبي عيينة بالبصرة، وكان له إلى جانب ضيعته سماد كثير، فسأله أن يعطيه بعضه ليعمر ابن أبي عيينة به ضيعته، فلم يفعل فقال فيه:
رأيت الناس همه المعـالـي وعيسى همه جمع السـمـاد
ورزق العالمين بكـف ربـي وعيسى رزقه في است العباد هكذا ذكره ابن مهرويه، وهذا بيت فاسد، وإنما هو:
إذا رزق العباد فإن عيسى له رزق من استاه العباد أخباره مع ابن عمه خالد وسبب هجائه إياه: ولابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد أخبار جمة أذكرها هاهنا والسبب الذي حمله على هجائه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش ببعضها، عن محمد بن يزيد المبرد، وببعضها عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه، وقد جمعت روايتهما فيما اتفقا عليه، ونسبت كل ما انفرد به أحدهما أو خالف فيه غليه، وذكرت في فصول ذلك وخلاله ما لم يأتيا به مما كتبته عن الرواة، قالا جميعا: ولي خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب جرحان، فسأل يزيد بن حاتم أبا عيينة أن يصحبه ويخرج معه، ووعده الإحسان والولاية، وأوسع له المواعيد. وكان أبو عيينة جنديا، فجرد اسمه في جريدته، وأخرج رزقه معه، فلما حصل لجرجان أعطاه رزقه لشهر واحد، واقتصر على ذلك، وتشاغل عنه وجفاه، فبلغه أنه قد هجاه وطعن عليه، وبسط لسانه فيه، وذكره بكل قبيح عند أهل عمله ووجوه رعيته، فلم يقدر على معاقبته، لموضع أبيه وسنه ومحله في أهله، فدعا به، وقال له: إنه قد بلغني أنك تريد أن تهرب فإما أن أقمت لي كفيلا برزقك أو رددته، فأتاه بكفيل فأعنته، ولم يقبله، ولم يزل يردده حتى ضجر، فجاءه بما قبض من الرزق فأخذه.
من هجائه لابن عمه: ولج أبو عيينة في هجائه وأكثر فيه حتى فضحه، فقال في هذا عن أحمد بن يزيد المهلبي:
دنيا دعوتك مسرعـا فـأجـيبـي وبما اصطفيتك في الهوى فأثيبـي
دومي أدم لك بالصفاء على النـوى إني بعهدك واثق فـثـقـي بـي
ومن الدليل على اشتياقي عبرتـي ومشيب رأسي قبل حين مشيبـي
أبكي إليك إذا الحمـامة طـربـت يا حسن ذاك إلي مـن تـطـريب
تبكي على فنن الغصـون حـزينة حزن الحبيبة من فراق حـبـيب
وأنا الغريب فلا ألام على البـكـا إن البكا حسـن بـكـل غـريب
أفلا ينادى للـقـفـول بـرحـلة تشفى جوى من أنفس وقـلـوب
ما لي اصطفيت على التعسف خالدا والله ما أنـا بـعـدهـا بـأريب
تبا لصحبة خالـد مـن صـحـبة ولخالد بن يزيد من مـصـحـوب
يا خالد بن قبيصة هـيجـت بـي حربا فدونك فاصطبر لحـروبـي
لما رأيت ضمير غشـك قـد بـدا وأبيت غير تجـهـم وقـطـوب
وعرفت منك خلائقا جـربـتـهـا ظهرت فضائحها على التجـريب
خليت عنك مفارقا لك عن قـلـى ووهبت للشيطان منك نصـيبـي
فلئن نظرت إلى الرصـافة مـرة نظرا يفرج كربة الـمـكـروب
لأمزقـنـك قـائمـا أو قـاعـدا ولأروين علـيك كـل عـجـيب
ولتـأتـين أبـاك فـيك قـصـائد حبرتها بتـشـكـر مـقـلـوب
ولينشدن بـهـا الإمـام قـصـيدة ولتشتمن وأنـت غـير مـهـيب
ولأوذينـك مـثـلـمـا آذيتـنـي ولأشلين على نـعـاجـك ذيبـي يهجو ابن عمه وقد كتب إليه أخوه بسلامته وسلامة أهل بتيه: قال أحمد بن يزيد في خبره: حدثني أبي قال: أعرس داود بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة بالبصرة، وأخوه غائب يومئذ مع ابن عمه خالد بجرجان، فكتب داود إلى أخيه يخبره بسلامته وسلامة أهل بيته، وبخبر نقله أهله إليه، فقال أبو عيينة في ذلك:
ألا ما لعينك متعـلة ومنا لدموعك منهله
صفحة : 2237
وكيف بجرجان صبر امـرئ وحيد بها غـير ذي خـلـه
وأطول بليلـك أطـول بـه إذا عسكر القوم بـالأثـلـه
وراعك من خـيلـه حـائر من القوم ليست له قـبـلـه
يسوقك نحوهـم مـكـرهـا وداود بالمصر في غفـلـه
وما مـدنـف بـين عـواده ينادي وفي سمعه ثـقـلـه
بأوجع منـي إذا قـيل لـي: تأهب إلى الري بالرحـلـه
ومالي وللري لولا الـشـقـا ء إن كنت عنها فلي عزلـه
أكلف أجبـالـهـا شـاتـيا على فرس أو على بغـلـه
وأهون من ذاك لو سهـلـوه ركوب القراقير في دجلـه
تروح إلينـا بـهـا طـربة رواح الندامـى إلـى دلـه
أخالد خذ مـن يدي لـطـمة تغيظ من قدمـي ركـلـه
جمعت خصال الردى جمـلة وبعت خصال الندى جملـه
فمالك في الخير مـن خـلة وكم لك في الشر من خلـه
ولما تناضل أهـلا الـعـلا نضلت فأذعنت للنـضـلـه
فما لك في المجد يا خـالـد مقرطسة لا ولا خصـلـه
وأسرعت في هدم ما قد بنى أبوك وأشـياخـه قـبـلـه
وكانت من النبع عـيدانـهـم نضارا وعودك من أثـلـه
فيا عجبا نـبـعة أنـبـتـت خلافا وريحـانة بـقـلـه
ثيابك لـلـعـبـد مـطـوية وعرضك للشم والـبـذلـه
أجعت بنـيك وأعـريتـهـم ولم تؤت في ذاك من قلـه
إذا ما دعينا لقبض العـطـاء وهيأت كيسك لـلـغـلـه
وجلة تمر تـغـادي بـهـا فتأتي على آخر الـجـلـه
وتقصي بنيك وهم بالـعـرا ء نزلهم الملـح والـمـلـه
ولو كان خبز وتمـر لـديك لما طمعوا منك في فضلـه
وتصبح تقلس عـن تـخـمة كأن جشاءك عن فـجـلـه
إذا الـحـي راعـهـم رائع فأوهن من غادة طـفـلـه
وليث يصول علـى قـرنـه إذا ما دعيت إلـى أكـلـه
فللـه درك عـنـد الـخـوا ن من فارس صادق الحمله
وإن جاءك الناس في حـاجة تفكرت يومين في العـلـه
وتلقـاهـم أبـدا كـالـحـا كأن قد عضضت على بصله
فهذا نصيبـي مـن خـالـد لكـم هـنة بـتة بـتـلـه
وإني لصحبتـه مـبـغـض ولا خير في صحبة السفلـه ينشد مسلم بن الوليد من هجائه في ابن عمه: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي قال: حدثني أبو الحسن بن المنجم قال: رأيت مسلم بن الوليد الأنصاري يوما عند أبي، ثم خرج من عنده، فلقيه ابن أبي عيينة، فسلم عليه وتحفى به، ثم قال له: ما خبرك مع خالد? قال: الخبر الذي تعرفه، ثم أنشده قوله فيه:
يا حفص عاط أخاط عاطه كأسا تهيج من نشـاطـه قال: ومسلم يتبسم من هجائه إياه حتى مر فيها كلها، ثم ختمها بقوله:
وإذا تطاولت ولـت الـرؤ وس فغط رأسك ثم طاطه فقال مسلم: مه، إن لله هتكته والله وأخزيته، وإنما كنت أظن أنك تمزح وتهزل إلى آخر قولك حتى ختمته بالجد القبيح، وأفرطت فيما خرجت به إليه، ثم مضى وهو يقول: فضحته والله، هتكته والله.
يستنشده دعبل من هجائه لابن عمه فينشده: أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن يزيد قال: حدثني أبي قال: لقي دعبل أبا عيينة فقال له: أنشدني قولك في ابن عمك فأنشده:
يا حفص عاط أخاك عاطه كأسا تهيج من نشـاطـه
صرفا يعود لـوقـعـهـا كالظبي أطلق من رباطه
صبا طرت عنه الهـمـو م نعيمه بعد انبـسـاطـه
فبكى وحق لـه الـبـكـا لشقائه بعد اغتـبـاطـه
جزع المخـنـث خـالـد لما وقعت على قماطـه
فانظـر إلـى نـزواتـه من منطقي وإلى اختلاطه
دعـنـي وإيا خـالـــد فلأقطعن عرى نـياطـه
صفحة : 2238
إنـي وجـدت كـلامــه فبه مشابه من ضـراطـه
رجل يعـد لـك الـوعـي د إذا وطئت على بساطـه
وإذا انـتـظـرت غـداءه فخف البوادر من سياطـه
يا خال صد المـجـد عـن ك فلن تجوز على صراطه
وعريت من حلل الـنـدى عري اليتيم ومـن رياطـه
فإذا تـطـاولـت الـرؤو س فغط رأسك ثم طاطـه قال له دعبل: أغرقت والله في النزع وأسرفت، وهتكت ابن عمك وقتلته وغضضت منه، وإنما استنشدتك وأنا أظن أنك قلت كما يقول الناس قولا متوسطا، ولو علمت أنك بلغت به هذا كله لما استنشدتك .
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي وعمي قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني الحسين بن السري قال: لقي دعبل أبا عيينة فقال له: أنشدني بعض ما قلت في ابن عمك، ثم ذكر الخبر مثل ما ذكره أحمد بن يزيد، وقال فيه: إنما ظننت أنك قلت فيه قولا أبقيت معه عليه بعض الإبقاء، ولو علمت أنك بلغت به هذا كله وأغرقت هذا الإغراق ما استنشدتك، وجعل يعيد فغط رأسك ثم طاطه ، ويقول: قتله الله من مختار هجائه في خالد: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد قال: ومن مختار ما قاله في خالد قوله:
قل لـدنـيا بـالـلـه لا تـقــطـــعـــينـــا واذكـرينـا فـي بـعـض مـا تـذكـــرينـــا
لا تـخـونـي بـالـغـيب عــهـــد صـــديق لم تـخــافـــيه ســـاعة أن يخـــونـــا
واذكري عيشنا وإذ نفض الريح علينا الخيري والياسمينا
إذ جعلنا الشاهسفرام فراشا من أذى الأرض والـظـلال غـــصـــونـــا
حفـظ الـلـه إخـوتـي حـــيث كـــانـــوا من بـلاد ســارين أم مـــدلـــجـــينـــا
فتـية نــازحـــون عـــن كـــل عـــيب وهـم فـي الـمـــكـــارم الأولـــونـــا
وهم الأكثرون يعلم ذاك الناس، والأطيبون للأطيبـينـا
أزعجتني الأقدار عنهم وقد كنت بقربي منهم شحيحا ضنينا
وتبدلت خالدا لعنة الله عليه ولعنة اللاعنينا
رجل يقهر اليتيم ولا يؤ تى زكـاة وينـهـر الـمـــســـكـــينـــا
ويصـون الـثـــياب والـــعـــرض بـــال ويرائي ويمـنـــع الـــمـــاعـــونـــا
نزع الله منه صالح ما أعطاه آمين عـاجـلا آمـنـا
فلعمر المبادرين إلى مكة وفدا غادين أو رائحينا
إن أضياف خالد وبنيه ليجـوعـون فـوق مـا يشــبـــعـــونـــا
وتـراهـم مـن غـير نـســك يصـــومـــو ن ومـن غـير عـلة يحـــتـــمـــونـــا
يا بـنـــي خـــالـــد دعـــوه وفـــروا كم عـلـى الـجـوع ويحـكـم تـصـبـرونـــا من مشهور هجائه في خالد: قال محمد بن يزيد: ومن مشهور شعره في قصيدته التي أولها:
ألا خبروا إن كان عندكـم خـبـر أنقفل أن نثوي على الهم والضجر?
نفى النوم عن عيني تعرض رحـلة بها الهم واستولى بها بعده السهـر
فإن أشك من ليلي يجرجان طولـه لقد كنت أشكو فيه بالبصرة القصر
فيا حبذا بطن الخـرير وظـهـره ويا حسـن واديه إذا مـاؤه زخـر
ويا حبذا نهـر الأبـلة مـنـظـرا إذا مد في إبانه النهـر أو جـزر
وفتيان صدق همهم طلب الـعـلا وسيماهم التحجيل في الجد والغرر
لعمري لقد فارقتهـم غـير طـائع ولا طيب نفسا بـذاك ولا مـقـر
وقائلة مـاذا نـأى بـك عـنـهـم فقلت لها لا علم لي فسلي القـدر
فيا سفرا أودي بلـهـوى ولـذتـي ونغصني عيشي عدمتك من سفـر
دعوني وإيا خـالـد بـعـد سـاعة سيحمله شعري على الأبلق الأغر
كأني بصدق القول لمـا لـقـيتـه وأعلمته ما فيه ألقمته الـحـجـر
دنيء به عـن كـل خـير بـلادة لكل قبيح عن ذراعيه قد حـسـر
له منظر يعمي العـيون سـمـاجة وإن يختبر يوما فيا سوء مختـبـر
أبوك لنا غـيث يعـاش بـوبـلـه وأنت جراد لبس يبـقـي ولا يذر
له اثر في المكـرمـات يسـرنـا وأنت تعفـي دائمـا ذلـك الأثـر
صفحة : 2239
لقد قنعت قحطان خزيا بخـالـد فهل لك فيه يخزك الله يا مضر قول الرشيد وقد أنشد بيتا في هجاء خالد: أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عمي قال: أنشد الرشيد قول بن أبي عيينة:
لقد قنعت قطحان خزيا بخـالـد فهل لك فيه يخزك الله يا مضر فقال الرشيد: بل يوقرون ويشكرون.
يجمع هجاء رجل ومدح أبيه في بيت: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: قال لنا أبو العباس محمد بن يزيد: لم يجتمع لأحد من الحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومديح أبيه كما اجتمع لابن عيينة في قوله:
أبوك لنا غيث نعيش بوبـلـه وأنت جراد ليس يبقى ولا يذر من جيد هجائه في خالد أيضا:
على إخوتي مني السلام تـحـية تحية مثـن بـالأخـوة حـامـد
وقل لهم بعد الـتـحـية أنـتـم بنفسي ومالي من طريف وتالـد
وعز عليهـم أن أقـيم بـبـلـدة أخا سقم فيها قـلـيل الـعـوائد
لئن ساءهم ما كان من فعل خالد لقد سرهم ما قد فعلت بخـالـد
وقد علموا أن ليس مني بمفلـت ولا يومه المسكين مني بواحـد
أخالد لا زالت من اللـه لـعـنة عليك وإن كنت ابن عمي وقائدي
أخالد كانت صحبـتـيك ضـلالة عصيت بها ربي وخالفت والدي
وأرسل يبقي الصلح لما تكنفـت عوارض جنبيه سياط القصـائد
فأرسلت بعد الشر أني مسـالـم إلى غير ما لا تشتهي غير عائد هو أهجى المحدثين في عصره: أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: زعم القحذمي أن الرشيد قال للفضل بن الربيع: من أهجى المحدثين عندك يا فضل في عصرنا هذا? قال: الذي يقول في ابن عمه:
لو كان ينقص يزدا د إذا نال السمـاء
خالد لـولا أبـوه كان والكلب سواء
أنا ما عشت عليه أسوأ الناس ثنـاء
إن من كان مسيئا لحقيق أن يسـاء فقال الرشيد: هذا ابن أبي عيينة، ولعمري لقد صدقت.
يقرأ الهادي قصيدة أرسلها إليه فيرده من جيش خالد: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي قال: كان ابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد بجرجان، فأساء به وجفاه، وكان لابن أبي عيينة صديقان من جند خالد من أهل البصرة، أحدهما مهلبي والآخر مولي للأزد، وكلهم شاعر ظريف، فكانوا يمدحون السراة من أهل جرجان فيصيبون منهم ما يقوتهم. وولى موسى الهادي الخلافة فكتب ابن عيينة إلى من كان في خدمة الخلفاء من أهله بهذه القصيدة:
كيف صـبـري ومـنــزلـــي جـــرجـــان والـــعـــراق الـــبـــلاد والأوطـــان?
نحـن فــيهـــا ثـــلاثة حـــلـــفـــاء ونـدامـى عـلـــى الـــهـــوى إخـــوان
نتساقى الهوى ونطرب للذكر كما تطرب النشاوي القيان
وإذا ما بكى الحمام بكينا لبــكـــاه كـــأنـــنـــا صـــبـــيان
يا زمـانـي الـمـاضـي بـبـغـداد عــد لـــي طالـمـا قـد ســـررتـــنـــي يا زمـــان
يا زمـانـي الـمـسـيء أحـسـن فـقـــدمـــا كان عـنـدي مـن فـعـلـــك الإحـــســـان
ما يريد العذال مني أما يترك أيضا بغمـه الإنـسـان?
ويقولون أملك هواك وأقصر قلـت مـالـي عـلـى الـهـوى سـلــطـــان
أيهـا الـكـاتـم الـــحـــديث وقـــد طـــا ل بـه الأمـر وانـتـهـى الـكـــتـــمـــان
قد لـعـمـري عـرضـت حـينــا فـــبـــين ليس بـعـد الـتــعـــريض إلا الـــبـــيان
واتـخـذ خـالـــدا عـــدوا مـــبـــينـــا ما تـعـادى الإنـســـان والـــشـــيطـــان
والـه عـنـه فـمـــا يضـــرك مـــنـــه عض كـلـب لـيســـت لـــه أســـنـــان
ولعمري لولا أبوه لنالته بـسـوء مـنـي يد ولـسـان
قل لفتياننا المقيمين بالبا ب ثـقـوا الـــنـــجـــاح يا فـــتـــيان
لا تـخـافـوا الـزمـان قـد قـام مـــوســـى فلـكــم مـــن ردى الـــزمـــان أمـــان
أولـم تـأتـــه الـــخـــلافة طـــوعـــا طاعة لـيس بــعـــدهـــا عـــصـــيان?
فهـي مـنـقـادة لـمــوســـى وفـــيهـــا عن ســـواء تـــقـــاعـــس وحــــران
قل لـمـوسـى يا مـلـك الـمـلـك طــوعـــا بقـــياد وفـــي يديك الـــعـــنـــــان
صفحة : 2240
أنت بحر لـنـا ورأيك فـينـا خير رأي لـنـا سـلـطـان
فاكفنا خالدا فقد سامنا الخسـف رماه لحتـفـه الـرحـمـن
كم إلى كم يغضى على الذل منه وإلى كم يكون هذا الـهـوان? قال: فلما قرأ هذه القصيدة موسى الهادي أمر له بصلة، وأعطاه ما فات من رزقه، وأقفله من جيش خالد إليه.
صوت
أين محل الحـي يا وادي? خبر سقاك الرائح الغادي
مستصحب للحرب خيفـانة مثل عقاب السرحة العادي
بين خدور الظعن محجوبة حدا بقلبي معها الحـادي
وأسمرا في رأسـه أزرق مثل لسان الحية الصـادي الشعر لدعبل بن علي الخزاعي، والغناء لأحمد بن يحيى المكي، خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن أبي عبد الله الهشامي.
أخبار دعبل بن علي ونسبه
نسبه وكنيته: هو دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمر بن عامر بن مزيقيا ، ويكنى أبا علي.
شاعريته: شاعر متقدم مطبوع هجاء خبيث اللسان، لم يسلم عليه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة، أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبير أحد.
يناقض الكميت في مذهبته فيناقضه المخزومي: وكان شديد التعصب على النزارية للقحطانية، وقال قصيدة يرد فيها على الكميت بن زيد، ويناقضه في قصيدته المذهبة التي هجا بها قبائل اليمن.
ألا حييت عنا يا مرينا
فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فنهاه عن ذكر الكميت بسوء. وناقضه أبو سعد المخزومي في قصيدته وهجاه، وتطاول الشر بينهما، فخافت بنو مخزوم لسان دعبل وأن يعمهم بالهجاء، فنفوا أبا سعد عن نسبهم، وأشهدوا بذلك على أنفسهم.
تيشعه ومكافأة علي بن موسى الرضا له: وكان دعبل من الشيعة المشهورين بالميل إلى علي صلوات الله عليه، وقصديته:
مدارس آيات خلت من تلاوة من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت، عليهم السلام، وقصد بها أبا الحسن علي بن موسى الرضا، عليه السلام، بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه، وخلع عليه خلعة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف درهم، لم يبعها، فقطعوا عليه الطريق فأخذوها، فقال لهم: إنها إنما تراد الله عز وجل، وهي محرمة عليكم، فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فردكم، فكان في أكفانه.
وكتبت قصيدته: مدارس آيات فيما يقال على ثوب، وأحرم فيه، وأمر أن يكون في أكفانه. ولم يزل مرهوب اللسان وخائفا من هجائه للخلفاء، فهو دهره كله هارب متوار.
حدثني إبراهيم بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال:
رأيت دعبل بن علي وسمعته يقول: أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحدا يصلبني عليها. إبراهيم بن المهدي يحرض المأمون عليه: حدثني عمي قال: حدثنا ميمون بن هارون قال: قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولا في دعبل يحرضه عليه، فضحك المأمون، وقال: إنما تحرضني عليه لقوله فيك:
يا معشر الأجناد لا تقطـنـوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطـون حـنـينـية يلتذها الأمـرد والأشـمـط
والمـعـبـديات لـقـوادكـم لا تدخل الكيس ولا تـربـط
وهـكـذا يرزق قـــواده خليفة مصحفـه الـبـربـط فقال له إبراهيم: فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين، فقال: دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا، وضحك. ثم دخل أبو عباد، فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم: دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد? فقال له: وكأن أبا عباد أبسط يدا منك يا أمير المؤمنين? قال لا، ولكنه حديد جاهل لا يؤمن، وأنا أحلم وأصفح. والله ما رأيت أبا عباد مقبلا إلا أضحكني قول دعبل فيه:
أولى الأمور بضيعة وفساد أمر يدبره أبـو عـبـاد
وكأنه من دير هزقل مفلت حرد يجر سلاسل الأقـياد ما قاله أبوه من الشعر:
صفحة : 2241
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي قال: أخبرني دعبل بن علي قال: قال لي أبي علي بن رزين: ما قلت شيئا من الشعر قط إلا هذه الأبيات:
خليلي ماذا أرتجي من غد امـرئ طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرأ قد ضن منه بمـنـطـق يسد به فقر امـرئ لـضـنـين وبيتين آخرين وهما:
أقول لما رأيت الموت يطلبني يا ليتني درهم في كيس مياح
فيا له درها طالت صيانـتـه لا هالك ضيعة يوما ولا ضاح اسمه واشتقاق دعبل: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الكاتب قال: حدثني أبو هفان قال: قال لي دعبل قال لي أبو زيد الأنصاري: مم اشتق دعبل? قلت: لا أدري، قال: الدعبل: الناقة التي معها ولدها.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثني العنزي قال: حدثني محمد بن أيوب قال: دعبل اسمه محمد وكنيته أبو جعفر، ودعبل: لقب لقب به.
وحدثني بعض شيوخنا عن أبي عمرو الشيباني قال: الدعبل: البعير المسن.
أحد اثنين ختم بهما الشعر: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: سمعت حذيفة بن الطائي يقول: الدعبل: الشيء القديم. قال ابن مهرويه: سمعت أبي يقول: ختم الشعر بدعبل، قال: وقال أبي: كان أبو محلم يقول: ختم الشعر بعمارة بن عقيل.
رده الكميت وضع قدره: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: سمعت أبي يقول: لم يزل دعبل عند الناس جليل القدر حتى رد على الكميت بن زيد:
ألا حييت عنا يا مرينا فكان ذلك مما وضعه. قال: وقال: فيه أبو سعد المخزومي:
وأعجب ما سمعـنـا أو رأينـا هجاء قـالـه حـي لـمـيت
وهذا دعبل كلـف مـعـنـى بتسطير الأهاجي في الكمـيت
وما يهجو الكميت وقد طواه الر دى إلا ابـن زانـية بــزيت من ظن أن كلمة دعبل شتم: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن زيد قال: حدثني دعبل قال: كنت جالسا مع بعض أصحابنا ذات يوم، فلما قمت سأل رجل لم يعرفني -أصحابنا عني، فقالوا: هذا دعبل، فقال: قولوا في جليسكم خيرا، كأنه ظن اللقب شتما.
يصيح في أذن مصرع: دعبل، فيفيق: أخبرني علي بن سليمان قال: حدثني محمد بن يزيد قال: حدثني دعبل قال: صرع مجنون مرة فصحت في أذنه: دعبل، ثلاث مرات، فأفاق.
وأخبرني بهذين الخبرين الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن يزيد عن دعبل -وزاد فيه: قال دعبل: وصرع مرة مجنون بحضرتي فصحت به: دعبل، ثلاث مرات فأفاق من جنونه.
سبب خروجه من الكوفة: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي أبو أحمد قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني علي بن عمرو بن شيبان قال: حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي، قال العنزي: وقد كتبت عن أبي خالد أشياء كثيرة ولم أكتب عنه هذا الخبر، قال: كان سبب خروج دعبل بن علي من الكوفة أنه كان يتشطر ويصحب الشطار، فخرج هو ورجل من أشجع فيما بين العشاء والعتمة، فجلسا على طريق رجل من الصيارفة، وكان يروح كل ليلة بكيسه إلى منزله، فلما طلع مقبلا إليهما وثبا إليه فجرحاه، وأخذا ما في كمه، فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة، ولم يكن كيسه ليلتئذ معه، ومات الرجل مكانه، واستتر دعبل وصاحبه، وجد أوليا الرجل في طلبهما، وجد السلطان في ذلك، فطال على دعبل الاستتار، فاضطر إلى أن هرب من الكوفة. قال أبو خالد: فما دخلها حتى كتبت إليه أعلمه أنه لم يبق من أولياء الرجل أحد.
يشرح أسباب هجائه الناس: أخبرني محمد بن عمران قال: حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي قال:
صفحة : 2242
قلت لدعبل: ويحك قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعا، فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف، فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك فقال: ويحك? إن تأملت ما تقول، فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه. وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقول، فإذا رآك قد اوجعت عرض غيره وفضحته -اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك، يا أبا خالد إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. فضحكت من قوله، وقلت: هذا والله مقال من لا يموت حتف أنفه.
البيت الذي عرف به: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني الحمدوي الشاعر قال: سمعت دعبل بن علي يقول: أنا ابن قولي:
لا تعجبي يا سلم من رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى وسمعت أبا تمام يقول: أنا ابن قولي:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للـحـبـيب الأول قال الحمدوي: وأنا ابن قولي في الطيلسان:
طال ترداده إلى الرقو حتى لو بعثناه وحده لتـهـدي قال الحمدوي: معنى قولنا: أنا ابن قولي، أي أني به عرفت.
يسرق بيتا ويتفوق فيه على صاحبه: أخبرني علي بن صالح قال: حدثني أبو هفان قال: قال مسلم بن الوليد:
مستعير يبكي علـى دمـنة ورأسه يضحك فيه المشيب فسرقه دعبل، فقال:
لا تعجبي يا سلم مـن رجـل ضحك المشيب برأسه فبكرى فجاء به أجود من قول مسلم، فصار أحق به منه.
قال أبو هفان: فأنشدت يوما بعض البصريين الحمقى قول دعبل:
ضحك المشيب برأسه فبكى فجاءني بعد أيام، فقال: قد قلت أحسن من البيت الذي قاله دعبل: فقلت له: وأي شيئ قلت? فتمنع ساعة، ثم قال: قلت:
قهقه في رأسك القتير أخبرني بهذه الحكاية الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي هفان، قال: ذكر نحوه، وزاد فيه ابن مهرويه وحدثني الحمدوي قال: سمع رجل قول المأمون:
قبلته من بـعـيد فاعتل من شفتيه فقال:
رق حتى تورمت شفتاه إذ توهمت أن أقبل فاه يرتاح له غنت جارية به: أخبرني علي بن الحسن قال: حدثني ابن مهرويه: حدثني أبو ناجية -وزعم أنه من ولد زهير بن أبي سلمى- قال: كنت مع دعبل بن شهرزور ، فدعاه رجل إلى منزله وعنده قينة محسنة فعنت الجارية بشعر دعبل:
أين الشبـاب وأية سـلـكـا? لا، أين يطلب? ضل، بل هلكا قال: فارتاح دعبل لهذا الشعر قال: قد قلت هذا الشعر منذ سبعين سنة.
نسبة هذا الصوت صوت
أين الشبـاب وأية سـلـكـا? لا، أين يطلب، ضل، بل هلكا
لا تعجبي يا سلم مـن رجـل ضحك المشيب برأسه فبكـى
يا ليت شعري كيف تومكـمـا يا صاحبي إذا دمي سـقـكـا
لا تأخذوا بظـلامـتـي أحـدا قلبي وطرفي في دمي اشتركا قال: والغناء لأحمد بن المكي، ثقيل أول بالوسطى مطلق.
يسرق من شعر الحسين بن مطير: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو المثنى أحمد بن يعقوب بن أخت أبي بكر الأصم قال: كنا في مجلس الأصمعي، فأنشده رجل لدعبل قوله:
لا تعجبي يا سلم من رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى فاستحسناه، فقال الأصمعي: إنما سرقه من قول الحسين بن مطير الأسدي:
أين أهل القباب بـالـدهـنـاء? أين جيراننا علـى الأحـسـاء
فارقونا والأرض ملـبـسة نـو ر الأقاحي تـجـاد بـالأنـواء
كل يوم بـأقـحـوان جـــديد تضحك الأرض من بكاء السماء يهجو جماعة أكلوا ديكا له وقع عليهم: أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني أحمد بن خالد قال:
صفحة : 2243
كنا يوما بدار صالح بن علي من عبد القيس ببغداد، ومعنا جماعة من أصحابنا، فسقط على كنينة في سطحه - ديك طار من دار دعبل، فلما رأيناه قلنا هذا صيدنا، فقال صالح: ما نصنع به? قلنا: نذبحه، فذبحناه، وشويناه. وخرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح، فطلبه منا، فجحدناه، وشربنا يومنا. فلما كان من الغد خرج دعبل فصلى الغداة، ثم جلس على المسجد، وكان ذلك المسجد مجمع الناس، يجتمع فيه جماعة من العلماء، وينتابهم الناس، فجلس دعبل على المسجد وقال:
أسر المؤذن صالح وضيوفـه أسر الكمي هفا خلال الماقط
بعثوا عليه بنيهم وبنـاتـهـم من بين ناتفة وآخر سامـط
يتنازعون كأنهم قد أوثـقـوا خاقان أو هزموا كتائب ناعط
نهشوه فانتزعت له أسنانهـم وتهشمت أقفاؤهم بالـحـائط قال: فكتبها الناس عنه ومضوا، فقال لي أبي وقد رجع إلى البيت: ويحكم، ضاقت عليكم المآكل، فلم تجدوا شيئا تأكلونه سوى ديك دعبل? ثم أنشدنا الشعر، وقال لي: لا تدع ديكا ولا دجاجة تقدر عليه إلا اشتريته، وبعثت به إلى دعبل، وإلا وقعنا في لسانه، ففعلت ذلك. قال وناعط قبيلة من همدان ومجالد بن سعيد ناعطي قال: وأصله جبل نزلوا به، فنسبوا إليه.
يهجو غير معين، ثم يذكر فيه اسم من يغضب عليه: إخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني أحمد بن أبي كامل قال: كان دعبل ينشدني كثيرا هجاء قاله، فأقول له: فيمن هذا? فيقول ما استحقه أحد بعينه بعد، وليس له صاحب، فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشعر فيه، وذكر اسمه في الشعر.
وقد أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أحمد بن أبي كامل بهذا الخبر بعينه، وزاد فيه-فيما ذكر ابن أبي كامل-أنه كان عند صالح هذا في يوم أخذه ديك دعبل، قال: وهو صالح بن بشر بن صالح بن الجارود العبدي.
يهجو أبا نضير الطوسي لأنه لم يرضه في مدحه: أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني أحمد بن محمد ابن أبي أيوب قال: مدح دعبل أبا نضير بن حميد الطوسي، فقصر في أمره ولم يرضه من نفسه، فقال عند ذلك دعبل فيه يهجوه:
أبا نضير تحلحل عن مجالـسـنـا فإن فيك لمن جاراك منتقـصـا
أنت الحمار حرونا إن وقعت بـه وإن قصدت إلى معروفه قمصـا
إني هززتك لا آلوك مجـتـهـدا لو كنت سيفا ولكني هززت عصا أبو تمام يهجوه ويتوعده: قال: فشكاه أبو نضير إلى أبي تمام الطائي، واستعان به عليه، فقال أبو تمام يجيب دعبلا عن قوله، ويهجوه
أدعبل إن تطاولت الـلـيالـي عليك فإن شعري سـم سـاعة
وما وفد الـشـيب عـلـيك إلا بأخلاق الدناءة والـضـراعة
ووجهك إن رضيت به نـديمـا فأنت نسيج وحدك في الرقاعه
ولو بدلتـه وجـهـا بـوجـه لما صليت يوما في جمـاعـه
ولكن قد رزقت بـه سـلاحـا لو استعصيت ما أعطيت طاعه
مناسب طيىء قسمت فدعـهـا فليست مثل نسبتك المشـاعـه
وروح منكبـيك فـقـد أعـيدا حطاما من زحامك في خزاعه قال العنزي: يقول إنك تزاحم خزاعة، تدعي أنك منهم ولا يقبلونك.
يهجو الخاركي لأنه هجاه: أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال: حدثني محمد بن أحمد بن أيوب قال: تعرض الخاركي النصري-وهو رجل من الأزد-لدعبل بن علي فهجاه، وسبه فقال فيه دعبل:
وشاعر عرض لي نفـسـه لخـارك آبـاؤه تـنـمـي
يشتم عرضي عند ذكري وما أمسى ولا أصبح من همي
فقلـت لا بـل حـبـذا أمة خيرة طاهـرة عـلـمـي
أكذب واللـه عـلـى أمـه ككذبه كان عـلـى أمـي يعده ابن المدبر أجسر الناس لهجائه المأمون: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال: لقيت دعبل بن علي، فقلت له: أنت أجسر الناس عندي وأقدمهم حيث تقول:
إني من القوم الذين سـيوفـهـم قتلت أخاك وشرفتك بمـقـعـد
رفعوا محلك بعد طول خمولـه واستنقذوك من الخضيض الأوهد
صفحة : 2244
فقال: يا أبا إسحاق، أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة، فلا أجد من يصلبني عليها.
يرثي ابن عم له: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: قال دعبل بن علي يرثي ابن عم له من خزاعة نعي إليه، قال محمد بن يزيد: ولقد أحسن فيها ما شاء:
كانت خزاعة ملء الأرض ما اتسعت فقص مر الليالي من حـواشـيهـا
هذا أبو القاسم الثـاوي بـبـلـقـعة تسقي الرياح عليه من سـواقـيهـا
هبت وقد علمت أن لا هبـوب بـه وقد تكـون حـسـيرا إذ يبـاريهـا
أضحة قرى للمنـايا إذ نـزلـن بـه وكان في سالـف الأيام يقـربـهـا حدثني الحسن بن مهرويه عن أبيه، فذكر أن المنعي إلى دعبل أبو القاسم المطلب بن عبد الله بن مالك، وأنه نعي إلى دعبل، وكان هو بالجبل، فرثاه بهذه الأبيات.
يتوعده إسماعيل بن جعفر، فيعيره بالهرب من زيد بن موسى: أخبرني الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد، قال: بلغ إسماعيل بن جعفر بن سليمان أن دعبلا هجاه، فتوعده بالمكروه وشتمه، وكان إسماعيل بن جعفر على الأهواز، فهرب من زيد بن موسى بن جعفر بن محمد لما ظهر وبيض في أيام أبي السرايا، فقال دعبل بن علي يعير إسماعيل بذلك:
لقد خلف الأهواز من خلف ظهـره يريد وراء الزاب من أرض كسكر
يهول إسماعيل بالبـيض والـقـنـا وقد فر من زيد بن موسى بن جعفر
وعاينته في يوم خـلـى حـريمـه فيا قبحها منه ويا حسن مـنـظـر كان يتشاطر بالكوفة وهرب منها معد ما قتل صيرفيا: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني ابن الأعرابي عن أبي خالد الأسلمي قال: كان دعبل بن علي الخزاعي بالكوفة يتشطر وهو شاب، وكانت له شعرة جعدة، وكان يدهنها ويرجلها حتى تكاد تقطر دهنا، وكان يصلت على الناس بالليل فقتل رجلا صيرفيا، وظن أن كيسه معه، فوجد في كمه رمانا فهرب من الكوفة، وكنت إذا رأيت دعبلا يمشي رأيت الشطارة في مشيته وتبختره.
يتطير من عمير الكاتب فيهجوه: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني الحسن بن أبي السري قال: كان عمير الكاتب أقبح الناس وجها، فلقي دعبلا يوما بكرة وقد خرج لحاجة له، فلما رآه دعبل تطير من لقائه، فقال فيه:
خرجت مبكرا من سر من را أبادر حاجة فـإذا عـمـير
فلك أثن العنان وقلت أمضي فوجهك يا عمير خزا وخير ?يهدد عبد الرحمن بن خاقان لأنه بعث إليه برذونا يظلع: أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني الحسن بن أبي السرمي قال حدثني دعبل قال:مدحت عبد الرحمن بن خاقان، وطلتب منه برذونا، فبعث إلى ببرذون غامز، فكتبت إليه:
حملت على قارح غامز فلا للركوب ولا للثمـن
حملت على زمن ظالـع فسوف تكافا بشكر زمن فبعث إلي ببرذون غيره فاره بسرجه ولجامه، وألفي درهم.
قال ابن مهرويه وحدثني إسحاق بن إبراهيم العكبري عن دعبل أنه مدح يحيى بن خاقان، فبعث إليه بهذا البرذون.
?يهجو خريجه الفضل بن العباس لأنه عابه: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: قال الحسين بن دعبل: كان أبي يختلف إلى الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، وهو خرجه وفهمه وأدبه، فظهر له منه جفاء، وبلغه أنه يعيبه ويذكره، وينال منه، فقال يهجوه:
يا بؤس للفضل لو لم يأت ما عابه يستفرغ السم من صماء قرضابه
ما إن يزال وفيه العيب يجمعـه جهلا لأعراض أهل المجد عيابه
إن عابني لم يعـب إلا مـؤدبـه ونفسه عاب لمـا عـاب أدابـه
فكان كاكلب ضراه مـكـلـبـه لصيده فعدا فاصطـاد كـلابـه ?يهجو ابن أبي دواد لأنه كان يطعن عليه: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو جعفر العجلي قال: كان أحمد بن دواد يطعن على دعبل بحضرة المأمون والمعتصم، ويسبه تقربا إليهما لهجاء دعبل إياهما، وتزوج أبي ابن دواد امرأتين من بني عجل في سنة واحدة، فلما بلغ ذلك دعبلا قال يهجوه:
غصبت عجلا على فرجين في سنة أفسدتهم ثم ما أصلحت من نسبـك
صفحة : 2245
ولو خطبت إلى طـوق وأسـرتـه فزوجوك لما زادوك في حسـبـك
نك من هويت ونل ما شئت من نشب أنت ابن زرياب منسوبا إلى نشبـك
إن كان قوم أراد الـلـه خـزيهـم فزوجوك ارتغابا منك في ذهـبـك
فذاك يوجب أن النبع تـجـمـعـه إلى خلافك في العيدان أو غربـك
ولو سكت ولم تخطب إلـى عـرب لما نبشت الذي تطويه من سبـبـك
عد البيوت التي ترضى بخطبتـهـا تجد فزارة العكلي مـن عـربـك قال: فلقيه فزارة العكلي، فقال له: يا أبا علي، ما حملك على ذكرى حتى فضحتني، وأنا صديقك? قال: يا أخي والله ما اعتمدتك بمكروه، ولكن كذا جاءني الشعر لبلاء صبه الله عز وجل عليك لم أعتمدك به.
???يهجو جارية عبثت به في مجلس: أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني أبو خالد الأسلمي الكوفي قال: أجتمعت مع دعبل في منزل بعض أصحابنا، وكانت عنده جارية مغنية صفراء مليحة حسنة الغناء، فوقع لها العبث بدعبل والتعنت والأذى له، ونهيناها عنه، فما انتهت، فأقبل علينا فقال: اسمعوا ما قلت في هذه الفاجرة، فقلنا: هات، فقد نهيناها عنك، فلم تنته، فقال:
تخضب كفا قطعت من زندها فتخضب الحناء من مسودها
كأنها والحل في مـرودهـا تكحل عينيها ببعض جلدهـا
أشبه شيء أستها بخـدهـا قال: فجلست الجارية تبكي، وصارت فضيحة، واشتهرت بالأبيات، فما انتفعت بنفسها بعد ذلك.
يحبسه العلاء بن منظور ويضربه في جناية بالكوفة فيخرج منها: أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني هارون قال: حدثني أبي وخالد قالا: كان دعبل قد جنى جناية بالكوفة وهو غلام، فأخذه العلاء بن منظور الأسدي، وكان على شرطة الكوفة من قبل موسى بن عيسى، فحبسه، فكلمه في عمه سليمان بن رزين، فقال: أضربه أنا خير من أن يأخذه غريب فيقطع يده، فلعله أن يتأدب بضربي إياه، ثم ضربه ثلثمائة سوط، فخرج من الكوفة، فلم يدخلها بعد ذلك إلا عزيزا.
كان يضرب في الأرض فلا يؤذيه الشراة ولا الصعاليك: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أحمد ابن أبي كامل قال: كان دعبل يخرج فيغيب سنين، يدور الدنيا كلها، ويرجع وقد أفاد وأثري. وكانت الشراة والصعاليك يلقونه فلا يؤذونه، ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه، وكان إذ لقيهم وضع طعامه وشرابه، ودعاهم إليه، ودعا بغلاميه ثقيف وشعف، وكانا مغنيين، فأقعدهما يغنيان، وسقاهم وشرب معهم، وأنشدهم، فكانوا قد عرفوه، وألفوه لكثرة أسفاره، وكانوا يواصلونه ويصلونه. وأنشدني دعبل بن علي لنفسه في بعذ أسفاره:
حللت محلا يقصر البرق دونه ويعجز عنه الطيف أن يتجشما يعده البحتري أشعر من مسلم بن الوليد: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال: قال لي البحتري: دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد، فقلت له: وكيف ذلك? قال: لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم. وكان يتعصب له.
يهجو صاحب بيت دب إلى رجل بات عنده: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا الفضل بن الحسن بن موسى البصري قال: بات دعبل ليلة عند صديق له من أهل الشأم، وبات عندهم رجل من أهل بيت لهياني يقال له حوي بن عمرو السككي جميل الوجه، فدب إليه صاحب البيت، وكان شيخا كبيرا فانيا قد أتى عليه حين، فقال فيه دعبل:
لولا حوى لبيت لهيانـي ما قام أير العزب الفاني
له دواة في سـراويلـه يليقها النازح والدانـي قال: وشاع هذان البيتان، فهرب حوي من ذلك البلد، وكان الشيخ إذا رأى دعبلا سبه، وقال: فضحتني أخزاك الله.
يتمنى موت من تكون له منة عنده: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني محمد بنالأشعث قال: سمعت دعبلا يقول: ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته.
يهجو شاعر بالري وهو هناك فيرتحل:
صفحة : 2246
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمر الجرجاني قال: دخل دعبل بن علي الري في أيام الربيع، فجاءهم ثلج لم يروا مثله في الشتاء، فجاء شاعر من شعرائهم فقال شعرا، وكتبه في رقعة هو:
جاءنا دعبل بثلج من الشعر فجادت سماؤنا بالثلوج
نزل الري بعدما سكن البر د وقـد أينـعـــت رياض الـــمـــروج
فكسانا ببرده لا كساه الله ثوبا من كرسف ملحوج قال: فألقي الرقعة في دهليز دعبل، فلما قرأها ارتحل عن الري.
هجاؤه لصالح الأضجم لأنه قصر عن حاجته: أخبرني محمد بن عمران قال: حدثنا العنزي قال: حدثنا أبو خالد الأسلمي قال: عرضت لدعبل حاجة إلى صالح بن عطية الأضجم، فقصر عنها، ولم يبلغ ما أحبه دعبل فيها، فقال يهجوه:
أحسن ما في صالح وجهه فقس على الغائب بالشاهد
تأملت عيني له خـلـقـه تدعو إلى تزنية الـوالـد فتحمل عليه صالح بي وبجماعة من إخوانه حتى كف عنه، وعرض عليه قضاء الحاجة، فأباها.
يهجو بني مكلم الذئب من خزاعة لأنهم فخروا عليه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال: فخر قوم من خزاعة على دعبل بن علي يقال لهم: بنو مكلم الذئب، وكان جدهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه أن الذئب أخذ من غنمه شاة فتبعه، فلما غشيه بالسيف قال له: ما لي ولك تمنعني رزق الله? قال فقلت: يا عجبا لذئب يتكلم فقال: أعجب منه أن محمدا نبي قد بعث بين أظهركم وأنتم لا تتبعونه، فبنوه يفخرون بتكليم الذئب جدهم، فقال دعبل بن علي يهجوهم:
تهتم علينا بأن الذئب كلمـكـم فقد لعمري أبوكم كلم الـذيبـا
فكيف لو كلم الليث الهصور إذا أفنيتم الناس مأكولا ومشروبـا
هذا السنيدي لا أصل ولا طرف يكلم الفيل تصعيدا وتصـويبـا يهجو محمد بن عبد الملك الزيات لأنه مدحه فلم يرضه: حدثني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبي قال: كان دعبل قد مدح محمد بن عبد الملك الزيات، فأنشده ما قاله فيه، وفي يده طومار قد جعله على فمه كالمتكئ عليه وهو جالس، فلما فرغ أمر له بشيء لم يرضه، فقال: يهجوه:
يا من يقلب طومارا ويلثمـه ماذا بقلبك من حب الطوامير
فيه مشابه من شيء تسربـه طولا بطول وتدويرا بتـدوير
لو كنت تجمع أموالا كجمعكها إذا جمعت بيوتا من دنـانـير ينزل بحمص فلم يبره رجلان من أهلها فيهجوهما: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبي قال: نزل دعبل بحمص على قوم من أهلها، فبروه ووصلوه سوى رجلين منهم يقال لأحدهما: أشعث وللآخر أبو الصناع ، فارتحل من وقته من حمص وقال فيهما يهجوهما:
إذا نزل الغريب بأرض حمص رأيت عليه عز الإمـتـنـاع
سمو المكركات بآل عـيسـى أحلهم على شرف الـتـلاع
هناك الخز يلبسه المـغـالـي وعيسى منهم سقط المـتـاع
فسدد لاست أشعث أير بـغـل وآخر في حر أم أبي الصناع
فليس بصانع مجـدا ولـكـن أضاع المجد فهو أبو الضياع شعره في الفضل بن مروان: أخبرني الحسن قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن الحسين بن دعبل قال: قال أبي في الفضل بن مروان:
نصحت فأخلصت النصيحة للـفـضـل وقلت فسيرت المقالة في الـفـضـل
ألا إن في الفضل بن سهـل لـعـبـرة إن اعتبر الفضل بن مروان بالفـضـل
وللفضل في الفضل بن يحيى مـواعـظ إذا فكر الفضل بن مروان في الفضـل
فأبق جمـيلا مـن حـديث تـفـز بـه ولا تدع الإحسان والأخذ بـالـفـضـل
فإنك قد أصبحـت لـلـمـلـك قـيمـا وصرت مكان الفضل والفضل والفضل
ولم أر أبياتا من الشـعـر قـبـلـهـا جميع قوافيها على الفضل والفـضـل
وليس لهـا عـيب إذا هـي أنـشـدت سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل فبعث إليه الفضل بن مروان بدنانير، وقال له: قد قبلت نصحك، فاكفني خيرك وشرك.
ينقد شعر شاعر احتكم إليه في شعره:
صفحة : 2247
حدثني عمي قال: حدثني ميمون بن هارون قال: حدثني أبو الطيب الحراني قال: أنشد رجل دعبل بن علي شعرا له، فجعل يعيبه وينبهه على خطئه فيه بيتا بيتا، ويقول: أي شيء صنعت بنفسك ولم تقوم الشعر إذا لم تقدر إلا على مثل هذا منه? إلى أن مر له بيت جيد، فقال دعبل: أحسنت، أحسنت ما شئت. فقال له يا أبا علي: أتقول لي هذا بعد ما مضى? فقال له: يا حبيبي لو أن رجلا ضرط سبعين ضرطة ما كان بمنكر أن يكون فيها دستنبوية واحدة.
لا يرى المأمون عجبا أن يهجوه: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن حاتم المؤدب قال: قيل للمأمون: إن دعبل بن علي قد هجاك، فقال: وأي عجب في ذاك? هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني أنا ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي، ثم قال للجلساء: من كان منكم يحفظ شعره في أبي عبارة فلينشدنيه، فأنشده بعضهم:
أولى الأمور بضيعة وفساد أمر يدبـره أبـو عـبـاد
خرق على جلسائه فكأنهـم حضروا لملحمة ويوم جلاد
يسطو على كتابه بـدواتـه فمضمخ بدم ونضح مـداد
وكأنه من دير هزقل مفلت حرد يجر سلاسل الأقـياد
فاشدد أمير المؤمنين وثاقـه فأصح منه بقية الـحـداد قال: وكان بقية هذا مجنونا في المارستان، فضحك المأمون. وكان إذا نظر إلى أبي عباد يضحك، ويقول لمن يقرب منه: والله ما كذب دعبل في قوله.
حدثني جحظة عن ميمون بن هارون فذكر مثله أو قريبا منه.
يزعم أن رجلا من الجن استنشده قصيدة مدارس آيات خلت: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن أحمد الحكيم قالا: حدثنا أنس ابن عبد الله النبهاني قال: حدثني علي بن المنذر قال: حدثني عبد الله بن سعيد الأشقري قال: حدثني دعبل بن علي قال: لما هربت من الخليفة بت ليلة بنيسابور وحدي، وعزمت على أن أعمل قصيدة في عبد الله بن طاهر في تلك الليلة، فإني لفي ذلك إذ سمعت والباب مردود علي: السلام عليكم ورحمة الله، انج يرحمك الله، فاقشعر بدني من ذلك، ونالني أمر عظيم، فقال لي: لا ترع عافاك الله؛ فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن طرأ إلينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك:
مدارس آيات خلت من تـلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات فأحببت أن أسمعها منك، قال فأنشدته إياها، فبكى حتى خر، ثم قال: رحمك الله ألا أحدثك حديثا يزيد في نيتك ويعينك على التمسك بمذهبك? قلت: بلى قال: مكثت حينا أسمع بذكر جعفر بن محمد عليه السلام، فصرت إلى المدينة فسمعته يقول: حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: علي وشيعته هم الفائزون، ثم ودعني لينصرف، فقلت له: يرحمك الله، إن رأيت أن تخبرني باسمك ففعل، قال: أنا ظبيان بن عامر.
يدعو إليه أعرابيا من كلاب فينشده في كلابي هجاه له: أخبرني الحسن بن القاسم الكوكبي قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي وأخبرني به الحليمي عن يعقوب بن إسرائيل عن إسحاق النخعي قال: كنت جالساص مع دعبل بالبصرة وعلى رأسه غلامه ثقيف، فمر به أعرابي يرفل في ثياب خز، فقال لغلامه: ادع لي هذا الأعرابي، فأومأ الغلام إليه، فجاء، فقال له دعبل: ممن الرجل? قال: من بني كلاب. قال: ومن أي ولد كلاب أنت? قال: من ولد أبي بكر، فقال دعبل: أتعرف القائل:
ونبئت كلبا من كلاب يسبـنـي ومحض كلاب يقطع الصلوات
فإن أنا لم أعلم كلابا بـأنـهـا كلاب وأني باسل النقـمـات
فكان إذا من قيس عيلان والدي وكانت إذا أمي من الحبطـات قال: وهذا الشعر لدعبل يقوله في عمر بن عاصم الكلابي، فقال الأعرابي: ممن أنت? فكره أن يقول له من خزاعة فيهجوهم، فقال: أنا أنتمي إلى القوم الذي يقول فيهم الشاعر:
أناس علي الخير منهم وجعفر وحمزة والسجاد ذو الثفنـات
إذا فخروا يوما أتوا بمحمـد وجبريل والفرقان والسورات فوثب الأعرابي وهو يقول: مالي إلى محمد وجبريل والفرقان والسورات مرتقى.
يهجو بني بسام لأن رجلا منهم لم يقبض حاجة له: أخبرني الكوكبي قال حدثني ابن عبدوس قال:
صفحة : 2248
سأل دعبل نصر بن منصور بسام حاجة، فلم يقضها لشغل عرض له دونها، فقال يهجو بني بسام:
حواجب كالجبال الـسـود إلى عثانين كالمخـالـي
وأوجه جـهـمة غـلاظ عطل من الحسن والجمال يهجو أحمد بن خالد حين ولى الوزارة للمأمون: أخبرني الكوكبي قال حدثني ميمون بن هارون قال: لما ولى أحمد بن أبي خالد الوزارة في أيام المأمون قال دعبل بن علي يهجوه:
وكان أبو خـالـد مـرة إذا بات متخما عـاقـدا
يضيق بأولاده بـطـنـه فيخراهم واحـدا واحـدا
فقد ملأ الأرض من سلحه خنافس لا تشبه الـوالـدا يهرب من المعتصم ويهجوه: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو ناجية قال: كان المعتصم يبغض دعبلا لطول لسانه، وبلغ دعبلا أنه يريد اغتياله وقتله، فهرب إلى الجبل، وقال يهجوه:
بكى لشتات الدين مـكـتـئب صـب وفاض بفرط الدمع من عينه غـرب
وقـام إمـام لـم يكـن ذا هــداية فلـيس لـه دين ولـيس لـه لـب
وما كانت الآباء تـأتـي بـمـثـلـه بملك يوما أو تـدين لـه الـعـرب
ولكن كما قـال الـذين تـتـابـعـوا من السلف الماضين إذ عظم الخطب:
ملوك بني العباس في الكتب سـبـعة ولم تأتنا عن ثامـن لـهـم كـتـب
كذلك أهل الكف في الكهف سـبـعة خيار إذا عدوا وثامـنـهـم كـلـب
وإني لأهلي كلبهـم عـنـك رفـعة لأنـك ذو ذنـب ولـيس لـه ذنـب
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهـم وصيف وأشناس وقد عظم الكـرب
وفضل بن مـروان يثـلـم ثـلـمة يظل لها الإسلام ليس لـه شـعـب يعارض محمد بن عبد الملك الزيات في رثائه للمعتصم: أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال: لما مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه:
قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا في خير قبر لخير مدفون
لن يجبر الله أمة فـقـدت مثلك إلا بمثـل هـارون فقال دعبل يعارضه:
قد قلت إذ غيبوه وانصرفـوا في شر قبر لشر مـدفـون
اذهب إلى النار والعذاب فما خلتك إلا من الـشـياطـين
ما زلت حتى عقدت بيعة من أضر بالمسلمـين والـدين يكتم نسبة رثاء محمد بن عبد الملك الزيات للمعتصم: قال عمي حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: أنشد دعبل بن علي يوما قول بعض الشعراء:
قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا وذكر البيتين والجواب ولم يسم قائل المرثية ولا نسبة إلى محمد بن عبد الملك الزيات ولا غيره.
ينكر نسبة شعر إليه فيه هجاء بني العباس: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال: سألت دعبلا عن هذه الأبيات:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة فأنكر أن تكون له، فقلت: فمن قالها? قال: من حشا الله قبره نارا، إبراهيم بن المهدي، أراد أن يغري بي المعتصم فيقتلني لهجائي إياه.
يستعيد ابن المدبر أبياتا له في هجاء بن أبي داود: أخبرني عمي والحسن بن علي جميعا قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي قال: كنت عند أحمد بن المدبر ليلة من الليالي، فأنشدته لدعبل في أحمد بن أبي داود قوله:
إن هـــذا الـــــذي داود أبـــــــوه وإياد قـــد أكـــثـــر الأنـــبــــاء
ساحـــقـــت أمـــه ولاط أبــــــوه ليت شـعـري عـنـه فـمــن أين جـــاء
جاء من بين صخرتين صلودين عقامين ينبتان الهباء
لا سفاح ولا نكاح ولا ما يوجـــب الأمـــهـــات والآبـــــاء قال: فاستعادها أربع مرات، فظننت أنه يردي أن يحفظها، ثم قال لي: جئني بدعبل حتى أوصله إلى المتوكل، فقلت له: دعبل موسوم بهجاء الخلفاء والتشيع، وإنما غايته أن يخمل ذكره، فأمسك عني، ثم لقيت دعبلا فحدثته بالحديث، فقال: لو حضرت أنا أحمد بن المدبر لما قدرت أن أقول أكثر مما قلت.
يروي له بيت في هجاء المتوكل: أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن جرير قال:
صفحة : 2249
أنشدني عبيد الله بن يعقوب هذا البيت وحده لدعبل يهجو به المتوكل، وما سمعت له غيره فيه:
ولست بقائل قذعا ولكن لأمر ما تعبدك العبيد قال: يرميه في هذا البيت بالأبنة.
يهجو المعتصم والواثق حين علم نعي المعتصم: أخبرني الحسن قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: كنت مع دعبل بالصيمرة وقد جاء نعي المعتصم وقيام الواثق، فقال لي دعبل: أمعك شيء تكتب فيه? فقلت: نعم، وأخرجت قرطاسا، فأملي علي بديها:
الحمد لله لا صبر ولا جـلـد ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحـد وآخر قام لم يفرح بـه أحـد يمزق قصيدة أعدها في مدح الحسن بن وهب: حدثني عمي قال: حدثنا أحمد بن عبيد الله بن ناصح قال: قلت لدعبل، وقدعرض علي قصيدة له يمدح بها الحسن بن وهب، أولها:
أعاذلتي ليس الهوى من هوائيا فقلت له : ويحك، أتقول فيه هذا بعد قولك:
أين محل الحي يا حـادي خبر سقاك الرائح الغادي وبعد قولك:
قالت سلامة أين المال قلت لـهـا المال ويحك لاقي الحمد فاصطحبا وبعد قولك:
فعلى أيماننا يجري النـدى وعلى أسيافنا تجري المهج والله إني أراك لو أنشدته إياها لأمر بصفع قفاك، فقال: صدقت والله، ولقد نبهتني وحذرتني، ثم مزقها.
يغضب على خريج له فيهجو أباه: أخبرني عمي قال: حدثني العنزي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال: غضب دعبل على أبي نصر بن جعفر بن محمد بن الأشعث -وكان دعبل مؤدبه قديما- لشيء بلغه عنه، فقال يهجو أباه:
ما جعفر بن محمد بن الأشعث عندي بخير أبوة من عثعـث
عبثا تمارس بي تمارس حـية سوارة إن هجتها لم تلـبـث
لم يعلم المغرور ماذا حاز من خزي لوالده إذا لم يعـبـث قال: فلقيه عثعث، فقال له: عليك لعنة الله، أي شيء كان بيني وبينك حتى ضربت بي المثل في خسة الآباء، فضحك، وقال: لا شيء والله، اتفاق اسمك واسم ابن الأشعث في القافية. أو لا ترضى أجعل -أباك وهو أسود- خيرا من آباء الأشعث بن قيس.
يصف العيش الذي يرتضيه: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن سهل القاري، وكان يلقب أرزة قال: حدثني دعبل بن علي الخزاعي قال: كتبت إلى أبي تهشل بن حميد الطوسي قوله:
إنـمـا الـعـيش فـــي مـــنـــادمة الإخ وان لا فـي الـجـلـوس عـنـد الـكـعــاب
ويصـرف كـأنـه ألــســـن الـــبـــر ق إذا اسـتـعـرضـت رقـيق الـسـحــاب
إن تكونوا تركتم لذة العيش حذار العقار يوم العقاب
فدعوني وما ألذ وأهوى وادفـعـوا بـي فـي صـدر يوم الـحـســاب ينشد علي بن موسى الرضا: مدارس آيات خلت: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني موسى بن عيسى المروزي -وكان منزله بالكوفة في رحبة طيء- قال: سمعت دعبل بن علي وأنا صبي يتحدث في مسجد المروزية قال: دخلت على علي بن موسى الرضا -عليهما السلام- فقال لي: أنشدني شيئا مما أحدثت، فأنشدته:
مدارس آيات خلت من تـلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات حتى انتهيت إلى قولي:
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم أكفا عن الأوتار منقبضات قال: فبكى حتى أغمي عليه، وأومأ إلي خادم كان على رأسه: أن أسكت، فسكت ساعة، ثم قال لي: أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا، فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى، وأومأ الخادم إلي: أن اسكت، فسكت، فمكث ساعة أخرى ثم قال لي: أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت، ثلاث مرات، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه، ولم تكن دفعت إلى أحد بعد، وأمر لي من في منزله بحلى كثير أخرجه إلي الخادم، فقدمت العراق، فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم، اشتراها مني الشيعة، فحصل لي مائة ألف درهم، فكان أول مال اعتقدته .
يستوهب الرضا ثوبا لبسه ليجعله في أكفانه: قال ابن مهرويه وحدثني حذيفة بن محمد:
صفحة : 2250
أن دعبلا قال له: إنه استوهب من الرضا عليه السلام ثوبا قد لبسه في أكفانه فخلع جبة كانت عليه، فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم، فلم يفعل، فخرجوا عليه في طريقه، فأخذوها منه غصبا، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، وإلا فأنت أعلم. فقال لهم: إني والله لا أعطيكم إياها طوعا، ولا تنفعكم غصبا، وأشكوكم إلى الرضا عليه السلام. فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين الألف الدرهم وفردكم من بطانتها فرضي بذلك.
يهجو إبراهيم بن المهدي حين خرج ببغداد: أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: بويع إبراهيم بن المهدي ببغداد، وقد قل المال عنده، وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوغاد الناس، فاحتبس عنهم العطاء، فجعل إبراهيم يسوفهم ولا يرون له حقيقة إلى أن خرج إليهم رسوله يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرح لهم بأنه لا مال عنده، فقال قوم من غوغاء أهل بغداد: أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنى لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاء لهم، فأنشدني دعبل بعد ذلك بأيام قوله:
يا معشر الأجناد لا تقطـنـوا وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تـعـطـون حـنـينة يلتذها الأمـرد والأشـمـط
والمـعـبـديات لـقـوادكـم لا تدخل الكيس ولا تـربـط
وهـكـذا يرزق قـــواده خليفة مصفحـه الـبـربـط وزادني فيها جعفر بن قدامة:
قد ختم الصك بأرزاقـكـم وصحح العزم فلا تسخطوا
بيعة إبراهـيم مـشـئومة يقتل فيها الخلق أو يقحـط يقص قصة صديق له متخلف يقول شعرا: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو علي يحيى بن محمد بن ثوابة الكاتب قال: حدثني دعبل قال: كان لي صديق متخلف يقول شعرا فاسدا مرذولا وأنا أنهاه عنه إذا أنشدني، فأنشدني يوما:
إن ذا الحـب شـديد ليس ينجيه الـفـرار
ونجا من كان لا يعشق من ذل المـخـازي فقلت له: هذا لا يجوز، البيت الأول على الراء، والبيت الثاني على الزاي. فقال: لا تنقطه، فقلت له: فالأول مرفوع، والثاني مخفوض. فقال: أنا أقول له لا تنقطه وهو يشكله.
يستشهده لكلمة أنكرت عليه: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا محمد بن زكريا بن ميمون الفرغاني قال: سمعت دعبل بن علي يقول في كلام جرى: ليسك، فأنكرته عليه. فقال: دخل زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا زيد ما وصف لي رجل إلا رأيته دون وصفه ليسك- يريد غيرك.
يحسد شاعرا على معنى أعجبه: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا علي بن عبد الله بن سعد قال: قال لي دعبل، وقد أنشدته قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصراني الحربي:
زناره في خصره معقود كأنه من كبدي مقـدود يقول شعرا كل يوم خلال ستين سنة: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: سمعت الجاحظ يقول: سمعت دعبل بن علي يقول: مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذر شارقه إلا وأنا أقول فيه شعرا.
يعود مفلوجا ويعجب لخفة روحه وهو على تلك الحال: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي قال: سمعت دعبل بن علي يقول: دخلت على أبي الحارث جميز -وقد فلج- لأعوده، وكان صديقي، فقلت: ما هذا يا أبا الحرث? فقال: أخذت من شعري ودخلت الحمام، فغلط بي الفالج، وظن أني قد احتجمت. فقلت له: لو تركت خفة الروح والمجون في موضع لتركتهما في هذا الموضع وعلى هذه الحال.
يسأل المأمون جلساءه أن ينشدوا من شعره: أخبرني الحسن بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أحمد بن صدقة قال: حدثني أبي قال: حدثني عمرو بن مسعدة قال:
صفحة : 2251
حضرت أبا دلف عند المأمون، وقد قال له المأمون: أي شيء تروي لأخي خزاعة يا قاسم? فقال وأي أخي خزاعة يا أمير المؤمنين? قال: ومن تعرف فيهم شاعرا? فقال: أما من أنفسهم فأبوا الشيص ودعبل وابن أبي الشيص وأما من مواليهم فطاهر وابنه عبد الله. فقال: ومن عسى من هؤلاء أن يسأل عن شعره سوى دعبل هات أي شيء عندك فيه. فقال وأي شيء أقول في رجل لم يسلم عليه أهل بيته حتى هجاهم، فقرن إحسانهم بالإساءة، وبذلهم بالمنع، وجودهم بالبخل، حتى جعل كل حسنة منهم بإزاء سيئة قال: حين يقول ماذا? قال حين يقول في المطلب بن عبد الله بن مالك، وهو أصدق الناس له، وأقربهم منه، وقد وفد إليه إلى مصر فأعطاه العطايا الجزيلة، وولاه ولم يمنعه ذلك من أن قال فيه:
اضرب ندى طلحة الطلحات متئدا بلوم مطلب فينا وكن حـكـمـا
تخرج خزاعة من لؤم ومن كرم فلا تحس لها لؤما ولا كـرمـا قال: فقال المأمون: قاتله الله ما أغوصه وألطفه وأدهاه وجعل يضحك، ثم دخل عبد الله بن طاهر، فقال له: أي شيء تحفظ يا عبد الله لدعبل? فقال: أحفظ أبياتا له في أهل بيت أمير المؤمنين، قال: هاتها ويحك، فأنشده عبد الله قول دعبل:
سقيا ورعيا لأيام الـصـبـابـات أيام أرفل في أثـواب لـذاتـي
أيام غصني رطيب من لـيانـتـه أصبوا إلى غير جارات وكنـات
دع عنك ذكر زمان فات مطلبـه واقذف برجلك عن متن الجهالات
واقصد بكل مديح أنـت قـائلـه نحو الهداة بني بيت الكـرامـات وصفه لسفر طويل يعجب المأمون: فقال المأمون: إنه قد وجد مقالا فقال، ونال ببعيد ذكرهم مالا يناله في وصف غيرهم، ثم قال المأمون: لقد أحسن في وصف سفر سافره، فطال ذلك السفر عليه، فقال فيه:
ألم يأن للسفر الذين تحمـلـوا إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملك سوابق عبـرة نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملـهـا وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالي صرفهن كما ترى لكـل أنـاس جـدبة وربـيع ثم قال: ما سافرت قط إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني وفي سفري، وهجيري ومسليتي حتى أعود.
يقص قصة مكار أساء جوابه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني المبرد ومحمد بن الحسن بن الحرون قالا: قال دعبل: خرجت إلى الجبل هاربا من المعتصم، فكنت أسير في بعض طريقي والمكاري يسوق بي بغلا تحتي، وقد أتعبني تعبا شديدا، فتغنى المكاري في قولي:
لا تعجبي يا سلم من رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى فقلت له، وأنا أريد أن أتقرب إليه وأكف ما يستعمله من الحث للبغل لئلا يتعبني: تعرف لمن هذا الشعر يا فتى? فقال: لمن ناك أمه وغرم درهمين، فما أدري أي أموره أعجب: من هذا الجواب أم من قلة العرم على عظم الجناية تغنت بشعره جارية: حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال: حضرت مجلس محمد بن علي بن طاهر وحضرته مغنية يقال لها: شنين مشهورة، فغنت:
لا تعجبي يا سلم من رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى ثم غنت بعده:
لقد عجبت سلمى وذاك عجيب فقلت لها: ما أكثر تعجب سلمى هذه فعلمت أني أعبث بها لأسمع جوابها، فقالت متمثلة غير متوقفة ولا متفكرة:
فهلك الفتى ألا يراح إلى ندى وألا يرى شيئا عجيبا فيعجبا فعجبت والله من جوابها وحدته وسرعته، وقلت لمن حضر: والله لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيرا منه مستظرفا.
نسبة هذا الصوت صوت
لقد عجبت سلمى وذاك عجيب رأت بي شيبا عجلته خطوب
وما شيبتني كبرة غير أننـي بدهر به رأس الفطيم يشيب الغناء ليحيى المكي، ثقيل أول بالوسطى من كتاب أبيه أحمد.
صديق له يصنع كل غناء بشعره: حدثني جعفر بن قدامة قال: حدثني محمد المرتجل بن أحمد بن يحيى المكي قال: كان أبي صديقا لدعبل، كثير العشرة له، حافظا لغيبه، وكل شعر يغنى فيه لدعبل فهو من صنعة أبي، وغنائي من صنعة أبيه في شعر دعبل، والطريقة فيه خفيف ثقيل في مجرى البنصر:
سرى طيف ليلى حين آن هبوب وقضيت شوقا حين كـاد يذوب
صفحة : 2252
فلم أر مطروقا يحل برحلـه ولا طارقا يقرى المنى ويثيب وأنشدني عمي هذين البيتين عن أحمد بن يحيى بن أبي طاهر وابن مهرويه جميعا لدعبل.
ينفي أنه صاحب أبيات في هجاء بني العباس: حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: سألت دعبلا من الذي يقول:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة فقال: من أضرم الله قبره نارا، إبراهيم بن المهدي، قال ابن أبي سعد: وحدثني عبد العزيز بن سهل أنه سأله عنها فاعترف بها.
يهجو طاهر بن الحسين: حدثني عمي قال: أنشدني ابن أخي دعبل لعمه في طاهر بن الحسين، وكان قد نقم عليه أمرا أنكره منه:
وذي يمينين وعين واحده نقصان عين ويمين زائده
نزر العطيات قليل الفائده أعضه الله ببظر الوالده يهجو أخوين لم يرض ما فعلا: حدثني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: كان دعبل قد مدح دينار بن عبد الله وأخاه يحيى، فلم يرض ما فعلاه، فقال يهجوهما:
ما زال عـصـيانـنـا لـلـه يرذلـنـا حتى دفـعـنـا إلـى يحـيى ودينـار
وغدين علجين لم تقطع ثـمـارهـمـا قد طال ما سجدا للشـمـس والـنـار
يهجو الأخوين والحسن بن سهل معهما: قال: وفيهما وفي الحسن بن سهل يقول أيضا دعبل يهجوهم، والحسن بن رجاء وأبيه أيضا:
ألا فاشتروا مني ملوك المخزم أبع جسنا وابني رجاء بدرهم
وأعط رجاء فـوق ذاك زيادة وأسمح بدينار بغـير تـنـدم
فإن رد من عيب علي جميعهم فليس يرد العيب يحي بن أكثم انحرافه عن الطاهرية وهجاؤه فيهم: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبو الطيب الحراني قال: كان دعبل منحرفا عن الطاهرية مع ميلهم إليه وأياديهم عنده، فأنشدني لنفسه فيهم:
وأبقى طاهر فينا ثـلاثـا عجائب تستخف لها الحلوم
ثلاثة أعـبـــد لأب وأم تميز عن ثلاثتـهـم أروم
فبعض في قريش منتمـاه ولا غير ومجهول قـديم
وبعضهم يهش لآل كسرى ويزعم أنه عـلـج لـئيم
فقد كثرت مناسبهم علينـا وكلهم على حـال زنـيم يهجو رجلا لقبح وجهه: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبي قال: كان صالح بن عطية الأضجم من أبناء الدعوة، وكان من أقبح الناس وجها، وكان ينزل واسطا، فقال فيه دعبل:
أحسن ما في صالح وجهه فقس على الغائب بالشاهد
تأملت عيني لـه خـلـقة تدعو إلى تزنية الـوالـد قال وقال فيه أيضا، وخطاب فيها المعتصم:
قل للإمام إما آل مـحـمـد قول امرئ حدب عليك محام
أنكرت أن تفتر عنك صنـيعة في صالح بن عطية الحجـام
ليس الصنائع عنده بصـنـائع لكنـهـن طـوائل الإسـلام
اضرب به جيش العدو فوجهه جيش من الطاعون والبرسام يعرض شعره على مسلم بن الوليد أو يكتمه حتى أذن له في إظهاره: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: أخبرني إبراهيم بن محمد الوراق قال: حدثني الحسين بن أبي السري قال: قال لي دعبل: ما زلت أقول شعر وأعرضه على مسلم، فيقول لي: أكتم هذا حتى قلت:
أين الشبـاب وأية سـلـكـا لا، أين يطلب ضل? بل هلكا فلما أنشدته هذه القصيدة قال: اذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئت لمن شئت .
ينسبه أبو تمام إلى قصيدة من شعره: قال إبراهيم: وحدثني الفتح غلام أبي تمام الطائي، وكان أبو سعيد الثغري اشتراه له بثلثمائة دينار لينشد شعره، وكان غلاما أديبا فصيحا، وكان إنشاد أبي تمام قبيحا، فكان ينشد شعره عنه، فقال: سألت مولاي أبا تمام عن نسب دعبل فقال: هو دعبل بن علي الذي يقول:
ضحك المشيب برأسه فبكى يهجر مسلم بن الوليد حين وفد عليه فجفاه: قال الفتح: وحدثني مولاي أبو تمام قال: ما زال دعبل مائلا إلى مسلم بن الوليد مقرا بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم، وكان فيه بخل، فهجره دعبل وكتب إليه:
صفحة : 2253
أبا مخلد كـنـا عـقـيدي مـودة هوانا وقلبانا جميعا معـا مـعـا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي وأيجع إشفاقا لأن تـتـوجـعـا
فصيرتني بعد انتكاسك متـهـمـا لنفسي، عليها أرهب الخلق أجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعـا
وأنزلت من بين الجوانح والحشـا ذخيرة ود طالـمـا تـمـنـعـا
فلا تعذلني ليس لي فيك مطمـع تخرقت حتى لم أجد لك مرقعـا
فهبك يميني استأكلت فقطعتـهـا وجشمت قلبي صبره متشجـعـا ويروى: وحملت قلبي فقدها. قال ثم تهاجرا، فما التقيا بعد ذلك.
استمساك خزاعة بانتمائه إليهم: أخبرني محمد بن خلف قال: حدثني إبراهيم بن محمد قال: حدثنا الحسين بن علي قال: قلت لابن الكلبي: إن دعبلا قطعي ، فلو أخبرت الناس أنه ليس من خزاعة، فقال لي: يا فاعل، مثل دعبل تنفيه خزاعة والله لو كان من غيرها لرغب فيه حتى تدعيه. دعبل والله يا أخي خزاعة كلها.
يقص خبر رحلته إلى مصر يقصد المطلب في ولايته: أخبرني محمد بن المرزبان قال: حدثني إبراهيم بن محمد الوراق عن الحسين بن أبي السري عن عبد الله بن أبي الشيص قال: حدثني دعبل قال: حججت أنا وأخي رزين وأخذنا كتبا إلى المطلب بن عبد الله بن مالك وهو بمصر يتولاها، فصرنا من مكة إلى مصر، فصحبنا رجل يعرف بأحمد بن فلان السراج، نسي عبد الله بن أبي الشيص اسم أبيه، فما زال يحدثنا ويؤانسنا طول طريقنا، ويتولى خدمتنا كما يتولاها الرفقاء والأتباع. ورأيناه حسن الأدب، وكان شاعرا، ولم نعلم، وكتمنا نفسه، وقد علم ما قصدنا له فعرضنا عليه أن يقول في المطلب قصيدة، ننحله إياها. فقال: إن شئتم، وأرانا بذلك سرورا وتقبلا له، فعملنا قصيدة، وقلنا له: تنشدها المطلب فإنك تنتفع بها. فقال: نعم. ووردنا مصربه، فدخلنا إلى المطلب، وأوصلنا إليه كتبا كانت معنا، وأنشدناه. فسر بموضعنا، ووصفنا له أحمد السراج هذا، وذكرنا له أمره، فأذن له، فدخل عليه ونحن نظن أنه سينشد القصيدة التي نحلناه إياها، فلما مثل بين يديه عدل عنها وأنشده:
لم آت مطلبا إلا بمـطـلـب وهمة بلغة بي غاية الرتـب
أفردته برجاء أن تـشـاركـه في الوسائل أو ألقاه في الكتب قال: وأشار إلى كتبي التي أوصلتها إليه وهي بين يديه، فكان ذلك أشد من كل شيء مر بي منه علي، ثم أنشده:
رحلت عنسى إلى البيت الحرام على ما كان من وصب فيها ومن نصب
ألقى بها وبوجهي كـل هـاجـرة تكاد تقدح بين الجلد والـعـصـب
حتى إذا ما قضت نسكي ثنيت لهـا عطف الزمام فأمت سيد العـرب
فيممتك وقد ذابت مـفـاصـلـهـا من طول ما تعب لاقت ومن نقب
إني استجرت بإستارين مستـلـمـا ركنين: مطلبا والبيت ذا الحـجـب
فذاك للآجل المأمـول ألـمـسـه وأنت للعاجل المرجو والطـلـب
هذا ثنائي وهذي مصـر سـانـحة وأنت أنت وقد ناديت من كـثـب قال: فصاح مطلب: لبيك لبيك: ثم قام إليه فأخذ بيده، وأجلسه معه، وقال: يا غلمان، البدر، فأحضرت، ثم قال: الخلع: فنشرت، ثم قال: الدواب، فقيدت، فأمر له من ذلك بما ملأ عينه وأعيننا وصدورنا وحسدناه عليه، وكان حسدنا له بما اتفق له من القبول وجودة الشعر، وغيظنا بكتمه إيانا نفسه واحتياله علينا أكثر وأعظم، فخرج بما أمر له به، وخرجنا صفرا.
يوليه المطلب أسوان: فمكثنا أياما، ثم ولي دعبل بن علي أسوان، وكان دعبل قد هجا المطلب غيظا منه فقال:
تعلق مصر بك المخـزيات وتبصق في وجهك الموصل
وعاديت قوما فما ضـرهـم وشرفت قوما فلم ينبـلـوا
شعارك عند الحروب النجاء وصاحبك الأخور الأفشـل
فأنت إذا ما التـقـوا آخـر وأنت إذا انـهـزمـوا أول وقال فيه:
اضرب ندى طلحة الطلحات متئدا بلؤم مطلب فينا وكن حـكـمـا
تخرج خزاعة من لؤم ومن كرم فلا تعد لها لؤمـا ولا كـرمـا من قصيدته في مدح المطلب:
صفحة : 2254
قال: وكانت القصيدة التي مدح بها دعبل المطلب قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
أبعد مصر وبعد مـطـلـب ترجو الغنى إن ذا من العجب
إن كاثرونا جئنا بـأسـرتـه أو واحدونا جئنا بمـطـلـب يعزله المطلب عن أسوان حين بلغه هجاؤه له: قال وبلغ المطلب هجاؤه إياه بعد أن ولاه، فعزله عن أسوان، فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له، وقال: انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة، فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه، وامنعه من الخطبة، وأنزله عن المنبر، واصعد مكانه. فلما أن علا المنبر وتنحنح ليخطب ناوله الكتاب، فقال له دعبل: دعني أخطب، فإذا نزلت قرأته. قال: لا، قد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقرأه، فقرأه وأنزله عن المنبر معزولا.
قال: فحدثني عبد الله بن أبي الشيص قال: قال لي دعبل قال لي المطلب: ما تفكرت في قولك قط:
إن كاثرونا جئنا بأسرته أو واحدونا جئنا بمطلب إلا كنت أحب الناس إلي، ولا تفكرت والله في قولك لي:
وعاديت قوما فما ضرهم وقدمت قوما فلم ينبلـوا إلا كنت أبغض الناس إلي.
معنى إستارين في شعره: قال ابن المرزبان حدثني من سأل الرياشي عن قوله: إستارين، قال: يجوز على معنى إستار كذا، وإستار كذا. وأنشدنا الرياشي:
سعى عقالا فلم يترك لنا سـبـدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
لأصبح القوم أوفاضا فلم يجـدوا يوم الترحل والهيجا حمـالـين
هجـاؤه الـمـطـلـــب: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني عبد العزيز بن سهل قال: لما قصد دعبل عبد المطلب بن عبد الله بن مالك إلى مصر ولم يرض ما كان منه إليه قال فيه:
أمطلب أنت مـسـتـعـذب حميا الأفاعي ومستـقـبـل
فإن اشف منك تـكـن سـبة وإن أعف عنك فما تعـقـل
ستأتيك إما وردت الـعـراق صحائف يأثـرهـا دعـبـل
منـمـقة بـين أثـنـائهــا مخاز تحـط فـلا تـرحـل
وضعت رجالا فما ضـرهـم وشرفت قوما فلم ينـبـلـوا
فأيهم الـزين وسـط الـمـلا عطية أم صالـح الأحـول?
أم البـاذجـانـي أم عـامـر أمين الحمام التـي تـزجـل
تنوط مصر بك المـخـزيات وتبصق في وجهك الموصل
ويوم السراة تـحـسـيتـهـا يطيب لدى مثلها الحنـظـل
توليت ركضـا وفـتـيانـنـا صدور القنا فيهم تـعـمـل
إذا الحرب كنت أميرا لـهـا فحظهم منـك أن يقـتـلـوا
فمنك الرؤوس غداة اللـقـاء وممن يحاربك المـنـصـل
شعارك في الحرب يوم الوغى إذا انهزموا: عجلوا عجلـوا
هزائمك الغـر مـشـهـورة يقرطس فيهن من ينـضـل
فأنـت لأولـهــم آخـــر وأنـت لآخـرهـــم أول ومن هجائه المطلب: أخبرني عمي قال أنشدنا المبرد لدعبل يهجو المطلب بن عبد الله ويعيره بغلامين: علي وعمرو، وكان يتهم بهما:
فأير عـلـي لـه آلة وفقحة عمرو له ربه
فطورا تصادفه جعبة وطورا تصادفه حربه ومن مدحه إياه: وأنشدني ابن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ لدعبل يمدح المطلب بن عبد الله بن مالك، وفيه غناء.
صوت
زمني بمطلب سقيت زمانـا ما كنت إلا روضة وجنانـا
كل الندى إلا نداك تكـلـف لم أرض بعدك كائنا من كانا
أصلحتني بالبر بل أفسدتنـي فتركتني أتسخط الإحسانـا سبب سخطه على المطلب: وقد أخبرني بخبره الأول الطويل مع المطلب الحسن بن علي عن أحمد بن محمد حدان عن أحمد بن يحيى العدوي أن سبب سخطه على المطلب أن رجلا من العلويين كان قد تحرك بطنجة ، فكان يبث دعاته إلى مصر، وخافه المطلب، فوكل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها.
صفحة : 2255
فلما جاء دعبل منع فأغلظ للذي منعه، فقنعه بالسوط وحبسه، مضى رزين فأخبر المطلب، فأمر بإطلاقه، ودعا به فخلع عليه. فقال له: لا أرضى أو تقتل الموكل بالباب فقال له: هذا لا يمكن لأنه قائد من قواد السلطان، فغضب ثم أنشده الرجل الأبيات المذكورة، فأجازه، وحكى أن اسمه محمد بن الحجاج، لا أحمد بن السراج. وسائر الخبر مثله.
سبب مناقضته أبا سعد المخزومي: وكان سبب مناقضته أبا سعد المخزومي وما خرج إليه الأمر بينهما قول دعبل قصيدته التي هجا فهيا قبائل نزار، فحمي لذلك أبو سعد، فهجاهم، فأجابه أبو سعد، ولج الهجاء بينهما.
وروي أنه نزل بقوم بن بني مخزوم، فلم يضيفوه، فهجاهم، فأجابه أبو سعد ولج الهجاء بينهما.
أخبرني عمي والحسن بن علي الخفاف قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني محمد بن الأشعث قال: حدثني دعبل أنه ورزينا العروضي نزلا بقوم من بني مخزوم، فلم يقروهما، ولا أحسنوا ضيافتهما فقال دعبل: فقلت فيهم:
عصابة من بني مخزوم بت بهـم بحيث لا تطمع المسحاة في الطين ثم قلت لرزين: أجز فقال:
في مضغ أعراضهم من خبزهم عوض بني النفـاق وأبـنـاء الـمـلاعـين قال ابن الأشعث: فكان هذا أول الأسباب في مهاجاته لأبي سعد.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثني العنزي قال: حدثني علي بن عمر الشيباني أن الذي هاج الهجاء بين أبي سعد ودعبل قصيدته القحطانية التي هجا فيها نزارا، فأجابه عنها أبو سعد، ولج الهجاء بينهما.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدثني أحمد بن أبي كامل قال: كان سبب وقوع الهجاء بين دعبل وأبي سعد قول دعبل في قصيدة يفخر فيها بخزاعة، ويهجو نزارا، وهي التي يقول فيها:
أتانا طالبا وعرا فأعقبناه بالوعر
وترناه فلم يرض فأعقبناه بالوتر فغضب أبو سعد، وقال قصيدته التي يقول فيها لدعبل، وهي مشهورة:
وبالكرخ هوى أبقـى على الدهر من الدهر
هوى والحمـد لـلـه كفاني كلفة الـعـذر قال: ثم التحم الهجاء بينهما بعد ذلك.
من هجاء أبي سعد المخزومي له: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أحمد بن هارون قال: دخلت على أبي سعد المخزومي يوما وهو يقول: وأي شيء ينفعني? أجود الشعر فلا يروى، ويرذل فيروى، ويفضحني برديئته، ولا أفضحه بجيدي، فقلت: من تعني يا أبا سعد? فقال: من تراني أعني إلا من عليه لعنة الله دعبلا فقلت فيه:
ليس لـبـس الـطـــيالـــس من لـبــاس الـــفـــوارس
لا ولا حـــومة الـــوغـــى كصـدور الـمـجـــالـــس
ضرب أوتـار نــفـــنـــف غير ضـرب الـقـــوانـــس
وظهور الجياد غير ظهور الطنافس
ليس من ضارس الحرو ب كـمـن لـــم يضـــارس
بأبــي غـــرس فـــتـــية من كـرام الــمـــغـــارس
فتية من بني المغيرة شم المعاطس
يطعمون السديف في كل شـهـــبـــاء دامـــس
في جـفـان كـــأنـــهـــا من جـفــان الـــعـــرائس
ثم يمـشـون فـي الـســنـــو ر مـشـي الـعـنـــابـــس
ويخـوضـون بــالـــلـــوا ء دمـــاء الأبـــالـــــس
نحن خير الأنام عند قياس المقـايس فو الله ما التفت إليها في مصرنا هذا إلا علماء الشعر: وقال هو في:
يا أبا سعد قـوصـره زانى الأخت والمره
لو تراه مـحـنـبـا خلته عقد قنـطـره
أو ترى الأير في استه قلت ساق بمقطـره قال: فوالله لقد رواه صبيان الكتاب ومارة الطريق والسفل، فما أجتاز بموضع إلا سمعته من سفلة يهدرون به ، فمنهم من يعرفني فيعيبني به، ومنهم من لا يعرفني، فأسمعه منه لسهولته على لسانه.
يذكر أن المخزومي دس في شعره ما لم يقله: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي ومحمد بن يحيى الصولي وعمي قالوا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني علي بن أبي عمرو الشيباني قال: جاءني إسماعيل بن إبراهيم بن ضمرة الخزاعي، فقال لي: إني سألت دعبلا أن أقرأ عليه قصيدته التي يناقض بها الكميت:
أفيقي من ملامك يا ظعينا كفاك اللوم مر الأربعينا
صفحة : 2256
فقال لي إسماعيل: قال لي دعبل: يا أبا الحسن فيها أخبار وغريب، فليكن معك رجل يقرؤها علي وأنت معه، فيكون أهون علي منك، فقلت له: لقد اخترت صديقا لي يقال له: علي، فقال: أمن العرب هو? قلت: نعم. قال: من أي العرب? قلت: من بني شيبان. قال: شيبان كندة? فقلت: بل شيبان ربيعة. فقال لي: ويحك أتأتيني برجل أسمعه ما يكره في قومه? فقلت له: إنه رجل يحتمل، ويجب أن يسمع ما له وعليه. فقال: في مثل هذا رغبة ، فأتني به، فصرنا إليه، فلما لقيه قال: قد أخبرني عنك أبو الحسن بما سررت به؛ أن كنت رجلا من العرب تحب أن تسمع ما لك وعليك لكيلا تغبن، فقرأنا عليه الشعر حتى انتهينا في القصيدة إلى قوله:
من أي ثنية طلعت قريش وكانوا معشرا متنبطينـا فقال دعبل: معاذ الله أن يكون هذا البيت لي، ثم قال: لعنه الله وانتقم منه -يعني أبا سعد المخزومي- دسه والله في هذا الشعر وضرب بيده إلى سكين كانت معه فجرد البيت بحدها ثم قال لنا: أحدثكم عنه بحديث طريف: يزوره المخزومي ويجالسه، ويرسل إليه حين انصرف هجاء فيه: جاءني يوما ببغداد أشد ما كان بيني وبينه من الهجاء، وبين يدي صحيفة ودواة، وأنا أهجوه فيها، إذ دخل علي غلام لي فقال: أبو سعد المخزومي بالباب. فقلت له: كذبت. فقال، وهو عارف بأبي سعد: بلى والله يا مولاي، فأمرته برفع الدواة والجلد الذي كان بين يدي، وأذنت له في الدخول، وجعلت أحمد الله في نفسي، فأقول: الحمد لله الذي أصلح بيني وبينه من هتك الأعراض وذكر القبيح، وكان الابتداء منه. فقمت إليه وسلمت عليه وهو ضاحك مسرور، فأبديت له مثل ذلك من السرور به، ثم قلت: أصبحت والله حاسدا لك. قال: على ماذا يا أبا علي? فقلت: بسبقك إياي إلى الفضل.
فقال لي: أنا اليوم في دعوى عندك، فقلت: قل ما أحببت. فقال: إن كان عندك ما نأكله، وإلا ففي منزلي شيء معد. فسألت الغلمان فقالوا: عندنا: قدر أمسية . فقال: غاية واتفاق جيد. فهل عندك شيء نشربه، وإلا وجهت إلى منزلي ففيه شراب معد? فقلت له: عندما ما نشرب، فطرح ثيابه ورد دابته وقال: أحب ألا يكون معنا غيرنا، فتغدينا وشربنا، فلما أن أخذ الشراب منا قال: مر غلاميك يغنياني، فأمرت الغلامين فغنياه، فطرب وفرح، واستحسن الغناء حتى سرني وأطربني معه، ثم قال: حاجتي إليك يا أبا علي أن تأمرهما بأن يغنياني في هجائك لي -وكان الغلامان لكثرة ما يسمعانه مني في هجائي قد حفظا منه أشياء ولحناها- فقلت له: سبحان الله يا أبا سعد قد طفئت النائرة ، وذهبت العداوة بيننا، وانقطع الشر. فما حاجتك إلى هذا? فقال لي: سألتك بالله إلا فعلت، فليس يشق ذلك علي. ولو كرهته لما سألته. فقلت في نفسي: أترى أبا سعد يتماجن علي? يا غلمان فغنوه بما يريد، فقال غنوه:
يا أبا سعد قوصـره زاني الأخت والمره فغنوه، وهو يحرك رأسه وكتفيه، ويطرب ويصفق، فما زلنا يومنا مسرورين. فلما ثمل ودعني وقام فانصرف وأمرت غلماني فخرجوا معه إلى الباب، فإذا غلام منهم قد انصرف إلي بقطعة قرطاس، وقال: دفعها إلي أبو سعد المخزومي، وأمرني أن أدفعها إليك. قال: فقرأتها، فإذا فيها:
لدعبل مـنة يمـن بـهـا فلست حتى الممات أنساها
أدخلنا بيته فـأكـرمـنـا ودس بامرأته فنكنـاهـا فقال: ويلي على ابن الفاعلة، هاتوا جلدا ودواة، قال فردوهما علي، فعدت إلى هجائه، ولقيته بعد يومين أو ثلاثة، فما سلم علي، ولا سلمت عليه.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا علي بن عبد الله بن سعد، أنه سمع دعبلا يحدث بخبره هذا مع أبي سعد، فذكر نحو ما ذكره العنزي.
يشد على المخزومي فيقنعه بسيفه: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدثني أحمد بن أبي كامل قال: رأيت دعبلا قد لقي أبا سعد في الرصافة، وعليهما السواد وسيفاهما على أكتافهما، فشد دعبل على أبي سعد فقنعه، فركض أبو سعد بين يديه هاربا، وركض دعبل في أثره وهو يهرب منه حتى غاب.
يهجو المخزومي حين انتفى منه بنو مخزوم:
صفحة : 2257
قال: وكنت أرى أبا سعد يجلس مع بني مخزوم في دار المأمون، فتظلموا منه إلى المأمون، وذكروا أنهم لا يعرفون له فيهم نسبا، فأمرهم المأمون بنفيه، فانتفوا منه، وكتبوا بذلك كتابا. فقال دعبل فيه يذكر ذلك من قصيدة طويلة:
غير أن الصيد منهم قنعوه بـخـزايه
كتبوا الصك علـيه فهو بين الناس آيه
فإذا أقـبـل يومـا قيل قد جاء النفايه وقال فيه أيضا:
هم كتبوا الصك الذي قد علمته عليك وشنوا فوق هامتك القفدا قال: وكان إذا قيل له ذلك شيء في نسبه قال: أنا عبد ابن عبد. قال: ونظر دعبل فرأى على أبي سعد قباء مرويا مصبوغا بسواد، فقال: هذا دعي على دعي.
يرى دفتر شعر المخزومي فيملي هجاء له على حامله: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أحمد بن مروان مولى الهادي قال: لقيني أبو سعد المخزومي على ظهر الطريق فقال لي: يا أحمد أنا أدرس شكايتك إلى أبيك، قال فقلت: ولم أبقاك الله? قال: فما فعل دفتر البزاريات ? قلت: هو ذا أجيئك به، فلما صليت الظهر جئت بالدفتر أريده، فمررت بدعبل فدققت بابه، فسمعته يقول لجارية له: يا دراهم، انظري من بالباب. فقال له: أحمد بن مروان. فقال: افتحي له، فلما دخلت قلت له: أيش هو دراهم من الأسماء? قال: سميتم جواريكم دنانير، فسمينا جوارينا بدراهم. ثم قال: ما هذا معك? قلت: دفتر فيه شعر أبي سعد في البزاريات، فأخذه فنظر فيه وابنه علي بن دعبل بن علي معه، فلما بلغ من نظرة إلى شعره الذي يقول فيه:
مالت إلى قلبك أحزانه فهو مجم الهم خزانه قال له ابنه علي: فما كان عليه با أبت لو قال في شعره:
عادت إلى قلبك أحزانه? فقال دعبل: صدقت والله يا بني، أنت والله أشعر منه، قال: ثم إنه أملي علي دعبل إملاء:
ما كنت أحسب أن الدهر يمهلني حتى أرى أحدا يهجوه لا أحـد
إني أعجب ممن في حقيبـتـه من المني بحور كيف لا يلـد?
فإن سمعت به بعت القنا عبثـا فقد أراد قنا ليست لـه عـقـد ثم صرت إلى أبي سعد، فلما رآني من بعيد قال: يا أحمد، من أين أقبلت? قلت: من عند دعبل. قال: وما دعبلت عنده? فأنشدته شعر دعبل فيه، وأخبرته بما قال ابنه في شعره، فقال: صدق والله، في أي سن هو? قلت: قد بلغ، فدعا بدواة وقرطاس وقال: اكتب فكتبت:
لا والذي خلق الصهباء من ذهب والماء من فضة لا ساد من بخلا
يقول لي دعبل في بطنه حـبـل ولو أصاب ثيابي دعبل حـبـلا
ودعبل رجل ما شئت من رجـل لو كان أسفله من خلفه رجـلا قال: ثم هجاني أبو سعد، فقال:
عدو راح في ثـوبـي صـديق شريك في الصبوح وفي الغبوق
له وجهان ظاهـره ابـن عـم وباطنه ابـن زانـية عـتـيق
يسرك معلـنـا ويسـوء سـرا كذاك يكون أبنـاء الـطـريق يخاف بنو مخزوم هجاءه فينفون المخزومي عنهم: أخبرني عمي والحسن بن علي قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا أبو ناجية -شيخ من ولد زهير بن أبي سلمى- قال: حضرت بني مخزوم وهم ببغداد، وقد اجتمعوا على أبي سعد لما لج الهجاء بينه وبين دعبل، وقد خافوا لسان دعبل، وأن يقطعهم ويهجوهم هجاء يعمهم جميعا، فكتبوا عليه كتابا، وأشهدوا أنه ليس منهم. فحدثني غير واحد أنه أتى حينئذ بخاتمة النقاش، فنقش عليه: أبو سعد العبد ابن العبد بري من بني مخزوم تهاونا بما فعلوه.
المخزومي يحرض المأمون عليه فلا يستجيب له: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد قال: كان أبو سعد المخزومي قد كان يستعلي على دعبل في أول أمره، وكان يدخل إلى المأمون فينشده هجاء دعبل له وللخلفاء، ويحرضه عليه وينشده جوابه ، فلم يجد عند المأمون ما أراده فيه.
يعترض ابن أبي الشيص بينهما، ويهجو المخزومي: وكان يقول: الحق في يدك والباطل في يد غيرك، والقول لك ممكن، فقل ما يكذبه ، فأما القتل فإني لست أستعمله فيمن أعظم ذنبه، أفأستعمله في شاعر فاعترض بينهما ابن أبي الشيص، فقال يهجو أبا سعد:
أنا بشرت أبا سعد فأعطاني البشاره
صفحة : 2258
بأب صـــيد لـــه بـــــال أمــس فـــي دار الإمـــاره
فهـو يومـا مـــن تـــمـــيم وهـــو يوم مـــن فـــزاره
كل يوم لأبي سعد على الأنساب غاره
خزمت مخزوم فاه فادعــاهـــا بـــالإشـــاره قال: وقال فيه ابن أبي الشيص أيضا:
أبـا سـعـد بـحـــق الـــخـــم س والـمـفـروض مـن صـومــك
أقلت الحق في النسبة أم تحلم في نومك?
ابن لي أيها المعرور ر مـمـن أنـت فـي قــومـــك?
فولى قائلا لو شئت قد أقصرت من لومك
ودعني أك من شئت إذا لــم أك مـــن قـــومـــك من هجائه في المخزومي: وقال فيه دعبل:
إن أبا سعد فتى شـاعـر يعرف بالكنية لا الوالـد
ينشد في حي معـد أبـا ضل عن المنشود والناشد
فرحمة الله على مسـلـم أرشد مفقودا إلى فاقـد يغري الصبان أن يصيحوا بهجائه في المخزومي: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أحمد بن عثمان الطبري قال: سمعت دعبل بن علي يقول: لما هاجيت أبا سعد أخذت معي جوزا ودعوت الصبيان فأعطيتهم منه، وقلت لهم: صيحوا به قائلين:
يا أبا سعد قوصـره زاني الأخت والمره فصاحوا به، فغلبته.
تحريض آخر للمأمون عليه: أخبرني الحسن بن علي، قال حدثني ابن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن مروان قال: حدثني أبو سعد المخزومي واسمه عيسى بن خالد بن الوليد قال: أنشدت المأمون قصيدتي الدالية التي رددت فيها على دعبل قوله:
ويسومني المأمون خطة عاجـز أو ما أرى بالأمس رأس محمد وأول قصيدتي:
أخذ المشيب من الشباب الأغيد والنائبات من الأنام بمرصـد ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ائذن لي أن أجيئك برأسه. قال: لا، هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا، فأما قتله بلا حجة فلا.
يذكر هجائه للمخزومي فيه وقد رأي وجهه في المرآة: أخبرني عمي والحسن بن علي عن أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني أبو السري عمرو الشيباني قال: نظر دعبل يوما في المرآة، فجعل يضحك، وكانت في عنفقته سلعة ، فقلت له: من أي شيء تضحك? قال: نظرت إلى وجهي في المرآة، ورأيت هذه السلعة التي في عنفقتي، فذكرت قول الفاجر أبي سعد:
وسلعة سوء به سلعة ظلمت أباه فلم ينتصر ينشده منشد قصيدة للمخزومي فيه: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: قال عبد الله بن الحسن بن أحمد مولى عمر بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن علي الطالبي قال: لقيت دعبل بن علي، فحدثني أن أبا عمرو الشيباني سأله: ما هو دعبل? فقلت له: لا أدري، فقال: إنها الناقة المسنة. قال محمد بن علي الطالبي: ثم تحدثنا ساعة، فقلت: أما ترى لأبي سعد يا أبا علي وانهماكه في هجائك? فقال دعبل: لكني لم أقل فيه إلا أبياتا سخيفة يلعب بها الصبان والإماء، وأنشدني قوله فيه:
يا أبا سعد قـوصـره زاني الأخت والمره
لو تراه مـحـنـبـا خلته عقد قنـطـره
أو ترى الأير في استه قلت ساق بمقطـره قال محمد، فقلت لدعبل: دع عنك ذا، فقد والله أوجعك الرجل، فإذا أجبته بجواب مثله انتصفت، وإلا فإن هذا اللو الذي فخرت به يسقط وتفضح آخر الدهر، قال: ثم أنشدته قول أبي سعد فيه :
لم يبق لي لذة مـن طـية بـدد ولا المنازل من خيف ولا سنـد
أبعد خمسين عادت جاهـلـيتـه يا ليت ما عاد منها اليوم لم يعد
وما تريد عيون العين من رجـل كر الجديدان في أيامه الـجـدد
أبدى سرائره وجـدا بـغـانـية ولو أطاع مشيب الرأس لم يجد
واستمطرت عبرات العين منزلة لم يبق منها سوى الآري والوتد
وما بكاؤك دارا لا أنيس بـهـا إلا الخواضب من خيطانها الربد
لدعبل وطر في كل فـاحـشة لو باد لؤم بني قحطا لـم يبـد
ولي قواف إذا أنزلتهـا بـلـدا طارت بهن شياطيني إلى بلـد
لم ينج من خيرها أو شرها أحد فاحذر شأبيبها إن كنت من أحد
صفحة : 2259
إن الطرماح نالته صواعـقـهـا في ظلمة القبر بين الهام والصرد
وأنت أولى بها إذ كنـت وارثـه فابعد وجهدك أن تنجو على البعد
تهجو نزارا وترعى في أرومتهـا وتنتمي في أناس حاكة الـبـرد
إني إذا رجل دبـت عـقـاربـه سقيته سم حـياتـي فـلـم يعـد
زدني أزدك هوانا أنت موضعـه ومن يزيد إذا ما نحن لـم نـزد?
لو كنت متئدا فيمـا تـلـفـقـه لكان حظك منـه حـظ مـتـئد
أو كنت معتمدا منه عـلـى ثـقة من المكارم قلنا: طول معتـمـد
لقد تقلت أمـرا لـسـت نـائلـه بلا ولي ولا مولى ولا عـضـد
وقد رميت بياض الشمس تحسبـه بياض بطنك من لؤم ومن نـكـد
لا توعدني بقوم أنت ناصـرهـم واقعد فإنك نومان من الـقـعـد
لله معتصم بالـلـه، طـاعـتـه قضية من قضايا الواحد الصمـد قال، فلما أنشدتها دعبلا، قال: أنا أشتمه وهو يشتمني، فما إدخال المعتصم بيننا? وشق ذلك عليه وخافه، ثم قال نقيض هذه القصيدة:
منازل الحي من غمدان فالنضد وهي طويلة مشهورة في شعره، هكذا قال العنزي في الخبر، ولم يأت بها.
يمر بأبي سعيد على جسر ببغداد فيشتمه: حدثنا محمد قال: حدثنا العنزي قال: حدثني عبد الله بن الحسين عن محمد بن علي الطالبي قال: عبر دعبل الجسر ببغداد، وأو سعد واقف على دابته عند الجسر، وعليه ثوب صوف مشبه بالخز مصبوغ، فضرب دعبل بيده على فخذه، وقال: دعي على دعي.
حديث بين عبد الله بن طاهر والضبي عن نسبه: أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني صهر المبرد قال: حدثني محمد بن موسى الضبي راوية العتابي، وكان نديما لعبد الله بن طاهر قال: بينما هو ذات ليلة يذاكرنا بالأدب وأهله وشعراء الجاهلية والإسلام إذ بلغ إلى ذكر المحدثين حتى انتهى إلى ذكر دعبل، فقال: ويحك يا ضبي، إني أريد أن أحدثك بشيء على أن تستره طول حياتي، فقلت له: أصلحك الله أنا عندك في موضع ظنة? قال: لا، ولكن أطيب لنفسي أن توثق لي بالأيمان لأركن إليها، ويسكن قلبي عندها، فأحدثك حينئذ.
قال: قلت: إن كنت عند الأمير في هذه الحال فلا حاجة به إلى إفشاء سره إلي، واستعفيته مرارا فلم يعفني، فاستحييت من مراجعته، وقلت: فلير الأمير رأيه. فقال لي: يا ضبي، قل: والله. قلت: والله، فأمرها علي غموسا مؤكدة بالبيعة والطلاق وكل ما يحلف به مسلم. ثم قال: أشعرت أن دعبلا مدخول النسب? وأمسك، فقلت: أعز الله الأمير، أفي هذا أخذت العهود والمواثيق وملغظ الأيمان? قال: إي والله، فقلت: ولم? قال: لأني رجل لي في نفسي حاجة، ودعبل رجل قد حمل نفسه على المهالك، وحمل جذعه على عنقه، فليس يجد من يصلبه عليه، وأخاف إن بلغه أن يقول في ما يبقى علي عاره على الدهر، وقصاراي إن ظفرت به وأسلمته اليمن -وما أراها تفعل؛ لأنه اليوم لسانها وشاعرها والذاب عنها والمحامي لها والمرامي دونها- فأضربه مائة سوط، وأثقله حديدا، وأصيره في مطبق باب الشام.
وليس في ذلك عوض مما سار في من الهجاء وفي عقبي من بعدي. فقلت: ما أراه يفعل ويقدم عليك. فقال لي: يا عاجز، أهون عليه مما لم يكن. أتراه أقدم على الرشيد والأمين والمأمون وعلى أبي ولا يقدم علي? فقلت: فإذا كان الأمر كذا فقد وفق الأمير فيما أخذه علي.
قال: وكان دعبل صديقا لي، فقلت: هذا شيء قد عرفته، فمن أين? قال الأمير: إنه مدخول النسب وهو في البيت الرفيع من خزاعة، لا يتقدمهم غير بني أهبان مكلم الذئب. فقال: أسمع أنه كان أيام ترعرع خاملا لا يؤبه له، وكان ينام هو ومسلم بن الوليد في إزار واحد، لا يملكان غيره. ومسلم أستاذه وهو غلام أمرد يخدمه، ودعبل حينئذ لا يقول شعرا يفكر فيه حتى قال:
لا تعجبني يا سلم من رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى بداية اشتهاره وطلب الرشيد أن يلازمه:
صفحة : 2260
وغنى فيه بعض المغنين وشاع، فغني به بين يدي الرشيد، إما ابن جامع أو ابن المكي، فطرب الرشيد، وسأل عن قائل الشعر، فقيل له: دعبل بن علي، وهو غلام نشأ من خزاعة. فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه، فأحضر ذلك، فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصيته، وقال له: اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن علي، فإذا دللت عليه فأعطه هذا، وقل له: ليحضر إن شاء، وإن لم يجب ذلك فدعه. وأمر للمغني بجائزة، فسار الغلام إلى دعبل، وأعطاه الجائزة، وأشار عليه بالمسير إليه.
فلما دخل عليه وسلم أمره بالجلوس فجلس، واستنشده الشعر فأنشده إياه، فاستحسنه وأمره بملازمته وأجرى عليه رزقا سنيا، فكان أول من حرضه على قول الشعر.
يبلغه موت الرشيد فيهجوه: فوالله ما بلغه أن الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله: من العطاء السني، والغنى بعد الفقر، والرفعة بعد الخمول بأقبح مكافأة. وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت عليهم السلام، وهجا الرشيد:
وليس حي من الأحـياء نـعـلـمـه من ذي يمان ومن بكر ومن مضـر
إلا وهـم شـركـاء فـي دمـائهـم كما تشارك أيسـار عـلـى جـزر
قتل وأسـر وتـحـريق ومـنـهـبة فعل الغزاة بأرض الروم والـخـزر
أرى أمية مـعـذورين إن قـتـلـوا ولا أرى لبني العبـاس مـن عـذر
أربع بطوس على القبر الـزكـي إذا ما كنت تربع من دين علـى وطـر
قبران في طوس خير الناس كلـهـم وقبر شرهم هـذا مـن الـعـبـر
ما ينفع الرجس من قرب الزكـي ولا على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسـبـت له يداه فـخـذ مـا شـئت أو فـذر -يعني قبر الرشيد وقبر الرضا عليه السلام، فهذه واحدة.
يدس إلى المأمون شعر له فيصفح عنه ويستقدمه: وأما الثانية فإن المأمون لم يزل يطلبه وهو طائر على وجهه حتى دس إليه قوله:
علم وتحكيم وشيب مـفـارق طمسن ريعان الشباب الرائق
وإمارة فـي دولة مـيمـونة كانت اللذات أشغـب عـائق
أنى يكون وليس ذاك بـكـائن يرث الخلافة فاسق عن فاسق
إن كان إبراهيم مضطلعا بهـا فلتصلحن من بعده لمخـارق فلما قرأها المأمون ضحك، وقال: قد صفحت عن كل ما هجانا به إذا قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة، وولاه عهده.
وكتب إلى أبي أن يكاتبه بالأمان، ويحمل إليه مالا. وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل. فكتب إليه أبي بذلك، وكان واثقا به، فصار إليه، فحمله وخلع عليه، وأجازه وأعطاه المال، وأشار عليه بقصد المأمون ففعل. فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه، ثم قال أنشدني:
مدارس آيات خلت من تـلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات فجزع، فقال له: لك الأمان لا خف، وقد رويتها ولكني أحب سماعها من فيك، فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه، فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل، وآخر خارج من عنده.
?يستدعيه بعض بني هاشم ثم لا يرضيه فيهجوه: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو بكر العامري، قال: استدعى بعض بني هاشم دعبل وهو يتولى للمعتصم ناحية من نواحي الشام، فقصده إليها، فلم يقع منه بحيث ظن وجفاه، فكتب إليه دعبل:
دليتني بغرور وعدك فـي متلاطم من حومة الغرق
حتى إذا شمت العدو وقـد شهر انتقاصك شهرة البلق
أنشأت تحلف أن ودك لـي صاف وحبلك غير منحذق
وحسبتني فقعا بقـرقـرة فوظئتني وطئا على حنق
ونصبتني علما على غرض ترميني الأعداء بالحـدق
وظننت أرض الله ضـيقة عني وأرض الله لم تضق
من غير ما جرم سوى ثقة مني بوعدك حين قلت: ثق
ومودة تحنو علـيك بـهـا نفسي بلا من ولا مـلـق
فمتى سألتك حـاجة أبـدا فاشدد بها قفلا على غلق
صفحة : 2261
وقف الإخاء على شفى جرف هار فبعه بـيعة الـخـلـق
وأعدلي قـفـلا وجـامـعة فاشدد يدي بها إلى عنـقـي
أعفيك مما لا تحـب بـهـا واسدد علي مذاهب الأفـق
ما أطول الدنيا وأعرضـهـا وأدلني بمسالـك الـطـرق ?يتهم بشتم بنت عبد المطلب فيهرب وينكر التهمة: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبي قال: قدم دعبل الدينور ، فجرى بينه وبين رجل من ولد الزبير بن العوام كلام وعربدة على النبيذ، فاستعدى علي عمرو بن حميد القاضي، وقال: شتم بنت عبد المطلب، واجتمع عليه الغوغاء، فهرب دعبل، وبعث القاضي إلى دار دعبل فوكل بها وختم بابه، فوجه إليه برقعة فيها: ما رأيت قط أجهل منك إلا من ولاك، فأنه أجهل، يقضي في العربدة على النبيذ، ويحكم على خصم غائب، ويقبل عقلك أني رافضي شتم صفية بنت عبد المطلب. سخنت عينك، أفمن دين الرافضة شتم صفية??? قال أبي: فسألني الزبيري القاضي عن هذا الحديث فحدثته، فقال: صدق والله دعبل في قوله، لو كنت مكانه لوصلته وبررته.
يغري متنسكا فيعود إلى الندماء يسمع الغناء ولا يشرب النبيذ: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن سهل القارئ قال حدثني دعبل قال: كتبت إلى أبي نهشل بن حميد، وقد كان نسك وترك شرب النبيذ، ولزم دار الحرم:
إنما العيش في منادمة الإخوان لا في الجلوس عند الكعاب
وبصرف كأنها ألسن البر ق إذا اسـتـعـرضـت رقـيق الــســـحـــاب
إن تكونوا تركتم لذة العيش حذار العقاب يوم الـعـقـاب
فدعوني وما ألذ وأهوى وادفـعـوا بـي فـي نـحـر يوم الـحـــســـاب قال: فكان بعد ذلك يدعوني وسائر ندمائي، فنشرب بين يديه، ويستمع الغناء، ويقتصر على الأنس والحديث.
يشترك في نظم قصيدة نصفها له ونصفها الآخر لإبراهيم بن العباس: أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا إبراهيم بن المدبر قال: كنت أنا وإبراهيم بن العباس رفيقين نتكسب بالشعر قال: وأنشدني قصيدة دعبل في المطلب بن عبد الله:
أمطلب أنت مستعـذب سمام الأفاعلي ومستقبل قال، وقال لي دعبل: نصفها لإبراهيم بن العباس، كنت أقول مصراعا فيجيزه، ويقول هو مصراعا فأجيزه.
يهجو مالك بن طوق لأنه لم يرص ثوابه: قال ابن مهرويه: وحدثني إبراهيم بن المدبر أن دعبلا قصد مالك بن طوق ومدحه، فلم يرض ثوابه، فخرج عنه وقال فيه:
إن ابن طوق وبني تغلـب لو قتلوا أو جرحوا قصره
لم يأخذوا من دية درهمـا يوما ولا من أرشهم بعره
دماؤهم ليس لها طـالـب مطلولة مثل دم العـذره
وجوههم بيض وأحسابهـم سود وفي آذانهم صفـرة يمدح عبد الله بن طاهر فيجيزه: حدثنا محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثني العنزي قال: حدثنا عبد الله بن الحسن قال: حدثني عمر بن عبد الله أبو حفص النحوي مؤدب آل طاهر قال: دخل دعبل بن علي على عبد الله بن طاهر، فأنشده وهو ببغداد:
جئت بلا حرمة ولا سبـب إليك إلا بـحـرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنني رجل غير ملح عليك في الطلب قال فانتعل عبد الله، ودخل إلى الحرم، ووجه إلى بصرة فيها الف درهم، وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاك عاجل بـرنـا ولو انتظرت كثيرة لم يقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ونكون نحن كأننا لم نفعـل يهجو مالك بن طوق فيطلبه فيهرب إلى البصرة: أخبرني أحمد بن عاصم الحلواني قال: حدثنا أبو بكر المدائني قال: حدثنا أبو طالب الجعفري ومحمد بن أمية الشاعر جميعا قالا: هجا دعبل بن علي مالك بن طوق قال:
سألت عنكم يا بني مـالـك في نازح الأرضين والدانيه
طرا فلم تعرف لكن نسـبة حتى إذا قلت بني الزانـية
قالوا فدع دارا على يمـنة وتلك ها دارهـم ثـانـيه
لا حـد أخـشـاه عـلـى من قـال أمـك زانــيه وقال أيضا فيه:
يا زاني ابن الزان ابن الزان ابن الزانية
أنت المردد في الزنا ء عـلـى الـسـنـين الـخـالــية
صفحة : 2262
ومردد فيه علـى كر السنين الباقية وبلغت الأبيات مالكا، فطلبه، فعرب فأتي البصرة وعليها إسحاق بن العباس بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان بلغه هجاء دعبل وابن أبي عيينة نزارا.
فأما ابن أبي عيينة فإنه هرب منه فلم يظهر بالبصرة طوال أيامه.
يقبض عليه والي البصرة فيعفيه من القتل ويشهره: وأما دعبل فإنه حين دخل البصرة بعث فقبض عليه، ودعا بالنطع والسيف ليصرب عنقه، فجحد القصيدة وحلف بالطلاق على جحدها وبكل يمين تبرئ من الدم أنه لم يقلها وأن عدوا له قالها، إما أبو سعد المخزومي أو غيره ونسبها غليه ليغري بدمه، وجعل يتضرع إليه ويقبل الأرض ويبكي بين يديه، فرق له، فقال: أما إذا أعفيتك من القتل فلا بد من أن أشهرك، ثم دعا بالعصا فضربه حتى سلح، وأمر به فألقي على قفاه، وفتح فمه فرد سلحه فيه والمقارع تأخذ رجليه، وهو يحلف ألا يكف عنه حتى يستوفيه ويبلعه أو يقتله. فما رفعت عنه حتى بلع سلحه كله، ثم خلاه، فهرب إلى الأهواز.
بعث مالك بن طوق رجلا فاغتاله بأرض السوس: وبعث مالك بن طوق رجلا حصيفا مقداما، وأعطاه سما وأمره أن يغتاله كيف شاء، وأعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم، لم يزل يطلبه حتى وجده في قرية من نواحي السوس، فاغتاله في وقت من الأوقات بعد صلاة العتمة، فضرب ظهر قدمه بعكاز له زج مسموم فمات من غد، ودفن بتلك القرية.
وقيل بل حمل إلى السوس، فدفن فيها.
طلب والي البصرة أن ينقض شاعر هجاءه هو وابن أبي عيينة لنزار: وأمر إسحاق بن العباس شاعرا يقال له: الحسن بن زيد ويكنى أبا الدلفاء، فنقض قصيدتي دعبل وابن أبي عيينة بقصيدة أولها:
أما تنفك متبـولا حـزينـا تحب البيض تعصي العاذلينا يهجو بها قبائل اليمن، ويذكر مثالبهم، وأمره بتفسير ما نظمه، وذكر الأيام والأحوال، ففعل ذلك وسماها الدامغة، وهي إلى اليوم موجودة.
صوت
أتهجر من تحب بغير جرم أسأت إذا وأنت له ظلوم
تؤرقني الهموم وأنت خلو لعمرك ما تؤرقك الهموم الشعر لجعيفران الموسوس، أنشدنيه عمي عن عبد الله عثمان الكاتب عن أبيه عن جده ، وأنشد فيه جحظة عن خالد الكاتب له، وأنشدنيه ابن الوشاء عن بعض شيوخه عن سلمة النحوي له. ووجدته في بعض الكتب منسوبا إلى أم الضحاك المحاربية، والقول الأول أصح. والغناء لابن أبي قباحة، ثاني ثقيل بالوسطى في مجرى البنصر. وفي أبيات أخر من شعر جعيفران غناء، فإن لم يصح هذا له فالغناء له في أشعاره الأخر صحيح، منها:
ما يفعل المرء فهو أهله كل امرئ يشبهه فعلـه
ولا ترى أعجز من عاجز سكتنا عن ذمـه بـذلـه الشعر لجعيفران، والغناء لمتيم، ومما وجدته من الشعر المنسوب إليه في جامعة وفيه له غناء:
قلبي بصاحبة الشنوف معلق وتفر صاحبة الشنوف وألحق
أخبار جعيفران ونسبه
نسبه ونشأته: هو جعيفران بن علي بن أصفر بن السري بن عبد الرحمن الأبناوي، من ساكني سر من رأى، ومولده ومنشؤه ببغداد. وكان من أبناء الجند الخراسانية، وكان يتشيع، ويكثر لقاء أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر.
كان شاعرا مطبوعا ثم اختلط: أخبرني بذلك أبو الحسن علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب عن أبيه وأهله.
وكان جعيفران أديبا شاعرا مطبوعا، وغلبت عليه المرة السوداء، فاختلط وبطل في أكثر أوقاته ومعظم أحواله، ثم كان إذا أفاق ثاب إليه عقله وطبعه، فقال الشعر الجيد. وكان أهله يزعمون أنه من العجم ولد أذين.
خالف أباه إلى جارية له فطرده: فأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن مهرية قال: حدثني علي بن سليمان النوفلي قال: حدثني صالح بن عطية قال: كان لجعيفران الموسوس قبل أن يختلط عقله أب يقال له: علي بن أصفر، وكان دهقان الكرخ ببغداد، وكان يتشيع، فظهر على ابنه جعيفران أنه خالفه إلى جارية له سرية، فطرده عن داره.
يشكوه أبوه إلى موسى بن جعفر فيأمره بإخراجه من ميراثه: وحج فشكا ذلك إلى موسى بن جعفر، فقال له موسى: إن كنت صادقا عليه فليس يموت حتى يفقد عقله، وإن كنت قد تحققت ذلك عليه فلا تساكنه في منزلك، ولا تطعمه شيئا من مالك في حياتك، وأخرجه عن ميراثك بعد وفاتك.
صفحة : 2263
فقدم فطرده، وأخرجه من منزله، وسأل الفقهاء عن حيلة يشهد بها في ماله حتى يخرجه عن ميراثه، فدلوه على السبيل إلى ذلك، فأشهد به، وأوصى إلى رجل. فلما مات الرجل حاز ميراثه ومنع منه جعيفران، فاستعدى عليه أبا يوسف القاضي، فأحضر الوصي.
وسأل جعيفران البينة على نسبه وتركة أبيه، فأقام على ذلك بينة عدة، وأحضر الوصي بينة عدولا على الوصية يشهدون على أبيه ما كان احتال به عليه.
فلم ير أبو يوسف ذلك شيئا، وعزم على أن يورثه، فدفعه الوصي عن ذلك مرات بعلل. ثم عزم أبو يوسف على أن يسجل لجعيفران بالمال، فقال له الوصي: أيها القاضي، أنا أدفع هذا بحجة واحدة بقيت عندي، فأبى أبو يوسف أن يقبل منه، وجعل جعيفران يحرج عليه، ويقول له: قد ثبت عندك أمري، فبأي شيء تدافعني? وجعل الوصي يسأل أن يسمع منه منفردا، فيأبى، ويقول: لا أسمع منك إلا بحضرة خصمك. فقال له أجلني إلى غد، فأجله إلى منزله وكتب رقعة خبره فيها بحقيقة ما أفتى به موسى بن جعفر، ودفعها إلى صديق لأبي يوسف، فدفعها إليه، فلما قرأها دعا الوصي واستحلفه أنه قد صدق في ذلك. فحلف باليمين الغموس. فقال له: اغد على غدا مع صاحبك، فحضر وحضر جعيفران معه، فحكم عليه أبو يوسف للوصي. فلما أمضى الحكم عليه وسوس جعيفران واختلط منذ يومئذ.
وأخبرني بجمل أخباره المذكورة في هذا الكتاب علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب، عن شيوخ له أخذها عنهم وإجازات وجدتها في الكتب، ولم أر أخباره عند أحد أكثر مما وجدتها عنده إلا ما أذكره عن غيره فأنسبه إليه.
يقف بالرصافة على رجل وينشده شعرا: قال علي بن العباس: وذكر عبد الله بن عثمان الكاتب أن أباه عثمان بن محمد حدثه قال: كنت يوما برصافة مدينة السلام جالسا إذ جاءني جعيفران وهو مغضب، فوقف علي وقال:
استوجب العالم مني القتلا فقلت: ولم يا أبا الفضل? فنظر إلي نظرة منكرة خفت منها، وقال:
لما شعرت فرأوني فحلا ثم سكت هنيهة، وقال:
قالوا علي كذبا وبـطـلا إني مجنون فقدت العقلا
قالوا المحال كذبا وجهـلا أقبح بهذا الفعل منهم فعلا ثم ذهب لينصرف، فخفت أن يؤذيه الصبيان، فقلت: اصبر فديتك حتى أقوم معك؛ فإنك مغضب، وأكره أن تخرج على هذه الحال. فرجع إلي، وقال: سبحان الله، أتراني أنسبهم إلى الكذب والجهل، وأستقبح فعلهم، وتتخوف مني مكافأتهم ثم إنه ولى وهو يقول:
لست براض من جهول جهلا ولا مجازيه بفعـل فـعـلا
لكن أرى الصفح لنفسي فضلا من يرد الخير يجده سـهـلا ثم مضى.
رئي وحده يدور في دار طول ليلته وهو ينشده رجزا: وقال علي بن العباس، وقال عثمان بن محمد : قال أبي: كنت أشرف مرة من سطح لي على جعيفران وهو في دار وحده وقد اعتل، وتحركت عليه السوداء، فهو يدور في الدار طول ليلته، ويقول:
طاف به طيف من الوسواس نقر عنه لـذة الـنـعـاس
فما يرى يأنـس بـالأنـاس ولا يلذ عشرة الـجـلاس
فهو غريب بين هذا الناس حتى أصبح وهو يرددها، ثم سقط كأنه بقلة ذابلة.
يستجيب لنظم بيت بنصف درهم: قال علي: وحدثني علي بن رستم النحوي، قال: حدثني سلمة بن محارب قال: مررت ببغداد، فرأيت قوما مجتمعين على رجل، فقلت: ما هذا? فقالوا: جعيفران المجنون، فقلت: قل بيتا بنصف درهم. قال: هاته، فأعطيته، فقال:
لج ذا الهم واعتلج كل هم إلى فرج ثم قال: زد إن شئت حتى أزيدك.
يصيح الصبيان خلفه وهو عريان، وينشد شعرا في جناية الفقر عليه: قال علي: وحدثني عبد الله بن عثمان، عن أبيه قال: غاب عنا جعيفران أياما ثم جاءنا والصبيان يشدون خلفه وهو عريان وهم يصيحون به: يا جعيفران يا خرا في الدار. فلما بلغ إلي وقف، وتفرقوا عنه فقال: يا أبا عبد الله:
رأيت الناس يدعونني بمجنون على حالي
وما بي اليوم من جن ولا وسواس بلبـال
ولكن قولهـم هـذا لإفلاسي وإقلالـي
ولو كنت أخا وفـر رخيا ناعم الـبـال
رأوني حسن العقـل أحل المنزل العالي
صفحة : 2264
وما ذاك على خبر ولكن هيبة المال يدخله سيد داره فيطعمه ويسقيه: قال: فأدخلته منزلي، فأكل، وسقيته أقداحا، ثم قلت له: تقدر على أن تغير تلك القافية? فقال: نعم، ثم قال بديهة غير مفكر ولا متوقف:
رأيت الــنـــاس يرمـــون ي أحـيانــا بـــوســـواس
ومـن يضـبـــط يا صـــاح مقـال الـنـاس فـي الـنـاس?
فدع مـا قـالـه الـــنـــاس ونـازع صـفـوة الـكـــاس
فتى حرا صحيح الود ذا بر وإيناس
فإن الخلق مغرور بأمـثـالـي وأجـنــاســـي
ولـو كـنـت أخـــا مـــال أتـونـي بـين جـــلاســـي
يحـبـونـي ويحـبـــونـــي علـى الـعـينـين والـــراس
ويدعـونـي عـــزيزا غـــي ر أن الــذل إفـــلاســـي يضيق به بعض مجالسيه ويفطن لذلك فيقول شعرا: ثم قام يبول، فقال بعض من حضر: أي شيء معنى عشرتنا هذا المجنون العريان? والله ما نأمنه وهو صاح، فكيف إذا سكر? وفطن جعيفران للمعنى، فخرج إلينا وهو يقول:
ونـدامـي أكـلــونـــي إذ تـغـيبـت قــلـــيلا
زعـمـوا أنـي مـجـنــو ن أرى الـعـرى جـمــيلا
كيف لا أعـرى ومـــا أب صر في الـنـاس مـثـيلا?
إن يكـن قـد سـاءكـم قـر بي فـخـلـوا لـي سـبـيلا
وأتموا يومكم سركم الله طويلا قال: فرققنا له، واعتذرنا إليه، وقلنا له: والله ما نلتذ إلا بقربك، وأتيناه بثوب، فلبسه، وأتممنا يومنا ذلك معه.
يحتكم إلى القاضي فيدفعه عن دعواه فيدعو عليه: أخبرني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: تقدم جعيفران إلى أبي يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه، وقضى عليه. فقال له: أراني الله أيها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه، وأمر برده إلى داره.
فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم، ثم دعا به فقال له: ماذا أردت بدعائك? أردت أن يرد الله على بصري ما ذهب? فقال له: والله لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك؛ لأنت المجنون لا أنا. أخبرني كم من أعور رأيته عمي? قال: كثيرا، قال: فهل رأيت أعور صح قط? قال: لا. قال: فكيف توهمت علي الغلط فضحك وصرفه.
يمدح أبا دلف فيجزل له العطاء: أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثني أحمد بن القاسم البرتي قال: حدثني علي بن يوسف قال: كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي فاستأذن عليه حاجبه لجعيفران الموسوس، فقال له: أي شيء أصنع بموسوس قد قضينا حقوق العقلاء، وبقي علينا حقوق المجانين فقلت له: جعلت فداء الأمير موسوس أفضل من كثير من العقلاء، وإن له لسانا يتقى وقولا مأثورا يبقى، فالله الله أن تحجبه، فليس عليك منه أذى ولا ثقل، فأذن له، فلما مثل بين يديه قال:
يا أكرم العـالـم مـوجـودا ويا أعز الناس مـفـقـودا
لما سألت الناس عـن واحـد أصبح في الأمة محـمـودا
قالوا جميعـا إنـه قـاسـم أشـبـه آبـاء لـه صـيدا
لو عبدوا شيئا سوى ربـهـم أصبحت في الأمة معبـودا
لا زلت في نعمى وفي غبطة مكرما في الناس مـعـدودا قال، فأمر له بكسوة وبألف درهم، فلما جاء بالدراهم أخذ منها عشرة، وقال: تأمر القهرمان أن يعطيني الباقي مفرقا كلما جئت؛ لئلا يضيع مني، فقال للقهرمان: أعطه المال، وكلما جاءك فأعطه ما شاء حتى يفرق الموت بيننا، فبكى عند ذلك جعيفران، وتنفس الصعداء، وقال:
يمـوت هـذا الــذي أراه وكـل شـيء لـه نـفـاذ
لو غير ذي العرش دام شيء لدام ذا المفضل الـجـواد ثم خرج، فقال أبو دلف: أنت كنت أعلم به مني.
يسأل عن أبي دلف ويرتجل في مدحه شعرا:
صفحة : 2265
قال: وغبر عني مدة، ثم لقيني وقال: يا أبا الحسن، ما فعل أميرنا وسيدنا وكيف حاله? فقلت: بخير وعلى غاية الشوق إليك. فقال:أنا والله يا أخي أشوق، ولكني أعرف أهل العسكر وشرههم وإلحاحهم والله ما أراهم يتركونه من المسألة ولا يتركهم، ولا يتركه كرمه أن يخليهم من العطية حتى يخرج فقيرا. فقلت: دع هذا عنك وزره، فإن كثرة السؤال لا تضر بماله، فقال: وكيف? أهو أيسر من الخليفة? قلت: لا. قال: والله لو تبذل لهم الخليفة كما يبذل أبو دلف وأطمعهم في ماله كما يطمعهم لأفقروه في يومين، ولكن اسمع ما قلته في وقتي هذا، فقلت: هاته يا أبا الفضل فأنشأ يقول:
أبا حسن بلغـن قـاسـمـا بأني لم أجفه عـن قـلـى
ولا عـن مـلال لإتـيانـه ولا عن صدود ولا عن غنى
ولكن تعففت عـن مـالـه وأصفيته مدحتي والـثـنـا
أبـو دلـف سـيد مـاجـد سني العطية رحب الفـنـا
كريم إذا انتابه المعـتـفـو ن عمهم بجزيل الـحـبـا يلقى أبا دلف فينشده ما حاله: قال: فأبلغتها أبا دلف، وحدثته بالحديث الذي جرى، فقال لي: قد لقيته منذ أيام؛ فلما رأيته وقفت له، وسلمت عليه، وتحفيت به، فقال لي: سر أيها الأمير على بركة الله، ثم قال لي:
يا معدي الجود على الأموال ويا كريم النفس في الفعال
قد صنتني عن ذلة السـؤال بجودك الموفي على الآمال
صانك ذو العزة والجـلال من غير الأيام واللـيالـي قال: ولم يزل يختلف إلى أبي دلف ويبره حتى افترقا.
يرى وجهه في حب فيهجو نفسه: سمعت عبد الله بن أحمد، عم أبي رحمه الله يحدث فحفظت الخبر، ولا أدري أذكر له إسنادا فلم أحفظه أم ذكره بغير إسناد، قال: كان جعيفران خبيث اللسان هجاء، لا يسلم عليه أحد، فاطلع يوما في الحب ، فرأى وجهه قد تغير، وعفا شعره فقال:
ما جعفـر لأبـيه ولا له بشـبـيه
أصحى لقوم كثير فكلهـم يدعـيه
هذا يقول بـنـي وذا يخاصم فـيه
والأم تضحك منهم لعلمهـا بـأبـيه يسأل طعاما فيجاب له: حدثني محمد بن الحسن الكندي خطيب القادسية قال: حدثني رجل من كتاب الكوفة قال: اجتاز بي جعيفران مرة فقال: أنا جائع، فأي شيء عندك تطعمني? فقلت سلق بخردل.
يهجو جارية مضيفة لتأخرها في شراء بطيخ له: فقال: إشتر لي معه بطيخا، فقلت: أفعل، فادخل، وبعثت بالجارية تجيئه به، وقدمت إليه الخبز والخردل والسلق، فأكل منه حتى ضجر، وأبطأت الجارية، فأقبل علي وقد غضب فقال:
سلقتنا وخـردلـت ثم ولت فأدبـرت
وأراهـا بـواحـد وافر الأير قد خلت قال فخرجت -يشهد الله- أطلبها، فوجدتها خالية في الدهليز بسائس لي على ما وصف.
صوت
ولها مـربـع بـبـرقة خـاخ ومصيف بالقصر قصر قبـاء
كفنوني إن مت في درع أروى واجعلوا لي من بئر عروة مائي
سخنة في الشتاء باردة الصـي ف سراج في الليلة الظلـمـاء الشعر للسري بن عبد الرحمن، والغناء لمعبد، ثقيل بالوسطى عن الهشامي: قال: وفيهما -يعني الثالث والأول- رمل مطلق في مجرى الوسطى.
أخبار السري ونسبه
نسبه السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري، لوجده عويم بن ساعدة صحبة بالنبي ).
شعره وشخصه: والسري شاعر من شعراء أهل المدينة، وليس بمكثر ولا فحل، إلا أنه كان أحد الغزلين والفتيان والمنادمين على الشراب. كان هو وعتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن أيمن، وخالد بن أبي أيوب الأنصاري يتنادمون. قال: وفيهم يقول:
إذا أنت نادمت العتير وذا النـدى جبيرا ونازعت الزجاجة خالـدا
أمنت بإذن الله أن تقرع العصـا وأن ينبهوا من نومة السكر راقدا غناه الغريض ثقيلا.
وكان السري هذا هجا الأحوص، وهجا نصيبا؛ فلم يجيباه.
يهجو النصيب فيهبه لقومه، ولله ورسوله:
صفحة : 2266
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عمي، وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي قالا: حبس النصيب في مسجد النبي -) فأنشد، وكان إذا أنشد لوى حاجبيه، وأشار بيده، فرآه السري بن عبد الرحمن الأنصاري، فجاءه حتى وقف بإزائه ثم قال:
فقدت الشعر حين أتى نصـيبـا ألم تستحي من مقت الـكـرام
إذا رفع ابن ثـوبة حـاجـبـيه حسبت الكلب يضرب في الكعام قال: فقال نصيب: من هذا فقالوا: هذا ابن عويم الأنصاري، قال: قد وهبته لله عز وجل ولرسوله -)- ولعويم بن ساعدة. قال: وكان لعويم صحبة ونصرة.
يحب امرأة يقال لها زينب ويشبب بها: أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني عمي عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري قال: كان السري قصيرا دميما أزرق، وكان يهوى امرأة يقال لها زينب ويشبب بها، فخرج إلى البادية، فرآها في نسوة فصار إلى راع هناك وأعطاه ثيابه، وأخذ منه جبته وعصاه، وأقبل يسوق الغنم حتى صار إلى النسوة فلم يحفلن به، وظنن أنه أعرابي، فأقبل يقلب بعصاه الأرض وينظر إليهم فقلن له: أذهب منك يا راعي الغنم شيء فأنت تطلبه? فقال: نعم. قال: فضربت زينب بكمها على وجهها وقالت: السري والله أخزاه الله فأنشأ يقل: صوت
ما زال فينا سقيم يستطب لـه من ريح زينب فينا ليلة الأحد
حزت الجمال ونشرا طيبا أرجا فما تسمين إلا مسكة البـلـد
أما فؤادي فشيء قد ذهبت بـه فما يضرك ألا تحربي جسدي يستحسن المهدي شعرا له في الغزل: أخبرني الحسين بن علي قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا مصعب الزبيري قال، قال أبي: قال لي المهدي: أنشدني شعرا غزلا، فأنشدته قول السري بن عبد الرحمن:
ما زال فينا سقيم يستطب لـه من ريح زينب فينا ليلة الأحد فأعجبته، وما زال يستعيدها مرارا حتى حفظها.
كان وندماءه تقبل شهادتهم مع شربهم النبيذ: أخبرني الحسن قال: حدثني أحمد قال: حدثني محمد بن سلام الجمحي قال: كان السري بن عبد الرحمن ينادم عتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف وجبير بن أيمن بن أم أيمن مولى النبي -)- وخالد بن أبي أيوب الأنصاري، وكانوا يشربون النبيذ، وكلهم كان على ذلك مقبول الشهادة جليل القدر مستورا، فقال السري:
إذا أنت نادمت العتير وذا النـدى جبيرا ونازعت الزجاجة خالـدا
أمنت بإذن الله أن تقرع العصـا وأن ينبهوا من نومة السكر راقدا فقالوا: قبحك الله ماذا أردت إلى التنبيه علينا والإذاعة لسرنا? إنك لحقيق ألا ننادمك. قال: والله ما أردت بكم سوءا، ولكنه شعر طفح فنفثته عن صدري، قال: وخالد بن أبي أيوب الأنصاري الذي يقول: صوت
ألا سقني كأسي ودع قول من لحى ورو عظاما قصرهن إلى بلـى
فإن بطوء الكأس موت وحبسهـا وإن دراك الكأس عندي هو الحيا الغناء في هذين البيتين هة لعبد الله بن العباس الربيعي، خفيف رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة.
التمثل بشعره في طلب الشراب: أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: حدثني مصعب بن عثمان قال: حدثني عبيد الله بن عروة بن الزبير قال: خرجت وأنا غلام أدور في السكك بالمدينة فانتهيت إلى فناء مرشوش وشاب جميل الوجه جالس، فلما رآني دعاني، ثم قال لي: من أنت يا غلام? فقلت عبيد الله بن عروة بن الزبير. فقال: اجلس، فجلست، فدعا بالغداء فتغدينا جميعا، ثم قال: يا جارية؛ فأقبلت جارية تتهادى كأنها مهاة، وفي يدها قنينية فيها شراب صاف وقلة ماء وكأس، فقال لها: استقني؛ فصبت في الكأس وسكبت عليه ماء وناولته، فشرب ثم قال: اسقيه، فصبت الكأس وسكبت عليه ماء وناولتني. فلما وجدت رائحته بكيت، فقال: ما يبكيك يا بن أخي? فقلت: إن أهلي إن وجدوا رائحة هذا مني ضربونب، فأقبل على الجارية بوجهه، وقال لها يخاطبها:
ألا سقني كأسي ودع عنك من أبى ورو عظاما قصرهن إلى بلـى
صفحة : 2267
فأخذته من يدي وأعطته؛ فشربه، وقمت فلما جاوزته سألت عنه فقيل لي: هذا خالد بن أبي أيوب الأنصاري الذي يقول فيه الشاعر:
إذا أنت نادمت العتير وذا الـنـدى جبيرا ونازعت الزجاجة خـالـدا
أمنت بإذن الله أن تقرع العـصـا وأن يوقظوا من سكرة النوم راقدا
وصرت بحمد الله في خير عصبة حسان الندامى لا تخاف العرابـدا يأبى ابن الماجشون دخول مجلس حتى يخرجه أصحابه فيخرجوه: أخبرنا وكيع قال: حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال: حدثني أبو غسان عن محمد بن يحيى بن عبد الحميد قال: كان السري بن عبد الرحمن يختلف إلى فتية، فجاء ابن الماجشون فقال: لا أدخل حتى يخرج السري؛ فأخرجته فقال السري:
قبح الله أهل بيت بـسـلـع أخرجوني وأدخلوا الماجشونا
أدخلوا هرة تلاعـب قـردا ما نراهم يرون ما يصنعونا شعر له في أمة وبنتها: أخبرني الحسن قال: حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال: أنشدني أبي للسري بن عبد الرحمن في أمة الحميد بنت عبد الله بن عباس وفي ابنتها أمة الواحد:
أمة الحمـيد وبـنـتـهـا ظبيان فـي ظـل الأراك
يتـتـبـعـان بـــريره وظلاله فهـمـا كـذاك
حذي الجمال علـيهـمـا حذو الشراك على الشراك يتمنى أن يكون مؤذنا ليرى ما في السطوح: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال: حدثني يحيى بن عثمان بن أبي قباحة الزهري قال: أنشدني أبو غسان صالح بن العباس بن محمد -وهو إذ ذاك على المدينة- للسري بن عبد الرحمن:
ليتني في المـؤذنـين نـهـارا إنهم يبصرون من في السطوح
فيشـيرون أو يشـار إلـيهـم حبذا كـل ذات جـيد مـلـيح قال: فأمر صالح بسد المنابر، فلم يقدر أحد على أن يطلع رأسه حتى عزل صالح.
يعمره عمر بن عمرو بن عثمان أرضا بقباء: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثني زبير بن بكار عن عمه: أن السري بن عبد الرحمن وقف على عمر بن عمرو بن عثمان، وهو جالس على بابه والناس حوله، فأنشأ يقول:
يا بن عثمان يا بن خير قريش أبغني ما يكفنـي بـقـبـاء
ربما بلنـي نـداك وجـلـى عن جبيني عجاجة الغرماء فأعمره أرضا بقباء، وجعلها طعمة له أيام حياته، فلم تزل في يده حتى مات.
مثل من الولوع بالتغني بشعره: أخبرني وسواسة بن الموصلي، قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عزيز بن طلحة، قال: قال معبد: خرجت من مكة أريد المدينة، فلما كنت قريبا من المنزل أريت بيتا فعدلت إليه، فإذا فيه أسود عنده حبان من ماء وقد جهدني العطش، فسلمت عليه واستسقيت، فقال: تأخر عافاك الله، فقلت: يا هذا، اسقني بسرعة من الماء فقد كدت أموت عطشا، فقال: والله لا تذوق منه جرعة ولو مت، فرجعت القهقري، وأنخت راحلتي واستظللت بظلها من الشمس، ثم اندفعت أغني ليبتل لساني:
كفنوني إن مت في درع أروى واستقوا لي من بئر عروة مائي فإذا أنا بالأسود قد خرج إلي ومعه قدح خيشاني فيه سويق ملت بماء بارد، فقال: هل لك في هذا أرب? قلت: قد منعتني ما هو أقل منه: الماء. فقال: اشرب -عافاك الله- ودع عنك ما مضى، فشربت ثم قال: أعد -فديتك- الصوت، فأعدته، فقال: هل لك -بأبي وأمي- أن أحمل لك قربة من ماء، وأمشي بها معك إلى المنزل وتعيد على هذا الصوت حتى أتزود منه، وكلما عطشت سقيتك? قلت: افعل، ففعل وسار معي، فما زلت أغنيه إياه، وكلما عطشت استقيته حتى بلغت المنزل عشاء .
صوت
سلـب الـــشـــبـــاب رداءه عنـي ويتـــبـــعـــه إزاره
ولقد تحل علي حلته ويعجبني افتخاره
سائل شبابي هل مسك ت بــســـوءة أو ذل جـــاره
ما إن مـلـكـت الـــمـــال إلا كان لـــي ولـــه خــــياره ويروي: هل أسأت مساكه.
الشعر لمسكن الدرامي، والغناء لمقاسة بن ناصح، خفيف رمل بالبنصر عن عمرو.
أخبار مسكين ونسبه
اسمه ونسبه:
صفحة : 2268
مسكين لقب غلب عليه، واسمه ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد الله بن عدس بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وقال أبو عمرو الشيباني: مسكين بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم.
لماذا لقب مسكينا?: قال أبو عمرو: وإنما لقب مسكينا لقوله:
أنا مسكين لمن أنـكـرنـي ولمن يعرفني جد نـطـق
لا أبيع الناس عرضي إنني لو أبيع الناس عرضي لنفق وقال أيضا:
سميت مسكينا وكانت لجاجة وإني لمسكين إلى الله راغب وقال أيضا:
إن أدع فلـسـت بـمـنـكـر وهل ينكرن الشمس ذر شعاعها
لعمرك ما الأسماء إلا عـلامة منار ومن خير المنار ارتفاعها شاعر شريف من سادات قومه، هاجي الفرزدق ثم كافه، فكان الفرزدق بعد ذلك في الشدائد التي أفلت منها.
مهاجاته الفرزدق لأنه نقض رثاءه لزياد: حدثني حبيب بن أوس بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة قال: كان زياد قد أرعى مسكينا الدارمي حمى له بناحية العذيب في عام قحط حتى أخصب الناس وأحيوا، ثم كتب له ببر وتمر وكساه، قال: فلما مات زياد رثاه مسكين، فقال:
رأيت زيادة الإسلام ولت جهارا حين ودعنا زياد فعارضه الفرزدق، وكان منحرفا عن زياد لطلبه إياه وإخافته له، فقال:
أمسكين أبكى الله عينك إنـمـا جرى في ضلال دمعها فتحدرا
بكيت على علج بميسان كـافـر ككسرى على عدانه أو كقيصرا
أقول له لما أتاني نـعـيه: بـه لا بظبي بالصـريمة أعـفـرا فقال مسكين يجيبه:
ألا أيها المرء الذي لسـت قـاعـدا ولا قائما في القوم إلا نـبـرى لـيا
فجئتني بعم مـثـل عـمـي أو أب كمثل أبي أو خال صدق كـخـالـيا
كعمرو بن عمرو أو زرارة ذي الندى أو البشر من كل فرعت الـروابـيا قال: فأمسك الفرزدق عنه، فلم يجبه، وتكافأ.
أخبرني ببعض هذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلام، فذكر نحوا مما ذكره أبو عبيدة وزاد فيه، قال: والبشر خال لمسكين من النمر بن قاسط، وقد فخر به، فقال:
شريح فارس النعمان عمـي وخالي البشر بشر بني هلال
وقاتل خالـه بـأبـيه مـنـا سماعة لم يبع حسبا بـمـال اتقى الفرزدق هجاءه واتقى هو هجاء الفرزدق: وأخبرني عمي قال: حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبيه بمثل هذه الحكاية، وزاد فيها، قال: فتكافأ واتقاه الفرزدق أن يعين عليه جريرا، واتقاه مسكين أن يعين عليه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. ودخل شيوخ بني عبد الله وبني نجاشع، فتكافا.
مهاجاته الفرزدق من المحن التي أفلت منها الفرزدق: وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال: قال الفرزدق.
نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئا: نجوت من زياد حين طلبني، ونجوت من ابني رميلة وقد نذرا دمي وما فلتهما أحد طلباه قط، ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي؛ لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبي وفخري، لأنه من بحبوحة نسبي وأشراف عشيرتي، فكان جرير حينئذ ينتصف مني بيدي ولساني.
شعره في الغيرة أشعر ما قيل فيها: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني محمود بن داود عن أبي عكرمة عامر بن عمران عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة أنه سمعه يقول: أشعر ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي:
ألا أيها الغائر المستشيط فيم تغار إذا لم تغر?
فما خير عرس إذا خفتها ومـا خـير عـرس إذا لـــم تـــزر?
تغـار عـلـى الـنـاس أن ينـظـــروا وهل يفتـن الـصـالـحـات الـنـظـر?
وإنـي سـأخـلـي لـهـا بـيتـــهـــا فتـحـفـظ لـي نـفـسـهـا أو تـــذر
إذا الـلـه لـم يعـطـنـي حـبــهـــا فلـن يعـطـي الـحـب سـوط مـمــر يأبى معاوية أن يفرض له: ثم يعود فيجيبه إلى طلبه: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال: حدثني عبد الله بن مالك الخزاعي قال: حدثني عبد الله بن بشير قال: أخبرني أيوب بن أبي أيوب السعدي قال:
صفحة : 2269
لما قدم مسكين الدارمي على معاوية فسأله أن يفرض له فأبى عليه، وكان لا يفرض إلا لليمن، فخرج من عنده مسكين وهو يقول:
أخاك أخاك إن من لا أخـا لـه كساع إلى الهيجا بغـير سـلاح
وإن ابن عم المرء فأعلم جناحـه وهل ينهض البازي بغير جناح?
وما طالب الحاجات إلا مغـرر وما نال شيئا طالب كـنـجـاح قال السعدي: فلم يزل معاوية كذلك حتى غزت اليمن وكثرت، وضعضعت عدنان، فبلغ معاوية أن رجلا من أهل اليمن قال يوما: لهممت ألا أدع بالشأم أحدا من مضر، بل هممت ألا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشأم، فبلغت معاوية، ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس سوى خندق، وقدم على تفئية ذلك عطارد بن حاجب على معاوية، فقال له: ما فعل الفتى الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان? يعني مسكينا، فقال: صالح: يا أمير المؤمنين، فقال: أعلمه أني فرضت له من شرف العطاء وهو في بلاده؛ فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل، فإن عطاءه سيأتيه، وبشره أني فرضت لأربعة آلاف من قومه من خندق؛ قال: وكان معاوية بعد ذلك يغزي اليمن في البحر، ويغزي قيسا في البر، فقال شاعر اليمن:
ألا أيها القوم الـذين تـجـمـعـوا بعكا أنـاس أنـتـم أم أبـاعـر?
أتتـرك قـيس آمـنـين بـدارهـم ونركب ظهر البحر والبحر زاخر?
فواللـه مـا أدري وإنـي لـسـائل أهمدان يحمى ضيمها أم يحابـر?
أم الشرف الأعلى من أولاد حمـير بنو مالك إذ تستـمـر الـمـرائر
أأوصى أبوهم بينهم أن تواصـلـوا وأوصى أبوكم بينكم أن تـدابـروا قال، ويقال: إن النجاشي قال هذه الأبيات.
أخبرني بذلك عبد الله بن أحمد بن الحارث العدوي عن محمد بن عائد عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عياش وغيره، قالوا: فلما بلغت هذه الأبيات معاوية بعث إلى اليمن فاعتذر إليهم، وقال: ما أغزيتكم البحر إلا لأني أتيمن بكم، وأن في قيس نكدا وأخلاقا لا يحتملها الثغر، وأنا عارف بطاعتكم. ونصحكم. فأما إذ قد ظننتم غير ذلك فأنا أجمع فيه بينكم وبين قيس فتكونون جميعا فيه وأجعل الغزو فيه عقبا بينكم، فرضوا فعل ذلك فيما بعد.
بشر بن مروان يتمثل بشعر له: حدثني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال: حدثني مصعب بن عبد الله قال: وحدثنيه زبير عن عمه قال: كان أصاغر ولد مروان في حجر ابنه عبد العزيز بن مروان، فكتب عبد العزيز إلى بشر كتابا، وهو يومئذ على العراق، فورد عليه وهو ثمل، وكان فيه كلام أحفظه، فأمر بشر كاتبه فأجاب عبد العزيز جوابا قبيحا، فلما ورد عليه علم أنه كتبه وهو سكران، فجفاه وقطع مكاتبته زمانا. وبلغ بشرا عتبه عليه، فكتب إليه: لولا الهفوة لم أحتج إلى العذر، ولم يكن لك في قبوله مني الفضل. ولو احتمل الكتاب أكثر مما ضمنته لزدت فيه، وبقية الأكابر على الأصاغر من شيم الأكارم. ولقد أحسن مسكين الدارمي حين يقول:
أخاك أخاك إن من لا أخـا لـه كساع إلى الهيجا بغير سـلاح
وإن ابن عم المرء فأعلم جناحه وهل ينهض البازي بغير جناح قال: فلما وصل كتابه إلى عبد العزيز دمعت عينه، وقال: إن أخي كان منتشيا ولولا ذلك لما جرى منه ما جرى، فسلوا عمن شهد ذلك المجلس؛ فسئل عنهم، فأخبر بهم، فقبل عذره، وأقسم عليه ألا يعاشر أحدا من ندمانه الذين حضروا ذلك المجلس، وأن يعزل كاتبه عن كتابته، ففعل.
مهاجاته الفرزدق من المحن التي نجا الفرزدق منها: أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب القادسية قال: حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال: كان الفرزدق يقول: نجوت من ثلاث أرجو ألا يصيبني بعدهن شر: نجوت من زياد حين طلبني وما فاته مطلوب قط، ونجوت من ضربة رئاب بن رميلة أبي البذال فلم يقع في رأسي، ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي. ولو هاجيته لحال بيني وبين بين بني عمي، وقطع لساني عن الشعراء.
يخطب فتاة فتأباه، ويمر بها وهي مع روجها، فيقول في ذلك شعرا: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أبو العيناء عن الأصمعي قال:
صفحة : 2270
خطب مسكين بن خلف فتاة من قومه فكرهته لسواد لونه وقلة ماله، وتزوجت بعده رجلا من قومه ذا يسار ليس له مثل نسب مسكين، فمر بهما مسكين ذات يوم، وتلك المرأة جالسة مع زوجها، فقال:
أنا مسكين لمن يعـرفـنـي لوني السمرة ألوان العـرب
من رأى ظبيا علـيه لـؤلـؤ واضح الخدين مقرونا بضب
أكسبته الورق الـبـيض أبـا ولقد كان ومـا يدعـى لأب
رب مهزول سمـين بـيتـه وسمين البيت مهزول النسب
أصبحت ترزق من شحم الذرا وتخال اللؤم درا ينـتـهـب
لا تلمها إنهـا مـن نـسـوة صخبات ملحها فوق الركب
كشموس الخيل يبدو شغبـهـا كلما قيل لها هـال وهـب يأمره يزيد أن يرشحه للخلافة في أبيات وينشدها في مجلس أبيه: أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثني حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدثني أبي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال: كان يزيد بن معاوية يؤثر مسكينا الدارمي، ويصله ويقوم بحوائجه عند أبيه، فلما أراد معاوية البيعة ليزيد تهيب ذلك وخاف ألا يمالئه عليه الناس، لحسن البقية فيهم، وكثرة من يرشح للخلافة، وبلغه في ذلك ذرء وكلام كرهه من سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر، فأمر يزيد مسكينا أن يقول أبياتا وينشدها معاوية في مجلسه إذا كان حافلا وحضره وجوه بني أمية، فلما اتفق ذلك دخل مسكين إليه، وهو جالس وابنه يزيد عن يمينه وبنو أمية حواليه وأشراف الناس في مجلسه، فمثل بين يديه وأنشأ يقول:
إن أدع مسكينا فإني ابن معشر من الناس أحمي عنهم وأذود
إليك أمير المؤمنين رحلتـهـا تثير القطا ليلا وهن هجـود
وهاجرة ظلت كأن ظباءهـا إذا ما اتقتها بالقرون سجـود صوت
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ومروان أم ماذا يقول سـعـيد?
بني خلفاء الله مهـلا فـإنـمـا يبوئها الـرحـمـن حـيث يريد
إذا المنبر الغربـي خـلاه ربـه فإن أمير الـمـؤمـنـين يزيد -الغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو بن بانة:
على الطائر الميمون والجد صاعد لكـل أنـاس طـائر وجــدود
فلا زلت أعلى الناس كعبا ولا تزل وفود تسـامـيهـا إلـيك وفـود
ولا زال بيت الملك فوقك عـالـيا تشـيد أطـنـاب لـه وعـمـود
قدور ابن حرب كالجوابي وتحتهـا أثاف كأمـثـال الـرئال ركـود فقال له معاوية: ننظر فيما قلت يا مسكين، ونستخير الله. قال: ولم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة، وذلك الذي أراده يزيد ليعلم ما عندهم، ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزلا صلته.
يغير مغن للرشيد شطر بيت له، فيعجب الرشيد تغييره: أخبرني محمد بن خلف قال: حدثنا العنزي قال: حدثنا أبو معاوية بن سعيد بن سالم قال: قال لي عقيد: غنيت الرشيد:
إذا المنبر الغربي خلاه ربه ثم فطنت لخطابي، ورأيت وجه الرشيد قد تغير، قال: فتداركتها وقلت:
فإن أمير المحسنين عقيد فطرب، وقال: أحسنت والله، بحياتي قل:
فإن أمير المؤمنين عقيد فوالله لأنت أحق بها من يزيد بن معاوية، فتعاظمت ذلك، فحلف لا أغنيه إلا كما أمر، ففعلت، وشرب عليه ثلاثة أرطال، ووصلني صلة سنية.
تمر به امرأة له وهو ينشد من شعره، فتعقب عليه، فيضربها: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي قال: حدثني عمي قال: كانت لمسكين الدارمي امرأة من منقر، وكانت فاركا كثيرة الخصومة والمماظة ، فجازت به يوما وهو ينشد قوله في نادي قومه:
إن أدع مسكينا فما قصرت قدري بيوت الحي والجدر فوقفت عليه تسمع حتى إذا بلغ قوله:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر فقالت له: صدقت والله، يجلس جارك فيطبخ قدره، فتصطلى بناره، ثم ينزلها فيجلس يأكل وأنت بحذائه كالكلب، فإذا شبع أطعمك، أجل ولله، إن القدر لتنزل إليه قبلك، فأعرض عنها، ومر في قصيدته حتى بلغ قوله:
صفحة : 2271
ما ضر جارا لي أجاوره ألا يكون لبيته سـتـر فقلت له: أجل، إن كان له ستر هتكته، فوثب إليها يضربها، وجعل قومه يضحكون منهما وهذه القصيدة من جيد شعره .
صوت
يا فرحتا إذ صرفنا أوجه الإبل نحو الأحبة بالإزعاج والعجل
نحثهن وما يؤتـين مـن دأب لكن للشوق حثا ليس للإبـل الشعر لأبي محمد اليزيدي، والغناء لسليمان، ثقيل أول بالبنصر عن عمرو، والهشامي.
أخبار أبي محمد ونسبه
نسبه: أبو محمد بن يحيى المبارك، أحد بني عدي بن عبد شمس بن زيد مناة بن تميم.
سمعت أبا عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي اليزيدي يذكر ذلك، ويقول: نحن من رهط ذي الرمة.
لم يقال له اليزيدي?: وقيل: إنهم موالي بني عدي، وقيل لأبي محمد: اليزيدي لأنه كان فيمن خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة، ثم توارى زمانا حتى استتر أمره، ثم اتصل بعد ذلك بيزيد بن منصور خال المهدي، فوصله بالرشيد، فلم يزل معه. وأدب المأمون خاصة من ولده، ولم يزل أبو محمد وأولاده منقطعين إليه وإلى ولده، ولهم فيهم مدائح كثيرة جياد.
مكانته العلمية والأدبية وشيوخه: وكان أبو محمد عالما باللغة والنحو، راوية للشعر، متصرفا في علوم العرب. أخذ عن أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب النحوي وأكابر البصريين، وقرأ القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وجود قراءته ورواها عن.، وهي المعول عليها في هذا الوقت. وكان بنوه جميعا في مثل منزلته من العلم والمعرفة باللغة، وحسن التصرف في علوم العرب. ولسائرهم علم جيد .
من له شعر يتغنى به من أولاده: ونحن نذكر بعد انقضاء أخباره أخبار من كان له شعر وفيه غناء من ولده، إذ كنا قد شرطنا ذكر ما فيه صنعة دون غيره.
فمنهم محمد بن أبي محمد، وإبراهيم بن أبي محمد، وإسماعيل بن أبي محمد. كل هؤلاء ولده لصلبه، ولكلهم شعر جيد.
ومن ولد ولده أحمد بن محمد بن أبي محمد، وهو أكبرهم، وكان شاعرا راوية عالما.
ومنهم عبيد الله والفضل ابنا محمد بن محمد، وقد رويا عن أكابر أهل اللغة، وحمل عنهما علم كثير. وآخر من كان بقي من علماء أهل هذا البيت أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد، وكان فاضلا عالما ثقة فيما يرويه، منقطع القرين في الصدق وشدة التوقي فيما ينقله.
وقد حملنا نحن عنه وكثير من طلبة العلم ورواته علما كثيرا، فسمعنا منه سماعا جما. فأما ما أذكر ها هنا من أخبارهم فإني أخذته عن أبي عبد الله عن عميه عبيد الله والفضل، وأضفت إليه أشياء أخر يسيرة أخذتها من غيره، فذكرت ذلك في مواضعه، ورويته عن أهله.
يقول في المأمون شعرا وقد ضرب عنق أسيرين فأبان رأسيهما: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال: حدثني أبي قال: كان الرشيد جالسا في مجلسه فأتي بأسير من الروم، فقال لدفافة العبسي: قم فاضرب عنقه، فضربه فنبا سيفه، فقال لابن فليح لندني: قم فاضرب عنقه، فضربه فنبا سيفه أيضا، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين تقدمتني ضربة عبسية، فقال الرشيد للمأمون، وهو يومئذ غلام: قم -فداك أبوك- فاضرب عنقه، فقام فضرب العلج، فأبان رأسه، ثم دعا بآخر فأمره بضرب عنقه، فضربه فأبان رأسه، ونظر إلي المأمون نظر مستنطق، فقلت:
أبقي دفافة عارا بعد ضربـتـه عند الإمام لعبس آخـر الأبـد
كذاك أسرته تنبـو سـيوفـهـم كسيف ورقاء لم يقطع ولم يكد
ما بال سيفك قد خانتك ضربتـه وقد ضربت بسيف غير ذي أود
هلا كضربة عبد الله إذ وقعـت ففرقت بين رأس العلج والجسد يحتكم في فضله اثنان فيفضله الحكم على الكسائي فيقول في ذلك شعرا: قال إسماعيل ابن أخت الحسن الحاجب وسعيد والجوهري واقفين، فذكرا أبا محمد -يعني أباه والكسائي- ففضل حمويه الكسائي على أبي محمد، وفضل سعيد الجوهري أبا محمد على الكسائي.
صفحة : 2272
وطال الكلام بينهما إلى أن تراضيا برجل يحكم بينهما، فتراهنا على أن من غلب أخذ برذون صاحبه، فجعلا الحكم بينهما أبا صفوان الأحوزي، فلما دخل سألاه فقال لهما: لو ناصح الكسائي نفسه لصار إلى أبي محمد، وتعلم منه كلام العرب، فما رأيت أحدا أعلم منه به، فأخذ الجوهري دابة حمويه. وبلغ أبا محمد اليزيدي هذا الخبر فقال:
يا حمويه اسمع ثنا صادقـا فيك وما الصادق كالكـاذب
يا جالب الخزي على نفسـه بعدا وسحقا لك من جالـب
إن فخر النـاس بـآبـائهـم آتيتهم بالعجب الـعـاجـب
قلت وأدغمت أبا خـامـلا أنا ابن أخت الحسن الحاجب يهجو سلم الخاسر: قال إسماعيل: وحدثني أبي قال: كنت ذات يوم جالسا أكتب كتابا، فنظر فيه سلم الخاسر طويلا، ثم قال:
أير يحيى أخط من كف يحيى إن يحيى بأيره لخـطـوط فقال أبو محمد يحيى:
أم سلـم بـذاك أعـلـم شـيء إنها تـحـت أيره لـضـروط
ولهـا تـارة إذا مـا عـلاهـا أزمل مـن وداقـهـا وأطـيط
أم سلم تعلم الشـعـر سـلـمـا حبذا شعر أمك الـمـنـقـوط
ليت شعري ما بال سلم بن عمرو كاسف البال حين يذكـر لـوط
لا يصلي عليه فيمـن يصـلـي بل له عنـد ذكـره تـثـبـيط فقال له سلم: ويحك ما لك خبثت? أي شيء دعاك إلى هذا كله? فقال أبو محمد: بدأت، فانتصرت، والبادي أظلم.
يطلب سلم الخاسر أن يهجوه على روي سماه، فيفعل، فيغضب سلم: قال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي حدثني عبيد الله وعمي أبو القاسم عن أبي علي إسماعيل قال: قال لي أبي: قال سلم الخاسر يوما: يا أبا محمد، قل أبياتا على قول امرئ القيس:
رب رام من بني ثعل ولا أبالي أن تهجوني فيها، فقلت:
رب مغمـوم بـعـافـية غمط النعماء من أشـره
مورد أمـرا يسـر بــه فرأى المكروه في صدره
وامرئ طالت سلامـتـه فرماه الدهر من غـيره
بسهـام غـير مـشـوية نقضت منه عرا مـرره
وكذاك الدهر مختـلـف بالفتى حالين من عصره
يخلط العسرى بمـيسـرة ويسار المرء في عسـره
عق سلـم أمة سـفـهـا وأبا سلم علـى كـبـره
كل يوم خـلـفـه رجـل رامح يسعى على أثـره
يولج الغرمول سـبـتـه كولوج الضب في حجره فانصرف سلم وهو يشتمه ويقول: ما يحل لأحد أن يكلمك يطلب شاعر أن ينظم على قافية معينة فيهجوه فيما نظم: قال: وقال لي يوما أبو حنش الشاعر: يا أبا محمد، قل أبياتا قافيتها على هاءين، فقلت له: على أن أهجوك فيها، فقال نعم، فقلت:
قلت ونفسي جم تأوهـهـا تصبو إلى إلفها وأندههـا
سقيا لصنعاء لا أرى بلـدا أوطنه الموطنون يشبههـا
حصنا ولا كبهـجـتـهـا أعذى بلاد عذا وأنزههـا
يعرف صنعاء من أقام بها أرغد أرض عيشا وأرفهها
أبلغ حضيرا عني أبا حنش عائرة نجوه أوجـهـهـا
تأتيه مثل السهام عـامـدة عليه مشهورة أدهدهـهـا
كنيته طرح نون كـنـيتـه إذا تهجيتها ستفقـهـهـا يريد إسقاط النون من أب حنش حتى يكون أبا حس .
يقول شعرا في يونس بن الربيع وكان وسيما: قال أبو عبد الله: وحدثني عمي قال: حدثني الطلحي -وكان له علم وأدب- قال: اجتمعت مع أبي محمد عند يونس بن الربيع، وكان قد دعانا، فأقمنا عنده، فاتفق مجلسي إلى جنب مجلس أبي محمد، فقام يونس لحاجته، وكان جميلا وسيما، فالتفت إلى اليزيدي فقال:
وفتى كالقناة في الطرف منه إن تأملت طرفه استرخـاء
فإذا الرامح المشـيح تـلاه وضع الرمح منه حيث يشاء يهجو قتيبة الخراساني لأنه كان يسأله كالمتعنت: قال: وحدثني عمي عن عمه إسماعيل عن أبي محمد قال: كان قتيبة الخراساني عيسى بن عمر يأتيني، فيسألني عن مسائل كالمتعنت، فإذا أجبته عنها انصرف منكسرا، وكان أفطس، فقلت له يوما:
صفحة : 2273
أمخبري أنـت يا قـتـيبة عـن أنفك أم أنت كـاتـم خـبـره?
بأي جـرم وأي ذنـب تــرى سوت بخديك أنفك الـبـقـره
فصيرتـه كـفـيشة نـبـتـت في وجه قرد مفضوضة الكمره
قد كان في ذاك شاغل لك عـن تفتيش باب العرفان والنـكـره وقلت فيه أيضا:
إذا عافى مليك الناس عـبـدا فلا عافاك ربك يا قـتـيبة
طلبت النحو مذ أن كنت طفلا إلى أن جللتك قبحت شيبـه
فما تزداد إلا النقـص فـيه وأنت لدى الإياب بشر أو به
وكنت كغائب قد غاب حينـا فطال مقامه وأتى بخـيبـه يلقن قتيبة غريبا فيه فحش، فيعابي به عيسى بن عمر: قال أبو محمد: كان عيسى بن عمر أعلم الناس بالغريب، فأتاني قتيبة الخراساني هذا، فقال لي: أفدني شيئا من الغريب أعايي به عيسى بن عمر، فقلت له: أجود المساويك عند العرب الأراك، وأجود الأراك عندهم ما كان متمئرا عجارما جيدا، وقد قال الشاعر:
إذا استكت يوما بالأراك فلا يكن سواك إلا المتمئر العجـارمـا يعني الأير. قال: فكتب قتيبة ما قلت له، وكتب البيت، ثم أتى عيسى بن عمر في مجلسه، قال: يا أبا عمر، ما أجود المساويك عند العرب? فقال: الأراك، يرحمك الله. فقال له قتيبة: أفلا أهدي إليك منه شيئا متمئرا عجارما? فقال: أهده إلى نفسك. وغضب، وضحك كل من كان في مجلسه، وبقي قتيبة متحيرا، فعلم عيسى أنه قد وقع عليه بلاء، فقال له: ويلك من فضحك وسخر منك بهذه المسألة? ومن أهلك ودمر عليك? قال: أبو محمد اليزيدي، فضحك عيسى حتى فحص برجله، وقال: هذه والله من مزحاته وبلاياه. أراه عنك منحرفا، فقد فضحك. فقال قتيبة: لا أعاود مسألته عن شيء.
الخليل يحبه ويجله: حدثني عمي قال: حدثني عبيد الله بن محمد اليزيدي قال: حدثني أخي أبو جعفر قال: سمعت جدي أبا محمد يقول: صرت يوما إلى الخليل بن أحمد، والمجلس غاص بأهله، فقال لي: ها هنا عندي، فقلت أضيق عليك، فقال: إن الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين، وإن شبرا في شبر لا يضيق عن متحابين. قال: وكان الخليل لأبي محمد صافي الود.
يجمع بين الخليل وابن المقفع: حدثنا اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله قال: حدثني أخي أحمد قال: سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقي الخليل بن أحمد، فيقول لي: أحب أن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع، وألقى ابن المقفع فيقول: أحب أن يجمع بيني وبين الخليل بن أحمد. فجمعت بينهما، فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علما، ثم افترقنا، فلقيت الخليل فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت صاحبك? قال: ما شئت من علم وأدب، إلا أني رأيت كلامه أكثر من علمه، ثم لقيت ابن المقفع فقلت: كيف رأيت صاحبك? فقال: ما شئت من علم وأدب، إلا أن عقله أكثر من علمه .
يناظر الكسائي في مجلس المهدي فيغلبه: حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال: حدثني أخي أحمد بن محمد قال: حدثني أبي محمد بن أبي محمد قال: قال لي أبو محمد: كنا مع المهدي ببلد في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر، وكان الكسائي معنا، فذكر المهدي العربية وعنده شيبة بن الوليد العبسي عم دفافة، فقال المهدي: نبعث إلى اليزيدي والكسائي، وأنا يومئذ مع يزيد بن المنصور خال المهدي، والكسائي مع الحسن الحاجب، فجاءنا الرسول، فجئت أنا، فإذا الكسائي على الباب قد سبقني. فقال: يا أبا محمد، أعوذ بالله من شرك، فقلت: والله لا تؤتى من قبلي حتى أوتى من قبلك.
فلما دخلنا عليه أقبل علي، وقال: كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا: بحراني، ونسبوا إلى الحصنين فقالوا: حصني ولم يقولوا حصناني. كما قالوا بحراني? فقلت: أصلح الله الأمير لو أنهم نسبوا إلى البحرين فقالوا: بحري لم يعرف أإلي البحرين نسبوا أم إلى البحر? فلما جاءوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر يقال له: الحصن ينسب إليه غيرهما فقالوا: حصني.
صفحة : 2274
قال أبو محمد، سمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع -وكان حاضرا- لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلة هي أحسن من هذه. قال أبو محمد: قلت: أصلح الله الأمير، إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب بأحسن مما أجبت به. قال: فقد سألته: فقال الكسائي: لما نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان، فقالوا: حصني اجتزاء بإحدى النونين عن الأخرى، ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة، فقالوا: بحراني. فقلت: أصلح الله الأمير فيكف تنسب رجلا من بني جنان فإنه يلزمه على قياسه أن يقول: جني إن في جنان نونين، فإن قال ذلك فقد سوى بينه وبين المنسوب إلى الجن.
قال: فقال المهدي وله: تناظرا في غير هذا حتى نسمع، فتناظرا في مسائل حفظ فيها قولي وقوله إلى أن قلت له: كيف تقول: إن من خير القوم أو خيرهم نية زيد? قال: فأطال الفكر لا يجيب. فقلت: لأن تجيب فتخطئ فتتعلم أحسن من هذه الإطالة. فقال: إن من خير القوم أو خيرهم نية زيدا. قال: فقلت: أصلح الله الأمير، ما رضي أن يلحن حتى لحن وأحال. قال: وكيف? قلت: لرفعه قبل أن يأتي باسم إن، ونصبه بعد رفعه.
فقال شيبة بن الوليد: أراد بأو -بل، فرفع هذا معنى. فقال الكسائي: ما أردت غير ذلك فقلت: فقد أخطأ جميعا أيها الأمير. لو أراد بأو -بل رفع زيدا؛ لأنه لا يكون بل خيرهم زيدا، فقال المهدي: يا كسائي، لقد دخلت علي مع مسلمة النحوي وغيره، فما رأيت كما أصابك اليوم. قال: ثم قال: هذان عالمان، ولا يقضي بينهما إلا أعرابي فصيح يلقى عليه المسائل التي اختلفا فيها فيجيب. قال: فبعث إلى فصيح من فصحاء الأعراب. قال أبو محمد، وأطرقت إلى أن يأتي الأعرابي، وكان المهدي محبا لأخواله، ومنصور بن يزيد بن منصور حاضر، فقلت: أصلح الله الأمير كيف ينشد هذا البيت الذي جاء في هذه الأبيات:
يا أيها الـسـائلـي لأخـبـره عمن بصنعاء من ذوي الحسب
حمير ساداتهـا تـقـر لـهـا بالفضل طرا جحاجح العرب
وإن من خيرهم وأكـرمـهـم أو خيرهم نـية أبـو كـرب قال: فقال لي المهدي: كيف تنشده أنت? فقلت: أو خيرهم نية أبو كرب على إعادة إن، كأنه قال: أو إن خيرهم نية أبو كرب. فقال الكسائي: هو والله قالها الساعة. قال: فتبسم المهدي، وقال: إنك لتشهد له وما تدري. قال: ثم طلع الأعرابي الذي بعث إليه فألقيت عليه المسائل، فأجاب فيها كلها بقولي، فاستفزني السرور حتى ضربت بقلنسيتي الأرض، وقلت: أنا أبو محمد. قال لي شيبة: أتتكني باسم الأمير? فقال المهدي: والله ما أراد بذلك مكروها، ولكنه فعل ما فعل للظفر، وقد -لعمري- ظفر. فقلت: إن الله -عز وجل- أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله، وأنطق غيرك بما هو أهله.
يتهدده شيبة بن الوليد فيهجوه في رقاع دسها في الدواوين: قال: فلما خرجنا قال لي شيبة: أتخطئني بين يدي الأمير? أما لتعلمن قلت: قد سمعت ما قلت، وأرجو أن تجد غبها، ثم لم أصبح حتى كتبت رقاعا عدة، فلم أدع ديوانا إلا دسست إليه رقعة فيها أبيات قلتها فيه، فأصبح الناس يتناشدونها، وهي:
عش بـــجـــد ولا يضـــرك نــــوك إنـمـا عـيش مـن تـرى بـالـــجـــدود
عش بجد وكن هبنقه القيسي نوكا أو شيبة بن الوليد
شيب يا شيب يا جدي بني القعقاع ما أنت بالحليم الرشيد
لا ولا فيك خلة من خلال الخير أحرزتها لحزم وجود
غير ما أنك المجيد لتقطيع غناء وضرب دف وعود
فعلى ذا وذاك يحتمل الدهر مجيدا له وغير مجيد يهجو خلفا الأحمر: قال: وقال أبو محمد اليزيدي يهجو خلفا الأحمر أستاذ الكسائي، أنشدنيه عمي الفضل:
زعم الأحمر المقيت علي والذي أمه تقر بمقـتـه
أنه علم الكسائي نـحـوا فلئن كان ذا كذاك فباسته يأمر له الرشيد بمال، ويستعين الغساني على تعجيله فلا يعينه: وبهذا الإسناد عن أبي محمد قال: أمر لي الرشيد بمال وحضر شخوصه إلى السن ، فأتيت عاصما الغساني -وكان أثيرا عند يحيى بن خالد- فقلت له: إن أمير المؤمنين قد أمر لي بمال، وقد حضر من شخوصه ما قد علمت، فأحب أن تذكر أبا علي يحيى بن خالد أمره ليعجله إلي. فقال: نعم، ثم عدت بعد ذلك بيومين، فقال لي يتفخم في لفظه: ما أصبت بحاجتك موضعا. قال: قلت فاجعلها منك -أكرمك الله- ببال.
صفحة : 2275
فلما خرجت لحقني بعض من كان في المجلس، فقال لي: يا أبا محمد، إني لأربأ بك أن تأتي هذا الكلب أو تسأله حاجة، قلت: وكيف? قال: سمعته يقول -وقد وليت- لو أن بيدي دجلة والفرات ما سقيت هذا منهما شربة، فقيل له: ولم ذاك -أصلحك الله- فإن له قدرا وعلما? قال: لأنه من مضر، وما رأيت مضريا قط يحب اليمانية.
قال: فأحببت ألا أعجل، فعدت إليه من غد فقلت: هل كان منك -أكرمك الله- في الحاجة شيء? فقال: والله لكأنك تطلبنا بدين فتحقق عندي ما بلغني عنه، فقلت له: لا قضى الله هذه الحاجة على يدك، ولا قضى لي حاجة أبدا إن سألتكها، والله لا سلمت عليك مبتدئا أبدا، ولا رددت عليك السلام إن بدأتني به. ونفضت ثوبي وخرجت.
يستعين بجعفر بن يحيى على تعجيل المال فيعينه: فإني لأسير وأفكر في الحيلة لحاجتي إذا براكب يركض حتى لحقني، فقال: بعثني إليك أبو علي يحيى بن خالد لتقف حتى يلحقك، فرجعت مع رسوله إليه فلقيته، وكان قريبا، فسلمت عليه ثم سايرته، فقال لي: إن أمير المؤمنين أمرني أن آمرك بطلب مؤدب لابنه صالح، فإني أحدثك حديثا حدثني به أبي خالد بن برمك: أن الحجاج بن يوسف أراد مؤدبا لولده، فقيل له: ها هنا رجل نصراني عالم، ها هنا مسلم ليس علمه كعلم النصراني، قال: ادعوا لي المسلم.
فلما أتاه قال: ألا ترى يا هذا أنا قد دللنا على نصراني قد ذكروا أنه أعلم منك، غير أني كرهت أن أضم إلى ولدي من لا ينبههم للصلاة عند وقتها، ولا يدلهم على شرائع الإسلام ومعالمه? وأنت -إن كان لك عقل- قادر على أن تتعلم في اليوم ما يعلمه أولادي في جمعه، وفي الجمعة ما يعلمهم في الشهر، وفي الشهر ما يعلمهم في سنة. ثم قال لي يحيى: فينبغي يا أبا محمد أن نؤثر الدين على ما سواه، فقلت له: قد أصبت من أرضاه، وذكرت له الحسن بن المسور، فضمه إليه ثم سألني: من أين أقبلت? فأخبرته بخبر عاصم وما كان منه، فقلت له: قد حضر هذا المسير، ولست أدري من أي وجه أتقاضاه? فضحك وقال: ولم لا تدري? الق صديقك جعفرا، يعني ابنه، حتى يكلم أمير المؤمنين أو يذكرني حاجتك، فقد تركته على المضي الساعة، فانثنيت إلى جعفر وقلت له في طريقي:
يا سائلي عـمـا أخـبـره عن جعفر كرما وعن شيمه
إن ابن يحيى جعفرا رجـل سيط السماح بلحمه ودمـه
فعليه لا أبـدا مـحـرمة وكلامه وقف على نعمـه
وترى مسابقـه لـيدركـه بمكان حذو النعل من قدمه فلما دخلت إليه أخبرته الخبر، وأنشدته الأبيات، وأعلمته ما أمرني به أبوه، فقال لي: قل بيتين تذكره فيهما إلى أن أجدد طهرا واكتبهما حتى يكونا معي، فأذكر بهما حاجتك، فقلت: نعم يا سيدي، وأخذت الدواة وكتبت:
أحق من أنجـز مـوعـوده خليفة الله على خـلـقـه
ومن له إرث نبي الـهـدى بالحق لا يدفع عن حـقـه
ينسب في الهدي إلى هـديه برا وفي الصدق إلى صدقه
ومن له الطاعة مفـروضة لائحة بالوحي فـي رقـه
والراتق الفتق العظيم الـذي لا يقدر الناس على رتقـه يهجو الغساني لأنه لم يعنه على تعجيل المال: قال: فأخذ الشعر، ومضى إلى الرشيد في حاجتي وأقرأه إياه، فصك إلي بالمال عليه، وقبضته بعد ذلك بيوم، وأنشأت أقول في الغساني:
ألا طرقت أسماء أم أنت حالم? فأهلا بطيف زار والليل عاتـم
إذا قيل أي الناس أعظم جفـوة وألآم قيل الجرمقاني عـاصـم
دعي أجاءته إلى اللـؤم دعـوة ومغرس سوء لؤمه متـقـادم
شهيدي على أن ليس حرا صليبة صفيحة وجه ابن استها واللهازم
صفيحة دقاق أبـوه شـبـيهـه وجداه سمـاك لـئيم وحـاجـم
أعاصم خل المكرمات لأهلهـا وأغض على لؤم ووجهك سالم
فكيف تنال الدهر مجدا وسـوددا وفي كل يوم كوكب لك ناجم?
وأصلك مدخول وفسقك ظاهـر وعجبك مهموز وعردك عارم
تصانع غسانا لتلـحـق فـيهـم ورب دعي ألحقته الـدراهـم
صفحة : 2276
فإن راب ريب أو أصابتك شدة رجعت إلى شلتى وأنفك راغم -قال: وكان اسم ابنه شلثي، فصيره صلتا -
إذا عاصما يوما أتيت لحـاجة فلا تلـقـه إلا وأيرك قـائم
وعرض له من قبل ذاك بأمرد وضيء وسيم أثقلته المـآكـم
وإلا فلا تسأله ما عشت حاجة ولا تبكه إن أعولته المـآتـم يستعينه الغساني على رد ضيعة له قبضت فيعينه: قال: فلما حدث بيني وبين برمك ما حدث قبضت ضيعته في المقبوض من ضياع أسبابهم، فصار إلي وكلمني في أمرها، وسألني كلام الجوهري في ذلك، فقمت له حتى ردت الضيعة عليه، فجاءني يشكرني، ويعتذر مما جرى من فعله المتقدم، فقلت له: تناس ما مضى، فلست ممن يكافئ على سوء أحدا.
يتهمه أبو عبيدة بذكر مساوئ الناس في المسجد فيهجوه: قال أبو محمد: كان أبو عبيدة يجلس في مسجد البصرة إلى سارية، وكنت أنا وخلف الأحمر نجلس جميعا إلى أخرى، وكان أبو عبيدة من أعضه الناس للناس وأذكرهم لمثالبهم، فقال لأصحابه: أترون الأحمر واليزيدي إنما يجتمعان على الوقيعة للناس وذكر مساويهم? وبلغني ذلك وأنه قد رمانا بمذهبه، فقلت لخلف: دعه، فأنا أكفيكه. فلما كان من الأذان جئت أنا وخلف إلى المسجد، فكتبت على الجص في الموضع الذي كان يجلس فيه أبو عبيدة:
صلى الإله على لوط وشيعته أبا عبيدة قل باللـه آمـينـا قال: وأصبح الناس، وجاء أبو عبيدة، فجلس وهو لا يعلم ما فوق رأسه مكتوبا وأقبل الناس ينظرون إلى البيت ويضحكون، ورفع أبو عبيدة رأسه ونظر إليه، فخجل، ولم يزل منكسا رأسه حتى انصرف الناس وأنا وخلف ناحية ننظر إلى ما به، ثم قمنا حتى وقفنا عليه، فقلنا له: ما قال صاحب هذا البيت إلا حقا، نعم فصلى الله على لوط، فأقبل علي وقال: قد علمت من أين أتيت، ولن أعاود التعرض لتلك الجهة، ولم يعد لذكرنا بعد ذلك.
يجفوه يزيد بن المنصور فيعاتبه فيعتبه: وقال أبو محمد: اعتللت علة من حمى ربع طالت علي أشهرا، فجفاني يزيد بن منصور، ولم يمر بي في علتي، ولم يتفقدني كما ينبغي؛ فكتبت رقعة إليه ضمنتها هذه الأبيات:
قل للأمير الذي يرجو نوافـلـه من جاء طالبا للخير منـتـابـا
إني صحبتك دهرا كل ذاك أرى من دون خيرك حجابا وأبوابـا
وكم ضريك أجاءته شـقـاوتـه إليك إذا أنشبت ضراؤها نـابـا
فما فتحت له بابـا لـمـيسـرة ولا سددت له من فـاقة بـابـا
كغائب شاهد يخفى عليك كمـا من غاب عنك فوافى حظه غابا فلما قرأها قال: جفونا أبا محمد؛ وأحوجناه إلى استبطائنا. والله المستعان، وبعث إليه بصلة.
يعبث به خلف الأحمر في قصيدة نسبه فيها إلى اللواط: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الفهم، وكان من أصحاب الأصمعي، قال: كان خلف الأحمر يعبث بأبي محمد اليزيدي عبثا شديدا، وربما جد فيه وأخرجه مخرج المزح، فقال فيه ينسبه إلى اللواط:
إني ومن وسج المـطـي لـه حدب الذرى أذاقهـا رجـف
يطرحن بالبيد الـسـحـال إذا حث النجاء الركب وازدهفوا
والمحرمين لصوتهـم زجـل بفناء كعبتـه إذا هـتـفـوا
وإذا قطعن مساف مهـمـهة قذف تعرض دونهـا شـرف
وافت بهم خوص مـحـزمة مثل القسي ضوامر شسـف
منـي إلـيه غـير ذي كـذب ما إن رأى قوم ولا عرفـوا
في غابر الناس الذين بـقـوا والفرط الماضين إذ سلـفـوا
أحدا كيحيى في الطعان إذا اف ترش القنا وتضعضع الحجف
في معرك يلقى الكمـي بـه للوجه منبطحـا وينـحـرف
وإذا أكب القـرن ينـبـعـه طعنا دوين صلاه ينخـسـف
للــه درك أي ذي نـــزل في الحرب إذ هموا وإذ وقفوا
لا تخطئ الوجـعـاء ألـتـه ولا تصد إذا هـم زحـفـوا
وله جـياد لا يفـرطـهـا ال إحلال والمضمار والعـلـف
صفحة : 2277
جرد يهان لهـا الـسـويق وأل بان اللقـاح كـأنـهـا نـزف
مرد وأطـفـال تـخـالـهـم درا تطابق فوقـه الـصـدف
فهـم لـديه يعـكـفـون بـه والمرء منه اللين واللـطـف
ومتى يشا يجـنـب لـه جـذع نهد أسيل الخـد مـشـتـرف
يمشي العرضنة تحت فارسـه عبل الشوى في متنه قـطـف
ربذ إذا عرقـت مـغـابـنـه ذهب السكون وأقبل العـنـف
فأعـد ذاك لـسـرجـه ولـه في كل غادية لـهـا عـرف
في حقـوه عـرد تـقـدمـه صلعاء في خرطومها قـلـف
جرداء تشحـذ بـالـبـزاق إذا دعيت نزال وهب مـرتـدف
أوفى على قيد الـذراع شـدي د الجلز في يافوخـه جـوف
خاظ ممـر مـتـنـه ضـرم لا خانه خـور ولا قـضـف
عرد المجس بمتـنـه عـجـر في جذره عن فخـذه جـنـف
فلـو أن فـياضـا تـأمـلـه نادى بجهد الـويل يلـتـهـف
وإذا تـمـسـحـه لـعـادتـه ودنا بجهد الطعان فمدعس ثقف
وإذا رأى نفـقـا ربـا ونـزا حتى يكـاد لـعـابـه يكـف
لا ناشـئا يبـقـى ولا رجـلا فندا وهـذا قـلـبـه كـلـف
يا ليتنـي أدري أمـنـجـيتـي وجناء ناجـية بـهـا شـدف
من أن تعلـقـنـي حـبـائلـه أو أن يواري هامتي لـجـف
ولقد أقول حـذار سـطـوتـه إيها إلـيك تـوق يا خـلـف
ولو أن بيتـك فـي ذرا عـلـم من دون قلة رأسـه شـعـف
زلـق أعـالـيه وأسـفـلـه وعر التنائف بـيتـهـا قـذف
لخشيت عـردك أن يبـيتـنـي أن لم يكن لي عنه منصـرف أعرابي يعلق على بيت من هذه الفائية: قال الأصمعي: فحدثني شيخ من آل أبي سفيان بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال: أنشدت قصيدة خلف الفائية هذه و أعرابي جالس يسمع، فلما سمع قوله:
فإذا أكب القرن أتبـعـه طعنا دوين صلاه ينخسف قال الأعرابي: وأبيك لقد أحب أن يضعه في حاق مقيل ضرطته.
يشغب في مجلس ضم خلفا الأحمر، ليهجوه خلف فيغضب: أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثني ابن الفهم قال: حدثني الأصمعي قال: كنت مع خلف جالسا، فجرى كلام في شيء من اللغة، وتكلم فيه أبو محمد اليزيدي وجعل يشغب، فقال لي خلف: دعني من هذا يا أبا محمد، وأخبرني من الذي يقول:
فإذا انتشأت فإنـنـي رب الحريبة والرميح
وإذا صحوت فإننـي رب الدوية واللـويح يعرض به أنه معلم، وأنه يلوط، فغضب اليزيدي، وقام فانصرف.
يهجو مواليه بني عدي لقعودهم عنه وقد استنهضهم: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني طلحة الخزاعي قال: حدثني أبو سعيد عثمان بن يوسف الحنفي قال: غاضب أبو محمد اليزيدي مواليه بني عدي رهط ذي الرمة من بني تميم لأمر استنهضهم فيه، فقعدوا عنه، فقال يهجوهم:
يأيها السائل عن قـومـنـا لما رأى بزة أحبـارهـم
وحسن سمت منهم ظاهـرا إعلانهم ليس كإسرارهـم
سائل بهم أحمـر أو غـيره ينبيك عن قومي وأخبارهم
قوم كرام ما عـدا أنـهـم صولتهم منهم على جيرانهم
أسد على الجيران أعداؤهم آمنة تخطر فـي دارهـم
لو جاءهم مقتبسا جـارهـم ما قبسوه الدهر من نارهم
وقد وترناهم فلم نخش مـن ينهض في سيره أو ثارهم
أحسن قوم لـمـوالـيهـم إن أيسروا يوما لأيسارهـم
شهادة الزور لـهـم عـادة حقا بها قيمة أخبـارهـم
وما لهم مجد سوى مسجـد به تعدوا فوق أطوارهـم
لو هدم المسجد لم يعرفـوا يوما ولم يسمع بأخبارهـم يهنئ الرشيد ويمدح المأمون لتوقفه في أول خطبة له:
صفحة : 2278
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: أخبرني عمي عبيد الله قال: حدثني عمي إسماعيل وأخي أحمد قالا: لما بلغ المأمون وصار في حد الرجال أمرنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم الجمعة، فعملنا له خطبته المشهورة. وكان جهير الصوت حسن اللهجة، فلما خطب بها رقت قلوب الناس، وأبكى من سمعه، فقال أبو محمد اليزيدي:
لتهن أمير المؤمـنـين كـرامة عليه بها شكـر الإلـه وجـوب
بأن ولي العهد مأمـون هـاشـم بدا فضله إذ قام وهو خـطـيب
ولما رماه الناس من كل جانـب بأبصارهم والعود منه صـلـيب
رماهم بقول أنصتوا عجبـا لـه وفي دونه للسامعـين عـجـيب
ولما وعت آذانهم مـا أتـى بـه أنابت ورقت عند ذاك قـلـوب
فأبكى عيون الناس أبلـغ واعـظ أغر بطاحي النجـار نـجـيب
مهيب عليه للـوقـار سـكـينة جريء جنـان لا أكـع هـيوب
ولا واجب فوق المنابر قـلـبـه إذا ما اعترى قلب النجيب وجيب
إذا ما علا المأمون أعواد منبـر فليس له في العالمين ضـريب
تصدع عنه الناس وهو حديثـهـم تحدث عـنـه نـازح وقـريب
شبيه أمير المؤمـنـين حـزامة إذا وردت يوما عليه خـطـوب
إذا طاب أصل في عروق مشاجه فأغصانه من طيبه سـتـطـيب
فقل لأمير المؤمنـين الـذي بـه يقدم عبـد الـلـه فـهـو أديب
كأن لم تغب عن بلدة كان والـيا عليها ولا التدبير منـك يغـيب
تتبع ما يرضيك في كـل أمـره فسيرته شخص إلـيك حـبـيب
، ورثتم بني العباس إرث محمـد فليس لحي في التراث نصـيب
وإني لأرجو يا بن عم مـحـمـد عطاياك والراجيك ليس يخـيب
أثبني على المأمون وابني محمدا نوالا فـإياه بـذاك تـثـــيب
جناب أمير المؤمنـين مـبـارك لنا ولكل المؤمنـين خـصـيب
لقد عمهم جود الإمام فكـلـهـم له في الذي حازت يداه نصـيب صوت فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف درهم، ولابنه محمد بن أبي محمد بمثله.
أخبرني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثني أخي أحمد عن أبيه قال: أستأذن أبو محمد الرشيد وهو بالرقة في الحج، فأذن له، فلما عاد أنشدنا لنفسه:
يا فرحتا إذ صرفنـا أوجـه الإبـل إلى الأحبة بالإزعاج والـعـجـل
نحـثـهـن ولا يؤتـين مـن دأب لكن للشوق حثـا لـيس لـلإبـل
يا نائيا قربـت مـنـه وسـاوسـه أمسى قرين الهوى والشوق والوجل
إن طال عهدك بالأحباب مغتـربـا فإن عهدك بالتسـهـيد لـم يطـل
أما اشتفى الدهر من حران مختبـل صب الفؤاد إلى حران مخـتـبـل
عش بالرجاء وأمل قـرب دارهـم لعل نفسك أن تبقـى مـع الأمـل أخبار من له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي وولد ولده شعر له غنى فيه: فمنهم محمد بن أبي محمد، ومما يغنى فيه من شعره قوله: صوت
أتيتك عائذا بك منك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي لحـينـنـي يضـرب الـمـثــل
فإن سـلـمـت لـكـم نـفـســي فمـا لاقـيتـــه جـــلـــل
وإن قـتـل الـهــوى رجـــلا فإنـي ذلـــك الـــرجـــل الشعر لمحمد بن أبي محمد اليزيدي، يكنى أبا عبد الله، والغناء لسليم بن سلام، ثقيل أول بالبنصر، وله أيضا فيه ماخوري.
يمدح سليم بن سلام المغني: وكان سليم صديق محمد بن أبي محمد اليزيدي، كثير العشرة له، وليس في شيء من شعره صنعة إلا له. وله يقول محمد بن أبي محمد اليزيدي: صوت
بأبـــي أنـــت يا ســـلـــيم وأمـــي ضقـت ذرعـا بـهـجـر مـن لا أسـمـــي
صد عني أقر من خلق الله لعيني فاشتد غمي وهمي
ما احتيالي إن كان في القدر السا بق لـلـحـين أن أمـوت بـسـقـــمـــي? الغناء لسليم، خفيف رمل بالوسطى عن عمرو.
ينظر إليه أبو ظبية العكلي فيعجب له:
صفحة : 2279
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عبيد الله عن أخيه أبي جعفر عن أبيه محمد بن أبي محمد قال: قال لي أبي: نظر إليك أبو ظبية العكلي -وقد جاءني- فقال لي، وقد أقبلت:
يلد الرجال بنيهم أولادهـم وولدت أنت أبا من الأولاد يجيب أبا طبية شعرا وقد كتب إليه شعرا: قال أبو محمد: وكتب أبو ظبية يوما:
أيحيى لقد زرناك نلتمـس الـجـدا وأنت امرؤ يرجى جـداه ونـائلـه
وما صنع المعروف في الناس صانع فيحمد إلا أنت بالخـير فـاضـلـه
تخيرك الناس الـخـلـيفة لابـنـه وأحكمت منه كل أمـر يحـاولـه
فما ظن ذو ظن من الناس علـمـه كعلمك إلا مخطيء الظن فـائلـه
إليك تناهت غاية النـاس كـلـهـم إذا اشتبهت عند البصير مسـائلـه قال أبو محمد: فكتب إليه:
أبا ظبية اسمع ما أقول فخير ما يقال إذا ما قيل صدق قـائلـه
إذا شئت فانهد بي إلى من أردته وأملت جدواه فإني منـازلـه
فإن يك تقصير ولا يك عارفـا بحقك فاعذله فتكثر عـواذلـه يتمنى العباس بن الأحنف أن يكون سبقه إلى بيتين له: حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله قال: حدثني أخي أحمد عن أبي قال: صرت إلى العباس بن الأحنف، فقال لي ما حاجتك? قلت: أمرني أخوك وأبي أن أصير إليك وأستفيد منك، فقال لي: أتصير إلي? وددت أني سبقتك إلى بيتين قلتهما وأني لم أقل من الشعر شيئا غيرهما، فدخلني من السرور ما الله به عليم، فقلت وما هما? فقال: قولك:
يا بعيد الدار موصو لا بقلبي ولسانـي
ربما باعدك الـده ر وأدنتك الأماني لم يسرق من الشعر إلا معنيين لمسلم بن الوليد: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني بن داود الجراح قال: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد اليزيدي قال: حدثني أحمد بن محمد قال: سمعت أبي يقول: ما سرقت من الشعر شيئا إلا معنيين: قال مسلم بن الوليد:
ذاك ظبي تحير الحسن في الأر كان منه وحل كـل مـكـان
عرضت دونه الحجال فمـا يل قاك إلا في النوم أو في الأماني فقلت:
يا بعيد الدار موصو لا بقلبي ولسانـي
ربما باعدك الـده ر وأدنتك الأماني وقال مسلم أيضا:
متى ما تسمعي بقتيل حب أصيب فإنني ذاك القتيل فقلت أنا:
أتيتك عائذا بك مـن ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيتـه جـلـل
وإن قتل الهوى رجلا فإني ذلك الـرجـل يعتب على صديق له فيجيبه: أخبرني محمد بن العباس قال: حدثني عمي عبيد الله عن اخيه أبي جعفر قال: عتب أبي - يعني محمد بن أبي محمد- على يونس بن الربيع، وكان صديقه فكتب إليه:
سأبكيك حيا لا بكـيتـك مـيتـا بأربعة تجري علـيك هـمـولا
وأعفيك من طول اللقاء وإنـنـي أرى اليوم لا ألقاك فيه طـويلا
فكيف بصبري عنك لا كيف بعدما حللت محلا في الفؤاد جـلـيلا قال، وكتب إليه يونس:
إلى كم قد بليت وليس يبلى عتاب منك لي أبدا طويل?
إذا كثر التجني من خلـيل ولم تذنب فقد ظلم الخلـيل يقول في قنفذ شعرا اقترح عليه: أخبرني عمي قال: حدثني الحسن بن الفهم قال: قال لي أبو سمير عبد الله بن أيوب مولى بني أمية: بات عندي ليلة محمد بن أبي محمد اليزيدي، فظهر لنا قنفذ، فقلت له: قل فيه شيئا، فأنشأ يقول:
وطارق ليل زارنا بعد هـجـعة من الليل إلا ما تحدث سـامـر
فقلت لعبد الله ما طـارق أتـى? فقال امرؤ سبقت إليه المقـادر
قريناه صفو الزاد حـين رأيتـه وقد جاء خفاق الحشا وهو سادر
جميل المحيا والرضا فـإذا أبـى حمته من الضيم الرماح الشواجر
صفحة : 2280
ولست تراه واضعا لـسـلاحـه مدى الدهر موتورا ولا هو واتر يحجب عن المأمون، فيرسل إليه شعرا، فيأذن له ويجيزه: حدثنا اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: حدثني أبو صالح بن يزداد قال: حدثني أبي قال: جاء محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى باب المأمون وأنا حاضر، فاستأذن، فقال الحاجب: قد أخذ دواء وأمرني ألا آذن لأحد. قال: فأمرك ألا توصل إليه رقعة? قال: لا، فدفع إليه رقعة فيها :
هديتي التحـية لـلإمـام إمام العدل والملك الهمام
لأني لو بذلت له حياتـي وما أهوى لقلا للإمـام
أراك من الدواء الله نفعا وعافية تكون إلى تمـام
وأعقبك السلامة منه رب يريك سلامة في كل عام
أتأذن في السلام بلا كلام سوى تقبيل كفك والسلام قال: فأوصلها، وخرج فأذن له، فدخل وسلم وحملت معه ألفا دينار.
يستحسن المعتصم شعرا اقترحه ليه: حدثني عمي قال: حدثني الفضل اليزيدي قال: حدثني أخي أحمد عن أبي: قال: دخلت إلى المعتصم وهو ولي عهد وقد طلع القمر، فتنفس ثم قال: يا محمد، قل أبياتا في معنى طلوع القمر، فإنه غاب مدة كما غاب محبوب عن حبيبه ثم طلع، فإن كان كما أحب فلك بيت مائة دينار، فقلت: صوت
هذا شبيه الحبيب قد طلعـا غاب كما غاب ثم قد لمعا
وما أرى غيره يشاكـلـه فأسأله بالله عنه ما صنعا?
فرق بيني وبـينـه قـدر وهو الذي كان بيننا جمعا
فهل له عودة فأرقـبـهـا كما رأينا شبهه رجـعـا فقال: أحسنت وحياتي، ثم قال لعلويه: عن هذه الأبيات -وكان حاضرا- فغنى فيها، وشرب عليها ليلته، وأمر لي بأربعمائة دينار ولعلويه بمثلها.
لحن علويه في هذه الأبيات رمل.
المأمون يحكم له بثلاثة آلاف دينار من مال عبد الله بن طاهر: حدثني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد قال: حدثني أخي عن أبي قال: شكوت إلى المأمون دينا علي، فقال: إن عبد الله بن طاهر اليوم عندي، وأريد الخلوة معه، فإذا علمت فاستدع أن يكون دخولك أو إخراجه إليك، فإني سأحكم لك عليه بمال، فلما علمت أنهم قد جلسوا للشرب صرت إلى الدار، وكتب بهذين البيتين:
يا خير سـادات وأصـحـاب هذا الطفيلي علـى الـبـاب
فصيروا لي معكم مجـلـسـا أو أخرجوا لي بعض أصحابي وبعثت بهما إليه، فلما قرأهما قال: صدق اكتبوا إليه وسلوه أن يختار، فكتب إلي: أما وصولك فلا سبيل إليه، ولكن من تختار لنخرجه إليك فتمضي معه. فكتبت: ما كنت لأختار على أبي العباس أحدا. فقل له المأمون: قم إلى صديقك. فقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تعفيني من ذلك. أتخرجني عما شرفتني به من منادمتك وتبدلني بها منادمة ابن اليزيدي قال: لا بد من ذلك أو ترضيه. قال: فليحتكم. قال: أخاف أن يشتط أو تقصر أنت، ولكني أحكم فأعدل. قال: قد رضيت. قال: تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار معجلة. قال: قد فعلت، فأمر صاحب بيت المال أن يحملها معي، وأمر عبد الله بردها إلى بيت المال.
يعشق جارية ويحرمها فيعوضه المأمون: حدثني الصولي قال: حدثني عون بن محمد قال: كان محمد بن أبي اليزيدي يعشق جارية لسحاب يقال لها عليا ، وكانت من أظرف النساء لسانا وأحسنهن وجها وغناء، فأعطي بها ثلاثة آلاف دينار فلم تبع، واشتراها المعتصم بخمسة آلاف دينار، وذلك في خلافة المأمون، وكان علي بن الهيثم جونقا صديقا لمحمد بن أبي أحمد اليزيدي، فبلغ المأمون الخبر، فدعا محمدا، وقال: ما قصتك مع عليا? قال: قد قلت في ذلك أبياتا، فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتها قال: هاتها فأنشده:
أشكو إلى الله حبي للعـلـيينـا وأنني فيهم ألقـى الأمـرينـا
حسبي عليا أمير المؤمنين فقـد أصبحت حقا أرى حبي له دينا
وحب خلي وخلصاني أبي حسن أعني عليا قريع التغلـبـيينـا
ورقتي لبني لي أصـبـت بـه وجدي به فوق وجد الآدميينـا
ورابع قد رمى قلبي بأسهمـه فجزت في حبه حد المحبينـا
وبعض من لا أسمي قد تملكـه فرحت عنه بما أعيا المداوينـا
صفحة : 2281
أتاه بالدين والدنيا تمكـنـه فلم يدع لي لا دنيا ولا دنيا قال: فقال المأمون: لولا أنه أبو إسحاق لانتزعتها منه، ولكن هذا ألف دينار فخذه عوضا، ولقيني المعتصم في الدار فقال لي: يا محمد، قد علمت ما آل أمر فلانة، فلا تذكرنها. فقلت السمع والطاعة لأمرك.
ينظم شعرا اقترحه المأمون عليه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم قال: حدثني جعفر بن محمد اليزيدي عن أبيه محمد بن أبي محمد قال: كنت عند المأمون فقال لي: يا محمد، قل شعرا في نحو هذين البيتين:
صحيح يود السقم كيما تـعـوده وإن لم تعده عاد عنها رسولهـا
ليعلم عل ترتاع عند شـكـاتـه كما قد يروع المشفقات خليلها? قال فقلت:
صحيح ود لو أمسى عـلـيلا لتكتب أو يرى منكم رسـولا
رآك تسومه الهجران حتـى إذا ما اعتل كنت له وصولا
فودضنا الحياة بـوصـل يوم يكون على هواك له دلـيلا
هما موتان موت هوى وهجر وموت الهجر شرهما سبيلا قال: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثني أبو جعفر بن محمد بن أبي محمد اليزيدي. عن أبيه قال: دخلت على المأمون وهو يشرب، وعنده عريب ومحمد بن الحارث بن بسخنر يغنيانه، فقال: أطعموا محمدا شيئا، فقلت: قد بدأت بذلك في دار أمير المؤمنين، فقال: أما ترى كيف عتق هذا الشراب حتى لم يبق إلا أقله، ما أحسن ما قيل في قديم الشراب? فقلت: قول الحكمي:
عتقت حتى لو اتصلت بلسان ناطـق وفـم
لاحتبت في القوم ماثلة ثم قصت قصة الأمم فقال: هذا كان في نفسي، ثم قال: اسقوا محمدا رطلين، وأعطوه عشرين ألف درهم، ثم نكت في الأرض ورفع رأسه ثم قال: يا محمد:
إني وأنت رضيعا قهوة لطـفـت عنى العيان ودقت عن مدى الفهم
لم نرتضع غير كأس درها ذهب والكأس حرمتها أولى من الرحم قال: والشعر له قاله في ذلك الوقت.
ومما فيه غناء من شعر محمد بن أبي محمد، أنشدناه محمد بن العباس عن عمه عبيد الله عن أخيه أحمد: صوت
أنت امرؤ متـجـن ولست بالغضـبـان
أنت امرؤ لك شـأن فيما أرى غير شاني
صرح بما عنه أكني أكف عنك لسانـي
حسبي أسأت فهـلا مننت بالغـفـران صوت
يا أحــســـن الأمة فـــي عينـي أمـا تـرحـمـنــي
أمـا تـرانـي كـــامـــدا موكـلا بــالـــحـــزن
أمـا تــرى فـــيك مـــدا راتـي لأهـل الـظــنـــن
أصرف طـرفـي عـنـك خـو فا مـنـه أن يفـضـحـنــي
يراني الله وما ألغى وإن لم ترني وممن له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي لصلبه إبراهيم:
صوت
لا تلحني إن منحت عشقا من كان للعشق مستحقا
ولم يقدم علي خـلـقـا ولم أقدم عليه خلـقـا
يملك رقي ولست أبغي من ملكه ما حييت عتقا
لم أر فيمن هويت خلقـا أعطف منه ولا أرقـا الشعر لإبراهيم بن محمد اليزيدي، والغناء لأبي العبيس بن حمدون، خفيف ثقيل مطلق. وفيه لعريب رمل مزموم.
أخبار إبراهيم
خبر له مع عريب وقد نظم شعرا اقترحه عليه: أخبرني عمي قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثنا أحمد عن عمه إبراهيم قال: كنت مع المأمون في بلد الروم، فبينا أنا في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبي قبة، فبرقت برقة وإذا في القبة عريب. قالت: إبراهيم بن اليزيدي? فقلت: لبيك فقالت: قل في هذا البرق أبياتا ملاحا لأغني فيها، فقلت:
ماا بقلبي من أليم الخـفـق إذا رأيت لمعان الـبـرق
من قبل الأردن أو دمشـق لأن من أهوى بذاك الأفق
فارقته وهو أعز الخـلـق علي والزور خلاف الحق
ذاك الذي يملك مني رقـي ولست أبغي ما حييت عتقي
صفحة : 2282
قال: فتنفست نفسا ظننته قد قطع حيازيمها، فقلت: ويحك على من هذا? فضحكت ثم قالت: على الوطن. فقلت: هيهات ليس هذا كله للوطن، فقالت: ويلك أفتراك ظننت أنك تستفزني? والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادعاها أكثر من ثلاثين رئيسا، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا اليوم .
يقيم أياما بسيحان مع صديق، ويقول هناك شعرا: أخبرني الحسن بن علي فقال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثني أخي عن عمي إبراهيم بن أبي محمد: أنه كان مع المعتصم لما خرج إلى الغزو، قال فكتب في رفقه فيها فتى من أهل البصرة، ظريف أديب شاعر راوية، فكان لي فيه أنس، وكنا لا تفترق حتى غزونا وعدنا، فعاد إلى البصرة، وكان له بستان حسن بسيحان، فكان أكثر مقامه به، وعزم لي على الشخوص إلى البصرة لحاجة عرضت لي، فكان أكثر نشاطي لها من أجله، فوردتها، ونظرت فيما وردت له، ثم سألت عنه، ومضيت إليه، فكاد أن يستطار بي فرحا، وأقمت بسيحان معه أياما، وقلت في بعضها وقد اصطحبنا في بستانه:
يا مسعدي بسيحان فديتـكـمـا حثا المدامة في أكناف سيحانـا
نهر كريم من الفردوس مخرجه بذاك خبرنا من كان أنـبـانـا
لا تحسداني رواحا أو مباكـرة طيب المسير على سيحان أحيانا
بشط سيحان إنسان كلفـت بـه نفسي تقي ذلك الإنسان إنسانـا
رياه ريحاننا والكأس معـمـلة لا شيء أطيب من رياه ريحانا
حثا شرابكما حتى أرى بكـمـا سكرا فإني قد أمسيت سكرانـا
ريا الحبيب وكأس من معتـقـه يهيجان لنفس الصب أشجـانـا
سقيا لسيحان من نهر ومن وطن وساكنيه من السكان من كانـا
هم الذين عقدنا الـود بـينـهـم وبيننا وهم فـي دير مـرانـا يدعو ابن أخيه محمدا سعرا إلى مجلس شراب: أخبرني محمد بن العباس قال: حدثني عمي عبيد الله عن جماعة من أهلنا: أن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي كان يعاشر أبا غسان، مولى منيرة؛ وكانت له جارية مغنية؛ فقال لها جاني؛ فدعاه يوما أبو غسان وجلسنا للشرب، فقال له: لو دعوت ابن أخيك -يعني محمد بن أبي محمد- لنأنس به فكتب إليه إبراهيم:
يا أكرم الناس طـرا وأكـرم الـفـتـيان
بادر إلينـا لـكـيمـا تسقى سلاف الدنـان
على غنـاء غـزال مهفـهـف فـتـان
اشرب على وجه جان شرابك الخسروانـي
فما لجـان نـظـير وما لها مـن مـدان
إلا الذي هـو فـرد وما لـه مـن ثـان
أعني الهلال لـسـت في شهره وثـمـان
للناس بـدر مـنـير يرى بكـل مـكـان
وما لنـا غـير بـدر لدى أبـي غـسـان
ذكراه في كل وقـت موصولة بلسـانـي
سبيتـه وسـبـانـي فحبه قـد بـرانـي
من ثم لست تـرانـي أصبو إلى إنـسـان يستصلحه بعض إخوانه بعد جفوة فيقول في ذلك شعرا: أنشدنا أبو عبيد الله اليزيدي عن عمه الفضل لإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي في بعض إخوانه، وقد رأى منه جفوة، ثم عاد واستصلحع، فكتب إليه:
من تاه واحدة فته عشـرا كي لا يجوز بنفسه القدرا
وإذا زها أحد عليك فكـن أزهى عليه ولا تكن غمرا
أرأيت من لم ترج منفـعة منه ولم تحذر لـه ضـرا
لم يستذل وتـسـتـذل لـه بل كن أشد إذا زها كبـرا يعربد في مجلس شراب مع المأمون، ثم يعتذر إليه: حدثني عمي والحسن بن علي قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي عن جعفر بن المأمون قال: دخل إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي على أبي وهو يشرب، فأمره بالجلوس فجلس، وأمر له بشراب فشرب. وزاد في الشراب فسكر وعربد، فأخذ علي بن صالح المصلى بيده، فأخرجه، فلما أصبح كتب إلى أبي:
أنا المذنب الخطاء والـعـفـو واسـع ولو لم يكن ذنب لما عرف الـعـفـو
ثملت فأبدت مني الكأس بـعـض مـا كرهت وما إن يستوي السكر والصحو
صفحة : 2283
ولولا حميا الكأس كان احتمال مـا بدهت به لا شك فيه هو السـرو
ولا سيما إذ كنت عنـد خـلـيفة وفي مجلس ما إن يجرز به اللغو
تنصلت من ذنبي تنصـل ضـارع إلى من لديه يغفر العمد والسهـو
فإن تعف عني تليف خطوي واسعا وإلا يكن عفو فقد قصر الخطـو يحجب عن هارون بن المأمون، فينظم في ذلك شعرا: حدثني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد الزيدي قال: جاء إبراهيم إلى هارون بن المأمون، فصادفه قد خلا هو وجماعة من المعتزلة. فلم يصل إليه وحجب عنه، فكتب إليه:
غلبت عليكم هذه القدريه فعليكم مني السلام تحيه
آتيكم شوقا فلا ألقـاكـم وهم لديكم بكرة وعشيه
هرون قائدهم وقد حفت أشياعه وكفى بتلك بليه
لكن قائدنا الإمام ورأينـا ما قد رآه فنحن مأمونيه يكتب شعرا إلى ابن له أحب غلاما وأحب الغلام غيره: أخبرني عمي قال: حدثني الفضل قال: كان لعمي إبراهيم ابن يقال له: إسحاق، وكان يألف غلاما من أولاد الموالي. فلما خرج المعتصم إلى الشام خرج إبراهيم معه، وخرج الغلام الذي يألفه في المعسكر، وعرف إبراهيم أنه قد صحب فتى من فتيان العسكر غير ابنه، فكتب عمي إبراهيم إلى ابنه:
قل لأبي يعقوب إن الـذي يعرفه قد فعل الـحـوبـا
كان محبا لك فيما مضـى فالآن قد صادف محبوبـا
يركب هذا ذا وذا ذا فـمـا ينفك تصعيدا وتصـوبـيا
فرأس إسحاق فدينـاه قـد أظهر شيئا كان محجوبـا
أرى قرونا قد تجلـلـنـه منصوبة شعبن تشعـبـيا
أطنه يعجز عن حملـهـا إذ ركبت في الرأس تركيبا
يا رحمتا لابني على ضعفه يحمل منهن أعـاجـيبـا يسأله ابن أخ له مزيدا من العناية به فيجيبه شعرا: حدثني عمي قال: حدثني الفضل اليزيدي قال: كتبت إلي عمي إبراهيم أستعين به في حاجة لي، وأستزيده من عنايته بأموري، وأطالبه أن يتوفر نصيبي لديه وفيما أبتغيه منه، فكتب إلي:
فديتـك لـو لـم تـكـن لـي قــريبـــا وكـنـت امـرأ أجـنـبـيا غــريبـــا
مع الـبـر مـنـك ومـا يسـتــجـــر به مـسـتـخـفـا إلـيك الـلـبـيبـــا
لمـا إن جـعـلـت لـخـلــق ســـوا ك مـثـل نـصـيبـك مـنـي نـصـيبـا
وكـنـت الـمـقــدم مـــمـــن أود وازداد حـقـك عـنـدي وجـــوبـــا
تلـطـف لـمـا قـد تـكـلـمـت فــيه فما زلت في الحـاج شـهـمـا نـجـيبـا
وراوض أبـــا حـــســــن إن رأي ت واحـتـل بـرفـقـك حـتـى يجـيبـا
فإن هـو صـار إلــى مـــا تـــريد وإلا اسـتـعـنـت عـلـيه الـحـبـيبــا
ومـا لا يخـالـف مـا تـشـتــهـــيه لتـلـفـيه غـير شـك مـجـــيبـــا
يودك خـاقــان ودا عـــجـــيبـــا كذاك الأديب يحـــب الأديبـــــــا
وأنـت تـكـافـيه بــل قـــد تـــزيد علـيه وتـجـمـع فـيه ضـــروبـــا
تثـيب أخـاك عـلـى الـود مـــنـــه وذو الـلـب يأنـــف ألا يثـــيبـــا
ولا سيما إذ براه الإله كالبدر يدعو إليه القلوبا
يرى المتمني له ردفه كثـيبـا وأعـلاه يحـكـي الـقـضـيبـا
وقد فاق فـي الـعـلـم والـفـهـم مـنـه كمـا تـم مـلـحـا وحـسـنـا وطـيبـا
ويبـلـغ فـيمـا يقــولـــون لـــيس يعـاف إذا نـاولـوه الـقـضـــيبـــا
ولـكـنــه وافـــق الـــزاهـــدين فخـاب وقـد ظـن أن لـن يخــيبـــا
وإن ركـب الـمــرء فـــيه هـــوا ه عـاث فـتـطـهـيره أن يثــوبـــا
إذا زارت الـشـاة ذئبـا طــبـــيبـــا فلا تـأمـنـن عـلـى الـشــاة ذيبـــا
وعـنـد الـطـبـيب شـفـاء الـسـقــيم إذا اعـتـل يومـا وجـاء الـطـيبـبـــا
ولـسـت تـرى فـارسـا فــي الأنـــا م إلا وثـوبـا بـجـيد الـركـــوبـــا شعره وقد زامل المأمون في سفر يحيى بن أكثم ومخنثا: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله قال: وحدثني أخي أحمد قال: زامل المأمون في بعض أسفاره بين يحيى بن أكثم وعبادة المخنث، فقال عمي إبراهيم في ذلك:
صفحة : 2284
وحاكـم زامـل عـبـاده ولم يزل تلـك لـه عـاده
لو جاز لي حكم لما جاز أن يحكم في قـيمة لـبـاده
كم من غلام عز في أهلـه وافت قفاه منه سـجـاده يرمي يحيى بن أكثم باللواط: وقال في يحيى أيضا:
وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهرا فأعقبنا بعد الـرجـاء قـنـوط
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلهـا وقاضي قضاة المسلمين يلـوط يتمثل المأمون ببيت من هجائه ليحيى بن أكثم: وأخبرني عمي حدثنا أبو العيناء قال: نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادما له، فقال للخادم: تعرض له إذا قمت؛ فإني سأقوم للوضوء -وأمره ألا يبرح- وعد إلي بما يقول لك، وقام المأمون، وأمر يحيى بالجلوس. فلما غمزه الخادم بعينه، قال يحيى: لولا أنتم لكنا مؤمنين فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره، فقال له: عد إليه فقل له: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين فخرج الخادم إليه، فقال له ما أمره به المأمون، فأطرق يحيى وكاد يموت جزعا، وخرج المأمون وهو يقول:
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها وقاضي قضاة المسلمين يلوط قم وانصرف، واتق الله وأصلح نيتك .
يرتجل في مجلس المأمون بيت ويزيد المأمون بيتأ عليه: حدثنا اليزيدي قال: حدثني ابن عمي إسحاق بن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه إبراهيم قال: كنت عند المأمون يوما وبحضرته عريب، فقالت لي على سبيل الولع بي: يا سلعوس، وكان جواري المأمون يلقبنني بذلك عبثا، فقلت لها:
قل لعريب لا تكوني مسلعسـه وكوني كتزيف وكوني كمونسه فقال المأمون:
فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن هنالك شك أن ذا منك وسوسة قال: فقلت: كذا والله يا أمير المؤمنين أردت أن أقول، وعجبت من ذهن المأمون.
وممن غني في شعره من ولد أبي محمد اليزيدي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد فمن ذلك: صوت
شوقي إلـيك عـلـى الأيام يزداد والقلب مذ غبت للأحزان معتـاد
يا لهف نفسي على دهر فجعت به كأن أيامه في الحـسـن أعـياد الشعر لأحمد بن محمد بن أبي محمد، والغناء لبحر هزج، وفيه ثاني ثقيل مطلق. ذكر الهشامي أنه لإسحاق، وما أراه أصاب، ولا هو في جامع إسحاق، ولا يشبه صنعته.
طريف من أخباره: وكان أحمد راوية لعلم أهله، فاضلا أديبا، وكان أسن ولد محمد بن أبي محمد، وكان أخوته جميعا يأثرون علوم جدهم وعمومتهم عنه، وقد أدرك أبا محمد، وأظن أنه قد روى عنه أيضا، إلا أني لم أذكر شيئا من ذلك وقت ذكرى إياه فأحكيه عنه.
يبيت عند ابن المأمون فيكتب إليه عمه شعرا: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثني أخي أبو جعفر قال: كنت عند جعفر بن المأمون مقيما، فلما أردت الانصراف منعني، فبت عنده، وزارته لما أصبحنا عريب في جواريها؛ وبت فاحتبسها من غد؛ فاستطبت المقام أيضا فأقمت، فكتب إلي عمي إبراهيم بن محمد اليزيدي:
شردت يا هذا شرود البـعـير وطالت الغيبة عنـد الأمـير
أقمت يومـين ولـيلـيهـمـا وثالثا تحبـى بـبـر كـثـير
يوم عريب مع إحـسـانـهـا إن طالت الأيام يوم قـصـير
لها أغـان غـير مـمـلـولة منها ولا تخلق عند الكـرور
غير ملوم يا أبـا جـعـفـر أن تؤثر اللهو ويوم السـرور
فاجعل لنا منك نصيبـا فـمـا إن كنت عن مجلسنا بالنفـور
وصر إلينا غير ما صـاغـر أصارك الرحمن خير المصير
إن لم يكن عندي غـنـاء ولا عود فعندي القمر بالنردشـير
والذكر بالعلم الذي قد مضـى بأهله حادث صرف الدهـور
وهو جديد عندنـا نـهـجـه أعلامه تحويه منا الصـدور
فالحمد لله عـلـى كـل مـا أولى وأبلى ولربي الشكـور يقترح عليه المعتصم شعرا في غلام وسيم: حدثنا بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: سمعت أخي أبا جعفر أحمد بن محمد يقول:
صفحة : 2285
دخلت إلى المعتصم يوما وبين يديه خادم وضيء جميل وسيم، فطلعت عليه الشمس، فما رأيت أحسن منها على وجهه، فقال لي: يا أحمد، قل في هذا الخادم شيئا، وصف طلوع الشمس عليه وحسنها، فقلت:
قد طلعت شمس على شمـس وطاب لي الهوى مع الأنـس
وكنت أقلي الشمس فيما مضى فصرت أشتاق إلى الشمـس من شعره في الرد على اعتذار: حدثني اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: كتب إلى أخي بعض إخوانه ممن كان يألفه ويديم زيارته، ثم انقطع عنه -يعتذر إليه من تأخره عنه، فكتب إليه:
إني امرؤ أعذر إخوانـي في تركهم بري وإتيانـي
لأنه لا لهو عـنـدي ولا لي اليوم جاه عند سلطان
وأكثر الإخوان في دهرنا أصحاب تمييز ورجحـان
فمن أتاني منعما مفضـلا فشكره عندي شـكـران
ومن جفاني لم يكن لومـه عندي ولا تعنيفه شانـي
أعفو عن السيء من فعلهم وأتبع الحسنى بإحـسـان
حسب صديقي أنه واثـق مني بإسراري وإعلانـي ينشد المأمون شعرا وهو لا يزال غلاما: حدثني اليزيدي قال: حدثني أبي عن عمي من أبي جعفر أحمد بن محمد قال: دخلت على المأمون وهو في مجلس غاص بأهله -وأنا يومئذ غلام- فاستأذنت في الإنشاد، فأذن، فأنشدته مديحا لي مدحته به، وكان يستمع للشاعر ما دام في تشبيب أو وصف ضرب من الضروب، حتى بلغ إلى مديحه لم يسمع منه إلا بيتين أو ثلاثة، ثم يقول للمنشد: حسبك ترفعا، فأنشدته:
يا من شكوت إليه مـا ألـقـاه وبذلت من وجدي له أقصـاه
فأجابني بخلاف ما أمـلـتـه ولربما منع الحريص مـنـاه
أترى جميلا أن شكا ذو صبوة فهجرته وغضبت من شكـواه
يكفيك صمت أو جواب مؤيس إن كنت تكره وصله وهـواه
موت المحب سعادة إن كان من يهواه يزعـم أن ذاك رضـاه فلما صرت إلى المديح قلت:
أبقى لنا الله الإمـام وزاده عزا إلى العز الذي أعطاه
فالله مكرمنا بأنا معـشـر عتقاء من نعم العباد سواه فسر بذلك وضحك، وقال: جعلنا الله وإياكم ممن يشكر النعمة، ويحسن العمل.
ينشد المأمون شعرا وهو يريد الغزو: أخبرنا محمد بن العباس قال: حدثني أبي عن أخيه أبي جعفر قال: دخلت يوما على المأمون بقارا ، وهو يريد الغزو فأنشدته شعرا مدحته فيه؛ أوله:
يا قصر ذا النخلات من بارا إني حللت إليك من قـارا
أبصرت أشجارا على نهـر فذكرت أشجارا وأنهـارا
لله أيام نـعـمـت بـهـا بالقفص أحيانا وفي بـارا
إذ لا أزال أزور غـانـية ألهو بها وأزور خـمـارا
لا أستجيب لمن دعا لهـدى وأجيب شطـارا ودعـارا
أعصي النصيح وكل عاذلة وأطيع أوتارا ومـزمـارا قال: فغضب المأمون، وقال: أنا في وجه عدو، وأحض الناس على الغزو، وأنت تذكرهم نزهة بغداد? فقلت: الشيء بتمامه، ثم قلت:
فصحوت بالمأمون عن سكري ورأيت خير الأمر ما اختارا
ورأيت طـاعـتـه مـؤدية للفرض إعلانـا وإسـرارا
فخلعت ثوب الهزل عن عنقي ورضيت دار الجد لـي دارا
وظللت معتصما بطـاعـتـه وجواره وكفـى بـه جـارا
إن حل أرضا فهي لي وطـن وأسير عنها حيثـمـا سـارا فقال له يحيى بن أكثم: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين أخبر أنه كان في سكر وخسار، فترك ذلك وارعوى، وآثر طاعة خليفته، وعلم أن الرشد فيها؛ فسكن وأمسك.
يجيز بيتا للمأمون في غلام المعتصم: حدثني الصولي قال: حدثني محمد بن يحيى بن أبي عبادة قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبيه قال:
صفحة : 2286
دعا المعتصم ذات يوم المأمون فجاءه، فأجلسه في بيت على سقفه جامات، فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيما التركي غلام المعتصم، وكان المعتصم أوجد الناس به، ولم يكن في عصره مثله، فصاح المأمون يا أحمد بن محمد اليزيدي -وكان حاضرا- فقال: انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيما التركي، أرأيت أحسن من هذا قط? وقد قلت:
قد طلعت شمس على شمس وزالت الوحشة بـالأنـس أجز يا أحمد، فقلت:
قد كنت أشنا الشمس فيما مضى فصرت أشتاق إلى الشـمـس قال: وفطن المعتصم، فعض على شفته لأحمد ، فقال أحمد للمأمون: والله لئن لم يعلم الحقيقة من أمير المؤمنين لأقعن معه فيما أكره، فدعاه المأمون فأخبره الخبر، فضحك المعتصم. فقال له المأمون: كثر الله في غلمانك مثله، إنما استحسنت شيئا فجرى ما سمعت لا غيره.
يعدد المأمون الحقوق التي توجب عليه مراعاته له: حدثني الصولي قال: حدثني عون بن محمد قال: حدثني أحمد بن محمد اليزيدي قال: كنا بين يدي المأمون، فأنشدته مدحا، فقال: لئن كانت حقوق أصحابي تجب علي لطاعتهم بأنفسهم فإن أحمد ممن تجب له المراعاة لنفسه وصحبته، ولأبيه وخدمته، ولجده وقديم خدمته وحرمته، وإنه للعريق في خدمتنا، فقلت: قد علمتني يا أمير المؤمنين كيف أقول، ثم تنحيت ورجعت إليه، فأنشدته:
لي بالخليفة أعظم السـبـب فبه أمنت بواثق العـطـب
ملك غذتني كـفـه وأبـي قبلي وجدي كان قبل أبـي
قد خصني الرحمن منه بما أسمو به في العجم والعرب فضحك، وقال: قد نظمت يا أحمد ما نثرناه.
هذا آخر أخبار اليزيديين وأشعارهم التي فيها صنعة.
صوت
أفي كل يوم أنت من غبر الهوى إلى الشم من أعلام ميلاء ناظر
بعمشاء من طول البكاء كأنمـا بها خزر أو طرفها متخـازر عروضه من الطويل، والغبر: البقية من الشيء، يقال: فلان في غبر من علته، وأكثر ما يستعمل في هذا ونحوه، والشم: الطوال، والأعلام جمع علم وهو الجبل، قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأثم الهداة به كأنه علم في رأسه نار والخزر: ضيق العين وصغرها، ومنه الخزر بذلك لصغر أعينهم، قال الراجز:
إذا تخازرت وما بي مـن خـزر ثم كسرت الطرف من غير عور والشعر لرجل من قيس يقال: كعب، ويلقب بالمخبل. والغناء لإبراهيم، ثقيل أول بالوسطى. ومن الناس من يروي الشعر لغير هذا الرجل وينسبه إلى ذي الرمة، ويجعل فيه مية مكان ميلاء، ويقال: إن اللحن لابن المكي، وقد نسب إلى غيرهما، والصحيح ما ذكرناه أولا.
أخبار المخبل القيسي ونسبه
حبة بنتي عن له: قال عبد الله بن أبي سعد الوراق -فيما أخبرني به حبيب بن نصر المهلبي، إجازة عنه-: حدثني علي بن الصباح بن الفرات، قال: أخبرني علي بن الحسن بن أيوب النبيل، عن رباح بن قطيب بن زيد الأسدي، قال: كانت عند رجل من قيس يقال له: كعب -بنت عم له، وكانت أحب الناس إليه فخلا بها ذات يوم فنظر إليها وهي واضعة ثيابها، فقال: يا أم عمرو، هل ترين أن الله خلق أحسن منك? قالت: نعم، أختى ميلاء، هي أحسن مني.
ينكشف حبه فيرحل ولا يدري مكانه: قال: فإني أحب أن أنظر إليها، فقالت: إن علمت بك لم تخرج إليك، ولكن كن من وراء الستر، ففعل، وأرسلت إليها فجاءتها فلما نظر إليها عشقها وانتظرها حتى راحت إلى أهلها، فاعترضها فشكا إليها حبها، فقالت: والله يا بن عم، ما وجدت من شيء إلا وقد وقع لك في قلبي أكثر منه. وواعدته مرة أخرى، فأتتهما أم عمرو وهما لا يعلمان، فرأتهما جالسين، فمضت إلى إخوتها -وكانوا سبعة- فقالت: إما أن تزوجوا ميلاء كعبا، وإما أن تكفوني أمرها. وبلغهما الخبر، ووقف إخوتها على ذلك، فرمى بنفسه نحو الشام حياء منهم، وكان منزله ومنزل أهله الحجاز، فلم يدر أهله ولا بنو عمه أين ذهب، فقال كعب: شعره في أرض الغربة:
أفي كل يوم أنت من لاعج الهوى إلى الشم من أعلام ميلاء ناظر
بعمشاء من طول البكاء كأنـمـا بها خزر أو طرفها متـخـازر
تمنى المنى حتى إا ملت المنـى جرى واكف من دمعها متبـادر
صفحة : 2287
كما ارفض عنها بعدما ضم ضمة بخيط الفتيل اللؤلؤ الـتـنـاثـر تدل رواية شعره على مكانه: قال: فرواه عنه رجل من أهل الشام، ثم خرج بعد ذلك الشامي يريد مكة، فاجتاز بأم عمرو وأختها ميلاء، وقد ضل الطريق، فسلم عليهما ثم سألهما عن الطريق، فقالت أم عمرو: يا ميلاء ، صفي له الطريق، فذكر -لما نادت: يا ميلاء- شعر كعب هذا، فتمثل به، فعرفت أم عمرو الشعر، فقالت: يا عبد الله، من أين أنت? قال: رجل من أهل الشام. قالت: من أين رويت هذا الشعر? قال: رويته عن أعرابي بالشام، قالت: أو تدري ما اسمه? فقال: سمعت أنه كعب، فأقسمت عليه: لا تبرح حتى تعرف إخواتنا بذلك فنحسن إليك نحن وهم، وقد أنعمت علينا. قال: أفعل، وإني لأروي له شعرا آخر، فما أدري أتعرفانه أم لا? فقالت: نسألك بالله أسمعتنا، قال: سمعته يقول: شعر آخر له في أرض الغربة:
خليلي قد قست الأمور ورمـتـهـا بنفسي وبالـفـتـيان كـل زمـان
فلم أخف سوءا للصـديق ولـم أجـد خلـيا ولا ذا الـبـث يسـتــويان
من الناس إنسانان ديني عـلـيهـمـا مليئان لو شاءا لـقـد قـضـيانـي
خليلي أما أم عمرو فـمـنـهـمـا وأما عن الأخرى فـلا تـسـلانـي
بلينا بهجـران ولـم أر مـثـلـنـا من الناس إنسـانـيت يهـتـجـران
أشد مصافاة وأبـعـد مـن قـلـى وأعصى لواش حـين يكـتـقـيان
تحدث طرفانا بمـا فـي صـدورنـا إذا استعجمت بالمنطق الشـفـتـان
فوالله ما أدري أكـل ذوي الـهـوى على ما بنا أو نحن مـبـتـلـيان?
فلا تعجبا مما بي اليوم مـن هـوى فبي كـل يوم مـثـل مـا تـريان
خلليلي عن أي الذي كـان بـينـنـا من الوصل أم ماضي الهوى تسلان?
وكنا كريمي معشـر حـم بـينـنـا هوى فحفظناه بـحـسـن صـيان
سلاه بأم العمرو مـن هـي إذ بـدا به سـقـم جـم وطـول ضـمـان
فما زادنا بعد المدى نـقـض مـرة ولا رجعا من عـلـمـنـا بـبـيان
خليلي لا والـلـه مـا لـي بـالـذي تريدان من هجـر الـحـبـيب يدان
ولا لي بالـبـين اعـتـلاء إذا نـأت كما أنتما بـالـبـين مـعـتـلـيان يعود به ابن عمه من الشام ويموت غما: قال: ونزل الرجل ووضع رحلة حتى جاء إخواتهما، فأخبراهم الخبر، وكانوا مهتمين بكعب، وكان كعب أظرفهم وأشعرهم، فأكرموا الرجل وحملوه على راحلة ودلوه على الطريق، وطلبوا طعبا فوجدوه بالشام، فأقبلوا به، حتى إذا كانوا في ناحية ماء أهلهم إذا الناس قد اجتمعوا عند البيوت، وكان كعب ترك بنيا له صغيرا، فزحمه غلام منهم في ناحية الماء، فقال له كعب: ويحك يا غلام من أبوك? فقال: رجل يقال له: كعب، قال: وعلى أي شيء قد اجتمع الناس? وأحس قلبه بالشر. قال: اجتمعوا على خالتي ميلاء. قال: وما قصتها? قال: ماتت. فزفر زفرة مات منها مكانه، فدفن حذاء قبرها.
من شعره في الشام: قال: وقال كعب وهو بالشام:
أحقا عباد الله أن لسـت مـاشـيا بمرحاب حتى يحشر الثـقـلان
ولا لاهيا يوما إلى اللـيل كـلـه ببيض لطيفات الخصور رواني ?
يمنيننا حتـى تـريع قـلـوبـنـا ويخلطن مطلا ظاهـرا بـلـيان
فعيني يا عيني حـتـام أنـتـمـا بهجران أم العمرو تختلـجـان?
أما أنتمـا إلا عـلـي طـلـيعة على قرب أعدائي كمـا تـريان
فلو أن أم العمرو أضحت مقـيمة بمصر وجثماني بشحر عـمـان
إذا لرجوت الله يجمع شمـلـنـا فإنا على ما كـان مـلـتـقـيان نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت اختلاف الرواة في نسبة صوت من شعره:
من الناس إنسانان ديني عليهما مليئان لو شاءا لقد قضيانـي
خليلي أما أم عمرو فمنهمـا وأما عن الأخرى فلا تسلاني
صفحة : 2288
عروضه من الطويل، الشعر -على ما في هذا الخبر- لكعب المذكور قصته، وروى المفضل بن سلمة وأبو طالب بن أبي طاهر هذين البيتين مع غيرهما لابن الدمينة الخثعمي. والغناء لإبراهيم الموصلي، خفيف رمل بالوسطى، ذكره أبو العبيس عنه، وذكر ابن المكي أنه لعلويه. والأبيات التي ذكرنا أن المفضل بن سلمة وابن أبي طاهر روياها لابن الدمينة مع البيتين اللذين فيهما الغناء هي:
من الناس إنسانان ديني عليهـمـا مليئان لو شاءا لقد قـضـيانـي
خليلي أما أم عمرو فمنـهـمـا وأما عن الأخرى فلا تسـلانـي
منوعان ظلامان ما ينصفانـنـي بدليهما والحسن قد خلـبـانـي
من البيض نجلاء العيون غذاهما نعيم وعيش ضـارب بـجـران
أفي كل يوم أنـت رام بـلادهـا بعينين إنسانا همـا غـرقـان?
إذا اغرورقت عيناي قال صحابتي لقد أولعت عيناك بالـهـمـلان وقد روي أيضا أن هذا البيت:
أفي كل يوم أنت رام بلادها لعروة بن حزام:
ألا فاحملاني بارك الله فيكمـا إلى حاضر الروحاء ثم ذراني أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أبو سعيد القيسي، قال: حدثني سليمان بن عبد العزيز، قال: حدثني خارجة المالي قال: حدثني من رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت، قال: فقلت له: من أنت? قال: أنا الذي أقول:
أفي كل يوم أنت رام بلادهـا بعينين إنسانا هما غـرقـان?
ألا فاحملاني بارك الله فيكمـا إلى حاضر الروحاء ثم ذراني فقلت: زدني، قال: لا، ولا حرف.
التغني بالصوت المنسوب إليه يهيج الواثق للإيقاع بشخصين: ويقال: إن الذي هاج الواثق على القبض على أحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب أنه غنى -هذا الصوت- أعني:
من الناس إنسانان ديني عليهما فدعا خادما كان للمعتصم، ثم قال له: أصدقني وإلا ضربت عنقك. قال: سل يا أمير المؤمنين عما شئت، قال: سمعت أبي وقد نظر إليك يتمثل بهذين البيتين، ويومئ إليك إيماء تعرفه، فمن اللذان عني? قال، قال لي: إنه وقف على إقطاع أحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب ألفي دينار، وأنه يريد الإيقاع بهما. فكان كلما رآني يتمثل بهذين البيتين. قال: صدقني والله، والله لا سبقاني بهما كما سبقاه، ثم أرقع بهما.
وأخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي فتمثل:
من الناس إنسانان ديني عليهما وذكر البيتين، وأشار بقوله:
خليلي أما أم عمرو فمنهما إلى أحمد بن الخصيب. فلما بلغ هذا سليمان بن وهب، قال: إنا لله أحمد بن الخصيب والله أم عمرو، وأنا الأخرى. قال: ونكبهما بعد أيام. وقد قيل: إن محمد بن عبد الملك الزيات كان السبب في نكبتهما.
رواية أخرى لسبب إيقاع الواثق بصاحبيه: أخبرنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عون بن محمد الكندي، قال: كانت الخلافة أيام الواثق تدور على إيتاخ، وعلى كاتبه سليمان بن وهب، وعلى أشناس وكاتبه أحمد بن الخصيب، فعمل الوزير محمد بن عبد الملك الزيات قصيدة، وأوصلها إلى الواثق على أنها لبعض أهل العسكر، وهي:
يا بن الخلائف والأملاك إن نسبـوا حزت الخلافة عـن آبـائك الأول
أجرت أم رقدت عيناك عن عجـب فيه البرية من خوف ومـن وهـل
وليت أربعة أمر الـعـبـاد مـعـا وكلهم خاطب في حبل محـتـبـل
هذا سليمان قد ملـكـت راحـتـه مشارق الأرض من سهل ومن جبل
ملكته السند فالشحـرين مـن عـدن إلى الجزيرة فالأطراف من ملـل
خلافة قد حواها وحده فـمـضـت أحكامه في دماء القوم والـنـفـل
وابن الخصيب الذي ملكت راحـتـه خلافة الشأم والغازين والـقـفـل
فنيل مصر فبحر الشـأم قـد جـريا بما أراد من الأمـوال والـحـلـل
كأنهم في الذي قسـمـت بـينـهـم بنو الرشيد زمان القسـم لـلـدول
حوى سليمان ما كان الأمين حـوى من الخلافة والتـبـلـيغ لـلأمـل
وأحمد بن خصـيب فـي إمـارتـه كالقاسم بن الرشيد الجامع السـبـل
صفحة : 2289
أصبحت لا ناصح يأتيك مستتـرا ولا علانية خوفا مـن الـحـيل
سل بيت مالك أين المال تعرفـه وسل خراجك عن أموالك الجمل
كم في حبوسك ممن لا ذنوب لهم أسرى التكذب في الأقياد والكبل
سميت باسم الرشيد المرتضى فبه قس الأمور التي تنجي من الزلل
عث فيهم ما عاثـت يداه مـعـا على البرامك بالتهديم للـقـلـل فلما قرأ الواثق غاظه وبلغ منه، ونكب سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب، وأخذ منهما ومن أسبابهما ألف ألف دينار، فجعلها في بيت المال، فقال أحمد بن أبي فنن:
نزلت بالخائنين سـنـه سنة للناس ممتحـنـه
سوغت ذا النصح بغيته وأزالت دولة الخونـه
فترى أهل العفاف بهـا وهم في دولة حسنـه
وترى من جار همتـه أن يؤدي كل ما احتجنه وقال إبراهيم بن العباس لابن الزيات:
إيها أبا جعفر وللدهر كـر رات وعما يريب متسـع
أرسلت ليثا على فرائسـه وأنت منها فانظر متى تقع
لكنه قـوتـه وفـيك لـه وقد تقضت أقواته شبـع وهي أبيات، وقد كان أحمد بن أبي داود حمل الواثق على الإيقاع بابن الزيات وأمر علي بن الجهم فقال فيه:
لعـائن الـلـه مـوفــرات مصبحـات ومـهـجـرات
على ابن عبد الملـك الـزيات عرض شمل الملك للشتـات
يرمي الدواوين بتـوقـيعـات معقدات غير مفـتـوحـات
أشبه شيء برقـي الـحـيات كأنها بالزيت مـدهـونـات
بعد ركوب الطوف في الفرات وبعد بيع الزيت بالـحـبـات
سبحان من جل عن الصفـات هارون يا بن سيد الـسـادات
أما ترى الأمور مـهـمـلات تشكو إليك عـدم الـكـفـاة وهي أبيات، فهم الواثق بالقبض على ابن الزيات، وقال: لقد صدق، قائل هذا الشعر، ما بقي لنا كاتب. فطرح نفسه على إسحاق بن إبراهيم، وكانا مجتمعين على عداوة بن أبي داود، فقال للواثق: أمثل ابن الزيات -مع خدمته وكفايته- يفعل به هذا، وما جنى عليك وما خانك، وإنما دلك على خونة أخذت ما اختانوه، فهذا ذنبه.
وبعد، فلا ينبغي لك أن تعزل أحدا أو تعد مكانه جماعة يقومون مقامه، فمن لك بمن يقوم مقامه? فمحا ما كان في نفسه عليه ورجه له.
وكان إيتاخ صديقا لابن أبي داود، فكان يغشاه كثيرا، فقال له بعض كتابه: إن هذا بينه وبين الوزير ما تعلم، وهو يجيئك دائما، ولا تأمن أن يظن الوزير بك ممالأة عليه؛ فعرفه ذلك، فلما دخل ابن أبي داود إليه خاطبه في هذا المعنى، فقال: إني والله ما أجيئك متعززا بك من ذلة، ولا متكثرا من قلة، ولكن أمير المؤمنين رتبك رتبة أوجبت لقاءك، فإن لقيناك فله، وإن تأخرنا عنه فلنفسك، ثم خرج من عنده فلم يعد إليه.
وفي هذه القصة أخبار كثيرة يطول ذكرها، ليس هذا موضعها، وإنما ذكرنا ها هنا هذا القدر منها كما يذكر الشيء بقرائنه.
صوت
عش فحبيك سريعا قـاتـلـي والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشوق بـقـلـب دنـف فيك والسقم بجسـم نـاحـل
فهما بين اكتـئاب وضـنـى تركاني كالقضـيب الـذابـل الشعر لخالد الكاتب، والغناء للمسدود، رمل مطلق في مجرى الوسطى، وذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه، وأنه صوت سمعه فكتبه.
أخبار خالد الكاتب
وطنه وأصله وسبب إصابته باوسواس: هو خالد بن يزيد، ويكنى أبا الهيثم، من أهل بغداد، وأصله من خراسان، وكان أحد كتاب الجيش. ووسوس في آخر عمره، قيل إن السوداء غلبت عليه، وقال قوم: كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها، وولاه محمد بن عبد الملك الإعطاء في الثغور، فخرج فسمع في طريقه منشدا ينشد، ومغنية تغني:
من كان ذا شجن بالشـام يطـلـبـه ففي سوى الشام أمسى الأهل والشجن فبكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، ثم أفاق مختلطا. واتصل ذلك حتى وسوس وبطل.
كيف اتصل بعلي بن هشام وإبراهيم بن المهدي?:
صفحة : 2290
وكان اتصل بعلي بن هشام وإبراهيم بن المهدي وكان سبب اتصاله بعلي بن هشام أنه صحبه في وقت خروجه إلى قم، في جملة كتاب الإعطاء، فبلغه وهو في طريقه أن خالدا يقول الشعر، فأنس به وسر به، وأحضره فأنشده قوله:
يا تارك الجسم بلا قـلـب إن كنت أهواك فما ذنبي?
يا مفردا بالحسن أفردتنـي منك بطول الهجر والعتب
إن تك عيني أبصرت فتنة فهل على قلبي من عتب
حسيبك الله لما بي كـمـا أنك في فعلك بي حسبـي للمسدود في هذه الأبيات رمل طنبوري مطلق من رواية الهشامي، قال: فجعله علي بن هشام في ندمائه إلى أن قتل.
كيف اتصل بالمعتصم?: ثم صحب الفضل بن مروان، فذكره للمعتصم وهو بالماحوزة قبل أن يبني سر من رأى، فقال خالد:
عزم السرور على المقا م بسر من را لـلإمـام
بلد المسـرة والـفـتـو ح المستنيرات العظـام
وتراه أشـبـه مـنـزل في الأرض بالبلد الحرام
فاللـه يعـمـره بـمـن أضحى به عـز الأنـام فاستحسنها الفضل بن مروان وأوصلها إلى المعتصم قبل أن يقال في بناء سر من رأى شيء، فكانت أول ما أنشد في هذا المعنى من الشعر، فتبرك بها وأمر لخالد بخمسة آلاف درهم.
وذكر ذلك كله إسماعيل بن يحيى الكاتب، وذكر اليوسفي صاحب الرسائل أن خالدا قال أيضا في ذلك:
بين صفو الزمان عـن كـدره في ضحكات الربيع عن زهره
يا سر من رابوركت من بـلـد بورك في نبته وفي شـجـره
غرس جدود الإمـام ينـبـتـه بابك والمازيار مـن ثـمـره
فالفتح والنصـر ينـزلان بـه والخصب في تربه وفي شجره فغنى مخارق في هذه الأبيات، فسأله المعتصم: لمن هذا الشعر? فقال: لخالد يا أمير المؤمنين، قال: الذي يقول:
كيف ترجى لذاذة الإغتمـاض لمريض من العيون المراض فقال محمد بن عبد الملك: نعم يا أمير المؤمنين، هو له، ولكن بضاعته لا تزيد على أربعة أبيات، فأمر له المعتصم بأربعة آلاف درهم، وبلغ خالدا الخبر، فقال لأحمد بن عبد الوهاب صاحب محمد بن عبد الملك -وقيل لأبي جعفر- أعزه الله: إذا بلغت المراد في أربعة أبيات فالزيادة فضل.
يداخل الشعراء في القصائد. وكان أول صاحب مقطعات: قال اليوسفي: ولما قال خالد في صفة سر من رأى قصيدته التي يقول فيها:
اسقني فـي جـرائر وزقـاق لتلاقي السرور يوم الـتـلاق
من سلاف كأن في الكأس منـه عبرات من مقلتي مـشـتـاق
في رياض بسر من را إلى الكر خ ودعني من سـائر الآفـاق
باد كارات كل فـتـح عـظـيم لإمام الهـدى أبـي إسـحـاق وهي قصيدة ، لقيه دعبل فقال: يا أبا الهيثم، كنت صاحب مقطعات فداخلت الشعراء في القصائد الطوال وأنت لا تدوم على ذلك، ويوشك أن تتعب بما تقول وتغلب عليه. فقال له خالد: لو عرفت النصح منك لغيري لأطعتك في نفسي.
خلافة مع الحلبي الشاعر وهجاؤه إياه: قال اليوسفي: وحدثني أبو الحسن الشهرزاني: أن خالدا وقع بينه وبين الحلبي الشاعر الذي يقول فيه البحتري:
سل الحلبي عن حلب خلاف في معنى شعر، فقال له الحلبي: لا تعد طورك فأخرسك فقال له خالد: لست هناك، ولا فيك موضع للهجاء، ولكن ستعلم أني أجعلك ضحكة سر من رأى. وكان الحلبي من أوسخ الناس، فجعل يهجو جبته وثيابه وطيلسانه، فمن ذلك قوله:
وشاعر ذي منطـق رائق في جبة كالعارض البارق
قطعاء شـلاء رقـاعـية دهرية مرقوعة العاتـق
قدمها العري على نفسـه لفضلها في القدر السابق وقوله:
وشاعر مقـدم لـه قـوم ليس عليهم في نصره لوم
قد ساعدوه في الجوع كلهم فقرى فكل غداؤه الصوم
يأتيك في جبة مـرقـعة أطول أعمار مثلهـا يوم
وطيلسان كالآل يلبـسـه على قميص كأنـه غـيم
من حلب في صميم سفلتها غناه فقر وعـزه ضـيم قال: وقال فيه:
تاه على ربه فأفقـره حتى رآه الغنى فأنكره
صفحة : 2291
فصار من طول حرفة علما يقذفه الرزق حيث أبصره
يا حلبيا قضـى الإلـه لـه بالتيه والفقر حين صـوره
لو خلطوه بالمسك وسخـه أو طرحوه في البحر كدره يستنشده إبراهيم بن المهدي شعرا فيجيزه: حدثني جحظة، قال: حدثني خالد الكاتب، قال: دخلت على إبراهيم بن المهدي فاستنشدني، فقلت: أيها الأمير، أنا غلام أقول في شجون نفسي، لا أكاد أمدح ولا أهجو، فقال: ذلك أشد لدواعي البلاء، فأنشدته: صوت
عاتـبـت نـفـسـي فـي هـــوا كفـلـم أجـدهـا تـقـــبـــل
وأطعت داعيا إليك ولم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ه لـحـسـن وجـهـك تـمـثــل
لا قـلـت إن الـصـبـر عـــن ك مـن الـتـصـابـي أجـمــل لجحظة في هذه الأبيات رمل مطلق بالوسطى.
قال: فبكى إبراهيم وصاح: وأي عليك بإبراهيم، ثم أنشدته أبياتي التي أقول فيها:
وبكى العاذل من رحمتي فبكائي لبكـا الـعـاذل وقال إبراهيم: يا رشيق، كم معك من العين? قال: ستمائة وخمسون دينارا. قال: اقسمها بيني وبين الفتى، واجعل الكسر له صحيحا، فأعطاني ثلاثمائة وخمسين دينارا، فاشتريت بها منزلي بساباط الحسن والحسين، فواراني إلى يومي هذا.
يستوهبه علي بن الجهم بيتا من شعره: حدثني جحظة، قال: حدثني خالد الكاتب قال: قال لي علي بن الجهم: هب لي بيتك الذي تقول فيه:
ليت ما أصبح من رق ة خديك بقـلـبـك فقلت: يا جاهل، هل رأيت أحدا يهب ولده.
يتعاطي الهجاء: وقال أحمد بن إسماعيل الكاتب: لقيت خالدا الكاتب ذات يوم فسألته عن صديق له، وكان قد باعده ولم أعلم، فأنشأ يقول:
ظعن الغريب لغيبة الأبـد حتى المخافة نأتي البلـد
حيران يؤنسـه ويكـلـؤه يوم توعده بـشـر غـد
سنح الغراب له بأنكر مـا تغدو النحوس به على أحد
وابتاع أشأمـه بـأيمـنـه الجد العثور لـه يدا بـيد
حتى ينيخ بأرض مهلـكة في حيث لم يولد ولم يلـد
جزعت حليلته عليه فمـا تخلو من الزفرات والكمد
نزل الزمان بها فأهلكهـا منه وأهدى اليتم للـولـد
ظفرت به الأيام فانحسرت عنه بناقرة ولـم تـكـد
فتركن منه بعـد طـيتـه مثل الذي أبقين من لبـد قال، فقلت له: يا أبا الهيثم مذ كم دخلت في قول الهجاء? قال: مذ سالمت فحوربت، وصافيت فتوقفت.
شعره في غلام نافس أبا تمام في حبه: وقال الرياشي. كان خالد مغرما بالغلمان المرد، ينفق عليهم كل ما يفيد، فهوي غلاما يقال له: عبد الله، وكان أبو تمام الطائي يهواه، فقال فيه خالد:
قضيب بان جنـاه ورد تحملـه وجـنة وخـد
لم أثن طرفي إلـيه إلا مات عراء وعاش وجد
ملك طوع النفوس حتى علمه الزهو حين يبدو
واجتمع الصد فيه حتى ليس لخلق سواه صـد فبلغ أبا تمام ذلك فقال فيه أبياتا منها:
شعرك هذا كله مفرط في برده يا خالد البارد فعلمها الصبيان، فلم يزالوا يصيحون به: يا خالد يا بارد حتى وسوس، قال: ومن الناس من يزعم أن هذا السبب كان بينه وبين رجل غير أبي تمام، وليس الأمر كذلك.
هجاؤه أبا تمام: وكان خالدا قد هجا أبا تمام في هذه القصة فقال فيه:
يا معشر المرد إني نـاصـح لـكـم والمرء في القول بين الصدق والكذب
لا ينكحن حـبـيبـا مـنـكـم أحـد فإن وجعاءه أعدى مـن الـجـرب
لا تأمنوا أن تحركـوا بـعـد ثـالـثة فتركبوا عمدا ليست من الـخـشـب يستنشده إبراهيم بن المهدي حين بويع ويستمع شعره:
صفحة : 2292
حدثني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني الحسن بن إسحاق قال: حدثني خالد الكاتب، قال: لما بويع إبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني -وقد كان يعرفني- وكنت متصلا ببعض أسبابه، فأدخلت إليه فقال: أنشدني يا خالد شيئا من شعرك، فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله ): إن من الشعر لحكما ، وإنما أمزح وأهزل، فقال: لا تقل هذا، فإن جد الأدب وهزله جد، هات أنشدني، فأنشدته:
عش فحبيك سريعا قـاتـلـي والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشوق بـقـلـب دنـف فيك والسقم بجسـم نـاحـل
فهما بين اكتـئاب وضـنـى تركاني كالقضـيب الـذابـل قال: فاستملح ذلك ووصلني.
رثى راكبا قصبة الصبيان يصيحون به: حدثني حمزة لن أبي سلالة الشاعر الكوفي، قال دخلت بغداد في بعض السنين فبينا أنا مار بجنينة إذا أنا برجل عليه مبطنة نظيفة، وعلى رأسه قلنسية سوداء، وهو راكب قصبة، والصبيان خلفه يصيحون به: يا خالد يا بارد، فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا، وأدخلته بستانا هناك، فجلس واستراح، واشتريت له رطبا فأكل، واستنشدته فأنشدني:
قد حاز قلبي فصار يمـلـكـه فكيف أسلو وكيف أتـركـه
رطيب جسم كالماء تحبـسـه يخطر في القلب منه مسلكـه
يكاد يجري من القميص من الن عمة لولا القميص يمسـكـه فاستزدته، فقال: لا، ولا حرف .
يخلع ثيابا أعطيها على غلام يحبه، ويقول فيه شعرا: وذكر علي بن الحسين بن أبي طلحة عن أبي الفضل الكاتب -أنه دعا خالدا ذات يوم فأقام عنده. وخلع عليه، فما استقر به المجلس حتى خرج، قال: فأتبعته رسولا ليعرف خبره، فإذا هو قد جاء إلى غلام كان يحبه، فسأل عنه فوجده في دار القمار، فمضى إليه حتى خلع عليه تلك الثياب وقبله وعانقه وعاد إلينا، فلما جاء خالد أعطيت الغلام الذي وجهنا به دنانير ودعاه فجاء به إلينا، وأخفيناه وسألنا خالدا عن خبره فكتمه وجمجم ، فغمزنا الرسول فأخرجه علينا، فلما رآه خالد بكى ودهش، فقلنا له: لا ترع، فإن من القصة كيت وكيت، وإنما أردنا أن نعرف خبرك لا أن نسوءك، فطابت نفسه وأجلسه إلى جنبه، وقال: قد بليت بحبه وبالخوف عليه مما قد بلي به من القمار، ثم أنشد لنفسه فيه:
محـب شـفـــه ألـــمـــه وخـامـر جـسـمـه سـقـمــه
وبـاح بـمـا يجـمـجــمـــه من الـسـرار مـكـتـتـمـــه
أمـا تـرثـي لـمـكـــتـــئب يحـبـك لـحـمـــه ودمـــه
يغار على قميصك حين تلبسه ويتهمه من شعره في الشوق: وذكر علي بن الحسين أيضا أن محمد بن السري حدثه أنه أطال الغيبة عن بغداد وقد وسوس خالد، فمر به في الرصافة والصبيان يصيحون به: يا غلام الشريطي يا خالد البارد، ويرجع إليهم فيضربهم ويزيد ويرميهم، قال: فقلت اه: كيف أنت يا أبا الهيثم? قال: كما ترى فقلت له: فمن تعاشر اليوم? قال: من أحذره، فعجبت من جوابه مع اختلاله، فقلت له: ما قلت بعدي من الشعر? قال: ما حفظه الناس وأنسيته، وعلى ذلك قولي:
كبد شفها غلـيل الـتـصـابـي بين عتب وسـخـطة وعـذاب
كل يوم تدمى بجرح من الـشـو ق ونوع مجـدد مـن عـذاب
يا سقيم الجفون أسقمت جسمـي فاشفني كيف شئت، لا بك ما بي
إن أكن مذنبا فكن حسن العـف و أو اجعل سوى الصدود عقابي ثم قال: يا أبا جعفر، جننت بعدك، فقلت: ما جعلك الله مجنونا؛ وهذا كلامك لي ونظمك.
حدثني محمد بن الطلاس أبو الطيب، قال: حضرت جنازة بعض جيراني، فلقيت خالدا في المقبرة فقبضت عليه، وقلت: أنشدني، فذهب ليهرب مني، فغمزت على يده غمزة أوجعته، فقال: خل عني أنشدك، فأرخيت يدي عن يده، فأنشدني:
لم تــر عـــين نـــظـــرت أحـسـن مـن مـنـــظـــره
الـنـور والـنـعـــمة والـــن عمة فــي مـــخـــبـــره
لا تصل الألسن بالوصف إلى أكثـره
كيف بمن تنتسب الشمس إلى جوهره ينشد شعرا لأبي تمام، ثم ينشد شعرا عارضه به:
صفحة : 2293
حدثني عمي -رحمه الله- قال: مر بنا خالد الكاتب ها هنا والصبيان خلفه يصيحون به، فجلس إلي فقال: فرق هؤلاء عني، فقلت، وألحت عليه جارية تصيح: يا خالد يا بارد، فقال لها: مري يا منتنة الكس، ويا من كسها دس . فقلت له: يا أبا الهيثم، أي شيء معنى دس ها هنا? قال: تشتهي الأير الصغير والكبير والوسط، ولا تكره منها شيئا وأقبل الصبيان يصيحون بتلك الجارية بمثل ما قال لها خالد، وهي ترميهم وتهرب منهم حتى غابوا معها عنا، فأقبل علي خالد متمثلا فقال:
وما أنا في أمري ولا في خصومتي بمهتضم حقي ولا قـارع سـنـي فاحتبسته عندي يومي ذلك. فلما شرب وطابت نفسه، أنشده لأبي تمام:
أحبابه لم تفعلون بـقـلـبـه ما ليس يفعله بـه أعـداؤه?
مطر من العبرات خدي أرضه حتى الصباح ومقلتاي سماؤه
نفسي فداء محـمـد ووقـاؤه وكذبت، ما في العالمين فداؤه
أزعمت أن البدر يحكي وجهه والغصن حين يميد فيه ماؤه?
أسكت فأين بهاؤه وكـمـالـه وجماله وحـياؤه وضـياؤه?
لا تقر أسماء الملاحة باطـلا فيمن سواه فإنهـا أسـمـاؤه ثم قال: وقد عارضه أبو الهيثم -يعني خالدا نفسه- فقال:
فديت محمدا من كل سـوء يحاذر في رواح أو غـدو
أيا قمر السماء سلفت حتـى كأنك قد ضجرت من العلو
رأيتك من حبيبك ذا بـعـاد وممن لا يحـبـك ذا دنـو
وحسبك حسرة لك من حبيب رأيت زمامه بـيدي عـدو هكذا أخبرني عمي عن خالد، وهذه البيات أيضا تروي لأبي تمام.
يبعث بشعر إلى صديق له عليل: وقال ابن أبي طلحة: حدثني الهلالي، قال: مررت بخالد وحوله جماعة ينشدهم فقلت له: يا أبا الهيثم، سلوت عن صديقك ، فقال: لا والله. قلت: فإنه عليل وما عدته، فسكت ساعة ثم رفع رأسه إلي، وقال:
زعموا أنني صـحـوت وكـلا أشهد اللـه أنـنـي لـن أمـلا
كيف صبري يا من إذا ازداد تيها أبدا زدته خـضـوعـا وذلا? ثم قال: احفظه وأبلغه عني:
بجسمي لا بجسمك يا عـلـيل ويكفيني من الألم الـقـلـيل
تعداك الـسـقـام إلـي إنـي على ما بي لعاديه حـمـول
إذا ما كنت يا أملي صحـيحـا فحالفني وسالمك الـنـحـول
ألست شقيق ما ضمت ضلوعي على أني لعلتـك الـعـلـيل من شعره في غلام يحبه: قال: وحدثني العباس بن يحيى أنهم كانوا عند علي بن المعتصم، فغني في شعر لخالد، فأمر باحضاره وطلب فلم يوجد، فوجه إلي غلام كان يتعشقه فأحضر، وسأله عنه فدل عليه، وقال: كنا نشرب إلى السحر، وقد مضى إلى حمام فلان، وهو يخرج ويجلس عند فلان الفقاعي، ودكانه مألف للغلمان المرد والمغنين، فبعث إليه فأحضر، فلما جلس أخرج علي بن المعتصم الغلام؛ وقال: هذا دلنا عليك؛ وهو يزعم أنك تعشقه، فقال له الغلام: نعم أيها الأمير، لو لم يكن من فضيحته إياي إلا أنه لم يوجد أحضرت وسئلت عنه، فأقبل عليه خالد وقال:
يا تارك الجسم بلا قـلـب إن كنت أهواك فما ذنبي?
يا مفردا بالحسن أفردتنـي منك بطول الشوق والحب
إن تك عيني أبصرت فتنة فهل على قلبي من عتب?
حسيبك الله لما بي كـمـا أنك في فعلك بي حسبـي لجحظة فيه رمل، فاستحسن علي الشعر، وأمر له بخمسين دينارا.
يعتذر إلى غلام أعرض عنه: قال: حدثني ابن أبي المدور أنه شهد خالدا عند عبد الرحيم بن الأزهر الكاتب، وأنه دخل عليهم غلام من أولاد الكاتب، فلما رأى خالدا أعرض عنه، فقلت له: لم أعرضت عن أبي الهيثم? فقال: والله لو علمت أنه ها هنا ما دخلت إليكم، ما يبالي إذا شرب هذين القدحين ما قال ولا من هتك، فقال لي خالد: ألا تعينني على ظالمي? فقلت: بلى والله أعينك، فأقبل على الفتى وقال: صوت
هبني أسأت فكان ذنبي مثل ذنب أبي لهب
فأنا أتوب وكم أسأ ت وكـم أسـأت ولــم تـــتـــب فما زلنا مع ذلك الفتى نداريه ونستعطفه له حتى أقبل عليه وكلمه وحادثه، فطابت نفسه، وسر بقية يومه.
صفحة : 2294
في هذين البيتين لأبي العبيس خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، ولرذاذ خفيف رمل مطلق.
شعره في تفاحة معضوضة: وحدثني عبد الله بن صالح الطوسي أن علي بن المعتصم دعا خالدا يوما وهو يشرب، وقد أخرجت إليه وصيفة من وصفاء حظيته تفاحة معضوضة مغلفة بعثت بها إليه ستها، فقال:
تفاحة خرجت بالدر مـن فـيهـا أشهى إلي من الدنيا وما فـيهـا
بيضاء في حمرة علت بـغـالـية كأنما قطفت من خد مـهـديهـا
جاءت بها قينة من عنـد غـانـية روحي من السوء والمكروه تفديها
لو كنت ميتا ونادتني بنغمـتـهـا إذا لأسرعت من لحدي ألبـيهـا فاستحسن علي بن المعتصم الأبيات، وغني فيها، وأمر بتخت ثياب وخمسين دينارا.
أخبار المسدود
اسمه وكنيته وموطنه المسدود من أهل بغداد، وكان منزله في ناحية درب المفضل، في الموضع المعروف بخراب المسدود، منسوب إليه.
وأخبرني جحظة أن اسمه الحسن، وكنيته أبو علي، وأن أباه كان قصابا، وأنه كان مسدود فرد منخر ومفتوح الآخر، وكان يقول: لو كان منخري الآخر مفتوحا لأذهلت بغنائي أهل الحلوم وذوي الألباب، وشغلت من سمعه عن أمر دينه ودنياه ومعاشه ومعاده.
أشجى الناس صوتا وأحضرهم بديهة: قال جحظة: وكان أشجى الناس صوتا وأحضرهم نادرة، ولم يكتسب أحد من المعنين بطنبور ما كسبه، وكان مع يساره وقلة نفقته يقرض بالعينة وكانت له صنعة عجيبة، أكثرها الأهزاج. قال جحظة: قال لي مخارق غلامه: قال لي، وقد صنع هذين البيتين وهما جميعا هزج: صوت
من رأى العيس عليها الرحال إضم قصد لهـا أم أثـال ?
لست أدري حيث حلوا ولكن حيثما حلوا فثم الـجـمـال والآخر:
عج بنا نجن بطرف العين تفاح الخدود
ونسل القلب عمن حظـنـا مـنــه الـــكـــدود ثم قال: والله لا تركت بعدي من يهزج. قال جحظة: والله ما كذب ينفيه الواثق إلى عمان: أخبرني جحظة، قال: كان الواثق قد أذن لجلسائه ألا يرد أحد نادرة عن أحد يلاعبه ، فغنى الواثق يوما:
نظرت كأني من وراء زجـاجة إلى الدار من ماء الصبابة انظر وقد كان النبيذ عمل فيه وفي الجلساء فانبعث إليه المسدود فقال: أنت تنظر أبدا من وراء زجاجة، إن كان في عينيك ماء صبابة أو لم يكن، فغضب الواثق من ذلك وكان في عينيه بياض، ثم قال: خذوا برجل العاض بظر أمه، فسحب من بين يديه. ثم قال: ينفى إلى عمان الساعة، فنفي من وقته وحدر ومعه الموكلون . فلما سلموه إلى صاحب البصرة، سأله أن يقيم عنده يوما ويغنيه، ففعل.
يأبى الغناء لأمير البصرة فيرسله إلى عمان: فلما جلسوا للشراب ابتدأ فقال: احذروني يا أهل البصرة على حرمكم، فقد دخلت إلى بلدكم وأنا أزنى خلق الله. قال: فقال له الجماز: أما يعني أنه أزنى خلق الله أما، فغضب المسدود، وضرب بطنبوره الأرض وحلف ألا يغني، فسأله الأمير أن يقيم عنده وأمر بإخراج الجماز وكل من حضر، فأبى ولج فأحدره إلى عمان.
يشتاقه الواثق فيكتب في إحضاره: ومكث الواثق لا يسأل عنه سنة، ثم اشتاقه فكتب في إحضاره، فلما جاءه الرسول ووصل إلى الواثق قبل الأرض بين يديه، فاعتذر من هفوته وشكر التفضل عليه. فأمره بالجلوس ثم قال له: حدثني بما رأيت بعدي. فقال: لي حديث ليس في الأرض أظرف منه، وأعاد عليه حديثه بالبصرة. فقال له الواثق: قبحك الله ما أجهلك ويلك فأنت سوقة وأنا ملك، وكنت صاحيا وكنت منتشيا وبدأت القوم فأجابوك، فبلغ بك الغضب ما ذكرته وما بدأتك فتجيبني، وبدأتني -من المزح- بما لا يحتمله النظير لنظيره، ويلك لا تعاود ممازحة خليفة وإن أذن لك في ذلك، فليس كل أحد يحضره حلمه كما حضرني فيك.
يهجو الواثق في رقعة ويقدمها إليه خطأ: أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني عون بن محمد، قال: سمعت حمدون بن إسماعيل يقول:
صفحة : 2295
لم يكن في الخلفاء أحد أحلم من الواثق، ولا أصبر على أذى وخلاف. وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المسدود من ذلك، فكان يبلغه عنه ما يكره ويتجاوز عنه . وكان المسدود قد هجاه بيتين، فكانا معه في رقعة، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه، فغلط بين الرقعتين، فناوله رقعة الشعر وهو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها وفيها:
من المسدود في الأنف إلى المسدود في العين
أنا طـبـل لـه شـق فيا طبلا بـشـقـين فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: خلطت في الرقعتين، فهات الآخرى وخذ هذه واحترز من مثل هذا، والله ما زاده على هذا القول.
من أجوبته الموجعة: أخبرني جحظة، قال: تحدث المسدود في مجلس المنتصر بحديث، فقال له المنتصر: متى كان ذلك? قال: ليلة لا ناه ولا زاجر، يعرض له بليلة قتل فيها المتوكل ، فأغضى المنتصر واحتمله.
قال: وقالت الذكورية يوما بين يدي المعتمد: إن يا مسدود، قال: نعم يا مفتوحة وقالت له امرأة: كيف أخذ إلى شجرة بابك? قال: قدامك، أطعمك الله من ثمرها.
قال: وغنى بين يدي المتوكل، فسكته وقل لبكران الشيري : تغن أنت، فقال المسدود: أنا أحتاج إلى مستمع، فلم يفهم المتوكل ما قال.
وقدم إليه طباخ المتوكل طبقا وعليه رغيفان، ثم قال له: أي شيء تشتهي حتى أجيئك به? قال: خبزا، فبلغ ذلك المتوكل، فأمر بالطباخ فضرب مائتي مقرعة.
قال جحظة: وحدثني بعض الجلساء أنه لما وضع الطباخ الرغيفين بين يديه قال له المسدود: هذا حرز فأين النير? قال ودعاه بعض الرؤساء فأهدى له برذونا أشهب ، فارتبطه ليلته، فلما كان من غد نفق، وبعث إليه يدعوه بعد ذلك، فكتب: أنا لا أمضى إلى من يعرف آجال الدواب، فيهب ما قرب أجله منها.
قال: واستوهب من بعض الرؤساء وبرا، فأعطاه سمورا قد قرع بعضه، فرده وقال: ليس هذا سمورا، هذا أشكر .
صوت
أجدك ما تغفو كلـوم مـصـيبة على صاحب إلا فجعت بصاحب
تقطع أحشائي إذا ما ذكرتـهـم وتنهل عيني بالدموع السواكـب عروضه من الطويل، الشعر لسلمة بن عياش، والغناء لحكم، وله فيه لحنان: رمل بالبنصر، وهزج بالوسطى .
أخبار سلمة بن عياش
ولاؤه وعصره ومن انقطع لمدحه: سلمة بن عياش مولى بني حسل بن عامر بن لؤي. شاعر بصري من مخضرمي الدولتين، وكان يتدين ويتصون ، وانقطع إلى جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، ومدحهما فأكثر وأجاد.
من مدحه: ومما مدحهما به وفيه غناه قوله: صوت
أرقت وطالت ليلتي بـأبـان لبرق سرى بعد الهدوء يمان
يضيء بأعلام المدينة همـدا إلى أمج فالطلح طلح قنـان غنى في هذين البيتين دحمان، ولحنه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، قال: وفيه لحن لعطرد يقول فيها:
وردت خليجي جعفر ومحـمـد وكل بديء من نداه سـقـانـي
وإني لأرجو جعفرا ومحـمـدا لأفضل ما يرجى له ملـكـان
هما ابنا رسول الله وابنا ابن عمه فقد كرم الـجـدان والأبـوان شعر يعزى إليه: ومنها ما ذكره محمد بن داود بن الجراح قوله: صوت
أنار بدت وهنا لعينـك تـرمـض ببغداد أم سار من البرق مومض?
يضيء سناه مكـفـهـرا كـأنـه حناتم سود أو عشار تـمـخـض غنى فيهما عطرد ثقيلا أول؛ بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق يقول فيها:
ولولا انتظاري جعفرا ونواله لما كان في بغداد ما أتبرض وقد وجدت هذا الشعر لابن المولى في جامع شعره من قصيدة له، وأظن ذلك الصحيح، لا ما ذكر محمد بن داود من أنها لسلمة بن عياش.
يرفد الفرزدق ببيت من الشعر حين أجبل في قصيدة: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة وغيره، قال: قال سلمة بن عياش -وذكر محمد بن داود، عن عسل بن ذكوان، عن أبي حاتم، عن الأصمعي، عن سلمة بن عياش مولى بني عامر بن لؤي- قال: دخلت على الفرزدق السجن، وهو محبوس، وقد قال قصيدته:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعـز وأطـول
صفحة : 2296
وقد أفحم وأجبل ، فقلت له: ألا أرفدك ? فقلت: وهل ذاك عندك? فقلت: نعم، ثم قلت:
بيت زرارة محتب بـفـنـائه ومجاشع وأب الفوارس نهشل فاستجاد البيت وغاظه قولي له، فقال لي: ممن أنت? فقلت: من قريش، فقال: كل أير حمار من قريش فمن أيها أنت? قلت: من بني عامر بن لؤي، قال: لئام والله رضعة ، جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم ، فقلت: ألأم والله منهم قومك وأرضع. جاء رسول مالك بن المنذر وأنت سيدهم وشاعرهم، فأخذ بأذنك يقودك حتى احتبسك فما اعترضه أحد، ولا نصرك، فقال: قاتلك الله ما أكرمك وأخذ البيت، فأدخله في قصيدته.
يتغزل في بربر المغنية، فتوهب له: أخبرنا وكيع، قال: أخبرني محمد بن سعد الكراني، قال: حدثنا سهل بن محمد، قال: حدثني العتبي، قال كان سلمة بن عياش وأبو سفيان بن العلاء عند محمد بن سليمان، وجارية تغنيهم وتسقيهم يقال لها: بربر، فقال سلمة:
إلى الله أشكو ما ألاقي من القلـى لأهلي وما لاقيت من حب بربر
على حين ودعت الصبابة والصبا وفارقت أخداني وشمرت مئزري
نأى جعفر عنا وكان لمـثـلـهـا وأنت لنا في النائبات كجعـفـر قال: فقال محمد بن سليمان لسلمة: خذها، هي لك، فاستحيا وارتدع، وقال: لا أريدها فألح عليه في أخذها، فقال: أعتق ما أملك إن أخذتها، فقال له أبو سفيان: يا سخين العين، أعتق ما تملك وخذها، فهي خير من كل ما تملك، فلما مات أبو سفيان رثاه سلمة فقال: يرثي صديقه أبا سفيان:
لعمرك لا تعفو كلوم مـصـيبة على صاحب إلا فجعت بصاحب
تقطع أحشائي إذا ما ذكـرتـك وتنهل عيني بالدموع السواكـب
وكنت امرأ جلدا على ما ينوبنـي ومعترفا بالصبر عند المصـائب
فهد أبو سفيان ركني ولـم أكـن جزوعا ولا مستنكر للـنـوائب
غنينا معا بضعا وستـين حـجة خليلي صفاء ودنا غـير كـاذب
فأصبحت لما حالت الأرض دونه على قربه مني كمن لم أصاحب وذكر محمد بن داود عن عسل بن ذكوان أن محمد بن سليمان قال له: اختر ما شئت غيرها، لأن أبا أيوب قد وطئها.
يهزأ بأبي حية النميري فيخرسه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثت من غير وجه عن سلمة بن عياش أنه قال: قلت لأبي حية النميري أهزأ به: ويحك يا أبا حية أتدري ما يقول الناس? قال: لا، قلت: يزعمون أني أشعر منك، قال: إنا لله هلك والله الناس.
من شعره في بربر: وفي بربر هذه يقول سلمة بن عياش، وفيه غناء، وذكر عمر بن شبة أنه لمطيع ابن إياس: صوت
أظن الحب من وجدي سيقتلني على بربـر
وبربر درة الـغـوا ص من يملكها يحبر
فخافي الله يا بربـر فقد أفتنت ذا العسكر
بحسن الدل والشكـل وريح المسك والعنبر
ووجه يثبـه الـبـدر وعيني جؤذر أحور فيه لحكم ثلاثة ألحان: رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، وخفيف رمل عن هارون بن الزيات، وهزيج عن أبي أيوب المدني.
شعر مطيع بن إياس في جارية لبربر بعد ما أعتقت: أخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال بربر جارية آل سليمان أعتقت، وكان لها جوار مغنيات، فيهن جارية اسمها جوهر، وكان في البصرة فتى يعرف بالصحاف، حسن الوجه، فبلغ مطيع بن إياس أنه بات مع جوهر جارية بربر، فغاظه ذلك، فقال:
ناك والله جوهر الصحـاف وعليها قميصها الأفـواف
شام فيها أيرا له ذا صـلاع لم يخنه نقص ولا إخطاف
زعموها قالت وقد غاب فيها قائما في قيامه استحصاف
وهو في جارة استها يتلظى وبها شهوة له والتـهـاف
بعض هذا مهلا ترفق قليلا ما كذا يا فتى تناك الظراف قال: وقال فيها، وقد وجهت بجواريها إلى عسكر المهدي:
خافي اللـه يا بـربـر فقد أفسدت ذا العسكر
أفضت الفسق في الناس فصار الفسق لا ينكـر
ومن ذا يملك الـنـاس إذا ما أقبلت بـربـر?
صفحة : 2297
وأعـــطـــاف جـــواريهـــا كريح الـمـسـك والـعـنــبـــر
وجـــوهـــر درة الـــغـــوا ص مـن يمـلـكـهـا يحــبـــر
ألا يا جـوهــر الـــقـــلـــب لقـد زدت عـلـى الـجــوهـــر
وقـد أكـمـــلـــك الـــلـــه بحـسـن الـدل والـمـنــظـــر
إذا غنيت يا أحسن خلق الله بالمـزهـر
فهذا حزنا يبكي وهـذا طــربـــا يكـــفـــر
وهــذا يشـــرب الـــكـــأس وذا فـــرح ينـــعـــــــر
ولا والـلـه مـا الــمـــهـــدي أولـى مـنـك بـالـمـنـــبـــر
فما عشت ففي كفيك خلع ابن أبي جعفر قال: فبلغ ذلك المهدي، فضحك وأمر لمطيع بصلة، وقال: أنفق هذا عليها، وسلها ألا تخلعنا ما عاشت.
قال: وفي جوهر يقول مطيع:
جارية أحسن من حلـيهـا وفيه فضل الدر والجوهر
وجرمها أطيب من طيبهـا والطيب فيه المسك والعنبر
جاءت بها بربر ممكـورة يا حبذا ما جلبت بـربـر قال: وقال فيها:
أنت يا جوهر عندي جوهره في بياض الدرة المشتهره
وإذا غنت فنار أضـرمـت قدحت في كل قلب شرره
صوت
يا عمود الإسلام خير عمود والذي صيغ من حياء وجود
إن يومـا أراك فـيه لـيوم طلعت شمسه بسعد السعود الشعر لأبي العتاهية يمدح محمد الأمين، والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وإسحاق.
أخبار لأم جعفر
تستنشد أبا العتاهية مدحه للأمين: أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا العلائي، قال: حدثني محمد بن أبي العتاهية، قال: لما جلس الأمين في الخلافة أنشده أبو العتاهية:
يا بن عم النبي خير البـرية إنما أنت رحمة للـرعـية
يا إمام الهدى الأمين المصفى بلباب الخلافة الهاشـمـيه
لك نفس أمارة لك بالـخـي ر وكف بالمكرمات نـديه
إن نفسا تحملت منك ما حـم لت للمسلمين نفـس قـوية قال: ثم خرج إلى دار أم جعفر، فقالت له: أنشدني ما أنشدت أمير المؤمنين، فأنشدها.
فقالت: أين هذا من مدائحك في المهدي والرشيد? فغضب وقال: إنما أنشدت أمير المؤمنين ما يستملح، وأنا القائل فيه:
يا عمود الإسلام خير عمـود والذي صيغ من حياء وجود
والذي فيه ما يسلي ذوي الأح زان عن كل هالك مفقـود
إن يومـا أراك فـيه لـيوم طلعت شمسه بسعد السعود فقالت له: الآن وفيت المديح حقه، وأمرت له بعشرة آلاف درهم.
يستنجز أبو العتاهية ما كانت تجريه عليه: أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني محمد بن موسى اليزيدي، قال: حدثني محمد بن الفضل، قال: كان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة بمائة ألف دينار جدد وألف ألف درهم، فكانت تعطي أبا العتاهية منها مائة دينار وألف درهم، فأغفلته سنة، فدفع إلي رقعة وقال: ضعها بين يديها فوضعتها، وكان فيها:
خبروني أن في ضرب السنة جددا بيضا وصفرا حسنـه
سككا قد أحدثت لـم أرهـا مثل ما كنت أرى كل سنـه فقالت: إنا لله أغفلناه. فوجهت إليه بوظيفة على يدي.
تطلب أن ينظم أبو العتاهية أبياتا تعطف عليها المأمون حدثني محمد بن موسى، قال: حدثنا جعفر بن الفضل الكاتب، قال: أحست زبيدة من المأمون بجفاء، فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك، وتأمره أن يعمل فيه أبياتا تعطفه عليها، فقال: صوت
ألا إن ريب الدهر يدني ويبـعـد ويؤنس بالآلاف طورا ويفـقـد
أصابت لريب الدهر مني يدي يدي فسلمت للأقدار واللـه أحـمـد
وقلت لريب الدهر إن ذهبـت يد فقد بقيت والحمد لـلـه لـي يد
إذا بقي المأمون فالـرشـيد لـي ولي جعفر لم يفقدا ومـحـمـد الغناء لعلويه.
قال: فحسن موقع الأبيات منه، وعاد لها المأمون إلى أكثر مما كان لها عليه.
وجدت في كتاب محمد بن الحسن الكاتب.
صفحة : 2298
حدثني هارون بن مخارق، قال: حدثني أبي، قال: ظهرت لأم جعفر جفوة من المأمون، فبعثت إلي بأبيات وأمرتني أن أغني فيها المأمون إذا رأيته نشيطا وأسنت لي الجائزة، وكان كاتبها قال الأبيات، ففعلت فسألني المأمون عن الخبر فعرفته، فبكى ورق لها، وقام من وقته فدخل إليها فأكب عليها، وقبلت يديه، وقال لها: يا أمه، ما جفوتك تعمدا، ولكن شغلت عنك بما لا يمكن إغفاله، فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك، وأتم يومه عندها، والأبيات:
ألا إن ريب الدهر يدني ويبعد ويؤنس بالآلاف طورا ويفقد وذكر باقي الأبيات مثل ما في الخبر الأول: ينظم أبو العتاهية شعرا على لسانها للمأمون: أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحسن بن علي الرازي، قال: حدثني أبو سهل الرازقي عن أبيه، قال: عمل أبو العتاهية شعرا على لسان زبيدة بأمرها لما قدم المأمون بغداد، أوله:
لخير إمام قام من خير عنصر وأفضل راق فوق أعواد منبر فذكر محمد بن أحمد بن المرزبان عن بعض كتاب السلطان: أن المأمون لما قدم مدينة السلام واستقرت به الدار، وانتظمت له الأمور، أمرت أم جعفر كاتبا لها فقال هذه الأبيات، وبعثت بها إلى علويه، وسألته أن يصنع فيها لحنا، ويغني فيه المأمون ففعل، وكان ذلك مما عطفه عليها، وأمرت لعلويه بعشرين ألف درهم. وقد روي أن الأبيات التي أولها:
يا عمود الإسلام خير عمود لعيسى بن زينب المراكبي.
أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحسين بن يحيى الكاتب، قال: حدثنا علي بن نجيح، قال: حدثني صالح بن الرشيد، قال: كنا عند المأمون يوما وعقيد المغني وعمرو بن بانة يغنيان، وعيسى بن زينب المراكبي حاضر، وكان مشهورا بالإبنة، فتغنى عقيد بشعر عيسى:
يا عمود الإسلام خير عمود والذي صيغ من حياء وجود
لك عندي في كل يوم جـديد طرفة تستفاد يا بن الرشيد فقال المأمون لعقيد: أنشد باقي هذا الشعر، فقال: أصون سمع أمير المؤمنين عنه، فقال: هاته ويحك فقال:
كنت في مجلس أنيق وريحان ن وراح ومسمعات وعـود
فتغنى عمرو بن بـانة إذا ذا ك وهو ممسك بأير عقـيد
يا عمود الإسلام خير عمـود والذي صيغ من حياء وجود
فتنفست ثم قلـت كـذا كـل محب صب الفؤاد عـمـيد فقال المأمون لعيسى بن زينب: والله لا فارقتك حتى تخبرني عن تنفسك عند قبض عمرو على أير عقيد: لأي شيء هو? لا بد من أن يكون ذلك إشفاقا عليه، أو على أن تكون مثله، لعن الله تنفسك هذا يا مريب قال: وإنما سمي المراكبي لتوليه مراكب المنصور، وأمه زينب بنت بشر صاحب طاقات بشر بباب الشام.
صوت
لقيت من الغنيات العـجـابـا لو أدرك مني العذارى الشبابا
غلام يكحلن حور الـعـيون ويحدثن بعد الخضاب الخضابا
ويبرقن إلا لما تـعـلـمـون فلا تمنعن النساء الضـرابـا الشعر لأيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي، والغناء لإبراهيم الموصلي، ولحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية الهشامي.
أخبار أيمن بن خريم
نسبه وتشيعه وأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي لأبيه صحبة برسول الله -)- ورواية عنه، وينسب إلى فاتك، وهو جد أبيه. وهو أيمن بن خريم بن الأخرم بن عمرو بن فاتك بن القليب بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وكان أيمن يتشيع، وكان أبوه أحد من اعتزل حرب الجمل وصفين وما بعدهما من الأحداث، فلم يحضرها.
يصف قوته لعبد الملك بن مروان، فيحسده ويتغير عليه:
صفحة : 2299
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية، قال: حدثني النوشجاني عن العمري عن الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عياش، عن مجالد، قال كان عبد الملك شديد الشغف بالنساء، فلما أسن ضعف عن الجماع وازداد غرامه بهن، فدخل إليه يوما أيمن بن خريم قال له: كيف أنت? فقال: بخير يا أمير المؤمنين. قال: فكيف قوتك? قال: كما أحب، ولله الحمد، إني لآكل الجذعة من الضأن بالصاع من البر، وأشرب العس المملوء ، وأرتحل البعير الصعب وأنصبه ، وأركب المهر الأرن فأذلله، وأفترع العذراء، ولا يقعدني عنها الكبر، ولا يمنعني منها الحصر ، ولا يرويني منها الغمر ولا ينقضي مني الوطر. فغاظ عبد الملك قوله وحسده، فمنعه العطاء وحجبه، وقصده بما كره حتى أثر ذلك في حاله، فقالت له امرأته: ويحك أصدقني عن حالك? هل لك جرم? قال: لا والله، قالت: فأي شيء دار بينك وبين أمير المؤمنين آخر ما لقيته? فأخبرها، فقالت: إنا لله? من ها هنا أتيت.
تحتال له امرأته فيعود عبد الملك إلى بره: أنا أحتال لك في ذلك حتى أزيل ما جرى عليك، فقد حسدك الرجل على وصفت به نفسك، فتهيأت ولبست ثيابها ودخلت على عاتكة زوجته، فقالت: أسألك أن تستعدي لي أمير المؤمنين على زوجي، قالت: وماله? قالت: والله ما أدري أنا مع رجل أو حائط? وإن له لسنين ما يعرف فراشي، فسليه أن يفرق بيني وبينه، فخرجت عاتكة إلى عبد الملك فذكرت ذلك له، وسألته في أمرها، فوجه إلى أيمن بن خريم فحضر، فسأله عما شكت منه فاعترف به، فقال: أو لم أسألك عاما أول عن حالك فوصفت كيت وكيت? فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرجل ليتجمل عن سلطانه، ويتجلد عند أعدائه بأكثر مما وصفت نفسي به، وأنا القائل:
لقيت من الغانيات العـجـابـا لو أدرك مني الغواني الشبابـا
ولكن جمع النساء الـحـسـان عناء شديد إذا المـرء شـابـا
ولو كلت بالمد لـلـغـانـيات وضاعفت فوق الثياب الثيابـا
إذا لم تنلـهـن مـن ذاك ذاك جحدنك عند الأمير الكتـابـا
يذدن بـكـل عـصـــا ذائد ويصبحن كل غداة صعـابـا
إذا لم يخالطـن كـل الـخـلا ط أصبحن مخرنظمات غضابا
علام يكحلن حـور الـعـيون ويحدثن بعد الخضابا الخضابـا
ويعركن بالمسـك أجـيادهـن ويدنين عند الحجال العـيابـا
ويبرقن إلا لما تـعـلـمـون فلا تحرموا الغانيات الضرابا قال: فجعل عبد الملك يضحك من قوله، ثم قال: أولى لك يا بن خريم لقد لقيت منهن ترحا ، فما ترى أن نصنع بينك وبين زوجتك? قال: تستأجلها إلى أجل العنين، وأداريها لعلي أستطيع إمساكها، قال: أفعل ذلك، وردها إليه، وأمر له بما فات من عطائه، وعاد إلى بره وتقريبه.
يعتزل عمرو بن سعيد وعبد العزيز بن مروان في منازعة بينهم ويقول في ذلك شعرا: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أو دلف، قال: حدثنا الرياشي، قال: ذكر العتبي أن منازعة وقعت بين عمرو بن سعيد وعبد العزيز بن مروان، فتعصب لكل واحد منهما أخواله، وتداعوا بالسلاح واقتتلوا، وكان أيمن بن خريم حاضر للمنازعة فاعتزلهم هو ورجل من قومه، يقال له: ابن كوز، فعاتبه عبد العزيز وعمرو جميعا على ذلك، فقال:
أأقتل بين حجاج بن عـمـرو وبين خصيمه عبد الـعـزيز
أنقتل ضلة في غـير شـيء ويبقى بعدنا أهل الكـنـوز
لعمر أبيك ما أتـيت رشـدي ولا وفقت للحرز الـحـريز
فإني تارك لهمـا جـمـيعـا ومعتزل كما اعتزل ابن كوز يهجو يحيى بن الحكم: أخبرني عمي قال: حدثني الكراني، عن العمري عن الهيثم بن عدي، قال: أصاب يحيى بن الحكم جارية في غزاة الصائفة ، بها وضح ، فقال: أعطوها أيمن بن خريم، وكان موضحا، فغضب وأنشأ يقول:
تركت بني مروان تندى أكفـهـم وصاحبت يحيى ضلة من ضلاليا
فإنك لو أشبهت مروان لم تـقـل لقومي هجرا أن أتوك ولا لـيا وانصرف عنه، فأتى عبد العزيز بن مروان، وكان يحيى محمقا.
يرى عبد الملك مدحه لبني هاشم مثلا يحتذى:
صفحة : 2300
حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمي الفضل، قال: حدثني الزبيري عن أشياخه أن عبد الملك بن مروان قال: يا معشر الشعراء تشبهوننا مرة بالأسد الأبخر، ومرة بالجبل الأوعر، ومرة بالبحر الأجاج، ألا قلتم فينا كما قال أيمن بن خريم في بني هاشم:
نهاركم مكابـدة وصـوم وليلكم صلاة واقـتـراء
وليتم بالقران وبالتزكـي فأسرع فيكم ذاك البـلاء
بكى نجد غداة غد عليكـم ومكة والمدينة والجـواء
وحق لكل أرض فارقوها عليكم لا أبالكم البـكـاء
أأجعلكم وأقوامـا سـواء وبينكم وبينهم الـهـواء
وهم أرض لأرجلكم وأنتم لأرؤسهم وأعينهم سماء شعره وقد أدى عبد الملك عنه دية قتل خطأ: أخبرني الحسن بن علي، عن أحمد بن زهير، عن أبي همام الوليد بن شجاع، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: أصاب أيمن بن خريم امرأة له خطأ -يعني قتلها- فوداها عبد الملك بن مروان: أعطى ورثتها ديتها، وكفر عنه كفارة القتل، وأعطاه عدة جوار، ووهب له مالا، فقال أيمن:
رأيت الغواني شيئا عجـابـا لو أنس مني الغواني الشبابـا
ولكن جمع العذارى الحسـان عناء شديد إذا المرء شـابـا
ولو كلت بالمد للـغـانـيات وضاعفت فوق الثياب ثيابـا
إذا لم تنلـهـن مـن ذاك ذاك بغينك عند الأمير الـكـذابـا
يذدن بـكـل عـصــا ذائد ويصبحن كل غداة صعـابـا
إذا لم يخالطن كل الـخـلاط تراهن مخرنظمات غضابـا
علام يكحلن حور الـعـيون ويحدثن بعد الخضاب الخضابا
ويعركن بالمسك أجـيادهـن ويدنين عند الحجال العـيابـا
ويغمزن إلا لما تعـلـمـون فلا تحرموا الغانيات الضرابا قال: فبلغني أن عبد الملك أنشد هذا الشعر، فقال: نعم الشفيع أيمن لهن.
يستجيد عبد الملك وصفه للنساء: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، قال: قال له عبد الملك لما أنشده هذا الشعر: ما وصف النساء أحد مثل صفتك، ولا عرفهن أحد معرفتك. قال: فقال له: لئن كنت صدقت في ذلك لقد صدق الذي يقول: صوت
فإن تسألوني بالنساء فـإنـنـي خير بأدواء النسـاء طـبـيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نـصـيب
يردن ثراء المال حيث علمنـه وشرخ الشباب عندهن عجـيب فقال له عبد الملك: قد لعمري صدقتما وأحسنتما، الشعر لعلقمة بن عبدة، والغناء لبسباسة، ولحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش. وهذه الأبيات يقولها علقمة بن عبدة يمدح بها الحارث ويسأله إطلاق ابنه شأس . وخبره يذكر وخبر الحارث بعد انقضاء أخبار أيمن بن خريم.
رجع الحديث إلى أخبار أيمن يفضل عبد العزيز بن مروان شعر نصيب على شعره، فيلحق ببشر بن مروان: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي، قال: دخل نصيب يوما إلى عبد العزيز بن مروان، فأنشده قصيدة له امتدحه بها فأعجبته، وأقبل على أيمن بن خريم فقال: كيف ترى شعر مولاي هذا? قال: هو أشعر أهل جلدته . فقال: هو أشعر والله منك. قال أمني أيها الأمير?.
فقال: إي والله، قال: لا والله، ولكنك طرف ملول، فقال له: لو كنت كذلك ما صبرت على مؤاكلتك منذ سنة وبك من البرص ما بك ، فقال: ائذن لي أيها الأمير في الانصراف، قال: ذلك إليك، فمضى لوجهه حتى لحق ببشر بن مروان، وقال فيه:
ركبت من المقطم في جمادى إلى بشر بن مروان البـريدا
ولو أعطاك بشر ألف ألـف رأى حقا عـلـيه أن يزيدا
أمير المؤمنين أقم بـبـشـر عمود الدين إن له عـمـودا
ودع بشرا يقومهـم ويحـدث لأهل الزيغ إسلاما جـديدا
وإنا قد وجـدنـا أم بـشـر كأم الأسد مذكـارا ولـودا
كأن التاج تاج أبي هـرقـل جلوه لأعظـم الأيام عـيدا
صفحة : 2301
يحالف لونه ديباج بـشـر إذا الألوان حالفت الخدودا -يعرض بنمش كان بوجه عبد العزيز- فقبله بشر بن مروان ووصله، ولم يزل أثيرا عنده.
من مدحه في بشر بن مروان: أخبرني عمي، قال: حدثني الكراني، وأبو العيناء عن العتبي، قال: لما أتى أيمن بن خريم بشر بن مروان نظر الناس يدخلون عليه أفواجا، فقال من يؤذن لنا الأمير أو يستأذن لنا عليه? قيل له: ليس على الأمير حجاب ولا ستر، فدخل وهو يقول:
يرى بارزا للناس بشـر كـأنـه إذا لاح في أثوابه قمـر بـدر
ولو شاء بشر أغلق الباب دونـه طماطم سود أو صقالبة شقـر
أبى ذا ولكن سهل الإذن للـتـي يكون له في غبها الحمد والشكر فضحك إليه بشر، وقال: إنا قوم نحجب الحرم، وأما الأموال والطعام فلا، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
2يعير أهل العراق بقلة غنائهم في حرب غزالة: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف، قال: حدثني الرياشي، قال: حدثنا الأصمعي عن المعتمد بن سليمان، قال: لما طالت الحرب بين غزالة وبين أهل العراق وهم لا يغنون شيئا -قال أيمن بن خريم:
أتينا بـهـم مـائتـي فـارس من السافكين الحرام العبيطـا
وخمسون من مارقات النـسـا ء يسحبن للمنديات المروطـا
وهم مائتا ألـف ذي قـونـس يئط العراقان منهم أطـيطـا
رأيت غـزالة إن طـرحـت بمكة هودجها والـغـبـيطـا
سمت للعراقين في جمعـهـا فلاقى العراقان منها بطيطـا
ألا يستحي الله أهـل الـعـرا ق إن قلدوا الغانيات السموطا?
وخيل غزالة تسبي الـنـسـاء وتحوي النهاب وتحوي النبيطا
ولو أن لـوطـا أمـير لـكـم لأسلمتم في الملمات لـوطـا
صوت
تصابيت أم هاجت لك الشوق زينـب وكيف تصابي المرء والرأس أشيب
إذا قربت زادتك شوقا بـقـربـهـا وإن جانبت لم يسل عنها التجـنـب
فلا اليأس إن ألممت يبدو فترعـوي ولا أنت مردود بما جئت تطـلـب
وفي اليأس لو يبدو لك الـيأس راحة وفي الأرض عمن لا يؤاتيك مذهب الشعر لحجية بن المضرب الكندي، فيما ذكره إسحاق والكوفيون. وذكر الزبير بن بكار أنه لإسماعيل بن يسار، وذكر غيره أنه لأخيه أحمد بن يسار. والغناء ليونس الكاتب، ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وفيه ثقيل أول بالبنصر. ذكر حبش أنه لمالك، وذكر غيره أنه لمعبد.
أخبار حجية بن المضرب
تجعله عائشة مثلا في بر صبية لأخيه مات عنهم: حدثني ابن عمار، قال: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، وأخبرنا به وكيع عن إسماعيل بن إسحاق، عن سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثني المحبر بن قحذم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما قدم القاسم بن محمد بن أبي بكر وأخته من مصر -وأخبرني بهذا الخبر محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن عوانة، قال: كان القاسم بن محمد بن أبي بكر يحدث، قال: لما قتل معاوية بن حديج الكندي وعمرو بن العاص أبي -يعني محمد بن أبي بكر بمصر- جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني وأختا لي من مصر. وقد جمعت الروايتين واللفظ لابن أبي الأزهر، وخبره أتم قال.
فقدم بنا المدينة، فبعثت إلينا عائشة، فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط، ولا والدا أبر منها، فلم نزل في حجرها حتى إذا كان ذات يوم وقد ترعرعنا ألبستنا ثيابا بيضاء، ثم أجلست كل واحد منا على فخذها، ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن، فلما دخل عليها تكلمت فحمدت الله -عز وجل- وأثنت عليه. فما رأيت متكلما ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها، ثم قالت:
صفحة : 2302
يا أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ قبضت هذين الصبيين منك، ووالله ما قبضتهما تطاولا عليك، ولا تهمة لك فيهما، ولا لشيء تكرهه، ولكنك كنت رجلا ذا نساء، وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئا، فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرون به من قبيح أمر الصبيان فكنت ألطف لذلك وأحق بولايته، فقد قويا على أنفسهما وشبا، وعرفا ما يأتيان، فها هما هذان فضمهما إليك، وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة، فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات وترك أصيبية صغارا في حجر أخيه، فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم، وكان يؤثرهم على صبيانه، فمكث بذلك ما شاء الله. ثم إنه عرض له سفر لم يجد بدا من الخروج فيه، فخرج وأوصى بهم امرأته، وكانت إحدى بنات عمه، وكان يقال لها: زينب، فقال: اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه أشهرا، ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت، فقال لامرأته: ويلك مالي أرى بني معدان مهازيل، وأرى بني سمانا? قالت: قد كنت أواسي بينهم، ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون، فخلا بالصبيان فقال: كيف كانت زينب لكم? قالوا: سيئة، ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن -وأروه قدحا صغيرا- فغضب على امرأته غضبا شديدا وتركها، حتى إذا أراح عليه راعيا إبله قال لهما: اذهبا، فأنتما وإبلكما لبني معدان. فغضبت من ذلك زينب وهجرته، وضربت بينه وبينها حجابا، فقال: والله لا تذوقين منها صبوحا ولا غبوقا أبدا، وقال في ذلك : شعره في امرأته حين عرف سوء معاملتها لصغار أخيه:
لججنا ولجت هذه في الـتـغـضـب ولط الحجاب بينـنـا الـتـجـنـب
وخطت بفردي إثمد جفـن عـينـهـا لتقتلـنـي وشـد مـا حـب زينـب
تلوم على مال شـفـانـي مـكـانـه فلومي حياتي ما بدا لك واغضـبـي
رحمت بني معدان أن قـل مـالـهـم وحق لهم مني ورب المـحـصـب
وكان اليتامى لا يسـد اخـتـلالـهـم هدايا لهم في كل قعـب مـشـعـب
فقلت لعـبـدينـا: أريحـا عـلـيهـم سأجعل بيتي بـيت آخـر مـعـزب
وقلت خذوها واعلمـوا أن عـمـكـم هو اليوم أولى منكم بـالـتـكـسـب
عيالي أحق أن ينـالـوا خـصـاصة وأن يشربوا رنقا إلى حين مكسـبـي
أحابي بها من لو قصـدت لـمـالـه حريبا لاساني علـى كـل مـوكـب
أخي والـذي إن أدعـه لـعـظـيمة يجبني وإن اغضب إلى السيف يغضب إلى ها هنا رواية ابن عمار.
تركته زوجته إلى المدينة وأسلمت فراح يطلبها: وفي خبر إسحاق قال: فلما بلغ زينب هذا الشعر وما وهب زوجها خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت، وذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقدم حجية المدينة فطلب زينب أن ترد عليه، وكان نصرانيا، فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته، فقال له: إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقى منه أذى.
يمدح الزبير بن العوام ويرحل كئيبا يائسا: وانتشر خبر حجية وفشا بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه، فبلغ ذلك عمر، فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك، ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك، فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر، قال حجية في ذلك.
إن الزبير بن عوام تـداركـنـي منه بسيب كريم سيبه عـصـم
نفسي فداؤك مأخوذا بحجزتـهـا إذ شاط لحمي وإذ زلت بي القدم
إذ لا يقوم بها إلا فـتـى أنـف عاري الأشاجع في عرنينه شمم ثم انصرف من عنده متوجها إلى بلده، آيسا من زينب كئيبا حزينا، فقال في ذلك:
تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب الأبيات المذكورة فيها الغناء.
صوت
خليلي هبا نصطبـح بـسـواد ونرو قلوبا هامهـن صـواد
وقولا لساقينـا زياد يرقـهـا فقد هز بعض القوم سقي زياد الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر.
خبر إسحاق مع غلامه زياد
وصف زياد غلام إسحاق: هذا الشعر يقوله إسحاق في غلامه له مملوك خلاسي ، يقال له: زياد. كان مولدا من مولدي المدينة، فصيحا ظريفا، فجعله ساقيه، وذكره هو وغيره في شعره. فممن ذكره من الشعراء دعبل، وله يقول:
صفحة : 2303
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السكري قال: كان زياد الذي يذكره إسحاق في عدة مواضع، منها قوله:
وقولا لساقينا زياد يرقها -وكان نظيف السقي لبقا، فقال فيه دعبل:
يقول زياد قـف بـصـحـبـك مـرة على الربع، مالي والوقوف على الربع صوت
أدرها على فقد الحبيب فـربـمـا شربت على نأى الأحبة والفجـع
فما بلغتني الكأس إلا شربـتـهـا وإلا سقيت الأرض كأسا من الدمع غنى في البيت الثاني والثالث من هذه الأبيات محمد بن العباس بن عبد الله بن طاهر لحنا من خفيف الثقيل الأول بالبنصر.
نسبة الصوت إلى غير إسحاق: قال أبو الحسن: وقد قيل: إن هذين البيتين-يعني:
خليلي هبا نصطبح بسواد -للأخطل.
زياد يراجع إسحاق وهو يغني: أخبرني علي بن سليمان، قال: حدثني أبي، قال: قال لي جعفر بن معروف الكاتب -وكان قد جاوز مائة سنة: لقد شهدت إسحاق يوما في مجلس أنس وهو يتغنى هذا الصوت:
خليلي هبا نصطبح بسواد وغلامه زياد جالس على مسورة يسقي، وهو يومئذ غلام أمرد أصفر، رقيق البدن حلو الوجه. ثم أخذ يراجعه ولا أحد يستطيع يقول له: زدني ولا انقصني.
يعتقه إسحاق ويزوجه: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري، قال حدثني أحمد بن الهيثم، يعني جد أبي -رحمه الله- قال: كنت ذات يوم جالسا في منزلي بسر من رأى وعندي إخوان لي، وكان طريق إسحاق في مضيه إلى دار الخليفة ورجوعه منها على منزلي، فجاءني الغلام يوما وعندي أصدقاء لي فقال لي: إسحاق بن إبراهيم الموصلي بالباب، فقلت له: قل له، ويلك يدخل، أوفى الخلق أحد يستأذن عليه لإسحاق فذهب الغلام وبادرت أسعى في أثره حتى تلقيته، فدخل وجلس منبسطا آنسا، فعرضنا عليه ما عندنا، فأجاب إلى الشرب، فأحضرناه نبيذا مشمسا فشرب منه، ثم قال: أتحبون أن أغنيكم? قلنا: إي والله أطال الله بقاءك، إنا نحب ذلك. قال: فلم لم تسألوني? قلنا: هبناك والله، قال: فلا تفعلوا، ثم دعا بعود فأحضرناه، فاندفع فغنانا، فشربنا وطربنا. فلما فرغ قال: أحسنت أم لا? فقلنا: بلى والله، جعلنا الله فداءك لقد أحسنت. قال: فما منعكم أن تقولوا لي: أحسنت.
قلنا: الهيبة والله لك، قال: فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون، فإن المغني يحب أن يقال له: غن، ويحب أن يقال له إذا غنى: أحسنت، ثم غنانا صوته:
خليلي هبا نصطبح بسواد فقلنا له: يا أبا محمد، من هو زياد الذي غنيته? قال: هو غلامي الواقف بالباب، أدعوه يا غلمان، فأدخل إلينا، فإذا غلام خلاسي، قيمته عشرون دينارا أو نحوها. فأمسكنا عنه، فقال: أتسألوني عنه فأعرفكم إياه ويخرج كما دخل، وقد سمعتم شعري فيه وغنائي? أشهدكم أنه حر لوجه الله، وأني زوجته أمتي فلانة، فأعينوه على أمره. قال: فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم، أخرجناها له من أموالنا.
إسحاق يرثيه: أخبرني يحيى بن علي قال: حدثني أبي، قال: توفي زياد غلام إسحاق الذي يقول فيه:
وقولا لساقينا زياد يرقها فقال إسحاق يرثيه:
فقدنا زيادا بعد طول صحـابة فلا زال يسقي الغيث قبر زياد
ستبكيك كأس لم تجد من يديرها وظمآن يستبطي الزجاجة صاد يطلب الأمين إسحاق فيغنيه: أخبرني عمي، قال: حدثني ابن المكي عن أبيه، قال: اصطبح محمد الأمين ذات يوم، وأمر بالتوجيه إلى إسحاق، فوجه إليه عدة رسل، كلهم لا يصادفه، حتى جاء أحدهم به، فدخل منتشيا ومحمد مغضب. فقال له: أين كنت ويلك قال: أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطا، فركبت إلى بعض المتنزهات، فاستطبت الموضع وأقمت فيه وسقاني زياد، فذكرت أبياتا للأخطل وهو يسقيني، فدار لي فيها لحن حسن فصنعته فيها، وقد جئتك به. فتبسم، ثم قال: هات، فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط، فغناه: صوت
إذا ما زياد علني ثم علـنـي ثلاث زجاجات لهـن هـدير
خرجت أجر الذيل زهوا كأنني عليك أمير المؤمنـين أمـير قال: بل على أبيك، قبح الله فعلك، فما يزال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك، وأمر له بألف دينار.
الشعر في هذين البيتين للأخطل، والغناء لإسحاق، رمل بالبنصر. ورواية شعر الأخطل:
صفحة : 2304
إذا ما نديمي علني ثم علني وإنما غيره إسحاق فقال: إذا ما زياد .
أخبرني علي بن سليمان عن محمد بن يزيد النحوي: أن عبد الملك بن مروان قال للأخطل: ما يدعوك إلى الخمر? فوالله إن أولها لمر، وإن آخرها لسكر قال: أجل، ولكن بينهما حالة، ما ملكك عندها بشيء، وقد قلت في ذلك:
إذا ما نديمي علني ثم علـنـي ثلاث زجاجات لهـن هـدير
خرجت أجر الذيل زهوا كأنني عليك أمير المؤمنـين أمـير قال: فجعل عبد الملك يضحك.
صوت
أشارت بطرف العين خيفة أهلـهـا إشارة مخـرون ولـم تـتـكـلـم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحـبـا وأهلا وسهلا بالحبيب الـمـسـلـم
هنيئا لكم حبي وصـفـو مـودتـي فقد سيط من لحمي هواك ومن دمي الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر، وفيه لدحمان ثقيل أول بالبنصر. ويقال: إنه لابن سريج، وقيل: إن الثقيل الأول لابن عائشة، والثقيل الثاني لابن سريج، وفيه خفيف ثقيل أول، ينسب إلى ابن سريج وإلى علي بن الجواري.
خبر لحبابة مع ابن عائشة تشتاق حبابة إلى ابن عائشة فتحتال لتسمع غناءه: أخبرني الحسن بن يحيى وابن أبي الأزهر، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن المدائني، قال: كانت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك معجبة بغناء ابن عائشة، وكان ابن عائشة حديث السن، فلما طال عهدها به اشتاقت إلى أن تسمع غناءه، فلم تدر كيف تصنع، فاختلفت هي وسلامة في صوت لمعبد، فأمر يزيد بإحضاره ووجه في ذلك رسولا، فبعثت حبابة إلى الرسول سرا فأمرته أن يأتي ابن عائشة وأمير المدينة في خفاء، ويبلغهما رسالتها بالخروج مع معبد سرا، وقالت: قل لهما يستران ذلك عن أمير المؤمنين.
فلما قدم الرسول إلى عامل المدينة أبلغه ما قالت حبابة، فأمر ابن عائشة بالرحلة مع معبد، وقال لمعبد: انظر ما تأمرك به حبابة فانتبه إليه، فقال: نعم، فخرجا حتى قدما على يزيد، وبلغ الخبر حبابة فلم تدر كيف تصنع في أمر ابن عائشة. فلما حضر معبد حاكمت سلامة إليه، فحكم لها، فاندفعت فغنت صوتا لابن عائشة، وفيه لابن سريج لحن، ولحن ابن عائشة أشهرهما، وهو:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها فقال يزيد: يا حبيبتي؛ أني لك هذا ولم أسمعه منك، وهو على غاية الحسن? إن لهذا لشأنا، فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا لحن كنت أخذته عن ابن عائشة، قال: ذلك الصبي قالت: نعم، وهذا أستاذه -وأشارت بيدها إلى معبد- فقال لمعبد: أهذا لحن ابن عائشة أو انتحله? فقال معبد: هذا -أصلح الله الأمير- له، فقال يزيد: لو كان حاضرا ما كرهنا أن نسمع منه، فقال معبد: هو والله معي لا يفارقني، فقال يزيد: ويلك يا معبد احتملنا الساعة أمرك، فزدتنا ما كرهنا، ثم قال لحبابة: هذا والله عملك، قالت: أجل يا سيدي، قال لها: هذه الشام، ولا تحتمل لنا ما تحتمله المدينة. قالت: يا سيدي أنا والله أحب أن أسمع من ابن عائشة، فأحضر، فلما دخل قال له: هات صوتا غنته حبابة:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها فغناه، فقال: هو والله يا حبابة منه أحسن منك، قالت: أجل يا سيدي، ثم قال يزيد: هات يا محمد ما عندك، فغنى: صوت
قف بالمنازل قبل أن نتفـرقـا واستنطق الربع المحيل المخلقا
عن علم ما فعل الخليط لعلـه بجواب رجع حديثهم أن ينطقا
فيبين من أخبارهـم لـمـتـيم أمسى وأصبح بالرسول معلقا
كلفا بها أبدا تسـح دمـوعـه وسط الديار مسائلا مستنطقـا
ذرفت له عين يرى إنسانـهـا في لجة من مائها مغرورقـا
تقري محاجرها الدموع كأنهـا در وهي من سلكه مستوسقـا الغناء لابن عائشة، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى، وفيه لشاربة خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى، ويقال: إن فيه لابن جندب وحنين لحنين، قال: فقال له يزيد: أهلا وسهلا بك يا بن عائشة، فأنت والله الحسن الوجه، الحسن الغناء. وأحسن إليه ووصله.
ثم لم يره يزيد بعد هذا المجلس، وبعثت إليه حبابة ببر وألطاف واتبعتها سلامة في ذلك.
صوت
لما سمعت الديك صاح بسحرة وتوسط النسران بطن العقرب
صفحة : 2305
وبدا سهيل في السمـاء كـأنـه نور وعارضه هجان الربـرب
نبهت ندماني وقلت له اصطبـح يا بن الكرام من الشراب الطيب
صفراء تبرق في الزجاج كأنها حدق الجرادة أو لعاب الجندب الشعر لأبي الهندي، والغناء لإبراهيم الموصلي، ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.
أخبار أبي الهندي ونسبه
اسمه ونسبه وشعره: اسمه غالب بن عبد القدوس، بن شبث بن ربعي. وكان شاعرا مطبوعا، وقد أدرك الدولتين: دولة بني أمية، وأول دولة ولد العباس. وكان جزل الشعر، حسن الألفاظ، لطيف المعاني. وإنما أخمله وأمات ذكره بعده من بلاد العرب، ومقامه بسجستان وبخراسان، وشغفه بالشراب ومعاقرته إياه، وفسقه وما كان يتهم به من فساد الدين.
هو أول من وصف الخمر من شعراء الإسلام: واستفرغ شعره بصفة الخمر، وهو أول من وصفها من شعراء الإسلام، فجعل وصفها وكده وقصده، ومن مشهور قوله فيها ومختاره:
سقيت أبا المطرح إذ أتانـي وذو الرعثات منتصب يصيح
شرابا يهرب الذبـان مـنـه ويلثغ حين يشربه الفصـيح أبو نواس يأخذ من معانيه في الخمر: أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني فضل اليزيدي أنه سمع إسحاق الموصلي يوما يقول، وأنشد شعرا لأبي الهندي في صفة الخمر، فاستحسنه وقرظه، فذكر عنده أبو نواس، فقال: ومن أين أخذ أبو نواس معانيه إلا من هذه الطبقة? وأنا أوجدكم سلخه هذه المعاني كلها في شعره، فجعل ينشد بيتا من شعر أبي الهندي، ثم يستخرج المعنى والموضع الذي سرقه الحسن فيه حين أتى على الأبيات كلها واستخرجها من شعره.
شعر مأخوذ من شعره: أخبرني الحسن بن علي؛ قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد. قال: حدثني شيخ من أهل البصرة، قال: كنا عند أبي عبيدة، فأنشد منشد شعرا في صفة الخمر -أنسيه الشيخ- فضحك ثم قال: هذا أخذه من قول أبي الهندي:
سيغني أبا الهندي عن وطب سالم أباريق لم يعلق بها وضر الزبـد
مفـدمة قـز كـأن رقـابـهـا رقاب بنات الماء تفزع للـرعـد
جلتها الجوالي حين طاب مزاجها وطيبتها بالمسك والعنبر والـورد
تمج سلافا في الأباريق خالـصـا وفي كل كأس من مها حسن القد
تضمـنـهـا زق أزب كـأنـه صريع من السودان ذو شعر جعد نسخت من كتاب ابن النطاح.
ثلاثة أيام يسكر فيها كلما أفاق: حدثني بعض أصحابنا: أن أبا الهندي اشتهى الصبوح في الحانة ذات يوم، فأتى خمارا بسجستان في محلة يقال لها: كوه زيان -وتفسيره: جبل الخسران- يباع فيها الخمر والفاحشة، ويأوي إليها كل خارب وزان ومغنية ، فدخل إلى الخمار فقال له: اسقني، وأعطاه دينارا، فكال له، وجعل يشرب حتى سكر، وجاء قوم يسألون عنه فصادفوه على تلك الحال. فقالوا للخمار: ألحقنا به؛ فسقاهم حتى سكروا، فانتبه فسأل عنهم، فعرفه الخمار خبرهم، فقال له: هذا الآن وقت السكر، الآن طاب، ألحقني بهم، فجعل يشرب حتى سكر، وانتبهوا فقالوا للخمار: ويحك هذا نائم بعد فقال: لا، ولقد انتبه، فلما عرف خبركم شرب حتى سكر، فقالوا: ألحقنا به فسقاهم حتى سكروا، وانتبه فسأل عن خبرهم، فعرفه فقال: والله لألحقن بهم، فشرب حتى سكر، ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم ثلاثة أيام لم يلتقوا وهم في موضع واحد، ثم تركوا الشرب عمدا حتى أفاق، فلقوه.
وهذا الخبر بعينه يحكي لواليه بن الحباب مع أبي نواس، وقد ذكر في أخبار والبة، والصحيح أنه لأبي الهندي، وفي ذلك يقول:
ندامى بعد ثالـثة تـلاقـوا يضمهم بـكـوه زيان راح
وقد باكرتها فتركت منـهـا قتيلا ما أصابتنـي جـراح
وقالوا أيها الخمار مـن ذا? فقال أخ تخونه اصطبـاح
فقالوا هات راحك ألحقـنـا به وتعللوا ثم استـراحـوا
فما إن لبثتهم أن رمـتـهـم بحد سلاحها ولهـا سـلاح
وحان تنبهي فسألت عنـهـم فقال أتاحهم قـدر مـتـاح
رأوك مجدلا فاستخبرونـي فحركهم إلى الشرب ارتياح
صفحة : 2306
فقلت بهم فألحقني فهـبـوا فقالوا هل تنبه حين راحوا?
فقال نعم فقالوا ألحـقـنـا به قد لاح للرائي صبـاح
فما إن زال الـدأب مـنـا ثلاثا يستغب ويسـتـبـاح
نبيت معا وليس لنـا لـقـاء ببيت ما لنـا فـيه بـراح يموت مختنقا: أخبرني عمي الحسن بن أحمد، قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي، قال: قال صدقة بن إبراهيم البكري: كان أبو الهندي يشرب معنا بمرو، وكان إذا سكر يتقلب تقلبا قبيحا في نومه، فكنا كثيرا ما نشد رجله لئلا يسقط من السطح، فسكر ليلة وشددنا رجله بحبل، وطولنا فيه ليقدر على القيام إلى البول وغير ذلك من حوائجه، فتقلب وسقط من السطح، وأمسكه الحبل فبقي منكسا وتخنق بما في جوفه من الشراب، فأصبحنا فوجدناه ميتا. قال صدقة: فمررت بقبره بعد ذلك فوجدت عليه مكتوبا:
اجعلوا إن مت يوما كـفـنـي ورق الكرم وقبري معصـره
إنني أرجو مـن الـلـه غـدا بعد شرب الراح حسن المغفره قال: فكان الفتيان بعد ذلك يجيئون إلى قبره، ويشربون ويصبون القدح إذا انتهى إليه على قبره.
قال حماد بن إسحاق عن أبيه في وفاة أبي الهندي: إنه خرج وهو سكران في ليلة باردة من حانة خمار وهو ريان، فأصابه ثلج فقتله، فوجد من غد ميتا على الطريق.
شعره وقد كف عن الشراب مدة: وروى حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: حج نصير بن سيار وأخرج معه أبا الهندي، فلما حضرت أيام الموسم قال له: يا أبا الهندي، إنا بحيث ترى، وفد الله وزوار بيته، فهب لي النبيذ في هذه الأيام واحتكم علي، فلولا ما ترى، ما منعتك، فضمن له ذلك وغلظ عليه الاحتكام، ووكل به نصر بن سيار، فلما انقضى الأجل مضى في السحر قبل أن يلقي نصرا، فجلس في أكمة يشرف منها على فضاء واسع، فجلس عليها ووضع بين يديه إداوة، وأقبل يشرب ويبكي، ويقول:
أديرا علي الكأس إني فقدتهـا كما فقد المفطوم در المراضع
حليف مدام فارق الراح روحه فظل عليها مستهل المدامـع قال: وعاتب قوم أبا الهندي على فسقه ومعاقرته الشراب، فقال:
إذا صليت خمسا كـل يوم فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك برب الناس شيئا فقد أمسكت بالدين الوثيق
وجاهدت العدو ونلت مالا يبلغني إلى البيت العتـيق
فهذا الدين ليس به خفـاء دعوني من بنيات الطريق شعره وقد امتنع من أجر فسقه: قال إسحاق: وشرب يوما أبو الهندي بكوه زيان عند خمارة هناك، وكان عندها نسوة عواهر، ففجر بهن ولم يعطهن شيئا، فجعلن يطالبنه بجعل فلم ينفعهن، فقال في ذلك:
آلي يمينا أبو الهنـدي كـاذبة ليعطين زواني لست ماشينـا
وغرهن فلما أن قضى وطرا قال ارتحلن فأخزى الله ذادينا يخطب امرأة فيرد أهلها خطبته: أخبرني عمي عن هبيد بن عبد الله بن طاهر، عن أبي محلم، قال: خطب أبو الهندي غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي إلى رجل من بني تميم، فقال: لو كنت مثل أبيك لزوجتك، فقال له غالب: لكنك لو كنت مثل أبيك ما خطبت إليك.
أمثلة من سرعة جوابه: قال أبو محلم: ومر نصر بن سيار بأبي الهندي، وهو سكران يتمايل، فوقف عليه فعذله وسبه، وقال: ضيعت شرفك، وفضحت أسلافك. فلما طال عتابه التفت إليه فقال: لولا أني ضيعت شرفي لم تكن أنت على خراسان، فانصرف نصر خجلا.
قال أبو محلم: وكان بسجستان رجل يقال له: برزين ناسكا، وكان أبوه صلب في خرابة فجلس إليه أبو الهندي -فطفق ويعرض له بالشراب. فقال له أبو الهندي: أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الخشبة في أست أبيه فأخجله.
قال أبو محلم: وكان أسرع الناس جوابا.
صوت
لقد قلت حين قـر بت العيس يا نوار
قفوا فاربعوا قليلا فلم يربعوا وساروا
فنفسي لها حنـين وقلبي له انكسـار
وصدري به غلـيل ودمعي له انحدار الشعر لسعيد بن وهب، والغناء لسليم رمل بالوسطى عن الهشامي، ومن جامع سليم ونسخة عمرو الثانية.
أخبار سعيد بن وهب
نسبه ومنشؤه:
صفحة : 2307
سعيد بن وهب أبو عثمان مولى بني سلمة بن لؤي بن نصر، مولده ومنشؤه بالبصرة، ثم سار إلى بغداد فأقام بها، وكانت الكتابة صناعته، فتصرف مع البرامكة فاصطنعوه، وتقدم عندهم.
أكثر شعره في الغزل: وكان شاعرا مطبوعا، ومات في أيام المأمون، وأكثر شعره في الغزل والتشبيب بالمذكر، وكان مشغوفا بالغلمان والشراب.
ثم تنسك وتاب، وحج راجلا على قدميه، ومات على توبة وإقلاع ومذهب جميل.
أبو العتاهية يرثيه: ومات وأبو العتاهية حي، وكان صديقه فرثاه.
فأخبرني علي بن سليمان الأخفش. عن محمد بن مزيد. قال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية. قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية -ونحن عنده- فساره في شيء فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك? فقال، وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعرا:
قال لي مات سعيد بن وهب رحم الله سعيد بن وهـب
يا أبا عثمان أبكيت عينـي يا أبا عثمان أوجعت قلبي قال: فعجبنا من طبعه وأنه تحدث، فكان حديثه شعرا موزونا.
يتوب ويتزهد: وأخبرني الحسن بن علي الخفاف. قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني سيبويه أبو محمد، قال: كان سعيد بن وهب الشاعر البصري مولى بني سامة قد تاب وتزهد، وترك قول الشعر. وكان له عشرة من البنين وعشر من البنات، فكان إذا وجد شيئا من شعره خرقه وأحرقه.
وكان امرأ صدق، كثير الصلاة، يزكي في كل سنة عن جميع ما عنده حتى إنه ليزكي عن فضة كانت على امرأته.
شعره وقد توعده غلام كان يعشقه: أخبرني عمي، قال: حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: حدثني أبو عثمان الليثي، قال: كان سعيد بن وهب يتعشق غلاما يتشطر ، يقال له: سعيد، فبلغه أنه توعده أن يجرحه، فقال فيه:
من عذيري من سميي من عذيري من سعيد?
أنا بـالـلـحـم أجـاه ويجـائي بـالـحـديد شعره حين رأى كتابا في أحوال جميلة: حدثني جحظة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: نظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتاب السلطان في أحوال جميلة، فأنشأ يقول:
من كان في الدنيا له شارة فنحن من نظارة الـدنـيا
نرمقها من كثب حـسـرة كأننا لفظ بلا مـعـنـى
يعلوا بها الناس وأيامـنـا تذهب في الأرذل وتلأدنى شعره في غلام وسيم حين رآه: أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: حدثني عبد الله بن أبي العلاء المغني، قال: نظر إلي سعيد بن وهب، وأنا على باب ميمون بن إسماعيل، حين اخضر شاربي، ومعه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فسلمت على إسحاق فأقبل عليه سعيد، وقال: من هذا الغلام? فتبسم، وقال: هذا ابن صديق لي، فأقبل علي وقال:
لا تخرجن مع الغزي لمغـنـم إن الغزي يراك أفضل مغـنـم
في مثل وجهك يستحل ذوو التقى والدين والعلماء كـل مـحـرم
ما أنت إلا غـادة مـمـكـورة لولا شواربك المطلة بـالـفـم يستميل غلاما بالشعر: أخبرني محمد بن خلف المرزبان، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، عن أبي دعامة، قال: مر سعيد بن وهب والكسائي، فلقيا غلاما جميل الوجه، فاستحسنه الكسائي وأراد أن يستميله ، فأخذ يذاكره بالنحو ويتكلم به، فلم يمل إليه، وأخذ سعيد بن وهب في العشر ينشده، فمال إليه الغلام، فبعث به إلى منزله، وبعث معه بالكسائي، وقال له: حدثه وآنسه إلى أن أجيء وتشاغل بحاجة له، فمضى به الكسائي، فما زال يداريه حتى قضى حاجته وأربه، ثم قال له: انصرف، وجاء سعيد فلم يره، فقال: شعره وقد نال الكسائي من الغلام الذي استماله:
أبو حسن لا يفـي فمن ذا يفي بعده?
أثرت له شـادنـا فصـايده وجـده
وأظهر لي غـدرة وأخلفنـي وعـده
سأطلب ما سـاءه كما ساءني جهده يرثي ابنا له:
صفحة : 2308
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه قال: كان سعيد بن وهب لي صديقا، وكان له ابن يكنى أبا الخطاب، من أكيس الصبيان وأحسنهم وجها وأدبا، فكان لا يكاد يفارقه في كل حال، لشدة شغفه به، ورقته عليه. فمات وله عشر سنين، فجزع عليه جزعا شديدا، وانقطع عن لذاته. فدخلت إليه يوما لأعاتبه على ذلك، وأستعطفه، فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه، ثم انتحب حتى رحمته، وأنشدني:
عين جودي على أبي الخطاب إذ تولى غضا بماء الشبـاب
لم يقارف ذنبا ولم يبلغ الحـن ث مرجى مطهـر الأثـواب
فقدته عيني إذا ما سعـى أت رابه من جمـاعة الأتـراب
إن غدا موحشا لداري فقد أص بح أنس الثرى وزين التراب
أحمد الله يا حبـيبـي فـأنـي بك راج منه عظيم الثـواب ثم ناشدني ألا أذكره بشيء مما جئت إليه، فقمت ولم أخاطبه بحرف.
وقد رأيت هذه الأبيات بعينها بخط إسحاق في بعض دفاتره، يقول فيه: أنشدني سعيد بن وهب لنفسه يرثي ابنا له صغيرا، وهي على ما ذكره جعفر بن قدامة عن حماد سواء.
كان مألفة للغلمان والظرفاء والقيان: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني أبو دعامة، قال: كان سعيد بن وهب مألفة لكل غلام أمرد، وفتى ظريف، وقينة محسنة، فحدثني رجل كان يعاشره، قال: دخل إليه يوما وأنا عنده غلامان أمردان، فقالا له: قد تحاكمنا إليك: أينا أجمل وجها، وأحسن جسما? وجعلنا لك أجر حكمك أن تختار أينا حكمت له، فتقضي حاجتك منه. فحكم لأحدهما، وقام فقضى حاجته واحتبسهما فشربا عنده نبيذا، ثم مال على الآخر أيضا، وقمت معه. فداخلتهما حتى فعلت كفعله، فقال لي سعيد: هذا يوم الغارات في الحارات ، ثم قال: شعره في غلامين احتكما إليه أيهما أجمل:
رئمان جاءا فحكمـانـي لا حكم قاض ولا أمـير
هذا كشمس الضحى جمالا وذا كبدر الدجى المنـير
وفضل هذا كذا علـى ذا فضل خميس على عشير
قالا أشر بينـنـا بـرأي ونجعل الفضل للمشـير
تباذلا ثم قـمـت حـتـى أخذت فضلي من الكبير
وكان عيبـا بـأن أرانـي أحرم حظي من الصغير
فكان مني ومن قـرينـي إليهما وثبة الـمـغـير
فمن رأى حاكما كحكمي أعظم جورا بلا نكـير وقال: وشاعت الأبيات حتى بلغت الرشيد، فدعا به فاستنشده إياها، فتلكأ، فقال له: أنشد ولا بأس عليك، فأنشد، فقال له: ويلك اخترت الكبير سنا أو قدرا? قال: بل الكبير قدرا. قال: لو قلت غير هذا سقطت عندي واستخففت بك. ووصله.
يمدح الفضل بن يحيى ببيتين فيطرب لهما: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو العيناء، قال: دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء، فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق، فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، ولا تقدمت لها، عندي مقدمة فأعرفها، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة، فقال: هاتهما فرب قليل أبلغ من الكثير، فقال سعيد:
مدح الفضل نفسه بالفـعـال فعلا عن مديحنا بالـمـقـال
أمروني بمدحه قـلـت كـلا كبر الفضل عن مديح الرجال قال: فطرب الفضل، وقال له: أحسنت والله وأجدت ولئن قل القول ونزر لقد اتسع المعنى وكثر.
ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحا يومئذ، وقال: لا خير فيما يجيء بعد بيتيك ؛ وقام من المجلس وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.
كان نديم الفضل بن يحيى وأنيسه: حدثني عمي قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: حدثت عن الخريمي، قال: كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفرا، وينافسه جعفر، وكان أنس بن أبي شيخ خاصا بجعفر، ينادمه ويأنس به في خلواته، وكان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل.
فدخلت يوما إلى جعفر، ودخل إليه سعيد بن وهب، فحدثه وأنشده وتنادر له، وحكي عن المتنادرين، وأتى بكل ما يسر ويطرب ويضحك، وجعفر ساكت ينظر إليه لا يزيد على ذلك.
صفحة : 2309
فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه، وقلت له: من هذا الرجل الكثير الهذيان? قال: أو ما تعرفه? قلت: لا؛ قال: هذا سعيد بن وهب صديق أخي أبي العباس وخلصانه وعشيقه، قلت: وأي شيء رأى فيه? قال: لا شيء والله إلا القذر والبرد والغثاثة.
ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل، ودخل أنس بن أبي شيخ فحدث وندر وحكى عن المضحكين وأتى بكل طريفة، فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد، فقلت له بعد أن خرج من حضرته: من هذا المبرد? قال: أو لا تعرفه? قلت: لا. قال: هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي أبي الفضل وعشيقه وخاصته. قلت: وأي شيء أعجبه فيه? قال: لا أدري والله، إلا القذر والبرد وسوء الاحتيار.
قال: وأنا والله أعرف بسعيد وأنس من الناس جميعا، ولكني تجاهلت عليهما وساعدتهما على هواهما.
يفي للفضل بن الربيع في نكبته فيعظم قدره: حدثني عمي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: قال إبراهيم بن العباس: قال لي الفضل بن الربيع ذات يوم: عرفتنا أيام النكبة من كنا نجهله من الناس، وذلك أنا احتجنا إلى أن نودع أموالنا، وكان أمرها كثيرا مفرطا، فكنا نلقيها على الناس إلقاء، ونودعها الثقة وغير الثقة، فكان ممن أودعته سعيد بن وهب، وكان رجلا صعلوكا لا مال له، إنما صحبنا على البطالة : فظننت أن ما أودعته ذاهب، ثم طلبته منه بعد حين، فجاءني والله بخواتيمه.
وأودعت علي بن الهيثم كاتبنا جملة عظيمة، وكان عندي أوثق من أودعته، فلما أمنت طالبته بالوديعة، فجحدنيها وبهتني وحلف على ذلك، فصار سعيد عندي في السماء، وبلغت به كل مبلغ، وسقط علي بن الهيثم، فما يصل إلي ولا يلقاني.
يحاجي جارية رجل من البرامكة: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه، حدثني عمرو بن بانة. قال: كان في جواري رجل من البرامكة، وكانت له جارية شاعرة ظريفة، يقال لها حسناء، يدخل إليها الشعراء ويسألونها عن المعاني، فتأتي بكل مستحسن من الجواب، فدخل إليها سعيد بن وهب يوما، وجلس إليها فحادئها طويلا، ثم قال لها بعد ذلك:
حاجيتـك يا حـسـنـا ء في جنس من الشعر
وفيما طولـه شـبـر وقد يوفى على الشبر
له فـي رأسـه شـق مطوف بالندى يجري
إذا ما جف لـم يجـر لدى بـر ولا بـحـر
وإن بل أتـى بـالـع جب العاجب والسحر
أجيبي لم أرد فحـشـا ورب الشفع والوتـر
ولكن صغـت أبـياتـا لها حظ من الزجـر قال: فغضب مولاها وتغير لونه، وقال أتفحش على جاريتي وتخاطبها بالخنا فقالت له: خفض عليك، فما ذهب إلى ما ظننت، وإنما يعني القلم، فسري عنه، وضحك سعيد وقال: هي أعلم منك بما سمعت.
صوت
داينت أروى والديون تقـضـى فمطلت بعضا وأدت بعـضـا
يا ليت أروى إذ لوتك القرضـا جادت بقرض فشكرت القرضا الشعر لرؤبة بن العجاج، والغناء لعمرو بن بانة، رمل بالوسطى.
أخبار رؤبة ونسبه
نسبه والاحتجاج بشعره: هو رؤبة بن العجاج، واسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن حنيفة، وهو أبو جذيم بن مالك بن قدامة بن أسامة بن الحارث بن عوف بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
عصره والاحتجاج بشعره: من رجاز الإسلام وفصائحهم، والمذكورين المقدمين منهم، بدوي نزل البصرة، وهو من مخضرمي الدولتين.
مدح بني أمية وبني العباس، ومات في أيام المنصور وقد أخذ عنه وجوه أهل اللغة، وكانوا يقتدون به، ويحتجون بشعره، ويجعلونه إماما؛ ويكنى أبا الجحاف وأبا العجاج.
يراه يونس بن حبيب أفصح من معد بن عدنان: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عمار -واللفظ له- قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا خلاد بن يزيد، قال: حدثني يونس بن حبيب، قال: كنت جالسا مع أبي عمرو بن العلاء إذ مر بنا شبيل بن عزرة الضبعي -قال أبو يزيد: وكان علامة- فقال: يا أبا عمرو، أشعرت أني سألت رأبة عن اسمه فلم يدر ما هو وما معناه? قال يونس: فقلت له: والله لرؤبة أفصح من معد بن عدنان، وأنا غلام رؤبة، أفتعرف أنت روبة وروبة وروبة وروبة ورؤبة? قال: فضرب بغلته وذهب، فما تكلم بشيء: قال يونس: فقال لي أبو عمرو: ما يسرني أنك نقصتني منها.
صفحة : 2310
قال ابن عمار في خبره: والروبة: اللبن الخاثر، والروبة: ماء الفحل، والروبة: الساعة تمضي من الليل، والروبة: الحاجة، والرؤبة: شعب القدح، قال: وأنشدني بعد ذلك.
فأما تميم تميم بـن مـر فألفاهم القوم روبى نياما حدثني ابن عمار، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني يحيى بن محمد بن أعين المروزي، قال: حدثني أبو عبيدة؛ قال: شهدت شبيلا الضبعي وأبا عمرو، فذكر نحوه.
أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام، قال: قلت ليونس: هل رأيت عربيا قط أفصح من رؤبة? قال: لا، ما كان معد بن عدنان أفصح منه.
قال يونس: قال لي رؤبة: حتى متى أزخرف لك كلام الشيطان? أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك يروي هو وأبوه الحديث: وقد روى رؤبة بن العجاج الحديث المسند عن رسول الله )، ورواه أبوه أيضا.
ينشد أبا هريرة فيشهد له بالإيمان: أخبرني عبد الله بن أبي داود السجستاني، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، عن يونس بن حبيب، عن رؤبة بن العجاج، عن أبيه قال: أنشدت أبا هريرة:
الحمد لله الـذي تـعـلـت بأمره السماء واستقـلـت
بإذنه الأرض وما تـغـيت أرسى عليها بالجبال الثبت
الباعث الناس ليوم الموقت قال أبو هريرة: أشهد أنك تؤمن بيوم الحساب.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن ابن شبة، عن أبي حرب البابي -من آل الحجاج بن باب- قال: حدثنا يونس بن حبيب، عن رؤبة بن العجاج، عن أبي الشعثاء، عن أبي هريرة قال: كنا مع النبي ) في سفر وحاد يحدو:
طاف الخيالان فهاجا سقمـا خيال لبنى وخيال تكتـمـا
قامت تريك خشية أن تصرما ساقا بخنداة وكعبـا أدرمـا والنبي ) يسمع ولا ينكر.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو، عن محمد بن إسحاق السهمي، عن أبي عبيدة الحداد، قال: حدثنا رؤبة بن العجاج عن أبيه، قال: سمعت أبا عبيدة يقول: السواك يذهب وضر الطعام ينشد أبا مسلم الخراساني فيجيزه: أخبرني عمي، قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني، قال: حدثنا أبو حاتم والأشنانداني أبو عثمان، عن أبي عبيدة، عن رؤبة بن العجاج، قال: بعث إلي أبو مسلم لما أفضت الخلافة إلى بني هاشم، فلما دخلت عليه رأى مني جزعا، فقال اسكن فلا بأس عليك، ما هذا الجزع الذي ظهر منك? قلت أخافك، قال: ولم? قلت: لأنه بلغني أنك تقتل الناس، قال: إنما أقتل من يقاتلني ويريد قتلي، أفأنت منهم? قلت: لا، قال: فهل ترى بأسا? ل، فأقبل على جلسائه ضاحكا، ثم قال: أما ابن العجاج فقد رخص لنا، ثم قال: أنشدني قولك:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق فقلت: أو أشندك -أصلحك الله أحسن منه? قال: هات، فأنشدته:
قلت وقولي مستجد حوكا لبيك إذ دعوتني لبيكـا
أحمد ربا ساقني إليكـا قال: هات كلمتك الأولى، قلت: أو أنشدك أحسن منها? قال: هات، فأنشدته:
ما زال يبني خندقا ويهدمـه ويستجيش عسكرا ويهزمه
ومغنما يجمعه ويقـسـمـه مروان لما أن تهاوت أنجمه
وخانه في حكمه منجمـه قال: دع هذا وأنشدني: وقاتم الأعماق، قلت: أو أحسن منه? قال: هات، فأنشدته:
رفعت بيتا وخفضـت بـيتـا وشدت ركن الدين إذ بنـيتـا
في الأكرمين من قريش بيتا قال: هات ما سألتك عنه، فأنشدته:
ما زال يأتي الأمر من أقطاره على اليمين وعلـى يسـاره
مشمرا لا يصطلـى بـنـاره حتى أقر الملك في قـراره
وفر مروان على حـمـاره قال: ويحك هات ما دعوتك له وأمرت بإنشاده، ولا تنشد شيئا غيره، فأنشدته:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق فلما صرت إلى قولي:
يرمي الجلاميد بجلمود مدق قال: قاتلك الله لشد ما استصلبت الحافر ثم قال: حسبك، أنا ذلك الجلمود المدق.
قال: وجيء بمنديل فيه مال فوضع بين يدي، فقال أبو مسلم: يا رؤبة، إنك أتيتنا والأموال مشفوهة ، وإن لك لعودة إلينا وعلينا معولا، والدهر أطرق مستتب، فلا تجعل بجنبيك الأسدة .
صفحة : 2311
قال رؤبة: فأخذت المنديل منه، وتالله ما رأيت أعجميا أفصح منه، وما ظننت أحدا يعرف هذا الكلام غيري، وغير أبي.
قال الكراني: قال أبو عثمان الأشنانداني خاصة: يقال: اشتف ما في الإناء، وشفهه: إذا أتى عليه، وأنشد:
وكاد المال يشفهه عيالـي وما ذو عيلتي من لا أعول يأكل الفأر ويفضله على الدواجن: أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني: محمد بن يزيد، وأخبرني إبراهيم بن أيوب، قال: حدثني ابن قتيبة، قال: كان رؤبة يأكل الفأر، فقيل له في ذلك وعوتب، فقال: هو والله أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللواتي يأكلن القذر ، وهل يأكل الفأر إلا نقي البر ولباب الطعام? يرحل هو وأبوه ليلقيا الوليد بن عبد الملك: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن رؤبة، قال: لما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بعث بي الحجاج مع أبي لنلقاه، فاستقبلنا الشمال حتى صرنا بباب الفراديس .
قال: وكان خروجنا في عام مخصب، وكنت أصلي الغداة، وأجتني من الكمأة ما شئت، ثم لا أجاوز إلا قليلا حتى أرى خيرا منها، فأرمي بها وآخذ الأخر، حتى نزلنا بعض المياه، فأهدي لنا حمل محرفج ووطب لبن غليظ وزبدة كأنها رأس نعجة حوشية ، فقطعنا الحمل آرابا ، وكررنا عليه اللبن والزبدة، حتى إذا بلغ إناه انتشلنا اللحم بغير خبز.
ثم شربت من مرقه لم تزل لها ذفرياي ترشحان؛ حتى رجعنا إلى حجر .
فكان أول من لقينا من الشعراء جريرا، فاستعهدنا ألا نعين عليه. فكان أول من أذن له من الشعراء أبى ثم أنا، فأقبل الوليد على جرير فقال له: ويلك ألا تكون مثل هذين? عقدا الشفاه عن أعراض الناس، فقال: إني أظلم فلا أصبر .
ثم لقينا بعد ذلك جرير فقال: يا بني أم العجاج، والله لئن وضعت كلكلي عليكما ما أغنت عنكما مقطعاتكما، فقلنا: لا والله ما بلغه عنا شيء، ولكنه حسدنا لما أذن لنا قبله، واستنشدنا قبله.
يتوعد جرير أباه فيعتذر إليه: وقد أخبرني ببعض هذا الخبر الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أحمد ابن الحارث الخراز عن المدائني، قال: قال روح بن فلان الكلبي: كنت عند عبد الملك بن بشر بن مروان فدخل جرير، فلما رأى العجاج أقبل عليه ثم قال له: والله لئن سهرت لك ليلة ليقلن عنك نفع مقطعاتك هذه، فقال العجاج: يا أبا حزرة، والله ما فعلت ما بلغك، وجعل يعتذر ويحلف ويخضع؛ فلما خرج قال له رجل: لشد ما اعتذرت إلى جرير، قال: والله لو علمت أنه لا ينفعني إلا السلاح لسلحت.
ليس في شعره ولا شعر أبيه حرف مدغم: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، عن أحمد بن معاوية عن الأصمعي، عن سليمان بن أخضر، عن ابن عون، قال: ما شبهت لهجة الحسن البصري إلا بلهجة رؤبة، ولم يوجد له ولا لأبيه في شعرهما حرف مدغم قط.
هو وأبوه أشعر الناس عند يونس بن حبيب: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، قال: قيل ليونس: من أشعر الناس، قال: العجاج ورؤبة، فقيل له لم ولم نعن الرجاز? فقال: هما أشعر من أهل القصيد ، إنما الشعر كلام: فأجوده أشعره، قد قال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر وهي نحو من مائتي بيت موقوفة القوافي ولو أطلقت قوافيها كانت كلها منصوبة، وكذلك عامة أراجيزهما.
يقعد اللغويون إليه يوم الجمعة: أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام: عن أبي زيد الأنصاري والحكم بن قنبر: قالا: كنا نقعد إلى رؤبة يوم الجمعة في رحبة بني تميم: فاجتمعنا يوما فقطعنا الطريق، ومرت بنا عجوز فلم تقدر على أن تجوز في طريقها، فقال رؤبة بن العجاج:
تنح للعجوز عن طـريقـهـا إذا أقبلت رائحة من سوقهـا
دعها فما النحوي من صديقها يعبث به الصبيان فيستعين الوالي عليهم: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحوي، قال:
صفحة : 2312
دخل رؤبة العجاج السوق وعليه برنكان أخضر، فجعل الصبيان يعبثون به، ويغرزون شوك النخل في برنكانه ويصيحون به، يا مرذوم يا مرذوم فجاء إلى الوالي فقال: أرسل معي الوزعة ، فإن الصبيان قد حالوا بيني وبين دخول السوق، فأرسل معه أعوانا فشد على الصبيان، وهو يقول:
أنحى على أمك بالمرذوم أعور جعد من بني تميم
شراب ألبان خلايا الكوم ففروا من بين يديه فدخلوا دارا في الصيارفة، فقال له الشرط: أين هم? قال: دخلوا دار الظالمين، فسميت دار الظالمين إلى الآن لقول رؤبة، وهي في صيارفة سوق البصرة.
بينه وبين راجز من أهل المدينة: وذكر أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني، قال: قدم البصرة راجز من أهل المدينة، فجلس إلى حلقة فيها الشعراء، فقال: أنا أرجز العرب، أنا الذي أقول:
مروان يعطي وسعيد يمنع مروان نبع وسعيد خروع وودت أني راميت من أحب في الرجز يدا بيد، والله لأنا أرجز من العجاج، فليت البصرة جمعت بيني وبينه، قال: والعجاج حاضر وابنه رؤبة معه، فأقبل رؤبة على أبيه فقال: قد أنصفك الرجل، فأقبل عليه العجاج وقال: هأنذا العجاج، فهلم وزحف إليه، فقال: وأي العجاجين أنت? قال: ما خلتك تعني غيري، أنا عبد الله الطويل 0وكان يكنى بذلك- فقال له المدني: ما عنيتك ولا أردتك، فقال: وكيف وقد هتفت بي? قال: وما في الدنيا عجاج سواك? قال: ما علمت، قال: لكني أعلم، وإياه عنيت. قال: فهذا ابني رؤبة، فقال: اللهم غفرا، ما بيني وبينكما عمل: وإنما مرادي غيركما، فضحك أهل الحلقة منه، وكفا عنه.
بينه وبين زائرين: أخبرني أبو خليفة في كتابه، عن محمد بن سلام: عن يونس، قال: غدوت يوما أنا وإبراهيم بن محمد العطاردي على رؤبة: فخرج إلينا كأنه نسر، فقال له ابن نوح: أصبحت والله كقولك:
كالكرز المشدود بين الأوتـاد ساقط عنه الريش كر الإبراد فقال له رؤبة: والله يا بن نوح ما زلت لك ماقتا، فقلت: بل أصبحت يا أبا الجحاف كما قال الآخر:
فأيقن منه وأبقى الطرا د خميصا وصلبا سمينا فضحك: وقال: هات حاجتك.
من رجزه وقد استأذن فلم يؤذن له: قال ابن سلام: ووقف رؤبة على باب سليمان بن علي يستأذن: فقيل له: قد أخذ الإذريطوس فقال رؤبة:
يا منزل الوحي علـى إدريس ومنزل اللعن على إبـلـيس
وخالق الإثنين والـخـمـيس بارك له في شرب إذريطوس يخطئه سلم بن قتيبة: أخبرني الحسن بن يحيى قال: قال حماد: أخبرني أبي عن الأصمعي قال: أنشد رؤبة سلم بن قتيبة في صفة خيل:
يهوين شتى ويقعن وقفا فقال له: أخطأت يا أبا الجحاف: جعلته مقيدا فقال: أدنني أيها الأمير ذنب البعير أصفه لك كما يجب.
من رجزه وقد قدم الطعام وهو يلعب بالنرد: أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي، عن محمد بن سلام، عن عبد الرحمن بن محمد.
أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي، عن محمد بن سلام، عن عبد الرحمن بن محمد، عن علقمة الضبي، قال: خرج شاهين بن عبد الله الثقفي برؤبة إلى أرضه، فقعدوا يلعبون بالنرد فلما أتوا بالخوان قال رؤبة:
يا إخوتي جاء الخوان فارفعوا حنانة كعابهـا تـقـعـقـع
لم أدر ما ثلاثها والأربـع قال: فضحكنا ورفعناه، وقدم الطعام.
يشيد الخليل بفضله وقد عاد من جنازته: أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، عن محمد بن عبد الله بن مالك عن أبيه عن يعقوب بن داود، قال: لقيت الخليل بن أحمد يوما بالبصرة فقال لي: يا أبا عبد الله دفنا الشعر واللغة والفصاحة اليوم، فقلت: وكيف ذاك? قال: هذا حين انصرفت من جنازة رؤبة.
صوت
لعمري لقد صاح الغراب ببينهـم فأوجع قلبي بالحديث الذي يبدي
فقلت له أفصحت لا طرت بعدها بريش فهل للبين ويحك من رد? الشعر لقيس بن ذريح، وقد تقدمت أخباره والغناء لعمر بن أبي الكنات، ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
أخبار عمرو بن أبي الكنات
اسمه وولائه وكنيته:
صفحة : 2313
هو عمرو بن عثمان بن أبي الكنات، مولى بني جمح، مكي مغن ، محسن موصوف بطيب الصوت من طبقة ابن جامع وأصحابه، وفيه يقول الشاعر:
أحسن الناس فاعلموه غناء رجل من بني أبي الكنات وله في هذا الشعر غناء مع أبيات قبله لحن ابتداؤه: صوت
عفت الدار بالهضاب اللواتي بسوار ؛ فملتقى عرفـات
فالحريان أوحشا بعد أنـس فديار بالربع ذي السلمـات
إن بالبين مربعا من سليمـى فإلى محضرين ؛ فالنخلات وبعده البيت الأول المذكور.
الغناء في هذا الشعر لعمرو بن أبي الكنات، وطريقته من الرمل بالوسطى.
وقيل: إنه لابن سريج، وقيل: بل لحن ابن سريج غير هذا اللحن، وليس فيه البيت الرابع الذي فيه ابن أبي الكنات.
ويكنى عمرو بن أبي الكنات أبا عثمان، وذكر بن خرداذبه أنه كان يكنى أبا معاذ؛ وكان له ابن يغني أيضا يقال له: دراج؛ ليس بمشهور ولا كثير الغناء.
يؤثره الرشيد على جمع من المغنين: فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في الخبر الذي حكاه عنه من أخباره أن محمد بن عبد الله المخزومي حدثه قال: حدثني محمد بن عبد الله بن فزوة قال: قلت لابن جامع يوما: هل غلبك أحد من المغنين قط؛ قال: نعم؛ كنت ليلة ببغداد إذ جاءني رسول الرشيد ؛ يأمرني بالركوب؛ فركبت حتى إذا صرت إلى الدار، فإذا أنا بفضل بن الربيع معه زلزل العواد وبرصوما: فسلمت وجلست قليلا، ثم طلع خادم فقال للفضل: هل جاء? فقال: لا، قال: فابعث إليه؛ ولم يزل المغنون يدخلون واحدا بعد واحد حتى كنا ستة أو سبعة.
ثم طلع الخادم فقال: هل جاء? فقال: لا، قال: قم ؛ فابعث في طلبه؛ فقام فغاب غير طويل؛ فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبي الكنات؛ فسلم؛ وجلس إلى جنبي فقال لي: من هؤلاء? قلت مغنون؛ وهذا زلزل، وهذا برصوما. فقال: والله لأغنينك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان ولا يفهمون منه شيئا. قال: ثم طلع الخصي فدعا بكراسي؛ وخرجت الجواري. فلما جلسن قام الخادم للمغنين: شدوا، فشدوا عيدانهم ، ثم قال: نعم يا بن جامع؛ فغنيت سبعة أو ثمانية أصوات. ثم قال: اسكت وليغن إبراهيم الموصلي؛ فغنى مثل ذلك أو دونه. ثم سكت؛ فلم يزل يمر القوم واحدا واحدا حتى فرغوا.
ثم قال: لابن أبي الكنات: عن، فقال لزلزل: شد طبقتك ، فشد ثم أخذ العود من يده فحبسه حتى وقف على الموضع الذي يريده، ثم قال: على هذا وابتدأ بصوت أوله: ألالا: فوالله لقد خيل لي أن الحيطان تجاوبه. ثم رجع النغم فيه. فطلع الخصي فقال له: اسكت. لا تتم الصوت، فسكت.
ثم قال: يحبس عمرو بن أبي الكنات، وينصرف باقي المغنين، فقمنا بأكسف حال وأسوأ بال، لا والله ما زال كل واحد منا يسأل صاحبه عن كل شعر يرويه من الغناء الذي أوله: ألالا، طمعا في أن يعرفه أو يوافق غناءه. فما عرفه منا أحد وبات عمرو ليلته عند الرشيد، وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنيه.
يغني وقد دفع من عرفة فيزحم الناس الطريق: قال هارون: وأخبرني محمد بن عبد الله عن موسى بن أبي المهاجر قال: خرج ابن جامع وابن أبي الكنات حين دفعا من عرفة حتى إذا كان بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل، ثم اندفع يغني، فوقف القطارات، وركب الناس بعضهم بعضا حتى صاحوا واستغاثوا: يا هذا، الله الله. اسكت عنا يجز الناس، فضبط إسماعيل بن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة.
يغني على جسر بغداد فتمتلئ الجسور بالناس: قال هارون. وحدثني عبد الرحمن بن سليمان عن علي بن أبي الجهم قال: حدثني من أثق به قال.
واقفت ابن أبي الكنات المديني على جسر بغداد أيام الرشيد. فحدثته بحديث اتصل بي عن ابن عائشة أنه فعله أيام هشام، وهو أن بعض أصحابنا حدثني قال: وقف ابن عائشة في الموسم فمر به بعض أصحابه، فقال له: ما تعمل? فقال: إني لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس، فلم يذهب أحد ولم يجيء. فقلت له: ومن هذا الرجل? قال: أنا، ثم اندفع يغني: صوت
جرت سنحا فقلت لها أجيزي نوى مشمولة فمتى اللقـاء
بنفسي من تذكـره سـقـام أعالجه ومطلبـه عـنـاء
صفحة : 2314
قال: فحبس الناس، واضطربت المحامل ، ومدت الإبل أعناقها، وكادت الفتنة تقع، فأتي به هشام فقال: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس? فأمسك عنه وكان تياها، فقال له هشام: أرفق بتيهك . فقال ابن عائشة: حق لمن كانت هذه قدرته على القلوب أن يكون تياها، فضحك وأطلقه قال فبرق ابن أبي الكنات، وكان معجبا بنفسه، وقال: أنا أفعل كما فعل، وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت، ثم اندفع فغنى في هذا الصوت ونحن على جسر بغداد.
وكان إذ ذاك على دجلة ثلاثة جسور معقودة، فانقطعت الطرق، وامتلأت الجسور بالناس، وازدحموا عليها، واضطربت حتى خيف عليها أن تتقطع لثقل من عليها من الناس. فأخذ فأتي به الرشيد، فقال: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس? فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنه بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله فأعجب من قوله ذلك، وأمر له بمال، وأمره أن يغني، فسمع شيئا لم يسمع مثله فاحتبسه عنده شهرا يستزيده في كل يوم استأذنه فيع في الانصراف -يوما آخر حتى تم له شهر فقال هذا المخبر عنه: وكان ابن أبي الكنات كثير الغشيان لي: فلما أبطأ توهمته قد قتل فصار إلي بعد شهر بأموال جسيمة، وحدثني بما جرى بينه وبين الرشيد.
يسمع غناؤه على ثلاثة أميال: قال هارون: وأخبرني محمد بن عبد الله المخزومي عن عثمان بن موسى مولانا قال: كنا يوما باللاحجة ومعنا عمرو بن أبي الكنات، ونحن على شرابنا إذ قال لنا قبل طلوع الشمس: من تحبون أن يجيئكم? قلنا: منصور الحجبي. فقال: أمهلوا حتى يكون الوقت الذي ينحدر فيه إلى سوق البقر، فمكثنا ساعة ثم اندفع يغني:
أحسن الناس فاعلموه غنـاء رجل من بني أبي الكنـات
عفت الدار بالهضاب اللواتي بسوار فملتقى عـرفـات فلم نلبث أن رأينا منصورا من بعد قد أقبل يركض دابته نحونا، فلما جلس إلينا قلنا له: من أين علمت بنا? قال: سمعت صوت عمرو يغني كذا وكذا وأنا في سوق البقر، فخرجت أركض دابتي حتى صرت إليكم، قال: وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال.
قال هارون، وأخبرني محمد بن عبد الله، قال أخبرني يحيى بن يعلى بن سعيد قال: بينا أنا ليلة في منزلي في الرمضة أسفل مكة إذ سمعت صوت عمرو بن أبي الكنات كأنه معي، فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي، وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض ببطن عرنة يغني:
صوت
خذي العفو مني تستديمي مـودتـي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
ولا تنقريني نـقـرة الـدف مـرة فإنك لا تدرين كـيف الـمـغـيب
فإني وجدت الحب في الصدر والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحـب يذهـب عروضه من الطويل، ولحنه من الثقيل الثاني بالوسطى من رواية إسحاق. والشعر لأسماء بن خارجة الفزاري، وقد قيل: إنه لأبي الأسود الدؤلي، وليس ذلك بصحيح. والغناء لإبراهيم الموصلي، وفيه لحن قديم للغريض من رواية حماد عن أبيه.
أسماء بن خارجة وابنته هند
وصيته لبنته ليلة زفافها: أخبرني اليزيدي عن أحمد بن زهير عن الزبير بن بكر قال: زوج أسماء بن خارجة الفزاري بنته هند من الحجاج بن يوسف، فلما كانت ليلة أراد البناء بها قال لها أسماء بن خارجة: يا بنية، إن الأمهات يؤدبن البنات، وإن أمك هلكت وأنت صغيرة، فعليك بأطيب الطيب الماء، وأحسن الحسن الكحل. وإياك وكثرة المعاتبة، فإنها قطيعة للود، وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق. وكوني لزوجك أمة يكن لك عبدا، واعلمي أني القائل لأمك:
خذي العفو مني تستديمي مودتي شعر لبعض الشعراء فيها: قال: وكانت هند امرأة مجربة قد تزوجها جماعة من أمراء العراق، فقبلت من أبيها وصيته. وكان الحجاج يصفها في مجلسه بكل خبر، وفيها يقول بعض الشعراء يخاطب أباها:
جزاك الله يا أسمـاء خـيرا كما أرضيت فيشلة الأمـير
بصدغ قد يفوح المسك منـه عليه مثل كركرة البـعـير
إذا أخذ الأمير بمشعـبـيهـا سمعت لها أزيزا كالصرير
إذا لقحت بـأرواح تـراهـا تجيد الرهز من فوق السرير قال مؤلف هذا الكتاب: الشعر لعقيبة الأسدي.
صفحة : 2315
يعير معير بتزويج الحجاج فيحتال حتى يزوجه المعير أيضا: أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة قال: لما قدم الحجاج الكوفة أشار عليه محمد بن عمير بن عطارد أن يخطب إلى أسماء ابنته هند، فخطبها فزوجه أسماء ابنته، فأقبل محمد متمثلا يقول:
أمن حذر الهزال نكحت عبدا فصهر العبد أدنى للهزال فاحتملها عليه أسماء وسكت عن جوابه، ثم أقبل على الحجاج يوما وهند جالسة، فقال: ما يمنعك من الخطبة إلى محمد بن عمير ابنته فإن من شأنها كيت وكيت. فقال: أتقول هذا وهند تسمع? فقال: موافقتك أحب إلي من رضا هند، فخطبها إلى محمد بن عمير، فزوجه إياها، فقال أسماء لمحمد بن عمير، وضرب بيده على منكبه:
دونك ما أسديتـه يا بـن حـاجـب سواء كعين الديك أو قذة الـنـسـر
بقولك للحجاج إن كنـت نـاكـحـا فلا تعد هندا من نساء بـنـي بـدر
فإن أبـاهـا لا يرى أن خـاطـبـا كفاء له إلا المتـوج مـن فـهـر
فزوجتها الحجـاج لامـتـكـارهـا ولا راغبا عنه ونعم أخو الصـهـر
أردت ضراري فاعتمدت مسـرتـي وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري
فإن ترها عارا فقد جئت مثـلـهـا وإن ترها فخرا فهل لك من شكـر أحبت هند عبد الله بن زياد حبا شديدا: قال المدائني حدثني الحرمازي عن الوليد بن هشام القحذمي وكان كاتب خالدا القسري ويوسف بن عمر أن هندا بنت أسماء كانت تحت عبيد الله بن زياد، وكان أبا عذرها، فلما قتل -وكانت معه- لبست قباء، وتقلدت سيفا، وركبت فرسا لعبيد الله كان يقال لها: الكامل، وخرجت حتى دخلت الكوفة ليس معها دليل، ثم كانت بعد ذلك أشد خلق الله جزعا عليه، ولقد قالت يوما: إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجه عبيد الله بن زياد.
بشر بن مروان يتزوجها: فلما قدم بشر بن مروان الكوفة دل عليها، فخطبها، فزوجها، فولدت له عبد الملك بن بشر، وكان ينال من الشراب ويكتم ذلك، وكان إذا صلى العصر خلا في ناحية من داره ليس معه أحد إلا أعين مولاه صاحب حمام أعين بالكوفة، وأخذ في شأنه. فلم تزل هند تتجسس خبره حتى عرفته، فبعثت مولى لها، فأحضرها أطيب شراب وأحده وأشده وأرقه وأصفاه، وأحضرت له طعاما علمت أنه يشتهيه، وأرسلت إلى أخويها: مالك وعيينة، فأتياها وبعثت إلى بشر واعتلت عليه بعلة، فجاءها فوضعت بين يديه ما أعدته، فأكل وشرب، وجعل مالك يسقيه، وعيينه يحدثه، وهند تريه وجهها. فلم يزل في ذلك حتى أمسى، فقال: هل عندكم من هذا شيء نعود عليه غدا? فقالت: هذا دائم لك ما أردته، فلزمها وبقي أعين يتبع الديار بوجهه ولا يرى بشرا، إلا أن يبحث عن أمره فعرفه، وعلم أنه ليس فيه حظ بعدها. قال ومات عنها بشر تجزع عليه، فقال الفرزدق في ذلك:
فإن تك لا هند بكته فقد بكـت عليه الثريا في كواكبها الزهر الحجاج يخلف بشرا في تزوجها: ثم خلف عليها الحجاج، وكان السبب في ذلك فيما ذكره المدائني عن الحرمازي عن القحذمي، وأخبرني به من هاهنا أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن عثمان بن عبد الوهاب عن عبد الحميد الثقفي قالا: كان السبب في ذلك أنه بعث أبا بردة بن أبي موسى الأشعري -وهو قاضيه- إلى أسماء يقول له: إن قبيحا بي مع بلاء أمير المؤمنين عندي أن أقيم بموضع فيه ابنا أخيه بشر لا أضمهما إلي، وأتولى منهما مثل ما أتولى من ولدي. فاسأل هندا أن تطيب نفسا عنهما.
وقال عمر بن شبة في خبره: وأعلمها أنه لا بد من التفرقة بينها وبينهما حتى أؤدبهما، قال أبو بردة: فاستأذنت فأذن لي وهو يأكل وهند معه، فما رأيت وجها ولا كفا ولا ذراعا أحسن من وجهها وكفها وذراعها، وجعلت تتحفني وتضع بين يدي.
قال أبو زيد في خبره: فدعاني إلى الطعام، فلم أفعل، وجعلت تعبث بي وتضحك، فقلت: أما والله لو علمت ما جئت له لبكيت، فأمسكت يدها عن الطعام فقال: أسماء: قد منعتها الأكل: فقل: ما جئت له. فلما بلغت أسماء ما أرسلت به بكت، فلم أر والله دموعا قط سائلة من محاجر أحسن من دموعها على محاجرها. ثم قالت: نعم أرسل بهما إليه، فلا أحد أحق بتأديبهما منه.
صفحة : 2316
وقال أسماء: إنما عبد الملك ثمرة قلوبنا -يعني عبد الملك بن بشر- وقد أنسنا به، ولكن أمر الأمير طاعة، فأتيت الحجاج، فأعلمته جوابها وهيئتها. فقال: ارجع فاخطبها علي فرجعت وهما على حالهما. فلما دخلت قلت: إني جئتك بغير الرسالة الأولى قال: اذكر ما أحببت. قلت: قد جئت خاطبا. قال: أعلى نفسك فما بنا عنك رغبة? قلت: لا، على من هو خير لها مني، وأعلمته ما أمرني به الحجاج، فقال: ها هي تسمع ما أديت، فسكتت، فقال أسماء: قد رضيت، وقد زوجتها إياه.
فقال أبو زيد في حديثه: فلما زوجها أبوها قامت مبادرة وعليها مطرف ، ولم تستقل قائمة من ثقل عجيزتها حتى انثنت ومالت لأحد شقيها من شحمها، فانصرفت بذلك إلى الحجاج، فبعث إليها بمائة ألف درهم وعشرين تختا من ثياب وقال: يا أبا بردة، إني أحب أن تسلمها إليها، ففعلت ذلك، وأرسلت إلي من المال بعشرين ألفا، ومن الثياب تختين. فقلت: ما أقبل شيئا حتى أستطلع رأي الأمير. ثم انصرفت إليه فأعلمته، فأمرني بقبضة ووصلني بمثله .
وقال: أبو زيد في حديثه: فأرسل إليها بثلاثين غلاما مع كل غلام عشرة آلاف درهم، وثلاثين جارية مع كل جارية تخت من ثياب، وأمر لي بثلاثين ألفا وثيابا لم يذكر عددها. فلما وصل ذلك إلى هند أمرت بمثل ما أمر لي به الحجاج، فأبيت قبوله، وقلت: ليس الحجاج ممن يتعرض له بمثل هذا. وأتيت الحجاج فأخبرته. فقال: قد أحسنت وأضعف الله لك ذلك، وأمر له بستين ألفا، وبضعف تلك الثياب، وكان أول ما أصبته مع الحجاج. وأرسل إليها: إني أكره أن أبيت خلوا ، ولي زوجة. فقالت: وما احتباس امرأة عن زوجها وقد ملكها وآتاها كرامته وصداقها، فأصلحت من شأنها، وأتته ليلا.
قال: المدائني: فسمعت أن ابن كناسة ذكر أن رجلا من أهل العلم حدثه عن امرأة من أهله قالت: كنت فيمن زفها. فدخلنا عليه وهو في بيت عظيم في أقصاره ستارة، وهو دون الستارة على فرشه، فلما أن دخلت سلمت، فأوما إليها بقضيب كان في يده. فجلست عند رجليه، ومكثت ساعة وهو لا يتكلم ونحن وقوف، فضربت بيدها على فخذه، ثم قالت: ألم تبعد من سوء الخلق? قال: فتبسم، وأقبل عليها، واستوى جالسا. فدعونا له وخرجنا وأرخيت الستور.
سبب تطليق الحجاج لها: قال: ثم قدم الحجاج البصرة، فحملها معه. فلما بنى قصره الذي دون المحدثة الذي يقال له: قصر الحجاج اليوم قال لها: هل رأيت قط أحسن من هذا القصر? قالت : ما أحسنه قال: أصدقيني، قالت: أما إذ أبيت فوالله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر. وكان فيه عبيد الله بن زياد، وكان دار الإمارة بالبصرة، وكان ابن زياد بناه بطين أحمر. فطلق هندا غضبا بما قالته، وبعث إلى القصر فهدمه، وبناه بلبن. ثم تعهده صالح بن عبد الرحمن في خلافة سليمان بن عبد الملك، فبناه بالآجر، ثم هدم بعد ذلك فأدخل في المسجد الجامع.
حنين الحجاج إلى مراجعتها: قال: القحذمي عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: فخرجنا يوما نعود عبد الملك بن بشر، فسلمنا عليه وعدناه معه. ثم خرجنا وتخلف الحجاج، فوقفنا ننتظره، فلما خرج التفت فرآني، فقال: يا محمد ويحك رأيت هندا الساعة فما رأيتها ، قط أجمل ولا أشب منها حين رأيتها، وما أنا بممس حتى أراجعها: فقلت: أصلح الله الأمير، امرأة طلقتها على عتب يرى الناس أن نفسك تتبعها، وتكون لها الحجة عليك. قال: صدقت، الصبر أحجى.
قال: محمد: والله ما كان منى ما كان نظرا ولا نصيحة، ولكني أنفت لرجل من قريش أن تداس أمه في كل وقت.
خبر طريف يروى عن أسماء: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني عن جويرية بن أسماء عن عمه قال: حججت فإني لفي رفقة من قومي إذ نزلنا ومعنا امرأة، فنامت وانتبهت وحية مطوية عليها، قد جمعت رأسها وذنبها بين ثدييها. فهالنا ذلك وارتحلنا .
صفحة : 2317
فلم تزل منطوية عليها لا تضيرها حتى دخلنا الحرم فانسابت، فدخلنا مكة وقضينا نسكنا، فرآها الغريض فقال: أي شقية، ما فعلت حيتك? فقالت: في النار، قال: ستعلمين من أهل النار? ولم أفهم ما أراد، وظننت أنه مازحها، واشتقت إلى غنائه، ولم يكن بيني وبينه ما يوجب ذلك، فأتيت بعض أهله، فسألته ذلك، فقال نعم، فوجه إليه أن اخرج بنا إلى موضع كذا، وقال لي: اركب بنا، فركبنا حتى سرنا قدر ميل، فإذا الغريض هناك، فنزلنا، فإهذا طعام معد، وموضع حسن. فأكلنا وشربنا، ثم قال: يا أبا يزيد، هات بعض طرائفك فاندفع يغني، ويوقع بقضيب:
مرضت فلم تحفل علي جنوب وأدنفت والممشى إلي قريب
فلا يبعد الله الشباب وقولـنـا إذا ما صبونا صبوة سنتـوب فلقد سمعت شيئا ظننت أن الجبال التي حولي تنطق معه: شجا صوت، وحسن غناء. وقال لي: أتحب أن يزيدك ? فقلت: إي والله. فقال: هذا ضيفك وضيفنا، وقد رغب إليك وإلينا، فأسعفه بما يريد. فاندفع يغني بشعر مجنون بني عامر:
عفا الله ليلى الغداة فإنـهـا إذا وليت حكما علي تجور
أأترك ليلى ليس بيني وبينها سوى ليلة? إني إذا لصبور فما عقلت لما غنى من حسنه إلا بقول صاحبي: نجور عليك يا أبا يزيد. فقلت: وما معناك في ذلك? فقال: إن أبا يزيد عرض بأني لما وليت الحكم عليه جرت في سؤالي إياه أكثر من صوت واحد. فقلت له -بعد ساعة- سرا: جعلت فداءك، إني أريد المضي وأصحابي يريدون الرحلة، وقد أبطأت عليهم، فإن رأيت أن تسأله -حاطه الله من السوء والمكروه- أن يزودني لحنا واحدا. فقال لي: يا أبا يزيد، أتعلم ما أنهى إلينا ضيفنا? قال: نعم، أرادك أن تكلمني في أن أغنيه قلت: هو والله ذلك، فاندفع يغني:
خذي العفو مني تستديمي مـودتـي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فإني رأيت الحب في الصدر والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحـب يذهـب فقال: قد أخذنا العفو منك، واستدمنا مودتك، ثم أقبل علينا فقال: ألا أحدثكم بحديث حسن? فقلنا: بلى. قال: قال شيخ العلم وفقيه الناس وصاحب علي -صلوات الله عليه- وخليفة عبد الله بن العباس على البصرة أبو الأسود الدؤلي لابنته ليلة البناء : أي بنية، النساء كن بوصيتك وتأديبك أحق مني، ولكن لا بد مما لا بد منه. يا بنية، إن أطيب الطيب الماء، وأحسن الحسن الدهن، وأحلى الحلاوة الكحل. يا بنية، لا تكثري مباشرة زوجك فيملك، ولا تباعدي عنه فيجفوك ويعتل عليك، وكوني كما قلت لأمك:
خذي العفو مني تستديمي مـودتـي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب فقلت: له فدتك نفسي، ما أدري أيهما أحسن: أحديثك أم غناؤك? والسلام عليكم. ونهضت فركبت وتخلف الغريض وصاحبه في موضعهما، وأتيت أصحابي وقد أبطأت، فرحلنا منصرفين حتى إذا كنا في المكان الذي رأيت فيه الحية منطوية على صدر المرأة ونحن ذاهبون -رأيت المرأة والحية منطوية عليها، فلم ألبث أن صفرت الحية، فإذا الوادي يسيل علينا حيات فنهشنها حتى بقيت عظاما. فطال تعجبنا من ذلك، ورأينا ما لم تر مثله قط. فقلت لجارية كانت معها: ويحك أخبرينا عن هذه المرأة، قالت: نعم أثكلت ثلاث مرات، كل مرة تلد ولدا: فإذا وضعته سجرت التنور ثم ألقته: فذكرت قول الغريض حين سألها عن الحية، فقالت: في النار. فقال: ستعلمين من في النار .
نسبة ما في هذه الأصوات من الغناء فمنها: صوت
مرضت فلم تحفل علي جنوب وأدنفت والممشى إلي قريب
فلا يبعد الله الشباب وقولـنـا إذا ما صبونا صبوة سنتـوب عروضه من الطويل. الشعر لحميد بن ثور الهلالي، والغناء للغريض من رواية حماد عن أبيه، وفيه لعلويه ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة ومنها: صوت
عفا الله ليلى الغداة فإنهـا إذا وليت حكما علي تجور
أأترك ليلى ليس بيني وبينها سوى ليلة إني إذا لصبور عروضه من الطويل، والشعر -لأبي دهبل الجمحي، ويقال: إنه لمجنون بني عامر، ويقال: إنه لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج، خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة، وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى، وفي الثاني والأول خفيف ثقيل أول بالبنصر مجهول.
صفحة : 2318
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قال: قال أبو دهبل:
أأترك ليلى ليس بيني وبينـهـا سوى ليلة إني إذا لصـبـور
هبوني امرأ منكم أضل بعـيره له ذمة إن الـذمـام كـبــير
وللصاحب المتروك أعظم حرمة على صاحب من أن يضل بعير قال الزبير وقال عمي: هذه الأبيات لمجنون بني عامر.
قال أحمد بن الحارث الخزار عن المدائني عن أبي محمد الشيباني قال: قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة: أنت القائل:
أأترك ليلى ليس بيني وبينها سوى ليلة إني إذا لصبور قال: نعم. قال فبئس المحب أنت: تركتها وبينها وبينك غدوة. قال: يا أمير المؤمنين، إنها من غدوات سليمان، غدوها شهر، ورواحها شهر.
أخبرني اليزيدي عن أحمد بن يحيى وابن زهير قال حدثني عمر بن القاسم بن المعتمر الزهري قال: قلت لأبي السائب المخزومي: أما أحسن الذي يقول:
أأترك ليلى ليس بيني وبـينـهـا سوى ليلة إني إذا لـصـبـور
هبوني امرأ منكم أضل بـعـيره له ذمة إن الـزمـام كـبــير
وللصاحب المتروك أعظم حرمة على صاحب من أن يضل بعير? فقال: بأبي أنت، كنت والله أجنبك وتثقل علي، فأنا الآن أحبك وتخف علي، حيث تعرف هذا.
صوت
من الخفرات لم تفضح أخاها ولم ترفع لوالدها شـنـارا
كأن مجامع الأرداف منهـا نقا درجت عليه الريح هارا
يعاف وصال ذات البذل قلبي ويتبع الممنـعة الـنـوارا الخفرة: الحييه، والخفر: الحياء. والشنار: العار. والنقا: الكثيب من الرمل. درجت عليه الريح: مرت. هار: تهافت وتداعى. قال الله تبارك وتعالى: على شفا جرف هار ويعاف: يكره. والنوار: الصعبة الممتنعة الشديدة الإباء .
عروضه من الوافر. الشعر للسليك بن السلكة، والغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن الهربذ لحن من رواية بذل، ولم يذكر طريقته وفيه لابن طنبورة لحن ذكره إبراهيم في كتابه ولم يجنسه.
أخبار السليك بن السلكة ونسبه
نسبه: هو السليك بن عمرو، وقيل: بن عمير بن يثربي. أحد بني مقاعس، وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. والسلكة: أمة، وهي أمة سوداء.
من صعاليك العرب العدائين: وهو أحد صعاليك العرب العدائين الذين كانوا لا يلحقون، ولا تعلق بهم الخيل إذا عدوا. وهم: السليك بن السلكة، والشنفري، وتأبط شرا، وعمرو بن براق، ونفيل بن براقة. وأخبارهم تذكر على تواليها ها هنا إن شاء الله تعالى في أشعار لهم يغنى فيها؛ لتتصل أحاديثهم.
فأما السليك فأخبرني بخبره الأخفش عن السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي، قال: وفرئ لي خبره وشعره على محمد بن الحسن الأحوال عن الأثرم عن أبي عبيدة. أخبرني ببعضه اليزيدي عن عمه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل، وقد جمعت رواياتهم، فإذا اختلفت نسبت كل مروي إلى روايه.
يستودع بيض النعام ماء في الشتاء ليشربه في الصيف: قال أبو عبيدة: حدثني المنتجع بن نبهان قال: كان السليك بن عمير السعدي إذا كان الشتاء استودع ببيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل وأغار. وكان أدل من قطاة -يجيء حتى يقف على البيضة. وكان لا يغير على مضر، وإنما بغير على اليمن، فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة.
صفاته: وقال المفضل في روايته: وكان السليك من أشد رجال العرب وأنكرهم وأشعرهم. وكانت العرب تدعوه سليك المقانب وكان أدل الناس بالأرض، وأعلمهم بمسالكها، وأشدهم عدوا على رجليه لا تعلق به الخيل. وكان يقول: اللهم إنك تهيئ ما شئت لما شئت إذا شئت. اللهم إني لو كنت ضعيفا كنت عبدا، ولو كنت امرأة أمة. اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، فأما الهيبة فلا هيبة.
من إنهاء غاراته:
صفحة : 2319
فذكروا أنه أملق حتى لم يبق له شيء فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة فاشتمل الصماء ثم نام -واشتمال الصماء: أن يرد فضلة ثوبه على عضده اليمنى، ثم ينام عليها-فبينا هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه فقال: استأسر. فرفع السليك إليه رأسه، وقال: الليل طويل وأنت مقمر. فأرسلها مثلا، فجعل الرجل يلهزه ويقول: يا خبيث استأسر. فلما آذاه بذلك أخرج السليك بعده، فضم الرجل إليه ضمة ضرط منها وهو فوقه، فقال السليك: أضرطا وأنت الأعلى? فأرسلها مثلا، ثم قال: من أنت? فقال: أنا رجل افتقرت، فقلت: لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني فآتيتهم وأنا غني قال. انطلق معي. فانطلقا، فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما. فاصطحبوا جميعا حتى أتوا الجوف: جوف مراد.
فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته. فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها، فيلحقهم الطلب. فقال لهما سليك. كونا قريبا مني حتى آتي الرعاء فأعلم لكما علم الحي، أقريب أم بعيد. فإن كانوا قريبا رجعت إليكما، وإن كانوا بعيدا قلت لكما قولا أومئ إليكما به فأغيرا. فأنطلق حتى أتى الرعاء، فلم يزن يستنطقهم حتى أخبروه بمكان الحي، فإذا هم بعيد. إن طلبوا لم يدركوا. فقال السليك للرعاء: ألا أغنيكم? فقالوا: بلى غننا، فرفع صوته وغنى:
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي سوى عبـيد وآم بـين أذواد
أتنظران قريبا ريث غفلتهـم أم تغدوان فإن الريح للغادي? فلما سمعا ذلك أتيا السليك، فأطردوا الإبل فذهبوا بها ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل.
نبأ آخر من أنباء المراتع: قال المفضل: وزعموا أن سليكا خرج ومعه رجلان من بني الحارث بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم يقال لهما: عمرو وعاصم وهو يريد الغارة، فمر على حي بني شيبان في ربيع والناس مخصبون في عشية فيها ضباب ومطر، فإذا هو ببيت قد انفرد من البيوت وقد أمسى. فقال لأصحابه: كونوا بمكان كذا حتى آتي أهل هذا البيت، فلعلي أن أصيب لكم خيرا، أو آتيكم بطعام قالوا: افعل، فانطلق وقد أمسى وجن عليه الليل، فإذا البيت بيت رويم، وهو جد حوشب بن يزيد بن رويم، وإذا الشيخ وامرأته بفناء البيت.
فأتى سليك البيت من مؤخره فدخله، فلم يلبث أن راح ابنه بإبله. فلما أراحها غضب الشيخ، فقال لابنه: هلا عشيتها ساعة من الليل. فقال له ابنه: إنها أبت العشاء فقال: العاشية تهيج الآبية، فأرسلها مثلا. ثم غضب الشيخ، ونفض ثوبه في وجهها، فرجعت إلى مراتعها ومعها الشيخ حتى مالت بأدنى روضة. فرتعت. وحبس الشيخ عندها لتتعشى، وغطى وجهه بثوبه من البرد، وتبعه سليك.
فلما وجد الشيخ مغترا ختله من ورائه، فضربه فأطار رأسه، وصاح بالإبل فطردها، فلم يشعر صاحباه -وقد ساء ظنهما وتخوفا عليه- حتى إذا هما بالسليك يطردها فطرداها معه، وقال سليك في ذلك:
وعاشية راحت بطانا ذعـرتـهـا بسوط قتيل وسطـهـا يتـسـيف
كأن عليه لـون بـرد مـحـبـر إذا ما أتـاه صـارخ يتـلـهـف
فبات لها أهل خـلاء فـنـاؤهـم ومرت بهم طير فلـم يتـعـيفـوا
وباتوا يظنون الظنون وصحبـتـي إذا ما علوا نشزا أهلوا وأوجفـوا
وما نلتها حتى تصعلكـت حـقـبة وكدت لأسباب المـنـية أعـرف
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني إذا قمت تغشاني ظلال فـأسـدف من حيله للغارة: وقال الأثرم في روايته عن أبي عبيدة: خرج سليك في الشهر الحرام حتى أتى عكاظ، فلما اجتمع الناس ألقى ثيابه، ثم خرج متفضلا مترجلا، فجعل يطوف الناس ويقول: من يصف لي منازل قومه، وأصف له منازل قومي? فلقيه قيس بن مكشوح المرادي، فقال: أنا أصف لم منازل قومي، وصف لي منازل قومك، فتوافقا، وتعاهدا ألا يتكاذبا.
فقال قيس بن المكشوح: خذ بين مهب الجنوب والصبا، ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة? فإذا انقطعت المياه فسر أربعا حتى تبدو لك رملة وقف بينها الطريق، فإنك ترد على قومي مراد وخثعم.
صفحة : 2320
فقال السليك: خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثم منازل قومي بني سعد بن زيد مناة.
فانطلق قيس إلى قومه فأخبرهم الخبر، فقال أبوه المكشوح: ثكلتك أمك. هل تدري من لقيت? قال: لقيت رجلا فضلا كأنما خرج من أهله، فقال: هو والله سليك بن سعد.
فاستعلق واستعوى السليك قومه فخرج أحماس بني سعد وبني عبد شمس -وكان في الربيع يعمد إلى بيض النعام فيملؤه من الماء ويدفنه في طريق اليمن في المفاوز. قال: فإذا غزا في الصيف مر به فاستثاره - فمر بأصحابه حتى إذا انقطعت عنهم المياه قالوا: يا سليك أهلكتنا ويحك قال: قد بلغتم الماء، ما أقربكم منه حتى إذا انتهى إلى قريب من المكان الذي خبأ فيه طلبه فلم يجده، وجعل يتردد في طلبه. فقال بعض أصحابه لبعض: أين يقودكم هذا العبد? قد والله هلكتم، وسمع ذلك. ثم أصاب الماء بعد ما ساء ظنهم، فهم السليك بقتل بعضهم، ثم أمسك.
فانصرفت عنه بنو عبد شمس في طوائف من بني سعد. قال: ومضى السليك في بني مقاعس ومعه رجل من بني حرام يقال له: صرد. فلما رأى أصحابه قد انصرفوا بكى ومضى به السليك، حتى إذا دنوا من بلاد خثعم ضلت ناقة صرد في جوف الليل، فخرج في طلبها، فأصابه أناس حين أصبح، فإذا هم مراد وخثعم، فأسروه، ولحقه السليك فاقتتلوا قتالا شديدا.
وكان أول من لقيه قيس بن مكشوح، فأسره السليك بعد أن ضربه ضربة أشرفت على نفسه، وأصاب من نعمهم ما عجز عنه هو وأصحابه، وأصاب أم الحارث بنت عوف بن يربوع الخثعمية يومئذ، واستنقذ صرد من أيدي خثعم، ثم انصرف مسرعا، فلحق بأصحابه الذين انصرفوا عنه قبل أن يصلوا إلى الحي، وهم أكثر من الذين شهدوا معه، فقسمها بينهم على سهام الذين شهدوا. وقال السليك في ذلك:
بكى صرد لما رأى الحي أعرضت مهامه رمل دونهـم وسـهـوب
وخوفه ريب الـزمـان وفـقـره بلاد عـدو حـاضـر وجـدوب
ونأي بعيد عن بـلاد مـقـاعـس وأن مخـاريق الأمـور تـريب
سيكفيك فقد الحي لحم مـغـرض وماء قدور في الجفان مـشـوب
ألم ترأن الدهر لـونـان لـونـه وطوران بشـر مـرة وكـذوب
فما خير من لا يرتجى خـير أوبة ويخشى علـيه مـرية وحـروب
رددت عليه نفسـه فـكـأنـمـا تلاقى عليه منـسـر وسـروب
فما ذر قرن الشمس حتـى أريتـه قصار المنايا والـغـبـار يثـوب
وضاربت عنه القوم حتى كأنـمـا يصعد فـي آثـارهـم ويصـوب
وقلت له خذ هـجـمة حـمـيرية وأهلا ولا يبعد عـلـيك شـروب
وليلة جابـان كـررت عـلـيهـم على ساعة فيها الإياب حـبـيب
عشية كرت بالـحـرامـي نـاقة بحي هلا تدعى بـه فـتـجـيب
فضاربت أولي الخيل حتى كأنمـا أميل عـلـيهـا أيدع وصـبـيب الأيدع: دم الأخوين، والصبيب: الحناء.
من أنباء قدرته على الاحتمال: قال أبو عبيدة: وبلغني أن السليك بن السلكة رأته طلائع جيش لبكر بن وائل، وكانوا جازوا منحدرين ليغيروا على بني تميم ولا يعلم بهم أحد، فقالوا: إن علم السليك بنا أنذر قومه، فبعثوا إليه فارسين على جوادين، فلما هايجاه خرج يمحص كأنه ظبي، ، وطارداه سحابة يومه، ثم قالا: إذا كان الليل أعيا، ثم سقط أو قصر عن العدو، فنأخذه.
فلما أصبحا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرة فنزعها ، فندرت قوسه فانحطمت، فوجدا قصدة منها قد ارتزت بالأرض، فقالا: ما له، أخزاه الله? ما أشده وهما بالرجوع، ثم قالا: لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر، فتبعاه، فإذا أثره متفاج قد بال فرغا في الأرض وخدها فقالا: ما له قاتله الله? ما أشد متنه والله لا نتبعه أبدا، فانصرفا. ونمى إلى قومه وأنذرهم، فكذبوه لبعد الغاية، فأنشأ يقول:
يكذبني العمران عمرو بن جنـدب وعمرو بن سعد والمكذب أكـذب
لعمرك ما ساعيت من سعى عاجز ولا أنا بالواني فـفـيم أكـذب ?
ثكلتكما إن لم أكن قـد رأيتـهـا كراديس يهديها إلى الحي موكب
كراديس فيها الحوفزان وقـومـه فوارس همام متى يدع يركـبـوا -يعني الحوفزان بن شريك الشيباني-.
صفحة : 2321
تفاقدتم هـل أنـكـرن مـغـيرة مع الصبح يهديهن أشقر مغرب ? تفاقدتم: يدعو عليهم بالتفاقد .
قال، وجاء الجيش فأغاروا على جمعهم.
كان يقال له: سليك المقانب: قال: وكان يقال للسليك سليك المقانب، وقد قال في ذلك فرار الأسدي -وكان قد وجد قوما يتحدثون إلى امرأته من بني عمها فعقرها بالسيف، فطلبه بنو عمها فهرب ولم يقدروا عليه- فقال في ذلك:
لزوار ليلـى مـنـكـم آل بـرثـن على الهول أمضي من سليك المقانب
يزورونـهـا ولا أزور نـسـاءهـم ألهفى لأولد الإمـاء الـحـواطـب يلجأ إلى امرأة فتنقذه فيقول فيها شعرا: وقال أبو عبيدة: أغار السليك على بني عوار بطن من بني مالك بن ضبيعة، فلم يظفر منهم بفائدة، وأرادوا مساورته.
فقال شيخ منهم: إنه إذا عدا لم يتعلق به، فدعوه حتى يرد الماء، فإذا شرب وثقل لم يستطع العدو، وظفرتم به، فأمهلوه حتى ورد الماء وشرب، ثم بادروه، فلما علم أنه مأخوذ خاتلهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم يقال لها: فكيهة، فاستجار بها، فمنعته، وجعلته تحت درعها، واخترطت السيف، وقامت دونه، فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها، وصاحت بإخوتها فجاءوا، ودفعوا عنه حتى نجا من القتل، فقال السليك في ذلك:
لعمر أبيك والأنباء تـنـمـى لنعم الجار أخت بني عـوارا
من الخفرات لم تفضح أباهـا ولم ترفع لإخوتهـا شـنـارا
كأن مجامع الأرداف منـهـا نقا درجت عليه الريح هـارا
يعاف وصال ذات البذل قلبـي ويتبع الممـنـعة الـنـوارا
وما عجزت فكيهة يوم قامـت بنصل السيف واستلبوا الخمارا يأخذ رجلا من كنانة ثم يطلقه فيجزلون له العطاء: أخبرني الأخفش عن السكري عن أبي حاتم عن الأصمعي أن السليك أخذ رجلا من بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب يقال له: النعمان بن عقفان، ثم أطلقه وقال:
سمعت بجمعهم فرضخت فيهم بنعمان بن عقفان بن عمـرو
فإن تكفر فإنـي لا أبـالـي وإن تشكر فإني لسـت أدري قال: ثم قدم بعد ذلك على بني كنانة وهو شيخ كبير، وهم بماء لهم يقال له: قباقب، خلف البشر، فأتاه نعمان بابنيه الحكم وعثمان -وهما سيدا بني كنانة- ونائلة ابنته، فقال: هذان وهذه لك، وما أملك غيرهم، فقالوا: صدق، فقال: قد شكرت لك وقد رددتهم عليك.
يسبق في العدو جمعا من الشباب وهو شيخ: فجمعت له بنو كنانة إبلا عظيمة فدفعوها إليه، ثم قالوا له: إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك . قال: نعم، وأبغوني أربعين شابا، وأبغوني درعا ثقيلة، فأتوه بذلك، فلبس الدرع، وقال للشبان: الحقوا بي إن شئتم. وعد، فلاث العدو لوثا، وعدوا جنبته فلم يلحقوه إلا قليلا، ثم غاب عنهم وكر حتى عاد إلى الحي هو وحده يحضر والدرع في عنقه تضرب كأنها خرقة من شدة إحضاره.
أخبر به هاشم بن محمد الخزاعي عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه فذكر فيه نحو ما تقدم .
خبر مقتله: وقال السكري في خبر مقتله: إنه لقي رجلا من خثعم في أرض يقال لها: فخة، بين أرض عقيل وسعد تميم، وكان يقال للرجل: مالك بن عمير بن أبي ذراع بن جشم بن عوف، فأخذه ومعه امرأة له من خفاجة يقال لها:النوار، فقال له الخثمعي: أنا أفدي نفسي منك، فقال له: السليك: ذلك لك، على ألا تخيس بي، ولا تطلع علي أحدا من خثعم، فحالفه على ذلك، ورجع إلى قومه، وخلف امرأته رهينة معه، فنكحها السليك، وجعلت تقول: احذر خثعم؛ فإني أخافهم عليك، فأنشأ يقول:
تحذرني كي أحذر العام خثعمـا وقد علمت أني امرؤ غير مسلم
ومـا خـثـعـم إلا لــئام أذلة إلى الذل والإسحاق تنمي وتنتمي قال: وبلغ ذلك شبل بن قلادة بن عمر بن سعد، وأنس بن مدرك الخثعميين، فخالفا إلى السليك، فلم يشعر إلا وقد طرقاه في الخيل، فأنشأ يقول:
من مبلغ جذمي بأبني مقتول?
يا رب نهب قد حويت عثكول
ورب قرن قد تركت مجدول
ورب زوج قد نكحت عطبول
ورب عان قد فككت مكبـول
ورب واد قد قطعت مسبـول
صفحة : 2322
قال أنس للشبل: إن شئت كفيتك القوم واكفني الرجل، وإن شئت أكفني القوم أكفك الرجل. قال: بل أكفيك القوم، فشد أنس على السليك فقتله، وقتل شبل وأصحابه من كان معه.
وكاد الشر يتفاقم بين أنس وبين عبد الملك ، لأنه كان أجاره حتى وداه أنس لما خاف أن يخرج الأمر من يده، وقال:
كم من أخ لي كريم قد فجعت بـه ثم بقيت كأنـي بـعـده حـجـر
لا أستكين على ريب الـزمـان ولا أغضي على الأمر يأتي دونه القدر
مردى حروب أدير الأمر حابـلـه إذ بعضهم لأمور تعتـري جـزر
قد أطعن الطعنة النجلاء أتبعـهـا طرفا شديدا إذا ما يشخص البصر
ويوم حمضة مطلوب دلـفـت لـه بذات ودقين لما يعفها الـمـطـر وذكر باقي الأبيات التي تتلو هذه:
إني وقتلى سليكا ثم أعقله كما ذكره من روينا عنه ذلك.
أخبرني هاشم بن محمد عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه فذكر ما تقدم.
يجعل لعبد الملك بن مويلك إتاوة ليجيره: قال أبو عبيدة وحدثني المنتجع بن نبهان قال: كان السليك يعطي عبد الملك بن مويلك الخثمعي إتاوة من غنائمه على أن يجيره فيتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل اليمن، فيغير عليهم. فمر قافلا من غزوة فإذا بيت من خثعم أهله خلوف وفيه امرأة شابة بضة، فسألها عن الحي فأخبرته، فتسنمها، أي علاها، ثم جلس حجرة ، ثم التقم المحجة، فبادرت إلىالماء فأخبرت القوم، فركب أنس بن مدرك الخثعمي في طلبه فلحقه، فقتله. فقال عبد الملك: والله لأقتلن قاتله أو ليدينه، فقال أنس: والله لا أدبه ولا كرامة، ولو طلب في ديته عقالا لما أعطيته. وقال في ذلك:
إني وقتلي سليكا ثـم أعـقـلـه كالثور يخضرب لما عافت البقر
عضبت للمرء إذ نيكت حليلـتـه وإذ يشد على وجعائها الـثـفـر
إني لتارك هامـات بـمـجـزرة لا يزدهيني سواد الليل والقـمـر
أغشى الحروب وسربالي مضاعفة نغشى البنان وسيفي صارم ذكـر الغناء بشعره أفسد مجلس لهو: أخبرني ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن فليح بن أبي العوراء قال: كان لي صديق بمكة، وكنا لا نفترق ولا يكتم أحد صاحبه سرا، فقال لي ذات يوم: يا فليح، إني أهوى ابنة عم لي ولم أقدر عليها قط، وقد زارتني اليوم فأحب أن تسرني بنفسك، فإني لا أحتشمك. فقلت: أفعل، وصرت إليهما، وأحضر الطعام فأكلنا، ووضع النبيذ فشربنا أقداحنا، فسألني أن أغنيهما، فكأن الله -عز وجل- أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت:
من الخفرات لم تفصح أباها ولم تلحق بإخوتها شنـارا فلما سمعته الجارية قالت أحسنت يا أخي، أعد، فأعدته. فوثبت وقالت: أنا إلى الله تائبة، والله ما كنت لأفضح أبي ولا لأرفع لإخوتي شنارا. فجهد الفتى في رجوعها فأبت وخرجت، فقال لي: ويحك ما حملك على ما صنعت? فقلت: والله ما هو شيء اعتمدته، ولكنه ألقي على لساني لأمر أريد بك وبها. هكذا في الخبر المذكور.
وقد رواه غير من ذكرته عن فليح بن أبي العوراء، فأخبرني اليزيدي عن عمه عبيد الله قال: كان غبراهيم بن سعدان يؤدب ولد علي بن هشام، وكان يغني بالعود تأدبا ولعبا، قال: فوجه إلي يوما علي بن هشام يدعوني، فدخلت فإذا بين يديه امرأة مكشوفة الرأس تلاعبه بالنرد، فرجعت عجلا، فصاح بي: ادخل، فدخلت، فإذا بين أيديهما نبيذ يشربان منه، فقال: خذ عودا وغن لنا، ففعلت، ثم غنيت في وسط غنائي:
من الخفرات لم تفضح أباها ولم ترفع لإخوتها شنـارا فوثبت من بين يديه، وغطت رأسها، وقالت: إني أشهد الله أني تائبة إليه، ولا أفضح أبي ولا أرفع لإخوتي شنارا. ففتر علي بن هشام ولم ينطق وخرجت من حضرته، فقال لي: ويلك، من أين صبك الله علي? هذه مغنية بغداد، وأنا في طلبها منذ سنة لم أقدر عليها إلا اليوم، فجئتني بهذا الصوت حتى هربت. فقلت: والله ما اعتمدت مساءتك، ولكنه شيء خطر على غير تعمد.
صوت
أمسلم إني يا بن كـل خـلـيفة ويا جبل الدنيا ويا ملك الأرض
شكرتك إن الشكر حظ من التقى وما كل من أوليته نعمة يقضي
صفحة : 2323
الشعر لأبي مخيلة الحماني، والغناء لا بن سريج، ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي.
أخبار أبي نخيلة ونسبه
اسمه وكنيته ونسبه: أبو نخيلة اسمه لا كنيته، ويكنى أبا الجنيد، ذكر الأصمعي ذلك وأبو عمرو الشيباني وابن حبيب، لا يعرف له اسم غيره، وله كنيتان: أبو الجنيد وأبو العرماس، وهو ابن حزن بن زائدة بن لقيط بن هرم بن يثري، وقيل: بن أثربي بن ظالم بن مجاسر بن حماد بن عبد العزى بن كعب بن لؤي بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
نفاه أبوه عن نفسه لعقوقه: وكان عاقا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه، ثم عاد وبقي مشكوكا في نسبه، مطعونا عليه. وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد ليس بالكبير .
مسلمة بن عبد الملك يصطنعه: ولما خرج إلى الشام اتصل بمسلمة بن عبد الملك، فاصطنعه وأحسن إليه وأوصله إلى الخلفاء واحدا بعد واحد، واستماحهم له فأغنوه، وكان بعد ذلك قليل الوفاء لهم. انقطع إلى بني هاشم، ولقب نفسه شاعر بني هاشم، فمدح الخلفاء من بني العباس، وهجا بني أمية فأكثر.
يغزي المنصور بعيسى بن موسى فيبعث من يقتله: وكان طمعه ، فحمله ذلك على أن قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى وبعقد العهد لابنه محمد المهدي، فوصله المنصور بألفي درهم، وأمره أن ينشدها بحضرة عيسى بن موسى ففعل. فطلبه عيسى فهرب منه؛ وبعث في طلبه مولى له، فأدركه في طريق خراسان، فذبحه وسلخ جلده .
سأل فمطل فهجا ثم أجيب فمدح: أخبرني هاشم الخزاعي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: رأى أبو نخيلة على شبيب حلة فأعجبته، فسأله إياها، فوعده ومطله، فقال فيه:
يا قوم لا تسودوا شبيبـا الخائن بن الخائن الكذوبا
هل تلد الذيبة إلا الذيبا? قال: فبلغه ذلك، فبعث إليه بها فقال:
إذا غدت سعد على شبيبهـا على فتاها وعلى خطيبهـا
من مطلع الشمس إلى مغيبها عجبت من كثرتها وطيبهـا لا يهجو خالد بن صفوان خشية لسانه: حدثني حبيب بن نصر المهلبي عن عمر بن شبة، قال: حدثني الرعل بن الخطاب قال: بنى أبو نخيلة داره، فمر به خالد بن صفوان وكان بينهما مداعبة قديمة، ومودة وكيدة، فوقف عليه .
فقال أبو نخيلة: يا بن صفوان، كيف ترى داري? قال: رأيتك سألت فيها إلحافا، وأنفقت ما جمعت إسرافا. جعلت إحدى يديك سطحا، وملأت الأخرى سلحا، فقلت: من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي، ثم ولى وتركه.
فقيل له: ألا تهجوه? فقال: إذن والله يركب بغلته، ويطوف في مجالس البصرة، ويصف أبنيتي بما يعيبها. وما عسى أن يضر الإنسان صفة أبنيته بما يعيبها سنة ثم لا يعيد فيها كلمة.
تأديب في البادية حتى شعر: أخبرني الحسن بن علي الخفاف عن ابن مهروية عن أبي مسلم المستملي عن الحرمازي عن يحيى بن نجيم قال: لما انتفى أو نخيلة من أبيه خرج يطلب الرزق لنفسه، فتأدب بالبادية حتى شعر وقال رجزا كثيرا وقصيدا صالحا وشهر بهما، وسار شعره في البدو والحضر، ورواه الناس.
مده مسلمة بن عبد الملك: ثم وفد إلى مسلمة بن عبد الملك فرفع منه، وأعطاه، وشفع له، وأوصله إلى الوليد بن عبد الملك ، فمدحه، ولم يزل به حتى أغناه، قال لحيى بن نجيم: فحدثني أبو نخيلة قال: وردت على مسلمة بن عبد الملك فمدحته، وقلت له:
أمسلم إني يا بـن كـل خـلـيفة ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقـى وما كل من أوليته نعمة يقضـي
وألقيت لـمـا أن أتـيتـك زائرا علي لحافا سابغ الطول والعرض
وأحييت لي ذكرى وما كان خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض يستنشده مسلمة فينتحل أرجوزة لرؤبة:
صفحة : 2324
قال: فقال لي مسلمة: ممن أنت? فقلت: من بني سعد. فقال: مالكم يا بني سعد والقصيد وإنما حظكم في الرجز? قال: فقلت له: أنا والله أرجز العرب، قال: فأنشدني من رجزك، فكأني والله لما قال ذلك لم أقل رجزا قط، أنسانيه الله كله، فما ذكرت منه ولا من غيره شيئا إلا أرجوزة لرؤبة كان قالها في تلك السنة، فظننت أنها لم تبلغ مسلمة، فأنشده إياها، فنكس رأسه وتتعتعت، فرفع رأسه إلي وقال: لا تتعب نفسك، فأنا أروى لها منك، قال: فانصرفت وأنا أكذب الناس عنده وأخزاهم عند نفسي حتى تلطفت بعد ذلك ومدحته برجز كثير، فعرفني وقربني. وما رأيت ذلك أثر فيه، يرحمه الله ولا قر عني به حتى افترقنا.
من مدحه لمسلمة: وحدثني أبو نخيله قال: لما انصرف مسلمة من حرب يزيد بن المهلب تلقيته، فلما عاينته صحت به:
مسلم يا مسلـمة الـحـروب أنت المصفى من أذى العيوب
مصاصة من كـرم وطـيب لولا ثقاف ليس بالـتـدبـيب
تفري به عن حجب القلـوب لأمست الأمة شـاء الـذيب فضحك وضمني إليه، وأجزل صلتي.
يسأل رجل من عشيرته أن يوصله إلى الخليفة هشام فيفعل: حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه -وقد جمعت روايتهما وأكثر اللفظ للأصمعي، قال: قال أبو نخيلة: وفدت على هشام بن عبد الملك فصادفت مسلمة قد مات، وكنت بأخلاق هشام غرا وأنا غريب، فسألت عن أخص الناس به، فذكر لي رجلان: أحدهما من قيس، والآخر من اليمن، فعدلت إلى القيسي بالتؤدة فقلت: هو أقربهما إلي، وأجدرهما بما أحب، فجلست إليه، ثم وضعت يدي على ذراعه وقلت له: إني مسستك لتمسني رحمك .
أنا رجل غريب شاعر من عشيرتك، وأنا غير عارف بأخلاق هذا الخليفة، وأحببت أن ترشدني إلى ما أعمل فينفعني عنده، وعلى أن تشفع لي وتوصلني إليه، فقال: ذلك كله لك علي. وفي الرجل شدة ليس كمن عهدت من أهله، وإذا سئل وخلط مدحه بطلب حرم الطالب، فأخلص له المدح، فإنه أجدر أن ينفعك، واغد إليه غدا فإني منتظرك بالباب حتى أوصلك، والله يعينك. فصرت من غد إلى باب هشام، فإذا بالرجل منتظر لي، فأدخلني معه، وإذا بأبي النجم قد سبقني فبدأ فأنشده قوله:
إلى هشـام وإلـى مـروان بيتان ما مثلهـمـا بـيتـان
كفاك بالـجـود تـبـاريان كما تبارى فرسـا رهـان
مال علي حـدث الـزمـان وبيع ما يغلو من الغلمـان
بالثمن الوكس من الأثـمـان والمهر بعد المهر والحصان يمدح هشاما فيجيزه: قال: فأطال فيها وأكثر المسألة حتى ضجر هشام، وتبينت الكراهة في وجهه، ثم استأذنت فأذن لي، فأنشدته:
لما أتتني بغـية كـالـشـهـد والعسل الممزوج بعد الرقـد
يا بردها لمشتـف بـالـبـرد رفعت من أطمار مسـتـعـد
وقلت للعيس إعتلـي وجـدي فهي تخدى أبرح الـتـخـدي
كم قد تعسفت بها مـن نـجـد ومجرهد بعـد مـجـرهـد
قد ادرعن في مسـير سـمـد ليلا كلون الطيلسان الـجـرد
إلى أمير المؤمنين المـجـدي رب مـعـد وسـوى مـعـد
ممن دعا من أصـيد وعـبـد ذي المجد والتشريف بعد المجد
في وجهه بدر بدا بالـسـعـد أنت الهمام القرم عند الـجـد
طوقتها مـجـتـمـع الأشـد فانهل لما قمت صوب الرعـد قال: حتى أتيت عليها وهممت أن اسأله، ثم عزفت نفسي وقلت: قد استنصحت رجلا، وأخشى أن أخالفه فأخطئ، وحانت مني التفاتة فرأيت وجه هشام منطلقا. فلما فرغت أقبل على جلسائه فقال: الغلام السعدي أشعر من الشيخ العجلي، وخرجت. فلما كان بعد أيام أتتني جائزته، ثم دخلت عليه بعد ذلك، وقد مدحته بقصيدة فأنشدته إياها فألقى علي جبة خز من جبابه مبطنة بسمور، ثم دخلت عليه يوما آخر، فكساني دواجا كان عليه من خز أحمر مبطن بسمور، ثم دخلت عليه يوما ثالثا فلم يأمر لي بشيء، فحملتني نفسي على أن قلت له:
كسوتنيها فهي كالتجفـاف من خزك المصونة الكثاف
صفحة : 2325
كأنني فيها وفي اللـحـاف من عبد شمس أو بني مناف
والخز مشتاق إلى الأفواف قال، فضحك -وكانت عليه جبة أفواف- وأدخل يده فيها ونزعها ورمى بها إلي، وقال: خذها، فلا بارك الله لك فيها.
يغير داليته ويجعلها في السفاح: قال محمد بن هشام في خبره خاصة: فلما أفضت الخلافة إلى السفاح نقلها إليه وغيرها وجعلها فيه -يعني الأرجوزة الدالية- فهي الآن تنسب في شعره إلى السفاح.
يشفع للفرزدق عند ان هبيرة: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثني أبو عمر الخصاف عن العتبي قال: لما حبس عمر بن هبيرة الفرزدق وهو أمير العراق أبى أن يشفع فيه أحدا، فدخل عليه أبو نخيلة في يوم فطر، فوقف بين يديه وأنشأ يقول:
أطلقت بالأمـس أسـير بـكـر فهل، فداك نـفـري ووفـري
من سبـب أو حـجة أو عـذر ينجي التميمي القليل الشـكـر
من حلق القيد الثقال الـسـمـر ما زال مجنونا على أست الدهر
ذا حسب ينمو وعـقـل يحـري هبه لأخوالـك يوم الـفـطـر يعود الفرزدق إلى السجن حين علم أن شفيعه أبو نخيلة: قال: فأمر بإطلاقه، وكان قد أطلق رجلا من عجل جيء به من عين التمر قد أفسد، فشفعت فيه بكر بن وائل فأطلقه. وإياه عني أبو نخيلة. فلما أخرج الفرزدق سأل عمن شفع له فأخبر، فرجع إلى الحبس وقال: لا أريمه ولو مت. انطلق قبلي بكري وأخرجت بشفاعة دعي، والله لا أخرج هكذا ولو من النار. فأخبر ابن هبيرة بذلك فضحك ودعا به فأطلقه، وقال: وهبتك لنفسي. وكان هجاه فحبسه لذلك، فلما عزل ابن هبيرة وحبس مدحه الفرزدق، فقال: ما رأيت أكرم منه، هجاني أميرا ومدحني أسيرا.
رواية أخرى لخبر هذه الشفاعة: وجدت هذا الخبر بخط القاسم بن يوسف، فذكر أن أبا القاسم الحضرمي حدثه أن هذه القصة كانت لأبي نخيلة مع يزيد بن عمر بن هبيرة، وأنه أتي بأسيرين من الشراه أخذا بعين التمر: أحدهما أبو القاسم بن بسطام بن ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، والآخر رجل من بكر بن وائل. فتكلم في البكري قومه فأطلقه، ولم يتكلم في التميمي أحد، فدخل عليه أبو نخيلة فقال:
الحـمـد لـلـه ولـي الأمـر هو الذي أخرج كـل غـمـر
وكـل عـوار وكـل وغــر من كل ذي قلب نقي الصـدر
لما أتت من نحو عين التـمـر ست أثاف، لا أثافـي الـقـدر
فظلت القضبان فيهم تـجـري هبرا هو الهبر وفوق الهـبـر
إني لمهد لـلإمـام الـغـمـر شعري ونصح الحب بعد الشعر ثم ذكر باقي الأبيات كما ذكرت في الخبر المتقدم.
عندما نزل به ضيف هجاه: أخبرني أبو الحسن الأسدي أحمد بن محمد قال: حدثني محمد بن صالح بن النطاح قال: ذكر عن العتبي أن أبا نخيلة حج ومعه جريب من سويق قد حلاه بقند ، فنزل منزلا في طريقه، فأتاه أعرابي من بني تميم وهو يقلب ذلك السويق، واستحيا منه فعرض عليه، فتناول ما أعطاه فأتي عليه، ثم قال: زدني يا بن أخ، فقال أبو نخيلة:
لما نزلنا منزلا ممقـوتـا نريد أن نرحل أو نبيتـا
جئت ولم ندر من أين جيتا إذا سقيت المزبد السحتيتا
قلت ألا زدني وقد رويتا فقام الأعرابي وهو يسبه.
وحدثني بهذا الخبر هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: كان أبو نخيلة إذا نزل به ضيف هجاه، فنزل به يوما رجل من عشيرته، فسقاه سويقا قد حلاه، فقال له: زدني، فزاده. فلما رحل هجاه وذكر الأبيات بعينها، وقال في الخبر قال أبو عبيدة: السحتيت: السويق الدقاق.
يعتذر إلى السفاح من مدحه بني مروان: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثني ابن عائشة قال: دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح فسلم، واستأذن في الإنشاد، فقال له أبو العباس: لا حاجة لنا في شعرك، إنما تنشدنا فضلات بني مروان، فقال: يا أمير المؤمنين:
كنا أناسا نرهب الأمـلاكـا إذ ركبوا الأعناق والأوراكا
قد ارتجينا زمـنـا أبـاكـا ثم ارتجينا بعـده أخـاكـا
صفحة : 2326
ثم ارتجينـا بـعـده إياك وكان ما قلت لمن سواكا
زورا فقد كفر هذا ذاكا فضحك أبو العباس، وأجازه جائزة سنية، وقال: أجل، إن التوبة لتكفر ما قبلها، وقد كفر هذا ذاك.
وأخبرنا أبو الفياض سوار بن أبي شراعة قال: حدثني أبي عن عبد الصمد بن المعذل عن أبيه قال: دخل أبو نخيلة على أبي العباس، قال وكان لا يجترئ عليه مع ما يعرفه به من اصطناع مسلمة إياه، وكثرة مديحه لبني مروان حتى علم أنه قد عفا عمن هو أكبر محلا من القوم وأعظم جرما منه، فلما وقف بين يديه سلم عليه، ودعا له وأثنى، ثم استأذنه في الإنشاد، فقال له: ومن أنت? قال: عبدك يا أمير المؤمنين أبو نخيلة الحماني. فقال: لا حياك الله، ولا قرب دارك يا نضو السوء. ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بالأمس:
أمسلم يا مـن سـاد كـل خـلـيفة ويا فارس الهيجا ويا قمر الأرض? والله لولا أني قد أمنت نظراءك لما ارتد إليك طرفك حتى أخضبك بدمك. فقال أبو نخيلة:
كنا أناسا نرهب الأملاكا يعفو السفاح عنه ويخوله اختيار جارية فلا يحمدها: وذكر الأبيات المتقدمة كلها مثل ما مضى من ذكرها، فتبسم أبو العباس، ثم قال له: أنت شاعر وطالب خير . وما زال الناس يمدحون الملوك في دولهم، والتوبة تكفر الخطيئة، والظفر يزيل الحقد. وقد عفونا عنك، واستأنفنا الصنيعة لك. وأنت الآن شاعرنا فاتسم بذلك فيزول عنك ميسم بني مروان، فقد كفر هذا ذاك. كما قلت. ثم التفت إلى أبي الخصيب فقال: يا مرزوق، أدخله دار الرقيق فخيره جارية يأخذها لنفسه، ففعل واختار جارية وطفاء كثيرة اللحم فلم يحمدها، فلما كان من غد دخل على أبي العباس وعلى رأسه وصيفة حسناء تذب عنه، فقال له: قد عرفت خبر الجارية التي أخذتها بالأمس وهي كذنا كونه فاحتفظ بها، فأنشأ يقول:
إني وجدت الكذنا ذنوكا غير منيك فابغني منيكا
حتى إذا حركته تحركا فضحك أبو العباس، وقال: خذ هذه الوصيفة، فإنك إذا خلوت بها تحرك من غير أن تحركه.
رجزه وقد هرب من دين طولب به: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: أدان أبو نخيلة من بقال له يقال له: ماعز الكلابي باليمامة، وكان يأخذ منه أولا أولا حتى كثر ما عليه وثقل، فطالبه ماعز فمطله، ثم بلغه أنه قد استعدى عليه عامل اليمامة، فارتحل يريد الموصل، وخرج عن اليمامة ليلا، فلم يعلم به ماعز إلا بعد ثلاث. وقد نجا أبو نخيلة وقال في ذلك:
يا ماعز الكراث قد خزيتنـا لقد خدعت ولقد هـجـيتـا
كدت تخصينا فقد خصـيتـا وكنت ذا حظ فقد محـيتـا
ويحك لم تعلم بمن صلـيتـا ولا بأي حـجـر رمـيتـا
إذا رأيت المزبد الهـبـوتـا يركب شدقا شدقما هريتـا
طر بجناحيك فقـد أتـيتـا حران حران فهيتا هـيتـا
والموصل الموصل أو تكريتا حيث تبيع النبط الـبـيوتـا
ويأكلون العدس المـريتـا وقال أيضا لماعر هذا:
يا ماعز القمـل وبـيت الـذل بتناوبات البغل في الإصطبـل
وبات شيطان القوافي يمـلـي على امرئ فحل وغير فحـل
لا خير في علمي ولا في جهلي لو كان أودى ماعز بنخـلـي
ما زال يقليني وعيمي يغـلـي حتى إذا العيم رمى بالجـفـل
طبقت تطبيق الجراز النصل نسخت من كتاب اليوسفي.
يقرن مدح الممدوح بمدح سائسه: حدثني المنمق بن جماع عن أبيه قال: كان أبو نخيلة نذلا يرضيه القليل، ويسخطه، وكان الربيع ينزله عنده، ويأمر سائسا يتفقد فرسه، فمدح الربيع بأرجوزة، ومدح فيها معه سائسه فقال:
لولا أبو الفضل ولولا فضله ما اسطيع باب لا يسني قفله
ومن صلاح راشد إصطبلـه نعم الفتى وخير فعل فعلـه
يسمن منه طرفه وبغـلـه فضحك الربيع، وقال: يا أبا نخيلة أترضى أن تقرن بي السائس في مديح كأنك لو لم تمدحه معي كان يضيع فرسك.
يمدح خباز مضيفه: قال: ونزل أبو نخيلة بسليمان بن صعصعة، فأمر غلامه بتعهده، وكان يغاديه ويراوحه في كل يوم بالخبز واللحم، فقال أبو نخيلة يمدح خباز سليمان بن صعصعة:
صفحة : 2327
بارك ربي فيك من خـبـاز ما زلت إذ كنت على أوفاز
تنصب باللحم انصباب الباز شعره وقد رأى اجتهاد العمال في أرض له: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: حدثنا أحمد بن المعذل عن علي بن أبي نخيلة الحماني قال: دخلت مع أبي إلى أرض له وقد قدم من مكة، فرآها وقد أضر بها جفاء القيم عليها وتهاونه بها، وكلما رآه الذين يسقونها زادوا في العمل والعمارة حتى سمعت نقيض الليف، فقلت: الساعة يقول في هذا شعرا، فلم ألبث أن التفت إلي وقال:
شاهد مـالا رب مـال فـسـاسـه سياسة شهم حـازم وابـن حـازم
أقام بها العصرين حينـا ولـم يكـن كمن ضن عن عمرانها بالدراهـم
كأن نقيض الليف عن سعـفـاتـه نقيض رحال الميس فوق العياهـم
وأضحت تغالي بالنبـات كـأنـهـا على متن شيخ من شيوخ الأعاجـم
وما الأصل ما رويت مضرب عرقه من الماء عن إصلاح فرع بـنـائم أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن أبي الأزهر البوشنجي قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن النضر بن حديد عن أبي محضة عن الأزرق بن الخميس بن أرطاة -وهو ابن أخت أبي نخيلة- فذكر قريبا مما ذكر في الخبر الذي قبله.
يسأل فلا يعطى فيهجو ثم يعطى فيمدح: وأخبرني عيسى بن الحسن الوراق المروزي قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثني أبي قال: ابتاع أبو نخيلة دارا في بني حمان ليصحح بها نسبه، وسأل في بنائها، فأعطاه الناس اتقاء للسانه وشره، فسأل شبيب بن شيبة فلم يعطه شيئا واعتذر إليه، فقال:
يا قوم لا تسودوا شبيبـا الملذان الخائن الكذوبا
هل تلد الذيبة إلا الذيبا فقال شبيب: ما كنت لأعطيه على هذا القول شيئا، فإنه قد جعل إحدى يديه سطحا، وملأ الأخرى سلحا، وقال: من وضع شيئا في سطحي وإلا ملأته بسلحي، من أجل دار يريد أن يصحح نسبه بها، فسفر بينهما مشايخ الحي يعطيه، فأبى شبيب أن يعطيه شيئا، وحلف أبو نخيلة ألا يكف عن عرضه أو يأخذ منه شيئا يستعين به. فلما رأى شبيب ذلك خافه، فبعث إليه بما سأل، وغدا أبو نخيلة عليه وهو جالس في مجلسه مع قومه، فوقف عليهم، ثم أنشأ يقول:
إذا غدت سعد على شبيبهـا على فتاها وعلى خطيبهـا
من مطلع الشمس إلى مغيبها عجبت من كثرتها وطيبهـا ينتحل أرجوزة لرؤبة وينشدها فيفجؤه رؤبة من مرقده فيعتذر: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: دخل أبو نخيلة على عمر بن هبيرة، وعنده رؤبة قد قام من مجلسه فاضطجع خلف ستر، فأنشد أبو نخيلة مديحه له، ثم قال ابن هبيرة: يا أبا نخيلة، أي شيءأحدثت بعدنا? فاندفع ينشده أرجوزة لرؤبة، فلما توسطها كشف رؤبة الستر، وأخرج رأسه من تحته، فقال له: كيف أنت يا أبا نخيلة? فقطع إنشاده وقال: بخير أبا العجاج، فمعذرة إليك ما علمت بمكانك، فقال له رؤبة: ألم ننهك أن تعرض لشعري إذا كنت حاضرا، فإذا ما رغبت فشأنك به فضحك أبو نخيلة، وقال: هل أنا إلا حسنة من حسناتك، وتابع لك، وحامل عنك? فعاد رؤبة إلى موضعه فاضطجع، ولم يراجعه حرفا. والله أعلم.
يمدح ثم لا يرضى الجائزة فيهجو، ثم يزاد فيمدح: أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة: أن أبا نخيلة قدم على المهاجر بن عبد الله الكلابي -وكان أبو نخيلة أشبه خلق الله بو وجها وجسما وقامة، لا يكاد الناظر إلى أحدهما أن يفرق بينه وبين الآخر- فدخل عليه فأنشده قوله فيه:
يا دار أم مالك ألا اسـلـمـي على التنائي من مقام وانعمـي
كيف أنا إن أنت لم تكـلـمـي بالوحي أو كيف بأن تجمجمي
تقول لي بنتي مـلام الـلـوم يا أبتا إنك يومـا مـؤتـمـي
فقلت كلا فاعلمي ثم اعلـمـي أني لميقات كتاب مـحـكـم
لو كنت في ظلمة شعب مظلم أو في السماء أرتقي بسـلـم
لا نصب مقداري إلى مجرنثمي إني ورب الراقصات الرسـم
ورب حوض زمـزم وزمـزم لأستبين الخير عند مقـدمـي
صفحة : 2328
وعند ترحالي عن مـخـيمـي على ابن عبد الله قرم الأقـرم
فإنني بالـعـلـم ذو تـرسـم لم أدر ما مهاجر الـتـكـرم
حتى تبينت قضـايا الـغـشـم مهاجر يا ذا النوال الخضـرم
أنت إذا انتجعت خير مغـنـم مشترك النائل جـم الأنـعـم
ولتميم منك خـير مـقـسـم إذا التقوا شتى معا كالـهـيم
قد علم الشأم وكـل مـوسـم أنك تحلو لي كحلو المعـجـم
طورا وطورا أنت مثل العلقم قال: فأمر له المهاجر بناقة، فتركها ومضى مغضبا، وقال يهجوه:
إن الكلابي اللـئيم الأثـر مـا أعطى على المدحة نابا عرزما
ما جبر العظم ولكن تمـمـا فبلغ ذلك المهاجر، فبعث فترضاه، وقام في أمره بما يحب، ووصله، فقال له أبو نخيلة: هذه صلة المديح، فأين صلة الشبه? فإن التشابه في الناس نسب، فوصله حتى أرضاه، فلم يزل يمدحه بعد ذلك حتى مات، ورثاه بعد وفاته فقال:
خليلي مالـي بـالـيمـامة مـقـعـد ولا قرة للعين بـعـد الـمـهـاجـر
مضى ما مضى من صالح العيش فاربعا على ابن سبيل مزمع البـين عـابـر
فإن تك فـي مـلـحـودة يا بـن وائل فقد كنت زين الوفد زين الـمـنـابـر
وقد كنت لولا سلك الـسـيف لـم ينـم مقيم ولم تأمن سـبـيل الـمـسـافـر
لعز على الـحـيين قـيس وخـنـدق تبكـي عـلـي والـولـيد وجـابـر
هوى قمر من بـينـهـم فـكـأنـمـا هوى البدر من بين النجوم الـزواهـر يهجو أخته لأنها خاصمته في مال لها: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قالك تزوجت أخت أبي نخيلة برجل يقال له ميار ، وكان أبو نخيلة يقوم بمالها مع ماله، ويرعى سوامها مع سوامه، ويستبد عليها بأكثر منافعها، فخاصمته يوما من وراء خدرها في ذلك، فأنشأ يقول:
أظل أرعى وتـرا هـزينـا ململما ترى له غـصـونـا
ذا أبن مقومـا عـثـنـونـا يطعن طعنا يقضيب الوتينـا
ويهتك الأعفـاج والـربـينـا يذهب مـيار وتـقـعـدينـا
وتـفـسـدين أو تـبـذرينـا وتمنحين اسـتـك آخـرينـا
أير الحمار في است هذا دينا يطلق امرأته لأنها ولدت بنتا، ثم يراجعها ويرق للبنت: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: تزوج أبو نخيلة امرأة من عشيرته، فولدت له بنتا، فغمه ذلك، فطلقها تطليقة ثم ندم، وعاتبه قومه فراجعها. فبينما هو في بيته يوما إذ سمع صوت ابنته وأمها تلاعبها، فحركه ذلك ورق لها، فقام إليها فأخذها، وجعل ينزيها ويقول:
يا بنت من لم يك يهوى بنتـا ما كنت إلا خمسة أو ستـا
حتى حللت في الحشى وحتى فتت قلبي من جوى فانفتـا
لأنت خير من غـلام أنـتـا يصبح مخمورا ويمسي سبتا يسأل المهدي زائرا أي النساء أحب إليه فيفضل التي وصفها أبو نخيلة: أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثنا أبو هفان قال: حدثني أصحابنا الأهتميون قالوا: دخل عقال بن شبة المجاشعي على المهدي فقال له: أيا أبا الشيظم، ما بقي من حبك بنات آدم? وما يعجبك منهن ? التي عصبت عصب الجان ، وجدلت جدل العنان، واهتزت اهتزاز البان، أم التي بدنت فعظمت وكملت فتمت? فقال: يا أمير المؤمنين أحبهما إلي التي وصفها أبو نخيلة، فإنه كانت له جارية صغيرة وهبها له عمك أبو العباس السفاح، فكان إذا غشيها صغرت عنه، وقلت تحته، فقال:
إني وجدت الكذنا ذنوكا غير منيك فابغني منيكا
شيئا إذا حركته تحركا قال، فوهب له المهدي جارية كاملة فائقة متأدبلة ربعة ، فلما أصبح عقال غدا على المهدي متشكرا، فخرج المهدي وفي يده مشط يسرح به لحيته وهو يضحك، فدعا له عقال وقال له: يا أمير المؤمنين مم تضحك? أدام الله سرورك. قال: يا أبا الشيظم، إني اغتسلت آنفا من شيء إذا حركته تحرك، وذكرت قولك الآن لما رآيتك، فضحكت.
يرثي ممدوحا له كان يكثره بره:
صفحة : 2329
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثني أحمد بن القاسم العجلي البرتي قال: حدثني أبو هفان قال: حدثتني رقية بنت حمل عن أبيها قال: كان أبو نخيلة مداحا للجنيد بن عبد الرحمن المري، وكان الجنيد له محبا، يكثر رفده ويقرب مجلسه، ويحسن ، إليه فلما مات الجنيد قال أبو نخيلة يرثيه:
لعمري لئن ركب الجنيد تحمـلـوا إلى الشأم من مر وراحت ركائبـه
لقد غادر الركب الشآمون خلفـهـم فتى غطفانيا يعـلـل جـانـبـه
فتى كان يسرى للعـدو كـأنـمـا سروب القطا في كل يوم كتائبـه
وكان كأن البـدر تـحـت لـوائه إذا راح في جيش وراحت عصائبه تلومه امرأة له على شدة حبه لابنه فيمدحها فتسكت عنه: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثني أحمد بن القاسم قال: حدثني أبو هفان عن عبد الله بن داود عن علي بن أبي نخيلة ، قال: كان أبي شديد الرقة علي معجبا بي، فكان إذا أكل خصني بأطيب الطعام، وإذا نام أضجعني إلى جنبه، فغاظ ذلك امرأته أم حماد الحنفية، فجعلت تعذله وتؤنبه، وتقول: قد أقمت في منزلك، وعكفت على هذا الصبي، وتركت الطلب لولدك وعيالك. فقال أبي في ذلك:
ولولا شهوتي شفتـي عـلـي ربعت على الصحابة والركاب
ولكن الوسـائل مـن عـلـي خلصن إلى الفؤاد من الحجاب قال، فازدادت غضبا، فقال لها:
وليس كأم حـمـاد خـلـيل إذا ما الأمر جل عن الخطاب
منعمة أرى فتقـر عـينـي وتكفيني خلائقها عـتـابـي فرضيت وأمسكت عنا.
يمدح ببيت على مثال بيت تمناه الممدوح: حدثني عمي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني سهل بن زكريا قال: حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال: قال أبان بن عبد الله النميري يوما لجلسائه -وفيهم أبو نخيلة-: والله لوددت أنه قيل في ما قيل في جرير بن عبد الله:
لولا جرير هلكت بجيله نعم الفتى وبئست القبيله وأنني أثبت على ذلك مالي كله، فقال له أبو نخيلة: هلم الثواب، فقد حضرني من ذلك ما تريد، فأمر له بدراهم، فقال: اسمع يا طالب ما يجزيه:
لولا أبان هلكت نـمـير نعم الفتى وليس فيهم خير يستأذن على أبي جعفر فلا يصل، ويقول في ذلك شعرا: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا سلمة بن خالد المازني عن أبي عبيدة قال: وقف أبو نخيلة على باب أبي جعفر واستأذن، فلم يصل، وجعلت الخراسانية تدخل وتخرج، فتهزأ به، فيرون شيخا أعرابيا جلفا فيبعثون به، فقال له رجل عرفه: كيف أنت أبا نخيلة? فأنشأ يقول:
أصبحت لا يملك بعضي بعضا أشكو العروق الآبضات أبضا
كما تشكي الأرحبي الغرضـا كأنما كان شبابـي قـرضـا فقال له الرجل: وكيف ترى ما أنت فيه في هذه الدولة? فقال:
أكثر خلق الله مـن لا يدرى من أي خلق الله حين يلقى
وحلة تنشـر ثـم تـطـوى وطيلسان يشترى فيغـلـى
لعبد عبد أو لمولى مـولـى يا ويح بيت المال ماذا يلقى يسأل عن ممدوح له فيعدد هباته له: وبهذا الإسناد عن أبي عبيدة أن أبا نخيلة قدم على أبان بن الوليد فامتدحه، فكساه ووهب له جارية جميلة، فخرج يوما من عنده، فلقيه رجل من قومه، فقيل له: كيف وجدت أبان بن الوليد يا أبا نخيلة? فقال:
أكثر واللـه أبـان مـيري ومن أبان الخير كل خيري
ثوب لجلدي وحر لأيري نسخت من كتاب اليوسفي يصاب بتخمة: حدثني خالد بن حميد عن أبي عمرو الشيباني قال: أقحمت السنة أبا نخيلة فأتى القعقاع بن ضرار -وهو يومئذ على شرطة الكوفة- فمدحه، وأنزله القعقاع بن ضرار وابنيه وعبديه وركابهم في دار، وأقام لهم الأنزال، ولركابهم العلوفة.
وكان طباخ القعقاع يجيئهم في كل يوم بأربع قصاع، فيها ألوان مطبوخة من لحوم الغنم، ويأتيهم بتمر وزبد، فقال له يوما القعقاع: كيف منزلك أبا نخيلة? فقال:
ما زال عنا قصعات أربع شهرين دأبا ذود ورجـع
عبداي وابناي وشيخ يرفع كما يقوم الجمل المطبع
صفحة : 2330
قال: وكان أبو نخيلة يكثر الأكل فأصابته تخمة، فدخل على القعقاع فسأله: كيف أصبحت أبا نخيلة? فقال: أصبحت والله بشما أمرت خبازك فأتاني بهذا الرقاق الذي كأنه الثياب المبلولة، قد غمسه في الشحم غمسا، وأتبعه بزيد ، كرأس النعجة الخرسية ، وتمر كأنه عنز رابضة. إذا أخذت التمرة من موضعها تبعها من الرب كالسلوك الممدودة، فأمنعت في ذلك، وأعجبني حتى بشمت، فهل من أقداح جياد? وبين يدي القعقاع حجام واقف وسفرة موضوعة فيها المواسي، فإذا أتي بشراب النبيذ حلق رؤوسهم ولحاهم. فقال له القعقاع: أتطلب مني النبيذ وأنت ترى ما أصنع بشرابه? عليك بالعسل والماء البارد، فوثب ثم قال:
قد علم المظل والـمـبـيت أني من القعقاع فيما شـيت
إذا أتـت مــائدة أتـــيت ببدع لسـت بـهـا غـذيت
وليت فاستشفعت واستعـديت كأنني كنـت الـذي ولـيت
ولو تمنيت الـذي أعـطـيت ما ازددت شيئا فوق ما لقيت
أيا بن بيت دونـه الـبـيوت أقصر فقد فوق القرى قريت
ما بين شرابي عسل منعـوت ولا فـرات صـرد بـيوت
لكني في الـنـوم قـد أريت رطل نبيذ مخفس سـقـيت
صلبا إذا جـاذبـتـه رويت فغمزه على إسماعيل ابن أخيه، وأومأ إلى إسماعيل، فأخذ بيده ومضى به إلى منزله، فسقاه حتى صلح.
يمدح السفاح ويغضب في مدحه بعض أهل المجلس فيحرض عليه السفاح: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا قعنب بن المحرز وأبو عمرو الباهلي قالا: حدثنا الأصمعي قال: دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح، وعنده أبو صفوان إسحاب بن مسلم العقيلي، فأنشده قوله:
صادتك يوم الرملتين شعفر وقد يصيد القانص المزعفر
يا صورة حسنها المصـور للريم منها جيدها والمحجر يقول فيها في مدح أبي العباس:
حتى إذا ما الأوصياء عسكروا وقام من تبر النببي الجوهـر
ومن بني العباس نبع أصفـر ينميه فرع طيب وعنـصـر
أقبل بالناس الهوى المستبهـر وصاح في الليل نهار أنـور
أنا الذي لو قيل إني أشـعـر جلي الضباب الرجز المخبر
لما مضت لي أشهر وأشهـر قلت لنفس تزدهى فتصبـر
لا يستخفنك ركـب يصـدر لا منجد يمضي ولا مغـور
وخالفي الأنباء فهي المحشـر أو يسمع الخليفة المطـهـر
مني فإني كل جنح أحـضـر وإن بالأنبار غيثـا يهـمـر
والغيث يرجى والديار تنضر ما كان إلا أن أتاها العسكـر
حتى زهاما مسجد ومنـبـر لم يبق من مروان عين تنظر
لا غائب ولا أناس حـضـر هيهات أودى المنعم المعقـر
وأمست الأنبار دارا تعـمـر وخربت مـن الـشـآم ادور
حمص وباب التبن والموقـر ودمرت بعد امتناع تـدمـر
وواسط لم يبق إلا القـرقـر منها وإلا الدير بان الأخضر )ومنها(
أين أبو الورد وأين الكوثر أبو الورد بن هذيل بن زفر، وكوثر بن الأسود صاحب شرطة مروان .
وأين مروان وأين الأشقر وأين فل لم يفت محـير
وأين عاديكم المجمـهـر وعامر وعامر وأعصر? -قال: يعني عامر بن صعصعة، وعامر بن ربيعة، وأعصر باهلة وغنى- قال: فغضب إسحاق بن مسلم، وقال: هؤلاء كلهم في حر أمك أبا نخيلة، فأنكر الخليفة عليه ذلك، فقال: إني والله يا أمير المؤمنين قد سمعت منه فيكم شرا من هذا في مجالس بني مروان. وما له عهد، وما هو بوفي ولا كريم. فبان ذلك في وجه أبي العباس، وقال له قولا ضعيفا: إن التوبة تغسل الحوبة، والحسنات يذهبن السيئات، وهذا شاعر بني هاشم. وقام فدخل، وانصرف الناس، ولم يعط أبا نخيلة شيئا.
يدعو في رجز له إلى تولية المهدي العهد فيجيزه المنصور: وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: حدثني أبي عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث قال:
صفحة : 2331
بينا أنا أسير مع أبي الفضل يعني -سليمان بن عبد الله- وحدي بين الحيرة والكوفة - وهو يريد المنصور، وقد هم بتولية المهدي العهد وخلع عيسى بن موسى، وهو يروض ذلك- إذا هو يأبى نخيلة الشاعر، ومعه ابنان له وعبد، وهم يحملون متاعه. فقال له: يا أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى? قال: كنت نازلا على القعقاع بن معبد أحد ولد معبد زرارة، فقلت شعرا فيما عزم عليه أمير المؤمنين من تولية المهدي العهد ونزع عيسى بن موسى، فسألني التحول عنه، لئلا يناله مكروه من عيسى إذ كان صنيعته، فقال سليمان: يا عبد الله، اذهب بأب نخيلة فأنزله منزلا وأحسن نزله وبره ، ففعلت. ودخل سليمان إلى المنصور فأخبره الخبر، فلما كان يوم البيعة جاء بأبي نخيلة فأدخله على المنصور، فقام فأنشد الشعر على رؤوس الناس، وهي قصيدته التي يقول فيها:
بل يا أمين الواحد الـمـوحـد إن الذي ولاك رب المسجـد
ليس ولي عهدنـا بـالأسـعـد عيسى فزحلفها إلى محـمـد
من عند عيسى معهدا عن معهد حتى تـؤدى مـن يد إلـى يد قال: فأعطاه المنصور عشرة آلاف درهم، قال: وبايع لمحمد بالعهد، فانصرف عيسى بن موسى إلى منزله، قال: فحدثني داود بن عيسى بن موسى قال: جمعنا أبي فقال: يا بني، قد رأيتم ما جرى، فأيما أحب إليكم: أن يقال لكم: ابني المخلوع، أو يقال لكم: يا بني المفقود? فقلنا: لا، بل يا بني المخلوع. فقال: وفقتم بني. وأول هذه الأرجوزة التي هذه الأبيات منها:
لم ينسني يا بـنة آل مـعـبـد ذكراك تكرار الليالي الـعـود
ولا ذوات العصـب الـمـورد ولو طلبـن الـود بـالـتـودد
ورحن في الدر وفي الزبرجـد هيهات منهن وإن لم تعـهـدي
نجدية ذات مـعـان مـنـجـد كأن رياها بعـيد الـمـرقـد
ريا الخزامى في ثرى جعد ندى كيف التصابي فعل من لم يهتد
وقد علتـنـي درة بـادي بـدي ورثية تنهض فـي تـشـددي
بعد انتهاضي في الشباب الأملد يقول فيها:
إلى أمير المؤمنين فاعـمـد إلى الذي يندى ولا يندى ندي
سيري إلى بحر البحار المزبد إلى الذي إن نفدت لم ينفـد
أو ثمدت أشراعها لم يثمـد ويقول في ذكر البيعة لمحمد بعد الأبيات التي مضت في صدر الخبر:
فقد رضينا بالغـلام الأمـرد وقد فرغنا غير أن لم نشهـد
وغير أن العـقـد لـم يؤكـد فلو سمعنا قولك امدد امـدد
كانت لنا كزعقة الورد الصدى فناد للبيعة جمعا نـحـشـد
في يومنا الحاضر هذا أو غد واصنع كما شـئت ورد يردد
ورده مـنـك رداء يرتــد فهو رداء الساق المـقـلـد
وكان يروي أنهـا كـأن قـد عادت ولو قد نقلت لم تـردد
أقول في كرى أحاديث الغـد لله دري من أخ ومـنـشـد
لو نلت حظ الحبشي الأسود -يعني أبا دلامة.
خبر آخر من أرجوزة العهد للمهدي: فأخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا أحمد بن الحارث قال: حدثنا المدائني -أن أبا نخيلة أظهر هذه القصيدة التي رواها الخدم والخاصة، وتناشدها العامة، فبلغت المنصور فدعا به، وعيسى بن منصور عنده جالس عن يمينه، فأنشده إياها، وأنصت له حتى سمعها إلى آخرها. قال: أبو نخيلة: فجعلت أرى فيه السرور، ثم قال لعيسى بن موسى: ولئن كان هذا عن رأيك لقد سررت عمك ، وبلغت من مرضاته أقصى ما يبلغه الولد البار السار. فقال عيسى: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. قال: أبو نخيلة: فلما خرجت لحقني عقال لن شبة فقال: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين، ولئن تم الأمر فلعمري لتصبين خيرا، ولئن لم يتم فابتغ نفقا في الأرض، أو سلما في السماء. فقلت له:
علقت معالقها وصر الجندب خبر ثالث عن هذه الأرجوزة: قال المدائني: وحدثني بعض موالي المنصور قال: لما أراد المنصور أن يعقد للمهدي أحب أن تقول الشعراء في ذلك، فحدثني عبد الجبار بن عبيد الله الحماني قال:
صفحة : 2332
حدثني أبو نخيلة قال: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرا لا أصل إليه، فقال لي عبد الله بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يريد أن يقدم المهدي بين يدي عيسى بن موسى، فلو قلت شيئا على ما يريد، فقلت:
ماذا على شحط النوى عنـاكـا أم ما مرى دمعك من ذكراكا?
وقد تبكيت فمـا أبـكـاكـا وذكر أرجوزة طويلة يقول فيها:
خلـيفة الـلـه وأنـا ذاكـا أسند إلى محمد عـصـاكـا
فأحفظ الناس لهـا أدنـاكـا وابنك ما استكفيته كفـاكـا
وكلنا مـنـتـظـر لـذاكـا لو قلت هاتوا قلت هاك هاكا المنصور يحذره عيسى بن موسى وعيسى يوكل به من يقتله: قال: فأنشدته إياها، فوصلني بألفي درهم، وقال لي: احذر عيسى بن موسى، فإني أخافه عليك أن يغتالك. قال المدائني: وخلع أبو جعفر عيسى بن موسى، فبعث عيسى في طلب أبي نخيلة، فهرب منه، وخرج يريد خراسان، فبلغ عيسى خبره، فجرد خلفه مولى له يقال له: قطري، معه عدة من مواليه، وقال له: نفسك نفسك أن يفوتك أبو نخيلة، فخرج في طلبه مغذا للسير، فلحقه في طريقه إلى خراسان، فقتله وسلخ وجهه.
ونسخت من كتاب القاسم بن يوسف عن خالد بن حمل أن علي بن أبي نخيلة حدثه أن المنصور أمر أبا نخيلة أن يهرب إلى خراسان، فأخذه قطري وكتفه فأضجعه، فلما وضع السكين على أوداجه قال: إيه يا بن اللخناء، ألست القائل:
علقت معالقها وصر الجندب الآن صر جندبك. فقال: لعن الله ذاك جندبا، ما كان أشأم ذكره ثم ذبحه، قطري، وسلخ وجهه، وألقى جسمه إلى النسور، وأقسم لا يريم مكانه حتى تمزق السباع والطيور لحمه، فأقام حتى لم يبق منه إلا عظامه، ثم انصرف.
أبو الأبرش يشمت به لمهاجات كانت بينهما: أخبرنا جعفر بن قدامة قال: حدثنا أبو حاتم السجستاني قال: حدثني الأصمعي عن سعيد بن سلم عن أبيه قال: قلت لأبي الأبرش: مات أبو نخيلة، قال: حتف أنفه? قلت: لا، بل اغتيل فقتل. فقال: الحمد لله الذي قطع قلبه، وقبض روحه، وسفك دمه، وأراخى منه، وأحياني بعده.
وكان أبو نخيلة يهاجي الأبرش، فغلبه أبو نخيلة.
صوت
ولقد دخلت على الفـتـا ة الخدر في اليوم المطير
فدفعنهـا فـتـدافـعـت مشي القطاة على الغدير
فلثمتها فـتـنـفـسـت كتنفس الظبي البـهـير الشعر للمنخل اليشكري، والغناء لإبراهيم، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وأحمد المكي.
الجزء الحادي والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار المنخل ونسبه
هو المنخل بن عمرو - ويقال: المنخل بن مسعود - بن أفلت بن عمرو بن كعب بن سواءة بن غنم بن حبيب بن يشكر بن بكر بن وائل. وذكر أبو محلم النسابة: أنه المدخل بن مسعود بن أفلت بن قط بن سوءة بن مالك بن ثعلبة بن حبيب بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر. وقال ابن الأعرابي: هو المنخل بن الحارث بن قيس بن عمرو بن ثعلبة بن عدي بن جشم بن حبيب بن كعب بن يشكر.
يتهمه النعمان بالمتجردة فيقتله: شاعر مقل من شعراء الجاهلية، وكان النعمان بن المنذر قد اتهمه بامرأته المتجردة ت وقيل: بل وجده معها، وقيل: بل سعي به إليه في أمرها فقتله، وقيل: بل حبسه، ثم غمض خبره، فلم تعلم له حقيقة إلى اليوم. فيقال: إنه دفنه حيا، ويقال: إنه غرقه. والعرب تضرب به المثل كما تضربه بالقارظ العنزي وأشباهه ممن هلك ولم يعلم له خبر. وقال ذو الرمة:
تقارب حتى تطمع التابع الصبا وليست بأدنى من إياب المنخل وقال النمر بن تولب:
وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم تلاقونه حتى يئوب المنـخـل تفضيل سبب قتله: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال أخبرني أحمد بن زهير قال: أخبرني عبد الله بن كريم قال: أخبرني أبو عمرو الشيباني قال:
صفحة : 2333
كان سبب قتل المنخل أن المتجردة - واسمها ماوية وقيل: هند بنت المنذر بن الأسود الكلبية - كانت عند ابن عم لها يقال له: حلم، وهو الأسود ب المنذر بن حارثة الكلبي، وكانت أجمل أهل زمانها، فرآها المنذر بن المنذر الملك اللخمي فعشقها، فجلس ذات يوم على شرابه ومعه حلم وامرأته المتجردة، فقال المنذر لحلم: إنه لقبيح بالرجل أن يقيم على المرأة زمانا طويلا حتى لا يبقى في رأسه ولا لحيته شعرة بيضاء إلا عرفتها، فهل لك أن تطلق امرأتك المتجردة وأطلق امرأتي سلمى? قال: نعم، فأخذ كل واحد منهما على صاحبه عهدا. قال: فطلق المنذر امرأته سلمى، وطلق حلم امرأته المتجردة، فتزوجها المنذر ولم يطلق لسلمى أن تتزوج حلما، وحجبها - وهي أم ابنه النعمان بن المنذر - فقال النابغة الذيباني يذكر ذلك:
قد خادعوا حلما عن حرة خرد حتى تبطنها الخداع ذو الحلم قال: ثم مات المنذر بن المنذر، فتزوجها بعده النعمان بن المنذر ابه، وكان قصيرا دميما أبرش، وكان ممن يجالسه ويشرب معه النابغة الذبياني - وكان جميلا عفيفا - والمنخل اليشكري - وكان جميلا - وكان يتهم بالمتجردة. فأما النابغة فإن النعمان أمره بوصفها فقال قصيدته التي أولها:
من آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود ووصفها فأفحش فقال:
وإذا طعنت طعنت في مشتهـدف رابي المجسة بالعبير مـقـرمـد
وإذا نزعت نزعت معن مستحصف نزع الحزور بالرشاء المحـصـد فغار المنخل من ذلك، وقال: هذه صفة معاين، فهم النعمان بقتل النابغة حتى هرب منه، وخلا المنخل بمجالسته، وكان يهوي المتجردة وتهواه، وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل، وكانت العرب تقول: إنهما منه. فخرج النعمان لبعض غزواته - قال ابن الأعرابي: بل خرج متصيدا - فبعثت المتجردة إلى المنخل فأدخلته قبتها، وجعلا يشربان، فأخذت خلخالها وجعلته في رجله، وأسدلت شعرها فشدت خلخالها إلى خلخاله الذي في رجله من شدة إعجابها به. ودخل النعمان بعقب ذلك فرآها على تلك الحال، فأخذه فدفعه إلى رجل من حرسه من تغلب يقال له: عكب، وأمره بقتله، فعذبه حتى قتله.
يحرض على عكب قاتله: فقال المنخل يحرض قومه عليه:
ألا من مبلغ الحيين عنـي بأن القوم قد قتلـوا أبـيا
فإن لم تأروا لي من عكب فلا رويتم أبـدا صـديا وقال أيضا:
ظل وشط الندي قتلى بلا جر م وقومي ينتجون السخـالا من شعره في المتجردة: وقال في المتجردة:
ديار للتي قتلتك غصـبـا بلا سيف يعد ولا نبـال
بطرف ميت في عين حي له خبل يزيد على الخبال وقال أيضا:
ولـقـد دخـلـت عـلـى الـفـتـا ة الخـدر فـي الـيوم الـمـطـير
الـكـاعـب الـخـنـسـاء تـــر فل في الدمـقـس وفـي الـحـرير
دافـعـتـهـا فـتـدافـــعـــت مشـى الـقـطـاة إلـى الـغـدير
ولـثـمـتـهـا فـتـنـفـســـت كتـنـفـس الـظـبـي الـبـهـير
ورنـت وقـالــت يامـــنـــخ ل هل بجـسـمـك مـن فـتـور?
ما مـس جـسـمـي غـير حــب ك فـاهـدئي عـنـي وســـيري
يا هـنـد هــل مـــن نـــائل يا هـنـد لـلـعـانـي الأســير?
وأحـبـهـا وتـحــبـــنـــي ويحـب نـاقـتـهـا بـعـــيري
ولـقـد شـربـت مـن الـمـــدا مة بـالـكـبـير وبـالـصـغــير
فإذا سـكـرت فـــإنـــنـــي رب الـخـورنـق والـســـرير
وإذا صـحـوت فــإنـــنـــي رب الـشـويهة والـبـــعـــير
يا رب يوم للمنخل قد لها فيه قصير رواية أخرى لخبر المنخل مع المتجردة: وأخبرني بخبر المنخل مع المتجردة أيضا علي بن سليمان الأخفش قال: أخبرني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال:
صفحة : 2334
كانت المتجردة امرأة النعمان فاجرة، وكانت تتهم بالمنخل، وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل، فكان يقال: إنهما منه، وكان جميلا وسيما، وكان النعمان أحمر أبرش قصيرا دميما. وكان للنعمان يوم يركب فيه يطليل المكث، وكان المنخل من ندمائه لا يفارقه، وكان يأتي المتجردة في ذلك اليوم الذي يركب فيه النعمان فيطيل عندها، حتى إذا جاء النعمان آذنتها بمجيئه وليدة لها موكلة بذلك فتخرجه.
فركب النعمان ذات يوم وأتاها المنخل كما كان يأتيها فلاعبته، وأخذت قيدا، فجعلت إحدى حلقتيه في رجله والأخرى في رجلها، وغفلت الوليدة عن ترقب النعمان؛ لأن القوت الذي يجيء فيه لم يكن قرب بعد، وأقبل النعمان حينئذ ولم يطل في مكثه كما كان يفعل، فدخل إلى المتجردة، فوجدها مع المنخل قد قيدت رجلها، ورجله بالقيد، فأخذه النعمان فدفعه إلى عكب صاحب سجنه ليعذبه - وعكب رجل من لخم - فعذبه حتى قتله. وقال المنخل قبل أن يموت هذه الأبيات، وبعث بها إلى ابنيه:
ألا من مبلغ الحرين عنـي بأن القوم قد قتلـوا أبـيا
وإن لم تثأروا لي من عكب فلا أرويتما أبـدا صـديا
يطوف بي عكب في معد ويطعن بالملة في قـفـيا الأصح أن قاتله هو النعمان لا عمرو بن هند: قال ابن حبيب: وزعم ابن الجصاص أن عمرو بن هند هو قاتل المنخل، والقول الأول أصح.
قصيدته في المتجردة: وهذه القصيدة التي منها الغناء يقولها في المتجردة، وأولها قوله:
إن كنت عاذلتي فـسـيري نحو العراق ولا تحـوري
لا تسألـي عـن جـل مـا لي واذكري كرمي وخيري
وإذا الـرياح تـنـاوحـت بجوانب البيت الـكـسـير
ألفيتـنـي هـش الـنـدي بمر قدحي أو شـجـيري الشجير: القدح الذي لم يصلح حسنا، ويقال: بل هو القدح العارية - .
ونـهـى أبـو أفـعـى فـــقـــل دنـي أبـو أفـعـــى جـــريري
وجـــلالة خـــطـــــــارة هوجـاء جـائلة الـضـــفـــور
تعـدو بـأشـعـث قـــد وهـــى سربـالـه بـاقـي الـمــســـير
فضـلا عـلـى ظـهـر الـطــري ق إلـيك عـلـقـمة بــن صـــير
الـواهـب الـكـوم الـصـــفـــا يا والأوانـس فــي الـــخـــدور
يصـفــيك حـــين تـــجـــيئه بالـعـصـب والـحـلـي الـكـثـير
وفـــوارس كـــأوار حـــــر الـنـار أحــلاس الـــذكـــور
شدوا دوابـــر بـــيضـــهـــم في كـل مـحـكـمة الـقــتـــير
فاسـتـلأمـوا وتـلـــبـــبـــوا إن الـتـلـبـب لـلـمـــغـــير
وعـلـى الـجـياد الـمـضـمـــرا ت فـوارس مـثـل الـصـقـــور
يخـرجـن مـن خـلـل الـغـبـــا ر يجـفـن بـالـنـعـم الـكـثــير
فشـفـيت نـفـســـي مـــن أول ئك والـفـوائح بـالــعـــبـــير
يرفـلـن فـي الـمـسـك الـذكــي وصـائك كـدم الـــنـــحـــير
يعـكـفـن مـثـل أســاود الـــت نوم لـم تـعـــكـــف لـــزور
ولـقـد دخـلـت عـلـى الـفـتــا ة الـخـدر فـي الـيوم الـمـطــير
الـكـاعـب الـخـنـســاء تـــر فل في الـدمـقـس وفـي الـحـرير
فدفـعـتـهـا فـتــدافـــعـــت مشـي الـقـطـاة إلـى الـغـــدير
ولـثـمـتـهـا فـتـنـفــســـت كتـنـفـس الـظـبـي الـبـهــير
فدنـت وقـالـــت يا مـــنـــخ ل مـا بـجـسـمـك مـن حـرور?
ما شـف جـسـمـي غـير حـــب ك فـاهـدئي عـنــي وســـيري
ولـقـد شـربـت مـن الــمـــدا مة بـالـصـغـير وبـالـكـبـــير
ولـقـد شـربـت الـخـمـر بـــال عبـد الـصـحـيح وبــالأســـير
فإذا سـكــرت فـــإنـــنـــي رب الـخـورنـق والـــســـدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
يا رب يوم للمنخ ل قـد لـهـا فــيه قـــصـــير
يا هـنـد هـــل مـــن نـــائل يا هـنـد لـلـعـانــي الأســـير ومن الناس من يزيد في هذه القصيدة:
وأحبها وتحـبـنـي ويحب ناقتها بعيري ولم أجده في رواية صحيحة.
صوت
لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو قبل الكتابـا
أناشده فعرض في إبـاء فلا وأبي كلاب ما أصابا
صفحة : 2335
الشعر لأمية بن الأسكر الليثي، والغناء لعبد الله بن طاهر، رمل بالوسطى. صنعه ونسبه إلى لميس جاريته، وذكر الهشامي أن اللحن لها، وذكره عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في جامع أغانيهم ووقع إلي، فقال: الغناء فيه للدار الكبيرة، وكذلك كان يكنى عن أبيه، وعن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وجواريهم، ويكنى عن نفسه وجاريته شاجي وما يصنع في دور إخوته بالدار الصغيرة.
أخبار أمية بن الأسكر ونسبه
نسبه
هو أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الموت بن زهرة بن زبينة بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
شاعر فارس مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان من سادات قومه وفرسانهم، وله أيام مأثورة مذكورة.
عمر يستعمل ابنه كلابا على الأبلة: وكان له أخ يقال له: أبو لاعق الدم، وكان من فرسان قومه وشعرائهم، وابنه كلاب بن أمية أيضا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم مع أبيه، ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوه فيه شعرا، ذكر أبو عمرو الشيباني أنه هذا الشعر، وهو خطأ، إنما خاطبه بهذا الشعر لما غزا مع أهل العراق لقتال الفرس، وخبره في ذلك يذكر بعد هذا.
قال أبو عمرو في خبره: فأمره صلى الله عليه وسلم بصلة أبيه وملازمته طاعته.
وكان عمر بن الخطاب استعمل كلابا على الأبلة، فكان أبواه ينتابانه، يأتيه أحدهما في كل سنة، ثم أبطأ عليه وكبرا فضعفا عن لقائه، فقال أبياتا وأنشدها عمر، فرق له ورده إليهما، فلم يلبث معهما إلا مدة حتى نهشته أفعى؛ فمات وهذا أيضا وهم من أبي عمرو، وقد عاش كلاب حتى ولي لزياد الأبلة، ثم استعفى، أعفاه. وسأذكر خبره في ذلك وغيره ها هنا إن شاء الله تعالى: شعره لابنه كلاب لما أغزاه عمر وطالت غيبته عنه: فأما خبره مع عمر فإن الحسن بن علي أخبرني به، قال: حدثني اعلحارث بن محمد قال: حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي عن الزبيري عن عروة بن الزبير قال: هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب، فأقام بها مدة، ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فسألهما: أي الأعمال أفضل في الإسلام? فقالا: الجهاد، فسأل عمر فأغزاه في جيش، وكان أبوه قد كبر وضعف، فلما طالت غيبة كلاب عنه قال:
لمن شيخان قد نشدا كلابـا كتاب الله إن قبل الكتابـا
أناديه فيعرض فـي إبـاء فلا وأبي كلاب ما أصابا
إذا شجعت حمامة بطن واد إلى بيضاتها دعرا كلابـا
أتاه مهاجران تكـنـفـاه ففارق شيخه خطئا وخابا
تركت أباك مرعـشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابـا
تمسح مهره شفقا عـلـيه وتجنبه أباعرها الصعابـا قال: تجنبه وتجنبه واحد، من قول الله عز وجل: )واجنبني وبني أن نعبد الأصنام(. قال:
فإنك قد تركت أباك شيخا يطارق أينقا شزبا طرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يتبع السرابا ينشد عمر شعرا ليرد له كلابا فيبكي عمر رحمة له ويرده عليه: فبلغت أبياته عمر، فلم يردد كلابا وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعا عليه، ثم أتاه يوما وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير قـدر ولا تدرين عاذل ما ألاقـي
فإما كنت عاذلتـي فـردي كلابا إذ توجه لـلـعـراق
ولم أقض اللبانة من كـلاب غداة غدوأذن بـالـفـراق
فتى الفتيان في عسر ويسـر شديد الركن في يوم التلاقي
فلا وا ما بـالـيت وجـدي ولا شفقي عليك ولا اشتياقي
وإبقائي عليك إذا شـتـونـا وضمك تحت نحر واعتناقي
فلو فلق الفؤاد شـديد وجـد لهم سواد قلبي بـانـفـلاق
سأستعدي على الفاروق ربا له دفع الحجيج إلى بسـاق
وأدعو الله مجتهـدا عـلـيه ببطن الأخشبين إلى دفـاق
إن الفاروق لم يردد كـلابـا إلى شيخين هامهمـا زواق عمر يسأل كلابا عن مبلغ بره بأبيه فيصفه له:
صفحة : 2336
قال: فبكى عمر بكاء شديدا، وكتب برد كلاب إلى المدينة، فلما قدم دخل إليه، فقال: ما بلغ من برك بأبيك? قال: كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحتلب له فأسقيه.
عمر يرد كلابا عليه ويأمره أن يلزم أبويه: فبعث عمر إلى أمية من جاء به إليه، فأدخله يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى. فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب? قال: كما تراني يا أمير المؤمنين. قال: فهل لك من حاجة? قال: نعم، أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة، وأضمه ضمة قبل أن أموت. فبكى عمر، ثم قال: ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى. ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل، ويبعث إليه، بلبنها، ففعل فناوله عمر الإناء، وقال: دونك هذا يا أبا كلاب.
فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال: لعمر: والله يا أمير المؤمنين، إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء، فبكى عمر، وقال: هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به، فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله، وجعل عمر يبكي ومن حضره، وقال لكلاب: الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا، ثم شأنك بنفسك بعدهما، وأمر له بعطائه، وصرفه مع أبيه، فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه.
يخرجه قومه لأن إبله أصيبت بالهيام: ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري أن أمية كانت له إبل هائمة - أي أصابها الهيام وهو داء يصيب الإبل من العطش - فأخرجته بنو بكر مخافة أن يصيب إبلهم، فقال لهم: يا بن بكر، إنما هي ثلاث ليال: ليلة بالبقعاء وليلة بالفرع، وليلة بلقف في سامر من بكر، فلم ينفعه ذلك وأخرجوه، فأتى مزينة فأجاروه، وأقام عندهم إلى أن صحت إبله، وسكنت، فقال يمدح مزينة:
تكنفها الهيام وأخرجـوهـا فما تأوي إلى إبل صحـاح
فكان إلى مزينة منتهـاهـا على ما كان فيها من جناح
وما يكن الجناح فإن فـيهـا خلائق ينتمين إلى صـلاح
ويوما في بني ليث بن بكـر تراعى تحت قعقعة الرماح
فإما أصبحن شيخا كـبـيرا وراء الدار يثقلني سلاحي
فقد آتي الصريخ إذا دعاني على ذي منعة عتد وقـاح
وشر أخي مؤامرة خـذول على ما كان مؤتكـل ولاح شعره حين ضحك راع منه وقد عمر حتى خرف: أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو والشيباني عن أبيه، وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال: عمر أمية بن الأسكر عمرا طويلا حتى خرف، فكان ذات يوم جالسا في نادي قومه وهو يحدث نفسه، إذ نظر إلى راعي شأن لبعض قومه يتعجب منه، فقام لينهض فسقط على وجهه، فضحك الراعي منه، وأقبل ابناه إليه، فلما رآهما أنشأ يقول:
يا بني أمية إني عنكـمـا غـان وما الغنى غير أني مرعش فان
يا بني أمية إلا تحفظا كـبـري فإنما أنتما والـثـكـل سـيان
هل لكما في تراث تذهبان بـه إن التراث لهـيان بـن بـيان يقال: هيان بن بيان، وهي ترى للقريب والبعيد .
أصبحت هزءا لراعي الضأن يسخر بي ماذا يريبك منـي راعـي الـضـأن
أعجب لغيري إني تـابـع سـلـفـي أعمام مجـد وأجـدادي وإخـوانـي
وانعق بضأنك في أرض تطيف بـهـا بين الأساف وأنتـجـهـا بـجـلـذان جلذان: موضع بالطائف
ببلدة لا ينام الكالئان بـهـا ولا يقر بها أصحاب ألوان الإمام علي يتمثل بشعر له: وهذه الأبيات تمثل بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في خطبة له على المنبر بالكوفة.
حدثنا بها أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري، قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: قال عبد الله بن عدي بن الخيار:
صفحة : 2337
شهدت الحكمين، ثم أتيت الكوفة وكانت لي إلى علي رضي الله عنه حاجة، فدخلت عليه، فلما رآني قال: مرحبا بك يا بن أم قتال، أزائرا جئتنا أم لحاجة? فقلت: كل جاء بي، جئت لحاجة، وأحببت أن أجدد بك عهدا، وسألته عن حديث فحدثني على ألا أحدث به واحدا، فبينا أنا يوما بالمسجد في الكوفة إذا علي صلوات الله عليه متنكب قرنا له. فجعل يقول: الصلاة جامعة. وجلس على المنبر، فاجتمع الناس، وجاء الأشعث بن قيس فجللس إلى جانب المنبر. فلما اجتمع الناس، ورضي منهم قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تزعمون أن عندي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند الناس، ألا وإنه ليس عندي إلا ما في قرني هذا، ثم نكت كنانته، فأخرج منها صحيفة فيها: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم. من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . فقال له الأشعث بن قيس: هذه والله عليك لا لك، دعها تترحل، فخفض علي - صلوات الله عليه - إليه بصره، وقال: ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين، حائك ابن حائك، منافق ابن منافق، كافر ابن كافر. والله لقد أسرك الإسلام مرة والكفر مرة، فما فداك من واحد منهما حسبك ولا مالك، ثم رفع إلي بصره فقال: يا عبيد الله:
أصبحت قنا لراعي الضأن يلعب بي ماذا يريبك مني راعي الـضـان فقلت: بأبي أنت وأمي، قد كنت والله أحب أن أسمع هذا منك. قال: هو والله ذلك، قال:
فما قيل من بعدها من مـقـالة ولا علقت مني جديدا ولا درسا يعود كلاب إلى البصرة بعد موت أبيه ويولي الأبلة ثم يستعفي منها: أخبرني الحسن بن علي قال: ححدثنا الحارث، عن المدائني قال: لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة، فكان يغزو مع المسلمين، منها مغازيهم، وشهد فتوحات كثيرة، وبقي إلى أيام زياد، فولاه الأبلة، فسمع كلاب يوما عثمان بن أبي العاص يحدث أن داود نبي الله - عليه السلام - كان يجمع أهله في السحر فيقول: ادعوا ربكم فإن في السحر ساعة لا يدعو فيها عبد مؤمن إلا غفر له، إلا أن يكون عشارا أو عريفا.
فلما سمع ذلك كلاب كتب إلى زياد، فاستعفاه من عمله فأعفاه.
قال المدائني: ولم يزل كلاب بالبصرة حتى مات، والمربعة المعروفة بمربعة كلاب بالبصرة منسوبة إليه.
شعر أمية وقد ظفر بنو ليث بقومه: وقال أبو عمرو الشيباني: كان بين بني غفار قومه و بني ليث حرب، فظفرت بنو ليث بغفار، فحالف رحضة بن خزيمة بن خلاف بن حارثة بن غفار وقومه جميعا بني أسلم بن أفصى بن خزاعة، فقال أمية بن الأسكر في ذلك، وكان سيد بني جندع بن ليث وفارسهم:
لقد طبت نفسا عن مواليك يا رحضا آثرت أذناب الشوائل والحمـضـا
تعللنا بالنصر فـي كـل شـتـوة وكل ربيع أنت رافضنا رفـضـا
فلولا تأسـينـا وحـد رمـاحـنـا لقد جر قوم لحمنا تربـا قـضـا القض والقضيض: الحصا الصغار عبد الله بن الزبير يتمثل بشعره: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني أحمد بن زهير قال: حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال: افتعل عمرو بن الزبير كتابا عن معاوية إلى مروان بن الحكم بأن يدفع إليه مالا، فدفعه إليه، فلما عرف معاوية خبره كتب إلى مروان بأن يحبس عمرا حتى يؤدي المال، فحبسه مروان، وبلغ الخبر عبد الله بن الزبير، فجاء إلى مروان وسأله عن الخبر، فحدثه به، فقال: ما لكم في ذمتي، فأطلق عمرا، وأدى عبد الله المال عنه، وقال: والله إني لأؤديه عنه وإني لأعلم أنه غير شاكر، ثم تمثل قول أمية بن الأسكر الليثي:
فلولا تأسينا وحد رماحـنـا لقد جر قوم لحمنا تربا قضا سيدان يخطبان بنتا له ويتفاخران في الظفر بها: وقال ابن الكلبي: حدثنا بعض بني الحارث بن كعب قال: اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، فقدم أمية بن الأسكر، ومعه بنت له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر، فقالت أم كلاب امرأة أمية: من هذان الرجلان? قال: هذا ابن الديان، وهذا عامر بن الطفيل. قالت: أعرف ابن الديان، ولا أعررف عامرا. قال: هل سمعت بملاعب الأسنة? قالت: نعم والله. قال: فهذا ابن أخيه.
صفحة : 2338
وأقبل يزيد فقال: يا أمية أنا ابن الديان، صاحب الكثيب، ورئيس مذحج، ومكلم العقاب، ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دما، ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا. قال أمية: بخ بخ.
فقال عامر: جدي الأحزم، وعمي أبو الأصبع، وعمي ملاعب الأسنة، وجدي الرحال، وأبي فارس قرزل. قال أمية: بخ بخ، مرعى ولا كالسعدان، فأرسلها. مثلا.
فقال يزيد: يا عامر، هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحه إلى رجل من قومك? قال: لا، قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدحهم إلى قومي? قال: نعم. قال: فهل لك نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان? فقال: لا، قال: فهل ملكناكم ولم تلمكونا? قال: نعم، فنهض يزيد قوقام، ثم قال:
أمي يا بن الأسكر بـن مـدلـج لا تجعلن هوازنا كـمـذحـج
إنك إن تلهج بـأمـر تـلـجـج ما النبع في مغرسه كالعوسـج
ولا الصريح المحض كالممزج وقال مرة بن دودان العقيلي، وكان عدوا لعامر بن الطفيل:
يا ليت شعري عنك يا يزيد ماذا الذي من عامر تريد?
لكل قوم فخرهـم عـتـيد أمطلقون نحن أم عبـيد?
لا بل عبيد زادنا الهبـيد فزوج أمية يزيد فقال يزيد في ذلك:
يا للرجال لطـارق الأحـزان ولعامر بن طفيل الوسـنـان
كانت إتاوة قومه لـمـحـرق زمنا وصارت بعد للنعـمـان
عد الفوارس من هوازن كلهـا كثفا علي وجـئت بـالـديان
فإذا لي الفضل المبين بـوالـد ضم الدسيعة أزأنـي ويمـان
يا عام إنك فارس مـتـهـور غض الشباب أخو ندي وقـيان
واعلم بأنك يا بن فارس قرزل دون الذي تسمو له وتـدانـي
ليست فوارس عامر بمـقـرة لك بالفضيلة في بني عـيلان
فإذا لقيت بني الخميس ومالكـا وبني الضباب وحي آل قنـان
فاسأل من المرء المنوه باسمـه والدافع الأعدجاء عن نجران?
يعطى المقادة في فوارس قومه كرما لعمرك والكـريم يمـان فقال عامر بن الطفيل مجيبا له:
يا للرجـال لـطـارق الأحـزان ولما يجـيء بـه بـنـو الـديان
فخروا علي بحبـوة لـمـحـرق وإتاوة سلفت من الـنـعـمـان
ما أنت وابن محـرق وقـبـيلـه وإتاوة اللخمـي فـي عـيلان?
فاقصد بذررعك قصد أمرك قصده ودع القبائل من بني قـحـطـان
إذ كان سالفـنـا الإتـاوة فـيهـم أولى ففخرك فخـر كـل يمـان
وافخر برهط بني الحماس ومالك وابن الضباب وزعـبـل وقـيان
وأنا المنخل وابن فـارس فـرزل وأبو نزار زانـنـي ونـمـانـي
وإذا تعاظمت الأمـور مـوازنـا كنت المنوه باسمـه والـثـانـي فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرة بن دودان، وقالوا: أنت شاعر بني عامر ولم تهج بني الديان، فقال:
تكـلـفـنـي هـوازن فـخـــر قـــوم يقـولـون الأنـام لـنـــا عـــبـــيد
أبوهم مذحج وأبو أبيهمإذا ما عدت الآباء هود
وهل لي إن فخرت بغير فخر مقـال والأنــام لـــه شـــهـــود?
فإنـا لـم نـزل لـهـم قــطـــينـــا تجـئ إلـيهـم مـنـــا الـــوفـــود
فإنـا نـضـرب الأحـلام صـفــحـــا عن الـعـلـياء أو مـن ذا بـــكـــيد?
فقـولـوا يا بـنـي عــيلان كـــنـــا لكـم قـنـا ومـا عـنـكـم مــحـــيد وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي، والتوليد فيه بين، وشعره شعر ركيك غث، لا يشبه أشعار القوم، وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي.
شعره حين أصيب رهط من قومه يوم المريسيع: وقال محمد بن حبيب فيما روى عنه أبو سعيد السكري، ونسخته من كتابه، قال أبو عمرو الشيباني:
صفحة : 2339
أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن رهط أمية بن الأسكر يقال لهم: بنو زبينة، أصابهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع في غزوته بني المصطلق، وكانوا جيرانه يومئذ - ومعهم ناس من بني لحيان من هذيل، ومع بني جندع رجل من خزاعة يقال له: طارق، فاتهمه بنو ليث بهم، وأنه دل عليهم. وكانت خزاعة مسلمها ومشركها يميلون إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قريش. فقال أمية بن الأسكر لطارق الخزاعي:
لعمرك إني والخزاعي طـارقـا كنعجة عاد حتفها تـتـحـفـر
أثارت عليها شفرة بكـراعـهـا فظلت بها من آخر الليل تجـزر
شمت بقوم هم صديقك أهلـكـوا أصابهم يوم من الدهر أعـسـر
كأنـك لـم تـنـبـأ بـيوم ذؤالة ويوم الرجيع إذ تنحر حـبـتـر
فهلا أباكم في هذيل وعـمـكـم ثأرتم وهم أعدى قلوبـا وأوتـر
ويوم الأراك يوم أردف سبـيكـم صميم سراة الديل عبد ويعـمـر
وسعد بن ليث إذ تسل نسـاؤكـم وكلب بن عوف نحروكم وعقروا
عجبت لشيخ من ربيعة مهـتـر أمر له يوم من الدهر منـكـر شعر طارق الخزاعي يجيبه فيه: فأجابه طارق الخزاعي فقال:
لعمرك ما أدري وإني لقائل إلى أي من يظنني أتعذر?
أعنف أن كانت زبينة أهلكت ونال بني لحيان شر ونفروا ابن عباس ومعاوية يتمثلان بشعره وشعر صاحبه: وهذه الأبيات: الابتداء، والجواب تمثل بابتدائها ابن عباس في رسالة إلى معاوية، وتمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها.
حدثني بذلك أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي العطار بالكوفة، قال: حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال: حدثنا زيد بن المعذل النمري، قال: حدثنا يحيى بن شعيب الخراز، قال: حدثنا أبو مخنف، قال: لما بلغ معاوية مصاب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - دس رجلا من بني القين إلى البصرة يتجسس الأخبار ويكتب بها إليه، فدل على القيني بالبصرة في بني سليم، فأخذ وقتل.
وكتب ابن عباس من البصرة إلى معاوية: أما بعد، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال الشاعر:
لعمرك إني والخزاعي طارقـا كنعجة عاد حتفها تتـحـفـر
أثارت عليها شفرة بكراعـهـا فظلت بها من آخر الليل تجزر
شمت بقوم هم صديقك أهلكـوا أصابهم يوم من الدهر أمعـر فأجابه معاوية: أما بعد، فإن الحسن قد كتب إلي بنحو مما كتبت به وأنبني بما لم أجن ظنا وسوء رأي، وإنك لم تصب مثلنا، ولكن مثلنا ومثلكم كما قال طارق الخزاعي:
فوالله ما أدري وإني لصادق إلى أي من يظنني أتعذر?
أعنف أن كانت زبينة أهلكت ونال بني لحيان شر ونفروا
صوت
أبني إني قد كبرت ورابـنـي بصري وفي لمصلح مستمتع
فلئن كبرت نقد دنوت من البلى وحلت لكم مني خلائق أربع عروضه من الكامل، والشعر لعبدة بن الطبيب، والغناء لابن محرز، ولحنه من القدر الأوسط من الثيقيل الأول بالبنصر في مجراها عن إسحاق، وفيه لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها عنه أيضا.
نسب عبدة بن الطبيب وأخباره
نسبه واسم الطبيب أبيه
هو فيما ذكر ابن حبيب عن ابن الأعرابي، وأبو نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعي وأبي عمرو الشيباني وأبي فروة العكلي: عبدة بن الطبيب، والطبيب اسمه يزيد بن عمبو بن وعلة بن أنس بن عبد الله بن عبد تيم بن جشم بن عبد شمس. ويقال: عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
وقال ابن حبيب خاصة: وقد أخبرني أبو عبيدة قال: تميم كلها كانت في الجاهلية يقال لها: عبد تيم، وتيم: صنم كان لهم يعبدونه.
كان شاعرا مجيدا ليس بالمكثر: وعبدة شاعر مجيد ليس بالمكثر، وهو مخضرم، أدرك الإسلام فأسلم، وكان في جيش النعمان بن المقرن الذين حاربوا معه الفرس بالمدائن. وقد ذكر ذلك في قصيدته التي أولها:
هل حـبـل خـولة بـعـد الـهـجـر مـوصـــول أم أنـت عـنـهـا بـعـيد الـدار مـشــغـــول?
حلت خويلة في دار مجاورةأهل المدينة فيها الديك والفيل
صفحة : 2340
يقارعون رؤوس العجم ضاحية منهم فوارس لا عزل ولا ميل أرثى بيت قالته العرب من شعره: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا وتمام هذه الأبيات: أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن السكري والمبرد والأحول لعبدة يرثي قيسا:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحمـا
تحية من أوليته منك نـعـمة إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس هلكة هلك واحد ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا يترفع عن الهجاء: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال: قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو، فقال: لا تقل ذاك، فوالله ما أبى من عي، ولكنه كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة، كما يرى تركه مروءة وشرفا، قال:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أولو العيبو عبد الملك بن مروان يروي أفضل ما ذكره في شعر له: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب، عن ابن الأعرابي: أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه: أي المناديل أشرف? فقال قائل منهم: مناديل مصر، كأنها غرقئ البيض. وقال آخرون: مناديل اليمن، كأنها نور الربيع. فقال عبد الملك: مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطبيب، قال:
لما نزلنا نصبنا ظل أخـبـية وفار للقوم باللحم المراجـيل
ورد وأشقر ما يؤنيه طابخـه ما غير الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مـسـومة أعرافهن لأيدينـا مـنـاديل يعني بالمراجيل: المراجل، فزاد فيها الياء ضرورة.
صوت
إن الليالي أسرعت في نقضي أخذن بعضي وتركن بعضي
حنين طولي وطوين عرضي أقعدنني من بعد طول نهض عروضه من الرجز، الشعر للأغلب العجلي، والغناء لعمرو بن بانة، هزج بالبنصر.
أخبار الأغلب ونسبه
نسبه
هو - فيما ذكر ابن قتيبة - الأغلب بن جشم بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
إسلامه واستشهاده: وهو أحد المعمرين، عمر في الجاهلية عمرا طويلا، وأدرك الإسلام فأسلم، وحسن إسلامه وهاجر، ثم كان فيمن توجه إلى الكوفة مع سعد بن أبي وقاص، فنزلها، واستشهد في وقعة بنهاوند، فقبره هناك في قبور الشهداء.
هو أول من رجز الأراجيز الطوال: ويقال: إنه أول من رجز الأرايجز الطوال من العرب، وإياه عنى الحجاج بقوله مفتخرا:
إني أنا الأغلب أمسى قد نشد قال ابن حبيب: كانت العرب تقول الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة وما جرى هذا المجرى، فتأتي منه بأبيات يسيرة، فكان الأغلب أول من قصد الرجز، ثم سلك الناس بعده طريقته.
كانت له سرحة يصعد عليها ويرتجز: أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي أو خليفة في كتابه إلينا، قال: أخبرنا محمد بن سلام، قال: حدثنا الأصمعي.
وأخبرنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي، قال حدثنا معمر بن عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء، قال: كانت للأغلب سرحة يصعد عليها، ثم يرتجز:
قد عرفتني سرحتي فأطـت وقد شمطت بعدها واشمطت فاعترضه رجل من بني سعد، ثم أحد بني الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد، فقال له:
قبحت من سـالـفة ومـن قـفـا عبد إذا ما رسب القـوم طـفـا
كما شرار الرعي أطراف السفى ينقص عمر عطاءه لقبوله الإنشاد من شعر في الجاهلية: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي، قال: حدثني نصر بن ناب عن داود بن أبي هند عن الشعبي، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة: أن أستنشد من قبلك من شعراء قومك ما قالوا في الإسلام، فأرسل إلى الأغلب العجلي فاستنشده فقال:
لقد سألت هينا موجودا أجرزا تريد أم قصيدا?
صفحة : 2341
ثم أرسل إلى لبيد فقال له: إن شئت مما عفا الله عنه - يعني الجاهلية - فعلت. قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة، وقال: أبدلني الله عز وجل بهذه في الإسلام مكان الشعر.
فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عمر من عطاء الأغلب خمسمائة، وجعلها في عطاء لبيد؛ فكتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، أتنقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة.
أخبرني محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا علي بن القاسم، عن الشعبي قال: دخل الأغلب على عمر، فلما رآه قال: هيه، أنت القائل:
أرجزا تريد أم قصيدا? لقد سألت هينا موجودا فقال: يا أمير المؤمنين إنما أطعتك، فكتب عمر إلى المغيرة: أن أردد عليه الخمس المائة وأقر الخمس المائة للبيد.
شعر في سجاح حين تزوجت مسيلمة: أخبرنا أبو خليفة عن مححمد بن سلام قال: قال الأغلب العجلي في سجاج لما تزوجت مسيلمة الكذاب:
لقد لقيت سجاح من بعد العـمـى ملوحا في العين مجلود الـقـرا
مثل العتيق في شبـاب قـد أتـى من اللجميميين أصحاب القـرى
ليس بـذي واهـنة ولا نـســا نشأ بلحم وبخبز مـا اشـتـرى
حتى شتا ينتـح ذفـراه الـنـدى خاظى البضيع لحمه خظابـظـا
كأنما جمع من لحم الـخـصـى إذا تمطى بـين بـرديه صـأى
كأن عـــــرق أيره إذا ودى حبل عجوز ضفرت سبع قـوى
يمشي على قوائم خـمـس زكـا يرفع وسطاهن من برد الـنـدى
قالت: متى كنت أبا الخير متـى? قال حديثا لم يغيرنـي الـبـلـى
ولم أفارق خلة لي عـن قـلـى فانتسفت فيشتـه ذات الـشـوى
كأن في أجلادها سـبـع كـلـى مازال عنها بالحديث والمـنـى
والخلق السفساف يردى في الردى قال: ألا ترينـه قـالـت: أرى
قال: ألا أدخله? قالـت: بـلـى فشام فيها مثل محراث الغضـى
يقول لما غاب فيهـا واسـتـوى لمثلها كنت أحسـيك الـحـسـا من أخبار سجاح: وكان من خبر سجاح وادعائها النبوة وتزويج مسيلمة الكذاب إياها ما أخبرنا به إبراهيم بن النسوي يحيى، عن أبيه عن شعيب عن سيف: إن سجاح التميمية ادعت النوبة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعت عليها بنو تميم، فكان فيما ادعت أنه أنزل عليها: يأيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يبغون.
واجتمعت بنو تميم كلها إليها لتنصرها. وكان فيهم الأحنف ين قيس، وحارثة بن بدر، ووجوه تميم كلها.
وكان مؤذنها شبيب بن ربعي الرياحي، فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذاب وهو باليمامة، وقالت: يا معشر تميم، اقصدوا اليمامة، فاضربوا فيها كل هامة، وأضرموا فيها نارا ملهامة، حتى تتركوها سوداء كالحمامة.
وقالت لبني تميم: إن الله لم يجعل هذا الأمر في ربيعة، وإنما جعله في مضر، فاقصدوا هذا الجمع، فإذا فضضتموه كررتم على قريش. فسارت في قومها وهم الدهم الداهم. وبلغ مسيلمة خبرها، فضاق بها ذرعا، وتحصن في حجر حصن اليمامة. وجاءت في جيوشها فأحاطت به، فأرسل إلى وجوه قومه وقال: ما ترون? قالوا: نرى أن نسلم هذا الأمر إليها وتدعنا، فإن لم نفعل فهو البوار.
وكان مسيلمة ذا دهاء، فقال: سأنظر في هذا الأمر. ثم بعث إليها: إن الله - تبارك وتعالى - أنزل عليك وحيا، وأنزل علي. فهلمي نجتمع، فنتدارس ما أنزل الله علينا، فمن عرف الحق تبعه، واجتمعنا فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك.
فبعثت إليه: أفعل، فأمر بقبة أدم فضربت، وأمر بالعود المندلي فسجر فيها، وقال: أكثروا من الطيب والمجمر، فإن المرأة إذا شمت رائحة الطيب ذكرت الباه، ففعلوا ذلك.
صفحة : 2342
وجاءها رسوله يخبرها بأمقر القبة المضروبة للاجتماع، فأتته فقالت: هات ما أنزل عليك. فقال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نطفة تسعى، بين صفاق وحشا، من بين ذكر وأنثى، وأموات وأحيا، ثم إلى ربهم يكون المنتهى. قالت: وماذا? قال: ألم تر أن الله خلقنا أفواجا، وجعل النساء لنا أزواجا، فنولج فيهن الغراميل إيلاجا، ونخرجها منهن إذا شئن إخراجا. قالت: فبأي شيء أمرك? قال:
ألا قـومـــي إلـــى الـــنـــيك فقـد هـبـي لـك الـمـضــجـــع
فإن شئتي ففي البيت وإن شئتي ففي المخدع
وإن شئتي سلقناك وإن شـئتــي عـــلـــى أربـــع
وإن شـئتــي بـــثـــلـــثـــيه وإن شـئتـــي بـــه أجـــمـــع قال: فقالت: لا، إلا به أجمع. قال: فقال: كذا أوحى الله إلي، فواقعها. فلما قام عنها قالت: إن مثلي لا يجري أمرها هكذا، فيكون وصمة على قومي وعلي، وليكن مسلمة النبوة إليك، فاخطبني إلى أوليائي يزوجوك، ثم أقود تميما معك.
فخرج وخرجت معه، فاجتمع الحيان من حنيفة وتميم، فقالت لهم سجاح: إنه قرأ علي ما أنزل عليه، فوجدته حقا، فاتبعته، ثم خطبها، فزوجوه إياها، وسألوه عن المهر، فقال: قد وضعت عنكم صلاة العصر، فبنو تميم إلى الآن بالرمل لا يصلونها، ويقولون: هذا حق لنا، ومهر كريمة منا لا نرده. قال: وقال شاعر من بني تميم يذكر أمر سجاح في كلمة له:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا قال: وسمع الزبرقان بن بدر لأحنف يومئذ، وقد ذكر مسيلمة وما تلاه عليهم، فقال الأحنف: والله ما رأيت أحمق من هذا النبي قط. فقال الزبرقان: والله لأخبرن بذلك مسيلمة. قال: إذا والله أحلف أنك كذبت فيصدقني ويكذبك. قال: فأمسك الزبرقان، وعلم أنه قد صدق.
قال: وحدث الحسن البصري بهذا الحديث، فقال: أمن والله أبو بحر من نزول الوحي. قال: فأسلمت سجاح بعد ذلك وبعد قتل مسيلمة، وحسن إسلامها.
صوت
كم ليلة فيك بت أسهـرهـا ولوعة من هواك أضمرهـا
وحرقة والدموع تطـفـئهـا ثم يعود الجوى فيسعـرهـا
بيضاء رود الشباب قد غمست في خجل دائب يعصفرهـا
الله جار لها فمـا امـتـلأت عيناي إلا من حيث أبصرها الشعر للبحتري، والغناء لعريب، رمل مطلق من مجموع أغانيها، وهو لحن مشهور في أيدي الناس، والله أعلم.
أخبار البحتري ونسبه
نسبه وكنيته
هو الوليد بن عبيد الله بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم ابن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عثمة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيئ بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
شاعريته وندرة هجائه: ويكنى أبا عبادة، شاعر فاضل فصيح حسن المذهب، نقي الكلام، مطبوع، كان مشايخنا رحمة الله عليهم يختمون به الشعراء، وله تصرف حسن فاضل نقي في ضروف الشعر، سوى الهجاء، فإن بضاعته فيه نزرة، وجيده منه قليل. وكان ابنه أبو الغوث يزعم أن السبب في قلة بضاعته في هذا الفن أنه لما حضره الموت دعابه، وقال له: اجمع كل شيء قلته في الهجاء. ففعل، فأمره بإحراقه، ثم قال له: يا بني، هذا شيء قلته في وقت، فشفيت به غيظي، وكافأت به قبيحا فعل بي، وقد انقضى أربي في ذلك، وإن بقي روي، وللناس أعقاب يورثونهم العداء والمودة، وأخشى أن يعود عليك من هذا شيء في نفسك أو معاشك لا فائدة لك ولي فه، قال: فعلمت أنه قد نصحني وأشفق علي، فأحرقته.
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي الغوث.
وهذا - كما قال أبو الغوث - لا فائدة لك ولا لي فيه، لأن الذي وجدناه وبقي في أيدي الناس من هجائه أكثره ساقط، مثل قوله في ابن شيرزاد:
نفقت نفوق الحمار الذكر وبان ضراطك عنا فمر ومثل قوله في علي بن الجهم:
ولو أعطاك ربك ما تمنـى لزادك منه في غلظ الأيور
علام طفقت تهجوني ملـيا بما لفقت من كذب وزور وأشباه لهذه الأبيات، ومثلها لا يشاكل طبعه، ولا تليق بمذهبه، وتنبئ بركاكتها وغثاثة ألفاظها عن قلة حظه في الهجاء، وما يعرف له هجاء جيد إلا قصيدتان إحداهما قوله في ابن أبي قماش:
صفحة : 2343
مرت على عزمها ولم تقف مبدية للشنان والـشـنـف يقول فيها لابن أبي قماش:
قد كان في الواجب المحقق أن تعرف ما في ضميرها النطف
بما تعاطيت في العـيوب ومـا أوتيت من حكمة ومن لطـف
أما رأيت المريخ قد مازج الز هرة في الجد منه والشـرف
وأخبرتك النحـوس أنـكـمـا في حالتي ثابت ومنـصـرف
من أين أعملت ذا وأنت علـى التقويم والزيج جد منعـكـف
أما زجرت الطير العلا أو تعي فت المها أو نظرت في الكتف
رذلت في هذه الصـنـاعة أو أكديت أو رمتها على الخرف
لم تخط باب الدهليز منصرفـا إلا وخلخالها مع الـشـنـف وهي طويلة، ولم يكن مذهبي ذكرها إلا للإخبار عن مذهبه في هذا الجنس، وقصيدته في يعقوب بن الفرج النصراني، فإنها - وإن لم تكن في أسلوب هذه وطريقتها - تجري مجرى التهكم باللفظ الطيب الخبيث المعاني، وهي:
تظن شجوني لم تعتـلـج وقد خلج البين من قد خلج وكان البحتري يتشبه بأبي تمام من شعره، ويحذو مذهبه، وينحو نحوه في البديع الذي كان أبو تمام يستعمله، ويراه صاحبا وإماما، ويقدمه على نفسه، ويقول في الفرق بينه وبينه قول منصف: إن جيد أبي تمام خير من جيده، ووسطه ورديئه خير من وسط أبي تمام ورديئه، وكذا حكم هو على نفسه.
هو وأبو تمام: أخبرني محمد بن يحيى الصولي: قال: حدثني الحسين بن علي الياقظاني: قال: قلت للبحتري: أيما أشعر أنت أو أبو تمام? فقال: جيده خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه.
حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني أبو الغوث يحيى بن البحتري: قال: كان أبي يكنى أبا الحسن، وأبا عبادة، فأشير علي في أيام المتوكل بأن أقتصر على أبي عبادة، فإنها أشهر، فاقتصرت عليها.
حدثني محمد قال: سمعت عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري - وقد اجتمعنا في دار عبد الله بالخلد، وعنده المبرد في سنة ست وسبعين ومائتين، وقد أنشد البحتري شعرا لنفسه قد كان أبو تمام قال في مثله - : أنت والله أشعر من أبي تمام في هذا الشعر، قال: كلا والله، إن أبا تمام للرئيس والأستاذ، والله ما أكلت الخبر إلا به، فقال له المبرد: لله درك يا أبا الحسن، فإنك تأبى إلا شرفا من جميع جوانبك.
حدثني محمد: قال: حدثني الحسين بن إسحاق: قال: قلت للبحتري: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام، فقال: والله ما ينفعني هذا القول، ولا يضر أبا تمام، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كان كما قالوا، ولكني اوالله تابع له آخذ منه لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه.
حدثني محمد بن يحيى: قال: حدثني سوار بن أبي شراعة، عن البحتري: قال: وحدثني أبو عبد الله الألوسي، عن علي بن يوسف، عن البحتري: قال: كان أول أمري في الشعر ونباهتي أني صرت إلى أبي تمام، وهو بحمص، فعرضت عليه شعري، وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم، فأقبل علي، وترك سائر من حضر، فلما تفرقوا قال لي: أنت أشعر من أنشدني، فكيف بالله حالك? فشكوت خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان، وشهد لي بالحذق بالشعر، وشفع لي إليهم وقال: امتدحهم، فصرت إليهم، فأكرموني بكتابه، ووظفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أول مال أصبته. وقال علي بن يوسف في خبره: فكانت نسخة كتابه: يصل كتابي هذا على يد الوليد أبي عبادة الطائي، وهو - على بذاذته - شاعر، فأكرموه .
يعشق غلاما فيلتحي: حدثني جحظة: قال: سمعت البحتري يقول: كنت أتعشق غلاما من أهل منبج يقال له شقران، واتفق لي سفر، فخرجت فيه، فأطلت الغيبة، ثم عدت، وقد التحى، فقلت فيه، وكان أول شعر قلته:
نبـتـت لـحـــية شـــقـــرا ن شـقـيق الـنـفـس بـعـــدي
حلقت، كيف أتته قبل أن ينجز وعدي وقد روى في غير هذه الحكاية أن اسم الغلام شندان.
بدء التعارف بينه وبين أبي تمام: حدثني علي بن سليمان: قال: حدثني أبو الغوث بن البحتري عن أبيه، وحدثني عمي: قال: حدثني علي بن العباس النوبختي، عن البحتري، وقد جمعت الحكايتين، وهما قريبتان: قال: أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف، وقد مدحته بقصيدتي:
صفحة : 2344
أأفاق صب من هوى فأفيقـا أو خان عهدا أو أطاع شفيقا? فسر بها أبو سعيد، وقال: أحسنت والله يا فتى وأجدت، قال: وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه، فوق كل من حضر عنده، تكاد تمس ركبته ركبته، فأقبل علي ثم قال: يا فتى، أما تستحي مني هذا شعر لي تنتحله، وتنشده بحضرتي فقال له أبو سعيد: أحقا تقول قال: نعم، وإنما علقه مني، فسبققني به إليك، وزاد فيه، ثم اندفع فأنشد أكثر هذه القصيدة، حتى شككني - علم الله - في نفسي، وبقيت متحيرا، فأقبل علي أبو سعيد، فقال: يا فتى، قد كان في قرابتك منا وودك لنا ما يغنيك عن هذا، فجعلت أحلف له بكل محرجة من الأيمان أن الشعر لي ما سبقني إليه أحد، ولا سمعته منه، ولا انتحلته، فلم ينفع ذلك شيئا، وأطرق أبو سعيد، وقطع بي، حتى تمنيت أن سخت في الأرض، فقمت منكسر البال أجر رجلي، فخرجت، فما هو إلا أن بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان فردوني، فأقبل علي الرجل، فقال: الشعر لك يا بني، والله ما قلته قط، ولا سمعته إلا منك، ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا، تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي، حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك، ولوددت ألا تلد أبدا طائية إلا مثلك، وجعل أبو سعيد يضحك، ودعاني أبو تمام، وضمني إليه، وعانقني، وأقبل يقرظني، ولزمته بعد ذلك، وأخذت عنه، واقتديت به، هذه رواية من ذكرت.
إشاد له بأبي سعيد محمد بن يوسف الثغري: وقد حدثني علي بن سليمان الأخفش أيضا قال: حدثني عبد الله بن الحسين بن سند القطربلي: أن البحتري حدثه أنه دخل على أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، وقد مدحه بقصيدة، وقصده بها، فألقى عنده أبا تمام وقد أنشده قصيدة له فيه، فاستأذنه البحتري في الإنشاد وهو يومئذ حديث السن، فقال له: يا غلام أنشدني بحضرة أبي تمام? فقال: تأذن ويستمع، فقام، فأنشده إياها، وأبو تمام يسمع ويهتز من قرنه إلى قدمه استحسانا فلما فرغ منها قال: أحسنت والله يا غلام، فممن أنت? قال: من طيئ، فطرب أبو تمام وقال: من طيئ، الحمد لله على ذلك، لوددت أن كل طائية تلد مثلك، وقبل بين عينيه، وضمه إليه وقال لمحمد بن يوسف: قد جعلت له جائزتي، فأمر محمد بها، فضمت إلى مثلها، ودفعت إلى البحتري، وأعطى أبا تمام مثلها، وخص به، وكان مداحا له طول أيامه ولابنه بعده، ورثاهما بعد مقتليهما، فأجاد، ومراثيه فيهما أجود من مدائحه، وروى أنه قيل له في ذلك فقال: من تمام الوفاء أن تفضل المراثي المدائح لا كما قال الآخر - وقد سئل عن ضعف مراثيه فقال - : كنا نعمل للرجاء، نحن نعمل اليوم للوفاء. وبينهما بعد.
كان بخيلا زري الهيئة: حدثني حكم بن يحيى الكنتحي قال: كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة وأبخلهم على كل شيء، وكان له أخ وغلام معه في داره، فكان يقتلهما جوعا، فإذا بلغ منها الجوع أتياه يبكيان، فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا، ويقول: كلا، أجاع الله أكبادكما وأعرى أجلادكما وأطال إجهادكما.
قال حكم بن يحيى: وأنشدته يوما من شعر أبي سهل بن نوبخت، فجعل يحرك رأسه، فقلت له: ما تقول فيه? فقال: هو يشبه مضغ الماء ليس له طعم ولا معنى.
وحدثني أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني الكاتب، قال: دخلت على البحتري يوما فاحتبسني عنده، ودعا بطعام له، ودعاني إليه، فامتنعت من أكله، وعنده شيخ شامي لا أعرفه، فدعاهخ إلى الطعام، فتقدم، وأكل معه أكلا عنيفا، فغاظه ذلك، والتفت إلي، فقال لي: أتعرف هذا الشيخ? فقلت: لا، قال: هذا شيخ من بني الهجيم الذي يقول فيهم الشاعر:
وبنو الهجيم قبيلة ملـعـونة حص اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شـربة بعمان أصبح جمعهم بعمان قال: فجعل الشيخ يشتمه، ونحن نضحك.
ماء من يد حسناء: وحدثني جحظة: قال: حدثني علي بن يحيى المنجم: قال: اجتازت جارية بالمتوكل معها كوز ماء، وهي أحسن من القمر، فقال لها: ما اسمك? قالت: برهان، قال: ولمن هذا الماء? قالت: لستي قبيحة، قال: صبيه في حلقي، فشربه عن آخره، ثم قال للبحتري: قل في هذا شيئا، فقال البحتري:
ما شربة من رحيق كأسهـا ذهـب جاءت بها الحور من جنات رضوان
صفحة : 2345
يوما بأطيب من ماء بلا عطش شربته عبثا من كف برهـان أخبرني علي بن سليمان الأخفش، وأحمد بن جعفر جحظة: قالا: حدثنا أبو الغوث بن البحتري: قال: كتبت إلى أبي يوما أطلب منه نبيذا، فبعث إلي بنصف قنينة دردي، وكتب إلي: دونكها يا بني، فإنها تكشف القحط، وتضبط الرهط. قال الأخفش، وتقيت الرهط.
قصته مع أحمد بن علي الإسكافي: حدثني أبو الفضل عباس بن أحمد بن ثوابة قال: قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الإسكافي مادحا له، فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها:
ما كسبنا من أحمد بن علي ومن النيل غير حمى النيل وهجاه بقصيدة أخرى أولها:
قصة النيل فاسمعوها عجابه فجمع إلى هجائه إياه هجاء أبي ثوابة، وبلغ ذلك أبي، فبعث إليه بألف درهم وثياب ودابة بسرجها ولجامها، فرده إليه، وقال: قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول رفدكم، فكتب إليه أبي: أما الإساءة فمغفورة وأما المعذرة فمشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو جراحك مثل يدك. وقد رددت إليك ما رددته علي، وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا. فقبل ما بعث به، وكتب إليه: كلامك والله أحسن من شعري، وقد أسلفتني ما أخجلني، وحملتني ما أثقلني، وسيأتيك ثنائي. ثم غدا إليه بقصيدة أولها:
ضلال لها ماذا أرادت إلى الصد وقال فيه بعد ذلك:
برق أضاء العقيق من ضرمه وقال فيه أيضا:
دان دعا داعي الصبا فأجابه قال: ولم يزل أبي يصله بعد ذلك، ويتابع بره لديه حتى افترقا.
شعره في نسيم غلامه: أخبرني جحظة قال: كان نسيم غلام البحتري الذي يقول فيه:
دعا عبرتي تجري على الجور والقصد أظن نسيما قارف الهم من بـعـدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخـصـه فيا عجبا للدهر فقد عـلـى فـقـد غلاما روميا ليس بحسن الوجه، وكان قد جعله بابا من أبواب الحيل على الناس، فكان يبيعه ويعتمد أن يصيره إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب، فإذا حصل في ملكه شبب به، وتشوقه، ومدح مولاه، حتى يهبه له، فلم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم، فكفي الناس أمره.
خبره مع محمد بن علي القمي وغلامه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: كتب البحتري إلى أبي محمد بن علي القمي يستهديه نبيذا، فبعث إليه نبيذا مع غلام له أمرد، فجمشه البحتري، فغضب الغلام غضبا شديدا، دل البحتري على أنه سيخبر مولاه بما جرى، فكتب إليه:
ابا جعفر كان تجمـيشـنـا غلامك إحدى الهنات الدنية
بعثت إلينا بشمس الـمـدام تضيء لنا مع شمس البرية
فليت الهدية كان الرسـول وليت الرسول إلينا الهـدية فبعث إليه محمد بن علي الغلام هدية، فانقطع البحتري عنه بعد ذلك مدة، خجلا مما جرى، فكتب إليه مححمد بن علي:
هجرت كأن البر أعقب حـشـمة ولم أر وصلا قبل ذا أعقب الهجرا فقال فيه قصيدته التي أولها:
فتى مذحج عفوا فتى مذحج غفرا وهي طويلة. وقال فيه أيضا:
أمواهـب هـاتـيك أم أنـواء هطل وأخـذ ذاك أم إعـطـاء
إن دام ذا أو بعض ذا من فعل ذا ذهب السخاء فلا يعد سـخـاء
ليس الذي حلت تميم وشطـه ال دهناء، لكن صدرك الـدهـاء
ملك أغر لآل طلـحة مـجـده كفاه بحر سمـاحة وسـمـاء
وشريف أشراف إذا احتكت بهم جرب القبائل أحسنوا وأسـاءوا
أمحمد بن علي أسمـع عـذرة فيها شفاء لـلـمـسـيء وداء
مالي إذ ذكر الكـرام رأتـنـي مالي مع النفر الكرام وفـاء?
يضفو علي العذل وهو مقـارب ويضيق عني العذر وهو فضاء
إني هجرتك إذ هجرتك حشـمة لا العود يذهبـهـا ولا الإبـداء
أخجلتني بندى يديك فـسـودت ما بيننا تلك الـيد الـبـيضـاء
وقطعتني بالبر حـتـى إنـنـي متوهـم أن لا يكـون لـقـاء
صفحة : 2346
صلة غدت في الناس وهي قطيعة عجبا وبر راعح وهـو جـفـاء
ليواصلنك ركب شعـري سـائرا تهدى به في مـدحـك الأعـداء
حتى يتم لك الثـنـاء مـخـلـدا أبدا كما دامت لك الـنـعـمـاء
فتظل تحسدك الملوك الصيد بـي وأظل يحسدني بك الـشـعـراء كان موته بالسكتة: أخبرني علي بن سليمان الأخفش: قال: سألني القاسم بن عبيد الله عن خبر البحتري، وقد كان أسكت، ومات من تلك العلة، فأخبرته بوفاته، وأنه مات في تلك السكتة، فقال: ويحه رمي في أحسنه.
أبو تمام يلقن البحتري درسا في الاستطراد: أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدثني محمد بن علي الأنباري: قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام ويما لنفسه:
وسابح هطل الـتـعـداء هـتـان على الجراء أمـين غـير خـوان
أظمي الفصوص ولم تظمأ قوائمـه فخل عينيك فـي ظـمـآن ريان
فلو تراه مشيحا والـحـصـى زيم بين السنابك من مثنـى ووحـدان
أيقنت إن لم تثـبـت أن حـافـره من صخر تدمر أو من وجه عثمان ثم قال لي: ما هذا الشعر? قلت: لا أدري، قال: هذا هو المتسطرد، أو قال الاستطراد. قلت: وما معنى ذلك? قال: يريك أنه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان، وقد فعل البحتري ذلك، فقال في صفة الفرس:
ما إن يعاف قذى ولو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول وكان حمدويه الأحول عدوا لمحمد بن علي القمي الممتدح بهذه القصيدة فهجاه في عرض مدحه محمدا. والله أعلم.
أبو تمام يشيد به: حدثني علي بن سليمان الأخفش: قال: حدثني أبو الغوث بن البحتري: قال: حدثني أبي: قال: قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا فيما مدحتهم به، فأنشدني شيئا منه، فأنشدته بعض ما قلته فيهم، فقال لي: كم أعطوك? فقلت: كذا وكذا، فقال: ظلموك، والله ما وفوك حقك، فلم استكثرت ما دفعوه إليك? والله لبيت منها خير مما أخذت، ثم أطرق قليلا، ثم قال: لعمري لقد استكثرت ذلك، واستكثر ذلك، واستكثر لك لما مات الناس وذهب الكرام، وغاضت المكارم، فكسدت سوق الأدب، أنت والله يا بني أمير الشعراء غدا بعدي، فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت له: والله لهذا القول أسر إلى قلبي وأقوى لنفسي مما وصل إلي من القوم.
أبو تمام ينعي نفسه: حدثني محمد بن يحيى عن الحسن بن علي الكاتب: قال: قال لي البحتري: أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري، فتمثل ببيت أوس بن حجر:
إذا مقرم منا درا حد نابـه تخمط فينا ناب آخر مقرم ثم قال لي: نعيت والله إلي نفسي، فقلت: أعيذك بالله من هذا القول، فقال: إن عمري لن يطول، وقد نشأ في طيء مثلك، أما علمت أن خالد بن صفوان رأى شبيب بن شيبة، وهو من رهطة يتكلم، فقال: يا بني، لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك، لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قط إلا مات من قبله، فقلت له: بل يبقيك الله، ويجعلني فداءك. قال: ومات أبو تمام بعد سنة.
يشمخ بأنفه فيغري به المتوكل الصيمري: حدثني أحمد بن جعفر جحظة: قال: حدثني أبو العنبس الصيمري قال: كنت عند المتوكل والبحتري ينشده:
عن أي ثغر تبتسـم وبأي طرف تحتكم? حتى بلغ إلى قوله:
قل للخليفة جعفر ال متوكل بن المعتصم
المبتدي للمجـتـدي والمنعم بن المنتقـم
أسلم لدين محـمـد فإذا سلمت فقد سلم قال: وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا، يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا، ومرة القهقري، ويهز رأسه مرة، ومنكبيه أخرى، ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت، ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين، فيقول: ما لكم لا تقولون أحسنت? هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله: فضجر المتوكل من ذلك وأقبل علي، وقال: أما تسمع يا صيمري ما يقول? فقلت: بلى يا سيدي، فمرني فيه بما أحببت، فقال: بحياتي أهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه، فقلت: تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول، فدعا بداوة وقرطاس، وحضرني على البديهة أن قلت:
أدخلت رأسك في الرحم وعلمت أنك تنـهـزم
صفحة : 2347
يا بحتـري حـذار ويح ك من قضاقضة ضغم
فلقد أسـلـت بـواديي ك من الهجا سيل العرم
فبأي عرض تعتـصـم وبهتكه جف القـلـم?
والله حـلـفة صـادق وبقبر أحمد والـحـرم
وبحق جعـفـر الإمـا م ابن الإمام المعتصـم
لأصـيرنـك شـهـرة بين المسيل إلى العلـم
حي الطلول بذي سـلـم حيث الأراكة والخـيم
يا بن الثقيلة والثقـيل ع لى قلوب ذوي النـعـم
وعلى الصغير مع الكبي ر من الموالي والحشم
في أي سلح تـرتـطـم وبأي كف تلـتـقـم?
يا بن المباحة لـلـورى أمن العفاف أم التـهـم
إذ رحل أختك للعـجـم وفراش أمك في الظلم
وبـبـاب دارك حـانة في بيته يؤتى الحـكـم قال: فغضب، وخرج يعدو، وجعلت أصيح به:
أدخلت رأسك في الرحم وعلمت أنك تنـهـزم والمتوكل يضحك، ويصفق حتى غاب عن عينه.
هكذا حدثني جحظة عن أبي العنبس.
ووجدت هذه الحكاية بعينها بخط الشاهيني حكاية عن أبي العنبس، فرأيتها قريبة اللفظ، موافقة المعنى لما ذكره جحظة، والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس قال هذه الأبيات ارتجالا، وكان واقفا خلف البحتري، فلما ابتدأ وأنشد قصيدته:
عن أي ثغر تبتسـم وبأي طرف تحتكم صاح به أبو العنبس من خلفه:
في أي سلح ترتـطـم وبأي كف تـلـتـقـم
أدخلت رأسك في الرحم وعلمت أنك تنـهـزم فغضب البحتري، وخرج، فضحك المتوكل حتى أكثر، وأمر لأبي العنبس بعشرة آلاف درهم والله أعلم.
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن يحيى الصولي، وحدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون عن أبيه: قال: وحدثني يحيى بن علي عن أبيه: إن البحتري أنشد المتوكل - وأبو العنبس الصيمري حاضر - قصيدته:
عن أي ثغر تبتسـم وبأي طرف تحتكم? إلى آخرها، وكان إذا أنشد يختال، ويعجب بما يأتي به، فإذا فرغ من القصيدة رد البيت الأول، فلما رده بعد فراغه منها. وقال:
عن أي ثغر تبتسـم وبأي طرف تحتكم قال أبو العنبس وقد غمزه المتوكل أن يولع به:
في أي سلح ترتـطـم وبأي كف تـلـتـقـم
أدخلت رأسك في الرحم وعلمت أنك تنـهـزم فقال نصف البيت الثاني، فلما سمع البحتري قوله ولى مغضبا، فجعل أبو العنبس يصيح به:
وعلمت أنك تنهزم فضحك المتوكل من ذلك حتى غلب، وأمر لأبي العنبس بالصلة التي أعدت لللبحتري.
قال أحمد بن زياد: فحدثني أبي قال: جاءني البحتري، فقال لي: يا أبا خالد أنت عشيرتي وابن عمي وصديقي، وقد رأيت ما جرى علي، أفتأذن لي أن أخرج إلى منبج بغير إذن، فقد ضاع العلم، وهلك الأدب? فقلت: لا تفعل من هذا شيئا، فإن الملوك تمزح بأعظم مما جرى، ومضيت معه إلى الفتح، فشكا إليه ذلك، فقال له نحوا من قولي، ووصله، وخلع عليه، فسكن إلى ذلك.
الصيمري يسترسل في سخريته به بعد موت المتوكل: حدثني جحظة عن علي بن يحيى المنجم: قال: لما قتل المتوكل قال أبو العنبس الصيمري:
يا وحشة الدنيا علـى جـعـفـر على الهمام الـمـلـك الأزهـر
على قتيل مـن بـنـي هـاشـم بين سرير الملك والـمـنـبـر
والله رب البـيت والـمـشـعـر والله أن لو قتـل الـبـحـتـري
لثـار بـالـشـام لـه ثـــائر في ألف نغل من بني عض خرى
يقـدمـهـم كـل أخـــي ذلة علـى حـمـار دابـر أعـور فشاعت الأبيات حتى بلغت البحتري، فضحك، ثم قال: هذا الأحمق يرى أني أجيبه على مثل هذا، فلو عاش امرؤ القيس. فقال، من كان يجيبه?.
ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة
منزلتها في الغناء والأدب
صفحة : 2348
كانت عريب مغنية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف، وحسن الصورة وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب، لم يتعلق بها أحد من نظرائها، ولا روئي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات، مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن - على قلة عددهن - نظير لها، وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء، ومن نشأ في قصور الخلافة وغذي برقيق العيش، الذي لا يدانيه عيش الحجاز، والنش بين العامة والعرب الجفاة، ومن غلظ طبعه، وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، عن حماد بن إسحاق: قال: قال لي أبي: ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة ولا أحسن وجها، ولا أخف روحا، ولا أحسن خطابا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي، فقال: صدق أبو محمد، هي كذلك، قلت: أفسمعتها? قال: نعم هناك، يعني في دار المأمون، قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق? فقال يحيى: هذه مسألة الجواب فيها على أبيك، فهو أعلم مني بها، فأخبرت بذلك أبي، فضحك، ثم قال: ما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا.
هي وإسحاق والخليفة المعتصم: أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى: قال: حدثني أبي، قال: قال لي إسحاق: كانت عندي صناجة كنت بها معجبا، واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون، فبينا أنا ذات يوم في منزلي، إذ أتاني إنسان يدق الباب دقا شديدا فقلت: انظروا من هذا? فقالوا: رسول أمير المؤمنين، فقلت: ذهبت صناجتي، تجده ذكرها له ذاكر، فبعث إلي فيها. فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب، وأنا مثخن، فدخلت، فسلمت، فرد علي السلام، ونظر إلى تغير وجهي، فقال لي: أسكن، فسكنت، فقال لي: إن صوتا وقال لي: أتدري لمن هو? فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله ذلك، فأمر جارية من وراء الستارة، فغنته وضربت، فإذا هي قد شبهته بالغناء القديم، فقلت: زدني معها عودا آخر، فإنه أثبت لي، فزادني عودا آخر، فقلت: هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، قال: من أين قلت ذاك? قلت: لما سمعت لينه عرفت أنه محدث من غناء النساء، ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة، وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر، فلم أشك، فقال: صدقت، الغناء لعريب.
قال ابن المعتز: وقال يحيى بن علي: أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته، فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فكتبته فكان ألف صوت.
أصواتها كما وكيفا: وأخبرني علي بن عبد العزيز، عن ابن خرداذبه: أنه سأل عريب عن صنعتها، فقالت: قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت.
وحدثني محمد بن إبراهيم قريض أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز، وأبي العبيس بن حمدون، وما أخذه عن بدعة جاريتها التي أعطاها إياها بنو هاشم، فقابل بعضه ببعض، فكان ألفا ومائة وخمسة وعشرين صوتا.
وذكر العتابي أن أحمد بن يحيى حدثه: قال: سمعت أبا عبد الله الهشامي يقول - وقد ذكرت صنعة عريب - : صنعتها مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول:
يا عين بكي خالدا ألفا ويدعى واحدا يريد أن غناءها ألف صوت في معنى واحد، فهي بمنزلة صوت واحد.
وحكى عنه أيضا هذه الحكاية ابن المعتز.
وهذا تحامل لا يحل، ولعمري إن في صنعتها لأشياء مرذولة لينة، وليس ذلك مما يضعها، ولا عري كبير أحد من المغنين القدماء والمتأخرين من أن يكون صنعته النادر والمتوسط سوى قوم معدودين مثل ابن محرز ومعبد في القدماء، ومثل إسحاق وحده في المتأخرين، وقد عيب بمثل هذا ابن سريج في محله، فبلغه أن المغنين في القدماء، ومثل إسحاق وحده في المتأخرين، وقد عيب بمثل هذا ابن سريج في محله، فبلغه أن المغنين يقولون: إنما يغني ابن سريج الأرمال والخفاف، وغناؤه يصلح للأعراس والولائم، فبلغه ذلك فتغنى بقوله:
لقد حببت نعم إلينا بوجههـا مساكن ما بين الوتائر فالنقع
صفحة : 2349
ثم توفي بعدها، وغناؤه يجري مجرى المعيب عليه، وهذا إسحاق يقول في أبيه: - على عظيم محله في هذه الصناعة وما كان إسحاق يشيد به من ذكره وتفضيله على ابن جامع وغيره - ولأبي ستمائة صوت، منها مائتان تشبه فيها بالقديم، وأتى بها في نهاية من الجودة، ومائتان غناء وسط مثل أغاني سائر الناس، ومائتان فلسية وددت أنه لم يظهرها وينسبها لنفسه، فأسترها عليه، فإذا كان هذا قول إسحاق في أبيه فمن يعتذر بعده من أن يكون له جيد ورديء، وما عري أحد في صناعة من الصناعة من حال ينقصه عن الغاية، لأن الكمال شيء تفرد الله العظيم به، والنقصان جبلة طبع بني آدم عليها، وليس ذلك إذا وجد في بعض أغاني عريب مما يدعو إلى إسقاط سائرها، ويلزمه اسم الضعف واللين، وحسب المحتج لها شهادة إسحاق بتفضيلها، وقلما شهد لأحد، أو سلم خلق - وإن تقدم وأجمع على فضله - من شينه إياه وطعنه عليه، لنفاسته في هذه الصناعة، واستصغاره أهلها، فقد تقدم في أخباره مع علوية، ومخارق، وعمرو بن بانة، وسليم بن سلام، وحسين بن محرز، ومن قبلهم ومن فوقهم مثل ابن جامع وإبراهيم بن المهدي وتهجينه إياهم، وموافقته لهم على خطئهم فيما غنوه وصنعوه مما يستغنى به عن الإعادة في هذا الموضع، فإذا انضاف فعله هذا بهم. وتفضيله إياها، كان ذلك أدل على التحامل ممن طعن عليها، وإبطاله فيما ذكرها به، ولقائل ذلك - وهو أبو عبد الله الهشامي - سبب كان يصطنعه عليها، فدعاه إلى ما قال، نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ومما يدل على إبطاله أن المأمون أراد أن يمتحن إسحاق في المعرفة بالغناء القديم والحديث، فامتحنه بصوت من غنائها من صنعتها، فكاد يجوز عليه، لولا أنه أطال الفكر والتلوم واستثبت، مع علمه بالمذاهب في الصنعة، وتقدمه في معرفة النغم وعللها، والإيقاعات ومجاريها.
وأخبرنا بذلك يحيى بن علي بن يحيى: قال: حدثني أبي عن إسحاق: فأما السبب الذي كان من أجله يعاديها الهشامي، فأخبرني به يحيى بن محمد بن عبد الله بن طاهر قال: ذكر لأبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عمي أن الهشامي زعم أن أحسن صوت صنعته عريب:
صاح قد لمت ظالما وإن غناءها بمنزلة قول أبي دلف في خالد:
يا عين بكي خالدا ألفا ويدعى واحدا فقال: ليس الأمر كما ذكر، ولعريب صنعة فاضلة متقدمة، وإنما قال هذا فيها ظلما وحسدا، وغمطها ما تستحقه من التفضيل، بخبر لها معه طريف، فسألناه عنه، فقال: أخرجت الهشامي معي إلى سر من رأى، بعد وفاة أخي، يعني أبا محمد بن عبد الله بن طاهر، فأدخلته على المعتز، وهو يشرب، وعريب تغني، فقال له: يا بن هشام، غن، فقال: تبت من الغناء قتل سيدي المتوكل، فقالت له عريب: قد والله أحسنت حيث تبت، فإن غناءك كان قليل المعنى، لا متقن ولا صحيح ولا مطرب، فأضحكت أهل المجلس جميعا منه، فخجل؛ فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها، ويعيب صنعتها، ويقول: هي ألف صوت في العدد، وصوت واحد في المعنى.
وليس الأمر كما قاله، إن لها لصنعة تشبهت فيها بصنعة الأوائل، وجودت، وبرزت فيها، منها:
أئن سكنت نفسي وقل عويلها ومنها:
تقول همي يوم ودعتها ومنها:
إذا أردت انتصافا كان ناصركم ومنها:
بأبي من هو دائي ومنها:
أسلموها في دمشق كما ومنها:
فلا تتعنتي ظلما وزورا ومنها:
لقد لام ذا الشوق الخلي من الهوى ونسخت ما أذكره من أخبارها، فأنسبه إلى ابن المعتز من كتاب دفعه إلي محمد بن إبراهيم الجراحي المعروف بقريض، وأخبرني أن عبد الله بن المعتز دفعه إليه، من جمعه وتأليفه، فذكرت منها ما استحسنته من أحاديثها، إذا كان فيها حشو كثير، وأضفت إليه ما سمعته ووقع إلي غير مسموع مجموعا ومتفرقا، ونسبت كل رواية إلى راويها.
برمكية النسب: قال ابن المعتز: حدثني الهشامي أبو عبد الله وأخبرني علي بن عبد العزيز، عن ابن خرداذبة قالا: كانت عريب لعبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد، وهو الذي رباها، وأدبها، وعلمها الغناء.
قال ابن المعتز: وحدثني غير الهشامي، عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم: أنها بنت جعفر بن يحيى، وأن البرامكة لما انتهبوا سرقت وهي صغيرة.
قال: فحدثني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب: قال:
صفحة : 2350
حدثني من أثق به، عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي: أن أم عريب كانت تسمى فاطمة، وكانت قيمة لأم عبد الله بن يحيى بن خالد، وكانت صبية نظيفة، فرآها جعفر بن يحيى، فهويها، وسأل أم عبد الله أن تزوجه إياها، ففعلت، وبلغ الخبر يحيى بن خالد، فأنكره؛ وقال له: أتتزوج من لا تعرف لها أم ولا أب? اشتر مكانها مائة جارية وأخرجها، فأخرجها، وأسكنها دارا في ناحية باب الأنبار سرا من أبيه. ووكل بها من يحفظها، وكان يتردد إليها، فولدت عريب في سنة إحدى وثمانين ومائة، فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا وتسعين سنة، قال: وماتت أم عريب في حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة نصرانية، وجعلهها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتهامن سنبس النخاس، فباعها من المراكبي.
قال ابن المعتز: وأخبرني يوسف بن يعقوب: إنه سمع الفضل بن مروان يقول: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى، قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب فقال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى?.
وأخبرني جحظة قال: دخلت إلى عريب مع شروين المغني وأبي العبيس بن حمدون، وأنا يومئذ غلام علي قباء ومنطقة، فأنكرتني وسألت عني، فأخبرها شروين، وقال: هذا فتى من أهلك، هذا ابن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد، وهو يغني بالطنبور، فأدنتني، وقربت مجلسي، ودعت بطنبور، وأمرتني بأن أغني فغنيت أصواتا، فقالت: قد أحسنت يا بني ولتكونن مغنيا، ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك بين عوديهما، وأمرت لي بخمسين دينارا.
قال ابن المعتز: وحدثني ميمون بن هارون: قال: حدثتني عريب قالت: بعث الرشيد إلى أهلها - تعني البرامكة - رسولا يسألهم عن حالهم، وأمره ألا يعلمهم أنه من قبله، قالت: فصار إلى عمي الفضل، فسأله، فأنشأ عمي يقول: صوت
سألونا عن حالنا كيف أنـتـم من هوى نجمه فكيف يكون?
نحن قوم أصابنا عـنـد الـده ر فظلنا لريبه نـسـتـكـين ذكرت عريب أن هذا الشعر للفضل بن يحيى، ولها فيه لحنان: ثاني ثقيل وخفيف ثقيل، كلاهما بالوسطى، وهذا غلط من عريب، ولعله بلغها أن الفضل تمثل بشعر غير هذا، فأنسيته وجعلت هذا مكانه.
فأما هذا الشعر فللحسين بن الضحاك، لا يشك فيه، يرثي به محمدا الأمين بعد قوله:
نحـن قـوم أصـابـنـا حـا دث الدهر فظلنا لريبه نستكين
نتمـنـى مـن الأمـين إيابـا كل يوم وأين منـا الأمـين? وهي قصيدة.
تعشق، وتهرب إلى معشوقها: قال ابن المعتز: وحدثني الهشامي: إن مولاها خرج إلى البصرة، وأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء، فبرعت في ذلك كله، وتزايدت حتى قالت الشعر، وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان، وقيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض، فكان مولاها يدعوه كثيرا، ويخالطه، ثم ركبه دين فاستتر عنه، فمد عينه إلى عريب، فكاتبها، فأجابته، وكانت المواصلة بينهما، وعشقته عريب، فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلما من عقب، وقيل: من خيوط غلاظ، وسترته، حتى إذا همت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمدة - وقد أعد لها موضعا - لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل، ودثرتها بدثارها، ثم تسورت من الحائط، حتى هربت، فمضت إليه، فمكثت عنده زمانا، قال: وبلغني أنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنيه به، فأعاره عودها، وهو لا يعلم أنها عنده، ولا يتهمه بشيء من أمرها، فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي، وهو عيسى ابن زينب يهو أباه ويعيره بها، وكان كثيرا ما يهجوه:
قاتـل الـلـه عـريبــا فعلت فعـلا عـجـيبـا
ركـبـت والـلــيل داج مركبا صعبـا مـهـوبـا
فارتقت متصلا بالـنـجـم أو مـنـه قــريبـــا
صبـرت حـتـى إذا مـا أقصد النـوم الـرقـيبـا
مثـلـت بـين حـشــايا هالكـيلا تـسـتـريبـا
خلـفـا مـنـهـا إذا نـو دي لم يلـف مـجـيبـا
ومضت يحملهـا الـخـو ف قضـيبـا وكـثـيبـا
محة لو حركت خفـت ع ليهـا أن تـــذوبـــا
فتدلت لمحب فتلقاها حبيبا
صفحة : 2351
جذلا ق دنال في الدنـي ا من الدنـيا نـصـيبـا
أيها الضبي الذي تسحر ع ناه الـقـلــوبـــا
والذي يأكـل بـعـضـا بعضه حسنـا وطـيبـا
كنـت نـهـبـا لـذئاب فلقد أطـعـمـت ذيبـا
وكـذا الـشـاة إذا لـم يك راعـيهـا لـبـيبـا
لا يبالـي وبـأ الـمـر عى إذا كان خصـيبـا
فلقد أصبح عبد الـلـه م كشـخـان حـريبــا
قد لعمري لطم الـوجـه وقد شـق الـجـيوبـا
وجـرت مـنـه دمـوع بكت الشعر الخضـيبـا وقال ابن المعتز: حدثنا محمد بن موسى بن يونس: أنها ملته بعد ذلك، فهربت منه، كانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد، وهي متسترة متخفية، فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني، فسمع غناءها، فعرفه، فبعث إلى عمه من وقته، وأقام هو بمكانه، فلم يبرح حتى جاء عمه، فلببها وأخذها، فضربها مائة مقرعة، وهي تصيح: يا هذا لم تقتلني أنا لست أصبر عليك، أنا امرأة حرة إن كنت مملوكة فبعني، لست أصبر على الضيقة، فلما كان من غد ندم على فعله، وصار إليها فقبل رأسها ورجلها، ووهب لها عشرة آلاف درهم، ثم بلغ محمدا الأمين خبرها، فأخذها منه، قال: وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه، فطلبها منه، فلم يجبه إلى ما سأل، وقبل ذلك ما كان طلب منه خادما عنده، فاضطغن لذلك عليه، فلما ولي الخلافة جاء المراكبي، ومحمد راكب، ليقبل يده، فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشاكري، فضربه المراكبي وقال له: أتمنعني من يد سيدي أن أقبلها? فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه، فدعا محمد بالمراكبي، وأمر بضر عنقه، فسئل في أمره، فأعفاه، وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع، وبعث، فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له، فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي، فكانت عنده ، قال: وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه، ثم ملته فهربت منه، وهي أبيات عدة، هذان منها:
ورشوا على وجهي من الماء واندبوا قتيل عـريب لا قـتـيل حـروب
فليتك إن عجلتني فـقـتـلـتـنـي تكونين من بعد الممات نصـيبـي قال ابن المعتز: وأما رواية إسماعيل بن الحسين، خال المعتصم فإنها تخالف هذا، وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن، أحد قواد خراسان قال: وكان أشقر أصهب الشعر أزرق، وفيه تقول عريب - ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس :
بأبـي كـل أزرق أصهب اللون أشقر
جن قلبـي بـه ول يس جنوني بمنكر تذكر ناسيا: قال ابن المعتز: وحدثني ابن المدبر قال: خرجت مع المأمون إلى أرض الروم، أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق، فكنا نسير مع العسكر، فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم في العماريات على الجمازات وكنا رفقة، وكنا أترابا، فقال لي أحدهم: على بعض هذه الجمازات عريب، فقلت: من يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات، وأنشد أبيات عيسى ابن زينب?.
قاتل الله عـريبـا فعلت فعلا عجيبا فراهنني بعضهم وعدل الرهنان وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها، حتى أتممتها، فإذا أنا بامرأة قد أخرجت رأسها فقالت: يا فتى أنسيت أجود الشعر وأطيبه? أنسيت قوله:
وعريب رطبة الشف رين قد نيكت ضروبا اذهب فخذ ما بايعت فيه، ثم ألقت السجف، فعلمت أنها عريب، وبادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم.
رقيب يحتاج إلى رقيب: أخبرني إسماعيل بن يونس قال: قال لنا عمر بن شبة: كانت للمراكبي جارية يقال لها مظلومة، جميلة الوجه، بارعة الحسن، فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام، أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه، فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه، فقال فيها بعض الشعراء وقد رآها عنده:
لقد ظلموك يا مظلوم لـمـا أقاموك الرقيب على عريب
ولو أولوك إنصافـا وعـدلا لما أخلوك أنت من الرقيب
صفحة : 2352
أتنهين المريب عن المعاصي فكيف وأنت من شأن المريب
وكيف يجانب الجاني ذنـوبـا لديك وأنت داعية الـذنـوب
فإن يسترقبوك على عـريب فما رقبوك من غيب القلوب وفي هذا المعنى، وإن لم يكن من جنس ما ذكرته ما أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش في رقيبة مغنية استحسنت وأظنه للناشئ:
فديتك لو أنـهـم أنـصـفـوا لقد منعوا العين عن ناظـريك
ألم يقرءوا ويحـهـم مـا يرو ن من وحي طرفك في مقلتيك
وقد بعـثـوك رقـيبـا لـنـا فمن ذا يكون رقيبـا عـلـيك
تصدين أعينـنـا عـن سـواك وهل تنظر العـين إلا إلـيك من بلاط الأمين إلى بلاط المأمون: قال ابن المعتز: وحدثني عبد الواحد بن إبراهيم، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، وعن محمد بن إسحاق البغوي، عن إسحاق بن إبراهيم: أن خبر عريب لما نمي إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها، فأحضرا، وغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول:
لكل أناس جوهر متنـافـس وأنت طراز الآنسات الملائح فطرب محمد، واستعاد الصوت مرارا، وقال لإبراهيم: يا عم كيف سمعت? قال: يا سيدي، سمعت حسنا، وإن تطاولت بها الأيام، وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا، فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك، وساوم بها، ففعل، فاشتط مولاها في السوم، ثم أوجبها له بمائة ألف دينار، وانتقض أمر محمد، وشغل عنها، وشغلت عنه، فلم يأمر لمولاها بثمنها حتى قتل بعد أن أفتضها، فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي، وذكر باقي الخبر كما ذكره من تقدم.
وقال في خبره: إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد، فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد، فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد، فأمر بإحضاره فأحضر، فسأله عنها فأنكر، فقال له المأمون: كذبت قد سقط إلي خبرها. وأمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة، ويضع عليه السياط حتى يردها، فأخذه، وبلغها الخبر فركبت حمار مكار، وجاءت وقد جرد ليضرب، وهي مكشوفة الوجه، وهي تصيح: أنا عريب، إن كنت مملوكة فليبعني، وإن كنت حرة فلا سبيل له علي، فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضي، فعدلت عنده، وتقدم إليه المراكبي مطالبا بها، فسأله البينة على ملكه إياها، فعاد متظلما إلى المأمون، وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق، ولا يوجد مثله في بد من ابتاع عبدا أو أمة.
وتظلمت إليه زبيدة، وقالت: من أغلظ ما جرى علي بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبا منها. فقال المراكبي: إنما أخذت ملكي، لأنه لم ينقدني الثمن، فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي - وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي - فأخذها من قتيبة بن زياد، فأمر ببيعها ساذجة، فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم، فذهبت به كل مذهب ميلا إليها ومحبة لها.
قال ابن المعتز: ولقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبل في بعض الأيام رجلها، قال: فلما مات المأمون بيعت في ميراثه، ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم، وأعتقها، فهي مولاته.
وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنها لما هربت من دار محمد حين قتل تدلت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق، وهربت إلى حاتم بن عدي.
وأخبرني جحظة، عن ميمون بن هارون: أن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار، ودعا بعبد الله بن إسماعيل، فدفعها إليه وقال: لولا أني حلفت ألا أشتري مملوكا بأكثر من هذا لزدتك، ولكني سأوليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة، ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر، قيمتهما ألف دينار، وخلع خلعا سنية، فقال: يا سيدي، إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا، وأما أنا فإني ميت لا محالة، لأن هذه الجارية كانت حياتي، وخرج عن حضرته، فاختلط وتغير عقله، ومات بعد أربعين يوما.
قال ابن المعتز: فحدثني علي بن يحيى قال: حدثني كاتب الفضل بن مروان: قال: حدثني إبراهيم بن رباح قال:
صفحة : 2353
كنت أولى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب، فأمره أن يشتريها، فاشتراها بمائة ألف درهم، فأمرني المأمون بحملها، وأن أحمل إلى إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى. ففعلت ذلك، ولم أدر لصائغها ودلالها، فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون، وقد رأى ذلك، فأنكره، وسألني عنه، فقلت: نعم هو ما رأيت، فسأل المأمون، فدعاني، ودنوت إليه، وأخبرته أنه المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق، وقلت: أيما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية? فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطي، لا تعترض على كاتبي هذا في شيء.
وقال ابن المكي: حدثني أبي عن تحرير الخادم: قال: دخلت يوما قصر الحرم، فلمحت عريب جالسة على كرسي ناشرة شعرها تغتسل، فسألت عنها، فقيل: هذه عريب دعا بها سيدها اليوم، فافتضها.
قال ابن المعتز: فأخبرني ابن عبد الملك البصري: أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد، وكانت قد عشقته وكاتبته بصوت قالته، ثم احتالت في الخروج إليه، وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت، حتى حبلت منه وولدت بنتا، وبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها.
وأخبرنا إبراهيم بن القاسم بن زرزور، عن أبيه، وحدثني به المظفر بن كيغلغ عن القاسم بن زرزور، قال: لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة صوف وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء، يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم، ثم ذكرها، فرق لها، وأمر بإخراجها، فلم فتح الباب عنها، وأخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني:
جبوه عن بصري فمثل شخصـه في القلب فهو محجب لا يحجب فبلغ ذلك المأمون، فعجب منها، وقال: لن تصلح هذه أبدا، فزوجها إياه.
نسبة هذا الصوت صوت
لو كان يقدر أن يبثـك مـا بـه لرأيت أحسن عاتب يتـعـتـب
حجبوه عن بصري فمثل شخصه في القلب فهو محجب لا يحجب الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى.
رقعة منها في تركه: قال ابن المعتز: وحدثني لؤلؤ صديق علي بن يحيى المنجم: قال: حدثني أحمد بن جعفر بن حامد: قال: لما توفي عمي محمد بن حامد صار جدي إلى منزله، فنظر إلى تركته، وجعل يقلب ما خلف، ويخرج إليه منها الشيء بعد الشيء إلى أن أخرج إليه سفط مختوم، ففض الخاتم، وجعل يفتحه، فإذا فيه رقاع عريب إليه، فجعل يتصفحها ويبتسم، فوقعت في يده رقعة، فقرأها، ووضعها من يده وقام لحاجة، فقرأتها فإذا فيها قوله: صوت
ويلي عليك ومنـكـا أوقعت في الحق شكا
زعمت أنـي خـئون جورا علي وإفـكـا
إن كان ما قلت حقـا أو كنت أزمعت تركا
فأبدل اللـه مـا بـي من ذلة الحب نسكـا لعريب في هذه الأبيات رمل وخزج، عن الهشامي والشعر لها.
تجيب على قبلة بطعنة: قال ابن المعتز: وحدثني عبد الوهاب بن عيسى الخراساني، عن يعقوب الرخامي: قال: كنا مع العباس بن المأمون بالرقة وعلى شرطته هاشم - رجل من أهل خراسان - فخرج إلي، وقال: يا أبا يوسف، ألقي إليك سرا لثقتي بك، وهو عندك أمانة، قلت: هاته، قال: كنت واقفا على رأس الأمين وبي حر شديد، فخرجت عريب، فوقفت معي، وهي تنظر في كتاب فما ملكت نفسي أن أومأت بقبلة، فقالت: كحاشية البرد. فوالله ما أدري ما أرادت، فقلت: قالت لك: طعنة.
قال: وكيف ذاك? قلت: أرادت قول الشاعر:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة كحاشية البرد اليماني المسهـم وحكى هذه القصة أحمد بن أبي طاهر، عن بشر بن زيد، عن عبد الله بن أيوب بن أبي شمر، أنهم كانوا عند المأمون ومعهم محمد بن حامد، وعريب تغنيهم، فغنت تقول:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة كحاشية البرد اليماني المسهـم فقال لها المأمون: من أشار إليك بقبلة، فقلت له طعنة? فقالت له: يا سيدي، من يشير إلي بقبلة من مجلسك? فقال: بحياتي عليك قالت: محمد بن حامد، فسكت.
تحب أميرا وتتزوج خادما: قال ابن المعتز: وحدثني محمد بن موسى: قال:
صفحة : 2354
اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه، وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنين، وعريب معه على مصلاه، فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة، فاندفعت تغني ابتداء:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة كحاشية البرد اليماني المسهـم تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له: طعنة، فقال لها المأمون: أمسكي، فأمسكت، ثم أقبل على الندماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة? والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه، فقام محمد، فقال: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى، فقال: قد عفوت.
فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك? قال: ابتدأت صوتا، وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة.
قال ابن المعتز: وحدثني علي بن الحسين: أن عريب كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد وروى غيره أنها كانت لا تضرب المصل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحسن غنائه، وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم وأصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه.
قال ابن المعتز: وحدثني بعض جوارينا: إن عريب كانت تتعشق صالحا المنذري الخادم، وتزوجته سرا، فوجه به المتوكل إلى ممكان بعيد في حاجة له، فقالت فيه شعرا، وصاغت لحنه في خفيف الثقيل وهو: صوت
أما الحبيب فقد مضى بالرغم مني لا الرضا
أخطأت في تركي لمن لم ألق منه معوضـا قال: فغنته يوما بين يدي المتوكل، فاستعاده، وجعل جواريه يتغامزن ويضحكن، فأصغت إليهن سرا من المتوكل، فقالت: يا سحاقات، هذا خير من عملكن.
قبلي سالفتي تجدي ريح الجنة: قال: وحدثت عن بعض جواري المتوكل، أنها دخلت يوما على عريب، فقالت لها: تعالي ويحك إلي، فجاءت. قال: فقالت: قبلي هذا الموضع مني فإنك تجدين ريح الجنة فأومأت إلى سالفتها، ففعلت، ثم قالت لها: ما السبب في هذا? قالت: قبلني صالح المنذري في ذلك الموضع.
وقت انسجام لا وقت ملام: قال ابن المعتز: وأخبرني أبو عبد الله الهشامي قال: حدثني محمد بن يحيى الواثقي، قال: قال لي محمد بن حامد ليلة: أحب أن تفرغ لي مضربك، فإني أريد أن أجيئك، فأقيم عندك، ففعلت، ووافاني، فلما جلس جاءت عريب، فدخلت.
وقد حدثني به جحظة: قال: حدثني أبو عبد الله بن حمدون: أن عريب زارت محمد بن حامد، وجلسا جميعا، فجعل يعاتبها، ويقول: فعلت كذا، وفعلت كذا، فقالت لي: يا محمد، هذا عندك رأي? ثم أقبلت عليه، فقالت: يا عاجز خذ بنا فيما نحن فيه وفيما جئنا إليه.
وقال جحظة في خبره: اجعل سراويلي مخنقتي، وألصق خلخالي بقرطي، فإذا كان غد فاكتب إلي بعتابك في طومار حتى أكتب إليك بعذري في ثلاثة، ودع هذا الفضول، فقد قال الشاعر: صوت
دعي عد الذنوب إذا التقينا تعالي لا أعد ولا تعـدي وتمام هذا قوله:
فأقسم لو هممت بمد شعري إلى نار الجحيم لقلت مدي الشعر للمؤمل: والغناء لعريب، خفيف رمل، وفيه لعلوية رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة: مع ثمانية من الخلفاء: أخبرني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب: قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات قال: كنت يوما عند أخي أبي العباس، وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها، وجواريها يغنين بين يدينا وخلف ستارتنا، فقلت لأخي - وقد جرى ذكر الخلفاء : قالت لي عريب: ناكني منهم ثمانية ما اشتهيت منهم أحدا إلا المعتز، فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد. قال ابن الفرات: فأصغيت إلى بعض بني أخي، فقلت له: فكيف ترى شهوتها الساعة فضحك ولمحته، فقالت: أي شيء قلتم? فجحدتها. فقالت لجواريها: أمسكن، ففعلن، فقالت: هن حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعا، وهن حرائر. إن حردت من شيء جرى، ولو أنها تسفيل، فصدقتها. فقالت: وأي شيء في هذا? أما الشهوة فبحالها، ولكن الآلة قد بطلت أو قالت: قد كلت، عودوا إلى ما كنتم فيه.
شرطان فاحشان: وحدثني الحسن بن علي بن مودة قال: حدثني إبراهيم بن أبي العبيس: قال: حدثنا أبي: قال:
صفحة : 2355
دخلنا على عريب يوما مسلمين، فقالت: أقيموا اليوم عندي حتى أطعمكم لوزنيجة صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب، وما حضر من الوظيفة، وأغنيكم أنا وهي، قال: فقلت لها على شريطة، قالت: وما هي? قلت: شيء أريد أن أسألك عنه منذ سنين، وأنا أهابك? قالت: ذاك لك، وأنا أقدم الجواب قبل أن تسأل، فقد علمت ما هو، فعجبت لها، وقلت: فقولي، فقالت: تريد أن تسألني عن شرطي أي شرط هو? فقلت: إي والله ذاك الذي أردت. قالت: شرطي أير صلب، ونكهة طيبة، فإن انضاف إلى ذلك حسن يوصف، وجمال يحمد فقد زاد قدره عندي، وإلا فهذان ما لا بد لي منهما.
تلقن حبيبها درسا في كيف تكون الهدية: وحدثني الحسن بن علي، عن محمد بن ذي السيفين إسحاق بن كنداجيق. عن أبيه: قال: كانت عريب تولع بي وأنا حديث السن، فقالت لي يوما: يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث إلي نصيبي منها، قال: فاستأنفت طعاما كثيرا. وبعثت إليها منه شيئا كثيرا؛ فأقبل رسولي من عندها مسرعا. فقال لي: لما بلغت إلى بابها، وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد وجهت إليك برسول. وهو معي، فتحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي، فدخل الخادم ومعه شيء مشدود في منديل ورقعة، فقرأتها، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، يا عجمي يا غبي، ظننت أني من الأتراك ووخش الجند، فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء، الله المستعان عليك، يا فدتك نفسي، قد وجهت إليك زلة من حضرتي، فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوه من الأفعال، ولا تستعمل أخلاق العامة، في رد الظرف. فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله، فكشفت المنديل، فإذا طبق ومكبه من ذهب منسوج على عمل الخلاف، وفيه زبدية فيها لقمتان من رقاق، وقد عصبت طرفيهما وفيها قطعتان من صدر دراج مشوي ونقل وطلع وملح. وانصرف رسولها.
أيهما أغلى: الخلافة أم الخل الوفي? قال ابن المعتز: حدثني الهشامي أبو عبد الله. عن رجل ذكره، عن علوية قال: أمرين المأمون وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح، فغدونا ولقيني المراكبي موىل عريب، وهي يومئذ عنده، فقال لي: يأيها الرجل الظالم المعتدي، أما ترق ولا ترحم ولا تستحي? عريب هائمة تحلم بك في النوم ثلاث مرات في كل ليلة، قال علوية: فقلت: أم الخلافة زانية. ومضيت معه، فحين دخلت قلت: استوثق من الباب، فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب، وإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ، وبين يديها ثلاث قدور من دجاج، فلما رأتين قامت تعانقني وتقبلني، ثم قالت: أيما أحب إليك أن تأكل من هذه القدور، أو تشتهي شيئا يطبخ لك، فقلت: بل قدر من هذه تكفينا، فغرفت قدرا منها، وجعلتها بيني وبينها، فأكلنا ودعونا بالنبيذ، فجلسنا نشرب حتى سكرنا، ثم قالت: يا أبا الحسن، صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية، فقلت: وما هو? فقالت هو:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته صفا لي ولا إن كنت طوع يديه وقالت لي: قد بقي فيه شيء، فلم نزل نردده أنا وهي حتى استوى، ثم جاء الحجاب فكسروا باب المراكبي واستخرجوني، فدخلت على المأمون، فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق، وأنا أغني الصوت، فسمع وسمع من عنده ما لم يعرفوه واستظرفوه، وسألني المأمون عن خبره، فشرحته له. فقال لي: ادن وردده، فرددته عليه سبع مرات. فقال في آخر مرة: يا علوية. خذ الخلافة واعطني هذا الصاحب.
نسبة هذا الصوت صوت
عذيري من الإنسان لا إن جفوته صفا لي ولا إن كنت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى قرب صاحب يروق ويصفو إن كدرت عليه الشعر من الطويل وهو لأبي العتاهية، والغناء لعريب، خفيف ثقيل أول بالوسطى، ونسبه عمرو بن بانة في هذه الطريقة والأصبغ إلى علوية.
لماذا غضب الواثق والمعتصم عليها: قال ابن المعتز: وحدثني القاسم بن زرزور: قال: حدثتني عريب قالت: كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة، وأنا حينئذ أصوغ الغناء.
قال القاسم: وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا أجود من لحنه، فمن ذلك:
لم آت عامدة ذنبـا إلـيك بـلـى أقر بالذنب فاعف اليوم عن زللي لحنها فيه حفيف ثقيل، ولحن الواثق رمل، ولحنها أجود من لحنه، ومنها:
صفحة : 2356
أشكو إلى الله ما ألقى من الكمد حسبي بربي ولا أشكو إلى أحد لحنها ولحن الواثق جميعا من الثقيل الأول، ولحنها أجود من لحنه.
نسبة هذين الصوتين صوت
لم آت عامدة ذنبـا إلـيك بـلـى أقر بالذنب فاعف اليوم عن زللي
فالصفح من سيد أولى لمعـتـذر وقاك ربك يوم الخوف والوجـل الغناء للواثق رمل، ولعريب خفيف ثقيل وذكر ذكاء وجه الرزة أن لطالب بن يزداد فيه هزجا مطلقا.
صوت
أشكو إلى الله ما ألقى من الكمد حسبي بربي ولا أشكو إلى أحد
أين الزمان الذي قد كنت ناعمة في ظله بدنوي منك يا سنـدي
وأسأل الله يوما منك يفرحـنـي فقد كحلت جفون العين بالسهد
شوقا إليك وما تدري بما لقـيت نفسي عليك وما بالقلب من كمد الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى، وللواثق ثقيل أول بالبنصر.
قال ابن المعتز: وكان سبب انحراف الواثق عنها. وكيادها آياه، وانحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون ببلد الروم: اقتل أنت العلج ثم، حتى أقلت أنا الأعور الليلي هاهنا. تعني الواثق، وكان يسهر بالليل، وكان المعتصم استخلفه ببغداد.
تغضب على جارية مبتذلة: قال: وحدثني أو العبيس بن حمدون قال: غضبت عريب على بعض جواريها المذكورات - وسماها لي - فجئت إليها يوما. وسألتها أن تعفو عنها. فقالت في بعض ما تقوله، مما تعتد به عليها من ذنوبها: يا أبا العبيس إن كنت تشتهي أن ترى زناي وصفاقة وجهي وجراءتي على كل عظيمة أيام شبابي فانظر إليها واعرف أخبارها.
كانت تجيد ركوب الخيل: قال ابن المعتز: وحدثني القاسم بن زرزور قال: حدثني المعتمد، قال: حدثتني عريب أنها كانت في شبابها يقدم إليها برذون. فتطفر عليه بلا ركاب.
تندمج في الصوت فلا تحس لدغ العقرب: قال: وحدثني الأسدي: قال: حدثني صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة: قال: تمارى خالي أبو علي مع المأمون في صوت، فقال المأمون: أين عريب? فجاءت وهي محمومة، فسألها عن الصوت فقالت فيه بعلمها، فقال لها: غنية، فولت لتجيء بعود، فقال لها: غنية بغير عود، فاعتمدت على الحائط للحمي وغنت، فأقبلت عقرب، فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا، فما نحت يدها، ولا سكتت. حتى فرغت من الصوت، ثم سقطت وقد غشي عليها.
غسالة رأسها تتقسمها جواريها: قال ابن المعتز: وحدثني أبو العباس بن الفرات: قال: قالت لي تحفة جارية عريب: كانت عريب تجد في رأسها بردا، فكانت تغلف شعرها مكان العلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا، وتغسله من جمعة إلى جمعة، فإذا غسلته أعادته، وتتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان.
ترتجل معارضة لصوت: حدثني أحمد بن جعفر جحظة، عن علي بن يحيى المنجم: قال: دخلت يوما على عريب مسلما عليها، فلما اطمأننت جالسا هطلت السماء بمطر عظيم، فقالت: أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري، وابعث إلى من أحببت من إخوانك، فأمرت بدوابي فردت، وجلسنا نتحدث، فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة، ومن كان يغنينا، وأي شيء استحسنا من الغناء، فأخبرتها أن صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخوري، فقالت: وما هو? فأخبرتها أنه: صوت
تجافي ثم تنـطـبـق جفون حشوها الأرق
وذي كلف بكى جزعا وسفر القوم منطلق
به قلق يمـلـمـلـه وكان وما به قلـق
جوانحه على خطـر بنار الشوق تحتـرق فوجهت رسولا إلى بنان، فحضر من وقته، وقد بلته السماء، فأمرت بخلع فاخرة، فخلعت عليه، وقدم له طعام فاخر، فأكل وجلس يشرب معنا، وسألته عن الصوت، فغناها إياه فأخذت دواة ورقعة وكتبت فيها:
أجـاب الـوابـــل الـــغـــدق وصـاح الـنـرجـس الـغـــرق
وقد غنى بنان لنا: جفون حشوها الأرق
فهات الكأس مترعة كأن حـبــابـــهـــا حـــدق قال علي بن يحيى: فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات.
ررموز برموز: حدثني محمد بن خلف بن المرزبان، عن عبد الله بن محمد المروزي: قال:
صفحة : 2357
قال لي الفضل بن العباس بن المأمون: زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها، فوافتنا ونحن على شرابنا، فتحادثنا ساعة. وسألتها أن تقيم عندي، فأبت وقالت: دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف، وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد، فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى بن منارة، وقد عزمت على المسير إليهم، فحلفت عليها. فأقامت عندنا، ودعت بدواة وقرطاس فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها، وهي: أردت، ولولا، ولعلي.
ووجهت به إليهم، فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها، فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة، فكتب تحت أردت: ليت، وتحت لولا: ماذا، وتحت لعلي: أرجو. ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلا وقالت لنا: أأترك هؤلاء وأقعد عندكم? إذا تركني الله من يديه، ولكني أخلف عندكم من جواري من يكفيكم، وأقوم إليهم، ففعلت ذلك وخلفت عندنا بعض جواريها، وأخذت معها بعضهن، وانصرفت.
لها حكم النظام: أخبرنا محمد بن خلف، عن سعيد بن عثمان بن أبي العلاء، عن أبيه قال: عتب المأمون على عريب، فهجرها أياما، ثم اعتلت فعادها، فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر? فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا، قال: فخرج المأمون إلى جلسائه، فحدثهم بالقصة، ثم قال: أترى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيرا?.
لا تريد دخيلا بينها، وبين المأمون: حدثني محمد بن خلف، عن أبي العيناء، عن أحمد بن أبي داود: قال: جرى بين عريب وبين المأمون كلام، فكلمها المأمون بشيء غضبت منه، فهجرته أياما، قال أحمد بن أبي دواد: فدخلت على المأمون. فقال لي: يا أحمد، اقض بيننا، فقالت عريب: لا حاجة لي في قضائه ودخوله فيما بيننا، وأنشأت تقول:
وتخلط الهجر بالوصال لا يدخل في الصلح بيننا أحد ماذا كانت تفعل في خلوتها مع محمد بن حامد: حدثني محمد بن خلف قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن أحمد بن حمدون، عن أبيه، قال: كنت حاضرا مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق، فقال لي المأمون: اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق - يعني المعتصم - فأد إليه رسالتي في كيت وكيت، قال: فركبت ولم تثبت مع شمعة، وسمعت وقع حافر دابة، فرهبت ذلك، وجعلت أتوقاه، حتى صك ركابي ركاب تلك الدابة، وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب، فإذا عريب، فقلت: عريب? قالت: نعم، حمدون، قلت: نعم. ثم قتل: من أين أقبلت في هذا الوقت? قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: وما صنعت عنده? قالت عريب: ياتكش، عريب تجيء من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه، تقول لها: أي شيء عملت عنده? صليت مع التراويح? أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئا من الفقه، يا أحمق تعاتبنا، وتحادثنا، واصطلحنا، ولعبنا، وشربنا، وغنينا، وتنايكنا، وانصرفنا، فأخجلتني وغاظتني، وافترقنا، ومضيت فأديت الرسالة، ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار، وهممت والله أن أحدثه حديثها، ثم هبته فقلت: أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر، فأنشدته:
ألا حي أطلالا لواسعة الـحـبـل ألوف تسوى صالح القوم بالـرذل
فلو أن من أمسى بجانـب تـلـعة إلى جبلي طي فساقطة الحـبـل
جلوس إلى أن يقصر الظل عندهـا لراحوا وكل القوم منها على وصل فقال لي المأمون: اخفض صوتك لا تسمعك عريب فتغضب، وتظن أنا في حديثها، فأمسكت عما أردت أخبره، وخار الله لي في ذلك.
تعشق ولا تعشق: حدثني محمد بن أحمد الحكيمي: قال: أخبرني ميمون بن هارون، قال: قال لي ابن اليزيدي: حدثني أبي قال: خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الروم، فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت لي: يا يزيدي، أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحناص فأنشدتها:
ماذا بقلبي من دوام الخفق إذا رأيت لمعان الـبـرق
من قبل الأردن أو دمشـق لأن من أهوى بذاك الأفق
فإن فيه وهو أعز الخلـق علي والزور خلاف الحق
صفحة : 2358
ذاك الذي يملك مني رقـي ولست أبغي ما حييت عتقي قال: فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه، فقلت: هذا والله تنفس عاشق، فقالت: اسكت يا عاجز أنا أعشق، والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا طريقا.
بيتا عباس بن الأحنف يصلحان بينها وبين حبيبها: حدثني محمد بن خلف: قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر: قال: حدثني أحمد بن حمدون: قال: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شر، وكان يجد بها الوجد كله، فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة، وكان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها، فلقيته يوما، فقالت له: كيف قلبك يا محمد? قال: أشقى والله ما كان وأقرحه، فقالت له: استبدل تسل، فقل لها: لو كانت البلوى باختيار لفعلت: فقالت: لقد طال إذا تعبك، فقال: وما يكون? أصبر مكرها، أما سمعت قول العباس بن الأحنف.
تعب يطول مع الرجاء بذي الهوى خير له من راحة فـي الـيأس
لولا كرامتكم لما عـاتـبـتـكـم ولكنتم عندي كبعـض الـنـاس قال: فذرفت عينناها، واعتذرت إليه وأعتبته، واصطلحا، وعادا إلى أفضل ما كانا عليه.
اختلاف في فن عريب: حدثني أحمد بن جعفر جحظة: قال: قال لي أبو العباس بن حمدون - وقد تجاذبنا غناء عريب - ليس غناؤها مما يعتد بكثرته، لأن سقطه كثير، وصنعتها ساذجة، فقلت له: ومن يعرف في الناس كلهم من مغني الدولة العباسية سلمت صنعته كلها حتى تكون مثله ثم جعلت أعد ما أعرفه من جيد صنعتها ومتقدمها وهو يعترف بذلك، حتى عددت نحوا من مائة صوت مثل لحنها في:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا
وسيسليك عما فات دولة مفضل
وصاح قد لمت ظالما
وضحك الزمان وأشرقت ونحو هذا، ثم قال لي: ما خلفت عريب بعدها امرأة مثلها في الغناء والرواية والصنعة، فقلت له: لا، ولا كثيرا من الرجال أيضا.
قصة لحن في بيت يتيم: ولعريب في صنعتها:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا خبر أخبرني ببعضه أحمد بن عبيد الله بن عمار، عن ميمون بن هارون.
وذكر ابن المعتز أن عبد الواحد بن إبراهيم بن الخصيب حدثه عمن يثق به، عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي: قال: قالت لي عريب: حج بي أبوك وكان مضعوفا، فكان عديلي، وكنت في طريق أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار، وأكتب عنهم النوادر وسائر ما أسمعه منهم، فوقف شيخ من الأعراب علينا يسأل، فاستنشدته، فأنشدني:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا وقد يكون شباب غير فـتـيان فاستحسنته، ولم أكن سمعته قبل ذلك، قلت: فأنشدني باقي الشعر، فقال لي: هو يتيم، فاستحسنت قوله وبررته، وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول، ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه، فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي: ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي، وقال لك: إنه يتيم. أنشدينيه إن كنت خفظته، فأنشدته، إياه، وأعلمته أني قد غنيت فيه، ثم غنيته له، فوهب لي ألف درهم بهبذا السبب، وفرح بالصوت فرحا شديدا.
قال ابن المعتز: قال ابن الخصيب: فحدثني هذا المحدث أنه قد حضر بعد ذلك بمجلس أبي عيسى بن المتوكل - ومن هاهنا تتصل رواية ابن عمار، عن ميمون، وقد جمعت الروايتين إلا أن ميمون بن هارون ذكر أنهم كانوا عند جعفر بن المأمون، وعندهم أبو عيسى، وكان عندهم علي بن يحيى، وبدعة جارية عريب تغنيهم - فذكر علي بن يحيى أن الصنعة فيه لغير عريب، وذكر أنها لا تدعى هذا وكابر فيه، فقام جعفر بن المأمون، فكتب رقعة إلى عريب - ونحن لا نعلم - يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة، ففعلت، فكتبت إليها بخطها: بسم الله الرحمن الرحيم.
هنيا لأرباب البيوت بيوتهـم وللعزب المسكين ما يتلمس
صفحة : 2359
أنا المسكينة، وحيدة فريدة بغير مؤنس، وأنتم فيما أنتم فيه، وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني، تعني جاريتها: بدعة وتحفة - فأنتم في القصف والعزف، وأنا في خلاف ذلك، هناكم الله وأبقاكم، وسألت - مد الله في عمرك - عما اعترض فيه فلان، والقصة في هذا الصوت كذا وكذا، وقصت قصتها مع الأعرابي كما حدثت به، ولم تخرم حرفا منها، فجاء الجواب إلى جعفر بن المأمون فقرأه وضحك. ثم رمى به إلى أبي عيسى، ورمى به أبو عيسى إلي، وقال: اقرأه، وكان علي بن يحيى جالسا إلى جنبي، فأراد أن يستلب الرقعة، فمنعته، وقمت ناحية، فقرأتها: فأنكر ذلك، وقال: ما هذا? فورينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة، وكان - عفا الله عنا وعنه - مبغضا لها.
تروي قصة غرامية عن أبي محلم: قال ابن المعتز: وحدثني أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات، قال: حدثني أبي، قال: كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذا غنى بعض من كان هناك:
يا بدر إنك قد كسيت مشابـهـا من وجه ذاك المستنير الـلائح
وأراك تمصح بالمحاق، وحسنها باق على الأيام ليس بـبـارح فضحكت عريب وصفقت وقالت: ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصوت غيري، فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري، فسألتها، فقالت: أنا أخبركم بقصته، ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم، إن أبا محلم قدم بغداد، فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك، فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما، فرأته يبول، فأعجبها متاعه. وأحبت مواصلته، فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا، وتعلمه أنها في ضيقة وأنها ترده إليه بعد جمعة، فبعث إليها عشرة آلاف درهم، وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث به، فاستحسنت ذلك وواصلته، وجعلت القرض سببا للوصلة، فكانت تدخله إليها ليلا، وكنت أنا أغني لهم، فشربنا ليلة في القمر، وجعل أبو محلم ينظر إليه، ثم دعا بدواة ورقعة، وكتب فيها قوله:
يا بدر إنك قد كسيت مشابهـا من وجه أم محمد ابنة صالح والبيت الآخر، وقال لي: غني فيه، ففعلت واستحسناه وشربنا عليه، فقلت لي أم محمد في آخر المجلس: يا أختي، قد تنبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر، فقال أبو محلم: وأنا أغيره، فجعل مكان أم محمد ابنة صالح، ذاك المستنير اللائح . وغنيته كما غيره، وأخذه الناس عني، ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر.
فأما نسبة هذا الصوت فإن الشعر لأبي محلم النسابة، والغناء لعريب ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من رواية الهشامي وغيره، وأبو محلم اسمه عوف بن محلم.
تستزير حبيبها فيخشى على نفسه: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، عن ميمون بن هارون: قال: كتبت عريب إلى محمد بن حامد - الذي كانت تهواه - تستزيره، فكتب إليها: إني أخاف على نفسي، فكتبت إليه.
صوت
إذا كنت تحذر ماتحـذر وتزعم أنك لا تجسـر
فمالي أقيم على صبوتي ويوم لقـائك لا يقـدر فصار إليها من وقته.
لعريب في هذين البيتين وبيتين آخرين بعدهما لم يذكرا في الخبر رمل، ولشاريه خفيف رمل، جمعا من رواية ابن المعتز، والبيتان الآخران:
تبينت عذري وما تعـذر وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتـنـي ودمعي من العين ما يفتر وذكر ميمون في هذا الخبر أن محمد بن حامد كتب إليها يعاتبها في شيء كرهه، فكتبت إليه تعتذر، فلم يقبل، فكتبت إليه بهذين البيتين الآخرين اللذين ذكرتهما بعد نسبة هذا الصوت.
صوت
أحببت من شعر بشار لحبـكـم بيتا، كلفت به من شعر بشـار
يا رحمة الله حلي في منازلـنـا وجاورينا فدتك النفس من جـار
إذا ابتهلت سألت الله رحمـتـه كنيت عنك وما يعدوك إضماري الشعر لأبي نواس منه البيت الأول، والثاني لبشار ضمنه أبو نواس، والغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر، ولعمرو بن بانة في الثاني والثالث رمل.
وهذا الشعر يقوله أبو نواس في رحمة بن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب.
رحمة حبيبة بشار ورحمة حبيب أبي نواس: أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش، عن محمد بن يزيد النحوي: قال:
صفحة : 2360
كان بشار يشبب بامرأة يقال لها رحمة، وكان أبو نواس يتعشق غلاما اسمه رحمة بن نجاح، عم نجاح بن سلمة الكاتب، وكانت متقدما في جماله، وكان أبوه قد ألزمه وأخاه رجلا مدنيا، وكان معهم كأحدهم، وأكثر أبو نواس التشبيب برحمة في إقامته ببغداد وشخوصه عنها، وكان بشار قد قال في رحمة المرأة التي يهواها.
يا رحمة الله حلي في منازلـنـا حسبي برائحة الفردوس من فيك
يا أ يب الناس ريقا غير مختبـر إلا شهادة أطراف المـسـاويك فقال أبو نواس، وضمن بيت بشار.
أحببت من شعر بشار لحبكم بيتا كلفت به من شعر بشار الأبيات الثلاثة....
وقال فيه:
يا مـن تـأهـــب مـــزمـــعـــا لـــرواح متـيمــمـــا بـــغـــداد غـــير مـــلاح
في بـطـن جـارية كـفـتــك بـــســـيرهـــا رمـلا وكــل ســـبـــاحة الـــســـبـــاح
بنـيت عــلـــى قـــدر ولاءم بـــينـــهـــا صنــفـــان مـــن قـــار ومـــن ألـــواح
وكأنها والماء ينضح صدرهاوالخيزرانة في يد الـمـلاح
جون من الغربان يبتدر الدجى يهـوي بـصـوت واصـطــفـــاق جـــنـــاح
سلـم عـلـى شـاطـي الـصـراة وأهــلـــهـــا واخـصـص هـنــاك مـــدينة الـــوضـــاح
واقصد هذيت ولا تكن متحيرا فيمقصد عن ظبي آل نجاح
عن رحمة الرحمن واسأل من ترى سيمـــاه ســـيمـــا شـــارب لـــلـــراح
فإذا دفـــعـــت إلـــى أغـــن وألـــثـــغ ومـــنـــعـــم ومـــكـــحــــل ورداح
وكـشـمـسـنـا وكـبـدرنـا حـاشـى الـــتـــي سمـيتـهـا مـنــه بـــنـــور أقـــاحـــي
فاقـصـد لـوقـت لـقـــائه فـــي خـــلـــوة لتـبـوح عـنـــي ثـــم كـــل مـــبـــاح
واخـبـر بـمـا أحـبـبـت عـن حـالـي الـتـــي ممـسـاي فـيهـا واحـــد وصـــبـــاحـــي قال: فافتدى أبو رحمة من أبي نواس ذكر ابنه بأن عقد بينه وبينه حرمة، ودعاه إلى منزله، فجاءه أبو نواس والمديني لا يعرفه، فمازحه مزاحا أسرف عليه فيه، فقام إليه رحمة، فعرفه أنه أبو نواس، فأشفق المديني من ذلك، وخاف أن يهجوه ويشهر اسمه، فسأل رحمة أن يكلمه في الصفح له والإغضاء عن الانتقام، فأجابه أبو نواس وقال:
اذهب سلمت من الهجاء ولذعه وأما ولثغة رحمة بن نجـاح
لولا فتور في كلامك يشتهـى وترفقي لك بعد واستملاحـي
وتكسر في مقتليك هو الـذي عطف الفؤاد عليك بعد جماح
لعلمت أنك لا تمازح شاعـرا في ساعة ليست بحين مـزاح مدخل إلى ترجمة معقل بن عيسى: صوت
أأبكاك بالعرف المـنـزل وما أنت والطلل المحول?
وما أنت ويك ورسم الديار وسنك قد قاربت تكمـل? عروضه من المتقارب، والشعر للكميت بن زيد الأسدي، والغناء لمعقل بن عيسى أخي أبي دلف العجلي، ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر، وهذا البتان من قصيدة مدح الكميت بهما عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية.
أخبرني الحين بن علي قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي، عن علي بن هشام، عن محمد بن عبد الأعلى بن كناسة: قال: كان بين بني أسد وبين طيء بالحص - وهي قريبة من قادسية الكوفة - حرب، فاصطلحوا وبقي لطيء دماء رجلين، فاحتمل ذلك رجل من بني أسد، فمات قبل أن يؤديه، فاحتمله الكميت بن زيد، فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة، فمدحه بقوله:
أأبكاك بالعرف المنـزل وما أنت والطلل المحول فأعانه الحكم بن الصلت الثقفي، فمدحه بقصيدته التي أولها:
رأيت الغواني وحشا نفورا وأعانه زياد بن المغفل الأسدي، فمدحه بقصيدته التي أولها:
هل للشباب الذي قد فات من طلب? ثم جلس الكميت وقد خرج العطاء، فأقبل الرجل يعطي الكميت المائتين، والثلاث المائة، وأكثر وأقل، قال: وكانت دية الأعرابي حينئذ ألف بعير ودية الحضري عشرة آلاف درهم، وكانت قيمة الجمل عشرة دراهم، فأدى الكميت عشرين ألفا عن قيمة ألفي بعير.
نسبة ما في أشعار الكميت هذه من الأغاني
صوت
منها:
هل للشباب الذي قد فات من طلب أم ليس غابره الماضي بمنقلـب
دع البكاء على ما فات من طلـب فالدهر يأتي بألوان من العجـب غناه إبراهيم الموصلي خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية إسحاق.
صفحة : 2361
ذكر معقل بن عيسى
شاعر مغن
كان معقل بن عيسى فارسا شاعرا جوادا، مغنيا فهما بالنغم والوتر، وذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبي دلف وتقريظه في المعرفة بالنغم، وقال: إنه من أحسن أهل زمانه وأجود طبقته صنعة؛ إذ سلم ذلك له أخوه معقل، وإنما أخمل ذكره ارتفاع شأن أخيه، وهو القائل لأبي دلف في عتب عتبه عليه:
أخي مالك ترميني فتقصدنـي وإن رميتك سهما لم يجز كبدي
أخي مالك مجبولا على ترتـي كأن أجسادنا لم تغذ من جسـد وهو القائل لمخارق، وقد كان زار أبا دلف إلى الجبل، ثم رجع إلى العراق، أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري: صوت
لعمري لئن قرت بقربك أعين لقد سخنت بالبين منك عـيون
فسر أو أقم وقف عليك محبتي مكانك من قلبي عليك مصون
فما أوحش الدنيا إذا كنت نازحا وما أحسن الدنيا بحيث تكـون عروضه من الطويل، والشعر لمعقل بن عيسى، والغناء لمخارق، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى، وفيه لحن لمعقل بن عيسى خفيف رمل، وفيه ثاني ثقيل يقال: إنه لمخارق، ويقال: إنه لمعقل.
ومن شعر معقل قوله يمتدح المعتصم، وفيه غناء للزبير بن دحمان من الثقيل الأول بالبنصر: صوت
الدار هاجك رسمها وطلولهـا أم بين سعدى يوم جد رحيلهـا
كل شجاك فقل لعينك أعولـي إن كان يغني في الديار عويلها
ومحمد زين الخلائف والـذي سن المكارم فاستبان سبيلـهـا صوت
أليس إلى أجبال شمخ إلى اللوى لوى الرمل يوما للنفوس معاد?
بلاد بها كنا، وكنا من أهلـهـا إذ الناس ناس والـبـلاد بـلاد الشعر لرجل من عاد فيما ذكروا، والغناء لابن محرز، ولححنه من الثقيل الأول بالبنصر عن ابن المكي، وقيل: إنه من منحوله إليه.
خبر رجل من عاد: أخبرني ابن عمار عن أبي سعد، عن محمد بن الصباح: قال: حدثنا يحيى بن سلمة بن أبي الأشهب التيمي عن الهيثم بن عدي: قال: أخبرني حماد الرواية: قال: حدثني ابن أخت لنا من مراد: قال: وليت صدقات قوم من العرب، فبينا أنا أقسمها في أهلها إذ قال لي رجل منهم: ألا أريك عجبا? قلت: بلى، فأدخلني في شعب من جبل، فإذا أنا بسهم من سهام عاد، فتى قد نشب في ذروة الشعب وإذا على الجبل تجاهي مكتوب:
ألا هل إلى أبيات شمخ إلى اللوى لوى الرمل يوما للنفوس معاد?
بلاد بها كنا وكنا من أهـلـهـا إذ الناس ناس والـبـلاد بـلاد ثم أخرجني إلى ساحل البحر، وإذا أنا بحجر يعلوه الماء طورا، ويظهر تارة، وإذا عليه مكتوب: يا بن آدم يا بن عبد ربه، اتق الله، ولا تعجل في أمرك، فإنك لن تسبق رزقك، ولن ترزق ما ليس لك، ومن البصرة إلى الديل ستمائة فرسخ، فمن لم يصدق بذلك فليمش الطريق على الساحل حتى يتحققه، فإن لم يقدر على ذلك فلينطح برأسه هذا الحجر.
صوت
يا بيت عاتكة الذي أتـعـزل حذر العدا وبه الفؤاد موكـل
إني لأمنحك الصدود وإنـنـي قسما إلأيك مع الصدود لأميل أتعزله: أتجنبه وأكون بمعزل عنه. العدا: جمع عدو، ويقال عدا بالضم وعدا بالكسر، وأمنحك: أعطيك. والمنيحة: العطية. وفي الحديث أن رجلا منح بعض ولده شيئا من ماله، فقال له النبي: أكل ولدك منحت مثل هذا? قال: لا، قال: فارجعه.
الشعر للأحوص بن محمد الأنصاري، من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق ويونس وغيرهما، وفيه لابن سريج خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وعلي بن يحيى.
الأحوص وبعض أخباره
الأحوص يعارض ابن أبي دباكل أو يسرقه: أخبرني بخبر الأحوص في هذا الشعر الحرمي عن الزبير قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، وأخبرنا به الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن مصعب الزبيري، عن المؤملي، عن عمر بن أبي بكر الموصلي، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر: قال:
صفحة : 2362
خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى الحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل، فأنشدنا شيئا من شعره، فأرسل إليه فأتانا، فاستنشدناه، فأنشدنا قصيدته التي يقول فيها:
يا بـيت خـنـسـاء الـــذي أتـــجـــنـــب ذهـب الـشـبـاب وحـبـــهـــا لايذهـــب
أصـبـحـت أمـنـحـك الـصـدود وإنـــنـــي قسـمـا إلـيك مـع الـصــدود لأجـــنـــب
ما لـي أحـن إلـى جـمـالـــك قـــربـــت وأصـد عـنـك وأنــت مـــنـــي أقـــرب
للـــه درك هـــل لـــديك مـــعـــــول لمـتـيم أم هـل لـــودك مـــطـــلـــب?
فلـقـد رأيتــك قـــبـــل ذاك وإنـــنـــي لمـوكـل بــهـــواك أو مـــتـــقـــرب
إذ نـحـن فـي الـزمـن الـرخـي وأنـــتـــم متـجــاورون كـــلامـــكـــم لايرقـــب
تبـكـي الـحـمـامة شـجـوهـا فـتـهـيجـنـي ويروح عـازب هـمـــي الـــمـــتـــأوب
وتـهـب جـارية الـرياح مــن أرضـــكـــم فأرى الـبـلاد لـهـا تـطـل وتـخـــصـــب
وأرى الـسـمـية بـاسـمـكــم فـــيزيدنـــي شوقـا إلـيك رجـاؤك الـمــتـــنـــســـب
وأرى الـــعـــدو يودكــــم فـــــــأوده إن كـان ينـسـب مـنـــك أو لا ينـــســـب
وأخالف الواشين فيك تجملا وهم علي ذوو ضغائن دؤب
ثم اتخذتهم علي وليجة حتـى غـضـبـت ومـثـل ذلـك يغــضـــب قال: فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان، فقدم المدينة، فدخل عليه الأحوص، واستصحبه فأصحبه، فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: ماذا تريد بنفسك? تقدم بالأحوص الشام، وبها من ينافسك من بني أبيك، وهو من الأفن والسفه على ما قد علمت فيعيبونك به. فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص متنجزا لما وعده من الصحابة فدعا له بمائة ديناء وأثواب وقال: يا خال، إني نظرت فيما سألتني من الصحابة فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين من غير إذنه، فيجبهك فيشمت بك عدوي من أهل بيتي، ولكن خذ هذه الثياب والدنانير، وأنا مستأذن لك أمير المؤمنين، فإذا أذن لك كتبت إليك، فقدمت علي، فقال له الأحوص: لا ولكن قد سبعت عندك، ولا حاجة لي بعطيتك، ثم خرج من عنده، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فأرسل إلى الأحوص وهو يومئذ أمير المدينة، فلما دخل عليه أعغطاه مائة دينار، وكساه ثيابا فأخذ ذلك، ثم قال له: يا أخي هب لي عرض أبي بكر، قال: هو لك، ثم خرج الأحوص، فقال في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز.
وقال حماد: قال أبي: سرق أبيات سليمان بأعيانها، فأدخلها في شعره، وغير قوافيها فقط، فقال:
يا بيت عـاتـكة الـذي أتـعـزل حذر العدا وبه الفـؤاد مـوكـل
أصبحت أمنحك الصدود وإنـنـي قسما إليك مع الـصـدود لأمـيل
فصددت عنك وما صددت لبغـضة أخشى مقالة كاشـح لا يعـقـل
هل عيشنا بك في زمانـك راجـع فلقد تفاحش بعدك المتـعـلـل?
إني إذا قلت اسـتـقـام يحـطـه حلف كما نظر الخلاف الأقـبـل
لو بالذي عالـجـت لـين فـؤاده فأبى يلان به لـلان الـجـنـدل
وتجنبـي بـيت الـحـبـيب أوده أرضي البغيض به، حديث معضل
ولئن صددت لأنت لولا رقبـتـي أهوى من الـلائي أزور وأدخـل
إن الشباب وعيشنـا الـلـذ الـذي كنا به زمنـا نـسـر ونـجـذل
ذهبت بشابتـه وأصـبـح ذكـره حزنا يعل به الـفـؤاد وينـهـل
إلا تذكر ما مـضـى وصـبـابة منيت لقـلـب مـتـيم لا يذهـل
أودى الشباب وأخلـقـت لـذاتـه وأنا الحزين على الشباب المعـول
يبكي لما قلـب الـزمـان جـديده خلقا وليس على الزمان مـعـول
والرأس شامله الـبـياض كـأنـه بعد السواد به الثغام المـحـجـل
وسفيهة هبت علـي بـسـحـرة جهلا تلوم على الثـواء وتـعـذل
فأجبتها أن قلت لسـت مـطـاعة فذري تنصحك الـذي لا يقـبـل
إني كفانـي أن أعـالـج رحـلة عمر ونبوة من يضـن ويبـخـل
بنوال ذي فجر تكـون سـجـالـه عمما إذا نزل الزمان الممـحـل
صفحة : 2363
ماض على حدث الأمور كأنـه ذو رونق1 عضب جلاه الصيقل
تبدي الرجال إذا بدا إعظـامـه حذر البغاث هوى لهن الأجـدل
فيرون أن له علـيهـم سـورة وفضيلة سبقت له لا تـجـهـل
متحمل ثقل الأمور حـوى لـه سبق المكارم سابق متـمـهـل
وله إذا نسبت قـريش مـنـهـم مجد الأرومة والفعال الأفضـل
وله بمـكة إذ أمـية أهـلـهـا إرث إذا عد الـقـديم مـؤثـل
أعيت قرابته وكـان لـزومـه أمرا أبان رشاده مـن يعـقـل
وسموت عن أخلاقهم فتركتهـم لنداك إن الحازم المـتـحـول
ولقد بدأت أريد ود مـعـاشـر وعدوا مواعد أخلفت إن حصلوا
حتى إذا رجع اليقين مطامعـي بأسا وأخلفـنـي الـذين أؤمـل
زايلت ما صنعوا إليك بـرحـلة عجلي وعندك عنهم متـحـول
ووعدتني في حاجة فصدقتـنـي ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدلـوا
وشكوت غرما فادحا فحملـتـه عني وأنت لمثله مـتـحـمـل
فلأشكرن لك الذي أولـيتـنـي شكرا تحل به المطي وترحـل
مدحا تكون لكم غرائب شعرهـا مبذولة ولغـيركـم لا تـبـذل
فإذا تنحلت الـقـريض فـإنـه لكم يكون خيار مـا أتـنـحـل
ولعمر من حج الحجيج لبـيتـه تهوي به قلص المطس الذمـل
إن امرأ قد نال مـنـك قـرابة يبغي منافع غيرها لمـضـلـل
تغفوا إذا جهلوا بحلمك عنـهـم وتنيل إن طلبوا النوال فتجـزل
وتكون معقلهم إذا لم ينـجـهـم من شر ما يخشون إلا المعقـل
حتى كأنك يتفنى بـك دونـهـم من أشد بيئة خادر متـبـسـل
وأرى المدينة حين صرت أميرها أمن البرىء بها ونـام الأعـزل فقال عمر: ما أراك أعفيتني مما استعفيت منه، قال: لأنه مدح عمر وعرض بأخيه أبي بكر.
نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الأغاني صوت
ما لي أحن إذا جمالك قـربـت وأصد عنك وأنت مني أقرب?
وأرى البلاد إذا حللت بغيرهـا وحشا وإن كانت تظل وتخصب
يا بيت خنساء الذي أتـجـنـب ذهب الشباب وحبها لا يذهـب
تبكي الحمامة شجوها فتهيجني ويروح عازب همي المتـأوب الشعر لسليمان بن أبي دباكل، والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو.
وقال ابن المكي: فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز، وأوله:
تبكي الحمامة شجوها فتهيجني من هي عاتكة? أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي، وقال محمد بن كناسة: حدثني أبو دكين بن زكريا بن محمد بن عمار بن ياسر: قال: رأيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل وهي عجوز كبيرة وقد جعلت بين عينيها هلالا من نيلج تتملح به.
أخبرني الحرمي عن الزبير، عن محمد بن محمد العمري: قال: عاتكة التي يشبب بها الأحوص عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية أخبرني الحرمي، عن الزبير، عن إسحاق بن عبد الملك: إن الأحوص كان لينا، وأن عاتكة التي ينسب بها ليست عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، وإنما هو رجل كان ينزل قرى كانت بين الأشراف كنى عنه بعاتكة.
أخبرني الحرمي عن الزبيري عن يعقوب بن حكيم: قال: كان الأحوص لينا، وكان يلزم نازلا بالأشراف، فنهاه أخوه عن ذلك، فتركه فرقا من أخيه، وكان يمر قريبا من خيمة النازل بالأشراف ويقول:
يا بيت عاتكة الذي أتعـزل حذر العذاوية الفؤاد موكل يكنى عنه بعاتكة ولا يقدر أن يدخل عليه.
الفرزدق وكثير بزوران الأحوص: أخبرني الحرمي، عن الزبيري، عن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم: قال: حدثني عبد العزيز بن عمران: قال:
صفحة : 2364
قدم الفرزدق المدينة، فقال لكثير? هل لك بنا في الأحوص نأتيه ونتحدث عنده? فقال له: وما نصنع به? إذا والله نجد عنده عبدا حالكا أسود حلوكا يؤثره علينا، ويبيت مضاجعه ليلته حتى يصبح، قال الرزدق: فقلت: إن هذا من عداوة الشعراء بعضهم لبعض، قال: فانهض بنا إليه إذا - لا أب لغيرك - قال الفرزدق: فأردفت كثيرا ورائي على بغلتي، وقلت: تلفف يا أبا صخر، فمثلك لا يكون رديفا، فخمر رأسه وألصق في وجهه، فجعلت لا أجتاز بمجلس قوم إلا قالوا: من هذا وراءك يا أبا فراس? فأقول: جارية وهبها لي الأمير، فلما أكثرت عليه من ذلك، واجتاز على بني زريق، وكان يبغضهم، فقلت لهم ما كنت أقول قبل ذلك، كشف عن رأسه وأومض وقال: كذب، ولكني كرهت أن أكون له رديفا وكان حديثه لي معجبا، فركبت وراءه، ولم تكن لي دابة أركبها إلا دابته، فقالوا: لا تعجل يا أبا صخر، ههنا دواب كثيرة تركب منها ما أردت، فقال: دوابكم والله أبغض إلى من ردفه، فسكتوا عنه. وجعل يتغشم عليهم، حتى جاوز أبصارهم، فقلت: والله ما قالوا لك بأسا، فما الذي أغضبك عليهم? فقال: والله ما أعلم نفرا أشد تعصبا للقرشيين من نفر اجتزت بهم، قال: فقلت له: وما أنت - لا أم لك ولقريش - قال: أنا والله أحدهم، قلت: إن كنت أحدهم فأنت والله دعيهم، قال: دعيهم خير من صحيح نسب العرب، وإلا فأنا والله من أكرم بيوتهم، أنا أحد بني الصلت بن النضر، قلت: إنما قريش ولد فهر بن مالك، فقال: كذبت. فقال: ما علمك يا بن الجعراء بقريش? هم بنو النضر بن كنانة، ألم تر إلى النبي انتسب إلى النضر بن كنانة، ولم يكن ليجاوز أكرم نسبه، قال: فخرجنا حتى أتينا الأحوص، فوجدناه في مشربة له، فقلنا له: أنرقى إليك أم تنزل إلينا? قال: لا أقدر على ذلك، عندي أم جعفر، ولم أرها منذ ايام، ولي فيها شغل، فقال كثير: أم جعفر والله بعض عبيد الزرانيق فقلنا له: فأنشدنا بعض ما أحدثت به، فأنشدنا قوله:
يا بيت عاتكة الذي أتعـزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل حتى أتى على آخرها، فقلت لكثير: قاتله الله، ما أشعره، لولا ما أفسد به نفسه، قال: ليس هذا إفسادا، هذا خسف إلى التخوم، فقلت: صدقت، وانصرفنا من عنده، فقال: أين تريد? فقلت: إن شئت فمنزلي، وأحملك على البغلة، وأهب لك المطرف، وإن شئت فمنزلك ولا أرزؤك شيئا، فقال: بل منزلي، وأبذل لك ما قدرت عليه، وانصرفنا إلى منزله، فجعل يحدثني وينشدني حتى جاءت الظهر، فدعا لي بعشرين دينارا وقال: استعن بهذه يا أبا فرس على مقدمك، قلت: هذا أشد من حملان بني زريق، قال: والله إنك ما تأنف من أخذ هذا من أحد، غير الخليفة، قال الفرزدق: فجعلت أقول في نفسي: تالله إنه لمن قريش، وهممت ألا أقبل منه. فدعتني نفسي - وهي طمعة - إلى أخذها منه، فأخذتها.
من هي الجعراء? معنى قول كثير للفرزدق: يا بن الجعراء: يعيره بدغة، وهي أم عمرو بن تميم، وبها يضرب المثل في الحماقة، فيقال: هي أحمق من دغة، وكانت حاملا، فدخلت الخلاء، فولدت، وهي لا تعلم ما الولد، وخرجت وسلاها بين رجليها، وقد استهل ولدها، فقالت: يا جارتا، أيفتح الجعرفاه فقالت جارتها: نعم يا حمقاء، ويدعو أباه، فبنو تميم يعيرون بذلك، ويقال للمنسوب منهم: يا بن الجعراء.
ملاحاة بينه وبين السري: أخبرني الحرمي، عن الزبير قال: حدثني سليمان بن داود المجمعي: قال: اجتاز السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويمر بن ساعدة الأنصاري بالأحوص وهو ينشد قوله:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل فقال السري:
يا بيتعاتكة المـنـوة بـاسـمـه اقعد على من تحت سقفك واعجل فواثبةه الأحوص، وقال في ذلك:
فأنت وشتمي في أكاريس مـالـك وسبي به كالكلب إذ ينبح النجمـا
تداعى إلى زيد وما أنت مـنـهـم تحـق أبـا إلا الـولاء ولا أمـا
وإنك لو عددت أحسـاب مـالـك وأيامها فيها ولم تنطق الرجـمـا
أعادتك عبدا أو تنقـلـت كـاذبـا تلمس في حي سوى مالك جذمـا
وما أنا بالمحسوس في جذم مالـك ولا بالمسمى ثم يلتزم إلا سـمـا
ولكن أبي لو قد سألـت وجـدتـه توسط منها العز والحسب الضخما فأجابه السري فقال:
صفحة : 2365
سألت جميع هذا الخلـق طـرا متى كان الأحيوص من رجالي وهي أبيات ليست بجيدة ولا مختارة، فألغيت ذكرها.
شعره يسعف دليل المنصور: أخبرني محمد بن أحمد بن الطلاس أبو الطيب، عن أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، وأخبرني به الحرمي، عن الزبير: قال: حدثني عمي - وقد جمعت روايتيهما - .
أن المنصور أمر الربيع لما حج أن يسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها ودورها وحيطانها، فكان رجل من أهلها قد انقطع إلى الربيع زمانا، وهو رجل من الأنصار، فقال له: تهيأ فإني أظن جدك قد تحرك، إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها وحيطانها ودورها فتحسن موافقته ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك، ولا تكتمه شيئا، ولا تسأله حاجة، فغدا عليه بالرجل، وصلى المنصور، فقال: يا ربيع، الرجل، فقال: ها هو ذا، فسار معه يخبره عما سأل حتى ندر من أبيات المدينة، فأقبل عليه المنصور، فقال: من أنت أولا? فقال: من لا تبلغه معرفتك - هكذا ذكر الخراز وليس في رواية الزبير - فقال: ما لك من الأهل والولد? فقال: والله ما تزوجت، ولا لي خادم، قال: فأين منزلك? قال: ليس لي منزل، قال: فإن أمير المؤمنين قد أمر لك بأربعة آلاف درهم، فرمى بنفسه فقبل رجله، فقال له: اركب، فركب، فلما أراد الانصراف قال للربيع: يا أبا الفضل، قد أمر لي أمير المؤمنين بصلة، قال: إيه، قال: إن رأيت أن تنجزها لي، قال: هيهات، قال: فأصنع ماذا? قال: لا أدري والله - وفي رواية الخراز أنه قال: ما أمر لك بشيء، ولو أمر به لدعاني، فقال: أعطه أو وقع إلي - فقال الفتى: هذا هم لم يكن في الحساب، فلبثت أياما، ثم قال المنصور للربيع: ما فعل الرجل? قال: حاضر، قال: سايرنا به الغداة، ففعل، وقال له الربيع: إنه خارج بعد غد، فاحتل لنفسك، فإنه والله إن فاتك فإنه آخر العهد به، فسار معه، فجعل لا يمكنه شيء حتى انتهى إلى مسيره، ثم رجع وهو كالمعرض عنه، فلما خاف فوته أقبل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة، قال: وما بيت عاتكة? قال: الذي يقول فيه الأحوص.
يا بيت عاتكة الذي أتعزل قال: فمه، قال: إنه يقول فيها:
إن أمرأ قد نال منـك وسـيلة يرجو منافع غيرها لمضلـل
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل فقال الزبير في خبره: فقال له: لقد رأيتك أذكرت بنفسك، يا سليمان بن مخلد، أعطه أربعة آلاف درهم، فأعطاه إياها، وقال الخراز في خبره: فضحك المنصور، وقال: قاتلك الله، ما أظرفك، يا ربيع أعطه ألف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين إنها كانت أربعة آلاف درهم، فقال: ألف يحصل خير من أربعة آلاف لا تحصل.
ابن المقفع يتمثل بمطلع لاميته: وقال الخراز في خبره: حدثني المدائني: قال: أخذ قوم من الزنادقة، وفيهم ابن لابن المقفع، فمر بهم على أصحاب المدائن، فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيؤخذ، فتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتعـزل حذر العدا وبه الفؤاد مركل الأبيات، ففطنوا لما أراد، فلم يسلموا عليه، ومضى.
هو ومعبد يردان اعتبار جارية: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة: قال: بلغني أن يزيد بن عبد الملك كتب إلى عامله أن يجهز إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني.
فأخبرنا محمد بن خلف وكيع: قال: حدثنا عبد الله بن شبيب: قال: حدثني إسماعيل بن أبي أويس: قال: حدثني أبي: قال: حدثنا سلمة بن صفوان الزرقي، عن الأحوص الشاعر - وذكر إسماعيل بن سعيد الدمشقي - : أن الزبير بن بكار حدثه عن ابن أبي أويس، عن أبيه، عن مسلمة بن صفوان، عن الأحوص، وأخبرني به الحرمي، عن الزبير، عن عمه، عن جرير المديني المغني، وأبو مسكين: قالوا جميعا: كتب يزيد بن عبد الملك في خلافته إلى أمير المدينة - وهو عبد الواحد بن عبد الله النصري - أن يحمل إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني مولى ابن قطن قال: فجهزنا وحملنا إليه، فلما نزلنا عمان أبصرنا غديرا وقصورا، فقعدنا على الغدير وتحدثنا وذكرنا المدينة، فخرجت جارية من بعض تلك القصور، ومعها جرة تريد أن تستقي فيها ماء، قال الأحوص: فتغنت بمدحي في عمر بن عبد العزيز:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
صفحة : 2366
فتغنت بأحسن صوت ما سمعته قط، ثم طربت، فألقت الجرة فكسرتها، فقال معبد: غنائي والله، وقلت: شعري والله، فوثبنا إليها، وقلنا لها: لمن أنت يا جارية? قالت: لآل سعيد بن العاص - وفي خبر جرير المغني: لآل الوليد بن عقبة - ثم اشتراني رجل من آل الوحيد بخمسين ألف درهم، وشغف بي، فغلبته بنت عم له طرأت عليه، فتزوجها على أمري، فعاقبت منزلتها منزلتي، ثم علا مكانها مكاني، فلم تزدها الأيام إلا ارتفاعا، ولم تزدني إلا اتضاعا، فلم ترض منه إلا بأن أخدمها، فوكلتني باستقاء الماء، فأنا على ما تريان، أخرج أستقي الماء، فإذاا رأيت هذه القصور والغدران ذكرت المدينة، فطربت إليها، فكسرت جرتي، فيعذلني أهلي، ويلومونني، قال: فقلت لها: أنا الأحوص، والشعر لي، وهذا معبد، والغناء له، ونحن ماضيان إلى أمير المؤمنين، وسنذكرك له أحسن ذكر. وقال جرير في خبره ووافقه وكيع، ورواية عمر بن شبة: قالوا: فأنشأت الجارية تقول:
تإن تروني الغداة أسعى بجـر أستقي الماء نحو هذا الغـدير
فلقد كنت في رخاء من العـي ش وفي كل نعـمة وسـرور
ثم قد تبصران ما فيه أمـسـي ت وماذا إليه صار مصـيري
فإلى الله أشتكـي مـا ألاقـي من هوان وما يجن ضمـيري
أبلغا عـنـي الإمـام ومـا يع رف صدق الحديث غير الخبير
أنني أضرب الخلائق بالـعـو د وأحـكـاهـم بـبـم وزير
فلعـل الإلـه ينـقـذ مـمـا أنا فيه فـإنـنـي كـالأسـير
ليتني مت يوم فارقت أهـلـي وبلادي فزرت أهل القـبـور
فاسمعا ما أقـول لـقـاكـمـا الله نجاحا في أحسن التيسـير فقال الأحوص من وقته: صوت
إن زين الغدير من كسر الجر ر وغنى غناء فحل مـجـيد
قلت: من أنت يا ظعين فقالت: كنت فيما مضى لآل الولـيد وفي رواية الدمشقي:
قلت: من أين يا خلوب فقالت: كنت فيما مضى لآل سعـيد
ثم أصبحت بعد حي قـريش في بني خالد لآل الـوحـيد
فغنائي لمعـبـد ونـشـيدي لفتى الناس الأحوص الصنديد
فتباكيت ثم قلـت: أنـا الأح وص والشيخ معبد فأعـيدي
فأعادت لنا بصوت شـجـي يترك الشيخ في الصبا كالوليد وفي رواية أبي زيد:
فأعادت فأحسنـت ثـم ولـت تتهادى فقلت قـول عـمـيد
يعجز المال عن شراك ولكـن أنت في ذمة الهـمـام يزيد
ولك اليوم ذمـتـي بـوفـاء وعلى ذاك من عظام العهود
أن سيجري لك الحديث بصوت معبدي يرد حـبـل الـوريد
يفعل الله ما يشاء فـظـنـي كل خير بنا هـنـاك وزيدي
قالت القينة الكعاب: إلـى ال له أموري وأرتجي تـسـديد غناه معبد ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش والهشامي وغيرهما، وهي طريقة هذا الصوت، وأهل العلم بالغناء لا يصححونه لمعبد.
قال الأحوص: وضع فيه معبد لحنا فأجاده، فلما قدمنا على يزيد قال: يا معبد أسمعني أحدث غناء غنيت وأطراه، فغناه معبد:
إن زين الغدير من كسر الجر وغنى غناء فحل مجيد فقال يزيد: إن لهذا لقصة فأخبراني بها، فأخبراه، فكتب لعامله بتلك الناحية: إن لآل فلان جارية، من حالها ذيت وذيت ، فاشترها بما بلغت، فاشتراها بمائة ألف درهم، وبعث بها هدية، وبعث معها بألطاف كثيرة، فلما قدمت على يزيد رأى فضلا باررعا فأعجب بها، وأجازها، وأخدمها، وأقطعها، وأفرد لها قصرا، قال: فوالله ما برحنا حتى جاءتنا منها جوائز وكسا وطرف.
يزيد بن عمر بن هبيرة يتمثل بشعره عند النكسة: وقال الزبير في خبره عن عمه: قال: أظن القصة كلها مصنوعة، وليس يشبه الشعر شعر الأحوص، ولا هو من طرازه، وكذلك ذكر عمر بن شبة في خبره.
أخبرني الحرمي، عن الزبير قال:
صفحة : 2367
سمعت هشام بن عبد الله بن عكرمة يحدث عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: قال: كنت مع يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الفرات، فلما انهزم الناس التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، أمسينا والله وهم كما قال الأحوص:
أبكي لما قلب الزمان جـديده خلقا وليس على الزمان معول بيتان من شعره يؤذنان بزوال الدولة الأموية: أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري: أن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية رئيت في النوم قبل ظهور دولة بني العباس على بني أمية كأنها عريانة ناشرة شعرها تقول:
أين الشباب وعيشنا اللد الذي كنا به زمنا نسر ونجـذل
ذهبت بشاشته وأصبح ذكره حزنا يعل به الفراد وينهل فتأول الناس ذلك بزوال دنيا بني أمية، فكان كما قالوا: أخبرني بهذا الخبر الحسن بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الجمحي، عن شيخ من قريش: أنه رأى في النوم امرأة من ولد عثمان بن عفان على منايم على دار عثمان المقبلة على المسجد، وهي حاسرة في يديها عود وهي تضرب به وتغني:
أين الشباب وعيشنا اللذ الذي كنا به يوما نسر ونجـذل
ذهبت بشاشته وأصبح ذكره حزنا يعل به الفؤاد وينهل قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى خرج الأمر عن أيديهم، وقتل مروان.
قال إسحاق: المنامة: الدكان وجمعها منايم.
صوت
يا هند إنك لو عـلـم ت بعاذلين تتـابـعـا
قالا فلم أسمع لـمـا قالا وقلت بل اسمعـا
هند أحب إلـي مـن مالي وروحي فارجعا
ولقد عصيت عواذلـي وأطغت قلبا موجعـا الشعر لعبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام، والغناء لابن سريح، ولحنه فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل، الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر رمل بالوسطى عن عمرو، وفيه خفيف ثقيل، ذكر أبو العبيس أنه لابن سريح وذكر الهشامي وابن المكي أنه للغريض، وذكر حبش أن لإبراهيم فيه رملا آخر بالبنصر، وقال أحمد بن عبيد: الذي صح فيه ثقيل الأول وخفيفه ورمله، وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لابن عباد.
ذكر عبد الله بن الحسن بن الحسن
عليهم السلام ونسبه وأخباره وخبر هذا الشعر نسبه
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - وقد مضى نسبه في أخبار عمه الحسين صلوات الله عليه في شعره الذي يقول فيه:
لعمرك إنني لأحب دارا تحل بها سكينة والرباب ويكنى عبد اللله بن الحسن أبا محمد، وأم عبد الله بن الحسن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، وأمها الجرباء بنت قسامة بن رومان عن طيء.
سميت جدته الجرباء لحسنها: أخبرني أحمد بن سعيد: قال: حدثنا يحيى بن الحسن: قال: إنما سميت الجرباء لحسنها، كانت لا تقف إلى جنبها امرأة، وإن كانت جميلة إلا استقبح منظرها لجمالها، وكان النساء يتحامين أن يقفن إلى جنبها، فشبهت بالناقة الجرباء التي تتوقاها الإبل مخافة أن تعديها.
وكانت أم إسحاق من أجمل نساء قريش وأسوئهن خلقا، ويقال: إن نساء بني تيم كانت لهن حظوة عند أزواجهت على سوء أخلاقهن، ويروى أن أم إسحاق كانت ربما حملت وولدت وهي لا تكلم زوجها.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه بذلك: قال: وقد كانت أم إسحاق عند الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قبل أخيه الحسين رضي الله عنه، فلما حضرته الوفاة دعا بالحسين صلوات الله عليه فقال له: يا أخي إني أرضى هذه المرأة لك، فلا تخرجن من بيوتكم، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. فلما توفي الحسن عنها تزوجها الحسين رضي الله عنه، وقد كانت ولدت من الحسن رضي الله عنه ابنه طلحة بن الحسن، فهو أخو فاطمة لأمها وابن عمها، وقد درج طلحة ولا عقب له.
جمال وسوء خلق: ومن طرائف أخبار التيميات من نساء قريش في حظوتهن وسوء أخلاقهن ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن محمد بن عبد الله. قال:
صفحة : 2368
كانت أم سلمة بنت محمد بن طلحة عند عبد الله بن الحسن وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ، له، ويفرق منها ولا يخالفها، فرأى يوما منها طيب نفس، فأراد أن يشكو إليها قسوتها، فقال لها: يا بنت محمد، قد أحرق والله قلبي... فحددت له النظر، وجمعت وجهها وقالت له: أحرق قلبك ماذا? فخافها فلم يقدر على أن يقول لها: سوء خلقك، فقال لها: حب أبي بكر الصديق، فأمسكت عنه.
وتزوج الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين في حياة عمه، وهو - رضي الله عنه - زوجه إياها.
زواجه فاطمة بنت الحسين: أخبرني الطوسي والحرمي، عن الزبير، عن عمه بذلك، وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل بن يعقوب قال: حدثني جدي عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن، قال: حدثني جدي عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن، قال: خطب الحسن بن الحسن إلى عمه الحسين - صلوات الله عليه - وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه، فقال له الحسن رضي الله عنه: اختر يا بني أحبهما إليك، فاستحيا الحسن، ولم يحر جوابا، فقال له الحسين رضي الله عنه: فإني اخترت منهما لك ابنتي فاطمة، فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه مصعب: إن الحسن لما خيره عمه اختار فاطمة، وكانوا يقولون: إن امرأة، سكينة مردودتها، لمنقطعة القرين في الجمال.
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء، عن الزبير بن بكار، وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي، عن أحمد بن يحيى وأحمد بن زهير، عن الزبير، وأخبرني أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن الزبير بن بكار واللفظ للحسن بن علي، وخبره أتم: قال: قال الزبير: حدثني عمي مصعب ولم يذكر أحدا.
ليس لمخضوب البنان يمين: وأخبرني محمد بن يحيى عن أيوب، عن عمر بن أبي الموالي قال الزبير: وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن يوسف بن الماجشون، وقد دخل حديث بعضهم في بعض حديث الآخرين: أن الحسن بن الحسن لما حضرته الوفاة جزع، وجعل يقول: إني لأجد كربا ليس إلا هو كرب الموت، وأعاد ذلك دفعات، فقال له بعض أهله: ما هذا الجزع، تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين - صلوات الله عليهم - وهم آباؤك? فقال: لعمري إن الأمر لكذلك، ولكن كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان حين أموت وقد جاء في مضرجتين أو ممصرتين وهو يرجل جمته يقول: أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي، وما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين، فإذا جاء فلا يدخل علي، فصاحت فاطمة: أتسمع? قال: نعم، قالت: أعتقت كل مملوك لي، وتصدقت بكل ملك لي إن أنا تزوجت بعدك أحدا أبدا، قال: فسكن الحسن وما تنفس ولا تحرك حتى قضى، فلما ارتفع الصياح أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها الحسن، فقال بعض القوم: ندخله. وقال بعضهم: لا يدخل، وقال قوم: لا يضر دخوله، فدخل وفاطمة تصك وجهها، فأرسل إليها وصيفا كان معه، فجاء يتخطى الناس حتى دنا منها فقال لها: يقول لك مولاي أبقي على وجهك فإن لنا فيه أربا، قال: فأرسلت يدها في كمها واختمرت وعرف ذلك منها، فما لطمت وجهها حتى دفن صلوات الله عليه. فلما انقضت عدتها خطبها فقالت: فكيف لي بنذري ويميني? فقال: نخلف عليك بكل عبد عبدين، وبكل شيء شيئين، ففعل وتزوجته، وقد قيل في تزويجه إيها غير هذا.
أخبرني به أحمد بن محمد بن إسماعيل الهمداني، عن يحيى بن الحسن العلوي عن أخيه أبي جعفر، عن إسماعيل بن يعقوب، عن محمد بن عبد الله البكري: أن فاطمة لما خطبها عبد الله أبت أن تتزوجه، فحلفت عليها أمها لتتزوجنه، وقامت في الشمس، وآلت لا تبرح حتى تتزوجه، فكرهت فاطمة أن تحرج، فتزوجته.
وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن شيخ أهله وسيدا من ساداتهم ومقدما فيهم فضلا وعلما وكرما، وحبسه أبو جعفر المنصور في الهاشمية بالكوفة لما خرج عليه ابناه محمد وإبراهيم فمات في الحبس، وقيل: إنه سقط عليه وقيل غير ذلك.
كان من أجمل الناس وأفضلهم: أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن عن علي بن أحمد الباهلي: قال: سمعت مصعبا الزبيري يقول: انتهى كل حسن إلى عبد الله بن حسن، وكان يقال: من أحسن الناس? فيقال: عبد الله بن الحسن، ويقال: من أفضل الناس? فيقال عبد الله بن الحسن.
صفحة : 2369
حدثني محمد بن الحسن الخثعمي الأشاني والحسن بن علي السلولي قالا: حدثنا عباد بن يعقوب قال: حدثنا تلميذ بن سليمان، قال: رأيت عبد الله بن الحسن، وسمعته يقول: أنا أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدتني بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن، عن إسماعيل بن يعقوب، عن عبد الله بن موسى، قال: أول من اجتمعت له ولادة الحسن رضي الله عنه والحسين - صلوات الله عليهما - عبد الله بن الحسن رضي الله عنه: حدثني محمد بن الحسن الأشناني، عن عبد الله بن يعقوب، عن بندقة بن محمد بن حجازة الدهان قال: رأيت عبد الله بن الحسن، فقلت: هذا والله سيد الناس، كان مكسوا نورا من قرنه إلى قدمه.
قال علي بن الحسين: وقد روي ذلك في أخبار أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي رضي الله عنه.
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن القاسم بن عبد الرزاق: قال: جاء منظور بن زيان الفزاري إلى حسن بن حسن - وهو جده أبو أمه - فقال له: لعلك أحدثت بعدي أهلا، قال: نعم، تزوجت بنت عمي الحسين بن علي - رضي الله عنهما - قال: بئسما صنعت، أما علمت أن الأرحام إذا التقت أضوت، كان ينبغي أن تتزوج في الغرب، قال: فإن الله جل وعز قد رزقني منها ولدا، قال: أرنيه، فأخرج إليه عبد الله بن الحسن فسر به، وقال: أنجبت، هذا والله ليث غاب ومعدو عليه، قال: فإن الله تعالى قد رزقني منها ولدا ثانيا، قال: فأرنيه، فأخرج إليه حسن بن حسن بن حسن، فسر به، وقال: أنجبت، وهذا دون الأول، قال: فإن الله قد رزقني منها ولدا ثالثا، قال: فأرنيه. فأراه إبراهيم بن الحسن.
غمزة ترحى بها شفاعة: حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد الصيرفي: قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف قال: حدثنا عمر بن عبد الغفار قال: حدثنا سعيد بن أبان القرشي قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فدخل عبد الله بن الحسن عليه، وهو يومئذ شاب في إزار ورداء، فرحب به وأدناه وحياه، وأجلسه إلى جنبه وضاحكه، ثم غمز عكنة من بطنه، وليس في البيت حينئذ إلا أموي، فقيل له: ما حملك على غمز بطن هذا الفتى? قال: إني لأرجو بها شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
يعطي جائزة: حدثني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي، عن عمر بن شبة، عن إسماعيل بن جعفر الجعفري: قال: حدثني سعيد بن عقبة الجهني: قال: إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاني آت، فقال: هذا رجل يدعوك، فخرجت، فإذا أنا بأبي عدي الشاعر الأموي، فقال: أعلم أبا محمد، فخرج إليه عبد الله، وهم خائفون، فأمر له بأربعمائة دينار، وهند بمائتي دينار، فخرج بستمائة دينار. وقد روى مالك بن أنس عن عبد الله بن الحسن الحديث.
كان يسدل شعره: حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال: حدثنا علي بن أحمد الباهلي عن مصعب بن عبد الله قال: سئل مالك عن السدل قال: رأيت من يرضى بفعله؛ عبد الله بن الحسن يفعله، والسبب في حبس عبد الله بن الحسن وخروج ابنيه وقتلهما يطول ذكره. وقد أتى عمر بن شبة منه بما لا يزيد عليه أحد إلا اليسير، ولكن من أخباره ما يحسن ذكره ها هنا فنذكره.
السبب في حبسه وقتل ابنيه: أخبرني عمر بن عبد الله العتكي عن عمر بن شبة، قال: حدثني موسى بن سعيد بن عبد الرحمن وأيوب بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرو قالوا: لما بنى أبو العباس بناءه بالأنبار الذي يدعى الرصافة: رصافة أبي العباس قال لعبد الله بن الحسن: ادخل فانظر ودخل معه، فلما رآه تمثل:
ألم تر حوشبا أمسى يبني بناء نفعه لبني نـفـيلة
يؤمل أن يعمر عمر نوح وأمر الله يحدث كل يلية فاحتمله أبو العباس ولم يبكته بها.
أخبرني عمي عن ابن شبة عن يعقوب بن القاسم عن عمرو بن شهاب، وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قالوا: إن أبا العباس كتب إلى عبد الله بن الحسن في تغيب ابنيه:
أريد حياته ويريد قـتـلـي عذيرك من خليلك من مراد قال عمر بن شبة: وإنما كتب بها إلى محمد، قال عمر بن شبة: فبعثوا إلى عبد الرحمن بن مسعود مولى أبي حنين، فأجابه:
وكيف يريد ذاك وأنت منه بمنزلة النياط من الفـؤاد
صفحة : 2370
وكيف يريد ذاك وأنت منه وزندك حين تقدح من زناد
وكيف يريد ذاك وأنت منه وأنت لهاشم رأس وهـاد أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن الحسن بن زيد عن عبد الله بن الحسن قال: بينا أنا في سمر أبي العباس، وكان إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده قمنا، فألقاها ليلة فقمنا، فأمسكني فلم يبق غيري، فأدخل يده تحت فراشه، وأخرج إضبارة كتب وقال: اقرأ يا أبا محمد، فقرأت فإذا كتاب من محمد بن هشام بن عمرو التغلبي يدعوه إلى نفسه، فلما قرأته قلت له: يا أمير المؤمنين، لك عهد الله وميثاقه ألا ترى منهما شيئا تكرهه ما كانا في الدنيا.
أخبرنا العتكي عن ابن شبة عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمر، عن عبد الله بن عبدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: لما استخلف أبو جعفر ألح في طلب محمد والمسألة عنه، وعمن يؤويه، فدعا بني هاشم رجلا رجلا، فسألهم عنه، فكلهم يقول: قد عليم أمير المؤمنين أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسه، ولا يريد لك خلافا، ولا يحب لك معصية، إلا الحسن بن زيد فإنه أخبره خبره، فقال: والله ما آمن وثوبه عليك، وأنه لا ينام فيه فر رأيك فيه قال ابن أبي عبيدة: فأيقظ من لا ينام.
أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم: إن أبا جعفر دعاه فسأله عن اسمه ونسبه، فقال: أنا عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهاني، قال: إني أرى لك هيئة وموضعا، وإني لأريدك لأمر أنا به معني، قال: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين، قال: فأخف شخصك، وائتني في يوم كذا وكذا، فأتيته، فقال: إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا بملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا وكذا، يكاتبونهم، ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف، فاذهب حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل تلك القرية، ثم تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا، وإن جبهك - وهو فاعل - فاصبر وعاوده أبدا حتى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إلي، ففعلذلك، وفعل به حتى أنس عبد الله بناحيته، فقاله له عقبة: الجواب، فقال له: أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أن ابني خارج لوقت كذا وكذا، فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر، فأخبره الخبر.
أخبرني العتكي عن عمر بن محمد بن يحيى بن الحارث بن إسحاق، قال: سأل أبو جعفر عبد الله بن الحسن عن ابنيه لما حج، فقال: لا أعلم بهما حتى تغالظا، فأمضه، أبو جعفر، فقال له: يا أبا جعفر، بأي أمهاتي تمضني? أبخديجة بنت خويلد أم بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بفاطمة بنت الحسين - عليهم السلام - أم بأم إسحاق بنت طلحة? قال: لا ولا بواحدة منهن، ولكن بالجرباء بنت قسامة فوثب المسيب بن زهير، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة، فقام زياد بن عبد الله، فألقى عليه رداءه، وقال: يا أمير المؤمنين، هبه لي، فأنا المستخرج لك ابنيه، فتخلصه منه.
قال ابن شبة: وحدثني بكر بن عبد الله مولى أبي بكر، عن علي بن رباح أخي إبراهيم بن رباح، عن صاحب المصلى: قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغذى بأوطاس، وهو متوجه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس، فأقبل على عبد الله بن الحسن، فقال: يا أبا محمد؛ محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي، وإني لأحب أن يأنسا بي ويأتياني فأصلهما وأزوجهما، وأخلطهما بنفسي، قال: وعبد الله يطرق طويلا، ثم يرفع رأسه ويقول: وحقك يا أمير المؤمنين مالي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم، ولقد خرجا عن يدي، فيقول: لا تفعل يا أبا محمد، اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما، قال: وامتنع أبو جعفر عن عامة غداته ذلك اليوم إقبالا على عبد الله، وعبد الله يحلف أنه لا يعرف موضعهما، وأبو جعفر يكرر عليه: لا تفعل يا أبا محمد.
قال ابن شبة: فحدثني محمد بن عباد عن السندي بن شاهك:
صفحة : 2371
أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم: إذا فرغنا من الطعام فلحظتك فامثل بين يدي عبد الله، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك، حتى يملأ عينيه منك، ثم حسبك وإياك أن يراك ما دام يأكل، ففعل ذلك عقبة، فلما رآه عبد الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، وقال: يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
قال ابن شبة، فحدثني أيوب بن عمر، عن محمد بن خلف المخزومي قال: أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال: لما حج أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن، فإنهما وإياي لعنده، وهو مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلم المهدي فلحن فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر بهذا من يعدل لسانه، فإنه يفعل فعل الأمة، فلم يفهم، وغمزت عبد الله فلم ينتبه، وعاد لأبي جعفر فأحفظ من ذلك، وقال له: أين ابنك? قال: لا أدري، قال: لتأتيني به، قال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، قال: يا ربيع فمر به إلى الحبس.
زوجته هند بنت أبي عبيدة: أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن قال: توفي عبد الله في محبسه بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين سنة في سنة خمس وأربعين ومائة وهند التي عناها عبد الله في شعره الذي فيه الغناء زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب.
وكان أبو عبيدة جوادا وممدحا، وكانت هند قبل عبد الله بن الحسن تحت عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فمات عنها.
فأخبرني الحرمي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال: لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند وجدا شديدا، فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي عبيدة، فيعزيها ويؤسيها عن أبيها، فدخل معه عليها، فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته.
قومي اضربي عينيك يا هند لن تري أبا مثله تسمو إليه الـمـفـاخـر
وكنت إذا أسبلـت فـوقـك والـدا تزيني كما زان الـيدين الأسـاور فصكت وجهها، وصاحت بحربها وجهدها، فقال له عبد الله بن الحسن: ألهذا دخلت? فقال الخارجي: وكيف أعزي عن أبي عبيدة وأنا أعزى به.
أخبرني العتكي، عن شبة: قال: حدثني عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان، عن علي بن صالح، قال: زوج عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله هند بنت أبي عبيدة وريطة بنت عبد الله بن عبد المدان لما كان يقال إنه كائن في أولادهما، فمات عنهما عبد الله أو طلقهما، فتزوج هندا عبد الله بن الحسن، وتزوج ريطة محمد بن علي، فجاءت بأبي العباس السفاح.
أخبرني العتكي عن عمر بن شبة عن ابن داجة عن أبيه قال: لما مات عبد الله بن عبد الملك رجعت هند بميراثها منه، فقال عبد الله بن حسن لأمه فاطمة: اخطبي علي هندا، فقالت: إذا تردك، أتطمع في هند وقد ورثت ما ورثته، وأنت ترب لا مال لك? فتركها ومضى إلى أبي عبيدة أبي هند، فخطبها إليه، فقال: في الرحب والسعة، أما مني فقد زوجتك، مكانك لا تبرح، ودخل على هند، فقال: يا بنية، هذا عبد الله بن حسن، أتاك خاطبا، قالت: فما قلت له? قال: زوجته. قالت: أحسنت. قد أجزت ما صنعت، وأرسلت إلى عبد الله: لا تبرح حتى تدخل على أهلك. قال: فتزينت له فبات بها معرسا من ليلته، ولا تشعر أمه، فأقام سبعا، ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمه وعليه ردع الطيب، وفي غير ثيابه التي تعرف، فقالت له: يا بني، من أين لك هذا? قال: من عند التي زعمت أنها لا تريدني.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي عبد العزيز بن أحمد بن بكار: قالا: حدثنا الزبير: قال: حدثتني ظبية مولاة فاطمة: قالت: كان جدك عبد الله بن مصعب يستنشدني كثيرا أبيات عبد الله بن حسن ويعجب بها:
إن عيني تعودت كحل هند جمعت كفها مع الرفق لينا
صوت
يا عيد مالك من شـوق وإيراق ومر طيف على الأهوال طراق
يسري على الأين والحيات محتفيا نفسي فداؤك من سار على ساق عروضه من البسيط: العيد: ما اعتاد الإنسان من هم أو شوق أو مرض أو ذكر. والأين والأيم: ضرب من الحيات. والأين: الإعياء أيضا، وروى أبو عمرو:
يا عيد قلبك من شوق وإيراق
صفحة : 2372
الشعر لتأبط شرا، والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى من رواية يحيى المكي وحبش وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز.
أخبار تأبط شرا ونسبه
نسبه ولقبه
هو ثابت بن جابر بن سفيان بن عميثل بن عدي بن كعب بن حزن. وقيل: حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر بن نزار.
وأمه امرأة يقال لها: أميمة، يقال: إنها من بني القين بطن من، فهم ولدت خمسة نفر: تأبط شرا، وريش بلغب، وريش نسر، وكعب جدر، ولا بواكي له، وقيل: إنها ولدت سادسا اسمه عمرو.
وتبأبط شرا لقب لقب به، ذكر الرواة أنه كان رأى كبشا في الصحراء، فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش، فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول، فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت? قال: الغول، قالوا: لقد تأبطت شرا فسمي بذلك.
وقيل: بل قالت له أمه: كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرك، فقال لها: سآتيك الليلة بشيء، ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه، فلما راح أتى بهن في جراب متأبطا له، فألقاه بين يديها، ففتحته، فتساعين في بيتها، فوثبت، وخرجت، فقال لها نساء الحي: ماذا أتاك به ثابت? فقالت: أتاني بأفاع في جراب، قلن: وكيف حملها? قالت: تأبطها، قلن: لقد تأبط شرا، فلزمه تأبط شرا.
حدثني عمي قال حدثني علي بن الحسن بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية وزاد فيها: أن أمه قالت له في زمن الكمأة: ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة، فيروحون بها? فقال أعطيني جرابك، حتى أجتني لك فيه، فأعطته، فملأه لها أفاعي، وذكر باقي الخبر مثل ما تقدم.
ومن ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى، فإنه يصف لقاءه إياها في شعره كثيرا، فمن ذلك قوله:
فأصبحت الغول لي جارة فيا جارتا لك ما أهـولا
فطالبتها بضعها فالتـوت علي وحاولت أن أفعـلا
فمن كان يسأل عن جارتي فإن لها باللوى مـنـزلا كان أحد العدائين المعدودين: أخبرني عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال: نزلت على حي من فهم إخوة بني عدوان من قيس، فسألتهم عن خبر تأبط شرا، فقال لي بعضهم: وما سؤالك عنه، أتريد أن تكون لصا? قلت: لا، ولكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدائين، فأتحدث بها، فقالوا: نحدثك بخبره: إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه فلا يفوته، حتى يأخذه، فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله.
يصف غولا افترسها: وإنما سمي تأبط شرا لأنه - فيما حكي لنا - لقي الغول في ليلة ظلماء في موضع يقال له رحى بطسان في بلاد هذيل، فأخذت عليه الطريق فلم يزل بها، حتى قتلها، وبات عليها فلما أصبح حملها تحت إبطه وجاء بها إلى أصحابه، فقالوا له: لقد تأبطت شرا، فقال في ذلك:
تأبط شرا ثم راح أو اغـتـدى يوائم غنما أو يشيف على ذحل يوائم: يوافق، ويشيف: يقتدر. وقال أيضا في ذلك:
ألا من مبلغ فـتـيان فـهـم بما لاقيت عند رحى بطـان
وأني قد لقيت الغول تهـوي بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها: كلانـا نـضـوأين أخو سفر فخلي لي مكانـي
فشدت شدة نحوي فـأهـوى لها كفي بمصقول يمـانـي
فأضربها بلا دهش فخـرت صريعا لليدين ولـلـجـران
فقالت: عد، فقلت لها: رويدا مكانك إنني ثبت الـجـنـان
فلم أنفك متـكـئا عـلـيهـا لأنظر مصبحا ماذا أتـانـي
إذا عينان فـي رأس قـبـيح كرأس الهر مشقوق اللسـان
وساقا مخدج وشواة كـلـب وثوب من عباء أو شـنـان لم لا تنهشه الحيات? أخبرنا الحسين بن يحيى: قال: قرأت على حماد: وحدثك أبوك عن حمزة بن عتبة اللهبي: قال: قيل لتأبط شرا: هذه الرجال غلبتها، فكيف لا تنهشك الحيات في سراك? فقال: إني لأسرى البردين. يعني أول الليل، لأنها تمور خارجة من حجرتها، وآخر الليل تمور مقبلة إليها.
يبيع ثقفيا أحمق اسمه بطيلسانة:
صفحة : 2373
قال حمزة: ولقي تأبط شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب، كان جبانا أهوج، وعليه حلة جيدة، فقال أبو وهب لتأبط شرا: بم تغلب الرجال يا ثابت، وأنت كما أرى دميم ضئيل? قال: باسمي، إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبط شرا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت، فقال له الثقفي: أقط قال: قط، قال: فهل لك أن تبيعني اسمك? قال: نعم، فبم تبتاعه? قال: بهذه الحلة وبكنيتك قال له: أفعل، ففعل، وقال له تأبط شرا لك اسمي ولي كنيتك?، وأخذ حلته وأعطاه طمرية، ثم انصرف، وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي:
ألا هل أتى الحسناء أن حـلـيلـهـا تأبط شرا واكـتـنـيت أبـا وهـب
فهبه تسمى اسمي وسميت باسـمـه فأين له صبري على معظم الخطب?
وأين له بأس كبـأسـي وسـورتـي وأين له في كل فـادحة قـلـبـي? يخونه نشاطه أمام الحسان: قال حمزة: وأحب تأبط شرا جارية من قومه، فطلبها زمانا لا يقدر عليها، ثم لقيته ذات ليلة فأجابته وأرادها، فعجز عنها، فلما رأت جزعه من ذلك تناومت عليه فآنسته وهدأ، ثم جعل يقول:
مالك من أير سلبت الخله عجزت عن جارية رفله
تمشي إليك مشية خوزله كمشية الأرخ تريد العله الأرخ: الأنثى من البقر التي لم تنتج. العلة تريد أن تعل بعد النهل، أي أنها قد رويت فمشيتها ثقيلة. والعل: الشرب الثاني.
لو أنها راعية في ثـلـه تحمل قلعين لها قبـلـه
لصرت كالهراوة العتله قصته مع بجيلة: أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشجعي قال: أغار تأبط شرا - وهو ثابت بن العميثل الفهمي، ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة - فأطردا لهم نعما، ونذرت بهما بجيلة، فخرجت في آثارهما ومضيا هاربين في جبال السراة، وركبا الحزن، وعارضتهما بجيلة في السهل فسبقوهما إلى الوهط - وهو ماء لعمرو بن العاص بالطائف - فدخلوا لهما في قصبة العين، وجاءا، وقد بلغ العطش منهما، إلى العين، فلما وقفا عليها قال تأبط شرا لابن براق: أقل من الشراب فإنها ليلة طرد، قال: وما يدريك? قال: والذي أعدو بطيره، إني لأسمع وجيب قلوب الرجال تحت قدمي. وكان من أسمع العرب وأكيدهم. فقال له ابن براق: ذلك وجيب قلبك. فقال له تأبط شرا: والله ما وجب قط، ولا كان وجابا، وضرب بيده عليه، وأصاخ نحو الأرض يستمع فقال: والذي أعدو بطيره، إني لأسمع وجيب قلوب الرجال، فقال له ابن براق: فأنا أنزل قبلك، فنزل فبرك وشرب وكان أكل القوم عند بجيلة شوكة، فتركوه وهم في الظلمة، ونزل ثابت، فلما توسط الماء وثبوا عليه، فأخذوه وأخرجوه من العين مكتوفا، وابن براق قريب منهم لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه، فقال لهم ثابت: إنه من أصلف الناس وأشدهم عجبا بعدوه، وسأقول له: أستأسر معي، فسيدعوه عجبه بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم، وله ثلاثة أطلاق: أولها كالريح الهابة، والثاني كالفرس الجواد، والثالث يكبو فيه ويعثر، فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير في أيديكم كما صرت إذ خالفني ولم يقبل رأيي ونصحي له، قالوا: فافعل، فصاح به تأبط شرا: أنت أخي في الشدة والرخاء، وقد وعدني القوم أن يمنوا عليك وعلي، فاستأسر، وواسني بنفسك في الشدة، كما كنت أخي في الرخاء، فضحك ابن براق، وعلم أنه قد كادهم، وقال: مهلا يا ثابت، أيستأسر من عنده هذا العدو? ثم عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم، والثاني كالفرس الجواد، والثالث جعل يكبو ويعثر ويقع على وجهه. فقال ثابت: خذوه، فعدوا بأجمعهم، فلما أن نفسهم عنه شيشئا عدا تأبط شرا في كتافه، وعارضه ابن براق، فقطع كتافه، وأفلتا جميعا، فقال تأبط شرا قصيدته القافية في ذلك:
يا عيد مالك من شوق وإبـراق ومر طيف على الأهوال طراق
يسري على الأين والحيات محتفيا نفسي فداؤك من سار على ساق
طيف ابنة الحر إذ كنا نواصلهـا ثم اجتنبت بها من بعد تـفـراق
لتقر عن علي السـن مـن نـدم إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
تالله آمن أنثى بعدما حـلـفـت أسماء بالله من عهد ومـيثـاق
صفحة : 2374
ممزوجة الود بينا واصلت صرمت الأول اللذ مضى والآخر الباقـي
فالأول اللذ مضى قال مودتـهـا واللذ منها هذاء غـير إحـقـاق
تعطيك وعد أمانـي تـغـر بـه كالقطر مر على صخبآن بـراق
إني إذا خلة ضنـت بـنـائلـهـا وأمسكت بضعيف الحبل أحـذاق
نجوت منها نجائي في بـجـيلة إذ ألقيت للقوم يوم الروع أرواقـي وذكرها ابن أبي سعيد في الخبر إلى آخرها.
وأما المفضل الضبي فذكر أن تأبط شرا وعمرو بن براق والشنفري - وغيره يجعل مكان الشنفري السليك بن السلكة - غزوا بجيلة فلم يظفروا منهم بغرة، وثاروا إليهم فأسروا عمرا، وكتفوه، وأفلتهم الآخران عدوا، فلم يقدروا عليهما، فلما علما أن ابن براق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه: امض فكن قريبا من عمرو، فإني سأتراءى لهم وأطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه، فإذا فعلوا ذلك فحل كتافه، وانجوا، ففعل ما أمره به، وأقبل تأبط شرا، حتى تراءى لبجيلة، فلما رأوه طمعوا فيه، فطلبوه، وجعل يطمعهم في نفسه، ويعدو عدوا خفيفا يقرب فيه، ويسألهم تخفيف الفدية وإعطاءه الأمان، حتى يستأسر لهم، وهم يجيبونه إلى ذلك، ويطلبونه وهو يحضر إحضارا خفيفا، ولا يتباعد، حتى علا تلعة أشرف منها على صاحبيه، فإذا هما قد نجوا، ففطنت لهما بجيلة، فألحقتهما طلبا ففاتاهم، فقال: يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق اليوم، والله لأعدون لكم عدوا أنسيكم به عدوه، ثم عدا عدوا شديدا، ومضى وذلك قوله:
يا عيد مالك في شوق وإبراق وأما الأمصعي فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عمه: أن بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء وشربوا وناموا، ثم شدوا عليهم، فأخذوا تأبط شرا، فقال لهم: إن ابن براق دلاني في هذا، وإنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه، فإن تبعتموه أخذتموه، فكتفوا تأبط شرا، ومضوا في أثر ابن براق، فلما بعدوا عنه عدا في كتافه ففاتهم، ورجعوا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا أبو سعيد السكري قال: حدثنا ابن الأثرم، عن أبيه. وحدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عمرو، قالا: كان تأبط شرا يعدو على رجليه، وكان فاتكا شديدا، فبات ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد في قاع يقال له رحى بطان، فلقيته الغول فمازال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح وهي تطلبه، قال: والغول: سبع من سباع الجن، وجعل يراوغها، وهي تطلبه، وتلتمس غرة منه، فلا تقدر عليه، إلى أن أصبح، فقال تأبط شرا:
ألا من مبلغ فـتـيان فـهـم بما لاقيت عند رحى بطـان
بأني قد لقيت الغول تـهـوي بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها: كلانـا نـضـوأين أخوه سفر فخلي لي مكانـي
فشدت شدة نحوي فـأهـوى لها كفي بمصقول يمـانـي
فأضربها بلا دهش فخـرت صريعا لليدين ولـلـجـران
فقالت عد، فقلت لهـا: رويدا مكانك إنني ثبت الـجـنـان
فلم أنفك متـكـئا عـلـيهـا لأنظر مصبحا ماذا أتـانـي
إذا عينان فـي رأس قـبـيح كرأس الهر مشقوق اللسـان
وساقا مخدج وشواة كـلـب وثوب من عباء أو شـنـان يفر ويدع من معه: قالوا: وكان من حديثه أنه خرج غازيا يريد بجيلة هو ورجل معه، وهو يريد أن يغترهم، فيصيب حاجته، فأتى ناحية منهم، فقتل رجلا، ثم استاق غنما كثيرة، فنذروا به، فتبعه بعضهم على خيل، وبعضهم رجالة، وهم كثير، فلما رآهم، وكان من أبصر الناس عرف وجوههم، فقال لصاحبه: هؤلاء قوم قد عرفتهم، ولن يفارقونا اليوم حتى يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم، فجعل صاحبه ينظر، فيقول: ما أتبين أحدا، حتى إذا دهموهما قال لصاحبه: اشتد فإني سأمنعك مادام في يدي سهم، فاشتد الرجل، ولقيهم تأبط شرا، وجعل يرميهم حتى نفدت نبله، ثم إنه اشتد فمر بصاحبه فلم يطق شده، فقتل صاحبه، وهو ابن عم لزوجته، فلما رجع تأبط شرا وليس صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل، فقالت له امرأته: تركت صاحبك وجئت متباطئا، فقال تأبط شرا في ذلك:
ألا تلكما عرسي منيعة ضمنت من الله إثما مستسا وعالـنـا
صفحة : 2375
تقول: تركت صاحبا لك ضـائعـا وجئت إلينا فارقـا مـتـبـاطـئا
إذا ما تركت صاحـبـي لـثـلاثة أو اثنتين مثلينا فـلا أبـت آمـنـا
وما كنت أباء على الخـل إذا دعـا ولا المرء يدعوني ممرا مداهنـا
وكري إذا أكرهت رهطا وأهلـه وأرضا يكون العوض فيها عجانهنا
ولما سمعت العوص تدعو تنفـرت عصافير رأسي من غواة فراتنـا
ولم أنتظر أن يدهموني كـأنـهـم ورائي نحل في الخلـية واكـنـا
ولا أن تصيب النافذات مقـاتـلـي ولم أك بالشد الـذلـيق مـداينـا
فأرسلت مثنيا عن الشـد واهـنـا وقلت تزحزح لا تكونـن حـائنـا
وحثحثت مشعوف النجـاء كـأنـه هجف رأى قصرا سمالا وداجنـا
من الحص هرروف يطير عفـاؤه إذا استدرج الفيفا ومد المغابـنـا
أزج زلوج هـزرفـي زفـازف هزف يبد الناجيات الصـوافـنـا
فزحزحت عنهم أو تجئني منـيتـي بغبراء أو عرفاء تفري الدفـائنـا
كأني أراها المـوت لا در درهـا إذا أمكنت أنيابهـا والـبـراثـنـا
وقالت لأخرى خلفها وبـنـاتـهـا حتوف تنقي مخ من كان واهـنـا
أخاليج وراد علي ذي مـحـافـل إذا نزعوا مدوا الدلا والشواطـنـا وقال غيره: بل خرج تأبط شرا هو وصاحبان له، حتى أغاروا على العوص من بجيلة، فأخذوا نعما لهم، واتبعتهم العوص، فأدركوهم، وقد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة، فلما رأى تأبط شرا ألا طاقة لهم بهم شمر وتركهما، فقتل صاحباه، وأخذت النعم، وأفلت، حتى أتى بني القين من فهم، فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها، فلما أراد أن يأتي قومه دهنته ورجلته، فجاء إليهم وهم يبكون، فقالت له امرأته: لعنك الله تركت صاحبيك وجئت مدهنا، وإنه إنما قال هذه القصيدة في هذا الشأن، وقال تأبط شرا يرثيهما وكان اسم أحدهما عمرا:
أبعد قتيل العوص آسى على فتـى وصاحبه أو يأمل الزاد طـارق?
أأطرد فهما آخر الليل أبـتـغـي علالة يوم أن تعـوق الـعـوائق
لعمر فتـى نـلـتـم كـأن رداءه على سرحة من سرح دومة سامق
لأطرد نهبـا أو نـرود بـفـتـية بأيمانهم سمر القنـا والـعـقـائق
مساعرة شعث كـأن عـيونـهـم حريق الغضا تلفى عليها الشقـائق
فعدوا شهور الحرم ثم تـعـرفـوا قتيل أناس أو فـتـاة تـعـانـق محاولة قتله هو وأصحابه بالسم: قال الأثرم: قال أبو عمرو في هذه الرواية: وخرج تأبط شرا يريد أن يغزو هذيلا في رهط، فنزل على الأحل بن قنصل - رجل من بجيلة - وكان بينهما حلف، فأنزلهم ورحب بهم، ثم إنه ابتغى لهم الذراريح ليسقيهم فيستريح منهم، ففطن له تأبط شرا، فقام إلى أصحابه، فقال: إني أحب ألا يعلم أنا قد فطنا له، ولكن سابوه حتى نحلف ألا نأكل من طعامه، ثم أغتره فأقتله لأنه إن علم حذرني - وقد كان مالأ ابن قنصل رجل منهم يقال له لكيز قتلت فهم أخاه - فاعتل عليه وعلى أصحابه فسبوه وحلفوا ألا يذوقوا من طعامه ولا من شرابه، ثم خرج في وجهه، وأخذ في بططن واد فيه النمور، وهي لا يكاد يسلم منها أحد، والعرب تسمي النمر ذا اللونين، وبعضهم يسميه السبنتي، فنزل في بطنه وقال لأصحابه: انطلقوا جميعا فتصيدوا، فهذا الوادي كثير الأروى، فخرجوا وصادوا، وتركوه في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل نمرا وحده، وغزا هذيلا فغنم وأصاب، فقال تأبط شرا في ذلك:
أقسمت لا أنسى وإن طال عيشنا صنيع لكيز والأحل بن قنصـل
نزلنا به يوما فساء صبـاحـنـا فإنك عمري قد ترى أي منزل
بكى إذ رآنا نازلـين بـبـابـه وكيف بكاء ذي القليل المعـيل
فلا وأبيك ما نزلنـا بـعـامـر ولا عامر ولا الرئيس ابن قوقل عامر بن مالك أبو براء ملاعب الأسنة، وعامر بن الطفيل، وابن قوقل: مالك بن ثعلبة أحد بني عوف بن الخزرج - .
صفحة : 2376
ولا بالشليل رب مروان قاعدا بأحسن عيش والنفاثي نوفل رب مروان: جرير بن عبد الله البجلي. ونوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر أحد بني الديل بن بكر - .
ولا ابن وهيب كاسب الحمد والعلا ولا ابن ضبيع وسط آل المخبـل
ولا ابن حليس قاعدا في لقـاحـه ولا ابن جري وسط آل المغفـل
ولا ابن رياح بالـزلـيفـات داره رياح بن سعد لا رياح بن معقـل
أولئك أعطى لـلـولائد خـلـفة وأدعى إلى شحم السديف المرعبل يتخذ من العسل مزلقا على الجبل فينجو من موت محقق: وقال أيضا في هذه الرواية: كان تأبط شرا يشتار عسلا في غار من بلاد هذيل، يأتيه كل عام، وأن هذيلا ذكرته، فرصدوه لإبان ذلك، حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى، فدخل الغار، وقد أغاروا عليهم فأنفروهم، فسبقوهم ووقفوا على الغار، فحركوا الحبل، فأطلع تأبط شرا رأسه، فقالوا: أصعد، فقال: ألا أراكم، قالوا: بلى قد رأيتنا. فقال: فعلام أصعد، أعلى الطلاقة أم الفداء? قالوا: لا شرط لك، قال: فأراكم قاتلي وآكلي جناي، لا والله لا أفعل، قال: وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب، فجعل يسيل العسل من الغار ويثريقه، ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه حتى خرج سليما وفاتهم، وبين موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث، فقال تأبط شرا في ذلك:
أقول للحيان وقد صفـرت لـهـم وطابي ويومي ضيق الحجر معور
هما خطـتـا إمـا إسـار ومـنة وإما دم والقتل بـالـحـر أجـدر
وأخرى أصادي النفس عنها وإنهـا لمورد حزم إن ظفرت ومصـدر
فرشت لها صدري فزل عن الصفا به جؤجؤ صلب ومتن مخـصـر
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحه والموت خزيان ينـظـر
فأبت إلى فهم ومـا كـنـت آئبـا وكم مثلها فارقتها وهي تصـفـر
إذا المرء لم يحتل وقد جـد جـده أضاع وقاسى أمره وهو مـدبـر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نـازلا به الأمر إلا وهو للحزم مبصـر
فذاك قريع الدهر ما كـان حـولا إذا سد منه منخر جاش منـخـر
فإنك لو قايست باللصب حيلـتـي بلقمان لم يقصر بي الدهر مقصر غارة ينتصر فيها على العوص: وقال أيضا في حديث تأبط شرا: إنه خرج من عدة من فهم، فيهم عامر بن الأخنس، والشنفري، والمسيب، وعمرو بن براق، ومرة بن خليف، حتى بيتوا العوص وهم حي من بجيلة، فقتلوا منهم نفرا، وأخذوا لهم إبلا، فساقوها حتى كانوا من بلادهم على يوم وليلة، فاعترضت لهم خثعم وفيهم ابن حاجز، وهو رئيس القوم، وهم يومئذ نحو من أربعين رجلا، فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس: ماذا ترى? قال: لا أرى لكم إلا صدق الضراب، فإن ظفرتم فذاك، وإن قتلتم كنتم قد أخذتم ثأركم، قال تأبط شرا: بأبي أنت وأمي، فنعم رئيس القوم أنت إذا جد الجد، وإذا كان قد أجمع رأيكم على هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل والقوم كثير، ومتى افترقتم كثركم القوم، فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم، فحملوا ثانية فانهزمت خثعم وتفرقت، وأقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز، فقال تأبط شرا في ذلك:
جزى الله فتيانا على العوص أمطرت سماؤهم تحت العـجـاجة بـالـدم
وقد لاح ضوء الفجر عرضا كأنـه بلمحـتـه إقـراب أبـلـق أدهـم
فإن شـفـاء الـداء إدراك ذحــلة صباحا على آثار حـوم عـرمـرم
وضاربتهم بالسفح إذ عارضـتـهـم قبائل من أبناء قـسـر وخـثـعـم
ضرابا عدا منه ابن حاجز هـاربـا ذرا الصخر في جوف الوجين المديم وقال الشنفري في ذلك:
دعيني وقولي بعد ما شئت إننـي سيغدي بنعشي مـرة فـأغـيب
خرجنا فلم نعهد وقلت وصاتـنـا ثمانية ما بعدهـا مـتـعـتـب
سراحين فتيان كأن وجوهـهـم مصابيح أو لون من الماء مذهب
صفحة : 2377
نمر برهو الماء صفحـا وقـد طـوت ثمـائلـنـا والـزاد ظـن مـغـيب
ثلاثا على الأقدام حتـى سـمـا بـنـا على العوص شعشاع من القوم محرب
فثاروا إلينا في السواد فهـجـهـجـوا وصوت فينا بالصـبـاح الـمـثـوب
فشن عليهم هـزة الـسـيف ثـابـت وصمم فيهم بالحـسـام الـمـسـيب
وظلت بفـتـيان مـعـي أتـقـيهـم بهن قـلـيلا سـاعة ثـم جـنـبـوا
وقد خر منـهـم راجـلان وفـارس كمي صرعنـاه وحـوم مـسـلـب
يشـق إلـيه كـل ربـع وقـلــعة ثمانية والـقـوم رجـل ومـقـنـب
فلما رآنا قـومـنـا قـيل أفـلـحـوا فقلنا: اسألـوا عـن قـائل لايكـذب وقال تأبط شرا في ذلك:
أرى قدمي وقعهما خفيف كتحليل الظليم حدا رئاله
أرى بهما عذابا كـل يوم بخثعم أو بجيلة أو ثماله ففرق تأبط شرا أصحابه، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم، وساق تأبط شرا وأصحابه الإبل حتى قدم بها عليا مكة.
عود إلى سبب تسميته: وقال غيره: إنما سمي تأبط شرا ببيت قاله: وهو:
تأبط شرا ثم راح أو اغـتـدى يوائم غنما أو يشيف على ذحل غارته على مراد: قال: وخرج تأبط شرا يوما يريد الغارة، فلقي سرحا لمراد فأطرده، ونذرت به مراد، فخرجوا في طلبه، فسبقهم إلى قومه، وقال في ذلك:
إذا لاقيت يوم الصدق فاربع عليه ولا يهمـك يوم سـو
على أني بسرح بني مـراد شجوتهم سباقا أي شـجـو
وآخر مثله لا عـيب فـيه بصرت به ليوم غـير زو
خفضت بساحة تجري علينا أباريق الكرامة يوم لهـو مع غلام من خثعم: أغار تأبط شرا وحده على خثعم، فبينا هو يطوف إذ مر بغلام يتصيد الأرانب، معه قوسه ونبله، فلما رآه تأبط شرا أهوى ليأخذه، فرماه الغلام فأصاب يده اليسرى، وضربه تأبط شرا فقتله، وقال في ذلك:
وكادت وبيت الله أطناب ثابـت تقوض عن ليلى وتبكي النوائح
تمنى فتى منا يلاقي ولـم يكـد غلام نمته المحصنات الصرائح
غلام نمى فوق الخماسي قدره ودون الذي قد ترتجيه النواكح
فإن تك نالته خطاطيف كـفـه بأبيض قصال نمى وهو فادح
فقد شد في إحدى يديه كنـانـه يداوى لها في أسود القلب قادح هذه الأبيات أن تكون لقوم المقتول أشبه منها بتأبط شرا - .
قالوا لها لا تنكحيه: قال: وخطب تأبط شرا امرأة من هذيل من بني سهم فقال لها قائل: لا تنكحيه، فإنه لأول نصل غدا يفقد فقال تأبط شرا:
وقـالـوا لـهـا: لا تـنـكــحـــيه فـــإنـــه لأول نـصـل أن يلاقـي مـــجـــمـــعـــا
فلـم تـر مـــن رأي فـــتـــيلا وحـــاذرت تأيمـهـا مـن لابـــس الـــلـــيل أروعـــا
قلـيل غـرار الـنـوم أكـــبـــر هـــمـــه دم الـثـأر أو يلـقـى كـمـيا مـقـــنـــعـــا
قلـــيل ادخـــار الـــزاد إلا تـــعـــــلة وقد نـشـز الـشـر سـوف والـتـصـق الـمـعـي
تنـاضـلـه كـل يشــجـــع نـــفـــســـه ومـا طـبـه فـي طـرقـه أن يشــجـــعـــا
يبـيت بـمـغـنـى الـوحـش حـتـى ألـفـنـــه ويصـبـح لا يحـمـى لـهـا الـدهـر مـرتـعــا
رأين فـتــى لا صـــيد وحـــش يهـــمـــه فلـو صـافـحـت إنـسـا لـصـافـحـنـه مـعـا
ولـكـن أربـاب الـمـخـاض يشـــقـــهـــم إذا افـتـــقـــدوه أو رأوه مـــشـــيعـــا
وإني ولا علم لأعلم أننيسألقى سنان الموت يرشق أضلعا
على غرة أو جهرة من مكاثر أطـال نـزال الـمـوت حـتـى تـسـعـسـعـــا تسعسع: فني وذهب. يقال: قد تسعسع الشهر، ومنه حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر شهر رمضان فقال: إن هذا الشهر قد تسعسع
وكنت أظن الموت في الحـي أو أرى ألذ وأكـرى أو أمـوت مـقـنـعـا
ولست أبيت الدهر إلا عـلـى فـتـى أسلبه أو أذعر الـسـرب أجـمـعـا
ومن يضـرب الأبـطـال لابـد أنـه سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعا عود إلى فراره وترك صاحبيه:
صفحة : 2378
قال: وخرج تأبط شرا ومعه صاحبان له: عمرو بن كلاب أخو المسيب، وسعد بن الأشرس وهم يريدون العارة على بجيلة فنذروا بهم، وهم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم وأخذوا عليهم الطريق، فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبط شرا ونجا، ولم يكد حتى أنى قومه. فقالت له امرأته وهي أخت عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح: هربت عن أخي وتركته وغررته، أما والله لو كنت كريما لما أسلمته، فقال تأبط شرا في ذلك:
ألا تلكما عرشي منيعة ضمنت من الله خزيا مستسرا وعاهنا وذكر باقي الأبيات.
وإنما دعا امرأته إلى أن عيرته أنه لما رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق إلى امرأة كان يتحدث عندها، وهي من بني القين بن فهم، فبات عندها، فلما أصبح غدا إلى امرأته وهو مدهن مترجل، فلما رأته في تلك الحال علمت أين بات، فغارت عليه فعيرته.
يغير على خثعم: وذكروا أن تأبط شرا أغار على خثعم، فقال كاهن لهم: أروني أثره حتى آخذه لكم فلا يبرح حتى تأخذوه، فكفئوا على أثره قال: هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ، فقال تأبط شرا:
ألا أبلغ بني فهم بن عمرو على طول التنائي والمقالة
مقال الكاهن الجامي لمـا رأى أثري وقد أنهبت ماله
رأى قدمي وقعهما حثـيث كتحليل الظليم دعا رئالـه
أرى بهما عذابا كـل عـام لخثعم أو بجيلة أو ثمـالة
وشر كان صب على هذيل إذا علقت حبالهم حبـالـه
ويوم الأزد منهم شـر يوم إذا بعدوا فقد صدقت قاله فزعموا أن ناسا من الأزد ربئوا لتأبط شرا ربيئة وقالوا: هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من غيره، فأقيموا فيه حتى يأتيكم، فلما دنا من القوم توجس، ثم انصرف، ثم عاد فنهضوا في أثره حين رأوه لا يجوز، ومر قريبا فطمعوا فيه، وفيهم رجل يقال له حاجز؛ ليث من ليوثهم سريع، فأغروه به فلم يلحقه، فقال تأبط شرا في ذلك:
تتعتعت حضني حاجز وصـحـابـه وقد نبذوا خلقانهـم وتـشـنـعـوا
أظن وأن صادفت وعثـا وأن جـرى بي السهل أو متن من الأرض مهيع
أجاري ظلال الطير لو فـات واحـد ولو صدقوا قالوا لـه هـو أسـرع
فلو كان من فتيان قـيس وخـنـدف أطاف به القناص من حيث أفزعـوا
وجـاب بـلادا نـصـف يوم ولـيلة لآب إلـيهـم وهـو أشـوس أروع
فلو كان منكـم واحـد لـكـفـيتـه وما ارتجعوا لو كان في القوم مطمع
فأجــابـــه حـــاجـــز:
فإن تك جاريت الظلال فربما سبقت ويوم القرن عـريان أسـنـع
وخليت إخوان الصـفـاء كـأنـهـم ذبائح عنـز أو فـحـيل مـصـرع
تبكيهم شجو الـحـمـامة بـعـدمـا أرحت ولم ترفع لهم منك إصـبـع
فهذي ثلاث قد حـويت نـجـاتـهـا وإن تنج أخرى فهي عنـدك أربـع خير أيامه: أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال ذكر علي بن محمد المدائني، عن ابن دأب قال: سئل تأبط شرا: أي يوم مر بك خير? قال: خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة، أضاءت لي النار رجلا جالسا إلى امرأة. فعمدت إلى سيفي فدفنته قريبا، ثم أقبلت حتى استأنست، فنبحني الكلب، فقال: ما هذا? فقلت: بائس. فقال: ادنه فدنوت، فإذا رجل جلحاب آدم، وإذا أضوى الناس إلى جانبه، فشكوت إليه الجوع والحاجة، فقال: اكشف تلك القصعة، فأتيت قصعة إلى جنب إبله، فإذا فيها تمر ولبن، فأكلت منه حتى شعبت، ثم خررت متناوما، فوالله ما شئت أن أضطجع حتى اضطجع هو ورفع رجله على رجله، ثم اندفع يغني وهو يقول:
خير الليالي إن سألت بـلـيلة ليل بخيمة بين بيش وعـثـر
لضجيع آنسة كأن حـديثـهـا شهد يشاب بمزجة من عنبـر
وضجيع لاهية ألاعب مثلهـا بيضاء واضحة كظيظ المئزر
ولأنت مثلهما وخير منهـمـا بعد الرقاد وقبل أن لم تسحري
صفحة : 2379
قال: ثم انحرف فنام، ومالت فنامت: فقلت: ما رأيت كالليلة في الغرة، فإذا عشر عشراوات بين أثلاث فيها عبد واحد وأمة، فوثبت فانتضيت سيفي، وانتحيت للعبد فقتلته وهو نائم، ثم انحرفت إلى الرجل فوضعت سيفي على كبده حتى أخرجته من صلبه، ثم ضربت فخذ المرأة فجلست، فلما رأته مقتولا جزعت، فقلت: لا تخافي، أنا خير لك منه. قال: وقمت إلى جل متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا والأمة فما حللت عقده حتى نزلت بصعدة بني عوف بن فهر. وأعرست بالمرأة هناك وحين اضطجعت فتحت عقيرتي وغنيت:
بحليةل البجلي بت من ليلهـا بين الإزار وكشحها ثم الصق
بأنيسة طويت على مطـويهـا طي الحمالة أو كطي المنطق
فإذا تقوم فصعدة فـي رمـلة لبدت بريق ديمة لم تـغـدق
وإذا تجيء تجيء شحب خلفها كالأيم أصعد في كثيب يرتقي
كذب الكواهن والسواحر والهنا أن لا وفاء لعاجز لا يتعقـي قال: فهذا خير يوم لقيته.
شر أيامه: وشر يوم لقيت أني خرجت، حتى إذا كنت في بلاد ثمالة أطوف، حتى إذا كنت من القفير عشيا إذا أنا بسبع خلفات فيهن عبد، فأقبلت نحوه، وكأني لا أريده وحذرني فجعل يلوذ بناقة فيها حمراء، فقلت في نفسي: والله إنه ليثق بها. فأفوق له، ووضع رجله في أرجلها وجعل يدور معها، فإذا هو على عجزها. وأرميه حين أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخر، وندت الناقة شيئا وأتبعتها فرجعت فسقتهن شيئا ثم قلت: والله لو ركبت الناقة وطردتهن، وأخذت بعثنون الحمراء فوثبت، فساعة استويت عليها كرت نحو الحي تريع وتبعتها الخلفات، وجعلت أسكنها وذهبت، فلما خشيت أن تطرحني في أيدي القوم رميت بنفسي عنها، فانكسرت رجلي، وانطلقت والذود معها. فخرجت أعرج، حتى انخنست في طرف كثيب وجازني الطلب، ونويرة صغيرة، فهويت للصغرى، وأنا أجمر، فلما نبحني الكلب نادى رجل فقال: من هذا? فقلت: بائس، فقال: ادنه، فدنوت وجلست وجعل يسائلني، إلى أن قال: والله إني لأجد منك ريح دم. فقلت: لا والله، ما بي دم. فوثب إلي فنفضني، ثم نظر في جعبتي فإذا السهم، فقلت: رميت العشية أرنبا فقال كذبت، هذا ريح دم إنسان، ثم وثب إلي ولا أدفع الشر عن نفسي فأوثقني كتافا، ثم علق جعبتي وقوسي، وطرحني في كسر البيت ونام، فلما أسحرت حركت رجلي، فإذا هي صالحة وانفتل الرباط فحللته، ثم وثبت إلى قوسي وجعبتي فأخذتهما ثم هممت بقتله فقلت: أنا ضمن الرجل، وأنا أخشى أن أطلب فأدرك ولم أقتل أحدا أحب إلي، فوليت ومضيت. فوالله إني لفي الصحراء أحدث نفسي إذا أنا به على ناقة يتبعني، فلما رأيته قد دنا مني جلست على قوسي وجعبتي وأمنته، وأقبل فأناخ راحلته ثم عقلها، ثم أقبل إلي، وعهده بي عهده، فقلت له: ويلك، ما تريد مني? فأقبل يشتمني، حتى إذا أمكنني، وثبت عليه فما ألبثته أن ضربت به الأرض، وبركت عليه أربطه، فجعل يصيح: يا لثمالة، لم أر كاليوم. فجنبته إلى ناقته وركبتها، فما نزعت حتى أحللته في الحي، وقلت:
أغـرك مـنـي يا بـن فـعــلة عـــلـــتـــي عشـــية أن رابـــت عـــلـــي روائبــــي
ومـوقـد نـــيران ثـــلاث فـــشـــرهـــا وألأمـهـا إذا قــدتـــهـــا غـــير عـــازب
سلبت سلاحي بائسا وشتمتني فيا خير مسلوب ويا شر سالب
فإن أك لم أخضبك فيها فإنها نيوب أســـاويد وشـــول عـــقـــــــارب
ويا ركـبة الـــحـــمـــراء شـــرة ركـــبة وكـادت تـكـون شـــر بـــكـــبة راكـــب مخاتلة يظفر فيها:
صفحة : 2380
قال: وخرج تأبط غازيا يريد الغارة على الأزد في بعض ما كان يغير عليهم وحده، فنذرت به الأزد، فأهملوا له إبلا، وأمروا ثلاثة من ذوي بأسهم: حاجز بن أبي، وسواد بن عمرو بن مالك، وعوف بن عبد الله، أن يتبعوه حتى ينام فيأخذوه أخذا، فكمنوا له مكمنا، وأقبل تأبط شرا فبصر بالإبل، فطردها بعض يومه. ثم تركها ونهض في شعب لينظر: هل يطلبه أحد? فكمن القوم حين رأوه ولم يرهم، فلما لم ير أحدا في أثره عاود الإبل فشلها يومه وليلته والغد حتى أمسى، ثم عقلها، وصنع طعاما فأكله، والقوم ينظرون إليه في ظله، ثم هيأ مضطجعا على النار، ثم أخمدها وزحف على بطنه ومعه قوسه، حتى دخل بين الإبل، وخشي أن يكون رآه أحد وهو لا يعلم، ويأبى إلا الحذر والأخذ بالحزم، فمكث ساعة وقد هيأ سهما على كبد قوسه، فلما أحسو نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمون المهاد الذي رأوه هيأه، فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله، وجال الآخران، ورمى آخر فقتله، وأفلت حاجز هاربا، وأخذ سلب الرجلين، وأطلق عقل الإبل وشلها حتى جاء بها قومه، وقال تأبط في ذلك:
ترجي نساء الأزد طلعة ثـابـت أسيرا ولم يدرين كيف حويلـي
فإن الأللى أوصيتم بـين هـارب طريد ومسفوح الدماء قـتـيل
وخدت بهم حتى إذا طال وخدهم وراب عليهم مضجعي ومقيلـي
مهدت لهم حتى إذا طاب روعهم إلى المهد خاتلت الضيا بختـيل
فلما أحسوا النوم جاءوا كأنـهـم سباع أصابت هجمة بـسـلـيل
فقلدت سوار بن عمرو بن مالك بأسمر جسر القدتـين طـمـيل
فخر كأن الفيل ألقـى جـرانـه عليه بـريان الـقـواء أسـيل
وظل رعاع المتن من وقع حاجز يخر ولونهنهت غـير قـلـيل
لأبت كما آبا ولو كنـت قـارنـا لجئت وما مالكت طول ذميلـي
فسرك ندمانك لمـا تـتـابـعـا وأنك لم ترجع بعوص قـتـيل
ستأتي إلى فهم غنـيمة خـسـلة وفي الأزد نوح ويلة بـعـويل فقال حاجز بن أبي الأزدي يجيبه:
سألت فلم تكلمني الرسوم وهي في أشعار الأزد.
فأجابه تأبط شرا:
لقد قال الخلي وقال خلـسـا بظهر الليل شد به العكـوم
لطيف من سعاد عناك منهـا مراعاة النجوم ومـن يهـيم
وتلك لئن عنيت بـهـا رداح من النسوان منطقها رخـيم
نياق القرط غراء الـثـنـايا وريداء الشباب ونعـم خـيم
ولكن فات صاحب بطن وهو وصاحبه فأنت بـه زعـيم
أؤاخذ خطة فـيهـا سـواء أبيت وليل واترهـا نـؤوم
ثأرت به وما اقترفـت يداه فظل لها بنـا يوم غـشـوم
تحز رقابهم حتى نـزعـنـا وأنف الموت منخره رمـيم
وإن تقع النسور علي يومـا فلحم المعتفي لحـم كـريم
وذي رحم أحال الدهر عنـه فليس له لذي رحـم حـريم
أصاب الدهر آمن مروتـيه فألقاه المصاحب والحمـيم
مددت له يمينا من جناحـي لها وفر وكـافـية رحـوم
أواسيه عـلـى الأيام إنـي إذا قعدت به اللؤمـا ألـوم موت أخيه عمرو: ذكروا أنه لما انصرف الناس عن المستغل؛ وهي سوق كانت العرب تجتمع بها، قال عمرو بن جابر بن سفيان أخو تأبط شرا لمن حضر من قومه: لا واللات والعزى لا أرجع حتى أغير على بني عتير من هذيل، ومعه رجلان من قومه هو ثالثهما، فأطردوا إبلا لنبي عتير فأتبعهم أرباب الإبل، فقال عمرو: أنا كار على القوم ومنهنهم عنكما، فامضيا بالإبل. فكر عليهم فنهنهم طويلا، فجرح في القوم رئيسا، ورماه رجل من بني عتير بسهم فقتله، فقالت بنو عتير: هذا عمرو بن جابر، ما تصنعون أن تلحقوا بأصحابه? أبعدها الله من إبل، فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا، فيكونوا قد أخذوا الثأر، فرجعوا ولم يجاوزوه. وكانوا يظنون أن معه أناسا كثيرا، فقال تأبط لما بلغه قتل أخيه:
وحرمت النساء وإن أحلت بشور أو بمزج أو لصاب
حياتي أو أزور بني عتير وكاهلها بجمع ذي ضباب
صفحة : 2381
إذا وقعت لكعب أو خثـيم وسيار يسوغ لها شرابي
أظني ميتا كمـدا ولـمـا أطالع طلعة أهل الكراب
ودمت مسيرا أهدي رعيلا أؤم سواد طود ذي نقاب فأجابه أنس بن حذيفة الهذلي:
لعلك أن تجيء بك المـنـايا تساق لفتية منـا غـضـاب
فتنزل في مكرهم صـريعـا وتنزل طرقة الضبع السغاب
تأبط سوأة وحمـلـت شـرا لعلك أن تكون من المصاب أخوه السمع يثأر لأخيه عمرو: ثم أن السمع بن جابر أخا تأبط شرا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني عتير ليثأر بأخيه عمرو بن جابر، حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم، فسأله عنهم، فأخبره بأهل بيت من عتير كثير مالهم، فبيتهم، فلم يفلت منهم مخبر، واستاقوا أموالهم، فقال في ذلك السمع بن جابر:
بأعلى ذي جماجم أهل دار إذا ظعنت عشيرتهم أقاموا
طرقتهم بفـتـيان كـرام مساعير إذا حمي المقـام
متى ما أدع من فهم تجبني وعدوان الحماة لهم نظـام إصابته في غارة على الأزد: ذكروا أن تأبط شرا خرج ومعه مرة بن خليف يريدان الغارة على الأزد، وقد جعلا الهداية بينهما، فلما كانت هداية مرة نعس، فجار عن الطريق، ومضيا حتى وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب، وإذا فيها مياه يصيح الطير عليها؛ وإذا البيض والفراخ بظهور الأكم، فقال تأبط شرا: هلكنا واللات يا مرة، ما وطئ هذا المكان إنس قبلنا، ولو وطئته إنس ما باضت الطير بالأرض، فاختر أية هاتيت القنتين شئت، وهما أطول شيء يريان من الجبال، فأصعد إحداهما وتصعد أنت الأخرى، فإن رأيت الحياة فألح بالثوب، وإن رأيت والموت فألح بالسيف، فإني فاعل مثل ذلك، فأقاما يومين. ثم إن تأبط شرا ألاح بالثوب، وانحدرا حتى التقيا في سفح الجبل، فقال مرة: ما رأيت يا ثابت? قال: دخانا أو جرادا. قال مرة: إنك إن جزعت منه هلكنا، فقال تأبط شرا: أما أنا فإني سأخرم بك من حيث تهتدي الريح، فمكثا بذلك يومين وليلتين، ثم تبعا الصوت، فقال تأبط شرا: النعم والناس. أما والله لئن عرفنا لنقتلن، ولئن أغرنا لندركن، فأت الحي من طرف وأنا من الآخر، ثم كن ضيفا ثلاثا، فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع، ثم أغر على ما قبلك إذا تدلت الشمس فكانت قدر قامة، وموعدك الطريق. ففعلا، حتى إذا كان اليوم الثالث أغار كل واحد منهما على ما يليه، فاستاقا النعم والغنم، وطردا يوما وليلة طردا عنيفا حتى أمسيا الليلة الثانية دخلا شعبا، فنحرا قلوصا، فبينا هما يشويان إذا سمعا حسا على باب الشعب، فقال تأبط: الطلب يا مرة، إن ثبت فلم يدخل فهم مجيزون، وإن دخل فهو الطلب، فلم يلبث أن سمع الحس يدخل، فقال مرة: هلكنا، ووضع تأبط شرا يده على عضد مرة، فإذا هي ترعد، فقال: ما أرعدت عضدك إلا من قبل أمك الوابشية من هذيل، خذ بظهري، فإن نجوت نجوت، وإن قتلت وقيتك. فلما دنا القوم أخذ مرة بظهر تأبط، وحمل تأبط فقتل رجلا، ورموه بسهم فأعلقوه فيه؛ وأفلتا جميعا بأنفسهما، فلما أمنا وكان من آخر الليل، قال مرة: ما رأيت كاليوم غنيمة أخذت على حين أشرفنا على أهلنا، وعض مرة عضده، وكان الحي الذين أغاروا عليهم بجيلة، وأتى تأبط امرأته، فلما رأيت جراحته ولولت، فقال تأبط في ذلك:
وبالشعب إذ سدت بجـيلة فـجـه ومن خلفه هضب صغار وجامـل
شددت لنفس المرء مرة حـزمـه وقد نصب دون النجاء الحـبـائل
وقلت له: كن خلف ظهري فإننـي سأفديك وانظر بعد ما أنت فاعـل
فعاذ بحد السيف صاحب أمـرهـم وخلوا عن الشيء الذي لم يحاولوا
وأخطأهم قتلي ورفعت صاحـبـي على الليل لم تؤخذ عليه المخاتـل
واخطأ غنم الحي مـرة بـعـدمـا حوته إلـيه كـفـه والأنـامـل
بعض على أطرافه كـيف زولـه ودون الملا سهل من الأرض مائل
فقلت له: هذي بتـلـك وقـد يرى لها ثمنا من نـفـسـه مـا يزاول
تولول سعدى أن أتيت مـجـرحـا إليها وقد منت علي الـمـقـاتـل
صفحة : 2382
وكائن أتاها هاربا قبل هـذه ومن غانم فأين منك الولاول يثبث مع قلة من أصحابه فيظفرون: فلما انقضت الأشهر الحرم خرج تأبط والمسيت بن كلاب في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة، والأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب وسعد بن الأشرس. فخرج تأبط والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وعمرو بن براق ومرة بن خليف والشنفري بن مالك، والسمع وكعب حدا رابنا جابر أخوا تأبط. فمضوا حتى أغاروا على العوص، فقتلوا منهم ثلاثة نفر: فارسين وراجلا، وأطردوا لهم إبلا، وأخذوا منهم امرأتين، فمضوا بما غنموا، حتى إذا كانوا على يوم وليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في نحو من أربعين رجلا، فيهم أبي بن جابر الخثعمي، وهو رئيس القوم، فقال تأبط: يا قوم، لا تسلموا لهم ما في أيديكم حتى تبلوا عذرا، وقال عامر بن الأخنس: عليكم بصدق الضراب وقد أدركتم بثأركم، وقال المسيب: اصدقوا القوم الحملة، وإياكم والفشل، وقال عمرو بن براق: ابذلوا مهجكم ساعة، فإن النصر عند الصبر. وقال الشنفري:
نحن الصعاليك الحماة البزل إذا لقينا لا نرى نـهـلـل وقال مرة بن خليف:
يا ثابت الخير ويا بـن الأخـنـس ويا بن براق الكـريم الأشـوس
والشنفري عند حـيود الأنـفـس أنا ابن حامي السرب في المغمس
نحن مساعير الحروب الضرس وقال كعب حدار أخو تأبط:
يا قوم أما إذ لقيتم فاصبروا ولا تخيموا جزعا فتدبروا وقال السمع أخو تأبط:
يا قوم كونوا عندها أحرارا لا تسلموا العون ولا البكارا
ولا القناعيس ولا العشـارا لخثعم وقد دعـوا غـرارا
ساقوهم الموت معا أحرارا وافتخروا الدهر بها افتخارا فلما سمع تأبط مقالتهم قال: بأبي أنتم وأمي، نعم الحماة إذا جد الجد، أما إذا أجمع رأييكم على قتال القوم فاحملوا ولا تتفرقوا، فإن القوم أكثر منكم، فحملوا عليهم فقتلوا منهم، ثم كروا الثانية فقتلوا، ثم كروا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم وتفرقت في رؤوس الجبال، ومضى تأبط وأصحابه بما غنموا وأسلاب من قتلوا، فقال تأبط من ذلك:
جزى الله فتيانا على العوص أشرقت سيوفهم تحت العـجـاجة بـالـدم الأبيات...
وقال الشنفري في ذلك:
دعيني وقولي بعد ما شئت إنني سيفدي بنفسي مرة فـأغـيب الأبيات...
وقال الشنفري أيضا:
ألا هل أتى عنا سعاد ودونهـا مهامه بيد تعتلي بالصعالـيك
بأنا صبحنا القوم في حر دارهم حمام المنايا بالسيوف البواتـك
قتلنا بعمرو منهم خير فـارس يزيد وسعدا، وابن عوف بمالك
ظللنا نفري بالسيوف رؤوسهم ونرشقهم بالنبل بين الدكـادك ينهزم أمام النساء:
صفحة : 2383
قال: وخرج تأبط في سرية من قومه، فيهم عمرو بن براق، ومرة بن خليف، والمسيب بن كلاب، وعامر بن الأخنس، وهو رأس القوم، وكعب حدار، وريش كعب، والسمع وشريس بنو جابر إخوة تأبط شرا، وسعد ومالك ابنا الأقرع، حتى مروا ببني نفاثة بن الديل وهم يريدون الغارة عليهم، فباتوا في جبل مطل عليهم، فلما كان في وجه السحر أخذ عامر بن الأخنس قوسه، فوجد وترها مسترخيا، فجعل يوترها ويقول له تأبط: بعض حطيط وترك يا عامر، وسمعه شيخ من بني نفاثة، فقال لبنات له: أنصتن فهذه والله غارة لبني ليث - وكان الذي بينهم يومئذ متفاقما في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء، وكانوا أصابوه خطأ - وكانت بنو نفاثة في غموة والحي خلوف وليس عندهم غير أشياخ وغلمان لا طباخ بهم، فقالت امراة منهم: اجهروا الكلام، والبسوا السلاح، فإن لنا عدة فواللات ما هم إلا تأبط وأصحابه. فبرزن مع نوفق وأصحابه، فلما بصر بهم قال: انصرفوا فإن القوم قد نذروا بكم، فأبوا عليه إلا الغارة فسل تأبط سيفه وقال: لئن أغرتم عليهم لأتكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري، فانصرفوا ولا يحسبون إلا أن النساء رجال، حتى مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب المنازل فأطردوها، فلحقهم غلام من بني جندع بن ليث? فقال: يا عامر بن الخنس، أتهاب نساء بني نفاثة وتغير على رجال بني ليث? هذه والله إبل لبلعاء بن قيس. فقال له عامر: أو كان رجالهم خلوفا? قال: نعم، قال: أقرئ بلعاء مني السلام، وأخبره بردي إبله، وأعلمه أني قد حبست منها بكرا لأصحابي، فإنا قد أرملنا، فقال الغلام: لئن حبست منها هلبة لأعلمنه، ولا أطرد منها بعيرا أبدا. فحمل عليه تأبط فقتله، ومضوا بالإبل إلى قومهم؛ فقال في ذلك تأبط:
ألا عجب الفـتـيان مـن أم مـالـك تقول: أراك اليوم أشـعـث أغـبـرا
تبوعـا لآثـار الـسـرية بـعـدمـا رأيتك بـراق الـمـفـارق أيسـرا
فقـلـت لـهـا: يومـان يوم إقـامة أهز به غصنا من البـان أخـضـرا
ويوم أهز السـيف فـي جـيد أغـيد له نسوة لم تلـق مـثـلـي أنـكـرا
يخفن علـيه وهـو ينـزع نـفـسـه لقد كنت أبـاء الـظـلامة قـسـورا
وقد صحت في آثار حـوم كـأنـهـا عذارى عقيل أو بـكـارة حـمـيرا
أبـعـد الـنـفـاثـيين آمـل طـرقة وآسى علـى شـيء إذا هـو أدبـرا
أكفكف عنهم صحبـتـي وإخـالـهـم من الذل يعرا بـالـتـلاعة أعـفـرا
فلو نالت الكفان أصـحـاب نـوفـل بمهمهة من بطن ظرء فـعـرعـرا
ولما أبى الـلـيثـي إلا تـهـكـمـا بعرضي وكان العرض عرضي أوفرا
فقلت له: حـق الـثـنـاء فـإنـنـي سأذهب حتى لـم أجـد مـتـأخـرا
ولما رأيت الـجـهـل زاد لـجـاجة يقـول فـلا يألـوك أن تـتـشـورا
دنوت له حـتـى كـأن قـمـيصـه تشرب من نضح الأخادع عصـفـرا
فمن مبلغ ليث بـن بـكـر بـأنـنـا تركنا أخاهـم يوم قـرن مـعـفـرا قال: غزا تأبط بني نفاثة بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهم خلوف، ليس في دارهم رجل، وكان الخبر قد أتى تأبط، فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحي وهم أسفل منه، فرأته امرأة فطرح نفسه، فعلمت المرأة أنه تأبط، وكانت عاقلة، فأمرت النساء فلبسن لبسة الرجال، ثم خرجن كأنهن يطلبن الضالة، وكان أصحابه يتفلتون ويقولون: أغز، وإنما كان في سرية من بين الستة إلى السبعة، فأبى أن يدعهم، وخرج يريد هذيلا، وانصرف عن النفاثيين، فبينا هو يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل، فقال له: العجب لك يا تأبط، قال: وما هو? قال: إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة، وأنهم قد رجعوا.
ففي ذلك يقول:
ألا عجب الفتيان من أم مـالـك تقول: لقد أصبحت اشعث أغبرا وذكر باقي الأبيات المتقدمة.
صفحة : 2384
وقال غيره: لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن الأخنس الفهمي، وكان من حديث عامر بن الأخنس أنه غزا في نفر، بضعة وعشرين رجلا، فيهم عامر بن الأخنس، وكان سيدا فيهم، وكان إذا خرج في غزو رأسهم، وكان يقال له سيد الصعاليك، فخرج بهم حتى باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الديل ممسين، ينتظرون أن ينام الحي، حتى إذا كان في سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر، فمعه غديرته يسوقها فبصر بهم وبمكانهم، فخلى الغديرة وتبع الضراء ضراء الوادي، حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان القوم وحيث رآهم، فقاموا فاختاروا: فتيان الحي فسلحوهم، وأقبلوا نحوهم، حتى إذا دنوا منهم قال رجل من النفاثيين: والله ما قوسي بموترة. فقالوا: فأوتر قوسك، فوضع قوسه فأوترها، فقال تأبط لأصحابه: اسكتوا، واستمع فقال: أتيتم والله، قالوا: وما ذلك? قال: أنا والله أسمع حطيط وتر قوس. قالوا: والله ما نسمع شيئا، قال: بلى والله إني لأسمعه، يا قوم النجاء، قالوا: لا والله ما سمعت شيئا، فوثب فانطلق وتركهم، ووثب معه نفر، وبيتهم بنو نفاثة فلم يفلت منهم إنسان، وخرج هو وأصحابه الذين انطلقوا معه، وقتل تلك الليلة عامر بن الأخنس.
قال ابن عمير: وسألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس، فزعموا أنه مات على فراشه.
فلما رجع تأبط قالت له امرأته: تركت أصحابك، فقال حينئذ:
ألا عجب الفتيان من أم مـالـك تقول: لقد أصبحت أشعث أغبرا مصرعه على يد غلام دون المحتلم: فلما رجع تأبط وبلغه ما لقي أصحابه قال: والله ما يمس رأسي غسل ولا دهن حتى أثأر بهم. فخرج في نفر من قومه، حتى عرض لهم بيتع من هذيل بين صوى جبل، فقال: اغنموا هذا البيت أولا، قالوا: لا والله، ما لنا فيه أرب، ولئن كانت فيه غنيمة ما نستطيع أن نسوقها. فقال: إني أتفاءل أن أنزل، ووقف، وأتت به ضبع من يساره، فكرهها، وعاف على غير الذي رأى، فقال: أبشري أشبعك من القوم غدا. فقال له أصحابه: ويحك، انطلق، فوالله ما نرى أن نقيم عليها. قال: لا والله لا أريم حتى أصبح. وأتت به ضبع عن يساره فقال: أشبعك من القوم غدا. فقال أحد القوم: والله إني أرى هاتين غدا بك، فقال: لا والله لا أريم حتى أصبح. فبات، حتى إذا كان في وجه الصبح، وقد رأى أهل البيت وعدهم على النار، وأبصر سواد غلام من القوم دون المحتلم، وغدوا على القوم، فقتلوا شيخا وعجوزا، وحازوا جاريتين وإبلا. ثم قال تأبط: إني قد رأيت معهم غلاما؛ فأين الغلام الذي كان معهم? فأبصر أثره فاتبعه، فقال له أصحابه: ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا، فاتبعه، واستتر الغلام بقتادة إلى جنب صخرة، وأقبل تأبط يقصه وفوق الغلام سهما حين رأى أنه لا ينجيه شيء، وأمهله حتى إذا دنا منه قفز قفزة، فوثب على الصخرة، وأرسل السهم، فلم يسمع تأبط إلا الحبضة فرفع رأسه، فانتظم السهم قلبه، وأقبل نحوه وهو يقول: لا بأس، فقال الغلام: لا بأس، والله لقد وضعته حيث تكره، وغشية تأبط بالسيف وجعل الغلام يلوذ بالقتادة، ويضربها تأبط بحشاشته، فيأخذ ما أصابت الضربة منها، حتى خلص إليه، فقتله، ثم نزل إلى أصحابه يجر رجله، فلما رأوه وثبوا، ولم يدروا ما أصابه، فقالوا: مالك? فلم ينطق، ومات في أيديهم، فانطلقوا وتركوه، فجعل لا يأكل منه سبع ولا طائر إلا مات، فاحتملته هذيل، فألقته في غار يقال له غار رخمان، فقالت ريطة أخته وهي يومئذ متزوجة في بني الديل:
نعم الفتى غادرتم برخمان ثابت بن جابر بن سفيان وقال مرة بن خليف يرثيه:
إن العزيمة والـعـزاء قـد ثـويا أكفان ميت غدا في غار رخمـان
إلا يكن كرسف كـفـنـت جـيده ولا يكن كفن من ثـوب كـتـان
فإن حرا من الأنسـاب ألـبـسـه ريش الندى، والندى من خير أكفان
وليلة رأس أفعاها إلـى حـجـر ويوم أور من الـجـوزاء رنـان
أمضيت أول رهط عـنـد آخـره في إثر عـادية أو إثـر فـتـيان وقالت أم تأبط ترثيه:
وابناه وابن الليل مقته:
صفحة : 2385
قال أبو عمر الشيباني: لا بل كان من شأن تأبط وهو ثابت بن جابر بن سفيان، وكان جريئا شاعرا فاتكا أنه خرج من أهله بغارة من قومه، يريدون بني صاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعيد بن هذيل، وذلك في عقب شهر حرام مما كان يحرم أهل الجاهلية، حتى هبط صدر أدم، وخفض عن جماعة بني صاهلة، فاستقبل التلاعة، فوجد بها دارا من بني نفاثة بن عدي، ليس فيها إلا النساء، غير رجل واحد، فبصر الرجل بتأبط وخشية، وذلك في الضحى، فقام الرجل إىل النساء، فأمرهن فجعلن رؤوسهن جمما وجعلن دروعهن أردية، وأخذن من بيوتهن عمدا كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل، ثم تأبطنها ثم نهض ونهضن معه يغريهن كما يغري القوم، وأرمهن أن لا يبرزن خدا، وجعل هو يبرز للقوم ليروه، وطفق يغري ويصيح على القوم، حتى أفزع تأبط شرا واصحابه وهو على ذلك يغري. في بقية ليلة أو ليلتين من الشهر الحرام، فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل، وتأبط ينهض في الشعب مع أصحابه، ثم يقف في آخرهم، ثم يقول: يا قوم لكأنما يطردكم النساء، فيصيح عليه أصحابه فيقولون: انج أدركك القوم، وتأبى نفسه، فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبط في ذلك:
أبعد النفاثيين أزجر طائرا وآسى على شيء إذا هو أدبرا
أنهنه رجلي عنهم وإخالهم من الـذل يعـرا بـالــتـــلاعة أعـــفـــرا
ولـو نـالـت الـكـفـان أصـحـاب نـــوفـــل بمـهـمـهة مـن بـين ظــرء وعـــرعـــرا قال: ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذ من بني قريم ذنب نمار فظل يراقبهم حتى أمسوا، وذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم، فحصرهم تأبط وأصحابه حتى أمسوا. قال: وقد كانت قالت وليدة لساعدة: إني قد رأيت اليوم القوم أو النفر بهذا الجبل، فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله. وانتظر تأبط وأصحابه أن يغفل الشيخ، وذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح، ولم يقدروا على غرة مشوا إليه وغروه ببقية الشهر الحرام، وأعطوه من مواثيقهم ما أقنعه، وشكوا إليه الجوع، فلما اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه وابنا له صغيرا حين مشى. قال: ومضى تأبط شرا إلى ابن له ذي ذؤابة، كان أبوه قد أمره فارتبأ من وراء ماله، يقال له: سفيان بن ساعدة. فأقبل إليه تأبط شرا مستترا بمجنة، فلما خشي الغلام أن يناله تأبط بسيفه وليس مع الغلام سيف، وهو مفوق سهما، رمى مجن تأبط بحجر، فظن تأبط أنه قد أرسل سهمه، فرمى مجنه عن يده، ومشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبته حتى خرج منه السهم، ووقع في البطحاء حذو القوم، وأبوه ممسك، فقال أبو الغلام حين وقع السهم: أخاطئه سفيان? فحرد القوم، فذلك حين قتلوا الشيخ وابنه الصغير، ومات تأبط.
فقالت أمه - وكانت امرأة من بني القين بن جسر بن قضاعة - ترثيه:
قتيل ما قتيل بنـي قـريم إذا ضنت جمادى بالقطار
فتى فهم جميعا غـادروه مقيما بالحريضة من نمار وقالت أمه ترثيه أيضا:
ويل أم طرف غادروا برخمان بثابت بن جابر بن سـفـيان
يجدل القرن ويروي الندمـان ذو مأقط يحمي وراء الإخوان وقالت ترثيه أيضا: وابناه وابن الليل، ليس بزميل، شروب للقيل، رقود بالليل، وواد ذي هول، أجزت بالليل، تضرب بالذيل، برجل كالثول.
قال: وكان تأبط شرا يقول قبل ذلك:
ولقد علمت لـتـعـدون م علي شتم كالحساكـل
يأكلـن أوصـالا ولـح ما كالشكاعي غير جاذل
يا طير كلن فـإنـنـي سم لكـن وذو دغـاول وقال قبل موته:
لعـلـي مــيت كـــمـــدا ولـــمـــا أطـالـع أهـل ضـيم فـــالـــكـــراب
وإن لم آت جمع بني خثيم وكاهلها برجل كالضباب
إذا وقعت بكعب أو قريم وســيار فـــيا ســـوغ الـــشـــراب فأجابه شاعر من بني قريم:
تأبط سوأة وحمـلـت شـرا لعلك أن تكون من المصـاب
لعلك أن تجيء بك الـمـنـايا تساق لفتية منـا غـضـاب
فتصبح في مكرهم صـريعـا وتصبح طرفة الضبع السغاب
فزلتم تهربون لو كـرهـتـم تسوقون الحرائم بالـنـقـاب
وزال بأرضكم مـنـا غـلام طليعة فتية غلب الـرقـاب
صفحة : 2386
ونذكر ها هنا بعد أخبار تأبط شرا أخبار صاحبيه عمرو بن براق والشنفري ونبدأ بما يغني فيه من شعريهما، ونتبعه بالأخبار.
فأما عمرو بن براق فمعا يغنى فيه من شعره قوله:
صوت
متى تجمع القلب الذكي وصارما وأنفا حميا تجتنبك الـمـظـالـم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهـم فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالـم
كذبتم وبيت الله لا تـأخـذونـهـا مراغمة مادام للـسـيف قـائم
ولا صلح حتى تعثر الخيل بالقنـا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم عروضه من الطويل، الشعر لابن براق وقيل ابن براقة. والغناء لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي.
عمرو بن براق
يسلبه حريم ماله فيسترده منه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا السكري عن ابن حبيب قال: وأخبرنا الهمداني ثعلب، عن ابن الأعرابي، عن المفضل، قالا: أغار رجل من همدان يقال له حريم على إبل لعمرو بن براق وخيل، فذهب بها، فأتى عمرو امرأة كان يتحدث إليها ويزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله وخيله فذهب بها، وأنه يريد الغارة عليه، فقالت له المرأة ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك، قال: فخالفها، وأغار عليه، فاستاق كل شيء كان له، فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يرد عليه ما أخذه منه، فقال: لا أفعل، وأبى عليه، فانصرف، فقال عمرو في ذلك:
تقول سليمى لا تعرض لـتـلـفة وليلك عن ليل الصعالـيك نـائم
وكيف ينام الليل من جـل مـالـه حسام كلون الملح أبيض صـارم
صموت إذا عض الكريهة لم يدع لها طمعا طوع اليمـين مـلازم
نقدت به ألفا وسامـحـت دونـه على النقد إذ لا تستطاع الدراهـم
ألم تعلم أن الصعاليك نـومـهـم قليل إذا نام الدثور الـمـسـالـم
إذا الليل أدجى واكفهرت نجومـه وصاح من الإراط هام جـواثـم
ومال بأصحاب الكرى غالبـاتـه فإني على أمر الغـواية حـازم
كذبتم وبيت الله لا تـأخـذونـهـا مراغمة مادام لـلـسـيف قـائم
تحالف أقوام علي لـيسـمـنـوا وجروا علي الحرب إذا أنا سالـم
أفالآن أدعى للهـوادة بـعـدمـا أجيل على الحي المذاكي الصلادم
كأن حريما إذا رجا أن يضمـهـا ويذهب مالي يا بنة القوم حـالـم
متى تجمع القلب الذكي وصارمـا وأنفا حميا تجتنبك الـمـظـالـم
ومن يطلب المال الممنع بالقـنـا يعش ذا غنى أو تخترمه المخارم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتـهـم فهل أنا في ذا يالهمدان ظـالـم
فلا صلح حتى تعثر الخيل بالقنـا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم وأما الشنفري فإنه رجل من الأزد ثم من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد. ومما يغنى فيه من شعره قوله:
صوت
ألا أم عمرو أزمعت فاستقلـت وما ودعت جيرانها إذ تولـت
فواندما بانت أمامة بـعـدمـا طمعت فهبها نعمة قد تولـت
وقد أعجبتني لا سقوطا خمارها إذا ما مشت ولا بذات تلفـت غنى في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة.
أخبار الشنفري ونسبه
نسبه ونشأته في غير قومه: وأخبرني بخبره الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا أبو يحيى المؤدب وأحمد بن أبي المنهال المهلبي، عن مؤرج عن أبي هشام محمد بن هشام النميري:
صفحة : 2387
أن الشنفري كان من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث، أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج بن عوف بن ميدعان بن مالك بن الأزد رجلا من فهم، أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة بالشنفري قال: فكان الشنفري في بني سلامان بن مفرج لا تسبح إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره، وكان السلامي اتخذه ولدا وأحسن إليه وأعطاه، فقال لها الشنفري: اغسلي رأسي يا أخية وهو لا يشك في أنها أخته، فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته، فذهب مغاضبا حتى أتى الذي اشتراه من فهم، فقال له الشنفري: اصدقني ممن أنا? قال: أنت من الأواس بن الحجر، فقال: أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني، ثم إنه مازال يقتلهم حتى قتل تسعة وتسعين رجلا، وقال الشنفري للجارية السلامية التي لطمته وقالت: لست بأخي:
ألا ليت شعري والتلهف ضـلة بما ضربت كف الفتاة هجينها?
ولو علمت قعسوس أنساب والدي ووالدها ظلت تقاصر دونـهـا
أنا ابن خيار الحجر بيتا ومنصذبا وأمي ابنة الأحرار لو تعرفينها غارته على من نشأ فم: قال: ثم لزم الشنفري دار فهم فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم، وكان يغير وحده أكثر من ذلك، وقال الشنفري لبني سلامان:
وإني لأهوى أن ألف عجاجـتـي على ذي كساء من سلامان أو برد
وأصبح بالعضداء أبغي سراتـهـم وأسلك خلا بين أرباع والـسـرد فكان يقتل بني سلامان بن مفرج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرمداء فأعجزهم فأشلوا عليه كلبا لهم يقال له حبيش ولم يضعوا له شيئا، ومر وهو هارب بقرية يقال لها دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال:
قتيلي فجار أنتما إن قتلـتـمـا بجوف دحيس أو تبالة يا اسمعا يريد: يا هذان اسمعا، وقال فيما كان يطالب به بني سلامان:
فإلا تزرني حتفتي أو تـلاقـنـي أمش بدهر أو عـذاف فـنـورا
أمشي بأطراف الحمـاط وتـارة تنفض رجلي بسبطا فعصنصـرا
وأبغي بني صعب بن مرب بلادهم وسوف ألاقيهم إن الـلـه يسـرا
ويوما بذات الرأس أو بطن منجل هنالك تلقى القاصي المتـغـورا يقتلونه بعد أن يسملوا عينه: قال: ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن جابر السلاماني وخازم الفهمي بالناصف من أبيدة ومع أسيد ابن أخيه، فمر عليهم الشنفري، فأبصر السواد بالليل فرماه، وكان لا يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان، فشك ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده، فلم يتكلم، فقال الشنفري: إن كنت شيئا فقد أصبتك وإن لم تكن شيئا فقد أمنتك، وكان خازم باطحا: يعني منبطحا بالطريق يرصده، فنادى أسيد: يا خازم أصلت، يعني اسلل سيفك. فقال الشنفري: لكل أصلت، فأصلت الشنفري. فقطع إصبعين من أصابع خازم الخنصر والبنصر، وضبطه خازم حتى لحقه أسيد وابن أخيه نجدة، فأخذ أسيد سلاح الشنفري وقد صرع الشنفري خازما وابن أخي أسيد، فضبطاه وهما تحته، وأخذ أسيد برجل ابن أخيه، فقال أسيد: رجل من هذه? فقال الشنفري: رجلي، فقال ابن أخي أسيد: بل هي رجلي يا عم فأسروا الشنفري، وأدوه إلى أهلهم، وقالوا له: أنشدنا، فقال: إنما النشيد على المسرة، فذهبت مثلا، ثم ضربوا يده فتعرضت، أي اضطربت فقال الشنفري في ذلك:
لا تبعدي إما ذهبت شامـه فرب واد نفرت حمـامـه
ورب قرن فصلت عظامه ثم قال له السلامي: أأطرفك? ثم رماه في عينه فقال الشنفري له: كأن كنا نفعل أي كذلك كنا نفعل، وكان الشنفري إذا رمى رجلا منهم قال له: أأطرفك? ثم يرمي عينه. ثم قالوا له حين أرادوا قتله: أين نقبرك? فقال:
لا تقبرونـي إن قـبـري مـحـرم عليكم ولكن أبـشـري أم عـامـر
إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقـى ثـم سـائري
هنالك لا أرجوا حـياة تـسـرنـي سمير الليالي مبسـلا بـالـجـرائر تأبط شرا يرثي الشنفري:
على الشنفري سارى الغمام ورائح غزير الكلي، وصيب الماء باكر
صفحة : 2388
عليك جزاء مثل يومك بـالـجـبـا وقد أرعفت منك السيوف البواتـر
ويومك يوم العيكـتـين وعـطـفة عطفت وقد مس القلوب الحناجـر
تجول ببز الموت فيهـم كـأنـهـم بشوكتك الحـدى ضـئين نـوافـر
فإنك لو لاقيتني بـعـد مـا تـرى وهل يلقين من غيبته الـمـقـابـر
لألفيتني في غارة أنتـمـي بـهـا إلـيك وإمـا راجـعـا أنـا ثـائر
وإن تك مأسورا وظلت مـخـيمـا وأبليت حتـى مـا يكـيدك واتـر
وحتى رماك الشيب في الرأس عانسا وخيرك مبسوط وزادك حـاضـر
وأجمل موت المرء إذ كـان مـيتـا ولابد يوما موتـه وهـو صـابـر
فلا يبعدن الشنفـري وسـلاحـه ال حديد وشـد خـطـوه مـتـواتـر
إذا راع روع الموت راع وإن حمى حمى معه حر كـريم مـصـابـر رواية أخرى في مقتله: قال: وقال غيره: لا بل كان من أمر الشنفري وسبب أسره ومقتله أن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي، فأبوا أن يبوءوا بقتله، فباء بقتله رجل منهم يقال له حزام بن جابر قبل ذلك، فمات أخو الشنفري، فأنشأت أمه تبكيه، فقال الشنفري، وكان أول ما قاله من الشعر:
ليس لوالـدة هـوءهـا ولا قولها لابنها دعـدع
تطيف وتحدث أحوالـه وغيرك أملك بالمصرع قال: فلما ترعرع الشنفري جعل يغير على الأزد مع فهم: فيقتل من أدرك منهم، ثم قدم منى وبها حزام بن جابر، فقيل له: هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله، ثم سبق الناس على رجليه فقال:
قتلت حزاما مـهـديا بـمـلـبـد ببطن منى وشط الحجيج المصوت قال: ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن جابر، وهو أخو حزام المقتول فقال: تركت الشنفري بسوق حباشة، فقال أسيد بن جابر: والله لئن كنت صادقا لا نرجع حتى نأكل من جنى أليف أبيدة، فقعد له على الطريق هو وابنا حزام، فأحسوه في جوف الليل وقد نزع نعلا ولبس نعلا ليخفى وطأه، فلما سمع الغلامان وطأه قالا: هذه الضبع، فقال أسيد: ليست الضبع، ولكنه الشنفري، ليضع كل واحد منكما نعله على مقتله، حتى إذا رأى سوادهم نكص مليا لينظر هل يتبعه أحد، ثم رجع حتى دنا منهم، فقال الغلامان: أبصرنا، فقال عمهما: لا والله ما أبصركما، ولكنه أطرد؛ ليكما تتبعاه، فليضع كل واحد منكما نعله على مقتله. فرماهم الشنفري فخسق في النعل ولم يتحرك المرمي، ثم رمى فانتظم ساقي أسيد، فلما رأى ذلك أقبل حتى كان بينهم، فوثبوا عليه، فأخذوه فشدوه وثاقا، ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم، فطرحوه وسطهم، فتماروا بينهم في قتله، فبعضهم يقول: أخوكم وابنكم، فلما رأى ذلك أحد بني حزام ضربه ضربة فقطع يده من الكوع، وكانت بها شامة سوداء، فقال الشنفري حين قطعت يده:
لا تبعدي إما هلكت شامـه فرب خرق قطعت قتامـه
ورب قرن فصلت عظامه وقال تأبط شرا يرثيه:
لا يبعدن الشنفـري وسـلاحـه ال حديد وشد خـطـوه مـتـواتـر
إذا راع روع الموت راع وإن حمى حمى معه حر كريم مـصـابـر قال: وذرع خطو الشنفري ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة، ثم الثانية سبع عشرة خطوة.
قال: وقال ظالم العامري في الشنفري وغاراته على الأزد وعجزهم عنه، ويحمد أسيد بن جابر في قتله الشنفري:
فما لكم لم تدركوا رجل شنفري وأنتم خفاف مثل أجنحة الغرب
تاديتم حتى إذا ما لـحـقـتـم تباطأ عنكم طالب وأبو سقـب
لعمرك للساعي أسيد بن جابـر أحق بها منكم بني عقب الكلب قال: لوما قتل الشنفري وطرح رأسه مر به رجل منهم فضرب جمجمة الشنفري بقدمه، فعقرت قدمه فمات منها، فتمت به المائة.
من شعر الشنفري: وكان مما قاله الشنفري فيهم من الشعر وفي لطمه المرأة التي أنكرته الذي ذكرته واستغنى عن إعادته مما تقدم ذكره من شعر الشنفري، وقال الشنفري في قتله حزاما قاتل أبيه:
أرى أم عمرو أجمعت فاستقلت وما ودعت جيرانها إذ تولـت
فقد سبقتنا أم عمرو بأمـرهـا وقد كان أعناق المطي أظلت
صفحة : 2389
فواند ما على أميمة بـعـد مـا طمعت فهيبها نعمة العيش ولت
أميمة لا يخزي نثاها حليلـهـا إذا ذكر النسوان عفت وجلـت
يحل بمنجاة من اللوم بـيتـهـا إذا ما بيوت بالملامة حـلـت
فقد أعجبتني، لا سقوط قناعهـا إذا ما مشت ولا بذات تلـفـت
كأن لها في الأرض نسيا تقصه إذا ما مشت وإن تحدثك تبلـت النسي: الذي يسقط من الإنسان وهو لا يدري أين هو؛ يصفها بالحياء، وأنها لا تلتفت يمينا ولا شمالا ولا تبرج. ويروى:
تقصه على أمها وإن تكلمـك
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت فلو جن إنسان من الحسن جنت
تبيت بعيد النوم تهدي غبوبـهـا لجاراتها إذا الهـدية قـلـت الغبوب: ما غب عندها من الطعام أي بات ويروى: غبوقها
فبتنا كأن البيت حـجـر حـولـنـا بريحانة راحت عـشـاء وطـلـت
بريحانة من بطن حلـية أمـرعـت لها أرج من حولها غير مسـنـت
غدوت من الوادي الذي بين مشعـل وبين الجباهيهات أنسأت سربـتـي
أمشي على الأرض التي لن تضيرني لأكسب مالا أو ألاقـي حـمـتـي
إذا ما أتتني حتفتـي لـم أبـالـهـا ولم تذر خالاتي الدموع وعمـتـي
وهنئ بي قوم وما إن هـنـأتـهـم وأصبحت في قوم وليسوا بمنبـتـي
وأم عيال قد شهـدت تـقـوتـهـم إذا أطعمتهم أو تـحـت وأقـلـت
تخاف علينا الجوع إن هي أكثـرت ونحـن جـياع، أي ألـي تـألـت
عفاهية لا يقصر السـتـر دونـهـا ولا ترتجى للبـيت إن لـم تـبـيت
لها وفضة فيها ثلاثون سـلـجـمـا إذا ما رأت أولى العدي اقشعـرت
وتأتي العدي بارزا نصف ساقـهـا كعدو حمار العانة الـمـتـفـلـت
إذا فزعت طارت بأبـيض صـارم وراحت بما في جفرها ثم سـلـت
حسام كلون الملـح صـاف حـديده جراز من أقطار الحديد المنـعـت
تراها كأذناب المـطـي صـوادرا وقد نهلت من الـدمـاء وعـلـت
سنجزي سلامان بن مفرج قرضهـم بمـا قـدمـت أيديهـم وأزلــت
شفينا بعبد الله بعـض غـلـيلـنـا وعوف لدى المعدى أوان استهلـت
قتلنا حزامـا مـهـديا بـمـلـبـد محلهما بين الحجيج الـمـصـوت
فإن تقبلوا تقبل بمن نـيل مـنـهـم وإن تدبروا فأم مـن نـيل فـتـت
ألا لا تزرني إن تشكيت خـلـتـي كفاني بأعلى ذي الحميرة عدوتـي
وإني لحـلـو إن أريدت حـلاوتـي ومر إذا النفس الصدوف استمـرت
أبي لمـا آبـى وشـيك مـفـيئتـي إلى كل نفس تنتحـي بـمـودتـي وقال الشنفري أيضا:
ومرقبة عنقـاء يقـصـر دونـهـا أخو الضروة الرجل الخفي المخفف
نميت إلى أعلى ذراهـا وقـد دنـا من الليل ملتف الـحـديقة أسـدف
فبت على حد الـذراعـين أحـدبـا كما يتطوى الأرقم المتـعـطـف
قليل جهازي غير نعلين أسحـقـت صدورهما مخصورة لا تخصـف
ومـلـحـفة درس وجـرد مـلاءة إذا أنهجت من جانب لا تـكـفـف
وأبيض من ماء الحـديد مـهـنـد مجد لأطراف السواعد مقـطـف
وصفراء من نبـع أبـي ظـهـيرة ترن كإرنان الجشـي وتـهـتـف
إذا طال فيها النزع تأتي بعجسـهـا وترمي بذرويها بهـن فـتـقـذف
كأن حفيف النبل من فوق عجسهـا عوازب نحل أخطأ الغار مطنـف
نأت أم قيس المربعين كـلـيهـمـا وتحذر أن ينأى بها المـتـصـيف
وإنك لو تـدرين أن رب مـشـرب مخوف كداء البطن أو هو أخـوف
وردت بمـأثـور ونـبـل وضـالة تخيرتها مـمـا أريش وأرصـف
أركبها في كـل أحـمـر عـاتـر وأقذف منهن الذي هـو مـقـرف
صفحة : 2390
وتابعت فيه البري حتى تـركـتـه يزف إذا أنـفـذتـه ويزفــزف
بكفي منها للـبـغـيض عـراضة إذا بعت خلا مالـه مـتـخـوف
وواد بعيد العمق ضنك جـمـاعـه بواطنه للجـن والأسـد مـألـف
تعسفت منه بعد ما سقـط الـنـدى غماليل يخشى غيلها المتعـسـف
وإني إذا خام الجبان عـن الـردى فلي حيث يخشى أن يجاوز مخسف
وإن امرأ أجار سعد بـن مـالـك علي وأثواب الأقيصـر يعـنـف وقال الشنفري أيضا:
ومستبسل ضافى القميص ضغته بأزرق لا نكس ولا متـعـوج
عليه نساري على خوط نـبـعة وفوق كعرقوب القطاة مخدرج
وقاربت من كفي ثم فرجتـهـا بنزع إذا ما استكره النزع مخلج
فصاحت بكفي صيحة ثم رجعت أنين الأميم ذي الجراح المشجج وقد روى: فناحت بكفي نوحة.
رواية ثالثة في مقتله: وقال غيره: لا بل كان من أمر الشنفري أنه سبت بنو سلامان بن مفرج بن مالك بن هوازن بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد الشنفري - وهو أحد بني ربيعة بن الحجر بن عمران بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد - وهو غلام، فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنة له، فلما خلا بها الشنفري أهوى ليقبلها، فصكت وجهه، ثم سعت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليه ليقتله، فوجده وهو يقول:
ألا هل أتى فتيان قومي جماعة بما لطمت كف الفتاة هجينها?
ولو علمت تلك الفتاة مناسبـي ونسبتها ظلت تقاصر دونهـا
أليس أبي خير الأواس وغيرها وأمي ابنة الخيرين لو تعلمينها
إذا ما أروم الود بيني وبينـهـا يؤم بياض الوجه مني يمينهـا قال: فلما سمع قوله سأله: ممن هو، فقال: أنا الشنفري، أخو بني الحارث بن ربيعة، وكان من أقبح الناس وجها، فقال له: لولا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي. فقال: علي إن قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم، فأنكحه ابنته، وخلى سبله، فسار بها إلى قومه، فشدت بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه، فلما بلغه ذلك سكت ولم يظهر جزعا عليه، وطفق يصنع النبل، ويجعل أفواقها من القرون والعظام، ثم إن امرأته بنت السلاماني قالت له ذات يوم: لقد خست بميثاق أبي عليك، فقال:
كأن قد فلا يغررك مني تمكثيسلكت طريقا بين يربغ فالسرد
وإني زعيم أن تثور عجاجتي علـى ذي كـسـاء مــن ســـلامـــان أو بـــرد
هم عـرفــونـــي نـــاشـــئا ذا مـــخـــيلة أمـشـي خـلال الـدار كـالـــفـــرس الـــورد
كأنـي إذا لـم يمـس فـي الــحـــي مـــالـــك بتـيهـاء لا أهـدى الـــســـبـــيل ولا أهـــدي قال: ثم غزاهم فجعل يقتلهم، ويعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم، حتى قتل منهم تسعة وتسعين رجلا، ثم غزاهم غزوة، فنذروا به، فخرج هاربا، وخرجوا في إثره، فمر بامرأة منهم يلتمس الماء فعرفته، فأطعمته أقطا ليزيد عطشا، ثم استسقى فسقته رائبا، ثم غيبت عنه الماء، ثم خرج من عندها، وجاءها القوم فأخبرتهم خبره، ووصفت صفته وصفة نبله، فعرفوه، فرصدوه على ركي لهم، وهو ركي ليس لهم ماء غيرلاه، فلما جن عليه الليل أقبل إلى الماء، فلما دنا منه قال: إني أراكم، وليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثم، فأصاخ القوم وسكتوا. ورأى سوادا، وقد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه لئلا تكون حركة، قال: فرمى لما أبصر السواد، فأصاب رجلا فقتله، فلم يتحرك أحد، فلما رأى ذلك أمن في نفسه وأقبل إلى الركي، فوضع سلاحه، ثم انحدر فيه، فلم يرعه إلا بهم على رأسه قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج. فضرب بعضهم شماله فسقطت، فأخذها فرمى بها كبد الرجل، فخر عنده في القليب، فوطئ على رقبته فدقها. وقال في قطع شماله:
لا تبعدي إما ذهبت شامه فرب واد نفرت حمامـه
ورب قرن فصلت عظامه ورب حي فرقت سوامه
صفحة : 2391
قال: ثم خرج إليهم، فقتلوه وصلبوه، فلبث عاما أو عامين مصلوبا وعليه من ذنره رجل، قال: فجاء رجل منهم كان غائبا، فمر به وقد سقط فركض رأسه برجله، فدخل فيها عظم من رأسه فعلت عليه فمات منها، فكان ذلك الرجل هو تمام المائة.
صوت
ألا طـرقـت فـي الــدجـــى زينـــب وأحـبـب بـزينـــب إذ تـــطـــرق
عجبت لزينب أنى سرت وزينب من ظلها تفرق عروضه من المتقارب، الشعر لابن رهيمة، والغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر، عن الهشامي وأبي أيوب المدني.
أخبار الخليل ونسبه
نسبه
هو الخليل بن عمرو، مكي، مولى بني عامر بن لؤي، مقل لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت.
يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني القطراني المغني، عن محمد بن حسين، قال: كان خليل المعلم يلقب خليلان، وكان يؤدب الصبيان ويلقنهم القرآن والخط، ويعلم الجواري الغناء في موضع واحد، فحدثني من حضره قال: كنت يوما عنده وهو يردد على صبي يقرأ بين يديه )ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم( ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردد عليها:
اعتاد هذا القللب بلباله أن قربت للبين أجماله فضحكت ضحكا مفرطا لما فعله، فالتفت إلي فقال: ويلك مالك? فقلت: أتنكر ضحكي مما تفعل? والله ما سبقك إلى هذا أحد ثم قلت: انظر شأي شيء أخذت على الصبي من القرآن، وأي شيء هو ذا تلقي على الصبية، والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، فقال: أرجو ألا أكون كذلك إن شاء الله.
يسيء الأزدي فهم غنائه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل قال: كان خليلان المعلم أحسن الناس غناء، وأفتاهم وأفصحهم، فدخل يوما على عقبة بن سلم الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده، فأكل معه ثم شرب، وحانت منه التفاتة، فرأىى عودا معلقا، فعلم أنه عرض له به، فدعا به وأخذه فغناهم:
يا بنة الأزدي قلبي كئيب مستهام عندها ما ينيب وحانت من التفاتة فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا، وقد ظن أنه عرض به، ففطن لما أراد فغنى:
ألا هزئت بنا قرش ية يهتتز موكبهـا فسري عن عقبة وشرب، فلما فرغ وضع العود من حجره، وحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه.
نسبة هذين الصوتين
يا بنة الأزدي قلبي كـئيب مستهام عندها ما ينـيب
ولقد لاموا فقلت: دعوني إن من تنهون عنه حبيب
إنما أبلى عظامي وجسمي حبها والحب شيء عجيب
أيها العائب عندي هواهـا أنت تفدي من أراك تعيب عروضه من المديد، والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عنه، وفيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق إلى أحد، ووجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين، وقد ذكر يونس أن فيه لحنين ولمالك كلاهما، ولعل هذا أحدهما، وذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج، وذكر الهشامي وعلي بن يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل، وذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا في مجرى البنصر، وذكر عمرو بن بانة أن لمالك فيه ثقيلا أول وخفيفه، ولمعبد خفيف ثقيل آخر: صوت
ألا هزئت بنا قـرشـية يهتـز مـوكـبـهـا
رأت بي شيبة في الرأ س مني ما أغيبـهـا
فقالت لي: ابن قيس ذا? وبعض الشيب يعجبها
لها بعل خبيث النفـس يحصرها ويحجبـهـا
يراني هكـذا أمـشـي فيوعدها ويضربـهـا عروضه من الوافر، الشعر لابن قيس الرقيات، والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم والهشامي.
صوت
هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مـصـروم
أم هل كئيب بكى لم يقض عبرته إثر الأحبة يوم البين مـشـكـوم
صفحة : 2392
يحملن أترجة، نضخ العبير بـهـا كأن تطيابها في الأنف مشـمـوم
كأن فأرة مسك في مفـارقـهـا للباسط المتعاطي وهو مـزكـوم
كأن إبريقهم ظبي علـى شـرف مفدم بسبا الـكـتـان مـلـثـوم
قد أشهد الشرب فيهم مزهر صدح والقوم تصرعهم صهباء خرطوم الشعر لعلقمة بن عبدة، والغناء لابن سريج، وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، والآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في الخامس والسادس من الأبيات، وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول المتوالية لمالك خفيف ثقيل بالوسطى، وفيها ثقيل أول نسبه الهشامي إلى الغريض، وذكر حبش أن لحن الغريض ثاني ثقيل بالبنصر، وذكر حبش أن في الخامس والسادس خفيف رمل بالبنصر لابن سريج.
أخبار علقمة ونسبه
هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.
واش يلقى جزاءه: وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل - وكانا لدة عصر واحد - على بعض المولك، وكان زيد ماة حسودا شرها طعانا، وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا فخاف زيد مناة أن يحظى من الملك بفائدة، ويقل معها حظه، فقال له: يا بكر لا تلق الملك بثياب سفرك، ولكن تأهب للقائه وادخل عليه في أحسن زينة، ففعل بكر ذلك، وسبقه زيد مناة إلى الملك، فسأله عن بكر، فقال: ذلك مشغول بمغازلة النساء والتصدي لهن، وقد حدث نفسه بالتعرض لبنت الملك، فغاظه ذلك، وأمسك عنه، ونمى الخبر إلى بكر بن وائل، فدخل إلى الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة، وصدقه عن، واعتذر إليه مما قاله فيه عذرا قبله، فلما كان من غد اجتمعا عند الملك، فقال الملك لزيد مناة: ما تحب أن أفعل بك، فقال: لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه، وكان بكر أعور العين اليمنى، قد أصابها ماء فذهب بها، فكان لا يعلم من رآه أنه أعور، فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له: ما تحب أن أفعل بك يا بكر، قال: تفقأ عيني اليمنى، وتضعف لزيد مناة، فأمر بعينه العوراء ففقئت، وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا، فخرج بكر وهو أعور بحاله، وخرج زيد مناة وهو أعمى.
سبب تسميته بعلقمة الفحل: وأخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة.
ويقال لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل، سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرئ القيس لما حكمت له على امرئ القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسة، فطلقها، فخالفه عليها، ومازالت العرب تسمية بذلك، وقال الفرزدق:
والفحل علقمة الذي كانت له حلل الملوك كلامه يتنحـل قصيدتاه سمطا الدهر: أخبرني عمي قال: حدثني النضر بن عمرو قال: حدثني أبو السوار، عن أبي عبيد الله موىل إسحاق بن عيسى، عن حماد الرواية قال: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولا، وما ردوه منها كان مردودا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة، فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها أن نأتك اليوم مصـروم فقالوا: هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم:
طحابك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
يسرقون شعره: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك، عن حماد بن إسحاق قال: سمعت أبي يقول: سرق ذو الرمة قوله:
يطفو إذا ما تلقته الجراثيم من قول العجاج:
إذا تلقته العقاقيل طفا وسرقه العجاج من علقمة بن عبده في قوله:
يطفو إذا ما تلقته العقاقيل أيهما أوصف للفرس هو أم امرئ القيس: أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري عن لقيط، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو عبيدة قال: كانت تحت امرئ القيس امرأة من طيء تزوجها حين جاور فيهم، فنزل به علقمة الفحل بن عبدة التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك، فتحاكما إليها، فأنشد امرؤ القيس قوله:
خليلي مرا بي على أم جندب حتى مر بقوله:
صفحة : 2393
فللسوط ألهوب وللـسـاق درة وللزجر منه وقع أخرج مهذب ويروى: أهوج منعب فأنشدها علقمة قوله:
ذهبت من الهجران في غير مذهب حتى انتهى إلى قوله:
فأدركه حتى ثنى من عنانه يمر كغيث رائح متحلـب فقالت له: علقمة أشعر منك، قال: وكيف? قالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك. وأنه جاء هذا الصيد، ثم أدركه ثانيا من عنانه، فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها، فتزوجها علقمة بعد ذلك ، وبهذا لقب علقمة الفحل.
ربيعة بن حذار يحكم له: أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري، عن لقيط قال: تحاكم علقمة بن عبدة التميمي. والزبرقان بن بدر السعدي، والمخبل، وعمرو بن الأهتم، إلى ربيعة بن حذار الأسدي، فقال: أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل، ولا ترك نيئا فينتفع به، وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر، فكلما أعدته فيه نقص، وأما أنت يا مخبل فإنك قصرت عن الجاهلية ولم تدرك الإسلام، وأما أ،ت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكم خرها فليس يقطر منها شيء.
بيت من أبياته يضرب المتمثل به عشرين سوطا: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني عمي، عن العباس بن هشام، عن أبيه قال: مر رجل من مزينة على باب رجل من الأنصار، وكان يتهم بامرأته، فلما حاذى بابه تنفس ثم تمثل:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مصـروم? قال: فتعلق به الرجل: فرفعه إلى عمر رضوان الله عليه، فاستعداء عليه، فقال له المتمثل: وما علي في أن أنشدت بيت شعر، فقال له عمر رضي الله عنه عنه: مالك لم تنشده قبل أن تبلغ بابه? ولكنك عرضت به مع ما تعلم من القالة فيه، ثم أمر به فضرب عشرين سوطا.
صوت
فوالله لا أنـسـى قـتـيلا رزيتـه بجانب قوسي ما حييت على الأرض
بلى إنها تغفـو الـكـلـوم وإنـمـا توكل بالأدنى وإن جل ما يمـضـي
ولم أدر من ألـقـى عـلـيه رداءه ولكنه قد بز عن ماجـد مـحـض الشعر لأبي خراش الهذلي، والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية عمرو بن بانة وذكر يحيى بن المكي أنه لابن مسجح وذكر الهشامي أنه ليحيى المكي، نحله بن مسجح، وفي أخبار معبد أن له فيه لحنا.
ذكر أبي خراش الهذلي وأخباره
أبو خراش اسمه خويلد بن مرة، أحد بني قرد، واسم قرد عمرو بن معاوية بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
شاعر فحل من شعراء المذكورين الفصحاء، مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم وعاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم مدة، ومات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نهشته أفعى فمات، وكان ممن يعدو فيسبق الخيل في غارات قومه وحروبهم.
يتربصون به فيفلت منهم: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي والحسن بن علي قالوا: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو بركة الأشجعي من أنفسهم قال: خرج أبو خراش الهذلي من أرض هذيل يريد مكة، فقال لزوجته أم خراش: ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة، وإنك من أفك النساء، وإن بني الديل يطلبونني بتراث فإياك وأن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر منها قالت: معاذ الله أن أذكرك لأهل مكة وأنا أعرف السبب.
صفحة : 2394
قال: فخرج بأم خراش وكمن لحاجته وخرجت إلى السوق لتشتري عطرا أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن، فجلست إلى عطار فمر بها فتيان من بني الديل، فقال أحدهما لصاحبه: أم خراش ورب الكعبة وإنها لمن إفك النساء وإن كان أبو خراش معها فستدلنا عليه، قال: فوقفا عليها فسلما وأحفيا المسألة والسلام، فقالت: من أنتما بأبي أنتما? فقالا: رجلان من أهلك من هذيل، قالت: بأبي أننتما. فإن أبا خراش معي ولا تذكراه لأحد، ونحن رائحون العشية، فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم يقال له مخلد وكان من أجود الرجال عدوا، فكمنوا في عقبة على طريقه، فلما رآهم قد لاقوه في عين الشمس قال لها: قتلتني ورب الكعبة لمن ذكرتني? فقالت: والله ما ذكرتك لأحد إلا لفتيين من هذيل، فقال لها: والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل وقد جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا أستوحش فأفوتهم، فاركضي بعيرك، وضعي عليه العصا، والنجاتء النجاء.
قال: فانطلقت وهي على قعود عقيلي يسابق الريح، فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمرا على طريقه على كساء، فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا، وجازت بهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم، ووضعت العصا على قعودها، وتواثبوا إليه ووثب يعدو.
قال: فزاحمه على المحجة التي يسلك فيها على العقبة ظبي، فسبقه أبو خراش، وتصايح القوم: يا مخلد أخذا أخذا.
قال: ففات الأخذ. فقالوا: ضربا ضربا، فسبق الضرب، فصاحوا: رميا رميا فسبق الرمي، وسبقت أم خراش إلى الحي فنادت: ألا إن أبا خراش قد قتل، فقام أهل الحي إليها، وقام أبوه وقال: ويحك ما كانت قصته، فقالت: إن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة، قال: فما رأيت، أو ما سمعت،? قالت: سمعتهم يقولون: يا مخلد أخذا أخذا، قال: ثم سمعت ماذا? قالت: ثم سمعتهم يقولون: ضربا ضربا، قال: ثم سمعت ماذا? قالت: سمعتهم يقولون: رميا رميا، قال: فإن كنت سمعت رميا رميا فقد أفلت، وهو منا قريب، ثم صاح: يا أبا خراش، فقال أبو خراش: يا لبيك، وإذا هو قد وافاهم على أثرها. وقال أبو خراش في ذلك:
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم رفوني بالفاء: سكنوني وقالوا: لا بأس عليك.
فغاررت شيئا والدريس كأنمـا يزعزعه وعك من الموم مردم غاررت: تلبثت. والدريس: الخلق من الثياب، ومثله الجرد والسحق والحشيف. ومردم: لازم.
تذكرت ما أين المـفـر وإنـنـي بحبل الذي ينجي من الموت معصم
فوالله ما ربـداء أو عـلـج عـانة أقب وما إن تيس رمل مصـمـم
بأسرع مني إذ عرفـت عـديهـم كأني لأولاهم من القـرب تـوأم
وأجود مني حين وافـيت سـاعـيا وأخطأني خلف الثـنـية أسـهـم
أوائل بالشد الـذلـيق وحـثـنـي لدى المتن مشبوح الذراعين خلجم
تذكر ذحلا عندنـا وهـو فـاتـك من القوم يعروه اجتراء ومـأثـم
تقول ابنتي لمـا رأتـين عـشـية: سلمت وما إن كدت بالأمس تسلـم
فقلت وقد جاوزت صارى عشـية: أجاوزت أولى القوم أم أنا أحـلـم
فلولا دراك الشد آضت حليلـتـي تخير في خطـابـهـا وهـي أيم
فتسخط أو ترضى مكاني خـلـيفة وكاد خراش عـنـد ذلـك ييتـم يسابق الخيل فيسبقها: أخبرني هاشم بن محمد الخراعي ومحمد بن الحسين الكندي خطيب المسجد الجامع بالقادسية قالا: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثني رجل من هذيل قال: دخل أبو خراش الهذلي مكة وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة، فقال للوليد: ما تجعل لي إن سبقتهما? قال: إن فعلت، فهما لك، فأرسلا، وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما.
قال الأصمعي: إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو راميا فلا خير فيه.
وأخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش علي بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السكري، وأخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم وأخبارهم فذكره أبو سعيد، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، وعن ابن حبيب عن أبي عمرو.
صفحة : 2395
يمدح دببة حيا ويرثيه ميتا: وأخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرياشي، عن الأصمعي، وقد ذكرت ما رواه في أشعار هذيل وأخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه، قال السكري: فيما رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال: نزل أبو خراش الهذلي على دبية السلمي - وكان صاحب العزى التي في غطفان وكان يسدنها، وهي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فهدمها وكسرها وقتل دببة السلمي - قال: فلما نزل عليه أبو خراش أحسن ضيافته. ورأى في رجله نعلين قد أخلقتا، فأعطاه نعلين من حذاء السبت فقال أبو خراش يمدحه:
حذاني بعد ما خذمت نعـالـي دبية إنـه نـعـم الـخـلـيل
مقابلتين من صلـوي مـشـب من الثيران وصلهما جـمـيل
بمثلهما يروح المـرء لـهـوا ويقضي الهم ذو الأرب الرجيل
فنعم معرس الأضياف تذحـي رحالـهـم شـآمـية بـلـيل
يقاتل جوعهـم بـمـكـلـلات من الفرني يرعبها الجـمـيل قال أبو عمرو: الجميل: إلا هالة، ولا يقال لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما، وقال أبو عمرو: ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم عزى غطفان، وكانت ببطن نخلة، نصبها ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة وقتل دبية فقال أبو خراش الهذلي يرثيه:
ما لـدبـية مـنـذ الـيوم لــم أره وسط الشروب ولم يلمم ولـم يطـف
لو كان حيا لغـاداهـم بـمـتـرعة فيها الرواويق من شيزى بني الهطف بنو الهطف: قوم من بني أسد يعملون الجفان.
كابي الرماد عظيم القدر جفنـتـه حين الشتاء كحوض المنهل اللقف المنهل: الذي إبله عطاش. واللقف: الذي يضرب الماء أسفله فيتساقط وهو ملآن
أمسى سقام خلاء لا أنيس بـه إلا السباع ومر الريح بالغرف يرثي زهير بن العجوة: وقال الأصمعي وأبو عمرو في روايتهما جميعا: أخذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حنين أسارى، وكان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن الحارث، فمر به جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو مربوط في الأسرى، وكانت بينهما إحنة في الجاهلية، فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه:
فجع أصحابي جميل بن معـمـر بذي فجر تأوي إلـيه الأرامـل
طويل نجاد السيف ليس بـحـيدر إذا قام واستنت عليه الحـمـائل
إلى بيته يأوي الغريب إذا شـتـا ومهتلك بالي الدريسـين عـائل
تروح مقرورا وراحت عـشـية لها حدب تـحـتـثـه فـيوائل
تكـاد يداه تـسـلـمــان رداءه من القر لما استقبلته الشـمـائل
فما بال أهل الدار لم يتصـدعـوا وقد خف منها الموذعي الحلاحل
فأقسم لو لاقتـيه غـير مـوثـق لآبك بالجزع الضباع النـواهـل
لظل جميل أسـوأ الـقـوم تـلة ولكن ظهر القرن للمرء شاغـل
فليس كعهد الـدار يا أم مـالـك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسـل
وعاد الفتى كالكهل ليس بـقـائل سوى الحق شيئا فاستراح العواذل
ولم أنـس أيامـا لـنـا ولـيالـيا بحلية إذ نلقى بها مـا نـحـاول وقال أيضا يرثيه:
أفي كل ممسى ليلة أنـا قـائل من الدهر لا يبعد قتيل جمـيل
فما كنت أخشى أن تصيب دماءنا قريش ولما يقتلـوا بـقـتـيل
فأبرح ما أمرتـم وعـمـرتـم مدى الدهر حتى تقتلوا بغلـيل يستنقذ أسرى بني ليث:
صفحة : 2396
وقال أبو عمرو في خبره خاصة: أقبل أبو خراش وأخوه عروة وصهيب القردي في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديون قوما من بني ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن أو من بني حبيب أحد بني نصر، فعدا الهذليون إليهم يطلبونهم وطمعوا فيهم حتى خالطوهم وأسروهم جميعا، وإذا هم قوم من بني ليث بن بكر، فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي، فهم بقتلهما، وعرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا من أصحابه وأطلقهم، فقال أبو خراش في ذلك يمن على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن ليث فعله بهما:
عدونا عدوة لا شـك فـيهـا وخلناهم ذؤيبة أو حـبـيبـا
فنغري الثائرين بهم وقـلـنـا شفاء النفس أن بعثوا الحروبا
منعنا من عدي بني حـنـيف صحاب مضرس وابني شعوبا
فأثنوا يا بني شجع عـلـينـا وحق ابني شعوب أن يثـيبـا
وسائل سبرة الشجعي عـنـا غداة نخالهم نجوا جـنـيبـا
بأن السابق القـردي ألـقـى عليه الثوب إذ ولـى دبـيبـا
ولولا ذاك أرهقه صـهـيب حسام الحد مطرورا خشيبـا يزهد زهد الهنود: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا الرياشي: قال: حدثنا الأصمعي قال: أقفز أبو خراش الهذلي من الزاد أياما، ثم مر بامرأة من هذيل جزلة شريفة، فأمرت له بشاة فذبحت وشويت، فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر، فضرب بيده على بطنه وقال: إنك لتقرقر لرائحة الطعام، والله لأطعمت منه شيئا ثم قال: يا ربة البيت، هل عندك شيء من صبر أو مر? قالت: تصنع به ماذا? قال: أريده، فأتته منه بشيء فاقتمحه، ثم أهوى إلى بعيره فركبه، فناشدته المرأة فأبى، فقالت له: يا هذا، هل رأيت بأسا أو أنكرت شيئا? قال: لا والله، ثم مضى وأنشأ يقول:
وإني لأثوي الجوع حتى يملنـي فأحيا ولم تدنس ثيابي ولا جرمي
وأصطبح الماء القراح فأكتفـي إذا الزاد أضحى للمزلج ذا طعم
أرد شجاع البطن قد تعلمـينـه وأوثر غيري من عيالك بالطعم
مخافة أن أحـيا بـرغـم وذلة فللموت خير من حياة على رغم يفتدي أخاه عروة فيلطمه: وأخبرني عمي عن هارون بن محمد الزيات، عن أحمد بن الحارث، عن المدائني بنحو مما رواه الأصمعي.
وقال أبو عمرو: أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبي خراش - وقال غيره: بل بنو كنانة أسرته - فلما دخلت الأشهر الحرم، مضى أبو خراش إليهم ومعه ابنه خراش، فنزل بسيد من ساداتهم ولم يعرفه نفسه ولكنه استضافه فأنزله وأحسن قراه، فلما تحرم به انتسب له، وأخبره خبر أخيه، وسأله معاونته حتى يشتريه منهم، فوعده بذلك، وغدا على القوم مع ذلك الرجل، فسألهم في الأسير أن يهبوه له، فما فعلوا، فقال لهم: فبيعونيه، فقالوا: أما هذا فنعم، فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم، فدفع أبو خراش إليهم ابنه خراشا رهينة، وأطلق أخاه عروة ومضيا، حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه، وعاد به إلى القوم حتى أعطاهم إياه وأخذ ابنه. فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ جاءه عبد له فقال: إن أخاك عروة جاءني وأخذ شاة من غنمك، فذبحها، ولطمني لما منعته منها، فقال له: دعه، فلما كان بعد أيام عاد، فقال له: قد أخذ أخرى، فذبحها، فقال: دعه، فلما أمسى قال لهه: إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه، فلما انتشى جاء إلينا وأخذ ناقة من إبلك، لينحرها لهم فعاجله، فوثب أبو خراش إليه، فوجده قد أخذ الناقة، لينحرها، فطردها أبو خراش، فوثب أخوه عروة إليه فلطم وجهه، وأخذ الناقة، فعقرها، وانصرف أبو خراش، فلما كان من غد لامه قومه، وقالوا له: بئست لعمر الله المكافأة، كانت منك لأخيك؛ رهن ابنه فيك، وفداك بماله، فففعلت به ما فعلت، فجاء عروة يعتذر إليه، فقال أبو خراش:
لعلك نافعي يا عـرو يومـا إذا جاورت من تحت القبور
أخذت خفارتي ولطمت عيني وكيف تثيب بالمن الكـبـير
ويوم قد صبرت عليك نفسي لدى الأشهاد مرتدي الحرور
إذا ما كان كس القوم روقـا وجالت مقلتا الرجل البصير
صفحة : 2397
بما ييممته وتركت بـكـري وما أطعمت من لحم الجزور قال معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي أولهم.
خبر أخويه الأسود وأبي جندب: وقال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو عمرو وابن الأعرابي: كان بنو مرة عشرة: أبو خراش، وأبو جندب، وعروة، والأبح، والأسود، وأبو الأسود، وعمرو، وزهير، وجناد، وسفيان، وكانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا يدركون عدوا، فأما الأسود بن مرة فإنه كان على ماء من داءة وهو غلام شاب، فوردت عليه إبل رئاب بن ناضرة بن المؤمل من بني لحيان، ورئاب شيخ كبير، فرمى الأسود ضرع ناقة من الإبل فعقرها، فغضب رئاب، فضربه بالسيف، فقتله، وكان أشدهم أبو جندب، فعرف خبر أخيه، فغضب غضبا شديدا، وأسف، فاجتمعت رجال هذيل إليه يكلمونه وقالوا: خذ عقل أخيك، واستبق ابن عملك، فلم يزالوا به حتى قال: نعم، أجمعوا العقل، فجاءوه به في مرة واحدة، فلما أراحوه عليه صمت فقطال صمته فقالوا له: أرحنا: اقبضه منا، فقال: إني أريد أن أعتمر فاحبسوه حتى أرجع، فإن هلكت فلأم ما أنتم هذه لغة هذيل يقولون: إم بالكسر، ولا يستعملون الضم وإن عشت فسوف ترون أمري، وولى ذاهبا نحو الحرم، فدعا عليه رجال من هذيل، وقالوا: اللهم لا ترده، فخرج فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا، فيصيب بهم قومه، فخرج صادرا، حتى أخذته الذبحة في جانب الحرم، فمات قبل أن يرجع، فكان ذلك خبره.
خبر أخيه زهير: قالوا: وأما زهير بن مرة فخرج معتمرا قد جعل على جسده من لحاء الحرم، حتى ورد ذات الأقير من نعمان، فبينا هو يسقي إبلا له إذ ورد عليه قوم من ثمالة، فقتلوه، فله يقول أبو خراش، وقد انبعث يغزو ثمالة ويغير عليهم، حتى قتل منهم بأخيه أهل دارين، أي حلتين من ثمالة.
خذوا ذلك بالصلح إني رأيتكم قتلتم زهيرا وهو مهد ومهمل مهد أي أهدى هديا للكعبة. ومهمل: قد أهمل إبله في مراعيها.
قتلتم فتى لا يفجر الله عامدا ولا يجتويه جاره عام يمحل
وجدتهم ثمالة بن أسلـمـا وكان أبو خراش إذا لقيهم في حروبه أوقع بهم ويقول:
إلــــيك أم ذبـــــــان ما ذاك مـن حـلـب الـضـان
لكن مصاع الفتيان بكل لين حران خبر أخيه عروة وابنه خراش: قال: وأما عروة بن مرة وخراش بن أبي خراش فأخذهما بطنان من ثمالة يقال لهما بنو رزام وبنو بلال، وكانوا متجاورين، فخرج عروة بن مرة وابن أبي خراش أخيه مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء، فظفر بهما الثماليون، فأما بنو رزام فنهوا عن قتلهما وأبت بنو بلال إلا قتلهما، حتى كاد يكون بينهم شر، فألقى رجل من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة، ثم قال له: انج، وانحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل، وكانوا أسلموه إليه، فقالوا: أين خراش? فقال: أفلت مني، فذهب، فسعى القوم في أثره، فأعجزهم، فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه رعروة، ويذكر خلاص ابنه:
حمـدت إلـهـي بـــعـــد عـــروة إذ نـــجـــا خراش وبـعـض الـشـر أهـون مــن بـــعـــض
فوالله لا أنسى قتيلا رزيته بجانب قوسي ما حييت على الأرض
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما نوكـل بـالأدنــى وإن جـــل مـــا يمـــضـــي
ولـــم أدر مـــن ألـــقـــى عـــلـــيه رداءه سوى أنـه قـد سـل عـن مــاجـــد مـــحـــض
ولـم يك مـثـلـوج الـــفـــؤاد مـــهـــبـــلا أضـاع الـشـبـاب فـي الـربـيلة والـخـــفـــض
ولـكـنـه قــد نـــازعـــتـــه مـــجـــاوع علـى أنـه ذو مــرة صـــادق الـــنـــهـــض قال: ثم إن أبا خراش وأخاه عروة استنفرا حيا من هذيل يقال لهم بنو زليفة بن صبيح ليغزوا ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما، فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى، وكانت به حمى الربع فجعل عروة يقول:
أصبحت مورودا فقربـونـي إلى سواد الحي يدفنـونـي
إن زهيرا وسطهم يدعونـي رب المخاض واللقاح الجون
صفحة : 2398
فلبثوا إلى أن سكنت الحمى، ثم بيتوا ثمالة، فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال، فقتلوا من وجدوا من الرجال، وساقوا النساء والذراري والأموال، وجاء الصائح إلى ثمالة عشاء، فلحقوهم، وانهزم أبو خراش وأصحابه، وانقطعت بنو زليفة، فنظر الأكنع الثمالي - وكان مقطوع الأصبع - إلى عروة فقال: يا قوم، ذلك والله عروة، وأنا والله رام بنفسي عليه، حتى يموت أحدنا، وخرج يمعج نحو عروة، فصاح عروة بأبي خراش أخيه: أي أبا خراش، هذا والله الأكنع وهو قاتلي، فقال أبو خراش: أمشه، وقعد له على طريقه، ومر به الأكنع مصمما على عروة، وهو لا يعلم بموضع أبي خراش، فوثب عليه أبو خراش، فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضربة سحره، وانهزمت ثمالة، ونجا أبو خراش وعروة. وقال أبو خراش يرثي أخاه ومن قتلته ثمالة وكنانة من أهله، وكان الأصمعي يفضلها:
فقدت بني لبنى فلما فقدتـهـم صبرت فلم أقطع عليهم أباجلي الأبجل: عرق في الرجل.
رماح من الخطي زرق نصالهـا حداد أعاليها شـداد الأسـافـل
فلهفي على عمرو بن مرة لهـفة ولهفي على ميت بقوسي المعاقل
حسان الوجوه طيب حجزاتـهـم كريم نثاهم غير لف مـعـازل
قتلت قتيلا لا يحـالـف غـدرة ولا سبة لازلت أسفـل سـافـل
وقد أمنوني واطمأنت نفوسـهـم ولم يعلموا كل الذي هو داخلـي
فمن كان يوجو الصلح مني فإنـه كأحمر عاد أو كلـيب بـن وائل
أصيبت هذيل بابن لبنى وجدعـت أنوفهم باللوذعـي الـحـلاحـل
رأيت بني العلات لما تضافـروا يحوزون سهمي دونهم بالشمـائل أخبار أخوته: قالوا: وأما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل، وأما الأبح فكان شاعرا، فأمسى بدار بعرعر من ضيم، فذكر لسارية بن زنيم العبدي أحد بني عبد بن عدي بن الديل، فخرج بقوم من عشيرته يريده ومن معه، فوجدوهم قد ظعنوا. وكان بين بني عبد بن عدي بن الديل وبينهم حرب، فقال الأبح في ذلك:
لعمرك ساري بن أبي زنيم لأنت بعرعر الثأر المنـيم
تركت بني معاوية بن صخر وأنت بمربع وهم بـضـيم
تساقيهم على رصف وظـر كدابغة وقد ححـلـم الأديم رصف وظر: ماءان، ومربع وضيم: موضعان.
فلم نتركهم قصـدا ولـكـن فرقت من المصالت كالنجوم
رأيتهم فوارس غـير عـزل إذا شرق المقاتل بالكـلـوم فأجابه سارية، فقال:
لعلك يا أبح حسـبـت أنـي قتلت الأسود الحسن الكريمـا
أخذتم عقله وتـركـتـمـوه يسوق الظمي وسط بني تميما عيرهم بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم، وأنهم لم يدركوا بثأره، وبنو تميم من هذيل.
قالوا: وأما جنادة وسفيان فماتا، وقتل عمرو، ولم يسم قاتله. قالوا: وأمهم جميعا لبنى إلا سفيان بن مرة، فإن أمه أم عمرو القردية، وكان أيسر القوم وأكثرهم مالا.
وقال أبو عمرو: وغزا أبو خراش فهما، فأصاب منهم عجوزا، وأتى بها منزل قومه، فدفعها إلى شيخ منهم، وقال: احتفظ بها حتى آتيك، وانطلق لحاجته، فأدخلته بيتا صغيرا، وأغلقت عليه، وانطلقت، فجاء أبو خراش، وقد ذهبت، قال:
سدت عليه دولجا يمـمـت بني فالج بالليث أهل الخزائم الدولج: بيت صغير يكون للبهم، والليث: ماء لهم، والخزائم البقر واحدتها خزومة.
وقالت له: دنخ مكانك إنـنـي سألقاك إن وافيت أهل المواسم يقال: دنخ الرجل ودمخ إذا أكب على وجهه ويديه.
وقال أبو عمرو: دخلت أميمة امرأة عروة بن مرة على أبي خراش وهو يلاعب ابنه فقالت له: يا أبا خراش تناسيت عروة، وتركت الطلب بثأرة، ولهوت مع ابنك، أما والله لو كنت المقتول ما غفل عنك، ولطلاب قاتلك حتى يقتله، فبكى أبو خراش، وأنشأ يقول:
لعمري لقد راعت أميمة طلعتي وإن ثوائي عندهـا لـقـلـيل
وقالت: أراه بعد عروة لاهـيا وذلك رزء لو علمت جـلـيل
فلا تحسبي أني تناسيت فـقـده ولكن صبري يا أميم جـمـيل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلـنـا نديما صفاء مالـك وعـقـيل
صفحة : 2399
أبى الصبر أني لا يزال يهيجني مبيت لنا فيما خـلا ومـقـيل
وأني إذا ما الصبح آنست ضوءه يعاودني قطع علـي ثـقـيل قال أبو عمرو: فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة بن عدي بن الديل حينا من الدهر، ثم إنهم هموا بأن يغدروا به، وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة، فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة، وإذا به كلوم، فقال له أبو جندب: مالك? فقال: ضربني رجل من جيرانك، فأقبل أبو جندب، حتى أتى جيرانه من بني نفاثة، فقال لهم: يا قوم، ما هذا الجوار? لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا، أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا?.
فقالوا: أولم يكن بنو لحيان، يقتلوننا، فوالله ما قرت دماؤنا، ومازالت تغلي، والله إنك للثار المنيم، فقال: أما إنه لم يصب أخي إلا خير، ولكنما هذه معاتبة لكم، وفطن للذي يريد القوم من الغدر به، وكان بأسفل دفاق، فأصبحوا ظاعنين، وتواعدوا ماء ظر، فنفذ الرجال إلى الماء، وأخروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا، واتخذوا الحياض للإبل، فأمر أبو جندب أخاه جنادة وقال له: اسرح مع نعم القوم.
ثم توقف، وتأخر، حتى تمر عليك النعم كلها، وأنت في آخرها سراح بإبلك، واتركها متفرقة في المرعى، فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك، واطردها نحو أرضنا، وموعدك نجد ألو ذثنية، في طريق بلاده، وقال لامرأته أم زنباع وهي من بني كلب بن عوف: اظعني وتمكثي، حتى تخرج آخر ظعينة من النساء.
ثم توجهي، فموعدك ثنية يدعان من جانب النخلة، وأخذ أبو جندب دلوه، وورد مع الرجال، فاتخذ القوم الحياض، واتخذ أبو جندب حوضا، فملأه ماء، ثم قعد عنده، فمرت به إبل ثم إبل، فكلما وردت إبل سأل عن إبله فيقولون: قد بلغت، تركناها بالضجن.
ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن أهله، فيقولون: بلغتك، تركناها تظعن، حتى إذا ورد آخر النعم وآخر الظعن قال: والله لقد حبس أهلي حابس، أبصر يا فلان، حتى أستأنس أهلي وإبلي، وطرح دلوه على الحوض.
ثم ولى، حتى أدرك القوم بحيث وعدهم، فقال أبو جندب في ذلك:
أقول لأم زنباع أقيمي صدور العينس شطر بني تميم
وغربت الدعاء وأين مني أنـــاس بـــــين مـــــــر وذي يدوم غربت الدعاء: دعوت من بعيد.
وحي بالمناقب قد حمـوهـا لدى قران حتى بطن ضـيم
وأحياء لدى سعد بن بـكـر بأملاح فـظـاهـرة الأديم
أولئك معشري وهم أرومي وبعض القوم ليس بذي أروم
هنالك لو دعوت أتاك منهـم رجال مثل أرمية الحـمـيم الأرمية: السحاب الشديد الوقع، واحدها رمي، والحميم: مطر القيظ.
أقل الله خـيرهـم ألـمـا يدعهم بعض شرهم القديم
ألما يسلم الجيران منـهـم وقد سال الفجاج من الغميم
غداة كأن جناد بن لبـنـى به نضخ العبير من الكلوم
دعا حولي نفاثة ثم قالـوا: لعلك لست بالثأر المـنـيم المنيم: الذي إذا أدرك استراح أهله وناموا.
نعوا من قتلت لحيان منهم ومن يغتر بالحرب القروم قالوا جميعا: وكان أبو جندب ذا شر وبأس، وكان قومه يسمونه المشئوم، فاشتكى شكوى شديدة، وكان له جار من خزاعة يقال له حاطم، فوقعت به بنو لحيان، فقتلوه قبل أن يستنبل أبو جندب من مرضه، واستاقوا أمواله، وقتلوا امرأته، وقد كان أبو جندب كلم قومه، فجمعوا لجاره غنما، فلما أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله، حتى قدم مكة، ثم جاء يمشي، حتى استلم الركن، وقد شق ثوبه عن استه، فعرف الناس أنه يريد شرا، فجعل يصيح ويقول:
إني امرؤ أبكي على جارية أبكي على الكعبي والكعبية
ولو هلكت بـكـيا عـلـيه كانا مكان الثوب من حقويه فلما فرغ من طوافه، وقضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة، فاستجاشهم على بني لحيان، فقتل منهم قتلى، وسبى من نسائهم وذراريهم سبايا، وقال في ذلك:
لقد أمسى بنو لحيان مـنـي بحمد الله في خزي مبـين
تركتهم على الركبات صعرا يشيبون الذوائب بـالأنـين يشكو إلى عمر فراق ابنه:
صفحة : 2400
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: حدثني عمي قال: هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وغزا مع المسلمين، فأوغل في أرض العدو، فقدم أبو خراش المدينة، فجلس بين يدي عمر، وشكا إليه شوقه إلى ابنه، وأنه رجل قد انقرض أهله، وقتل إخوته، ولم يبق له ناصر ولا معين غير ابنه خراش، وقد غزا وتركه، وأنشأ يقول:
ألا من مبلغ عني خراشا وقد يأتيك بالنبأ البعـيد
وقد يأتيك بالأخبار من لا تجهز بالحذاء ولا تزيد تزيد وتزود واحد، من الزاد
يناديه لـيغـبـقـه كـلـيب ولا يأتي، لقد سفه الـولـيد
فرد إنـاءه لا شـيء فــيه كأن دموع عينـيه الـفـريد
وأصبح دون عابقه وأمسـى جبال من حرار الشام سـود
ألا فاعلم خراش بأن خبر المه اجر بعد هجـرتـه زهـيد
رأيتك وابتغاء الـبـر دونـي كمحصور اللبان ولا يصـيد قال: فكتب عمر رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه، وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن له.
مصرعه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عمر بن شبة: قال: حدثنا الأصمعي. وأخبرني حبيب بن نصر، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا علي بن الصباح، عن ابن الكلبي، عن أبيه.
وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ: قال أبو عبيدة: وأخبرني أيضا هاشم، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، وذكره أبو سعيد السكري في رواية الأخفش عنه عن أصحابه، قالوا جميعا: أسلم أبو خراش فحسن إسلامه، ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجاجا، فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد، فقال: يا بني عمي، ما أمسى عندنا ماء، ولكن هذه شاة وبرمة وقربة، فردوا الماء، وكلوا شاتكم، ثم دعوا برمتنا وقربتنا على الماء، حتى نأخذها، قالوا: والله ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه، وما نحن ببارحين حيث أمسينا، فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته، وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى، ثم أقبل صادرا، فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، وقال: ابطخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه، فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه، وقال وهو يعالج الموت:
لعمرك والمنايا غـالـبـات على الإنسان تطلع كل نجـد
لقد أهلكت حية بطـن أنـف على الأصحاب ساقا ذات فقد وقال أيضا:
لقد أهلكت حية بـطـن أنـف على الأصحاب ساقا ذات فضل
فما تركت عدوا بين بـصـرى إلى صنعاء يطلـبـه بـذحـل قال: فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره، فغضب غضبا شديدا، وقال: لولا أن تكون سبة لأمرت ألا يضاف يمان أبدا، ولكتبت بذلك إلى الآفاق. إن الرجل ليضيف أحدهم، فيبذل مجهوده فيسخطه ولا يقبله منه، ويطالبه بما لا يقدر عليه، كأنه يطالبه بدين، أو يتعنته ليفضحه، فهو يكلفه التكاليف، حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما، وقتله، ثم كتب إلى عامله باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته، ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة تمسهم جزاء لأعمالهم.
صوت
تهيم بها لا الدهر فان ولا المنى سواها ولا ينسيك نأي ولا شغل
كبيضة أدحي بمـيث خـمـيلة يحففها جون بجؤجؤة صعـل الشعر لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة، والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى، عن ابن المكي.
أخبار ابن دارة ونسبه
نسبه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق