ج7.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
وَأَمَّا
بَيَانُ ما يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ فَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا
الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا وَذَلِكَ شَيْئَانِ
أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْحَجِّ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قبل الطَّوَافِ كُلِّهِ أو أَكْثَرِهِ وهو أَرْبَعَةُ
أَشْوَاطٍ لِأَنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ فَالْجِمَاعُ حَصَلَ قبل أَدَاءِ
الرُّكْنِ فَيُفْسِدُهَا كما لو حَصَلَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ في الْحَجِّ
وإذا فَسَدَتْ يَمْضِي فيها وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ لِأَجْلِ الْفَسَادِ
عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ بَدَنَةٌ كما في الْحَجِّ فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ ما
طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أو بَعْدَ ما طَافَ الطَّوَافَ كُلَّهُ قبل السَّعْيِ
أو بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قبل الْحَلْقِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ لِأَنَّ
الْجِمَاعَ حَصَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الرُّكْنِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الْجِمَاعِ
في الْإِحْرَامِ وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ لَا شَيْءَ عليه لِخُرُوجِهِ عن
الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ
وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْحَجِّ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
كِتَابُ النِّكَاحِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في أَرْبَعَةِ
مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ وفي بَيَانِ رُكْنِ
النِّكَاحِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ حَالَةَ
التَّوَقَانِ حتى أَنَّ من تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ بِحَيْثُ لَا
يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وهو قَادِرٌ على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ولم
يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا لم تَتُقْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ
على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا قال نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِثْلُ دَاوُد بن عَلِيٍّ
الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ من أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ
بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ حتى
أَنَّ من تَرَكَهُ مع الْقُدْرَةِ على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ
يَأْثَمُ
وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مُبَاحٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من أَصْحَابِنَا الْكَرْخِيِّ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن
الْبَاقِينَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا في
كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَرَدِّ السَّلَامِ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ
التَّعْيِينِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ
احْتَجَّ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ من نَحْوِ قَوْلِهِ عز
وجل { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ }
وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فإن
الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ له عَرْشُ الرحمن
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي
بِكُمْ الْأُمَمَ يوم الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا إلَّا أَنْ يَقُومَ
الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ من الزِّنَا وَاجِبٌ وَلَا
يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ وما لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ
إلَّا بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ
ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أَخْبَرَ عن إحْلَالِ النِّكَاحِ
وَالْمُحَلَّلُ وَالْمُبَاحُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَلِأَنَّهُ قال {
وَأُحِلَّ لَكُمْ } وَلَفْظُ لَكُمْ يُسْتَعْمَلُ في الْمُبَاحَاتِ وَلِأَنَّ
النِّكَاحَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَيَكُونُ مُبَاحًا
كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي بها وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ إيصَالُ
النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ يَجِبُ على الْإِنْسَانِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى
نَفْسِهِ بَلْ هو مُبَاحٌ في الْأَصْلِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وإذا كان مُبَاحًا
لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا بَيْنَهُمَا من التَّنَافِي وَالدَّلِيلُ على أَنَّ
النِّكَاحَ ليس بِوَاجِبٍ قَوْله تَعَالَى { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من
الصَّالِحِينَ } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ ليحيي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا وَالْحَصُورُ الذي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مع
الْقُدْرَةِ وَلَوْ كان وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ لِأَنَّ
تَرْكَ الْوَاجِبِ لَأَنْ يُذَمَّ عليه أَوْلَى من أَنْ يُمْدَحَ
وَاحْتَجَّ من قال من أَصْحَابِنَا أنه مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ بِمَا
رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فإن الصَّوْمَ له وِجَاءٌ
أَقَامَ الصَّوْمَ مَقَامَ النِّكَاحِ وَالصَّوْمُ ليس بِوَاجِبٍ فَدَلَّ أَنَّ
النِّكَاحَ ليس بِوَاجِبٍ أَيْضًا لِأَنَّ غير الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ مَقَامَ
الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ في الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من لم تَكُنْ له
زَوْجَةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ منه بِذَلِكَ ولم
يُنْكِرْ عليه فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِوَاجِبٍ
وَمَنْ قال منهم إنَّهُ
____________________
(2/228)
فَرْضٌ
أو وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ في
بَابِ النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا
وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذلك على طَرِيقِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
من آحَادِ الناس لو تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ فَيُحْمَلُ على الْفَرْضِيَّةِ
وَالْوُجُوبِ على طَرِيقِ الْكِفَايَةِ فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ وَصَلَاةَ
الْجِنَازَةِ وَرَدَّ السَّلَامِ
وَمَنْ قال منهم أنه وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ
التَّعْيِينِ يقول صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عن الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ
الْفَرْضِيَّةَ وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ
وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُؤْتَى
بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ وهو تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَيُعْتَقَدُ على
الْإِبْهَامِ على أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ من الْوُجُوبِ
الْقَطْعِيِّ أو النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّهُ إنْ كان وَاجِبًا عِنْدَ
اللَّهِ فَخَرَجَ عن الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كان
مَنْدُوبًا يَحْصُلُ له الثَّوَابُ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ على هذا
الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَاحْتِرَازًا عن الضَّرَرِ
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا من قال منهم إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أو
وَاجِبٌ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مع أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى
من التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مع تَرْكِ النِّكَاحِ وهو قَوْلُ
أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ ما
كان أَوْلَى من الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ
وَمَنْ قال منهم أنه مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فإنه يُرَجِّحُهُ على النَّوَافِلِ
من وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا أَنَّهُ سُنَّةٌ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
النِّكَاحُ سُنَّتِي وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ على النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ
وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ على تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا وَعِيدَ على تَرْكِ النَّوَافِلِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ فَعَلَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوَاظَبَ عليه
أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عليه بِحَيْثُ لم يَخْلُ عنه بَلْ كان يَزِيدُ عليه حتى
تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ له من النِّسَاءِ وَلَوْ كان التَّخَلِّي
لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا له حَدٌّ
مَعْلُومٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا له حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً
منهم وإذا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ في حَقِّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
ثَبَتَ في حَقِّ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّرَائِعِ هو الْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هو مُفَضَّلٌ على
النَّوَافِلِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عن الْفَاحِشَةِ وَسَبَبٌ
لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عن الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ
لِعَجْزِهَا عن الْكَسْبِ وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ وَكُلُّ
وَاحِدٍ من هذه الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ على النَّوَافِلِ فَكَذَا السَّبَبُ
الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
التَّخَلِّي أَوْلَى وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ على أَصْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ النَّوَافِلَ
مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً على الْمُبَاحِ وما ذَكَرَهُ من
دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا أن النِّكَاحَ
مُبَاحٌ وَحَلَالٌ في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ أو مَنْدُوبٌ
وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ من حَيْثُ أنه صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ من الزِّنَا
وَنَحْوِ ذلك على ما بَيَّنَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ
حَلَالًا بِجِهَةٍ وَاجِبًا أو مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ إذْ لَا تَنَافِيَ
عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل { وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ } فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ
لِلنَّوَافِلِ كان أَفْضَلَ من النِّكَاحِ في شَرِيعَتِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذلك في
شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ النِّكَاحِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ
بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ أو ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في
هذا الْفَصْلِ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ اللَّفْظِ الذي
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ بِحُرُوفِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِيغَةِ ذلك اللَّفْظِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ هل يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أو لَا
يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ
وَالرَّابِعُ في بَيَانِ صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
أَمَّا بَيَانُ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ بِحُرُوفِهِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ
الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال اتَّقُوا
اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ
بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ التي أَحَلَّ بها الْفُرُوجَ في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لَفْظُ
الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَقَطْ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { زوجناكها }
____________________
(2/229)
زَوَّجْنَاكَهَا
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هو الِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ
يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ على
الِازْدِوَاجِ وهو لَفْظُ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ لَا غَيْرُ
وَلَنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَفْظِ
الْهِبَةِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ قَوْله
تَعَالَى { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ
أَرَادَ النبي أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لك } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ { يا
أَيُّهَا النبي إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَك } أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُؤْمِنَةَ التي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ
عليه وسلم عِنْدَ اسْتِنْكَاحِهِ إيَّاهَا حَلَالٌ له وما كان مَشْرُوعًا في حَقِّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَكُونُ مَشْرُوعًا في حَقِّ أُمَّتِهِ هو الْأَصْلُ
حتى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ
فَإِنْ قِيلَ قد قام دَلِيلُ الْخُصُوصِ هَهُنَا وهو قَوْله تَعَالَى { خَالِصَةً
لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ منه { خَالِصَةً لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْخُلُوصُ يَرْجِعُ إلَى الْأَجْرِ لَا إلَى لَفْظِ الْهِبَةِ
لِوُجُوهٍ
أَحَدُهَا ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ وهو قَوْلُهُ عز وجل { قد عَلِمْنَا ما فَرَضْنَا
عليهم في أَزْوَاجِهِمْ } فَدَلَّ أَنَّ خُلُوصَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ له كان
بِالنِّكَاحِ بِلَا فَرْضٍ منه
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال تَعَالَى { لكيلا ( ( ( لكي ) ) ) يَكُونَ عَلَيْكَ
حَرَجٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَجَ كان يَلْحَقُهُ في نَفْسِ الْعِبَارَةِ
وَإِنَّمَا الْحَرَجُ في إعْطَاءِ الْبَدَلِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ هذا خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ عليه وَعَلَى أُمَّتِهِ في
لَفْظِ الْهِبَةِ لَيْسَتْ تِلْكَ في لَفْظَةِ التَّزْوِيجِ فَدَلَّ أَنَّ
الْمِنَّةَ فِيمَا صَارَتْ له بِلَا مَهْرٍ فَانْصَرَفَ الْخُلُوصُ إلَيْهِ
وَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِكَوْنِهِ لَفْظًا
مَوْضُوعًا لِحُكْمِ أَصْلِ النِّكَاحِ شَرْعًا وهو الِازْدِوَاجُ وَأَنَّهُ لم
يُشْرَعْ بِدُونِ الْمِلْكِ فإذا أتى بِهِ يَثْبُتُ الِازْدِوَاجُ بِاللَّفْظِ
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الذي يُلَازِمُهُ شَرْعًا وَلَفْظُ التَّمْلِيكِ مَوْضُوعٌ
لِحُكْمٍ آخَرَ أَصْلِيٍّ لِلنِّكَاحِ وهو الْمِلْكُ وأنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ في
النِّكَاحِ بِدُونِ الِازْدِوَاجِ فإذا أتى بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ
الْمِلْكُ وَيَثْبُتَ الِازْدِوَاجُ الذي يُلَازِمُهُ شَرْعًا اسْتِدْلَالًا لِأَحَدِ
اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا
ولم يُشْرَعْ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ فإذا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ
الْآخَرُ ضَرُورَةً وَيَكُونُ الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا رِضًا بِالْآخِرِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ
لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أن اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ
اسْتِحْلَالٌ بِغَيْرِ كَلِمَةِ اللَّه
فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ
كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَحْتَمِلُ حُكْمَ اللَّهِ عز وجل كَقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ من رَبِّكَ } فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ جَوَازَ
النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ليس حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ على
أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ مع ما أَنَّ كُلَّ
لَفْظٍ جُعِلَ عَلَمًا على حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى
وَإِضَافَةُ الْكَلِمَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّارِعَ هو
اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْجَاعِلُ اللَّفْظَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ
شَرْعًا فَكَانَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هذا الْوَجْهِ على
الِاسْتِحْلَالِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَا ينفي الِاسْتِحْلَال لَا بِكَلِمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ
لَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ هَكَذَا روي ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال كُلُّ
لَفْظٍ يَكُونُ في اللُّغَةِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ فَهُوَ في الْحُرَّةِ
نِكَاحٌ
وَحُكِيَ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } سمى اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا
وَلَا أَجْرَ إلَّا بِالْإِجَارَةِ فَلَوْ لم تَكُنْ الْإِجَارَةُ نِكَاحًا لم
يَكُنْ الْمَهْرُ أَجْرًا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ موقت بِدَلِيلِ أَنَّ
التَّأْبِيدَ يُبْطِلُهَا وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ
التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ بِلَفْظٍ يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ
من الِانْعِقَادِ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ
وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ في حُكْمِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ
مِلْكُ الْعَيْنِ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ
الْإِعَارَةِ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إنْ كانت إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا
يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَصْلًا
وَإِنْ كانت تَمْلِيكَ الْمُتْعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ
مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ ولم يُوجَدْ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في لَفْظِ الْقَرْضِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ
لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ في الْعَيْنِ
لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُسْتَقْرِضِ
وَكَذَا اخْتَلَفُوا في لَفْظِ السَّلَمِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ السَّلَمَ في الْحَيَوَانِ لَا يَصِحُّ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ
وَالسَّلَمُ في الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا حتى لو اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ
يُعَدُّ الْمِلْكُ مِلْكًا فَاسِدًا لَكِنْ ليس كُلُّ ما يُفْسِدُ الْبَيْعَ
يُفْسِدُ النِّكَاحَ
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا في لَفْظِ الصَّرْفِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ في
____________________
(2/230)
الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ التي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالْمَعْقُودُ عليه هَهُنَا
يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ
مِلْكُ الْعَيْنِ في الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا
لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالنِّكَاحُ
الْمُضَافُ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَصِحُّ
وَحُكِيَ عن الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ
الرَّقَبَةِ في الْجُمْلَةِ وَحَكَى أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ عن الْكَرْخِيِّ
أن قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِّ بِأَنْ قال أَوْصَيْتُ لك بِابْنَتِي هذه
الْآنَ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِالْحَالِّ صَارَ مَجَازًا عن
التَّمْلِيكِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ
لَا يَدُلُّ على الْمِلْكِ أَصْلًا
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ له الطَّعَامُ يَتَنَاوَلُهُ على حُكْمِ مِلْكِ
الْمُبِيحِ حتى كان له حَقُّ الْحَجْرِ وَالْمَنْعِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ
الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ لِلتَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ
مَفْسُوخٌ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَضَافَ
الْهِبَةَ إلَى الْأَمَةِ بِأَنْ قال رَجُلٌ وَهَبْتُ أَمَتِي هذه مِنْكَ فَإِنْ
كان الْحَالُ يَدُلُّ على النِّكَاحِ من إحْضَارِ الشُّهُودِ وَتَسْمِيَةِ
الْمَهْرِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَنَحْوِ ذلك يُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ
وَإِنْ لم يَكُنْ الْحَالُ دَلِيلًا على النِّكَاحِ فَإِنْ نَوَى النِّكَاحَ
فَصَدَقَهُ الْمَوْهُوبُ له فَكَذَلِكَ وَيُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ
النِّيَّةِ وَإِنْ لم يَنْوِ يُنْصَرَفُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ النِّكَاحُ كما يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ
يَنْعَقِدُ بها بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ
تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ وَكَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ
الْمُرْسِلِ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ الْوَكَالَةِ في بَابِ النِّكَاحِ ما رُوِيَ
أَنَّ النَّجَّاشِيَّ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُمَّ
حَبِيبَةَ رضي اللَّهُ عنها فَلَا يَخْلُو ذلك إمَّا أَنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أو لَا بِأَمْرِهِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ
وَكِيلُهُ وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ
وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْعِبَارَةِ يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ من
الْأَخْرَسِ إذَا كانت إشَارَتُهُ مَعْلُومَةً وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ
لِأَنَّ الْكِتَابَ من الْغَائِبِ خِطَابُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ صِيغَةِ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَنَقُولُ
لَا خِلَافَ في أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن
الْمَاضِي كَقَوْلِهِ زَوَّجْتُ وَتَزَوَّجْتُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وإما
بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عن الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عن
الْمُسْتَقْبَلِ كما إذَا قال رَجُلٌ لِرَجُلٍ زَوِّجْنِي بِنْتَك أو قال جِئْتُكَ
خَاطِبًا ابْنَتَك أو قال جِئْتُك لِتُزَوِّجَنِي بِنْتَك فقال الْأَبُ قد
زَوَّجْتُك أو قال لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُك على أَلْفِ دِرْهَمٍ فقالت قد
تَزَوَّجْتُك على ذلك أو قال لها زَوِّجِينِي أو انْكِحِينِي نَفْسَك فقالت
زَوَّجْتُك أو أَنْكَحْت يَنْعَقِدُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِقْبَالِ عُدَّةٌ
وَالْأَمْرُ من فُرُوعِ الِاسْتِقْبَالِ فلم يُوجَدْ الِاسْتِقْبَالُ فلم يُوجَدُ
الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رضي
اللَّهُ عنه خَطَبَ إلَى قَوْمٍ من الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فقال
لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ
إلَيْكُمْ لَمَا خَطَبْتُ فَقَالُوا له مَلَكْت ولم يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا
أَعَادَ الْقَوْلَ وَلَوْ فَعَلَ لِنَقُلْ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ
الْإِيجَابَ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَتَحَقَّقُ في النِّكَاحِ عَادَةً
فَكَانَ مَحْمُولًا على الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن السَّوْمَ مُعْتَادٌ
فيه فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عليه فَلَا بُدَّ من لَفْظٍ آخَرَ يَتَأَدَّى بِهِ
الْإِيجَابُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ النِّكَاحَ هل يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أو لَا
يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في هذا الْفَصْلِ قال
أَصْحَابُنَا يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ إذَا كانت له وِلَايَةٌ من الْجَانِبَيْنِ
سَوَاءً كانت وِلَايَتُهُ أَصْلِيَّةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْمِلْكِ
وَالْقَرَابَةِ أو دَخِيلَةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ
كان الْعَاقِدُ مَالِكًا من الْجَانِبَيْنِ كَالْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ من
عَبْدِهِ أو كان وَلِيًّا من الْجَانِبَيْنِ كَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ ابْنَ
ابْنِهِ الصَّغِيرَ من بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ وَالْأَخَ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ
أَخِيهِ الصَّغِيرَةِ من ابْنِ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أو كان أَصِيلًا وَوَلِيًّا
كَابْنِ الْعَمِّ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ من نَفْسِهِ أو كان وَكِيلًا من
الْجَانِبَيْنِ أو رَسُولًا من الْجَانِبَيْنِ أو كان وَلِيًّا من جَانِبٍ
وَوَكِيلًا من جَانِبٍ آخَرَ أو وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَهَا من
نَفْسِهِ أو وَكَّلَ رَجُلٌ امْرَأَةً لِتُزَوِّجَ نَفْسَهَا منها وَهَذَا
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَصْلًا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كان وَلِيًّا من الْجَانِبَيْنِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ هل يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالنِّكَاحِ من
الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ رُكْنَ
النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا
يَقُومَانِ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ كَشَطْرَيْ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ
يقول في
____________________
(2/231)
الْوَلِيِّ
ضَرُورَةٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا وَلِيٍّ فإذا كان الْوَلِيُّ
مُتَعَيَّنًا فَلَوْ لم يُجِزْ نِكَاحَ الْمُوَلِّيَةِ لَامْتَنَعَ نِكَاحُهَا
أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في الْوَكِيلِ
وَنَحْوِهِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَفْتُونَك في النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وما يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ في يَتَامَى
النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ } قِيلَ نَزَلَتْ هذه الْآيَةُ في يَتِيمَةٍ في حِجْرِ وَلِيِّهَا
وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا
تُؤْتَوْنَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } خَرَجَ
مَخْرَجَ الْعِتَابِ فَيَدُلُّ على أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ
وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ إذا لو لم يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لم يَكُنْ لِلْعِتَابِ
مَعْنًى لِمَا فيه من إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ وقَوْله
تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْإِنْكَاحِ من غَيْرِهِ أو من
نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ في بَابِ النِّكَاحِ ليس بِعَاقِدٍ بَلْ هو سَفِيرٌ
عن الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عنه بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لَا
تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وإذا كان مُعَبِّرًا عنه وَلَهُ وِلَايَةٌ على
الزَّوْجَيْنِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَلَامُهُ
كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ فَيُعْتَبَرُ إيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا
قالت زَوَّجْت نَفْسِي من فُلَانٍ وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ كَأَنَّهُ قال
قَبِلْت فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ
مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً
وَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْوَاحِدُ فيه إذَا كان وَلِيًّا يَقُومُ بِطَرَفَيْ
الْعَقْدِ كَالْأَبِ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ أو يَبِيعُ مَالَ
نَفْسِهِ من الصَّغِيرِ أو يَبِيعُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ من ابْنِهِ
الصَّغِيرِ أو يَشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ إذَا كان وَكِيلًا لَا يَقُومُ بِهِمَا
لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُقْتَصِرَةٌ على الْعَاقِدِ فَلَا يَصِيرُ كَلَامُ
الْعَاقِدِ كَلَامَ الشَّخْصَيْنِ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ إذَا كانت
مُقْتَصِرَةً على الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ أَحْكَامٌ مُتَضَادَّةٌ من التَّسْلِيمِ
وَالْقَبْضِ وَالْمُطَالَبَةِ فَلَوْ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ لَصَارَ
الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَمُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا
وَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا
لَازِمًا قبل وُجُودِ الْآخَرِ حتى لو وُجِدَ الْإِيجَابُ من أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
كان له أَنْ يَرْجِعَ قبل قَبُولِ الْآخَرِ كما في الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا جميعا
رُكْنٌ وَاحِدٌ فَكَانَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الرُّكْنِ وَالْمُرَكَّبُ من
شَيْئَيْنِ لَا وُجُودَ له بِأَحَدِهِمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ
وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ
أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ
الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ
أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ
فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَشَرْطُ النَّفَاذِ عِنْدَنَا لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ على
ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما مَرَّ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إذَا
كان الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ وهو أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حتى لو اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِأَنْ
كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ عن الْمَجْلِسِ قبل
الْقَبُولِ أو اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ لَا يَنْعَقِدُ
لِأَنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عن ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ بِالْآخَرِ
فَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُودَهُمَا في مَكَان وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذلك
يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْعُقُودِ فَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا
لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا مع تَفَرُّقِهِمَا حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ
تَنْدَفِعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فإذا اخْتَلَفَ تَفَرُّقُ الشطران ( ( (
الشطرين ) ) ) حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ
وَأَمَّا الْفَوْرُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هو شَرْطٌ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَنَاكَحَا وَهُمَا
يَمْشِيَانِ أو يَسِيرَانِ على الدَّابَّةِ وهو على التَّفْصِيلِ الذي نَذْكُرُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ بين الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ على الدَّابَّةِ وَبَيْنَ
جَرَيَانِ السَّفِينَةِ هذا إذَا كان الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كان
أَحَدُهُمَا غَائِبًا لم يَنْعَقِدْ حتى لو قالت امْرَأَةٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ
زَوَّجْت نَفْسِي من فُلَانٍ وهو غَائِبٌ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فقال قَبِلْت أو
قال رَجُلٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ
فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ
فقالت زَوَّجْت نَفْسِي منه لم يَجُزْ وَإِنْ كان الْقَبُولُ بِحَضْرَةِ ذَيْنك
الشَّاهِدَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ يَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْغَائِبِ وَجْهُ قَوْلِ
أبي يُوسُفَ
____________________
(2/232)
أَنَّ
كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا في بَابِ النِّكَاحِ لِأَنَّ
الْوَاحِدَ في هذا الْبَابِ يَقُومُ بِالْعَقْدِ من الْجَانِبَيْنِ وَكَمَا لو كان
مَالِكًا من الْجَانِبَيْنِ أو وَلِيًّا أو وَكِيلًا فَكَانَ كَلَامُهُ عَقْدًا
لَا شَطْرًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّوَقُّفِ كما في الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ
والاعتاق على مَالٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا شَطْرُ الْعَقْدِ حَقِيقَةً لَا كُلُّهُ لِأَنَّهُ
لَا يُمْلَكُ كُلُّهُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَقِفُ
على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّطْرَ لَا يَحْتَمِلُ
التَّوَقُّفَ حَقِيقَةً لِأَنَّ التَّوَقُّفَ في الْأَصْلِ على خِلَافِ
الْحَقِيقَةِ لِصُدُورِهِ عن الْوَلَاءِ على الْجَانِبَيْنِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ
بِمَنْزِلَةِ كَلَامَيْنِ وَشَخْصُهُ كَشَخْصَيْنِ حُكْمًا فإذا انْعَدَمَتْ
الْوِلَايَةُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَقِفُ بِخِلَافِ
الْخُلْعِ لِأَنَّهُ من جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ
بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ يَمِينٌ فَكَانَ عَقْدًا تَامًّا وَمِنْ جَانِبِ
الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةً فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ كَالْبَيْعِ
وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ على مَالٍ وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا
رَسُولًا وَكَتَبَ إلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ
سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذلك لِاتِّحَادِ
الْمَجْلِسِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ
لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ
الْخِطَابِ من الْكَاتِبِ فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ
الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى وَإِنْ لم
يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إذَا قالت زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لم يَسْمَعَا
كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ بِنَاءً على أَنَّ قَوْلَهَا زَوَّجْت
نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا وَالشَّهَادَةُ في شَطْرَيْ الْعَقْدِ شَرْطٌ
لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ فإذا لم يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ
وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فلم تُوجَدْ الشَّهَادَةُ على الْعَقْدِ وَقَوْلُ
الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وقد حَضَرَ الشَّاهِدَانِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ من الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قال
الرَّجُلُ زَوَّجْت فُلَانَةَ من فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ لم يَنْعَقِدْ
عِنْدَهُمَا حتى لو بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ فَأَجَازَا لم يَجُزْ وَعِنْدَهُ
يَنْعَقِدُ وَيَجُوزُ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ قال فُضُولِيٌّ زَوَّجْت فُلَانَةَ من
فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَقَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ عن الزَّوْجِ يَنْعَقِدُ
بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا حتى إذَا بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ وَأَجَازَا جَازَ
وَلَوْ فَسَخَ الْفُضُولِيُّ الْعَقْدَ قبل إجَازَةِ من وَقَفَ الْعَقْدُ على
إجَازَتِهِ صَحَّ الْفَسْخُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفٌ في حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْعَقْدَ قد انْعَقَدَ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ من تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ
الْإِجَازَةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ فَكَانَ هو بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا
في مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِخِلَافِ
الْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ ثُمَّ فَسَخَ قبل اتِّصَالِ الْإِجَازَةِ بِهِ أَنَّهُ
يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَسْخَ هُنَاكَ تَصَرُّفٌ دَفَعَ الْحُقُوقَ عن نَفْسِهِ
لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ
فَكَانَ هو بِالْفَسْخِ دَافِعًا الْحُقُوقَ عن نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَالْمَالِكِ
إذَا أَوْجَبَ النِّكَاحَ أو الْبَيْعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل قَبُولِ
الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَقْدَ قبل الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ في
حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ فَكَانَ
الْفَسْخُ منه قبل الْإِجَازَةِ تَصَرُّفًا في كَلَامِ نَفْسِهِ بِالنَّقْضِ
فَجَازَ كما في الْبَيْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ
يَكُونَ الْعَاقِدُ بَالِغًا فإن نِكَاحَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِنْ كان مُنْعَقِدًا
على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ بَلْ نَفَاذُهُ يَتَوَقَّفُ على
إجَازَةِ وَلِيِّهِ لِأَنَّ نَفَاذَ التَّصَرُّفِ لِاشْتِمَالِهِ على وَجْهِ
الْمَصْلَحَةِ وَالصَّبِيُّ لِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ
وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ على ذلك فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَلْ يَتَوَقَّفُ على
إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ على بُلُوغِهِ حتى لو بَلَغَ قبل أَنْ
يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ لَا يَنْفُذُ بِالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ
مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَرِضَاهُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ رِضَا
الصَّبِيِّ شَرْعًا وَبِالْبُلُوغِ زَالَتْ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ فَلَا يَنْفُذُ
ما لم يُجِزْهُ بِنَفْسِهِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ أَصْلًا بَلْ هِيَ
بَاطِلَةٌ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ
إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ
وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ إذْنَ
الْمَوْلَى شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ إذْنِهِ أو
إجَازَتِهِ وفي بَيَانِ ما يَكُونُ إجَازَةً له وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ من
النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمَهْرِ في نِكَاحِ
الْمَمْلُوكِ
____________________
(2/233)
أَمَّا
الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كان
عَاقِلًا بَالِغًا سَوَاءً كان قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو مُدَبَّرَةٍ أو أُمَّ
وَلَدٍ أو مُكَاتَبَةً أو مُكَاتَبًا
أَمَّا الْقِنُّ فَإِنْ كان أَمَةً فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِ
سَيِّدِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا
وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَذَلِكَ
الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ
لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ
الرَّقَبَةِ إلَّا أن مُنِعَ من الِاسْتِمْتَاعِ بها لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ وفي
الِاسْتِمْتَاعِ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أنها تَعْجِزُ
فَتُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فَتَعُودُ قِنَّةً كما كانت فَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا
صَادَفَ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كان عَبْدًا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ
أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَا تَدْخُلُ
تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى فيها على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ
وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عنها فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ
الْأَمَةِ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمُنِعَتْ من
التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا من أَنْفُسِكُمْ هل لَكُمْ من ( ( ( مما ) ) )
ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ من شُرَكَاءَ في ( ( ( فيما ) ) ) ما رَزَقْنَاكُمْ
فَأَنْتُمْ فيه سَوَاءٌ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْعَبِيدَ
لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِيمَا رُزِقَ السَّادَاتُ وَلَا هُمْ بِسَوَاءٍ في ذلك
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الشَّرِكَةِ في الْمَنَافِعِ
لِاشْتِرَاكِهِمْ فيها دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ
على شَيْءٍ } وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ
أُضِيفَ إلَى كُلِّهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ في كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ من
الِانْتِفَاعِ به بِبَعْضِ أَجْزَائِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ
الْمِلْكِ له كالآمة الْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِ ذلك
وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ في التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَلِأَنَّهُ
كان مَحْجُورًا قبل الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ
لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ
الْبُضْعِ بِالْمَالِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا على عَبْدٍ تَنْوِي
أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لم يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَوْ كان
النِّكَاحُ من التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ
فَكَانَ هو بِالنِّكَاحِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ مَوْلَاهُ فَلَا يَجُوزُ كما لَا
يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَالدَّلِيلُ عليه قَوْله تَعَالَى { لَا يَقْدِرُ على
شَيْءٍ } وَصَفَ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لِأَنَّهَا
ثَابِتَةٌ له فَتَعَيَّنَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ إذْنُ الشَّرْعِ
وَإِطْلَاقِهِ فَكَانَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا لِلْإِذْنِ
وَالْإِطْلَاقِ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ
الشَّرْعِ
وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّهُ كان مَحْجُورًا عن التَّزَوُّجِ قبل
الْكِتَابَةِ وَعِنْدَ الْكِتَابَةِ ما أَفَادَ له إلَّا الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ
وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ
بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ وَالدَّلِيلُ عليه
أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا على عَبْدٍ تَنْوِي أَنَّ الْعَبْدَ
يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لم يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَوْ كان النِّكَاحُ من التِّجَارَةِ
لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عليه دَيْنٌ عِنْدَهُمَا وَلَوْ تَزَوَّجَ
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَوْلَى النِّكَاحَ
جَازَ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ
النَّفَاذُ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَا
يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى وَإِنْ أَذِنَ له مَوْلَاهُ لِأَنَّ حِلَّ
الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ
قال اللَّه تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على
أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ولم
يُوجَد أَحَدُهُمَا
وروى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا
يُسَرِّيه مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شيئا إلَّا
الطَّلَاقَ وَهَذَا نَصٌّ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَكُونُ إجَازَةً فَالْإِجَازَةُ قد ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وقد
ثَبَتَتْ بِالدَّلَالَةِ وقد ثَبَتَتْ بِالضَّرُورَةِ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ الصَّرِيحُ بِالْإِجَازَةِ وما يَجْرِي مَجْرَاهَا نحو
أَنْ يُقَوَّلَ أَجَزْت أو رَضِيت أو أَذِنْت وَنَحْوَ ذلك
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ قَوْلٌ أو فِعْلٌ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ مِثْلَ
أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِالنِّكَاحِ حَسَنٌ أو صَوَابٌ أو لَا
بَأْسَ بِهِ وَنَحْوَ ذلك أو يَسُوقُ إلَى الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ أو شيئا منه في
نِكَاحِ الْعَبْدِ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على الرِّضَا
وَلَوْ قال له الْمَوْلَى طَلِّقْهَا أو فَارِقْهَا لم يَكُنْ إجَازَةً لِأَنَّ
قَوْلَهُ طَلِّقْهَا أو فَارِقْهَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ
وَالْمُفَارَقَةِ وَيَحْتَمِلُ الْمُتَارَكَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ
وَالنِّكَاحَ الْمَوْقُوفَ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً
____________________
(2/234)
فَوَقَعَ
الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ في ثُبُوتِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ
وَالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ قال له طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ إجَازَةٌ
لِارْتِفَاعِ التَّرْدَادِ إذْ لَا رَجْعَةَ في الْمُتَارَكَةِ لِلنِّكَاحِ
الْمَوْقُوفِ وَفَسْخِهِ
وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ أَنْ يُعْتِقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ أو الْأَمَةَ
فَيَكُونُ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً وَلَوْ أَذِنَ بِالنِّكَاحِ لم يَكُنْ الْإِذْنُ
بِالنِّكَاحِ إجَازَةً
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو لم يُجْعَلْ
الْإِعْتَاقُ إجَازَةً لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْطُلَ بِالنِّكَاحِ
الْمَوْقُوفِ وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ وَلَا سَبِيلَ
إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ فَلَا
يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالِ من له وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي لِأَنَّهُ لو بَقِيَ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ فَأَمَّا إنْ بَقِيَ
مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْمَوْلَى أو على إجَازَةِ الْعَبْدِ لَا وَجْهَ
لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وقد
زَالَ بالاعتقاق ( ( ( بالإعتاق ) ) ) وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِيَّ لِأَنَّ
الْعَقْدَ وُجِدَ من الْعَبْدِ فَكَيْف يَقِفُ عَقْدُ الْإِنْسَانِ على إجَازَتِهِ
وإذا بَطَلَتْ هذه الاقسام وَلَيْسَ هَهُنَا قِسْمٌ آخَرُ لَزِمَ أَنْ يُجْعَلَ
الْإِعْتَاقُ إجَازَةً ضَرُورَةً وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لم تُوجَدْ في الأذن
بِالنِّكَاحِ
وَلِلثَّانِي أَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مع صُدُورِ التَّصَرُّفِ من الْأَهْلِ
في الْمَحِلِّ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وهو الْمِلْكُ نَظَرًا له دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عنه وقد زَالَ مِلْكُهُ بِالْإِعْتَاقِ فَزَالَ الْمَانِعُ من
النُّفُوذِ وَالْإِذْنُ بِالتَّزَوُّجِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَانِعِ وهو
الْمِلْكُ لَكِنَّهُ بِالْإِذْنِ أقامة مَقَامَ نَفْسِهِ في النِّكَاحِ كَأَنَّهُ
هو ثُمَّ ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْإِجَازَةِ له لم تَكُنْ إجَازَةً ما لم يُجِزْ
فَكَذَا الْعَبْدُ ثُمَّ إذَا لم يَكُنْ نَفْسُ الْإِذْنِ من الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ
إجَازَةً لِذَلِكَ الْعَقْدِ فَإِنْ أَجَازَهُ الْعَبْدُ جَازَ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَجَازَهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْعَقْدِ وَالْإِجَازَةُ مع الْعَقْدِ
مُتَغَايِرَانِ اسْمًا وَصُورَةً وَشَرْطًا أَمَّا الِاسْمُ وَالصُّورَةُ فَلَا
شَكَّ في تَغَايُرِهِمَا وَأَمَّا الشَّرْطُ فإن مَحِلَّ الْعَقْدِ عليه وَمَحِلُّ
الْإِجَازَةِ نَفْسُ الْعَقْدِ وَكَذَا الشَّهَادَةُ شَرْطُ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ
الْإِجَازَةِ وَالْإِذْنُ بِأَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ لَا يَكُونُ إذْنًا
بِالْآخَرِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَبْدَ أتى بِبَعْضِ ما هو مَأْذُونٌ فيه فَكَانَ
مُتَصَرِّفًا عن إذْنٍ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْمَوْلَى
أَذِنَ له بِعَقْدٍ نَافِذٍ فَكَانَ مَأْذُونًا بِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ
وهو النَّفَاذُ وقد حَصَلَ النَّفَاذُ فَيَحْصُلُ وَلِهَذَا لو زَوَّجَ فُضُولِيٌّ
هذا الْعَبْدَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَأَجَازَ الْعَبْدُ نَفَذَ
الْعَقْدُ دَلَّ أَنَّ تَنْفِيذَ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ مَأْذُونٌ فيه من
قِبَلِ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ ثُمَّ إذَا نَفَذَ النِّكَاحُ
بِالْإِعْتَاقِ وَهِيَ أَمَةٌ فَلَا خِيَارَ لها لِأَنَّ النِّكَاحَ نَفَذَ بَعْدَ
الْعِتْقِ فالاعتاق لم يُصَادِفْهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ وَالْمَهْرُ لها إنْ لم
يَكُنْ الزَّوْجُ دخل بها قبل الْإِعْتَاقِ وَإِنْ كان قد دخل بها قبل
الْإِعْتَاقِ فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى هذا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ
فَأَمَّا إذَا كانت صَغِيرَةً فَأَعْتَقَهَا فإن الْإِعْتَاقَ لَا يَكُونُ
إجَازَةً وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ عِنْدَ زُفَرَ وَعِنْدَنَا يَبْقَى مَوْقُوفًا على
إجَازَةِ الْمَوْلَى إذَا لم يَكُنْ لها عَصَبَةٌ فَإِنْ كان لها عَصَبَةٌ
يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْعَصَبَةِ وَيَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْعَصَبَةِ ثُمَّ
إنْ كان الْمُجِيزُ غير الْأَبِ أو الْجَدِّ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ
الْعَقْدَ نَفَذَ عليها في حَالَةِ الصِّغَرِ وَهِيَ حُرَّةٌ وَإِنْ كان
الْمُجِيزُ أَبُوهَا أو جَدُّهَا فَلَا خِيَارَ لها وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل
الْإِجَازَةِ فَإِنْ وَرِثَهَا من يَحِلُّ له وَطْؤُهَا بَطَلَ النِّكَاحُ
الْمَوْقُوفُ لِأَنَّ الْحِلَّ النَّافِذَ قد طَرَأَ على الْمَوْقُوفِ لِوُجُودِ
سَبَبِ الْحِلِّ وهو الْمِلْكُ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحِلِّ له ارْتِفَاعُ
الْمَوْقُوفِ وَإِنْ وَرِثَهَا من لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا بِأَنْ كان الْوَارِثُ
ابن الْمَيِّتِ وقد وَطِئَهَا أَبُوهُ أو كانت الْأَمَةُ أُخْتُهُ من الرَّضَاعِ
أو وَرِثَهَا جَمَاعَةٌ فَلِلْوَارِثِ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ طَرَيَان
الْحِلِّ فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ على حَالِهِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَوْلَى
قبل الْإِجَازَةِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الْوَارِثِ
وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذن ( ( ( إذنه
) ) ) وَوَطِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا الْمَوْلَى من رَجُلٍ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي
الْإِجَازَةَ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ يَمْنَعُ حِلَّ الْوَطْءِ لِلْمُشْتَرِي
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَاتَ الْوَلِيُّ
أو بَاعَهُ قبل الْإِجَازَةِ فَلِلْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ
لَا يُتَصَوَّرُ حِلُّ الْوَطْءِ هَهُنَا فلم يُوجَدْ طَرَيَان حِلِّ الْوَطْءِ
فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ بِحَالِهِ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي بَلْ
يَبْطُلُ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ على إجَازَةِ إنْسَانٍ
يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ من قِبَلِ غَيْرِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ لِأَنَّهَا
تَنْفِيذُ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ على الْوَجْهِ الذي وَقَفَ
وَإِنَّمَا وَقَفَ على الْأَوَّلِ لَا على الثَّانِي فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي
تَنْفِيذَهُ
____________________
(2/235)
وَلَنَا
أَنَّهُ إنَّمَا وَقَفَ على إجَازَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وقد صَارَ
الْمِلْكُ لِلثَّانِي فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَى الثَّانِي وَهَذَا لِأَنَّ
الْمَالِكَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وهو النَّفَاذُ
فَلَأَنْ يَمْلِكَ تَنْفِيذَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَأَنَّهُ إثْبَاتُ
الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ أَوْلَى وَلَوْ زَوَّجَتْ الْمُكَاتَبَةُ نَفْسَهَا
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى حتى وَقَفَ على إجَازَتِهِ فَأَعْتَقَهَا نَفَذَ
الْعَقْدُ والإخبار فيه كما ذَكَرْنَا في الْأَمَةِ الْقِنَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا
أَدَّتْ فَعَتَقَتْ وَإِنْ عَجَزَتْ فَإِنْ كان بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى
يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَإِنْ كان لَا يَحِلُّ بِأَنْ كانت أُخْتُهُ من الرَّضَاعِ أو
كانت مَجُوسِيَّةً تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ وَلَوْ كان الْمَوْلَى هو الذي عَقَدَ
عليها بِغَيْرِ رِضَاهَا حتى وَقَفَ على إجَازَتِهَا فَأَجَازَتْ جَازَ الْعَقْدُ
وَإِنْ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ أو أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى تَوَقَّفَ الْعَقْدُ على
إجَازَتِهَا إنْ كانت كَبِيرَةً وَإِنْ كانت صَغِيرَةً فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من
الِاخْتِلَافِ في الْأَمَةِ وَتَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا إذَا
لم يَكُنْ لها عَصَبَةٌ غير الْمَوْلَى فَإِنْ كان فَأَجَازُوا جَازَ وإذا
أَدْرَكَتْ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ إذَا كان الْمُجْبِرُ غير الْأَبِ
وَالْجَدِّ على ما ذَكَرْنَا وَإِنْ لم يُعْتِقْهَا حتى عَجَزَتْ بَطَلَ الْعَقْدُ
وَإِنْ كان بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كان لَا يَحِلُّ له فَلَا
يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ من النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ فَنَقُولُ إذَا
أَذِنَ الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ بِالتَّزْوِيجِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أن خَصَّ
الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ أو عَمَّهُ فَإِنْ خَصَّ بِأَنْ قال له تَزَوَّجْ لم
يَجُزْ له أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ
الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَكَذَا إذَا قال له
تَزَوَّجْ امْرَأَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ امْرَأَةً اسْمٌ لِوَاحِدَةٍ من هذا
الْجِنْسِ وَإِنْ عَمَّ بِأَنْ قال تَزَوَّجْ ما شِئْتَ من النِّسَاءِ جَازَ له
أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ من ذلك
لِأَنَّهُ إذن له بِنِكَاحِ ما شَاءَ من النِّسَاءِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ
فَيَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ ما يَمْلِكُهُ الْعَبِيدُ من النِّسَاءِ وهو
التَّزَوُّجُ بِاثْنَتَيْنِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ من
اثْنَتَيْنِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن الْحَكَمِ أَنَّهُ قال اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ من النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
وَلِأَنَّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ تُشْعِرُ بِكَمَالِ الْحَالِ لِأَنَّهَا من
بَابِ الْوِلَايَةِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا من الْحُرِّ فَيَظْهَرُ أَثَرُ
النُّقْصَانِ في عَدَدِ الْمَمْلُوكِ له في النِّكَاحِ كما ظَهَرَ أَثَرُهُ في
الْقَسَمِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِ ذلك وَهَلْ يَدْخُلُ
تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ قال أبو حَنِيفَةَ
يَدْخُلُ حتى لو تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بها
لَزِمَهُ الْمَهْرُ في الْحَالِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَدْخُلُ
وَيُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى من الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ وهو حِلُّ
الِاسْتِمْتَاعِ لِيَحْصُلَ بِهِ عِفَّةُ الْعَبْدِ عن الزِّنَا وَهَذَا لَا يَحْصُلُ
بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا
من الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ حتى لو نَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يَحْنَثُ
كَذَا هذا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ مُطْلَقٌ
فَيَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ كَالْإِذْنِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا وفي
مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ إنَّمَا لم يَنْصَرِفْ لَفْظُ النِّكَاحِ إلَى الْفَاسِدِ
لِقَرِينَةٍ عُرْفِيَّةٍ إلَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ على الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ
الِامْتِنَاعُ عن الصَّحِيحِ لَا الْفَاسِدِ لِأَنَّ فَسَادَ الْمَحْلُوفِ عليه
يَكْفِي مَانِعًا من الْإِقْدَامِ عليه فَلَا حَاجَةَ إلَى الِامْتِنَاعِ
بِالْيَمِينِ وَالدَّلِيلُ على صِحَّةِ هذا التَّخْرِيجِ أَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ
لو كانت على الْفِعْلِ الْمَاضِي يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جميعا
وَيَتَفَرَّعُ على هذا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى نِكَاحًا صَحِيحًا ليس له ذلك عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِذْنَ انْتَهَى بِالنِّكَاحِ وَعِنْدَهُمَا له ذلك لِأَنَّ
الْإِذْنَ قد بَقِيَ وَلَوْ أَذِنَ له بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ نَصًّا وَدَخَلَ بها
يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ في الْحَالِ في قَوْلِهِمْ جميعا
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ
الصَّرْفَ إلَى الصَّحِيحِ لِضَرْبِ دَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ إلَيْهِ فإذا جاء
النَّصُّ بِخِلَافِهِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ في نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ فَنَقُولُ إذَا كانت
الْإِجَازَةُ قبل الدُّخُولِ بِالْأَمَةِ لم يَكُنْ على الزَّوْجِ إلَّا مَهْرٌ
وَاحِدٌ وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها فَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرَانِ
مَهْرٌ بِالدُّخُولِ قبل الْإِجَازَةِ وَمَهْرٌ بِالْإِجَازَةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ مَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا
الدُّخُولُ لِأَنَّ الدُّخُولَ في النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ دُخُولٌ في نِكَاحٍ
فَاسِدٍ وهو بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَذَا يُوجِبُ الْمَهْرَ
كَذَا هذا
وَالثَّانِي النِّكَاحُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ النِّكَاحَ قد صَحَّ بِالْإِجَازَةِ
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ
____________________
(2/236)
أَحَدُهُمَا
أَنَّ النِّكَاحَ كان مَوْقُوفًا على إذْنِ الْمَالِكِ كَنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ
وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ تَسْتَنِدُ
الْإِجَازَةُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ وإذا اسْتَنَدَتْ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ صَارَ
كَأَنَّهُ عَقَدَهُ بِإِذْنِهِ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ
السَّابِقِ فَلَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ
وَالثَّانِي أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لو وَجَبَ لَكَانَ لِوُجُودِهِ تَعَلُّقًا
بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا وَلَكَانَ الْوَاجِبُ هو
الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ وقد وَجَبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ فَلَوْ وَجَبَ بِهِ
مَهْرُ الْمِثْلِ أَيْضًا لَوَجَبَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مَهْرَانِ وَأَنَّهُ
مُمْتَنِعٌ
ثُمَّ كُلُّ ما وَجَبَ من مَهْرِ الْأَمَةِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى سَوَاءً وَجَبَ
بِالْعَقْدِ أو بِالدُّخُولِ وَسَوَاءً كان الْمَهْرُ مُسَمًّى أو مَهْرَ
الْمِثْلِ وَسَوَاءً كانت الْأَمَةُ قِنَّةً
أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ وَلَدٍ إلَّا الْمُكَاتَبَةَ وَالْمُعْتَقَ بَعْضُهَا فإن
الْمَهْرَ لَهُمَا لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عن الْمُتْعَةِ وَهِيَ
مَنَافِعُ الْبُضْعِ ثُمَّ إنْ كانت مَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةً
بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَعِوَضُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ وَإِنْ
كانت مُبْقَاةً على حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى
أَيْضًا كَالْأُجْرَةِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَرْشُ
وَالْأُجْرَةُ لها فَكَانَ الْمَهْرُ لها أَيْضًا وَكُلُّ مَهْرٍ لَزِمَ الْعَبْدَ
فَإِنْ كان قِنًّا وَالنِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ
وَرَقَبَتُهُ تُبَاعُ فيه إنْ لم يَكُنْ له كَسْبٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ دَيْنٌ
ثَابِتٌ في حَقِّ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ في حَقِّ الْمَوْلَى وَمِثْلُ هذا الدَّيْنِ
يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَالْمَسْأَلَةُ
سَتَأْتِي في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَإِنْ كان مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا فَإِنَّهُمَا يَسْعَيَانِ في الْمَهْرِ
فيستوفي من كَسْبِهِمَا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من رَقَبَتِهِمَا
بِخُرُوجِهِمَا عن احْتِمَالِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وما لَزِمَ
الْعَبِيدَ من ذلك بِغَيْرِ إذْنِ الملوى ( ( ( المولى ) ) ) اُتُّبِعُوا بِهِ
بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ لم يَظْهَرْ في حَقِّ
الْمَوْلَى فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِلْحَالِ وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِمَا
قُلْنَا كَذَا هذا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ في النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ إنْكَاحُ من لَا وِلَايَةَ
له وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِ
الْوِلَايَةِ وفي بَيَانِهِ سَبَبَ ثُبُوتِ كل نَوْعٍ
وفي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ كل نَوْعٍ وما يَتَّصِلُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْوِلَايَةُ في بَابِ النِّكَاحِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ
وِلَايَةُ الْمِلْكِ وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ وَوِلَايَةُ الْوَلَاءِ وَوِلَايَةُ
الامامة أَمَّا وِلَايَةٌ الْمِلْكِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْمِلْكُ لِأَنَّ
وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةُ نَظَرٍ وَالْمِلْكُ داعي ( ( ( داع ) ) ) إلَى
الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ في حَقِّ الْمَمْلُوكِ فَكَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ له إذْ هو
مَمْلُوكٌ في نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هذه الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْمَالِكِ
وَمِنْهَا بُلُوغُهُ فَلَا يَجُوزُ الْإِنْكَاحُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ
الذي لَا يَعْقِلُ وَلَا من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من
أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ بِالْقُدْرَةِ على
تَحْصِيلِ النَّظَرِ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه وَذَلِكَ بِكَمَالِ الرَّأْيِ
وَالْعَقْلِ ولم يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لهم على أَنْفُسِهِمْ
فَكَيْفَ يَكُونُ على غَيْرِهِمْ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وهو أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى عليه مَمْلُوكًا
لِلْمَالِكِ رَقَبَةً وَيَدًا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ
أو مُدَبَّرَتَهُ أو أُمَّ وَلَدِهِ أو عَبْدَهُ أو مُدَبَّرَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ
سَوَاءً رضي بِهِ الْمَمْلُوكُ أو لَا وَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُكَاتَبِ
وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا بِرِضَاهُمَا أَمَّا إنْكَاحُ الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ
وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ صَغِيرَةً كانت أو كَبِيرَةً
وَأَمَّا إنْكَاحُ الْعَبْدِ فَإِنْ كان صَغِيرًا يَجُوزُ وَإِنْ كان كَبِيرًا
فَقَدْ ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ وَبِهِ أخد ( ( (
أخذ ) ) ) الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لم تَدْخُلْ تَحْتَ
مِلْكِ الْمَوْلَى بَلْ هو أَجْنَبِيٌّ عنها وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ
التَّصَرُّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ
إنْكَاحَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّ مَنَافِعَ
بُضْعِهَا مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُكْرَهِ لَا يَنْفُذُ ما
وُضِعَ له من الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منه لِأَنَّ حُصُولَهَا بِالدَّوَامِ
على النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عليه وَنِكَاحُ الْمُكْرَهِ لَا يَدُومُ بَلْ
يُزِيلُهُ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ
الرِّضَا فَمَنْ شَرَطَهُ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ إنْكَاحَ
الْمَمْلُوكِ من الْمَوْلَى تَصَرُّفٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ
تَرْجِعُ إلَيْهِ فإن الْوَلَدَ في إنْكَاحِ الْأَمَةِ له وَكَذَا في إنْكَاحِ
أَمَتِهِ من عَبْدِهِ وَمَنْفَعَةَ الْعَقْدِ عن الزِّنَا الذي يُوجِبُ نُقْصَانَ
مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ حَصَلَ له أَيْضًا فَكَانَ هذا الْإِنْكَاحُ تَصَرُّفًا
لِنَفْسِهِ وَمَنْ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ يَنْفُذُ
____________________
(2/237)
وَلَا
يُشْتَرَطُ فيه رِضَا الْمُتَصَرَّفِ فيه كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ
وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ
مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِكُلِّ مَالِكٍ
وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في مِلْكِهِ إذَا كان التَّصَرُّفُ مَصْلَحَةً وَإِنْكَاحُ
الْعَبْدِ مَصْلَحَةٌ في حَقِّهِ لِمَا فيه من صِيَانَةِ مِلْكِهِ عن النُّقْصَانِ
بِوَاسِطَةِ الصِّيَانَةِ عن الزِّنَا
وَقَوْلُهُ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِسَيِّدِهِ مَمْنُوعٌ بَلْ
هِيَ مَمْلُوكَةٌ إلَّا أَنَّ مَوْلَاهَا إذَا كانت أَمَةً مُنِعَتْ من
اسْتِيفَائِهَا لِمَا فيه من الْفَسَادِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ
كَالْجَارِيَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتِ من الرَّضَاعَةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ
الْمَوْلَى من الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا مع قِيَامِ الْمِلْكِ كَذَا هذا
وَالْمِلْكُ الْمُطْلَقُ لم يُوجَدْ في الْمُكَاتَبِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ
بِالْكِتَابَةِ حتى كان أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ تَحْتَ
مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ في قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ إلَّا
بِالنِّيَّةِ فَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ
فَانْعِدَامُ مِلْكِ الْيَدِ يَمْنَعُ من الثُّبُوتِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ
بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ في التَّزْوِيجِ من غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ضَرَرًا
لِأَنَّ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ جَعَلَهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ
لِيَتَوَصَّلَ بها إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَالتَّزْوِيجُ من غَيْرِ رِضَاهُ
يُوجِبُ تَعَلَّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ فَلَا يَصِلُ إلَى
الْحُرِّيَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ بِشَرْطِ رِضَاهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
وَقَوْلُهُ لَا فَائِدَةَ في هذا النِّكَاحِ مَمْنُوعٌ فإن في طَبْعِ كل فَحْلٍ
التَّوَقَانُ إلَى النِّسَاءِ فَالظَّاهِرُ هو قَضَاءُ الشَّهْوَةِ خُصُوصًا
عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ وهو الْحُرْمَةُ وَكَذَا الظَّاهِرُ من حَالِ الْعَبْدِ
الِامْتِنَاعُ من بَعْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى احْتِرَامًا له فَيَبْقَى
النِّكَاحُ فَيُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَرَابَةِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا هو أَصْلُ الْقَرَابَةِ
وَذَاتُهَا لَا كَمَالُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا الْكَمَالُ شَرْطُ التَّقَدُّمِ
على ما نَذْكُرُ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السَّبَبُ هو الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ وَهِيَ قَرَابَةُ
الْوِلَادِ وَعَلَى هذا يبني أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَالْأَخِ
وَالْعَمِّ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حتى تُسْتَأْمَرَ
وَحَقِيقَةُ اسْمِ الْيَتِيمَةِ لِلصَّغِيرَةِ لُغَةً قال النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ نهى صلى اللَّهُ عليه وسلم عن إنْكَاحِ
الْيَتِيمَةِ وَمَدَّهُ إلَى غَايَةِ الِاسْتِئْمَارِ وَلَا تَصِيرُ أَهْلًا
لِلِاسْتِئْمَارِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَتَضَمَّنُ الْبُلُوغَ كَأَنَّهُ قال
صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى تَبْلُغَ وَتُسْتَأْمَرَ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ
إضرارا ( ( ( إضرار ) ) ) في جَانِبِ النِّسَاءِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى في مِثْلِهِ إنْكَاحَ الْبِنْتِ الْبَالِغَةِ وَمِثْلُ هذا التَّصَرُّفِ
لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ
وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنَّهُ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ
بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِمَا وَشَفَقَةُ غَيْرِ الْأَبِ
وَالْجَدِّ قَاصِرَةٌ وقد ظَهَرَ أَثَرُ الْقُصُورِ في سَلْبِ وِلَايَةِ
التَّصَرُّفِ في الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَسَلْبِ وِلَايَةِ اللُّزُومِ
عِنْدَكُمْ فَتَعَذَّرَ الالحاق
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } هذا خِطَابٌ
لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ بنى على قَوْله تَعَالَى { وَتُوبُوا إلَى
اللَّهِ جميعا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ثُمَّ خُصَّ منه
الْأَجَانِبُ فَبَقِيَتْ الْأَقَارِبُ تَحْتَهُ إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ في الْأَبِ وَالْجَدِّ هو مُطْلَقُ
الْقَرَابَةِ لَا الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ وَإِنَّمَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ
سَبَبُ زِيَادَةِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ مُطْلَقَ
الْقَرَابَةِ حَاصِلٌ على أَصْلِ الشَّفَقَةِ أَعْنِي بِهِ شَفَقَةً زَائِدَةً على
شَفَقَةِ الْجِنْسِ وَشَفَقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ دَاعِيَةٌ إلَى تَحْصِيلِ
النَّظَرِ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه وَشَرْطُهَا عَجْزُ الملوى ( ( ( المولى ) )
) عليه عن تَحْصِيلِ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ مع حَاجَتِهِ إلَى التَّحْصِيلِ لِأَنَّ
مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ وَالْكُفْءُ عَزِيزُ
الْوُجُودِ فَيُحْتَاجُ إلَى إحْرَازِهِ لِلْحَالِ لِاسْتِيفَاءِ مَصَالِحِ
النِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَفَائِدَتُهَا وُقُوعُهَا وَسِيلَةً إلَى ما وُضِعَ
النِّكَاحُ له وَكُلُّ ذلك مَوْجُودٌ في إنْكَاحِ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَنْفُذُ
إلَّا أَنَّهُ لم يَلْزَمْ تَصَرُّفه لِانْعِدَامِ شَرْطِ اللُّزُومِ وهو قُرْبُ
الْقَرَابَةِ ولم تَثْبُتْ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ لِعَدَمِ
الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ لِأَنَّ
قَرَابَةَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَيْسَتْ بِمُلْزِمَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى
التَّوَلِّي بِالنَّفَاذِ بِدُونِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إذْ
الْمَقْصُودُ من التَّصَرُّفِ في الْمَالِ وهو الرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِتَكْرَارِ التِّجَارَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك مع عَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ إذَا
اشْتَرَى شيئا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُمْسِكَهُ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ فَلَا
يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَسَقَطَتْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ بِطَرِيقِ
الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ
فَثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الْيَتِيمَةُ الْبَالِغَةُ بِدَلَالَةِ
الِاسْتِئْمَارِ وَهَذَا وَإِنْ كان مَجَازًا لَكِنْ فِيمَا ذَكَرَهُ
____________________
(2/238)
أَيْضًا
إضْمَارٌ فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أو نَحْمِلُهُ
على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ
ثُمَّ إذَا زُوِّجَ الصَّغِيرُ أو الصَّغِيرَةُ فَلَهُمَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا خِيَارَ لَهُمَا
وَنَذْكُرُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في شَرَائِطِ
اللُّزُومِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هذه الْوِلَايَةِ فَنَوْعَانِ في الْأَصْلِ نَوْعٌ هو
شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَنَوْعٌ هو شَرْطُ التَّقَدُّمِ أَمَّا
شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ
التَّصَرُّفِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ فَأَنْوَاعٌ منها عَقْلُ الْوَلِيِّ
وَمِنْهَا بُلُوغُهُ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ
لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في وِلَايَةِ
الْمِلْكِ وَلِهَذَا لم تَثْبُتْ لَهُمَا الْوِلَايَةُ على أَنْفُسِهِمَا مع
أَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَيْهِمَا فَلَأَنْ تَثْبُتَ على غَيْرِهِمَا أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرِثُ الْخُرُوجَ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَاحِدٌ وهو الْقَرَابَةُ وَكُلُّ من يَرِثُهُ يَلِي
عليه وَمَنْ لَا يَرِثُهُ لَا يَلِي عليه وَهَذَا يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي
حَنِيفَةَ خَاصَّةً وَيَنْعَكِسُ عِنْدَ الْكُلِّ فَيَخْرُجُ عليه مَسَائِلُ فَنَقُولُ
لَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلِأَنَّ
الْمَمْلُوكَ ليس من أَهْلِ الْوِلَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ تنبىء
عن الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَكُونُ مَالِكًا وَمَمْلُوكًا
في زَمَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ وَمَصَالِحُ
النِّكَاحِ لَا يُتَوَقَّفُ عليها إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ
وَالْمَمْلُوكُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ مَوْلَاهُ لَا يَتَفَرَّغُ
لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فَلَا يَعْرِفُ كَوْنَ إنْكَاحِهِ مَصْلَحَةً
وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَلَا وِلَايَةَ لِلْمُرْتَدِّ على أَحَدٍ لَا على مُسْلِمٍ وَلَا على كَافِرٍ
وَلَا على مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلِأَنَّهُ لَا
وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ حتى لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَحَدًا لَا مُسْلِمًا وَلَا
كَافِرًا وَلَا مُرْتَدًّا مثله فَلَا يَكُونُ له وِلَايَةٌ على غَيْرِهِ وَلَا
وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا قال
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شيئا وَلِأَنَّ
الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْوِلَايَةِ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ
وِلَايَةَ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِينَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم
الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَلِأَنَّ اثبات الْوِلَايَةِ لِلْكَافِرِ على
الْمُسْلِمِ تُشْعِرُ بِإِذْلَالِ الْمُسْلِمِ من جِهَةِ الْكَافِرِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَلِهَذَا صِينَتْ الْمُسْلِمَةُ عن نِكَاحِ الْكَافِرِ
وَكَذَلِكَ ان كان الْوَلِيُّ مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى عليه كَافِرًا فَلَا
وِلَايَةَ له عليه لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ كما أَنَّ
الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا
الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ إلَّا أَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ إذَا كان مُؤْمِنًا صَارَ
مَخْصُوصًا عن النَّصِّ
وَأَمَّا اسلام الولى فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ في الْجُمْلَةِ
فَيَلِي الْكَافِرُ على الْكَافِرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَقْدَحُ في الشَّفَقَةِ
الْبَاعِثَةِ عن تَحْصِيلِ النَّظَرِ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه وَلَا في
الْوِرَاثَةِ فإن الْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَلِهَذَا كان من أَهْلِ
الْوِلَايَةِ على نَفْسِهِ فَكَذَا على غَيْرِهِ
وقال الله عز وجل { والذين ( ( ( الذين ) ) ) كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ } وَكَذَا الْعَدَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عِنْدَ
أَصْحَابَنَا وَلِلْفَاسِقِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَالْمُرْشِدُ بِمَعْنَى الرَّشِيدِ
كَالْمُصْلِحِ بِمَعْنَى الصَّالِحِ وَالْفَاسِقُ ليس بِرَشِيدٍ وَلِأَنَّ
الْوِلَايَةَ من بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفِسْقُ سَبَبُ الْإِهَانَةِ وَلِهَذَا لم
أَقْبَلْ شَهَادَتَهُ
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ }
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم زَوِّجُوا بَنَاتِكُمْ الْأَكْفَاءَ من غَيْرِ
فَصْلٍ
وَلَنَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا فإن الناس عن آخِرِهِمْ عَامَّهُمْ وَخَاصَّهُمْ
من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا يُزَوِّجُونَ
بَنَاتَهمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ من أَحَدٍ خُصُوصًا الْأَعْرَابُ وَالْأَكْرَادُ
وَالْأَتْرَاكُ
وَلِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ في الْقُدْرَةِ على تَحْصِيلِ
النَّظَرِ وَلَا في الدَّاعِي إلَيْهِ وهو الشَّفَقَةُ وَكَذَا لَا يَقْدَحُ في
الْوِرَاثَةِ فَلَا يَقْدَحُ في الْوِلَايَةِ كَالْعَدْلِ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ من
أَهْلِ الْوِلَايَةِ على نَفْسِهِ فَيَكُونُ من أَهْلِ الْوِلَايَةِ على غَيْرِهِ
كَالْعَدْلِ وَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَلِأَنَّهُ من أَهْلِ أَحَدِ
نَوْعِيِّ الْوِلَايَةِ وهو وِلَايَةُ الْمِلْكِ حتى يُزَوِّجَ أَمَتَهُ فَيَكُونُ
من أَهْلِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنه لم يَثْبُتْ
بِدُونِ هذه الزِّيَادَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مع الزِّيَادَةِ وَلَوْ ثَبَتَ
فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَالْفَاسِقُ مُرْشِدٌ لِأَنَّهُ يُرْشِدُ غَيْرَهُ
لِوُجُودِ آلَةِ الْإِرْشَادِ وهو الْعَقْلُ فَكَانَ هذا نَفْيُ
____________________
(2/239)
الْوِلَايَةِ
لِلْمَجْنُونِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصْلُحُ وَلِيًّا
وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ إذَا تَابَ فَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّهُ إذَا تَابَ فَقَدْ صَارَ عَدْلًا وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوْلَى من الْعَصَبَاتِ فَهَلْ هو شَرْطُ ثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ أَمْ لَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ
فيه أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ
إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عن عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُمَا
قَالَا ليس لَهُمَا وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن حُكْمَ النِّكَاحِ إذَا ثَبَتَ لَا يَقْتَصِرُ على حَالِ
الصِّغَرِ بَلْ يَدُومُ وَيَبْقَى إلَى ما بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى أَنْ يُوجَدَ ما
يُبْطِلُهُ وفي هذا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ على الْبَالِغَةِ وَلِأَنَّهُ اسْتَبَدَّ
أو كَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْإِنْكَاحَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } والايم اسْمٌ
لِأُنْثَى من بَنَاتِ آدَمَ عليه الصلام وَالسَّلَامُ كَبِيرَةً كانت أو صَغِيرَةً
لَا زَوْجَ لها وَكَلِمَةُ ( من ) إنْ كانت لِلتَّبْعِيضِ يَكُونُ هذا خِطَابًا
لِلْآبَاءِ وَإِنْ كانت لِلتَّجْنِيسِ يَكُونُ خِطَابًا لِجِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ
وَعُمُومُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُ الْأَبَ وَالْجَدَّ وَأَنْكَحَ الصِّدِّيقُ رضي
اللَّهُ عنه عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ من رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَزَوَّجَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ من عُمَرَ بن
الْخَطَّاب رضي اللَّهُ عنه وَزَوَّجَ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهِيَ
صَغِيرَةٌ عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ
قَوْلَهُمَا خَرَجَ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وكان مَرْدُودًا
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا أن حُكْمَ النِّكَاحِ بَقِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَنَعَمْ
وَلَكِنْ بِالْإِنْكَاحِ السَّابِقِ لَا بِإِنْكَاحٍ مُبْتَدَأٍ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَهَذَا جَائِزٌ كما في الْبَيْعِ فإن لَهُمَا وِلَايَةَ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ
وَإِنْ كان حُكْمُ الْبَيْعِ وهو الْمِلْكُ يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا وَلِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كانت أو بالغه
وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِقَبْضِهِ
أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في
مَالِهَا
وَأَمَّا الْبَالِغَةُ فَلِأَنَّهَا تَسْتَحِي من الْمُطَالَبَةِ بِهِ بِنَفْسِهَا
كما تَسْتَحِي عن التَّكَلُّمِ بِالنِّكَاحِ فَجُعِلَ سُكُوتُهَا رِضًا بِقَبْضِ
الْأَبِ كما جُعِلَ رِضًا بِالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أنها تَرْضَى
بِقَبْضِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَضُمُّ إلَيْهِ أَمْثَالَهُ فَيُجَهِّزُهَا
بِهِ هذا هو الظَّاهِرُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ من جِهَتهَا دَلَالَةً حتى
لو نَهَتْهُ عن الْقَبْضِ لَا يَتَمَلَّكُ الْقَبْضَ وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ
وَكَذَا الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ
وَإِنْ كانت ابْنَتُهُ عَاقِلَةً وَهِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهَا لَا إلَى
الْأَبِ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِدَفْعِهِ إلَيْهَا وَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ
إلَى الْأَبِ وما سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ من الْأَوْلِيَاءِ ليس لهم وِلَايَةُ
الْقَبْضِ سَوَاءً كانت صَغِيرَةً أو كَبِيرَةً إلَّا إذَا كان الْوَلِيَّ وهو
الْوَصِيَّ فَلَهُ حَقُّ الْقَبْضِ إذَا كانت صَغِيرَةً كما يَقْبِضُ سَائِرَ
دُيُونِهَا وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ الْقَبْضِ إلَّا إذَا كانت صَغِيرَةً
وإذا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا
تَتَعَلَّقُ بِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا
ضَمِنَ عن الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ في مُطَالَبَةِ
زَوْجِهَا أو وَلِيِّهَا لِوُجُودِ ثُبُوتِ سَبَبِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو الْعَقْدُ من الزَّوْجِ وَالضَّمَانُ من الْوَلِيِّ وَلَا
خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ من الْعَصَبَاتِ
وِلَايَةُ الانكاح وَالْأَقْرَبُ فالأفرب ( ( ( فالأقرب ) ) ) على تَرْتِيبِ
الْعَصَبَاتِ في الْمِيرَاثِ وَاخْتَلَفُوا في غَيْرِ الْعَصَبَاتِ
قال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ حتى لو لم يَتَوَارَثَا
بِذَلِكَ النِّكَاحِ وَيَقِفُ على إجَازَةِ الْعَصَبَةِ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى ما ذَكَرْنَا أَنَّ
عُصُوبَةَ الْوَلِيِّ هل هِيَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مع اتِّفَاقِهِمْ على
أنها شَرْطُ التَّقْدِيمِ فَعِنْدَهُمَا هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ
وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةُ فإنه روي عنه أَنَّهُ قال لَا
يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا الْعَصَبَةُ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
لِثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ على قَرَابَةِ
الرَّحِمِ حتى أَنَّهُ إذَا كان هُنَاكَ عَصَبَةٌ لَا تَثْبُتُ لِغَيْرِ
الْعَصَبَةِ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٍ فَلِغَيْرِ
الْعَصَبَةِ من الْقَرَابَاتِ من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نحو الْأُمِّ
وَالْأُخْتِ وَالْخَالَةِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إذَا
كان الْمُزَوِّجُ مِمَّنْ يَرِثُ الْمُزَوَّجَ وهو الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عن
أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال النِّكَاحُ
إلَى الْعَصَبَاتِ فَوَّضَ كُلَّ نِكَاحٍ إلَى كُلّ عَصَبَةٍ لِأَنَّهُ قَابَلَ
الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أو بِالْجَمْعِ فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ
بِالْفَرْدِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْوِلَايَةِ هُمْ الْعَصَبَاتُ فَإِنْ كان
الرَّأْيُ وَتَدْبِيرُ الْقَبِيلَةِ وَصِيَانَتُهَا عَمَّا يُوجِبُ الْعَارَ
وَالشَّيْنَ إلَيْهِمْ فَكَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَحْرُزُونَ عن ذلك بِالنَّظَرِ
وَالتَّأَمُّلِ في أَمْرِ النِّكَاحِ فَكَانُوا هُمْ الْمُحِقِّينَ بِالْوِلَايَةِ
وَلِهَذَا كانت قَرَابَةُ التَّعْصِيبِ مُقَدَّمَةً على قَرَابَةِ الرَّحِمِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ }
____________________
(2/240)
من
غَيْرِ فَصْلٍ بين الْعَصَبَاتِ وَغَيْرِهِمْ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ
على الْعُمُومِ إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ لأن سَبَبَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ هو
مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ حَامِلَةٌ
على الشَّفَقَةِ في حَقِّ الْقَرِيبِ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا وقد وُجِدَ هَهُنَا
فَوُجِدَ السَّبَبُ وَوُجِدَ شَرْطُ الثُّبُوتِ أَيْضًا وهو عَجْزُ الْمُوَلَّى
عليه عن الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْعُصُوبَةُ وَقُرْبُ الْقَرَابَةِ
شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَا شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَلَا جَرَمَ
الْعُصْبَةُ تَتَقَدَّمُ على ذِي الرَّحِمِ وَالْأَقْرَبُ من غَيْرِ الْعَصَبَةِ
يَتَقَدَّمُ على الْأَبْعَدِ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ مُرَتَّبَةٌ على
اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا وهو الْقَرَابَةُ فَكُلُّ
من اسْتَحَقَّ من الْمِيرَاثِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا كان عَبْدًا لَا وِلَايَةَ له لِأَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَرِثُ أَحَدًا وَكَذَا إذَا كان كَافِرًا وَالْمُوَلَّى عليه مُسْلِمٌ لَا
وِلَايَةَ له لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ وَكَذَا إذَا كان مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى
عليه كَافِرٌ لَا وِلَايَةَ له لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ له منه
فَثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَدُورُ مع اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَثَبَتَ
لِكُلِّ قَرِيبٍ يَرِثُ يُزَوِّجُ وَلَا يَلْزَمُ على هذه الْقَاعِدَةِ الْمَوْلَى
أَنَّهُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ
وَكَذَا الْإِمَامُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ لِأَنَّ هذا عَكْسُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ
طَرْدَ ما قُلْنَا أن كُلَّ من يَرِثُ يُزَوِّجُ
وَهَذَا مُطَّرِدٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عكسه ( ( ( وعكسه ) ) ) أَنَّ كُلَّ
من لَا يَرِثُ لَا يُزَوِّجُ
وَالشَّرْطُ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ الإطراد دُونَ الِانْعِكَاسِ لِجَوَازِ
إثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ ثُمَّ نَقُولُ ما قُلْنَاهُ مُنْعَكِسٌ
أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى الْوَلَاءُ في مَمْلُوكِهِ وهو نَوْعُ
إرْثٍ
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَهُوَ نَائِبٌ عن جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَرِثُونَ
من لَا وَلِيَّ له من جِهَةِ الْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ أَلَا تَرَى
أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْتُ الْمَالِ ما لهم فَكَانَتْ
الْوِلَايَةُ في الْحَقِيقَةِ لهم وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ
فَيَتَزَوَّجُونَ وَيَرِثُونَ أَيْضًا فَاطَّرَدَ هذا الْأَصْلُ وَانْعَكَسَ
بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ
فَالْمُرَادُ منه حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ لِاسْتِحَالَةِ تَفْوِيضِ النِّكَاحِ
إلَى الْعَصَبَةِ وَلَا عَصَبَةَ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ النِّكَاحَ إلَى
الْعَصَبَاتِ حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ وَلَا كَلَامَ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عليه فَنَقُولُ الْوِلَايَةُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُوَلَّى عليه نَوْعَانِ وِلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ
وَوِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا
وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ وَوِلَايَةُ شَرِكَةٍ وَهِيَ قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ
وَكَذَا نُقُولُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ في كَيْفِيَّةِ
الشَّرِكَةِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ وَالِاسْتِبْدَادِ فَشَرْطُ
ثُبُوتِهَا على أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَوْنُ الْمُوَلَّى عليه صَغِيرًا أو
صَغِيرَةً أو مَجْنُونًا كَبِيرًا أو مَجْنُونَةً كَبِيرَةً سَوَاءً كانت
الصَّغِيرَةُ بِكْرًا أو ثَيِّبًا فَلَا تَثْبُتُ هذه الْوِلَايَةُ على الْبَالِغِ
الْعَاقِلِ وَلَا على الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ
شَرْطُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ في الْغُلَامِ هو الصِّغَرُ وفي
الْجَارِيَةِ الْبَكَارَةُ سَوَاءً كانت صَغِيرَةً أو بَالِغَةً فَلَا تَثْبُتُ
هذه الْوِلَايَةُ عِنْدَهُ على الثَّيِّبِ سَوَاءً كانت بَالِغَةً أو صَغِيرَةً
وَالْأَصْلُ أَنَّ هذه الْوِلَايَةَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا تَدُورُ مع الصِّغَرِ
وُجُودًا وَعَدَمًا في الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَعِنْدَهُ في الصَّغِيرِ
كَذَلِكَ أَمَّا في الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا تَدُورُ مع الْبَكَارَةِ وُجُودًا
وَعَدَمًا وفي الْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ مع الْجُنُونِ وُجُودًا
وَعَدَمًا سَوَاءً كان الْجُنُونُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أو
عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا
وقال زُفَرُ إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ لم يَجُزْ للمولي التَّزْوِيجُ وَعَلَى هذا
يبتني أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ
بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَمْلِكَانِهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ
إنْكَاحَ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبِكْرَ وَإِنْ كان عَاقِلَةً بَالِغَةً فَلَا تَعْلَمُ
بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بها يَقِفُ على التَّجْرِبَةِ
____________________
(2/241)
وَالْمُمَارَسَةِ
وَذَلِكَ بِالثِّيَابَةِ ولم تُوجَدْ فَالْتَحَقَتْ بِالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ
فَبَقِيَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عليها وَلِهَذَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ
صَدَاقِهَا من غَيْرِ رِضَاهَا بِخِلَافِ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّهَا
عَلِمَتْ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ وَبِالْمُمَارَسَةِ وَمُصَاحَبَةِ الرِّجَالِ
فَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عنها
وَلَنَا أَنَّ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِرِضَاهَا فَكَذَا
الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي طَرِيقُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ
أَمَّا طَرِيقُ أبي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ وِلَايَةَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ في
حَالَةِ الصِّغَرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الصَّغِيرَةِ
لِعَجْزِهَا عن التَّصَرُّفِ على وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ بِنَفْسِهَا
وَبِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ زَالَ الْعَجْزُ وَثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ حَقِيقَةً
وَلِهَذَا صَارَتْ من أَهْلِ الْخِطَابِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ إلَّا أنها مع
قُدْرَتِهَا حَقِيقَةً عَاجِزَةٌ عن مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ عَجْزَ نَدْبٍ
وَاسْتِحْبَابٍ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ
وَالْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ وَالْخُرُوجُ إلَى مَحْفِلِ الرِّجَالِ من
النِّسَاءِ عَيْبٌ في الْعَادَةِ فَكَانَ عَجْزُهَا عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ
لَا حَقِيقَةٍ فَثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عليها على حَسَبِ الْعَجْزِ وَهِيَ
وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا وِلَايَةَ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ إثْبَاتًا
لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الْعِلَّةِ
وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وِلَايَةُ
الشَّرِكَةِ لَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ فَلَا بُدَّ من الرِّضَا كما في
الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَإِنَّمَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ
صَدَاقِهَا لِوُجُودِ الرِّضَا بِذَلِكَ منها دَلَالَةً لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ
الْأَبَ يَضُمُّ إلَى الصَّدَاقِ من خَالِصِ مَالِهِ وَيُجَهَّزُ بِنْتَه
الْبِكْرَ حتى لو نَهَتْهُ عن الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ بِخِلَافِ الثَّيِّبِ فإن
الْعَادَةَ ما جَرَتْ بِتَكْرَارِ الْجِهَازِ وإذا كان الرِّضَا في نِكَاحِ
الْبَالِغَةِ شَرْطَ الْجَوَازِ فإذا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا تَوَقَّفَ
التَّزْوِيجُ على رِضَاهَا فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ رَدَّتْ بَطَلَ ثُمَّ إنْ
كانت ثَيِّبًا فَرِضَاهَا يُعْرَفُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى
أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ التَّنْصِيصُ على الرِّضَا وما يَجْرِي مَجْرَاهُ نحو
أَنْ تَقُولَ رَضِيت أو أَجَزْت وَنَحْوَ ذلك
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ وَقَوْلُهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّيِّبُ يُعْرِبُ عنها لِسَانُهَا وَقَوْلُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حتى تُسْتَأْمَرَ
وَالْمُرَادُ منه الْبَالِغَةُ
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَنَحْوُ التَّمْكِينِ من نَفْسِهَا وَالْمُطَالَبَةِ
بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ ذلك دَلِيلُ الرِّضَا وَالرِّضَا
يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَبِالدَّلِيلِ أُخْرَى
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِبَرِيرَةَ إنْ وَطِئَك زَوْجُك فَلَا خِيَارَ لَك وَإِنْ كانت بِكْرًا فإن
رِضَاهَا يُعْرَفُ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ وَبِثَالِثٍ وهو السُّكُوتُ وَهَذَا
اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُهَا رِضًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ
السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السَّخَطَ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ
الرِّضَا مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لم يُجْعَلْ دَلِيلًا إذَا كان
الْمُزَوِّجُ أَجْنَبِيًّا أو وَلِيًّا غَيْرَهُ أَوْلَى منه
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ فقالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أن
الْبِكْرَ تَسْتَحِي يا رَسُولَ اللَّهِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْنُهَا
صُمَاتُهَا وروى سُكُوتُهَا رِضَاهَا وروى سُكُوتُهَا إقْرَارُهَا وَكُلُّ ذلك
نَصٌّ في الْبَابِ وَرُوِيَ الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ
فَقَدْ رَضِيَتْ وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عن
النُّطْقِ بِالْإِذْنِ في النِّكَاحِ لِمَا فيه من إظْهَارِ رَغْبَتِهَا في
الرِّجَالِ فَتُنْسَبُ إلَى الْوَقَاحَةِ فَلَوْ لم يُجْعَلْ سُكُوتُهَا إذْنًا
وَرِضًا بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً وَشُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وإنها لَا تَنْطِقُ
عَادَةً لَفَاتَتْ عليها مَصَالِحُ النِّكَاحِ مع حَاجَتِهَا إلَى ذلك وهذ لَا
يَجُوزُ وَقَوْلُهُ السُّكُوتُ يَحْتَمِلُ
مُسَلِّمٌ لَكِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرِّضَا على جَانِبِ السَّخَطِ لِأَنَّهَا لو
لم تَكُنْ رَاضِيَةً لَرَدَّتْ لِأَنَّهَا إنْ كانت تَسْتَحِي عن الأذن فَلَا
تَسْتَحِي عن الرَّدِّ فلما سَكَتَتْ ولم تَرُدَّ دَلَّ أنها رَاضِيَةٌ بِخِلَافِ
ما إذَا زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ أو وَلِيٌّ غَيْرُهُ أَوْلَى منه لِأَنَّ هُنَاكَ
ازْدَادَ احْتِمَالُ السَّخَطِ لِأَنَّهَا يُحْتَمَلُ أنها سَكَتَتْ عن جَوَابِهِ
مع أنها قَادِرَةٌ على الرَّدِّ تَحْقِيرًا له وَعَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِكَلَامِهِ
وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ فَبَطَلَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الرِّضَا
وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِي من الْأَوْلِيَاءِ لَا من الْأَجَانِبِ
وَالْأَبْعَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ وَحُضُورِهِ أَجْنَبِيٌّ فَكَانَتْ في
حَقِّ الْأَجَانِبِ كَالثَّيِّبِ فَلَا بُدَّ من فِعْلٍ أو قَوْلٍ يَدُلُّ عليه
وَلِأَنَّ الْمُزَوِّجَ إذَا كان أَجْنَبِيًّا وإذا كان
____________________
(2/242)
الْوَلِيُّ
الْأَبْعَدَ كان جَوَازُ النِّكَاحِ من طَرِيقِ الْوَكَالَةِ لَا من طَرِيقِ
الْوِلَايَةِ لِانْعِدَامِهَا وَالْوَكَالَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَوْلِ وإذا
كان وَلِيًّا فَالْجَوَازُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى
الْقَوْلِ وَلَوْ بَلَغَهَا النِّكَاحُ فَضَحِكَتْ كان إجَازَةً لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَسُرُّهُ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وَلَوْ
بَكَتْ روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ
أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً بَلْ يَكُونُ زدا ( ( ( ردا ) ) ) وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْبُكَاءَ قد يَكُونُ لِلْحُزْنِ وقد
يَكُونُ لِشِدَّةِ الْفَرَحِ فَلَا يُجْعَلُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً لِلتَّعَارُضِ
فَصَارَ كَأَنَّهَا سَكَتَتْ فَكَانَ رِضًا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبُكَاءَ لَا
يَكُونُ إلَّا من حُزْنٍ عَادَةً فَكَانَ دَلِيلَ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ لَا
دَلِيلَ الْإِذْنِ وَالْإِجَازَةِ وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ كُلٌّ مِنْهُمَا
رَجُلًا فَبَلَغَهَا ذلك فَإِنْ أَجَازَتْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ جَازَ الذي
أَجَازَتْهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ أَجَازَتْهُمَا بَطَلَا لِأَنَّ
الْإِجَازَةَ منها بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجَيْنِ
وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هذا
وَإِنْ سَكَتَتْ روى عن مُحَمَّدٍ أَنَّ ذلك لَا يَكُونُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً
حتى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أو بِفِعْلٍ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ
وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها إذَا سَكَتَتْ بَطَلَ الْعَقْدَانِ جميعا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّكُوتَ من الْبِكْرِ كَالْإِجَازَةِ
فَكَأَنَّهَا أَجَازَتْ الْعَقْدَيْنِ جميعا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ
هذا السُّكُوتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِأَنَّهُ لو جُعِلَ إجَازَةً
فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِلْعَقْدَيْنِ جميعا وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ
إجَازَةً لِأَحَدِهِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إنْشَاءَ
الْعَقْدَيْنِ جميعا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَتْ إجَازَتُهُمَا وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي لِأَنَّهُ ليس أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِأَوْلَى بِالْإِجَازَةِ من
الْآخَرِ فَالْتَحَقَ السُّكُوتُ بِالْعَدَمِ وَوَقَفَ الْأَمْرُ على الْإِجَازَةِ
بِقَوْلٍ أو بِفِعْلٍ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ لِأَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا
اُسْتُؤْمِرَتْ الْبِكْرُ فَسَكَتَتْ في الإبتداء فَهُوَ إذْنٌ إذَا كان
الْمُسْتَأْذِنُ وَلِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان إذَا خُطِبَ إحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا من خِدْرِهَا
وقال إنَّ فُلَانًا يَذْكُرُ فُلَانَةَ
ثُمَّ يُزَوِّجُهَا
فَدَلَّ أَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ إذْنٌ دَلَالَةً
وَقَالُوا في الْوَلِيِّ إذَا قال لِلْبِكْرِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك
فُلَانًا فقالت غَيْرَهُ أَوْلَى منه لم يَكُنْ ذلك إذْنًا وَلَوْ زَوَّجَهَا
ثُمَّ أَخْبَرَهَا فقالت قد كان غَيْرُهُ أَوْلَى منه كان إجَازَةً لِأَنَّ
قَوْلَهَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ عَدَمِ الرِّضَا بِالتَّزْوِيجِ من
فُلَانٍ وَقَوْلَهَا في الْفَصْلِ الثَّانِي قَبُولٌ أو سُكُوتٌ عن الرَّدِّ
وَسُكُوتُ الْبِكْرِ عن الرَّدِّ يَكُونُ رِضًا
وَلَوْ قال الْوَلِيُّ أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ من رَجُلٍ ولم يُسَمِّهِ
فَسَكَتَتْ لم يَكُنْ رِضًا كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الرِّضَا
بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتَحَقَّقُ
وَلَوْ قال أُزَوِّجُكِ فُلَانًا أو فُلَانًا حتى عَدَّ جَمَاعَةً فَسَكَتَتْ
فَمِنْ أَيِّهِمْ زَوَّجَهَا جَازَ وَلَوْ سَمَّى لها الْجَمَاعَةَ مُجَمِّلًا
بِأَنْ قال أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك من جِيرَانِي أو من بَنِي عَمِّي فَسَكَتَتْ
فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُوَ رِضًا وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لم يَكُنْ
رِضًا لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ يُعْلَمُونَ فَيَتَعَلَّقُ الرِّضَا
بِهِمْ وإذا لم يُحْصَوْا لم يُعْلَمُوا فَلَا يُتَصَوَّرُ الرِّضَا لِأَنَّ
الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا سَمَّى الزَّوْجَ ولم يُسَمِّ
الْمَهْرَ أَنَّهُ كَمْ هو فَسَكَتَتْ فَسُكُوتُهَا لَا يَكُونُ رِضًا لِأَنَّ
تَمَامَ الرِّضَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذِكْرِ الزَّوْجِ وَالْمَهْرِ ثُمَّ
الْإِجَازَةُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ
بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ قبل الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ
وإذا زَوَّجَ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ وَلِيٌّ فقالت لم أَرْضَ ولم آذَنْ وقال
الزَّوْجُ قد أَذِنَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي
عليها حُدُوثَ أَمْرٍ لم يَكُنْ وهو الْإِذْنُ وَالرِّضَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلُهَا
وَأَمَّا الْبِكْرُ إذَا تَزَوَّجَتْ فقال الزَّوْجُ بَلَغَك الْعَقْدُ فسكتت ( (
( فسكت ) ) ) فقالت رَدَدْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَرْأَةَ تدعى أَمْرًا حَادِثًا وهو الرَّدُّ وَالزَّوْجُ
يُنْكِرُ الْقَوْلَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كانت مُدَّعِيَةً ظَاهِرًا فَهِيَ مُنْكِرَةٌ في
الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عليها جَوَازَ الْعَقْدِ بِالسُّكُوتِ
وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَالْمُودَعِ إذَا قال رَدَدْت
الْوَدِيعَةَ كان الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كان مُدَّعِيًا لِرَدٍّ ظَاهِرٍ
لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ حَقِيقَةً كَذَا هذا
ثُمَّ في هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ لَا يَمِينَ عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي
قَوْلِهِمَا عليها الْيَمِينُ وهو الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ
الْمَعْرُوفَ لَا يَجْرِي في الْأَشْيَاءِ
____________________
(2/243)
السِّتَّةِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي
وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الدَّعْوَى
ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ في الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ وَالثَّيِّبِ
الْبَالِغَةِ في الْجُمْلَةِ حتى جُعِلَ السُّكُوتُ رِضًا من الْبِكْرِ دُونَ
الثَّيِّبِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ قَبْضِ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ إذْنِهَا
إلَّا إذَا نَهَتْهُ نَصًّا وَلَيْسَ له وِلَايَةُ قَبْضِ مَهْرِ الثَّيِّبِ إلَّا
بِإِذْنِهَا فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ في الْحُكْمِ
لَا في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَكَارَةِ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ
وَحَقِيقَةَ الثِّيَابَةِ زَوَالُ الْعُذْرَةِ
وَأَمَّا الْحُكْمُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ على ذلك بِالْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ لَا
خِلَافَ في أَنَّ كُلَّ من زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَثْبَةٍ أو طَفْرَةٍ أو
حَيْضَةٍ أو طُولِ التَّعْنِيسِ أنها في حُكْمِ الْأَبْكَارِ تُزَوَّجُ كما
تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ من زَالَتْ عُذْرَتُهَا
بِوَطْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وهو الْوَطْءُ بِعَقْدٍ جَائِزٍ أو
فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ عَقْدٍ وَجَبَ لها مَهْرٌ بِذَلِكَ الْوَطْءِ أنها تُزَوَّجُ
كما تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ
وَأَمَّا إذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالزِّنَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ كما تُزَوَّجُ
الْأَبْكَارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كما تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ
واحتجوا ( ( ( احتجوا ) ) ) بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِهَا وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عنها لِسَانُهَا وَهَذِهِ
ثَيِّبٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الثَّيِّبَ حَقِيقَةً من زَالَتْ عُذْرَتُهَا وَهَذِهِ
كَذَلِكَ فَيَجْرِي عليها أَحْكَامُ الثَّيِّبِ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا نَصًّا فَلَا يكتفي بِسُكُوتِهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عِلَّةَ وَضْعِ النُّطْقِ شَرْعًا وَإِقَامَةَ
السُّكُوتِ مَقَامَهُ في الْبِكْرِ هو الْحَيَاءُ وقد وُجِدَ وَدَلَالَةُ أَنَّ
الْعِلَّةَ ما قُلْنَا إشَارَةُ النَّصِّ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ
فقالت عَائِشَةُ لأن ( ( ( رضي ) ) ) الْبِكْرَ تَسْتَحِي يا رَسُولَ اللَّهِ فقال
صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْنُهَا صُمَاتُهَا فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْنُهَا صُمَاتُهَا خَرَجَ جَوَابًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ
رضي اللَّهُ عنها أن الْبِكْرَ تَسْتَحِي أَيْ عن الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا
وَالْجَوَابُ بِمُقْتَضَى إعَادَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ
بِدُونِ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا كانت الْبِكْرُ
تَسْتَحِي عن الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا فَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا فَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَيَاءَ عِلَّةُ وَضْعِ النُّطْقِ وَقِيَامُ الصُّمَاتِ
مَقَامَ الْإِذْنِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ وَعِلَّةُ النَّصِّ لَا تَتَقَيَّدُ
بِمَحِلِّ النَّصِّ كَالطَّوَافِ في الْهِرَّةِ وَنَحْوِ ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحَيَاءَ في الْبِكْرِ مَانِعٌ من النُّطْقِ
بِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ لِمَا فيه من إظْهَارِ رَغْبَتِهَا في
الرِّجَالِ لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبُ الْوَطْءِ وَالنَّاسُ يَسْتَقْبِحُونَ ذلك
منها وَيَذِمُّونَهَا وَيَنْسُبُونَهَا إلَى الْوَقَاحَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ لها من
النُّطْقِ بِالْإِذْنِ الصَّرِيحِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ فَلَوْ
شُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وَهِيَ لَا تَنْطِقُ عَادَةً لَفَاتَ عليها النِّكَاحُ مع
حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْحَيَاءُ مَوْجُودٌ في حَقِّ هذه
وَإِنْ كانت ثَيِّبًا حَقِيقَةً لِأَنَّ زَوَالَ بَكَارَتِهَا لم تَظْهَرْ
لِلنَّاسِ فَيَسْتَقْبِحُونَ منها الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ صَرِيحًا وَيَعُدُّونَهُ
من بَابِ الْوَقَاحَةِ وَلَا يَزُولُ ذلك ما لم يُوجَدْ النِّكَاحُ وَيَشْتَهِرُ
الزِّنَا فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَقْبَحُ الْإِظْهَارُ بِالْإِذْنِ وَلَا يُعَدُّ
عَيْبًا بَلْ الِامْتِنَاعُ عن الْإِذْنِ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ يَعُدُّ
رُعُونَةً منها لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ رَغْبَتِهَا في
الرِّجَالِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الثَّيِّبُ التي تَعَارَفَهَا الناس
ثَيِّبًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ بين الناس
وَلِهَذَا لم تَدْخُلْ الْبِكْرُ التي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالطَّفْرَةِ
وَالْوَثْبَةِ وَالْحَيْضَةِ وَنَحْوِ ذلك في هذا الحديث وَإِنْ كانت ثَيِّبًا
حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الْأَبِ وَالْجَدِّ الثيب ( ( ( والثيب ) ) )
الصَّغِيرَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا لِلْحَالِ وَيَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْبُلُوغِ
فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِإِذْنِهَا صَرِيحًا لَا
بِالسُّكُوتِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حتى تُسْتَأْمَرَ وَالْيَتِيمَةُ اسْمٌ لِلصَّغِيرَةِ في
اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ
وَلِأَنَّ حُدُوثَهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ عَادَةً وقد حَصَلَ
لها بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ وَهَذَا إنْ لم يَصْلُحْ لِإِثْبَاتِ
الْوِلَايَةِ لها يَصْلُحْ دَافِعًا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ عنها لِلْحَالِ
وَالتَّأْخِيرِ إلَى ما بَعْدَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ
لِأَنَّ الْبَكَارَةَ دَلِيلُ الْجَهْلِ بِمَنَافِعِ النِّكَاحِ وَمَضَارِّهِ
فَالْتَحَقَ عَقْلُهَا بِالْعَدَمِ على ما مَرَّ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ في جَانِبِ
النِّسَاءِ ضَرَرٌ قَطْعًا لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا
مَصْلَحَةَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِأَنَّ مَصَالِحَ
النِّكَاحِ
____________________
(2/244)
يَقِفُ
عليه ولم يُوجَدْ في الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَالْجَوَازُ في الْبِكْرِ ثَبَتَ
بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَالْأَيِّمُ
اسْمٌ لِأُنْثَى لَا زَوْجَ لها كَبِيرَةً أو صَغِيرَةً فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ
الْوِلَايَةِ عَامًّا إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ كانت
ثَابِتَةً قبل زَوَالِ الْبَكَارَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو
الْقَرَابَةُ الْكَامِلَةُ وَالشَّفَقَةُ الْوَافِرَةُ وَوُجُودِ شَرْطِ
الثُّبُوتِ وَهِيَ حَاجَةُ الصَّغِيرَةِ إلَى النِّكَاحِ لِاسْتِيفَاءِ
الْمَصَالِحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَجْزِهَا عن ذلك بِنَفْسِهَا وَقُدْرَة
الْوَلِيِّ عليه وَالْعَارِضُ ليس إلَّا الثِّيَابَةُ وَأَثَرَهَا في زِيَادَةِ
الْحَاجَةِ إلَى الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهَا مَارَسَتْ الرِّجَالِ وَصَحِبَتْهُمْ
وَلِلصُّحْبَةِ أَثَرٌ في الْمَيْلِ إلَى من تُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً جَمِيلَةً
فلما ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ على الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَلَأَنْ تَبْقَى على
الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَوْلَى وَالْمُرَادُ من الحديث الْبَالِغَةُ لِمَا مَرَّ
وَالْمَجْنُونُ الْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ تُزَوَّجُ كما يُزَوَّجُ
الصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَصْلِيًّا كان
الْجُنُونُ أو طَارِئًا بَعْدَ الْبُلُوغِ
وقال زُفَرُ ليس لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَجْنُونَ جُنُونًا طَارِئًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ قد زَالَتْ بِالْبُلُوغِ عن عَقْلٍ
فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذلك بِطَرَيَانِ الْجُنُونِ كما لو بَلَغَ مُغْمًى عليه
ثُمَّ زَالَ الْإِغْمَاءُ
وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو الْقَرَابَةُ وَشَرْطُهُ
وهو عَجْزُ الْمُوَلَّى عليه وهو حَاجَتُهُ وفي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَائِدَةٌ
فتثبت ( ( ( فثبتت ) ) ) وَلِهَذَا تثبت ( ( ( ثبتت ) ) ) في الْجُنُونِ
الْأَصْلِيِّ كَذَا في الطارىء وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في مَالِهِ
كَذَا في نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
التَّصَرُّفُ نَافِعًا في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه لَا ضَارًّا في حَقِّهِ فَلَيْسَ
لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَ الصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ حُرَّةً وَلَا أَمَةً لِغَيْرِهِمَا لِأَنَّ هذا التَّصَرُّفَ
ضَارٌّ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ يَتَعَلَّقَانِ
بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ من غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ في مُقَابَلَتِهِ
وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَكَذَا كُلُّ من يَتَصَرَّفُ على غَيْرِهِ
بِالْإِذْنِ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْعَبْدِ كَالْمُكَاتَبِ وَالشَّرِيكِ
وَالْمُضَارِبِ وَالْمَأْذُونِ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لِهَؤُلَاءِ
مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ
وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حُرًّا أو عَبْدًا لغيرها ( ( ( لغيرهما ) ) )
فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُفَاوَضُ
وَالْقَاضِي وَأَمِينُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ لِكَوْنِهِ تَحْصِيلَ
مَالٍ من غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ فَيَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ مع أَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
فَهَذَا أَوْلَى فَأَمَّا شَرِيكُ الْعِنَانِ وَالْمُضَارِبُ وَالْمَأْذُونُ فَلَا
يَمْلِكُونَ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ يَمْلِكُونَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَالٍ
لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ فَيَمْلِكُونَهُ كَشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ
وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَأْذُونَةَ لَا تُزَوِّجُ
نَفْسَهَا وَلَوْ كان النِّكَاحُ تِجَارَةً لَمَلَكَتْ لِأَنَّ التِّجَارَةَ
مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ
فلم يَكُنْ تِجَارَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضِ
لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّفْعِ لَا بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا نَافِعٌ
وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ من عبد ابْنِهِ قال أبو يُوسُفَ يَجُوزُ وقال زُفَرُ لَا
يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ لم يَدْخُلْ تَحْتَ
وِلَايَةِ الْأَبِ فَكَانَ الْأَبُ فيه كَالْأَجْنَبِيِّ وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ
ثَابِتٌ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ فَيَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ
بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّغِيرُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ
زَوَّجَهُ أَمَةَ الْغَيْرِ
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ مَوْجُودٌ فَلَا يَمْتَنِعُ الثُّبُوتُ إلَّا
لِمَكَانِ الضَّرَرِ وَهَذَا نَفْعٌ لَا مَضَرَّةَ فيه لِأَنَّ الْأَوْلَادَ له
وَلَا يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ نَفْعًا
مَحْضًا فَيَمْلِكُهُ
قَوْلُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَبِيعَهُ
قُلْنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْوِلَايَةِ
المخففة ( ( ( المحققة ) ) ) لِلْحَالِ لِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ
وَالْعَدَمَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا زَوَّجَ الْأَبُ أو الْجَدُّ الصَّغِيرَةَ من كُفْءٍ
بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أو زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ من
مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ إنْ كان ذلك مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ لَا
يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ
يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
وَذَكَرَ هِشَامٌ عنهما أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ
الصَّغِيرَةَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا من غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ
وَلَوْ فَعَلَ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ في
قولهم ( ( ( قوليهما ) ) ) جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ تَثْبُتُ نَظَرًا في حَقِّ
الْمُوَلَّى عليه
____________________
(2/245)
وَلَا
نَظَرَ في الْحَطِّ على مَهْرِ الْمِثْلِ في إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَلَا في
الزِّيَادَةِ على مَهْرِ الْمِثْلِ في إنْكَاحِ الصَّغِيرِ بَلْ فيه ضَرَرٌ
بِهِمَا وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ وَلِهَذَا لَا
يَمْلِكُ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه
زَوَّجَ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَهِيَ صَغِيرَةٌ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَزَوَّجَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على ذلك وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا كان أَضْعَافَ ذلك
وَلِأَنَّ الْأَبَ وَافِرُ الشَّفَقَةِ على وَلَدِهِ يَنْظُرُ له ما لَا يَنْظُرُ
لِنَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذلك إلَّا لِتَوْفِيرِ مَقْصُودٍ من
مَقَاصِدِ النِّكَاحِ هو أَنْفَعُ وَأَجْدَى من كَثِيرٍ من الْمَالِ من
مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَحْوِ ذلك من الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ
وَالْحَالَةُ هذه نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لَا ضَرَرًا بِهِمَا
بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِأَنَّ وَجْهَ الضَّرَرِ في تَصَرُّفِهِمَا
ظَاهِرٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ دَلِيلٍ يَدُلُّ على اشْتِمَالِهِ على الْمَصْلَحَةِ
الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ التي تَزِيدُ على الضَّرَرِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ ذلك
إنَّمَا يُعْرَفُ بِوُفُورِ الشَّفَقَةِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ
الْأَبُ أَمَةً لَهُمَا بِأَقَلَّ من قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
وَالْمَقْصُودُ من الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ هو الْوُصُولُ إلَى الْعِوَضِ
الْمَالِيِّ ولم يُوجَدْ وَبِخِلَافِ ما إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُمَا بِأَقَلَّ من
مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ
لِلْأَمَةِ من حَظِّ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُمَا في حُصُولِ عِوَضِ
بُضْعِ الْأَمَةِ لَهُمَا وهو مَهْرُ الْمِثْلِ ولم يَحْصُلْ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِأَنْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ
يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ من مَهْرِ مِثْلِهَا
مِقْدَارُ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ أو وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا
بِأَنْ يُزَوِّجَهَا من رَجُلٍ فَزَوَّجَهَا من رَجُلٍ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا
أو من غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ على اخْتِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ
وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَعَلَى هذا الْوَكِيلُ بِالتَّزْوِيجِ من جَانِبِ الرَّجُلِ أو الْمَرْأَةِ إذَا
زَوَّجَ الْمُوَكِّلَ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ له فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ في الْبَيْعِ وَنَذْكُرُ ذلك كُلَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ من جَانِبِ الرَّجُلِ بِالتَّزْوِيجِ إذَا
زَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِإِطْلَاقِ
اللَّفْظِ وَلِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ من جَانِبِ النِّسَاءِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ من جَانِبَيْنِ عِنْدَهُمَا في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ
لِمَكَانِ الْعُرْفِ اسْتِحْسَانًا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْأَبُ على ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ أو
على ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُصَدَّقُ في إقْرَارِهِ حتى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ على
نَفْسِ النِّكَاحِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يُصَدَّقُ من غَيْرِ شُهُودٍ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَدَّعِيَ امْرَأَةٌ
نِكَاحَ الصَّغِيرِ أو يدعى رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ وَالْأَبُ يُنْكِرُ ذلك
فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً على إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ فَعِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ هذه الشَّهَادَةُ حتى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ على نَفْسِ
الْعَقْدِ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَيَظْهَرُ النِّكَاحُ
وَالثَّانِي أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ أو امْرَأَةٌ نِكَاحَ
الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِمَا وَهُمَا مُنْكِرَانِ ذلك فَأَقَامَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ على إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ في حَالِ الصِّغَرِ وَعَلَى هذا
الْخِلَافِ الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ إذَا أَقَرَّ على مُوَكِّلِهِ أو على
مُوَكِّلَتِهِ بِالنِّكَاحِ وَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ على عَبْدِهِ بِالنِّكَاحِ
أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَأَجْمَعُوا
على أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ على أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ
من غَيْرِ شَهَادَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إنْ أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُصَدَّقُ
فيه من غَيْرِ شُهُودٍ كما لو أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ أَمَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ
أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ على
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذلك وإذا مَلَكَ إنْشَاءَهُ لم
يَكُنْ مُتَّهَمًا في الْإِقْرَارِ فَيُصَدَّقُ كَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ
بِالْفَيْءِ في مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَزَوْجِ الْمُعْتَدَّةِ إذَا قال في
الْعِدَّةِ رَاجَعْتُك لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا
بِشُهُودٍ نَفَى النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الِانْعِقَادِ
وَالظُّهُورِ بَلْ الْحَمْلُ على الظُّهُورِ أَوْلَى لِأَنَّ فيه عَمَلًا
بِحَقِيقَةِ اسْمِ الشَّاهِدِ إذْ هو اسْمٌ لِفَاعِلِ الشَّهَادَةِ وهو
الْمُؤَدِّي لها وَالْحَاجَةُ إلَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الظُّهُورِ لَا عِنْدَ
الِانْعِقَادِ وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ على الْغَيْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ بِعَقْدٍ
لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ
فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِمُسَاعِدَةِ آخَرِينَ قِيَاسًا على الْوُكَلَاءِ
الثَّلَاثَةِ في النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ
____________________
(2/246)
وَدَلَالَةُ
الْوَصْفِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ وَالْإِقْرَارُ بِالنِّكَاحِ إقْرَارٌ
بِمَنَافِعِ الْبُضْعِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ أَلَا تَرَى أنها لو
وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كان الْمَهْرُ لها لَا لِلْأَبِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فإن
مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةٌ فَكَانَ ذلك إقْرَارًا بِمَا مَلَكَ فَأَبُو
حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ وِلَايَةَ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الْمَعْقُودِ عليه وَهُمَا
اعْتَبَرَا وِلَايَةَ الْعَقْدِ فَقَطْ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَهِيَ الْوِلَايَةُ على
الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَقَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي
يُوسُفَ الْآخَرِ الْوِلَايَةُ عليها وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ أَيْضًا لَا في العبادة ( ( (
العبارة ) ) ) فَإِنَّهَا لِلْمَوْلَى خَاصَّةً وَشَرْطُ ثُبُوتِ هذه الْوِلَايَةِ
على أَصْلِ أَصْحَابِنَا هو رِضَا الْمُوَلَّى عليه لَا غَيْرُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا وَعِبَارَةُ الْوَلِيِّ أَيْضًا وَعَلَى هذا يبني
الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من رَجُلٍ أو
وَكَّلَتْ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ فَتَزَوَّجَهَا أو زَوَّجَهَا فُضُولِيٌّ
فَأَجَازَتْ جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ
سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ أو غَيْرِ كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ أو
قَاصِرٍ غير أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ
حَقُّ الِاعْتِرَاضِ وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ في
مَوْضِعِهَا
وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ حتى يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ وَالْحَاكِمُ فَلَا
يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا قبل الْإِجَازَةِ وَلَوْ وَطِئَهَا يَكُونُ وطأ
حَرَامًا وَلَا يَقَعُ عليها طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَلَوْ مَاتَ
أَحَدُهُمَا لم يَرِثْهُ الْآخَرُ سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ أو
غَيْرِ كُفْءٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عنه
وروى عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ
يَنْفُذُ وَتَثْبُتُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كان
لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ
لها وَلِيٌّ جَازَ انكاحها على نَفْسِهَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِدُونِ الْوَلِيِّ إلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فقال
مُحَمَّدٌ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَتِهَا وَيَنْفُذُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ
وَإِجَازَتِهِ وَيَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ الْوَلِيِّ وَيَنْفُذُ بإذنه ( ( ( بإذنها
) ) ) وَإِجَازَتِهَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا عِبَارَةَ لِلنِّسَاءِ في بَابِ
النِّكَاحِ أَصْلًا حتى لو تَوَكَّلَتْ امْرَأَةٌ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ من
وَلِيِّهَا فَتَزَوَّجَتْ لم يَجُزْ عِنْدَهُ وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِنْتَهَا
بِإِذْنِ الْقَاضِي لم يَجُزْ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
} هذا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لها
بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا وَمَتَى ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عليها كانت هِيَ
مُوَلَّيًا عليها ضَرُورَةً فَلَا تَكُونُ وَالِيَةً
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ لِأَنَّ النِّكَاحَ
من جَانِبِ النِّسَاءِ عَقْدُ إضْرَارٍ بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ وَثَمَرَتِهِ
أَمَّا نَفْسُهُ فإنه رِقٌّ وَأَسْرٌ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم النِّكَاحُ
رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أحدكم أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ
عِنْدَكُمْ عَوَانٌ أي أَسِيرَاتٌ وَالْإِرْقَاقُ إضْرَارٌ
وَأَمَّا حُكْمُهُ فإنه مِلْكٌ فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مَنَافِعِ
بُضْعِهَا اسْتِيفَاءً بِالْوَطْءِ وَإِسْقَاطًا بِالطَّلَاقِ وَيَمْلِكُ
حَجْرَهَا عن الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ عن ( ( ( وعن ) ) ) التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ
وَأَمَّا ثَمَرَتُهُ فَالِاسْتِفْرَاشُ كُرْهًا وَجَبْرًا وَلَا شَكَّ إن هذا
إضْرَارٌ إلَّا أَنَّهُ قد يَنْقَلِبُ مَصْلَحَةً وَيَنْجَبِرُ ما فيه من
الضَّرَرِ إذَا وَقَعَ وَسِيلَةً إلَى الْمَصَالِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ
وَلَا يُسْتَدْرَكُ ذلك إلَّا بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَرَأْيُهَا نَاقِصٌ
لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَضَرَّةً فَلَا تَمْلِكُهُ
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا امْرَأَةٍ
تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ من
التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ما لَا حُكْمَ له شَرْعًا كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ
وَنَحْوِهِ وَلِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا في النِّكَاحِ بِدَلِيلِ أَنَّ لهم
حَقَّ الِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ وَمَنْ لَا حَقَّ له في عَقْدٍ كَيْفَ يَمْلِكُ
فَسْخَهُ وَالتَّصَرُّفُ في حَقِّ الْإِنْسَانِ يَقِفُ جَوَازُهُ على جَوَازِ
صَاحِبِ الْحَقِّ كَالْأَمَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا
وَجْهُ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ
يَنْفُذُ
لِأَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ في النِّكَاحِ من حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا
يُوجِبُ لُحُوقَ الْعَارِ وَالشَّيْنِ بِهِمْ بِنِسْبَةِ من لَا يُكَافِئُهُمْ
بِالصِّهْرِيَّةِ إلَيْهِمْ وقد بَطَلَ هذا الْمَعْنَى بِالتَّزْوِيجِ من كُفْءٍ
يُحَقِّقُهُ أنها لو وَجَدَتْ كفأ وَطَلَبَتْ من الْمَوْلَى الْإِنْكَاحَ منه لَا
يَحِلُّ له الِامْتِنَاعُ وَلَوْ امْتَنَعَ يَصِيرُ عَاضِلًا
____________________
(2/247)
فَصَارَ
عَقْدُهَا وَالْحَالَةُ هذه بِمَنْزِلَةِ عَقْدِهِ بِنَفْسِهِ
وَجْهُ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ من الْفَرْقِ بين ما إذَا كان لها وَلِيٌّ وَبَيْنَ
ما إذَا لم يَكُنْ لها وَلِيٌّ أَنَّ وُقُوفَ الْعَقْدِ على إذْنِ الْوَلِيِّ كان
لِحَقِّ الْوَلِيِّ لَا لِحَقِّهَا فإذا لم يَكُنْ لها وَلِيٌّ فَلَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ
فَكَانَ الْحَقُّ لها خَاصَّةً فإذا عَقَدَتْ فَقَدْ تَصَرَّفَتْ في خَالِصِ
حَقِّهَا فَنَفَذَ
وَأَمَّا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ وَبَلَغَ الْوَلِيَّ فَامْتَنَعَ من
الْإِجَازَةِ فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ فإنه يُجِيزُهُ في قَوْلِ أبي
يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يُسْتَأْنَفُ الْعَقْدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ كان مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْوَلِيِّ فإذا
امْتَنَعَ من الْإِجَازَةِ فَقَدْ رَدَّهُ فَيَرْتَدُّ وَيَبْطُلُ من الْأَصْلِ
فَلَا بُدَّ من الِاسْتِئْنَافِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ صَارَ عَاضِلًا إذْ لَا
يَحِلُّ له الِامْتِنَاعُ من الْإِجَازَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ
فإذا امْتَنَعَ فَقَدْ عَضَلَهَا فَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا وَانْقَلَبَتْ
الْوِلَايَةُ إلَى الْحَاكِمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النبي أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } فَالْآيَةُ الشَّرِيفَةُ
نَصٌّ على انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهَا وَانْعِقَادِهَا بِلَفْظِ
الْهِبَةِ فَكَانَتْ حُجَّةً على الْمُخَالِفِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ وقَوْله
تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَضَافَ
النِّكَاحَ إلَيْهَا فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ النِّكَاحِ منها
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ غَايَةَ الْحُرْمَةِ فَيَقْتَضِي
انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ نِكَاحِهَا نَفْسِهَا وَعِنْدَهُ لَا تَنْتَهِي
وَقَوْلُهُ عز وجل { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أَيْ
يَتَنَاكَحَا أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِمَا من غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ
وَقَوْلُهُ عز وجل { وإذا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ
من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِنَّ فَيَدُلُّ على جَوَازِ
النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهِنَّ من غَيْرِ شَرْطِ الْوَلِيِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ نهى الْأَوْلِيَاءَ عن الْمَنْعِ عن نِكَاحِهِنَّ
أَنْفُسَهُنَّ من أَزْوَاجِهِنَّ إذَا تَرَاضَى الزَّوْجَانِ وَالنَّهْيُ
يَقْتَضِي تَصْوِيرَ الْمَنْهِيَّ عنه
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس لِلْوَلِيِّ مع الثَّيِّبِ أَمْرٌ
وَهَذَا قَطْعُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عنها
وَرُوِيَ عنه أَيْضًا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا
زَوْجَ لها
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أنها لَمَّا بَلَغَتْ عن عَقْلٍ وَحُرِّيَّةٍ فَقَدْ
صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا في النِّكَاحِ فَلَا تَبْقَى مُولَيًا عليها
كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ وَالْجَامِعُ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ
إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْأَبِ على الصَّغِيرَةِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنها شَرْعًا
لِكَوْنِ النِّكَاحِ تَصَرُّفًا نَافِعًا مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةَ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا وَكَوْنِهَا عَاجِزَةً عن
إحْرَازِ ذلك بِنَفْسِهَا وَكَوْنِ الْأَبِ قَادِرًا عليه بالبلوغ ( ( ( وبالبلوغ
) ) ) عن عَقْلٍ زَالَ الْعَجْزُ حَقِيقَةً وَقَدَرَتْ على التَّصَرُّفِ في
نَفْسِهَا حَقِيقَةً فَتَزُولُ وِلَايَةُ الْغَيْرِ عنها وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ
لها لِأَنَّ النِّيَابَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ
نَظَرًا فَتَزُولُ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ مع أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ لِلْحُرِّ على الْحُرِّ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ مع الْمُنَافِي لَا
يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى زَالَتْ الْوِلَايَةُ
عن إنْكَاحِ الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ له
وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْفَرْعِ وَلِهَذَا زَالَتْ وِلَايَةُ الْأَبِ
عن التَّصَرُّفِ في مَالِهَا وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لها كَذَا هذا
وإذا صَارَتْ وَلِيَّ نَفْسِهَا في النِّكَاحِ لَا تَبْقَى مُولَيًا عليها
بِالضَّرُورَةِ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْخِطَابُ
لِلْأَوْلِيَاءِ بِالْإِنْكَاحِ ليس يَدُلُّ على أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطُ جَوَازِ
الْإِنْكَاحِ بَلْ على وِفَاقِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بين الناس فإن النِّسَاءَ
لَا يَتَوَلَّيْنَ النِّكَاحَ بِأَنْفُسِهِنَّ عَادَةً لِمَا فيه من الْحَاجَةِ
إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَفِيهِ نِسْبَتُهُنَّ إلَى
الْوَقَاحَةِ بَلْ الْأَوْلِيَاءُ هُمْ الَّذِينَ يَتَوَلُّونَ ذلك عَلَيْهِنَّ
بِرِضَاهُنَّ فَخَرَجَ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْكَاحِ مَخْرَجَ الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَقِيبَهُ وهو قَوْله
تَعَالَى { وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } ثُمَّ لم يَكُنْ
الصَّلَاحُ شَرْطَ الْجَوَازِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أو تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على إنْكَاحِ
الصِّغَارِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا
وَعَلَى هذا يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ
إلَّا الْأَوْلِيَاءُ إن ذلك على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَكَذَا قَوْلُهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مع ما حُكِيَ عن
____________________
(2/248)
بَعْضِ
النَّقَلَةِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ لم تَصِحَّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَعُدَّ من جُمْلَتِهَا هذا وَلِهَذَا لم يُخَرَّجْ في الصَّحِيحَيْنِ
على أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْأَحَادِيثِ لَكِنْ لَمَّا قُلْتُمْ إن هذا
إنْكَاحٌ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَلْ الْمَرْأَةُ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا لِمَا ذَكَرْنَا
من الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم النِّكَاحُ عَقْدُ ضَرَرٍ فَمَمْنُوعٌ
بَلْ هو عَقْدُ مَنْفَعَةٍ لِاشْتِمَالِهِ على مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا من
السَّكَنِ والألف وَالْمَوَدَّةِ وَالتَّنَاسُلِ وَالْعِفَّةِ عن الزِّنَا
وَاسْتِيفَاءِ الْمَرْأَةِ بِالنَّفَقَةِ إلَّا أَنَّ هذه الْمَصَالِحَ لَا
تَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ مِلْكٍ عليها إذْ لو لم تَكُنْ لَا تَصِيرُ مَمْنُوعَةً
عن الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ والتزوج ( ( ( والتزويج ) ) ) بِزَوْجٍ آخَرَ وفي
الْخُرُوجِ وَالْبُرُوز فَسَادُ السَّكَنِ لِأَنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ لَا
يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا وفي التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَسَادُ الْفِرَاشِ
لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَشْتَبِهُ النَّسَبُ وَيَضِيعُ الْوَلَدُ
فَالشَّرْعُ ضَرَبَ عليها نَوْعَ مِلْكٍ ضَرُورَةَ حُصُولِ الْمَصَالِحِ فَكَانَ
الْمِلْكُ وَسِيلَةً إلَى الْمَصَالِحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الْمَصْلَحَةِ
مَصْلَحَةٌ وَتَسْمِيَةُ النِّكَاحِ رِقًّا بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ لَا بِطَرِيقِ
التَّحْقِيقِ لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الرِّقِّ
وَقَوْلُهُ عَقْلُهَا نَاقِصٌ قُلْنَا هذا النَّوْعُ من النُّقْصَانِ لَا يَمْنَعُ
الْعِلْمَ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ فَلَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّةَ النِّكَاحِ
وَلِهَذَا لَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّةَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ من الْمُعَامَلَاتِ
وَالدِّيَانَاتِ حتى يَصِحَّ منها التَّصَرُّفُ في الْمَالِ على طَرِيقِ
الِاسْتِبْدَادِ وَإِنْ كانت تَجْرِي في التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ خِيَانَاتٌ
خَفِيَّةٌ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَيَصِحُّ منها الْإِقْرَارُ
بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَيُؤْخَذُ عليها الْخِطَابُ بالإيمان وَسَائِرِ
الشَّرَائِعِ فَدَلَّ أَنَّ مالها من الْعَقْلِ كَافٍ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ
اُعْتُبِرَ عَقْلُهَا في اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ حتى لو طَلَبَتْ من الْوَلِيِّ
أَنْ يُزَوِّجَهَا من كُفْءٍ يُفْتَرَضُ عليه التَّزْوِيجُ حتى لو امْتَنَعَ
يَصِيرُ عَاضِلًا وَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ في التَّزْوِيجِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ قِيلَ إنَّ مَدَارَهُ على
الزُّهْرِيِّ فَعُرِضَ عليه فَأَنْكَرَهُ وَهَذَا يُوجِبُ ضَعْفًا في الثُّبُوتِ
يُحَقِّقُ الضَّعْفَ أَنَّ رَاوِيَ الحديث عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها وَمِنْ
مَذْهَبِهَا جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أنها زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عبد الرحمن من
الْمُنْذِرِ بن الزُّبَيْرِ وإذا كان مَذْهَبُهَا في هذا الْبَابِ هذا فَكَيْفَ
تَرْوِي حَدِيثًا لَا تَعْمَلُ بِهِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ على الْأَمَةِ
لِأَنَّهُ رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ
إذْنِ مَوَالِيهَا دَلَّ ذِكْرُ الْمَوَالِي على أَنَّ الْمُرَادَ من الْمَرْأَةِ
الْأَمَةُ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أن لِلْوَلِيِّ حَقًّا في النِّكَاحِ فَنَقُولُ
الْحَقُّ في النِّكَاحِ لها على الْوَلِيِّ لَا لِلْوَلِيِّ عليها بِدَلِيلِ أنها
تُزَوَّجُ على الْوَلِيِّ إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وإذا كان حَاضِرًا
يُجْبَرُ على التَّزْوِيجِ إذَا أَبَى وَعَضَلَ تُزَوَّجُ عليه وَالْمَرْأَةُ لَا
تُجْبَرُ على النِّكَاحِ إذَا أَبَتْ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ فَدَلَّ أَنَّ الْحَقَّ
لها عليه وَمَنْ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ في عَقْدٍ له قِبَلَ غَيْرِهِ لم يُوجِبْ
ذلك فَسَادَهُ على أَنَّهُ إنْ كان لِلْوَلِيِّ فيه ضَرْبُ حَقٍّ لَكِنَّ أَثَرَهُ
في الْمَنْعِ من اللُّزُومِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ لَا في
الْمَنْعِ من النَّفَاذِ وَالْجَوَازِ لِأَنَّ في حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ في
النِّكَاحِ من حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا يَلْحَقُهُمْ من الشَّيْنِ وَالْعَارِ
بِنِسْبَةِ عَدَا الْكُفْءِ إلَيْهِمْ بِالصِّهْرِيَّةِ فَإِنْ زَوَّجَتْ
نَفْسَهَا من كُفْءٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الصِّيَانَةُ فَزَالَ الْمَانِعُ من
اللُّزُومِ فَيَلْزَمُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ من غَيْرِ كُفْءٍ فَفِي النَّفَاذِ إنْ
كان ضَرَرٌ بِالْأَوْلِيَاءِ وفي عَدَمِ النَّفَاذِ ضَرَرٌ بها بِإِبْطَالِ
أَهْلِيَّتِهَا وَالْأَصْلُ في الضَّرَرَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا أَنْ يَدْفَعَا ما أَمْكَنَ
وَهَهُنَا أَمْكَنَ دَفْعُهُمَا بِأَنْ نَقُولَ بِنَفَاذِ النِّكَاحِ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عنها وبعد ( ( ( وبعدم ) ) ) اللُّزُومِ وَثُبُوتِ وِلَايَةِ
الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا نَظِيرٌ في
الشَّرِيعَةِ فإن الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ بين اثْنَيْنِ إذَا كَاتَبَ أَحَدَهُمَا
نَصِيبَهُ فَقَدْ دَفَعَ الضَّرَرَ عنه حتى لو أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ
يُعْتَقُ وَلَكِنَّهُ لم يَلْزَمْهُ حتى كان لِلشَّرِيكِ الْآخِرِ حَقُّ فَسْخِ
الْكِتَابَةِ قبل أَدَاءِ الْبَدَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أو بِعُمْرَةٍ صَحَّ إحْرَامُهُ حتى لو
أُعْتِقَ يَمْضِي في إحْرَامِهِ لَكِنَّهُ لم يَلْزَمْهُ حتى أن لِلْمَوْلَى أَنْ
يُحَلِّلَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه وَكَذَا لِلشَّفِيعِ حَقُّ تَمَلُّكِ الدَّارِ
بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن نَفْسِهِ ثُمَّ لو وَهَبَ الْمُشْتَرِي
الدَّارَ نَفَذَتْ هِبَتُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه لَكِنَّهَا لَا تَلْزَمُ حتى
لِلشَّفِيعِ حَقُّ قَبْضِ الْهِبَةِ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ
عن نَفْسِهِ كَذَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ التَّقَدُّمِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْعُصُوبَةُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ فَتُقَدَّمُ الْعَصَبَةُ على ذَوِي الرَّحِمِ
____________________
(2/249)
سَوَاءً
كانت الْعَصَبَةُ أَقْرَبُ أو أَبْعَدُ وَعِنْدَهُمَا هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ
الْوِلَايَةِ على ما مَرَّ
وَالثَّانِي قُرْبُ الْقَرَابَةِ يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ على الْأَبْعَدِ سَوَاءً
كان في الْعَصَبَاتِ أو في غَيْرِهَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى
أَصْلِهِمَا هذا شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَكِنْ في الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً بِنَاءً على
أَنَّ الْعَصَبَاتِ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ
هِيَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ على غَيْرِهِمْ من الْقَرَابَاتِ فما دَامَ ثَمَّةَ
عَصَبَةٍ فَالْوِلَايَةُ لهم يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ منهم على الْأَبْعَدِ
وَعِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِذَوِي الرَّحِمِ
الْأَقْرَبُ منهم يَتَقَدَّمُ على الْأَبْعَدِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ
فَالْأَقْرَبُ في الْوِلَايَةِ لِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَتَصَرُّفُ
الْأَقْرَبِ انظر في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه لِأَنَّهُ أَشْفَقُ فَكَانَ هو
أَوْلَى من الْأَبْعَدِ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ إنْ كانت اسْتِحْقَاقُهَا
بِالتَّعْصِيبِ كما قَالَا فَالْأَبْعَدُ لَا يَكُونُ عَصَبَةً مع الْأَقْرَبِ
فَلَا يَلِي معه وَلَئِنْ كان اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوِرَاثَةِ كما قال أبو
حَنِيفَةَ فَالْأَبْعَدُ لَا يَرِثُ مع الْأَقْرَبِ فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا معه
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالْجَدُّ في الصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونِ الْكَبِيرِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ
فَالْأَبُ أَوْلَى من الْجَدِّ أَبُ الْأَبِ لِوُجُودِ الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ وَالْجَدُّ
أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى من الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخُ أَوْلَى
من الْعَمِّ هَكَذَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْجَدُّ وَالْأَخُ سَوَاءٌ
كما في الْمِيرَاثِ فإن الْأَخَ لَا يَرِثُ مع الْجَدِّ عِنْدَهُ فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَعِنْدَهُمَا يَشْتَرِكَانِ في الْمِيرَاثِ فَكَانَا
كالآخوين وَإِنْ اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالِابْنُ في الْمَجْنُونَةِ فَالِابْنُ
أَوْلَى عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ مع
قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال أَيُّهُمَا
زَوَّجَ جَازَ وَإِنْ اجْتَمَعَا قلت لِلْأَبِ زَوِّجْ
وقال مُحَمَّدٌ الْأَبُ أَوْلَى بِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذه الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عليه
وَتَصَرُّفُ الْأَبِ انظر لها لِأَنَّهُ أَشْفَقُ عليها من الِابْنِ وَلِهَذَا كان
هو أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ في مَالِهَا وَلِأَنَّ الْأَبَ من قَوْمِهَا وَالِابْنُ
ليس منهم أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أبيه فَكَانَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ
عليها لِقَرَابَتِهَا أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ مَبْنِيَّةٌ على
الْعُصُوبَةِ وَالْأَبُ مع الِابْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالِابْنُ هو الْعَصَبَةُ
وَالْأَبُ صَاحِبُ فَرْضٍ فَكَانَ كَالْأَخِ لِأُمٍّ مع الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّهُ وُجِدَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما هو
سَبَبُ التَّقَدُّمِ أَمَّا الْأَبُ فَلِأَنَّهُ من قَوْمِهَا وهو أَشْفَقُ عليها
وَأَمَّا الِابْنُ فَلِأَنَّهُ يَرِثُهَا بِالتَّعْصِيبِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من
هَذَيْنِ سَبَبُ التَّقَدُّمِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ
يُقَدَّمُ الْأَبُ تَعْظِيمًا وَاحْتِرَامًا له وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ
وابن الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ وَالْأَفْضَلُ في
الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يُفَوِّضَ الِابْنُ الْإِنْكَاحَ إلَى الْأَبِ احْتِرَامًا
لِلْأَبِ وَاحْتِرَازًا عن مَوْضِعِ الْخِلَافِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اجْتَمَعَ الْجَدُّ وَالِابْنُ
قال أبو يُوسُفَ الِابْنُ أَوْلَى وقال مُحَمَّدٌ الْجَدُّ أَوْلَى وَالْوَجْهُ من
الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَخُ وَالْجَدُّ فَهُوَ على
الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ
وَأَمَّا من غَيْرِ الْعَصَبَاتِ فَكُلُّ من يَرِثُ يُزَوِّجُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا فَلَا وَبَيَانُ من يَرِثُ منهم وَمَنْ لَا يَرِثُ يُعْرَفُ
في كِتَابِ الْفَرَائِضِ ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ على الْأَبْعَدِ
إذَا كان الْأَقْرَبُ حَاضِرًا أو غَائِبًا غَيْبَةً غير مُنْقَطِعَةٍ فَأَمَّا
إذَا كان غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَلِلْأَبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مع قِيَامِ
الْأَقْرَبِ بِحَالٍ
وقال الشَّافِعِيُّ يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ أنها تَزُولُ بِالْغَيْبَةِ أو
تَبْقَى
قال بَعْضُهُمْ أنها بَاقِيَةٌ إلَّا أن حَدَثَتْ لِلْأَبْعَدِ وِلَايَةٌ
لِغَيْبَةِ الْأَقْرَبِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ لها وَلِيَّيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ في
الدَّرَجَةِ كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ
وقال بَعْضُهُمْ تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى الْأَبْعَدِ وهو
الْأَصَحُّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لِقِيَامِ سَبَبِ
ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ وَلِهَذَا لو زَوَّجَهَا
حَيْثُ هو يَجُوزُ فَقِيَامُ وِلَايَتِهِ تَمْنَعُ الِانْتِقَالَ إلَى غَيْرِهِ
وَالشَّافِعِيُّ يقول إنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ بَاقِيَةٌ كما قال زُفَرُ إلَّا
أَنَّهُ اُمْتُنِعَ دَفْعُ حَاجَتِهَا من قِبَلِ الْأَقْرَبِ مع قِيَامِ
وِلَايَتِهِ عليها بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلسُّلْطَانِ
كما إذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ من تَزْوِيجِهَا منه إن
لِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الضَّرَرِ عن
الصَّغِيرَةِ
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْأَبْعَدِ زِيَادَةُ نَظَرٍ في حَقِّ
الْعَاجِزِ فَتَثْبُتُ له الْوِلَايَةُ كما في الْأَبِ مع الْجَدِّ إذَا كَانَا
حَاضِرَيْنِ وَدَلَالَةُ ما قُلْنَا إن الْأَبْعَدَ أَقْدَرُ على تَحْصِيلِ
النَّظَرِ لِلْعَاجِزِ
____________________
(2/250)
لِأَنَّ
مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ وَالْمَهْرِ وَلَا شَكَّ
أَنَّ الْأَبْعَدَ مُتَمَكِّنٌ من إحْرَازِ الْكُفْءِ الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لَا
يَفُوتُهُ غَالِبًا وَالْأَقْرَبُ الْغَائِبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يَقْدِرُ
على إحْرَازِهِ غَالِبًا
لِأَنَّ الْكُفْءَ الْحَاضِرَ لَا يَنْتَظِرُ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلَاعَ رَأْيِهِ
غَالِبًا
وَكَذَا الْكُفْءُ الْمُطْلَقُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُخْطَبُ حَيْثُ هِيَ عَادَةً
فَكَانَ الْأَبْعَدُ أَقْدَرَ على إحْرَازِ الْكُفْءِ من الْأَقْرَبِ فَكَانَ
أَقْدَرَ على إحْرَازِ النَّظَرِ فَكَانَ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ له إذْ
الْمَرْجُوحُ في مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ في الْأَحْكَامِ كما
في الْأَبِ مع الْجَدِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ فَمَمْنُوعٌ وَلَا
نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ انكاحه بَلْ لَا يَجُوزُ فَوَلَايَتُهُ مُنْقَطِعَةٌ
بِوَاحِدَةٍ
وقد رُوِيَ عن أَصْحَابِنَا ما يَدُلُّ على هذا فَإِنَّهُمْ قالوا إنَّ
الْأَقْرَبَ إذَا كَتَبَ كِتَابًا إلَى الْأَبْعَدِ لِيُقَدِّمَ رَجُلًا في
الصَّلَاةِ على جِنَازَةِ الصَّغِيرِ فإن لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن ذلك
وَلَوْ كانت وَلَايَةُ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لَمَا كان له الِامْتِنَاعُ كما إذَا
كان الْأَقْرَبُ حَاضِرًا فَقَدَّمَ رَجُلًا ليس لِلْأَبْعَدِ وَلَايَةُ الْمَنْعِ
وَالْمَعْقُولُ يَدُلُّ عليه وهو أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ لِحَاجَةِ
الْمُوَلَّى عليه وَلَا مَدْفَعَ لِحَاجَتِهِ بِرَأْيِ الْأَقْرَبِ لِخُرُوجِهِ من
أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْغَيْبَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
فَصَارَ كَأَنَّهُ جُنَّ أو مَاتَ إذْ الْمَوْجُودُ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ
لِلْأَبْعَدِ مع وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ لِأَنَّ
الْأَقْرَبَ رُبَّمَا يُزَوِّجُهَا من إنْسَانٍ حَيْثُ هو وَلَا يَعْلَمُ الْأَبْعَدُ
بِذَلِكَ فَيُزَوِّجُهَا من غَيْرِهِ فَيَطَؤُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَيَجِيءُ
بِالْأَوْلَادِ ثُمَّ يَظْهَرُ أنها زَوْجَةُ الْأَوَّلِ وَفِيهِ من الْفَسَادِ ما
لَا يَخْفَى
ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا على قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَلَا تَنَافِيَ بين
الْوَلَايَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ كما إذَا كان لها أَخَوَانِ أو
عَمَّانِ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ كَمَالُ النَّظَرِ في حَقِّ الْعَاجِزِ
لِأَنَّ الْكُفْءَ إنْ اتَّفَقَ حَيْثُ الْأَبْعَدُ زَوَّجَهَا منه وَإِنْ
اتَّفَقَ حَيْثُ الْأَقْرَبُ زَوَّجَهَا منه فَيَكْمُلُ النَّظَرُ إلَّا أَنَّ في
حَالِ الْحَضْرَةِ يُرَجَّحُ الْأَقْرَبُ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الشَّفَقَةِ
لِزِيَادَةِ الْقَرَابَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ نَقْلَ الْوَلَايَةِ إلَى
السُّلْطَانِ بَاطِلٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له وَهَهُنَا
لها وَلِيٌّ أو وَلِيَّانِ فَلَا تَثْبُتُ الْوَلَايَةُ لِلسُّلْطَانِ إلَّا
عِنْدَ الْعَضْلِ من الْوَلِيِّ ولم يُوجَدْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَاخْتَلَفَتْ الْأَقَاوِيلُ في تَحْدِيدِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال ما بين بَغْدَادَ وَالرَّيِّ
وفي رِوَايَةٍ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصَاعِدًا وما دُونَهُ ليس بِغَيْبَةٍ
مُنْقَطِعَةٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أَيْضًا رُوِيَ عنه ما بين الْكُوفَةِ إلَى
الرَّيِّ وَرُوِيَ عنه من الرَّقَّةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَذَكَرَ ابن شُجَاعٍ إذَا
كان غَائِبًا في مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْقَوَافِلُ وَالرُّسُلُ في
السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ وإذا كانت
الْقَوَافِلُ تَصِلُ إلَيْهِ في السَّنَةِ غير مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ
وَعَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أبي بِكْرٍ مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ
أَنَّهُ قال إنْ كان الْأَقْرَبُ في مَوْضِعٍ يُفَوِّتُ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ
بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ وَإِنْ كان لَا يُفَوِّتُ
فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّ التَّعْوِيلَ
في الْوَلَايَةِ على تَحْصِيلِ النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عليه وَدَفْعِ الضَّرَرِ
عنه وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ هذا إذَا اجْتَمَعَ في الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ
وَالْمَجْنُونِ الْكَبِيرِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا
أَقْرَبُ وَالْآخَرُ أَبْعَدُ فَأَمَّا إذَا كَانَا في الدَّرَجَةِ سَوَاءً
كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ وَنَحْوِ ذلك فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
حِيَالِهِ أَنْ يُزَوِّجَ رضي الْآخَرُ أو سَخِطَ بَعْدَ أَنْ كان التَّزْوِيجُ من
كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ ليس لِأَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَايَةُ الانكاح ما لم يَجْتَمِعُوا
بِنَاءً على أَنَّ هذه الْوَلَايَةَ وَلَايَةُ شَرِكَةٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا
وَعِنْدَ الْعَامَّةِ وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ هذه الْوَلَايَةِ هو الْقَرَابَةُ وإنها
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ مُشْتَرَكَةً لِأَنَّ الْحُكْمَ
يَثْبُتُ على وَفْقِ الْعِلَّةِ وَصَارَ كَوَلَايَةِ الْمِلْكِ فإن الْجَارِيَةَ
بين إثنين إذَا زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ
لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْوَلَايَةَ لَا تَتَجَزَّأُ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِسَبَبٍ لَا
يَتَجَزَّأُ وهو الْقَرَابَةُ وما لَا يَتَجَزَّأُ إذَا ثَبَتَ بِجَمَاعَةٍ سَبَبٌ
لَا يَتَجَزَّأُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ كَأَنَّهُ ليس معه
غَيْرُهُ كَوَلَايَةِ الْأَمَانِ بِخِلَافِ وَلَايَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّ سَبَبَهَا
الْمِلْكُ وَأَنَّهُ متجزىء فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَإِنْ زَوَّجَهَا
كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَلِيَّيْنِ رَجُلًا على حِدَةٍ فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ
مَعًا بَطَلَا جميعا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَإِنْ وَقَعَا مُرَتَّبًا فَإِنْ كان لَا يدري
السَّابِقُ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ لو جَازَ لَجَازَ بالتجزيء ( ( (
بالتجزي ) ) ) وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّجْزِيءِ في الْفُرُوجِ
____________________
(2/251)
وَإِنْ
عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا من اللَّاحِقِ جَازَ الْأَوَّلُ ولم يَجُزْ الْآخَرُ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ
فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ
وَأَمَّا إذَا زَوَّجَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ
الْعَاقِلَةَ بِرِضَاهَا من غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ فَحُكْمُهُ
يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في شَرَائِطِ اللُّزُومِ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَلَايَةُ الْوَلَاءِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْوَلَاءُ قال النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ثُمَّ النَّسَبُ
سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ كَذَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ نَوْعَانِ وَلَاءُ
عَتَاقَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ
أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ فَوَلَايَةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ
وَلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ وَوَلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ وَوَلَايَةُ شَرِكَةٍ على ما
بَيَّنَّا في وَلَايَةِ الْقَرَابَةِ وَشَرْطُ ثُبُوتِ هذه الْوَلَايَةِ ما هو
شَرْطُ ثُبُوتِ تِلْكَ الْوَلَايَةِ إلَّا أَنَّ هذه الْوَلَايَةَ اخْتَصَّتْ
بِشَرْطٍ وهو أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ من جِهَةِ الْقَرَابَةِ
فَإِنْ كان فَلَا وَلَايَةَ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ له لِأَنَّ مولى
الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٌ من جِهَةِ
القرابة ( ( ( القربة ) ) ) فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ سَوَاءً كان الْمُعْتَقُ
ذَكَرًا أو أُنْثَى وَأَمَّا مولى الْمُوَالَاةِ فَلَهُ وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَانْعِدَامِ
سَائِرِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ليس له وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ أَصْلًا
وَرَأْسًا لِأَنَّ الْعُصُوبَة شَرْطٌ عِنْدَهُمَا ولم تُوجَدْ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَلَايَةُ الْإِمَامَةِ فَسَبَبُهَا الْإِمَامَةُ وَوَلَايَةُ
الْإِمَامَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا كَوَلَايَةِ الْقَرَابَةِ وَشَرْطُهَا ما هو
شَرْطُ تِلْكَ الْوَلَايَةِ في النَّوْعَيْنِ جميعا وَلَهَا شَرْطَانِ آخَرَانِ
أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جميعا وهو أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَلِيٌّ
أَصْلًا لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم السُّلْطَانُ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له
وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وهو وَلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ أو
وَلَايَةُ الشَّرِكَةِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلِ وهو لِعَضْلٍ من الْوَلِيِّ
لِأَنَّ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا طَلَبَتْ الْإِنْكَاحَ من
كُفْءٍ وَجَبَ عليه التَّزْوِيجُ منه لِأَنَّهُ منهى عن الْعَضْلِ وَالنَّهْيُ عن
الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فإذا امْتَنَعَ فَقَدْ أَضَرَّ بها وَالْإِمَامُ
نُصِّبَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَتَنْتَقِلُ الْوَلَايَةُ إلَيْهِ وَلَيْسَ
لِلْوَصِيِّ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا
يَعْدُو مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ وَإِنْ كان الْمَيِّتُ أَوْصَى إلَيْهِ
لَا يَمْلِكُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوِصَايَةِ إلَيْهِ نَقْلَ وَلَايَةِ
الْإِنْكَاحِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ حَالَ الْحَيَاةِ كَذَا بَعْدَ
الْمَوْتِ وَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوَلَايَةِ في
حَقِّهِ أَصْلًا وَلَوْ أَنْكَحَ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي في
كِتَابِ الْبُيُوعِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ حُضُورُ الشُّهُودِ وَالْكَلَامُ في هذا
الشَّرْطِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ أَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ
شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَاتِ الشَّاهِدِ الذي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِحُضُورِهِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ وَقْتِ الشَّهَادَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه
قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ
وقال مَالِكٌ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ هو الْإِعْلَانُ حتى لو
عَقَدَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ الْإِعْلَانَ جَازَ وَإِنْ لم يَحْضُرْهُ شُهُودٌ
وَلَوْ حَضَرَتْهُ شُهُودٌ وَشَرَطَ عليهم الْكِتْمَانَ لم يَجُزْ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّ الْإِشْهَادَ في سَائِرِ الْعُقُودِ ليس بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ
إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ قال اللَّهُ تَعَالَى في بَابِ الْمُدَايَنَةِ { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ لِنَفْسِهَا بَلْ للاشهاد وَنَصَّ عليه
في قَوْلِهِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ } وقال عز وجل في بَاب
الرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يَمْتَازُ عن السِّفَاحِ
بِالْإِعْلَانِ فإن الزِّنَا يَكُونُ سِرًّا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ
عَلَانِيَةً
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ
السِّرِّ وَالنَّهْيُ عن السِّرِّ يَكُونُ أَمْرًا بالاعلان لِأَنَّ النَّهْيَ عن
الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا نِكَاحَ
إلَّا بِشُهُودٍ وَرُوِيَ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال الزَّانِيَةُ التي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
وَلَوْ لم تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لم
____________________
(2/252)
تَكُنْ
زَانِيَةً بِدُونِهَا وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا
عنها وَلَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالشُّهُودِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إلَّا
بِظُهُورِ النِّكَاحِ وَاشْتِهَارِهِ وَلَا يَشْتَهِرُ إلَّا بِقَوْلِ الشُّهُودِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ في النِّكَاحِ ما شُرِطَتْ إلَّا في
النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ ذلك
يَنْدَفِعُ بِالظُّهُورِ وَالِاشْتِهَارِ لِكَثْرَةِ الشُّهُودِ على النِّكَاحِ
بِالسَّمَاعِ من الْعَاقِدَيْنِ وَبِالتَّسَامُعِ وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ
الْعُقُودِ فإن الْحَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ هُنَاكَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ
الشُّهُودِ النِّسْيَانَ أو الْجُحُودَ وَالْإِنْكَارَ في الثَّانِي إذْ ليس
بَعْدَهَا ما يُشْهِرُهَا لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْجُحُودُ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى
الدَّفْعِ بِالشَّهَادَةِ فَنُدِبَ إلَيْهَا وما رُوِيَ أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ
السِّرِّ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ ما لم يَحْضُرْهُ
شَاهِدَانِ فَأَمَّا ما حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلَانِيَةٍ لَا
نِكَاحَ سِرٍّ إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ سِرًّا
قال الشَّاعِرُ وَسِرُّكَ ما كان عِنْدَ امرىء وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ
الْخَفِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْلِنُوا النِّكَاحَ
لِأَنَّهُمَا إذَا أَحْضَرَاهُ شَاهِدَيْنِ فَقَدْ أَعْلَنَاهُ وَقَوْلُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم وَلَوْ بِالدُّفِّ نَدْبٌ إلَى زِيَادَةِ إعلانه ( ( ( علانة )
) ) وهو مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَاتُ الشَّاهِدِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَهِيَ
شَرَائِطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ فَمِنْهَا الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَجَانِينَ
وَالصِّبْيَانِ وَالْمَمَالِيكِ قِنًّا كان الْمَمْلُوكُ أو مُدَبَّرًا أو
مُكَاتَبًا
من مَشَايِخِنَا من أَصَّلَ في هذا أَصْلًا فقال كُلُّ من صَلُحَ أَنْ يَكُونَ
وَلِيًّا في النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ يَصْلُحُ شَاهِدًا فيه وَإِلَّا
فَلَا وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ من بَابِ الْوَلَايَةِ
لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْقَوْلِ على الْغَيْرِ وَالْوَلَايَةُ هِيَ نَفَاذُ
الْمَشِيئَةِ وَهَؤُلَاءِ ليس لهم وَلَايَةُ الانكاح لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لهم
على أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ لهم وَلَايَةٌ على غَيْرِهِمْ إلَّا
الْمُكَاتَبَ فإنه يُزَوِّجُ أَمَتَهُ لَكِنْ لَا بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ بَلْ
بِوَلَايَةِ مَوْلَاهُ بِتَسْلِيطِهِ على ذلك بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وكان التَّزْوِيجَ
من الْمَوْلَى من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا يَصْلُحُ شَاهِدًا
وَمِنْهُمْ من قال كُلُّ من يَمْلِكُ قَبُولَ عَقْدٍ بِنَفْسِهِ يَنْعَقِدُ ذلك
الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا فَلَا وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ من شَرَائِطِ رُكْنِ الْعَقْدِ وَرُكْنُهُ وهو الْإِيجَابُ
وَالْقَبُولُ وَلَا وُجُودَ لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ فَكَمَا لَا وُجُودَ
لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ حَقِيقَةً لَا وُجُودَ له شَرْعًا بِدُونِ
الشَّهَادَةِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ قَبُولَ الْعَقْدِ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمْ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ قَاضِيًا لو
قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ قَضَاؤُهُ عليه
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَصَّلَ فيه أَصْلًا وقال كُلُّ من
جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ في قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَ أَحَدٍ
لَا يَجُوزُ بِحُضُورِهِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّ
الْحُضُورَ لِفَائِدَةِ الْحُكْمِ بها عِنْدَ الْأَدَاءِ فإذا جَازَ الْحُكْمُ بها
في الْجُمْلَةِ كان الْحُضُورُ مُفِيدًا وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ
هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ من الْفُقَهَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَاضِيًا لو قَضَى
بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ عليه قَضَاؤُهُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ في نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ فَلَا
يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ
الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْوَلَايَةِ على الْمُسْلِمِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَكَذَا
لَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ قَبُولَ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ قَضَى قَاضٍ
بِشَهَادَتِهِ على الْمُسْلِمِ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ فإنه
يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَا مُوَافِقَيْنِ
لها في الْمِلَّةِ أو مُخَالِفَيْنِ وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَا
يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ على أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ
الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ على أَصْلِنَا وَعَلَى أَصْلِهِ
غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فانهما احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ
وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَالْمُرَادُ منه عَدَالَةُ الدِّينِ لَا عَدَالَةُ
التَّعَاطِي لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ فِسْقَ التَّعَاطِي لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ
النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ
يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالطَّرَفَيْنِ طَرَفُ الزَّوْجِ وَطَرَفُ الْمَرْأَةِ ولم
يُوجَدْ الْإِشْهَادُ على الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ في
حَقِّ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ
في حَقِّهِ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فلم يُوجَدْ الْإِشْهَادُ في جَانِبِ الزَّوْجِ
فَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَمِعَا كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الرَّجُلِ وَلَوْ
كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ النِّكَاحُ كَذَا هدا
وَلَهُمَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نحو قَوْله تَعَالَى
{ فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ }
____________________
(2/253)
وَقَوْلِهِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ }
وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا وَقَوْلِهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنَاكَحُوا وَغَيْرِ ذلك مُطْلَقًا عن غَيْرِ شَرْطٍ إلَّا
أَنَّ أَهْلَ الشَّهَادَةِ وَإِسْلَامَ الشَّاهِدِ صَارَ شَرْطًا في نِكَاحِ
الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ ادَّعَى كَوْنَهُ شَرْطًا في
نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا نِكَاحَ إلَّا
بِشُهُودٍ وَرُوِيَ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من
النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرٌ وَهَذَا نِكَاحٌ بِشُهُودٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ في
اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ وَالْكَافِرُ من أَهْلِ
الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ لِأَنَّ ذلك يَقِفُ على الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ
وَالْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وقد وُجِدَ إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ على
الْمُسْلِمِ خُصَّتْ من عُمُومِ الحديث فَبَقِيَتْ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْلِمِ
دَاخِلَةً تَحْتَهُ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ من بَابِ الْوَلَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا
وَالْكَافِرُ الشَّاهِدُ يَصْلُحُ وَلِيًّا في هذا الْعَقْدِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ
وَيَصْلُحُ قَابِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فيه صَلُحَ شَاهِدًا وَكَذَا يَجُوزُ
لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ هذه لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ
الِاجْتِهَادِ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ قَضَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَيَنْفُذُ
النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ أنه ضَعِيفٌ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ على
نَفْيِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْعَقْدُ خَلَا عن الْإِشْهَادِ في جَانِبِ الزَّوْجِ لِأَنَّ
شَهَادَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَنَقُولُ
شَهَادَةُ الْكَافِرِ إنْ لم تَصْلُحْ حُجَّةً لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ
فَتَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ على الْكَافِرِ لِأَنَّهَا إنَّمَا لَا تَصْلُحُ
حُجَّةً على الْمُسْلِمِ لِأَنَّهَا من بَابِ الْوَلَايَةِ وفي جَعْلِهَا حُجَّةً
على الْمُسْلِمِ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَاهَا
حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ ما كان فيه إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ وَهَذَا
جَائِزٌ على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا قَوْلَهُ ليس بِحُجَّةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
لَكِنَّ حُضُورَهُ على أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةً ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ
النِّكَاحِ فإنه يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عليه على ما
نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَلْ يَظْهَرُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ
الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ عِنْدَ الدَّعْوَى يُنْظَرُ في ذلك إنْ
كانت الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِلنِّكَاحِ على الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُ
مُنْكِرٌ لَا يَظْهَرُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذه شَهَادَةُ الْكَافِرِ على
الْمُسْلِمِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَإِنْ كان الزَّوْجُ هو الْمُدَّعِي
وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةً فَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ
سَوَاءً قال الشَّاهِدَانِ كان مَعَنَا عِنْدَ الْعَقْدِ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أو
لم يَقُولَا ذلك
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ
قال بَعْضُهُمْ يَظْهَرُ كما قَالَا
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَظْهَرُ سَوَاءً قَالَا كان مَعَنَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ
أو لم يَقُولَا ذلك وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ هذه شَهَادَةٌ قَامَتْ على نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى إثْبَاتِ
فِعْلِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُمَا إنْ شَهِدَا على نِكَاحٍ حَضَرَاهُ فَقَطْ لَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ هذه شَهَادَةٌ على نِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَهُ
وَإِنْ شَهِدَا على أَنَّهُمَا حَضَرَاهُ وَمَعَهُمَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ لَا
تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ هذه إنْ كانت شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْكَافِرِ
لَكِنْ فيها إثْبَاتُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ شَهَادَةً على مُسْلِمٍ فَلَا
تُقْبَلُ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى عَبْدًا في يَدِ ذِمِّيٍّ فَجَحَدَ الذِّمِّيُّ
دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ فَأَقَامَ الْمُسْلِمُ
شاهدين ( ( ( بشاهدين ) ) ) ذِمِّيَّيْنِ على أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ وَقَضَى له
بِهِ على هذا الذِّمِّيِّ قَاضٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كان هذا
شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْكَافِرِ لَكِنْ لَمَّا كان فيها إثْبَاتُ فِعْلِ
الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وهو قَضَاءُ الْقَاضِي لم تُقْبَلْ كَذَا هذا
وَجْهُ الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في
جَانِبِ الِاعْتِقَادِ أَنَّ الشَّهَادَةَ من بَابِ الْوَلَايَةِ وَلِلْكَافِرِ
وَلَايَةٌ على الْكَافِرِ وَلَوْ كان الشَّاهِدَانِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ
كَافِرَيْنِ وَوَقْتَ الْأَدَاءِ مُسْلِمَيْنِ فَشَهِدَا لِلزَّوْجِ فَعَلَى
أَصْلِهِمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لو كَانَا
في الْوَقْتَيْنِ جميعا كَافِرَيْنِ تُقْبَلُ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ
قال بَعْضُهُمْ تُقْبَلُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا تُقْبَلُ
فَمَنْ قال تُقْبَلُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَمَنْ قال لَا تُقْبَلُ
نَظَرَ إلَى وَقْتِ التَّحَمُّلِ
____________________
(2/254)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جميعا حتى لو
سَمِعَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أو سمع أَحَدُهُمَا كَلَامَ
أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَلَامَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ أَعْنِي حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ وَرُكْنُ
الْعَقْدِ هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيمَا لم يَسْمَعَا كَلَامَهُمَا لَا
تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ عند الرُّكْنِ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الرُّكْنِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْعَدَدُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ
لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ
وَقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ
وَأَمَّا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ
عِنْدَنَا فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْفَاسِقَيْنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ
وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ من ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ
يُرَجَّحُ فيه جَانِبُ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ وَالرُّجْحَانُ إنَّمَا
يَثْبُتُ بِالْعَدَالَةِ
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطٍ ثُمَّ اشْتِرَاطُ
أَصْلِ الشَّهَادَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُجْمَعِ عليها ثَبَتَتْ بِالدَّلِيلِ فَمَنْ
ادَّعَى شَرْطَ الْعَدَالَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا
يَقْدَحُ في وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِنَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في شَرَائِطِ
الْوَلَايَةِ وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ حَكَمَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ من
أَهْلِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ في أَهْلِيَّةِ
التَّحَمُّلِ وَإِنَّمَا يَقْدَحُ في الْأَدَاءِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ في
الْأَدَاءِ لَا في الِانْعِقَادِ وقد ظَهَرَ حتى لَا يَجِبُ على الْقَاضِي
الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ
في شَهَادَتِهِ وَكَذَا كَوْنُ الشَّاهِدِ غير مَحْدُودٍ في الْقَذْفِ ليس
بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ في
الْقَذْفِ غير أَنَّهُ إنْ كان قد تَابَ بعدما حُدَّ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان لم يَتُبْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا على التَّأْبِيدِ
خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ على
التَّأْبِيدِ يَقْدَحُ في الْأَدَاءِ لَا في التَّحَمُّلِ وَلِأَنَّهُ يَصْلُحُ
وَلِيًّا في النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَيَصِحُّ الْقَبُولُ منه بِنَفْسِهِ
وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ في الْجُمْلَةِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِحُضُورِهِ وَإِنْ حُدَّ ولم يَتُبْ أو لم يَتُبْ ولم يُحَدَّ يَنْعَقِدُ
عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ
وَكَذَا بَصَرُ الشَّاهِدِ ليس بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ
الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْعَمَى لَا يَقْدَحُ إلَّا في الْأَدَاءِ
لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بين الْمَشْهُودِ عليه وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ له أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ في وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا في قَبُولِ
النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَلَا في الْمَنْعِ من جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ في
الْجُمْلَةِ فَكَانَ من أَهْلِ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَكَذَا
ذُكُورَةُ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ رَجُلَيْنِ
وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ
وَكَذَا إسْلَامُ الشَّاهِدَيْنِ ليس بِشَرْطٍ في نِكَاحِ الْكَافِرَيْنِ فَيَنْعَقِدُ
نِكَاحُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ وَكَذَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ سَوَاءً اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ
أو اخْتَلَفَتْ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إسْلَامُ الشَّاهِدِ شَرْطٌ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ
الْكَافِرِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا
وَالْكَلَامُ في الْقَبُولِ نَذْكُرهُ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَنَتَكَلَّمُ
هَهُنَا في انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْمَرْوِيِّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَلَا عَدَالَةَ مع الْكُفْرِ
لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَأَفْحَشُهُ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ
عَدْلًا فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ
وَقَوْلُهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من النَّفْيِ
إثْبَاتٌ من حَيْثُ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَاهِدًا لِمَا
ذَكَرْنَا وَكَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا في النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ
نَفْسِهِ وَلَا قَابِلًا لِلْعَقْدِ بِنَفْسِهِ وَلَا جَوَازَ لِلْقَضَاءِ
بِشَهَادَتِهِ في الْجُمْلَةِ وَكَذَا كَوْنُ شَاهِدِ النِّكَاحِ مَقْبُولَ
الشَّهَادَةِ عليه ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ وَيَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ بِحُضُورِ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عليه أَصْلًا كما إذَا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ منها وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ في بَابِ النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى
صِيَانَتِهِ عن الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا
بِالْقَبُولِ فإذا لم يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ
وَلَنَا أَنَّ
____________________
(2/255)
الِاشْتِهَارَ
في النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا لَا لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عن
الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُضُورِ من غَيْرِ
قَبُولٍ على أَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِسَبَبِ حُضُورِهِمَا وَإِنْ
كان لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يَظْهَرُ وَيَشْتَهِرُ بِحُضُورِهِمَا
فإذا ظهور ( ( ( ظهر ) ) ) وَاشْتَهَرَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فيه بِالتَّسَامُعِ
فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ لَا منها أو ابْنَيْهَا
لَا منه يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ وَالْإِنْكَارِ
يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ شَهَادَتُهُمَا لِوَاحِدٍ من الْأَبَوَيْنِ لَا تُقْبَلُ
وَإِنْ وَقَعَتْ عليه تُقْبَلُ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبَوَيْهِ غَيْرُ
مَقْبُولَةٍ وَشَهَادَتَهُمَا عليه مَقْبُولَةٌ وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ
من رَجُلٍ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ وَهُمَا أَخَوَا الْمَرْأَةِ فَلَا يُشَكُّ
أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ وإذا وَقَعَ الْجُحُودُ بين الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كان
الْأَبُ مع الْجَاحِدِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كان تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ
هذه شَهَادَةٌ على الْأَبِ فَتُقْبَلُ وَإِنْ كان الْأَبُ مع الْمُدَّعِي
مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كان لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ
فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فقال إذَا كان الْأَبُ مع
الْمُنْكِرِ فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ على الْأَبِ فَتُقْبَلُ وإذا كان مع
الْمُدَّعِي فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ لِلْأَبِ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ كان من
الْأَبِ فَلَا تُقْبَلُ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَدَمِ
الْمَنْفَعَةِ فقال إنْ كان لِلْأَبِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْبَلُ سَوَاءً كان
مُدَّعِيًا أو مُنْكِرًا وَإِنْ لم يَكُنْ له مَنْفَعَةٌ تُقْبَلُ وَهَهُنَا لَا
مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فَتُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ نَظَرُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ
من الْقَبُولِ هو التُّهْمَةُ وَإِنَّهَا تَنْشَأُ عن النَّفْعِ
وَكَذَلِكَ هذا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا قال رَجُلٌ لِعَبْدِهِ إنْ كَلَّمَك
زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قال الْعَبْدُ كَلَّمَنِي زَيْدٌ وَأَنْكَرَ
الْمَوْلَى فَشَهِدَ لِلْعَبْدِ ابْنَا زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُمَا قد كَلَّمَهُ
وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا في قَوْلِ مُحَمَّدٍ سَوَاءً كان زَيْدٌ
يَدَّعِي الْكَلَامَ أو لَا يَدَّعِي لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِزَيْدٍ في
الْكَلَامِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ كان زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كان
لَا يَدَّعِي تُقْبَلُ وَكَذَلِكَ هذا الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ تَوَكَّلَ عن
غَيْرِهِ في عَقْدٍ ثُمَّ شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ على الْعَقْدِ فَإِنْ كان
حُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ
مُحَمَّدٍ سَوَاءً ادَّعَى الْوَكِيلُ أو لم يَدَّعِ لِأَنَّهُ ليس فيه مَنْفَعَةٌ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ كان يَدَّعِي لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كان مُنْكِرًا
تُقْبَلُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ هذه الشَّهَادَةِ وَهِيَ حُضُورُ الشُّهُودِ
فَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا
وَقْتُ وُجُودِ الْإِجَازَةِ حتى لو كان الْعَقْدُ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ
فَحَضَرُوا عَقْدَ الْإِجَازَةِ ولم يَحْضُرُوا عِنْدَ الْعَقْدِ لم تَجُزْ
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ
الرُّكْنِ وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ بَلْ هِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ في
الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ
بِالْعَقْدِ من حِينِ وُجُودِهِ فَتُعْتَبَرُ الشَّهَادَةُ في ذلك الْوَقْتِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُحَلَّلَةً وَهِيَ أَنْ لَا تَكُونَ
مُحَرَّمَةً على التَّأْبِيدِ فَإِنْ كانت مُحَرَّمَةً على التَّأْبِيدِ فَلَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إحْلَالٌ وَإِحْلَالُ الْمُحَرَّمِ على
التَّأْبِيدِ مُحَالٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ على التَّأْبِيدِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ بِالْمُصَاهَرَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ
بِالرَّضَاعِ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْقَرَابَةِ سَبْعُ فِرَقٍ
الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ
الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ قال اللَّهُ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
} الْآيَةَ
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عن تَحْرِيمِ هذه الْمَذْكُورَاتِ فَإِمَّا أَنْ
يُعْمَلَ بِحَقِيقَةِ هذا الْكَلَامِ حَقِيقَةً وَيُقَالُ بِحُرْمَةِ الْأَعْيَانِ
كما هو مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ مَنْعُ اللَّهِ تَعَالَى
الْأَعْيَانَ عن تَصَرُّفِنَا فيها بِإِخْرَاجِهَا من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا
لِذَلِكَ شَرْعًا وهو التَّصَرُّفُ الذي يُعْتَادُ إيقَاعُهُ في جِنْسِهَا وهو
الِاسْتِمْتَاعُ وَالنِّكَاحُ
وأما أَنْ يُضْمَرَ فيه الْفِعْلُ وهو الِاسْتِمْتَاعُ وَالنِّكَاحُ في تَحْرِيمِ
كل مِنْهُمَا تَحْرِيمَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ الِاسْتِمْتَاعُ وهو
الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لم يَكُنْ النِّكَاحُ مُفِيدًا لِخُلُوِّهِ عن
الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ تَحْرِيمًا
لِلنِّكَاحِ وإذا حُرِّمَ النِّكَاحُ وَأَنَّهُ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى
الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِمْتَاعُ هو الْمَقْصُودُ فَكَانَ تَحْرِيمُ
الْوَسِيلَةِ تَحْرِيمًا لِلْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ يُحَرَّمُ على الرَّجُلِ أُمُّهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ
وهو قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَتُحَرَّمُ عليه
جَدَّاتُهُ من قِبَلِ أبيه وَأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْنَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ
____________________
(2/256)
لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَهُنَّ أَوْلَادُ
الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فَكَانَتْ الْجَدَّاتُ أَقْرَبَ مِنْهُنَّ فَكَانَ
تَحْرِيمُهُنَّ تَحْرِيمًا لِلْجَدَّاتِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى كَتَحْرِيمِ
للتأفيف ( ( ( التأفيف ) ) ) نَصًّا يَكُونُ تَحْرِيمًا لِلشَّتْمِ وَالضَّرْبِ
دَلَالَةً وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وَتُحَرَّمُ عليه بَنَاتُهُ
بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { وَبَنَاتُكُمْ } سَوَاءً كانت بِنْتَهُ من
النِّكَاحِ أو من السِّفَاحِ لِعُمُومِ النَّصِّ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تُحَرَّمُ عليه الْبِنْتُ من السِّفَاحِ لِأَنَّ نَسَبَهَا
لم يَثْبُتْ منه فَلَا تَكُونُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ
نَصِّ الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ في قَوْله تَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ في
أَوْلَادِكُمْ }
وفي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ } كَذَا هَهُنَا
وَلِأَنَّا نَقُولُ بِنْتُ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِأُنْثَى مَخْلُوقَةٍ من مَائِهِ
حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ فيه فَكَانَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَا
تَجُوزُ الْإِضَافَةُ شَرْعًا إلَيْهِ لِمَا فيه من إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَهَذَا
لَا يَنْفِي النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا مَرَدَّ لها
وَهَكَذَا نَقُولُ في الأرث وَالنَّفَقَةِ أن النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ ثَابِتَةٌ
إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هُنَاكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ شَرْعًا لِجَرَيَانِ
الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ لِمَعْنًى
وَمَنْ ادَّعَى ذلك هَهُنَا فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَتُحَرَّمُ بَنَاتُ بَنَاتِهِ
وَبَنَاتُ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلْنَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّهُنَّ
أَقْرَبُ من بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَمِنْ الْأَخَوَاتِ أَيْضًا
لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ أَوْلَادُ أبيه وَهُنَّ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ فَكَانَ
ذِكْرُ الْحُرْمَةِ هُنَاكَ ذِكْرًا لِلْحُرْمَةِ هَهُنَا دَلَالَةً وَعَلَيْهِ
إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وَتُحَرَّمُ عليه أَخَوَاتُهُ وَعَمَّاتُهُ
وَخَالَاتُهُ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ } سَوَاءٌ كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ لِإِطْلَاقِ
اسْمِ الْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَيُحَرَّمُ عليه عَمَّةُ أبيه
وَخَالَتُهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ وَعَمَّةُ أُمِّهِ وَخَالَتُهُ
لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا عَمَّةُ جَدِّهِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ خَالَتِهِ وَخَالَتُهَا لِأَبٍ
وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ تُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَتُحَرَّمُ عليه بَنَاتُ
الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { وَبَنَاتُ الْأَخِ
وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } وَإِنْ سَفَلْنَ بِالْإِجْمَاعِ
وَمِنْهُمْ من قال إنَّ حُرْمَةَ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَنَحْوِهِنَّ
مِمَّنْ ذَكَرْنَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ أَيْضًا لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِنَّ
فإن جَدَّةَ الْإِنْسَانِ تُسَمَّى أُمًّا له وَبِنْتَ بِنْتِهِ تُسَمَّى بِنْتًا
له فَكَانَتْ حُرْمَتُهُنَّ ثَابِتَةً بِعَيْنِ النَّصِّ لَكِنْ هذا لَا يَصِحُّ
إلَّا على قَوْلِ من يقول يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ من
لَفْظٍ وَاحِدٍ إذَا لم يَكُنْ بين حُكْمَيْهِمَا مُنَافَاةٌ لِأَنَّ إطْلَاقَ
اسْمِ الْأُمِّ على الْجَدَّةِ وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْبِنْتِ على بِنْتِ الْبِنْتِ
بِطَرِيقِ الْمَجَازِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من نَفَى اسْمَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عنهما كان صَادِقًا في
النَّفْيِ وَهَذَا من الْعَلَامَاتِ التي يُفَرَّقُ بها بين الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ وقد ظَهَرَ أَمْرُ هذه التَّفْرِقَةِ في الشَّرْعِ أَيْضًا حتى أن من
قال لِرَجُلٍ لَسْتَ أنت بِابْنِ فُلَانٍ لجدة لَا يَصِيرُ قَاذِفًا له حتى لَا
يُؤْخَذَ بِالْحَدِّ وَلِأَنَّ نكح ( ( ( نكاح ) ) ) هَؤُلَاءِ يُفْضِي إلَى
قَطْعِ الرَّحِمِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو عن مُبَاسَطَاتٍ تَجْرِي بين
الزَّوْجَيْنِ عَادَةً وَبِسَبَبِهَا تَجْرِي الْخُشُونَةُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ
يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ فَكَانَ النِّكَاحُ سَبَبًا لِقَطْعِ الرَّحِمِ
مُفْضِيًا إلَيْهِ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ
حَرَامٌ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْفِرَقَ السَّبْعِ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ
مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ وَيَخْتَصُّ الْأُمَّهَاتُ بِمَعْنًى
آخَرَ وهو أَنَّ احْتِرَامَ الْأُمِّ وَتَعْظِيمَهَا وَاجِبٌ وَلِهَذَا أُمِرَ
الْوَلَدُ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ
لَهُمَا وَالْقَوْلِ الْكَرِيمِ ونهى عن التَّأْفِيفِ لَهُمَا فَلَوْ جَازَ
النِّكَاحُ وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجِ وَطَاعَتُهُ
وَخِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ عليها لَلَزِمَهَا ذلك وَأَنَّهُ يَنْفِي
الِاحْتِرَامَ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَتَحِلُّ له بِنْتُ الْعَمَّةِ
وَالْخَالَةِ وَبِنْتُ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
الْمُحَرَّمَاتِ في آيَةِ التَّحْرِيمِ
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَحَلَّ ما وَرَاءَ ذلك بِقَوْلِهِ
{ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ
وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لم يُذْكَرْنَ في الْمُحَرَّمَاتِ فَكُنَّ مِمَّا
وَرَاءَ ذلك فَكُنَّ مُحَلَّلَاتٍ
وَكَذَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ ثُمَّ خُصَّ عنها
الْمُحَرَّمَاتُ الْمَذْكُورَاتُ في آيَةِ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ غَيْرُهُنَّ
تَحْتَ الْعُمُومِ وقد وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ في الْبَابِ وهو قَوْله تَعَالَى { يا
أَيُّهَا النبي إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَكَ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل {
وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ
اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } الْآيَةَ
وَالْأَصْلُ فِيمَا يَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يَثْبُتَ
لِأُمَّتِهِ وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعُ
فِرَقٍ الْفِرْقَةُ الْأُولَى أُمُّ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا من قِبَلِ أَبِيهَا
وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ فَيُحَرَّمُ على الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ بِنَصِّ
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ }
مَعْطُوفًا
____________________
(2/257)
على
قَوْلِهِ عز وجل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } سَوَاءً
كان دخل بِزَوْجَتِهِ أو كان لم يَدْخُلْ بها عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ وَدَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ
وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ أن أُمَّ الزَّوْجَةِ لَا تُحَرَّمُ على الزَّوْجِ
بِنَفْسِ الْعَقْدِ ما لم يَدْخُلْ بِبِنْتِهَا حتى أن من تَزَوَّجَ امْرَأَةً
ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها أو مَاتَتْ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
أُمَّهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بن
حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ
وروى عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ قَوْلِهِمْ
وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن عَلِيٍّ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ
وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَنَّهُ فَصَلَ بين الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ قال في
الطَّلَاقِ مِثْلُ قَوْلِهِمَا وفي الْمَوْتِ مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ وَجَعَلَ
الْمَوْتَ كَالدُّخُولِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ في حَقِّ الْمَهْرِ
وَكَذَا في حَقِّ التَّحْرِيمِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَعَطَفَ رَبَائِبَ النِّسَاءِ
عَلَيْهِنَّ في التَّحْرِيمِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ثُمَّ عَقَّبَ الْجُمْلَتَيْنِ
بِشَرْطِ الدُّخُولِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ وَالِاسْتِثْنَاءَ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِيبَ جُمَلٍ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا على بَعْضٍ
بِحَرْفِ الْعَطْفِ كُلُّ جُمْلَةٍ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْكُلِّ لَا إلَى ما يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَنْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ
طَالِقٌ وَعَلَيْهِ حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ كَذَا أو قال إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذَا كَذَلِكَ فَيَنْصَرِفُ شَرْطُ الدُّخُولِ إلَى
الْجُمْلَتَيْنِ جميعا فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِدُونِهِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ
مُنْفَصِلٌ عن الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ إذْ هو
مَعْطُوفٌ على ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ من قَوْلِهِ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ }
إلَى قَوْلِهِ عز وجل { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ
الْمَعْطُوفَ عليه في خَبَرِهِ وَيَكُونُ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي
كَقَوْلِهِ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعْنَاهُ جَاءَنِي عَمْرٌو فَكَانَ مَعْنَى
قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ عن شَرْطِ الدُّخُولِ فَمَنْ ادَّعَى
أَنَّ الدُّخُولَ الْمَذْكُورَ في آخِرِ الْكَلِمَاتِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْكُلِّ
فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وروى عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا نَكَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل أَنْ
يَدْخُلَ بها فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا وَلَيْسَ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
الْأُمَّ وَهَذَا نَصٌّ في الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَعَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قال قال رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا
قبل أَنْ يَدْخُلَ بها أو مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
بِنْتَهَا وَأَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ فَطَلَّقَهَا قبل أَنْ يَدْخُلَ
بها أو مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَحِلُّ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا وَهَذَا
نَصٌّ في الْمَسْأَلَتَيْنِ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُ قال في هذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَبْهَمُوا ما أَبْهَمَ اللَّهُ
تَعَالَى أَيْ أَطْلَقُوا ما أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا روى عن عِمْرَانَ
بن حُصَيْنٍ أَنَّهُ قال الْآيَةُ مُبْهَمَةٌ أَيْ مُطْلَقَةٌ لَا يُفْصَلُ بين
الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ وما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ
رُوِيَ الرُّجُوعُ عنه فإنه روى أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ في الْكُوفَةِ فلما أتى
الْمَدِينَةَ وَلَقِيَ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَذَاكَرَهُمْ
رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُرْمَةِ حتى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أتى الْكُوفَةَ
نهى من كان أَفْتَاهُ بِذَلِكَ فَقِيلَ إنَّهَا وَلَدَتْ أَوْلَادًا فقال إنَّهَا
وَإِنْ وَلَدَتْ وَلِأَنَّ هذا النِّكَاحَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ
لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ بِنْتَهَا وَتَزَوَّجَ بِأُمِّهَا حَمَلَهَا ذلك على
الضَّغِينَةِ التي هِيَ سَبَبُ الْقَطِيعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَقَطْعُ
الرَّحِمِ حَرَامٌ فما أَفْضَى إلَيْهِ أن يَكُونُ حَرَامًا لِهَذَا الْمَعْنَى
حُرِّمَ الْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُمِّهَا
وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
بِخِلَافِ جَانِبِ الْأُمِّ حَيْثُ لَا تُحَرَّمُ بِنْتُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ
على الْأُمِّ لِأَنَّ إبَاحَةَ النِّكَاحِ هُنَاكَ لَا تُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ
لِأَنَّ الْأُمَّ في ظَاهِرِ الْعَادَاتِ تُؤْثِرُ بِنْتَهَا على نَفْسِهَا في
الْحُظُوظِ وَالْحُقُوقِ وَالْبِنْتُ لَا تُؤْثِرُ أُمَّهَا على نَفْسِهَا
مَعْلُومٌ ذلك بِالْعَادَةِ وإذا جاء الدُّخُولُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ لِأَنَّهُ
تَأَكَّدَتْ مَوَدَّتُهَا لِاسْتِيفَائِهَا حَظَّهَا فَتَلْحَقُهَا الْغَضَاضَةُ
فَيُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ
____________________
(2/258)
تَثْبُتُ
بِالدُّخُولِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْدُ على الْبِنْتِ سَبَبُ الدُّخُولُ بها
وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَلِهَذَا
تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ في مَنْكُوحَةِ الْأَبِ وَحَلِيلَةِ
الِابْنِ كان يَنْبَغِي أَنْ تُحَرَّمَ الرَّبِيبَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ على
الْأُمِّ إلَّا أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ هُنَاكَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ
الْحُكْمُ في الْآيَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ في آخِرِ كَلِمَاتٍ مَعْطُوفٌ
بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى مُلْحَقٌ
بِالْكُلِّ فَنَقُولُ هذا الْأَصْلُ مُسَلَّمٌ في الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرْطِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فإما في الصِّفَةِ الدَّاخِلَةِ
على الْمَذْكُورِ في آخِرِ الْكَلَامِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ يُقْتَصَرُ على ما يَلِيهِ
فَإِنَّكَ تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَمُحَمَّدٌ الْعَالِمُ فَتَقْتَصِرُ صِفَةِ
الْعِلْمِ على الذي يَلِيهِ دُونَ زَيْدٍ وَقَوْلُهُ عز وجل { اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَصَفَ إيَّاهُنَّ بِالدُّخُولِ بِهِنَّ لَا شَرَطَ من
ادَّعَى إلْحَاقَ الْوَصْفِ بِالشَّرْطِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَيَلْحَقُ الْكُلَّ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ لَا يَكُونَ فَيَقْتَصِرُ على ما يَلِيه فَلَا يُلْحَقُ بِالشَّكِّ
وَالِاحْتِمَالِ
وإذا وَقَعَ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ فيه فَالْقَوْلُ لِمَا فيه الْحُرْمَةُ
أَوْلَى احْتِيَاطًا على أَنَّ هذه الصِّفَةَ إنْ كانت في مَعْنَى الشَّرْطِ
لَكِنَّ اللَّفْظَ مَتَى قُرِنَ بِهِ شَرْطٌ أو صِفَةٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ
يَقْتَضِي وُجُودَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ إمَّا لَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ عِنْدَ
عَدَمِهِ بَلْ عَدَمُهُ وَوُجُودُهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ يَكُونُ
مَوْقُوفًا على قِيَامِ الدَّلِيلِ وفي نَفْسِ هذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ما
يَدُلُّ عليه فإنه قال عز وجل { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من
نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لم تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }
وَلَوْ كان التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ نَافِيًا الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَوْصُوفِ
لَكَانَ ذلك الْقَدْرُ كَافِيًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِحُرْمَةِ الْأُمِّ عِنْدَ
الدُّخُولِ بِالرَّبِيبَةِ وَبِحُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ
بِالْأُمِّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَيْسَ فيها نَفْيُ الْحُرْمَةِ
عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ وَلَا إثْبَاتُهَا فَيَقِفُ على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد
قام الدَّلِيلُ على حُرْمَةِ الْأُمِّ بِدُونِ الدُّخُولِ بِبِنْتِهَا وهو ما
ذَكَرْنَا فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ولم يَقُمْ الدَّلِيلُ على حُرْمَةِ الريبية ( (
( الربيبة ) ) ) قبل الدُّخُولِ بِالْأُمِّ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَاَللَّهُ
عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا جَدَّاتُ الزَّوْجَةِ من قِبَلِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا فَإِنَّهَا عُرِفَتْ
حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى في الْأُمَّهَاتِ
لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا على قَوْلِ من يُجِيزُ اشْتِمَالَ اللَّفْظِ
الْوَاحِدِ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَ عَدَمِ التَّنَافِي بين
حُكْمَيْهِمَا على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ إن ( ( ( إنما ) ) ) تُحَرَّمُ الزَّوْجَةُ
وَجَدَّاتُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كان صَحِيحًا فَأَمَّا إذَا كان فَاسِدًا
فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْعَقْدِ بَلْ بِالْوَطْءِ أو ما يَقُومُ مَقَامَهُ
من الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ على ما نَذْكُرُ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ على الزَّوْجِ أُمَّ زَوْجَتِهِ مُضَافًا
إلَيْهِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَلَا
تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ فَبِنْتُ الزَّوْجَةِ وَبَنَاتُهَا
وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنِيهَا وَإِنْ سَفَلْنَ أَمَّا بِنْتُ زَوْجَتِهِ
فَتُحَرَّمُ عليه بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إذَا كان دخل بِزَوْجَتِهِ فَإِنْ
لم يَكُنْ دخل بها فَلَا تُحَرَّمُ لِقَوْلِهِ { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في
حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لم تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وَسَوَاءٌ كانت بِنْتُ زَوْجَتِهِ
في حِجْرِهِ أو لَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس لَا تُحَرَّمُ عليه إلَّا أَنْ تَكُونَ في حِجْرِهِ وَيُرْوَى
ذلك عن عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه نَصًّا لِظَاهِرِ الْآيَةِ قَوْله
تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ } حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل
بِنْتَ الزَّوْجَةِ وَبِوَصْفِ كَوْنِهَا في حِجْرِ زَوْجٍ فَيَتَقَيَّدُ
التَّحْرِيمُ بهذا الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهَا إلَى
الزَّوْجَةِ يُقَيِّدُ التَّحْرِيمَ بِهِ حتى لَا يُحَرَّمُ على رَبِيبَتِهِ
غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ التَّنْصِيصَ على حُكْمِ الْمَوْصُوفِ لَا يَدُلُّ على أَنَّ
الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَافِهِ إذْ التَّنْصِيصُ لَا يَدُلُّ على
التَّخْصِيصِ فَتَثْبُتُ حُرْمَةُ بِنْتِ زَوْجَةِ الرَّجُلِ التي دخل بِأُمِّهَا
وَهِيَ في حِجْرِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وإذا لم تَكُنْ في حِجْرِهِ تَثْبُتُ
حُرْمَتُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو كَوْنُ نِكَاحِهَا مُفْضِيًا إلَى قَطِيعَةِ
الرَّحِمِ سَوَاءٌ كانت في حِجْرِهِ أو لم تَكُنْ على ما بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْحِجْرَ بِنَاءً على أَنَّ
عُرْفَ الناس وَعَادَتَهُمْ أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَكُونُ في حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا
عَادَةً فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ كما في قَوْلِهِ عز وجل {
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَقَوْلِهِ عز وجل { فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } وَنَحْوِ ذلك
وَأَمَّا بَنَاتُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ
فَتَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى
الْمَعْقُولِ لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا على قَوْلِ من يَرَى الْجَمْعَ بين
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في لَفْظٍ وَاحِدٍ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا
4 فَصْلٌ وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ فَحَلِيلَةُ الِابْنِ من الصُّلْبِ
وَابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ وَإِنْ سَفَلَ فَتُحَرَّمُ على الرَّجُلِ
حَلِيلَةُ ابْنِهِ من صُلْبِهِ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَحَلَائِلُ
أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ من أَصْلَابِكُمْ } وَذِكْرُ الصُّلْبِ جَازَ أَنْ
يَكُونَ
____________________
(2/259)
لِبَيَانِ
الْخَاصِّيَّةِ وَإِنْ لم يَكُنْ الِابْنُ إلَّا من الصُّلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } وَإِنْ كان الطَّائِرُ لَا يَطِيرُ إلَّا
بِجَنَاحَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْقِسْمَةِ وَالتَّنْوِيعِ لِأَنَّ
الِابْنَ قد يَكُونُ من الصُّلْبِ وقد يَكُونُ من الرَّضَاعِ وقد يَكُونُ
بِالتَّبَنِّي أَيْضًا على ما ذُكِرَ في سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةَ زَيْدِ بن حَارِثَةَ بعدما
طَلَّقَهَا زَيْدٌ وكان ابْنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِالتَّبَنِّي فَعَابَهُ الْمُنَافِقُونَ على ذلك وَقَالُوا أنه تَزَوَّجَ
بِحَلِيلَةِ ابْنِهِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ
الَّذِينَ من أَصْلَابِكُمْ }
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فلما قَضَى زَيْدٌ منها وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ على الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا
قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } وَلِأَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ لو لم تُحَرَّمْ على
الْأَبِ فإذا طَلَّقَهَا الِابْنُ رُبَّمَا يَنْدَمُ على ذلك وَيُرِيدُ الْعَوْدَ
إلَيْهَا فإذا تَزَوَّجَهَا أَبُوهُ أَوْرَثَ ذلك الضَّغِينَةَ بَيْنَهُمَا
وَالضَّغِينَةُ تُوَرِّثُ الْقَطِيعَةَ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَيَجِبُ أَنْ
يُحَرَّمَ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْحَرَامِ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ مَنْكُوحَةُ
الْأَبِ على الِابْنِ كَذَا هذا سَوَاءٌ كان دخل بها الِابْنُ أو لم يَدْخُلْ بها
لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ عن شَرْطِ الدُّخُولِ وَالْمَعْنَى لَا يُوجِبُ
الْفَصْلَ أَيْضًا على ما ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ إلَى الدُّخُولِ
وَالسَّبَبُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ على ما مَرَّ
وَحَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ
وَإِنْ سَفَلَ تُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ أو بِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا
بِعَيْنِ النَّصِّ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ يُسَمَّى ابْنًا مَجَازًا لَا حَقِيقَةً
فإذا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً لم يَبْقَ الْمَجَازُ مُرَادًا لنا إلَّا على
قَوْلِ من يقول إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا من لَفْظٍ وَاحِدٍ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ فَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ وَأَجْدَادِهِ من
قِبَلِ أبيه وَإِنْ عَلَوْا أَمَّا مَنْكُوحَةُ الْأَبِ فَتُحَرَّمُ بِالنَّصِّ
وهو قَوْلُهُ { وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ من النِّسَاءِ }
وَالنِّكَاحُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ وَسَوَاءٌ كان الْأَبُ دخل بها أو
لَا لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ على الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ فَتُحَرَّمُ
بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على ما نَذْكُرُ وَلِأَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَةِ الْأَبِ
يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّهُ إذَا فَارَقَهَا أَبُوهُ لَعَلَّهُ
يَنْدَمُ فَيُرِيدُ أَنْ يُعِيدَهَا فإذا نَكَحَهَا الِابْنُ أَوْحَشَهُ ذلك
وَأَوْرَثَ الضَّغِينَةَ وَذَلِكَ سَبَبُ التَّبَاعُدِ بَيْنَهُمَا وهو تَفْسِيرُ
قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَكَانَ النِّكَاحُ سِرَّ سَبَبِ
الْحَرَامِ وَأَنَّهُ تَنَاقُضٌ فَيُحَرَّمُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ الذي هو أَثَرُ
السَّفَهِ وَالْجَهْلِ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عنهما
وَأَمَّا مَنْكُوحَةُ أَجْدَادِهِ فَتُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا ذَكَرْنَا
من الْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا على قَوْلِ من يَرَى الْجَمْعَ بَيْن
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في لَفْظٍ وَاحِدٍ عِنْدَ عَدَمِ النَّافِي ثُمَّ
حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَتَثْبُتُ بِالْوَطْءِ
الْحَلَالِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حتى أن من وطىء جَارِيَتَهُ تُحَرَّمُ عليها
أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَجَدَّاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَإِنْ
سَفَلْنَ وَتُحَرَّمُ هِيَ على أَبُ الواطىء وَابْنِهِ وَعَلَى أَجْدَادِ
أَجْدَادِ الواطىء وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا
وَكَذَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا بِالْوَطْءِ عن
شُبْهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَتَثْبُتُ بِاللَّمْسِ فِيهِمَا عن شَهْوَةٍ
وَبِالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ عِنْدَنَا وَلَا تَثْبُتُ بِالنَّظَرِ
إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِشَهْوَةٍ وَلَا بِمَسِّ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ إلَّا
عن شَهْوَةٍ بِلَا خِلَافٍ وَتَفْسِيرُ الشَّهْوَةِ هِيَ أَنْ يَشْتَهِيَ
بِقَلْبِهِ وَيُعْرَفُ ذلك بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ لَا وُقُوفَ عليه
لِغَيْرِهِ وَتَحَرُّكُ الْآلَةِ وَانْتِشَارُهَا هل هو شَرْطُ تَحْقِيقِ
الشَّهْوَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ شَرْطٌ
وقال بَعْضُهُمْ ليس بِشَرْطٍ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ عن
شَهْوَةٍ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذلك كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَنَحْوِ ذلك
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالنَّظَرِ وَلَهُ في
الْمَسِّ قَوْلَانِ وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَالْمَسِّ
وَالنَّظَرِ بِدُونِ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ شبهته ( ( ( وشبهته ) ) ) وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالزِّنَا فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ
بِالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِدُونِ الْمِلْكِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في
حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } حَرَّمَ الرَّبَائِبَ
الْمُضَافَةَ
____________________
(2/260)
إلَى
نِسَائِنَا الْمَدْخُولَاتِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُضَافَةً إلَيْنَا
بِالنِّكَاحِ فَكَانَ الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ شَرْطَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَهَذَا
دُخُولٌ بِلَا نِكَاحٍ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَا تَثْبُتُ
بِالنَّظَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ ليس بِمَعْنَى الدُّخُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا
يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ في الْإِحْرَامِ وَكَذَلِكَ
اللَّمْسُ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يَثْبُتُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بها من وَجْهٍ
فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ وَلِهَذَا حُرِّمَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ كما حُرِّمَ
الْوَطْءُ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم سُئِلَ عن الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا أو
يَتْبَعُ الْبِنْتَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا فقال لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ
الْحَلَالَ إنَّمَا يُحَرِّمُ ما كان نِكَاحًا حَلَالًا وَالتَّحْرِيمُ بِالزِّنَا
تَحْرِيمُ الْحَرَامِ الْحَلَالَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ من النِّسَاءِ }
وَالنِّكَاحُ يُسْتَعْمَلُ في الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ حَقِيقَةً لَهُمَا على الِاشْتِرَاكِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً
لِأَحَدِهِمَا مَجَازًا لِلْآخَرِ وَكَيْفَ ما كان يَجِبُ الْقَوْلُ
بِتَحْرِيمِهِمَا جميعا إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُ قال عز وجل {
وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ من النِّسَاءِ } عَقْدًا ووطأ ( ( ( ووطئا
) ) )
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من نَظَرَ إلَى
فَرْجِ امْرَأَةٍ لم تَحِلَّ له أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا
وَرُوِيَ حُرِّمَتْ عليه أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
لِأَنَّهُ ليس فيه ذِكْرُ النِّكَاحِ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال مَلْعُونٌ من نَظَرَ إلَى فَرْجِ
امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَلَوْ لم يَكُنْ النَّظَرُ الْأَوَّلُ مُحَرِّمًا
لِلثَّانِي وهو النَّظَرُ إلَى فَرْجِ ابْنَتِهَا لم يَلْحَقْهُ اللَّعْنُ لِأَنَّ
النَّظَرَ إلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا مُبَاحٌ
فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ فإذا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ
فَبِالدُّخُولِ أَوْلَى وَكَذَا بِاللَّمْسِ لِأَنَّ النَّظَرَ دُونَ اللَّمْسِ في
تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالْإِنْزَالِ عن الْمَسِّ وَلَا
يَفْسُدُ بِالْإِنْزَالِ عن النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وفي الْحَجِّ يَلْزَمُهُ
بِالْمَسِّ عن شَهْوَةٍ الدَّمُ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ فلما ثَبَتَتْ
الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ فَبِالْمَسِّ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا
تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْجِمَاعِ إقَامَةً
لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ كما أُقِيمَ النَّوْمُ
الْمُفْضِي إلَى الْحَدَثِ مَقَامَ الْحَدَثِ في إنقاض ( ( ( انتقاض ) ) )
الطَّهَارَةِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ في
التَّسَبُّبِ وَالدَّعْوَةُ أَبْلَغُ من النِّكَاحِ فَكَانَ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ
الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ الْحَلَالَ إنَّمَا كان مُحَرِّمًا لِلْبِنْتِ
بِمَعْنَى هو مَوْجُودٌ هُنَا وهو أَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بين الْمَرْأَةِ
وَبِنْتِهَا في الْوَطْءِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ وَطْءَ إحْدَاهُمَا
يُذَكِّرُهُ وَطْءَ الْأُخْرَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَاضٍ وَطَرَهُ مِنْهُمَا
جميعا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هذا مَعْنَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
مَلْعُونٌ من نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى
مَوْجُودٌ في الْوَطْءِ الْحَرَامِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا حُجَّةَ له فيها بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عليه
لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُرْمَةَ رَبِيبَتِهِ التي هِيَ بِنْتُ امْرَأَتِهِ التي دخل
بها مُطْلَقًا سَوَاءً دخل بها بَعْدَ النِّكَاحِ أو قَبْلَهُ بِالزِّنَا وَاسْمُ
الدُّخُولِ يَقَعُ على الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أو يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ الدُّخُولَ بَعْدَ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ
فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ وإذا اُحْتُمِلَ هذا
وَاحْتُمِلَ هذا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مع الِاحْتِمَالِ على أَنَّ في
هذه الْآيَةِ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ بِالدُّخُولِ في النِّكَاحِ وَهَذَا يَنْفِي الْحُرْمَةَ
بِالدُّخُولِ بِلَا نِكَاحٍ فَكَانَ هذا احْتِجَاجًا بِالْمَسْكُوتِ عنه وأنه لَا
يَصِحُّ على أَنَّ في هذه الْآيَةِ حُجَّتَنَا على إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ
بِالْمَسِّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الدُّخُولَ بِهِنَّ وَحَقِيقَةُ الدُّخُولِ
بِالشَّيْءِ عِبَارَةٌ عن إدْخَالِهِ في الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ فَكَانَ
الدُّخُولُ بها هو إدْخَالُهَا في الْحِصْنِ وَذَلِكَ بِأَخْذِ يَدِهَا أو شَيْءٍ
منها لِيَكُونَ هو الدَّاخِلُ بها فَأَمَّا بِدُونِ ذلك فَالْمَرْأَةُ هِيَ
الدَّاخِلَةُ بِنَفْسِهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمَسَّ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ أو
يُحْتَمَلُ الْوَطْءُ وَيُحْتَمَلُ الْمَسُّ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ
احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ ضَعِيفٌ ثُمَّ هو خَبَرٌ وَاحِدٌ
مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ
فيه هو الِاتِّبَاعُ لَا الْوَطْءُ وَاتِّبَاعُهَا أَنْ يُرَاوِدَهَا عن نَفْسِهَا
وَذَا لَا يُحَرِّمُ عِنْدَنَا إذْ الْمُحَرِّمُ هو الْوَطْءُ وَلَا ذِكْرَ له في
الحديث وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ وهو الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعَةِ فَمَوْضِعُ
بَيَانِهَا كِتَابُ الرَّضَاعِ فَكُلُّ من حَرُمَ لِقَرَابَةٍ من الْفِرَقِ
السَّبْعِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ بِالرَّضَاعَةِ إلَّا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ بَيَانَ إبْلَاغٍ
وَبَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ حَيْثُ لم يذكر على
التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ إلَّا الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من
الرَّضَاعَةِ } لِيُعْلَمَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ
____________________
(2/261)
بِطَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِدْلَالِ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما
يَحْرُمُ من النَّسَبِ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا وَكَذَا كُلُّ من يَحْرُمُ
مِمَّنْ ذَكَرْنَا من الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ بِالْمُصَاهَرَةِ يَحْرُمُ
بِالرَّضَاعِ فَيَحْرُمُ على الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَبِنْتُهَا من
الرَّضَاعِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كان صَحِيحًا
وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْإِحْرَامِ
وَكَذَا جَدَّاتُ الزَّوْجَةِ لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتُ
بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ من الرَّضَاعِ وَكَذَا
يَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِ الرَّضَاعِ وَإِنْ سَفَلَ على
أبي الرَّضَاعِ وَأَبِي أبيه وَتَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أبي الرَّضَاعِ وَأَبِي أبيه
وَإِنْ عَلَا على ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَكَذَا
يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا من الرَّضَاعِ على الواطىء
وَكَذَا جَدَّاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ على أبي
الواطىء وَابْنِهِ من الرَّضَاعِ وَكَذَا على أَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَى
أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا سَوَاءٌ كان الْوَطْءُ حَلَالًا بِأَنْ كان
بملك ( ( ( يملك ) ) ) الْيَمِينَ أو كان الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ
نِكَاحٍ أو كان زِنًا
وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ بِسَبَبِ النَّسَبِ
وَسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ إلَّا في مَسْأَلَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا حُكْمُ
الْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ نَذْكُرُهُمَا في كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقَعَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ التي يَتَزَوَّجُهَا
جَمْعًا بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ وَلَا بين أَكْثَرَ من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ في
الْأَجْنَبِيَّاتِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْجَمْعِ أَنَّ الْجَمْعَ في
الْأَصْلِ نَوْعَانِ جَمْعٌ بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ وَجَمْعٌ بين
الْأَجْنَبِيَّاتِ أَمَّا الْجَمْعُ بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا
جَمْعٌ في النِّكَاحِ وَجَمْعٌ في الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
أَمَّا الْجَمْعُ بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ في النِّكَاحِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ
في أَنَّ الْجَمْعَ بين الْأُخْتَيْنِ في النِّكَاحِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ عز وجل {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي
إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بين الضَّرَّتَيْنِ ظَاهِرَةٌ
وَأَنَّهَا تُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ حَرَامٌ
فَكَذَا الْمُفْضِي وَكَذَا الْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا لِمَا قُلْنَا
بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ قَرَابَةَ الولادة ( ( ( الولاد ) ) ) مُفْتَرَضَةُ
الْوَصْلِ بِلَا خِلَافٍ
وَاخْتُلِفَ في الْجَمْعِ بين ذَوَاتَيْ رَحِمٍ مَحْرَمٍ سِوَى هَذَيْنِ
الْجَمْعَيْنِ بين امْرَأَتَيْنِ لو كانت إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَا يَجُوزُ له
نِكَاحُ الْأُخْرَى من الْجَانِبَيْنِ جميعا أَيَّتُهُمَا كانت غير عَيْنٍ
كَالْجَمْعِ بين امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا وَالْجَمْعِ بين امْرَأَةٍ وَخَالَتِهَا
وَنَحْوِ ذلك
قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ
وقال عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ الْجَمْعُ فِيمَا سِوَى الْأُخْتَيْنِ وَسِوَى
الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا ليس بِحَرَامٍ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ذَكَرَ
الْمُحَرَّمَاتِ وَذَكَرَ فِيمَا حَرَّمَ الْجَمْعَ بين الْأُخْتَيْنِ وَأَحَلَّ
ما وَرَاءَ ذلك وَالْجَمْعُ فِيمَا سِوَى الْأُخْتَيْنِ لم يَدْخُلْ في
التَّحْرِيمِ فَكَانَ دَاخِلًا في الْإِحْلَالِ إلَّا أَنَّ الْجَمْعَ بين
الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا حُرِّمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ قَرَابَةَ
الْوِلَادِ أَقْوَى فَالنَّصُّ الْوَارِدُ ثَمَّةَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا من
طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على
عَمَّتِهَا وَلَا على خَالَتِهَا وَلَا على ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا على ابْنَةِ
أُخْتِهَا وزاد في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا الصُّغْرَى على الْكُبْرَى وَلَا
الْكُبْرَى على الصُّغْرَى الحديث
أَخْبَرَ أَنَّ من تَزَوَّجَ عَمَّةً ثُمَّ بِنْتَ أَخِيهَا أو خَالَةً ثُمَّ
بِنْتَ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ
الْأَخِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعَمَّةَ أو بِنْتَ الْأُخْتِ أَوَّلًا ثُمَّ الْخَالَةَ
لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِئَلَّا يُشْكِلَ أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَنِكَاحِ الْأَمَةِ
على الْحُرَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ على الْأَمَةِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بين ذَوَاتَيْ
مَحْرَمٍ في النِّكَاحِ سَبَبٌ لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الضَّرَّتَيْنِ
يَتَنَازَعَانِ وَيَخْتَلِفَانِ وَلَا يَأْتَلِفَانِ هذا أَمْرٌ مَعْلُومٌ
بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَأَنَّهُ
حَرَامٌ وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ فَيَحْرُمُ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَيْهِ وَإِلَى هذا
الْمَعْنَى أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في آخِرِ الحديث فِيمَا روى أَنَّهُ
قال إنَّكُمْ لو فَعَلْتُمْ ذلك لَقَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ
وَرُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
____________________
(2/262)
فَإِنَّهُنَّ
يَتَقَاطَعْنَ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَطِيعَةَ وَرُوِيَ عن أَنَسٍ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يَكْرَهُونَ الْجَمْعَ بين الْقَرَابَةِ في النِّكَاحِ وَقَالُوا إنَّهُ يُوَرِّثُ
الضَّغَائِنَ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ الْجَمْعَ
بين بِنْتَيْ عَمَّيْنِ وقال لَا أُحَرِّمُ ذلك لَكِنْ أَكْرَهُهُ أَمَّا
الْكَرَاهَةُ فَلِمَكَانِ الْقَطِيعَةِ وَأَمَّا عَدَمُ الْحُرْمَةِ فَلِأَنَّ
الْقَرَابَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِمُفْتَرَضَةِ الْوَصْلِ
أَمَّا الْآيَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أَيْ ما وَرَاءَ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا مِمَّا
قد حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
الذي هو وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ على أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ
مَعْلُولَةٌ بِقَطْعِ الرَّحِمِ وَالْجَمْعُ هَهُنَا يُفْضِي إلَى قَطْعِ
الرَّحِمِ فَكَانَتْ حُرْمَةً ثَابِتَةً بِدَلَالَةِ النَّصِّ فلم يَكُنْ ما
وَرَاءَ ما حُرِّمَ في آيَةِ التَّحْرِيمِ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بين امْرَأَةٍ
وَبِنْتِ زَوْجٍ كان لها من قَبْلُ أو بين امْرَأَةٍ وَزَوْجَةٍ كانت لِأَبِيهَا
وَهُمَا وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا رَحِمَ بَيْنَهُمَا فلم يُوجَدْ الْجَمْعُ بين
ذَوَاتَيْ رَحِمٍ
وقال زُفَرُ وابن أبي لَيْلَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبِنْتَ لو كانت رَجُلًا
لَكَانَ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ أبيه
فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كما لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْأُخْتَيْنِ
وأنا نَقُولُ الشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً من الْجَانِبَيْنِ
جميعا وهو أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَيَّتُهُمَا كانت بِحَيْثُ لو
قُدِّرَتْ رَجُلًا لَكَانَ لَا يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأُخْرَى ولم يُوجَدْ هذا
الشَّرْطُ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا لو كانت رَجُلًا لَكَانَ يَجُوزُ له أَنْ
يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْأُخْرَى لَا تَكُونُ بِنْتَ الزَّوْجِ فلم
تَكُنْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً من الْجَانِبَيْنِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
كَالْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ وَلَوْ تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ مَعًا فَسَدَ
نِكَاحُهُمَا لِأَنَّ نِكَاحَهُمَا حَصَلَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا في النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ
إحْدَاهُمَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِأَوْلَى من الْأُخْرَى فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمَا ثُمَّ إنْ كان قبل الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهُمَا وَلَا عِدَّةَ
عَلَيْهِمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا حُكْمَ له قبل الدُّخُولِ وَإِنْ
كان قد دخل بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعُقْرُ وَعَلَيْهِمَا
الْعِدَّةُ لِأَنَّ هذا حُكْمُ الدُّخُولِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ على ما
نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ
وَإِنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى وَفَسَدَ
نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَلَا يَفْسُدُ نِكَاحُ الْأُولَى لِفَسَادِ نِكَاحِ
الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ حَصَلَ بِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ فَاقْتَصَرَ
الْفَسَادُ عليه وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كان لم
يَدْخُلْ بها فَلَا مَهْرَ وَلَا عِدَّةَ وَإِنْ كان دخل بها فَلَهَا الْمَهْرُ
وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَطَأَ الْأُولَى
ما لم تَنْقَضِ عِدَّةُ الثَّانِيَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ في عُقْدَتَيْنِ لَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أُولَى لَا
يَجُوزُ له التَّحَرِّي بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا لِأَنَّ نِكَاحَ
إحْدَاهُمَا فَاسِدٌ بِيَقِينٍ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ
مَقَاصِدِ النِّكَاحِ من الْمَجْهُولَةِ فَلَا بُدَّ من التَّفْرِيقِ ثُمَّ إنْ ادَّعَتْ
كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أنها هِيَ الْأُولَى وَلَا بَيِّنَةَ لها يقضي لها
بِنِصْفِ الْمَهْرِ لِأَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا وقد حَصَلَتْ
الْفُرْقَةُ قبل الدُّخُولِ لَا بِصُنْعِ الْمَرْأَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ
الْمَهْرِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا
بِأَوْلَى من الْأُخْرَى
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ شَيْءٌ وَرُوِيَ عن
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْمَهْرُ كَامِلًا وَإِنْ قَالَتَا لَا نَدْرِي
أَيَّتُنَا الْأُولَى لَا يقضي لَهُمَا بِشَيْءٍ لِكَوْنِ الْمُدَّعِيَةِ
مِنْهُمَا مَجْهُولَةً إلَّا إذَا اصْطَلَحَتْ على شَيْءٍ فَحِينَئِذٍ يقضي لها
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا
وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً في نِكَاحِ أُخْتِهَا
لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا في عِدَّةِ أُخْتِهَا وَكَذَلِكَ التَّزَوُّجُ
بِامْرَأَةٍ هِيَ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من امْرَأَةٍ بِعَقْدٍ منه
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما يَمْنَعُ صُلْبَ النِّكَاحِ من الْجَمْعِ بين ذَوَاتَيْ
الْمَحَارِمِ فَالْعِدَّةُ تَمْنَعُ منه وَكَذَا لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَرْبَعًا من الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالْخَامِسَةُ تَعْتَدُّ منه سَوَاءٌ كانت
الْعِدَّةُ من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أو بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ أو بِالْمَحْرَمِيَّةِ
الطَّارِئَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ أو بِالدُّخُولِ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ أو
بِالْوَطْءِ في شُبْهَةٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ إلَّا في عِدَّةٍ من طَلَاقٍ
رَجْعِيٍّ وَرُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ
قَوْلِنَا نحو
____________________
(2/263)
عَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْمُحَرَّمَ هو الْجَمْعُ بين الْأُخْتَيْنِ في النِّكَاحِ
وَالنِّكَاحُ قد زَالَ من كل وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُزِيلِ له وهو الطَّلَاقُ
الثَّلَاثُ أو الْبَائِنُ وَلِهَذَا لو وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مع
الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَزِمَهُ الْحَدُّ فلم يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ في
النِّكَاحِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ الْحَبْسِ والعبد ( ( ( بالعقد ) ) ) قَائِمٌ فإن الزَّوْجَ
يَمْلِكُ مَنْعَهَا من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَحُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ
آخَرَ ثَابِتَةٌ وَالْفِرَاشُ قَائِمٌ حتى لو جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ من
وَقْتِ الطَّلَاقِ وقد كان قد دخل بها يَثْبُتُ النَّسَبُ فَلَوْ جَازَ النِّكَاحُ
لَكَانَ النِّكَاحُ جَمْعًا بين الْأُخْتَيْنِ في هذه الْأَحْكَامِ فَيَدْخُلُ
تَحْتَ النَّصِّ وَلِأَنَّ هذه أَحْكَامُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ
وَسِيلَةً إلَى أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ
بِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ وَالثَّابِتُ من وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ من
وَجْهٍ في بَابِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُلْحِقَتْ الْأُمُّ وَالْبِنْتُ من وَجْهٍ بِالرَّضَاعَةِ
بِالْأُمِّ وَالْبِنْتِ من كل وَجْهٍ بِالْقَرَابَةِ وَأُلْحِقَتْ الْمَنْكُوحَةُ
من وَجْهٍ وَهِيَ الْمُعْتَدَّةُ بِالْمَنْكُوحَةِ من كل وَجْهٍ في حُرْمَةِ
النِّكَاحِ كَذَا هذا
وَلِأَنَّ الْجَمْعَ قبل الطَّلَاقِ إنَّمَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى
قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّهُ يُوَرِّثُ الضَّغِينَةَ وَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى
الْقَطِيعَةِ وَالضَّغِينَةُ هَهُنَا أَشَدُّ لِأَنَّ مُعْظَمَ النِّعْمَةِ وهو
مِلْكُ الْحِلِّ الذي هو سَبَبُ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ قد زَالَ في حَقِّ
الْمُعْتَدَّةِ وَبِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ يَصِيرُ جَمِيعُ ذلك لها وَتَقُومُ
ومقامها ( ( ( مقامها ) ) ) وَتَبْقَى هِيَ مَحْرُومَةُ الْحَظِّ لِلْحَالِّ من
الْأَزْوَاجِ فَكَانَتْ الضَّغِينَةُ أَشَدَّ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الْقَطِيعَةِ
بِخِلَافِ ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَبْقَ شَيْءٌ من
عَلَائِقِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَكَانَ لها سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَى زَوْجٍ آخَرَ
فَتَسْتَوْفِي حَظَّهَا من الثَّانِي فتسلي بِهِ فَلَا تَلْحَقُهَا الضَّغِينَةُ
أو كانت أَقَلَّ منه في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ
الِاسْتِدْلَال وَلَوْ خَلَا بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا لم يَتَزَوَّجْ
أُخْتَهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ
بِالْخَلْوَةِ فَيُمْنَعُ نِكَاحُ الْأُخْتِ كما لو وَجَبَتْ بِالدُّخُولِ
حَقِيقَةً
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ في الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ
عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن عُثْمَانَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُلُّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الْحَرَائِرِ
حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الْإِمَاءِ إلَّا الْجَمْعَ أَيْ الْجَمْعَ في
الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وروى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه عن ذلك فقال ما أُحِبُّ أَنْ
أُحِلَّهُ وَلَكِنْ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَأَمَّا أنا
فَلَا أَفْعَلُهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ من عِنْدِهِ فَلَقِيَ عَلِيًّا فذكر له ذلك
فقال لو أَنَّ لي من الْأَمْرِ شيء لَجَعَلْت من فَعَلَ ذلك نَكَالًا وَقَوْلُ
عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ عني
بِآيَةِ التَّحْلِيلِ قَوْلَهُ عز وجل { إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْلَهُ
عز وجل { وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ إلَّا ما قد سَلَفَ } وَذَلِكَ منه
إشَارَةٌ إلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَلَا تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ مع التَّعَارُضِ وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز وجل { وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ }
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ جَمْعٌ فَيَكُونُ حَرَامًا
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ في
رَحِمِ أُخْتَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا
آيَةٌ فَالْأَخْذُ بِالْمُحَرَّمِ أَوْلَى عِنْدَ التَّعَارُضِ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ
لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْمَأْثَمُ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَلَا مَأْثَمَ في
تَرْكِ الْمُبَاحِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الإبضاع هو الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ
بِدَلِيلٍ فإذا تَعَارَضَ دَلِيلُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ تَدَافَعَا فَيَجِبُ
الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ
لَا يَجُوزُ في الدَّوَاعِي من اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ إلَى
الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ إذَا عُرِفَ
هذا فَنَقُولُ إذَا مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَ إحْدَاهُمَا لِأَنَّ
الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْمِلْكِ وإذا وطىء إحْدَاهُمَا ليس له أَنْ
يَطَأَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ لو وطىء لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا في
الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَكَذَا إذَا مَلَكَ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ مَلَكَ
أُخْتَهَا كان له أَنْ يَطَأَ الْأُولَى لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَ له أَنْ يَطَأَ
الْأُخْرَى بَعْدَ ذلك لم ما يُحَرِّمْ فَرْجَ الْأُولَى على نَفْسِهِ أما
بِالتَّزْوِيجِ أو بِالْإِخْرَاجِ عن مِلْكِهِ بِالْإِعْتَاقِ أو بِالْبَيْعِ أو
بِالْهِبَةِ أو بِالصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ لو وطىء الْأُخْرَى لَصَارَ جَامِعًا
بَيْنَهُمَا
____________________
(2/264)
في
الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَاتَبَهَا يَحِلُّ له وطىء ( ( (
وطء ) ) ) الْأُخْرَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ لم
يَمْلِكْ وَطْأَهَا غَيْرُهُ وقال في هذه الرِّوَايَةِ أَيْضًا أنه لو مَلَكَ
فَرْجَ الْأُولَى غَيْرُهُ لم يَكُنْ له أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى حتى تَحِيضَ
الْأُولَى حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَيَكُونُ
جَامِعًا مَاءَهُ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ فَيَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ حتى يَعْلَمَ
أنها لَيْسَتْ بِحَامِلٍ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ حَرَّمَ فَرْجَهَا على الْمَوْلَى
بِالْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو وَطِئَهَا لَزِمَهُ الْعُقْرُ وَلَوْ
وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أو نِكَاحٍ كان الْمَهْرُ لها لَا لِلْمَوْلَى فَلَا يَصِيرُ
بِوَطْءِ الْأُخْرَى جَامِعًا بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ وَلَوْ تَزَوَّجَ
جَارِيَةً ولم يَطَأْهَا حتى مَلَكَ أُخْتَهَا فَلَيْسَ له أَنْ يَطَأَ
الْمُشْتَرَاةَ لأنه الْفِرَاشَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مِلْكَ
النِّكَاحِ يُقْصَدُ بِهِ الْوَطْءُ وَالْوَلَدُ فَصَارَتْ الْمَنْكُوحَةُ
مَوْطُوءَةً حُكْمًا فَلَوْ وطىء الْمُشْتَرَاةَ لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا في
الْوَطْءِ وَلَوْ كانت في مكله ( ( ( ملكه ) ) ) جَارِيَةٌ قد وَطِئَهَا ثُمَّ
تَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يَطَأُ الزَّوْجَةَ ما لم يُحَرِّمْ فَرْجَ
الْأَمَةِ التي في مِلْكِهِ أو أُمَّ وَلَدِهِ وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ
النِّكَاحُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن النِّكَاحَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ بِهِ
النَّسَبُ كَالْوَطْءِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَطَأَ
الْمَمْلُوكَةَ هَهُنَا بَعْدَ نِكَاحِ أُخْتِهَا فَلَوْ لم يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ
الْوَطْءِ لَجَازَ وإذا كان النِّكَاحُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ يَصِيرُ
بِالنِّكَاحِ جَامِعًا لَمَا بَيَّنَّا في الْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ ليس بِوَطْءٍ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ
أَيْضًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُلَاقِي الْأَجْنَبِيَّةَ وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ
الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَكُونُ نِكَاحُهَا جَامِعًا بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ
إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا انْعَقَدَ يَجْعَلُ الْوَطْءَ مَوْجُودًا حُكْمًا
بَعْدَ الِانْعِقَادِ لِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّكَاحِ هو
الْوَطْءُ وَثَمَرَتُهُ الْمَطْلُوبَةُ منه الْوَلَدُ وَلَا حُصُولَ له عَادَةً
بِدُونِ الْوَطْءِ فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ حُكْمًا وَاطِئًا بَعْدَ انْعِقَادِ
النِّكَاحِ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْفِرَاشِ فَلَوْ وطىء الْمَمْلُوكَةَ لَصَارَ
جَامِعًا بَيْنَهُمَا وطأ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ
الْوَطْءِ عِنْدَنَا حتى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ فَلَا
يَكُونُ نِكَاحُ أُخْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا في الْفِرَاشِ فَلَا يُمْنَعُ منه
وَأُمُّ الْوَلَدِ فِرَاشُهَا ضَعِيفٌ حتى يَنْتَفِيَ نَسَبُ وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ
قَوْلِهِ وهو مُجَرَّدُ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ
وَكَذَا يُحْتَمَلُ النَّقْلُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يتحقر ( ( ( يتحقق ) ) )
النِّكَاحُ جَمْعًا بَيْنَهُمَا في الْفِرَاشِ مُطْلَقًا فَلَا يُمْنَعُ نَسَبُ
وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وهو مُجَرَّدُ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ التي تَعْتَدُّ منه
بِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا في عِدَّتِهَا وقال أبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ كِلَاهُمَا وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ كِلَاهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذه مُعْتَدَّةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا
وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا كَالْحُرَّةِ الْمُعْتَدَّةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْحُرْمَةَ في الْحُرَّةِ لِمَكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا
في النِّكَاحِ من وَجْهٍ ولم يُوجَدْ في أُمِّ الْوَلَدِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ
أَصْلًا وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ في أُمِّ الْوَلَدِ أَثَرُ فِرَاشِ الْمِلْكِ
وَحَقِيقَةُ الْفِرَاشِ فيها لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ حتى لو تَزَوَّجَ أُخْتَ
أُمِّ وَلَدِهِ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ قبل أَنْ يُعْتِقَهَا جَازَ فإذا لم يَكُنْ
فِرَاشُ الْمِلْكِ حَقِيقَةً مَانِعًا فَأَثَرُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا جَازَ نِكَاحُ أُخْتِ أُمِّ الْوَلَدِ قبل
الْإِعْتَاقِ لِضَعْفِ فِرَاشِهَا على ما بَيَّنَّا فإذا أَعْتَقَهَا قوى
فِرَاشُهَا فَكَانَ نِكَاحُ أُخْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا في الْفِرَاشِ وهو
اسْتِلْحَاقُ نَسَبِ وَلَدَيْهَا وَلَا يَجُوزُ اسْتِلْحَاقُ نَسَبِ وَلَدِ
أُخْتَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لو تَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ لَا
يَحِلُّ له وَطْءُ الْمَنْكُوحَةِ حتى يُزِيلَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ وَنِكَاحَ
الْأَرْبَعِ وَإِنْ كان جَمْعًا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا في الْفِرَاشِ لَكِنْ
الْجَمْعَ هَهُنَا في الْفِرَاشِ جَائِزٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ قبل الْإِعْتَاقِ فإنه إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا قبل
الْإِعْتَاقِ يَحِلُّ له وَطْؤُهُنَّ وَوَطْءُ أُمِّ الْوَلَدِ فَكَذَا بَعْدَ
الْإِعْتَاقِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ بين الْأَجْنَبِيَّاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا جَمْعٌ في
النِّكَاحِ وَجَمْعٌ في الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَمَّا
الْجَمْعُ في النِّكَاحِ فَنَقُولُ لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَكْثَرَ من أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ من الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ يُبَاحُ له الْجَمْعُ بين التِّسْعِ وقال بَعْضُهُمْ
يُبَاحُ له الْجَمْعُ بين ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَالْأَوَّلُونَ قالوا إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى ذَكَرَ هذه الْأَعْدَادَ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لِلْجَمْعِ
وَجُمْلَتُهَا تِسْعَةٌ فَيَقْتَضِي إبَاحَةَ نِكَاحِ تِسْعٍ
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
تَزَوَّجَ
____________________
(2/265)
تِسْعَ
نِسْوَةٍ وهو قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَالْآخَرُونَ قالوا الْمَثْنَى ضِعْفُ الإثنين
وَالثُّلَاثُ ضِعْفُ الثَّلَاثَةِ وَالرُّبَاعُ ضِعْفُ الْأَرْبَعَةِ
فَجُمْلَتُهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَلَنَا ما روى أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ
فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اخْتَرْ مِنْهُنَّ أربعا ( ( ( أربعة
) ) ) وَفَارِقْ الْبَوَاقِيَ أَمَرَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمُفَارَقَةِ
الْبَوَاقِي وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ على الْأَرْبَعِ حلال ( ( ( حلالا ) ) )
لَمَا أَمَرَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ وهو الْأَرْبَعُ
وَلِأَنَّ في الزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ خَوْفَ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ
بِالْعَجْزِ عن الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ على الْوَفَاءِ بِحُقُوقِهِنَّ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } أَيْ لَا
تَعْدِلُوا في الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ وَالنَّفَقَةِ في نكح ( ( ( نكاح ) ) )
الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ فَوَاحِدَةً بِخِلَافِ نِكَاحِ رسول اللَّه
صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ خَوْفَ الْجَوْرِ منه غَيْرُ مَوْهُومٍ لِكَوْنِهِ
مُؤَيَّدًا على الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ بالتأييد ( ( ( بالتأبيد ) ) )
الْإِلَهِيِّ فَكَانَ ذلك من الْآيَاتِ الدَّالَّةِ على نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ
آثَرَ الْفَقْرَ على الْغِنَى وَالضِّيقَ على السَّعَةِ وَتَحَمُّلَ الشَّدَائِدِ
وَالْمَشَاقِّ على الْهُوَيْنَا من الْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَسْبَابُ قَطْعِ الشَّهَوَاتِ وَالْحَاجَةِ إلَى
النِّسَاءِ وَمَعَ ذلك كان يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ دَلَّ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه
وسلم إنَّمَا قَدَرَ على ذلك بِاَللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْمَثْنَى ليس
عِبَارَةً عن الإثنين وَلَا الثُّلَاثَ عن الثُّلَاثِ وَالرُّبَاعَ عن الْأَرْبَعِ
بَلْ أَدْنَى ما يُرَادُ بِالْمَثْنَى مَرَّتَانِ من هذا الْعَدَدِ وَأَدْنَى ما يُرَادُ
بِالثُّلَاثِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ من الْعَدَدِ وَكَذَا الرُّبَاعُ وَذَلِكَ يَزِيدُ
على التِّسْعَةِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلَا قَائِلَ بِهِ دَلَّ أَنَّ الْعَمَلَ
بِظَاهِرِ الأية مُتَعَذِّرٌ فَلَا بُدَّ لها من تَأْوِيلٍ وَلَهَا تَأْوِيلَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ على التَّخْيِيرِ بين نِكَاحِ الإثنين وَالثَّلَاثِ
وَالْأَرْبَعِ كَأَنَّهُ قال عز وجل { مَثْنَى وثلاث ورباع ( ( ( ثلاث ) ) ) فإن }
وَاسْتِعْمَالُ الْوَاوِ مَكَانَ أو جَائِزٌ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ هذه الْأَعْدَادِ على التَّدَاخُلِ وهو أَنَّ
قَوْلَهُ وَثُلَاثَ تَدْخُلُ فيه الْمَثْنَى وَقَوْلَهُ عز وجل { وَرُبَاعَ }
يَدْخُلُ فيه الثُّلَاثُ كما في قَوْلِهِ { أئنكم ( ( ( أإنكم ) ) ) لَتَكْفُرُونَ
بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ } ثُمَّ قال عز وجل { وَجَعَلَ فيها
رَوَاسِيَ من فَوْقِهَا وَبَارَكَ فيها وَقَدَّرَ فيها أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ } وَالْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ دَاخِلَانِ في الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُ لو
لم يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ خَلْقُ هذه الْجُمْلَةِ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
أَخْبَرَ عز وجل أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ في يَوْمَيْنِ بِقَوْلِهِ عز وجل {
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ( ( ( سموات ) ) ) في يَوْمَيْنِ } فَيَكُونُ خَلْقُ
الْجَمِيعِ في ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ وقد أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ {
خَلَقَ السماوات ( ( ( السموات ) ) ) وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ }
فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِ من يَسْتَحِيلُ عليه الْخُلْفُ فَكَانَ على
التَّدَاخُلِ فَكَذَا هَهُنَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْأَوَّلُ دَاخِلًا
في الثَّانِي وَالثَّانِي في الثَّالِثِ فَكَانَ في الْآيَةِ إبَاحَةُ نِكَاحِ
الْأَرْبَعِ وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ من اثْنَيْنِ
لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ في الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
فَجَائِزٌ وَإِنْ كَثُرَتْ الْجَوَارِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أَيْ إنْ خِفْتُمْ
أَنْ لَا تَعْدِلُوا في نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ بِإِيفَاءِ
حُقُوقِهِنَّ فإنكحوا وَاحِدَةً وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا في وَاحِدَةٍ
فَمِمَّا مملكت ( ( ( ملكت ) ) ) أَيْمَانُكُمْ كَأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى هذا أو هذا أَيْ الزِّيَادَةُ على الْوَاحِدَةِ إلَى الْأَرْبَعِ
عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الْمُعَادَلَةِ وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ في ذلك
الْوَاحِدَةُ من الْحَرَائِرِ وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ في نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ
هو شِرَاءُ الْجَوَارِي وَالتَّسَرِّي بِهِنَّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل { أو ما
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ذَكَرَهُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْعَدَدِ وقال تَعَالَى {
إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ } من غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وقال عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من
النِّسَاءِ إلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مُطْلَقًا وَلِأَنَّ حُرْمَةَ
الزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ في الزَّوْجَاتِ لِخَوْفِ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ في
الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ ولم يُوجَدْ هذا الْمَعْنَى في الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ لَا
حَقَّ لَهُنَّ قِبَلَ الْمَوْلَى في الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هو شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ
الْأَمَةِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ على الْحُرَّةِ وَالْأَصْلُ فيه ما روى
عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ على الْحُرَّةِ وقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَتُنْكَحُ
الْحُرَّةُ على الْأَمَةِ وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ من الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ
الثُّلُثُ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ
____________________
(2/266)
تنبىء
عن الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ وَكَمَالِ الْحَالِ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ على الْحُرَّةِ
إدْخَالٌ على الْحُرَّةِ من لَا يُسَاوِيهَا في الْقَسْمِ وَذَلِكَ يُشْعِرُ
بِالِاسْتِهَانَةِ وَإِلْحَاقِ الشَّيْنِ وَنُقْصَانِ الْحَالِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَسَوَاءٌ كان الْمُتَزَوِّجُ حُرًّا أو عَبْدًا عِنْدَنَا لِأَنَّ ما
رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً على حُرَّةٍ
بِنَاءً على أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِلْحُرِّ عِنْدَهُ لِعَدَمِ شَرْطِ
الْجَوَازِ وهو عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَهَذَا شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ
الْأَمَةِ عِنْدَهُ في حَقِّ الْحُرِّ لَا في حَقِّ الْعَبْدِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا خُلُوُّ الْحُرَّةِ عن الْعِدَّةِ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَمَةً على حُرَّةٍ تَعْتَدُّ من طَلَاقٍ بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ ليس هو الْجَمْعُ بين الْحُرَّةِ
وَالْأَمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً جَازَ
وقد حَصَلَ الْجَمْعُ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ هو نِكَاحُ الْأَمَةِ على
الْحُرَّةِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ على الْحُرَّةِ
وَلَا يَتَحَقَّقُ النِّكَاحُ عليها بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو
حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ على امْرَأَتِهِ فَتَزَوَّجَ بعد ما أَبَانَهَا في
عِدَّتِهَا لَا يَحْنَثُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ في عِدَّةِ الْحُرَّةِ نِكَاحٌ عليها
من وَجْهٍ لِأَنَّ بَعْضَ آثَارِ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا
من وَجْهٍ فَكَانَ نِكَاحُهَا عليها من وَجْهٍ وَالثَّابِتُ من وَجْهٍ مُلْحَقٌ
بِالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا فَيُحَرَّمُ
كَنِكَاحِ الْأُخْتِ في عِدَّةِ الْأُخْتِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ
وَأَمَّا عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ وهو الْقُدْرَةُ على مَهْرِ الْحُرَّةِ
وَخَشْيَةُ الْعَنَتِ فَلَيْسَ من شَرْطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ من شَرَائِطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَكُونَ في نِكَاحِ الْمُتَزَوِّجِ حُرَّةٌ وَلَا في
عِدَّةِ حُرَّةٍ وَعِنْدَهُمَا خُلُوُّ الْحُرَّةِ عن عِدَّةِ الْبَيْنُونَةِ ليس
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من شَرَائِطِ
جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ في نِكَاحِهِ حُرَّةٌ وَأَنْ لَا
يَكُونَ قَادِرًا على مَهْرِ الْحُرَّة وَأَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ حتى إذَا كان في
مِلْكِهِ أَمَةٌ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ وَكَذَلِكَ
الْحُرُّ يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ من أَمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَمَةً أُخْرَى لِزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا خِلَافَ في
أَنَّ طَوْلَ الْحُرَّةِ لَا يَمْنَعُ الْعَبْدَ من نِكَاحِ الْأَمَةِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فمن ( ( ( فمما ) ) ) ما
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ من فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } وَمَنْ كَلِمَةُ شَرْطٍ
فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عز وجل الْعَجْزَ عن طَوْلِ الْحُرَّةِ شَرْطًا لِجَوَازِ
نِكَاحِ الْأَمَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِهِ كما في قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ
لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَنَحْوِ ذلك وقال تَعَالَى ذلك
{ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } وهو الزِّنَا شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
خَشْيَةَ الْعَنَتِ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بهذا
الشَّرْطِ أَيْضًا وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ
بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُ نِكَاحَهُنَّ من إرْقَاقِ الْحُرِّ
لِأَنَّ مَاءَ الْحُرِّ حُرٌّ تَبَعًا له وكان في نِكَاحِ الْحُرِّ الْأَمَةَ
إرْقَاقُ حُرٍّ جزأ وَإِلَى هذا أَشَارَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه فِيمَا روى عنه
أَنَّهُ قال أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَّقَ نِصْفَهُ وَأَيُّمَا
عَبْدٍ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ وَلَا يَجُوزُ إرْقَاقُ
الْجُزْءِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلِهَذَا إذَا كان تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَا يَجُوزُ
نِكَاحُ الْأَمَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ إهْلَاكٌ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ
من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَيَصِيرُ مُلْحَقًا
بِالْبَهَائِمِ وَهَلَاكُ الْجُزْءِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ كَقَطْعِ
الْيَدِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا ضَرُورَةَ حَالَةَ الْقُدْرَةِ على طَوْلِ الْحُرَّةِ
فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيها على هذا الْأَصْلِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ إذَا كانت حُرَّةً
لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْحُرَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْمُتَزَوِّجُ
عَبْدًا لِأَنَّ نِكَاحَهُ ليس إرْقَاقَ الْحُرِّ لِأَنَّ مَاءَهُ رَقِيقٌ تَبَعًا
له وَإِرْقَاقُ الرَّقِيقِ لَا يُتَصَوَّرُ
وَلَنَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عز وجل {
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الْقُدْرَةِ
على مَهْرِ الْحُرَّةِ وَعَدَمِهَا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ في
الْأَصْلِ لِاشْتِمَالِهِ على الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ
فَكَانَ الْأَصْلُ فيه هو الْجَوَازَ إذَا صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحَلِّ وقد
وَجَدُوا الْآيَةَ فَفِيهَا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ
الْحُرَّةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي الْإِبَاحَةَ عِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ
فَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ
وإما ( ( ( إما ) ) ) لَا يَقْتَضِي الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ قال اللَّهُ
تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا }
____________________
(2/267)
ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَ وَاحِدَةً جَازَ وَإِنْ كان لَا يَخَافُ الْجَوْرِ في
نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ وقال تَعَالَى في الْإِمَاءِ { فإذا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على
الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ } وَهَذَا لَا يَدُلُّ على نَفْيِ الْحَدِّ
عَنْهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِحْصَانِ وهو التَّزَوُّجُ وهو الْجَوَابُ عن
قَوْلِهِ عز وجل { ذلك لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } على أَنَّ الْعَنَتَ
يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الضِّيقُ كَقَوْلِهِ عز وجل { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَأَعْنَتَكُمْ } أَيْ لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ من يُضَيَّقُ عليه النَّفَقَةُ
وَالْإِسْكَانُ لِتَرْكِ الْحُرَّةِ بِالطَّلَاقِ وَتَزَوُّجِ الْأَمَةِ
فَالطَّوْلُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ على الْمَهْرِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ على الْوَطْءِ لِأَنَّ النِّكَاحَ
يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بَلْ حَقِيقَةُ الْوَطْءِ على ما عُرِفَ
فَكَانَ مَعْنَاهُ فَمَنْ لم يَقْدِرْ مِنْكُمْ على وَطْءِ الْمُحْصَنَاتِ وَهِيَ
الْحَرَائِرُ وَالْقُدْرَةُ على وَطْءِ الْحُرَّةِ إنَّمَا يَكُونُ في النِّكَاحِ
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ أن من لم يَقْدِرْ على وَطْءِ الْحُرَّةِ بِأَنْ لم يَكُنْ
في نِكَاحِهِ حُرَّةٌ يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأَمَةِ وَمَنْ قَدَرَ على ذلك بِأَنْ
كان في نِكَاحِهِ حُرَّةٌ لَا يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأَمَةِ وَنُقِلَ هذا
التَّأْوِيلُ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
على أَنَّ فيها إبَاحَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ
وَهَذَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ في الْجَوَابِ عن التَّعْلِيقِ بِالْآيَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ يَتَضَمَّنُ إرْقَاقَ الْحُرِّ لِأَنَّ مَاءَ
الْحُرِّ حُرٌّ فَنَقُولُ إنْ عني بِهِ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الرِّقِّ فَهَذَا لَا
يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْمَاءَ جَمَادٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
وَإِنْ عني بِهِ التسبب ( ( ( النسب ) ) ) إلَى حُدُوثِ رِقِّ الْوَلَدِ فَهَذَا
مُسَلَّمٌ لَكِنَّ أَثَرَ هذا في الْكَرَاهَةِ لَا في الْحُرِّيَّةِ فإن نِكَاحَ
الْأَمَةِ في حَالِ طَوْلِ الْحُرَّةِ في حَقِّ الْعَبْدِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان نِكَاحُهَا مُبَاشَرَةَ سَبَبِ حُدُوثِ الرِّقِّ عِنْدَنَا فَكُرِهَ
نِكَاحُ الْأَمَةِ مع طَوْلِ الْحُرَّةِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ
الْحُرَّةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا على
صَاحِبَتِهَا مَدْخُولَةٌ عليها فَيُعْتَبَرُ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ بِحَالِ
الِانْفِرَادِ فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ لِأَنَّ نِكَاحَهَا على الْأَمَةِ
حَالَةَ الِانْفِرَادِ جَائِزٌ فَكَذَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ وَيَبْطُلُ نِكَاحُ
الْأَمَةِ لِأَنَّ نِكَاحَهَا على الْحُرَّةِ وَإِدْخَالَهَا عليها لَا يَجُوزُ
حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِخِلَافِ ما إذَا تَزَوَّجَ
أُخْتَيْنِ في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ هو الْجَمْعُ بين
الْأُخْتَيْنِ وَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِمَا فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا وههنا ( ( (
وهاهنا ) ) ) الْمُحَرَّمُ هو إدْخَالُ الْأَمَةِ على الْحُرَّةِ لَا الْجَمْعُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان نِكَاحُ الْأَمَةِ مُتَقَدِّمًا على نِكَاحِ
الْحُرَّةِ جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَإِنْ وُجِدَ الْجَمْعُ فَكَذَلِكَ إذَا
اقْتَرَنَ الْأَمْرَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَم
وَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بين أَجْنَبِيَّةٍ وَذَاتِ مَحَارِمِهِ جَازَ نِكَاحُ
الْأَجْنَبِيَّةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْمَحْرَمِ وَيُعْتَبَرُ حَالَةُ
الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَهَلْ يَنْقَسِمُ الْمَهْرُ عَلَيْهِمَا
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَنْقَسِمُ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَسِمُ الْمُسَمَّى على قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ عز وجل { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ }
وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَسَوَاءٌ كان زَوْجُهَا مُسْلِمًا أو كَافِرًا
إلَّا الْمَسْبِيَّةَ التي هِيَ ذَاتُ زَوْجٍ سُبِيَتْ وَحْدَهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ
عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ } عَامٌّ في جَمِيعِ ذَوَاتِ
الْأَزْوَاجِ ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى منها الْمَمْلُوكَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ إلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَالْمُرَادُ منها الْمَسْبِيَّاتُ اللَّاتِي
سُبِينَ وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ لِيَكُونَ الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ
الْمُسْتَثْنَى منه فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ كل ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا التي
سُبِيَتْ كَذَا روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال في هذه
الْآيَةِ كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ إتْيَانُهَا زِنًا إلَّا ما سُبِيَتْ
وَالْمُرَادُ منه التي سُبِيَتْ وَحْدَهَا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
لِأَنَّ الْفُرْقَةَ ثَبَتَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا لَا بِنَفْسِ
السَّبْيِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَصَارَتْ هِيَ في حُكْمِ
الذِّمِّيَّةِ وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ رَجُلَيْنِ على امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْسِدُ
الْفِرَاشَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ وَتَضْيِيعَ الْوَلَدِ وَفَوَاتَ
السَّكَنِ والإلفة وَالْمَوَدَّةِ فَيَفُوتُ ما وُضِعَ النِّكَاحُ له
فَصْلٌ وَمِنْهَا بأن لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } أَيْ ما
كُتِبَ عليها من التَّرَبُّصِ وَلِأَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ حَالَةَ
الْعَدَمِ قَائِمٌ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ وَالثَّابِتُ
____________________
(2/268)
من
وَجْهٍ كَالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ الْحُرُمَاتِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
خِطْبَتَهَا بِالنِّكَاحِ دُونَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فما لم تَجُزْ الْخِطْبَةُ
فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كانت الْعِدَّةُ عن طَلَاقٍ أو
عن وَفَاةٍ أو دُخُولٍ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ نِكَاحٍ لِمَا ذَكَرْنَا من
الدَّلَائِلِ
وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ
مَانِعٌ آخَرُ غَيْرُ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّهُ قال اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا }
أَضَافَ الْعِدَّةَ إلَى الْأَزْوَاجِ فَدَلَّ أنها حَقُّ الزَّوْجِ وَحَقُّ
الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ من التَّصَرُّفِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ
أَثَرُهُ في حَقِّ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَسْبِيَّةِ بِغَيْرِ السَّابِي
إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا دُونَ زَوْجِهَا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عليها
لِقَوْلِهِ عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ إلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } وَالْمُرَادُ منه الْمَسْبِيَّاتُ اللَّاتِي هُنَّ ذَوَاتُ
الْأَزْوَاجِ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْبِيَّةَ لِلْمَوْلَى
السَّابِي إذْ الِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ من حَيْثُ الظَّاهِرِ وقد
أَحَلَّهَا عز وجل مُطْلَقًا من غَيْرِ شَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَدَلَّ أَنَّهُ
لَا عِدَّةَ عليها وَكَذَلِكَ الْمُهَاجِرَةُ وَهِيَ الْمَرْأَةُ خَرَجَتْ
إلَيْنَا من دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمَةً مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا يَجُوزُ
نِكَاحُهَا وَلَا عِدَّةَ عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ عليها الْعِدَّةُ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارِ فَتَقَعُ بَعْدَ
دُخُولِهَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْلِمَةٌ وفي دَارِ
الْإِسْلَامِ فَتَجِبُ عليها الْعِدَّةُ كَسَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل { وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أَبَاحَ
تَعَالَى نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا من غَيْرِ ذِكْرِ الْعِدَّةِ وقَوْله
تَعَالَى { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } نهى اللَّهُ تَعَالَى
الْمُسْلِمِينَ عن الْإِمْسَاكِ وَالِامْتِنَاعِ عن نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ
لِأَجْلِ عِصْمَةِ الزَّوْجِ الْكَافِرِ وَحُرْمَتِهِ فَالِامْتِنَاعُ عن نِكَاحِهَا
لِلْعِدَّةِ وَالْعِدَّةُ في حَقِّ الزَّوْجِ يَكُونُ إمْسَاكًا وَتَمَسُّكًا
بِعِصْمَةِ زَوْجِهَا الْكَافِرِ وَهَذَا مَنْهِيٌّ عنه وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ
حَقٌّ من حُقُوقِ الزَّوْجِ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى لِلْحَرْبِيِّ على الْمُسْلِمَةِ الْخَارِجَةِ إلَى
دَارِ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنْ لَا عِدَّةَ على الْمَسْبِيَّةِ
وَإِنْ كانت كَافِرَةً على الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ في حُكْمِ
الذِّمِّيَّةِ تَجْرِي عليها أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَمَعَ ذلك يَنْقَطِعُ عنها
حَقُّ الزَّوْجِ الْكَافِرِ فَالْمُهَاجِرَةُ الْمُسْلِمَةُ حَقِيقَةٌ لَأَنْ
يَنْقَطِعَ عنها حَقُّ الزَّوْجِ الْكَافِرِ أَوْلَى هذا إذَا هَاجَرَتْ إلَيْنَا
وَهِيَ حَائِلٌ فَأَمَّا إذَا كانت حَامِلًا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عن
أبي حَنِيفَةَ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بها حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ
فَإِنْ كان لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَإِنْ لم تَكُنْ مُعْتَدَّةً كَمَنْ تَزَوَّجَ
أُمَّ وَلَدِ إنْسَانٍ وَهِيَ حَامِلٌ من مَوْلَاهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ لم تَكُنْ
مُعْتَدَّةً لِوُجُودِ حَمْلٍ ثَابِتِ النَّسَبِ ( في المولى ) وَهَذَا لِأَنَّ
الْحَمْلَ إذَا كان ثَابِتَ النَّسَبِ من الْغَيْرِ وَمَاؤُهُ مُحَرَّمٌ لَزِمَ
حِفْظُ حُرْمَةِ مَائِهِ بِالْمَنْعِ من النِّكَاحِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا من الزِّنَا أَنَّهُ يَجُوزُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا حتى تَضَعَ وقال أبو يُوسُفَ لَا
يَجُوزُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا الْحَمْلَ يَمْنَعُ الْوَطْءَ فَيَمْنَعُ
الْعَقْدَ أَيْضًا كَالْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
من النِّكَاحِ هو حِلُّ الْوَطْءِ فإذا لم يَحِلَّ له وَطْؤُهَا لم يَكُنْ
النِّكَاحُ مُفِيدًا فَلَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لم يَجُزْ إذَا كان الْحَمْلُ
ثَابِتَ النَّسَبِ كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَنْعَ من نِكَاحِ الْحَامِلِ حَمْلًا ثَابِتَ النَّسَبِ
لِحُرْمَةِ مَاءِ الْوَطْءِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ
لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
فإذا لم يَكُنْ له حُرْمَةٌ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَّا أنها لَا
تُوطَأُ حتى تَضَعَ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ
زَرْعَ غَيْرِهِ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِرَجُلَيْنِ
يُؤْمِنَا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْتَمِعَا على امْرَأَةٍ في
طُهْرٍ وَاحِدٍ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ بِعَارِضٍ طارىء ( ( ( طارئ ) ) ) على
الْمَحَلِّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ لَا بَقَاءً وَلَا ابْتِدَاءً كَالْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ
وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ إذَا كانت حَامِلًا فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ
رَوَى مُحَمَّدٌ عنه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا وهو إحْدَى رِوَايَتَيْ أبي
يُوسُفَ عنه وَعَنْ أبي يُوسُفَ
____________________
(2/269)
رِوَايَةٌ
أُخْرَى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَلَكِنَّهَا لَا تُوطَأُ
حتى تَضَعَ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ مَاءَ الْحَرْبِيِّ لَا حُرْمَةَ له فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّانِي وَذَا لَا يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ كَذَا هذا
إلَّا أنها لَا تُوطَأُ حتى تَضَعَ لِمَا رَوَيْنَا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هذا حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لِأَنَّ
أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ فَيُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ كَسَائِرِ
الْأَحْمَالِ الثَّابِتَةِ النَّسَبِ وَالطَّحَاوِيُّ اعْتَمَدَ رِوَايَةَ أبي
يُوسُفَ وَالْكَرْخِيِّ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمُعْتَمَدُ عليها لِأَنَّ
حُرْمَةَ نِكَاحِ الْحَامِلِ لَيْسَتْ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ لَا مَحَالَةَ
فَإِنَّهَا قد تَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِدَّةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كانت
حَامِلًا من مَوْلَاهَا بَلْ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ كما في أُمِّ الْوَلَدِ
وَالْحَمْلُ هَهُنَا ثَابِتُ النَّسَبِ فَيُمْنَعُ النِّكَاحُ
وَعَلَى هذا نِكَاحُ الْمَسْبِيَّةِ دُونَ الزَّوْجِ إذَا كانت حَامِلًا
وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ على اخْتِلَافِ
الرِّوَايَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا قبل الْوَضْعِ وَلَا
قبل الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ إذَا كانت حَامِلًا وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا
تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يستبرأن
( ( ( يستبرئن ) ) ) بِحَيْضَةٍ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَيْنِ مِلَّةٌ يَقِرَّانِ عليها فَإِنْ لم
يَكُنْ بِأَنْ كان أَحَدُهُمَا مُرْتَدًّا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَصْلًا لَا
بِمُسْلِمٍ وَلَا بِكَافِرٍ غَيْرِ مُرْتَدٍّ وَالْمُرْتَدُّ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ
تَرَكَ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَقِرُّ على الرِّدَّةِ بَلْ يُجْبَرُ على
الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْقَتْلِ إنْ كان رَجُلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِمَّا
بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ إنْ كانت امْرَأَةً عِنْدَنَا إلَى أَنْ تَمُوتَ أو
تُسْلِمَ فَكَانَتْ الرِّدَّةُ في مَعْنَى الْمَوْتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا
مُفْضِيًا إلَيْهِ وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَلِأَنَّ
مِلْكَ النِّكَاحِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ وَلَا عِصْمَةَ مع الْمُرْتَدَّةِ وَلِأَنَّ
نِكَاحَ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منه
لِأَنَّهُ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ على ما بَيَّنَّا فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ
فَلَا يَجُوزُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الرِّدَّةَ لو اعْتَرَضَتْ على النِّكَاحِ
رَفَعَتْهُ فإذا قَارَنَتْهُ تَمْنَعُهُ من الْوُجُودِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
كَالرَّضَاعِ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ من الرَّفْعِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُشْرِكَةً إذَا كان الرَّجُلُ
مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُشْرِكَةَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ } وَيَجُوزُ أَنْ
يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ } وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْكَافِرَةَ لِأَنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ
وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مع قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ
السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الذي هو قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ
جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إسْلَامِهَا لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ في الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا نُقِضَتْ الْجُمْلَةُ
بِالتَّفْصِيلِ بِنَاءً على أنها أُخْبِرَتْ عن الْأَمْرِ على خِلَافِ حَقِيقَتِهِ
فَالظَّاهِرُ أنها مَتَى نُبِّهَتْ على حَقِيقَةِ الْأَمْرِ تَنَبَّهَتْ وَتَأْتِي
بِالْإِيمَانِ على التَّفْصِيلِ على حَسَبِ ما كانت أَتَتْ بِهِ على الْجُمْلَةِ
هذا هو الظَّاهِرُ من حَالِ التي بنى أَمْرُهَا على الدَّلِيلِ دُونَ الْهَوَى
وَالطَّبْعِ وَالزَّوْجُ يَدْعُوهَا إلَى الْإِسْلَامِ وَيُنَبِّهُهَا على
حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَانَ في نِكَاحِ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا رَجَاءُ إسْلَامِهَا
فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكَةِ
فَإِنَّهَا في اخْتِيَارِهَا الشِّرْكَ ما ثَبَتَ أَمْرُهَا على الْحُجَّةِ بَلْ
على التَّقْلِيدِ بِوُجُودِ الآباء عن ذلك من غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ ذلك
الْخَبَرُ مِمَّنْ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ وَاتِّبَاعُهُ وهو الرَّسُولُ
فَالظَّاهِرُ أنها لَا تَنْظُرُ في الْحُجَّةِ وَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهَا عِنْدَ
الدَّعْوَةِ فَيَبْقَى ازْدِوَاجِ الْكَافِرِ مع قِيَامِ الْعَدَاوَةِ
الدِّينِيَّةِ الْمَانِعَةِ عن السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَالْمَوَدَّةِ خَالِيًا
عن الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فلم يَجُزْ إنْكَاحُهَا وَسَوَاءٌ كانت
الْكِتَابِيَّةُ حُرَّةً أو أَمَةً عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَيَحِلُّ
وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
واحتجوا ( ( ( واحتج ) ) ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حتى يُؤْمِنَّ } وَالْكِتَابِيَّةُ مُشْرِكَةٌ على الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ
الْمُشْرِكَ من يُشْرِكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى في الْأُلُوهِيَّةِ وَأَهْلُ
الْكِتَابِ كَذَلِكَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن
اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ } قالت ( ( ( وقالت ) ) )
النَّصَارَى { إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَقُولُونَ } فَعُمُومُ النَّصِّ يَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ جَمِيعِ
الْمُشْرِكَاتِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه الْحَرَائِرَ من الْكِتَابِيَّاتِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من
قَبْلِكُمْ } وَهُنَّ الْحَرَائِرُ فَبَقِيَتْ الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ على ظَاهِرِ
الْعُمُومِ وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ
الضَّرُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ
بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ نَحْوُ قَوْلِهِ عز وجل { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَقَوْلِهِ
____________________
(2/270)
عز
وجل { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عز وجل { فَانْكِحُوا ما
طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ } وَغَيْرِ ذلك من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْأَمَةِ
الْمُؤْمِنَةِ وَالْأَمَةِ الْكَافِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ في غَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ من الْمُشْرِكَاتِ لِأَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ على الْحَقِيقَةِ لَكِنْ هذا
الِاسْمُ في مُتَعَارَفِ الناس يُطْلَقُ على الْمُشْرِكِينَ من غَيْرِ أَهْلِ
الْكِتَابِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ }
وقال تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
في نَارِ جَهَنَّمَ } فَصَلَ بين الْفَرِيقَيْنِ في الِاسْمِ على أَنَّ
الْكِتَابِيَّاتِ وَإِنْ دَخَلْنَ تَحْتَ عُمُومِ اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ بِحُكْمِ
ظَاهِرِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُنَّ خُصِّصْنَ عن الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ }
وَأَمَّا الْكِتَابِيَّاتُ إذَا كُنَّ عَفَائِفَ يستحقن ( ( ( يستحققن ) ) ) هذا
الِاسْمَ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ في كَلَامِ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ
وَمَعْنَى الْمَنْعِ يَحْصُلُ بِالْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ كما يَحْصُلُ
بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّكَاحِ لِأَنَّ ذلك مَانِعُ الْمَرْأَةِ عن
ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ فَيَتَنَاوَلُهُنَّ عُمُومُ اسْمِ الْمُحْصَنَاتِ
وَقَوْلُهُ الْأَصْلُ في نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْفَسَادُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْأَصْلُ
في النِّكَاحِ هو الْجَوَازُ حُرَّةً كانت الْمَنْكُوحَةُ أو أَمَةً مُسْلِمَةً أو
كِتَابِيَّةً لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ وَالْأَصْلُ في
الْمَصَالِحِ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعُ عنه لِمَعْنًى في غَيْرِهِ على
ما عُرِفَ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّةِ لِأَنَّ الْمَجُوسَ
لَيْسُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }
إلَى قَوْلِهِ { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ من
قَبْلِنَا } مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا
تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ من قَبْلِنَا
وَلَوْ كان الْمَجُوسُ من أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ ثَلَاثَ
طَوَائِفَ فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِهِ عز وجل وَذَلِكَ مُحَالٌ على
أَنَّ هذا لو كان حِكَايَةً عن قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ دَلِيلًا على ما
قُلْنَا لِأَنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ الْقَوْلَ ولم يَعْقُبْهُ بِالْإِنْكَارِ عليهم
وَالتَّكْذِيبِ إيَّاهُمْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غير أَنَّكُمْ لَيْسُوا نَاكِحِي
نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ
وَدَلَّ قَوْلُهُ سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ على أَنَّهُمْ
لَيْسُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
أَيْضًا
وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحِلَّ وَطْءُ كَافِرَةٍ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ
إلَّا الكتابيات ( ( ( الكتابية ) ) ) خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ }
وَاسْمُ النِّكَاحِ يَقَعُ على الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جميعا فَيُحَرَّمَانِ جميعا
وَمَنْ كان أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا كان حُكْمُهُ
حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لو كان أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا يُعْطَى
له حُكْمُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَكَذَا إذَا
كان كِتَابِيًّا يُعْطَى له حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الْكِتَابِيَّ له
بَعْضُ أَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وهو الْمُنَاكَحَةُ وَجَوَازُ الذَّبِيحَةِ
وَالْإِسْلَامُ يَعْلُو بِنَفْسِهِ وَبِأَحْكَامِهِ وَلِأَنَّ رَجَاءَهُ
الْإِسْلَامَ من الْكِتَابِيِّ أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِتْبَاعِ
وَأَمَّا الصَّابِئَاتُ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أنه يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
نِكَاحُهُنَّ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ
وَقِيلَ ليس هذا بِاخْتِلَافٍ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ
لِاشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هُمْ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ
بِكِتَابٍ فَإِنَّهُمْ يقرؤون ( ( ( يقرءون ) ) ) الزَّبُورَ وَلَا يَعْبُدُونَ
الْكَوَاكِبَ وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ في
الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ من أَهْلِ
الْكِتَابِ في بَعْضِ دِيَانَاتِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُنَاكَحَةَ
كَالْيَهُودِ مع النَّصَارَى
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ
وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ
مُنَاكَحَاتُهُمْ
فَصْلٌ وَمِنْهَا إسْلَامُ الرَّجُلِ إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً فَلَا
يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حتى يُؤْمِنُوا } وَلِأَنَّ في إنْكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ
الْكَافِرَ خَوْفَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ في الْكُفْرِ لِأَنَّ الزَّوْجَ
يَدْعُوهَا إلَى دِينِهِ وَالنِّسَاءُ في الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ
فِيمَا يؤثروا ( ( ( يؤثرون ) ) ) من الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ في الدِّينِ
إلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عز وجل { أُولَئِكَ
يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إلَى الْكُفْرِ
وَالدُّعَاءُ إلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إلَى النَّارِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ
النَّارَ فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى
الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ في الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ
الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إلَى النَّارِ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ
فَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ
الْمُسْلِمَةِ الْكِتَابِيَّ كما لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا الْوَثَنِيَّ
وَالْمَجُوسِيَّ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ وَلَايَةَ الْكَافِرِينَ عن
الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } فَلَوْ جَازَ
____________________
(2/271)
إنْكَاحُ
الْكَافِرِ الْمُؤْمِنَةَ لَثَبَتَ له عليها سَبِيلٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
فَجَائِزٌ في الْجُمْلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ
أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ لِلنِّكَاحِ في الْإِسْلَامِ شَرَائِطَ لَا
يُرَاعُونَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ
لِقَوْلِهِ عز وجل { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } سَمَّاهَا اللَّهُ
تَعَالَى امْرَأَتَهُ وَلَوْ كانت أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةً لم تَكُنْ امْرَأَتَهُ
حَقِيقَةً وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةُ آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَهُمْ على شَرِيعَتِهِ في ذلك
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وُلِدْت من نِكَاحٍ ولم أُولَدْ من سِفَاحٍ
وَإِنْ كان أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ
يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ قَبِيحٍ وهو الطَّعْنُ في نَسَبِ كَثِيرٍ من الْأَنْبِيَاءِ
عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ كَثِيرًا منهم وُلِدُوا من أَبَوَيْنِ
كَافِرَيْنِ وَالْمَذَاهِبُ تُمْتَحَنُ بِعُبَّادِهَا فلما أَفْضَى إلَى قَبِيحٍ
عُرِفَ فَسَادُهَا وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ ملة ( ( ( كملة ) ) )
وَاحِدَةٍ إذْ هو تَكْذِيبُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا فِيمَا أَنْزَلَ على رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عليهم وقال اللَّهُ عز وجل { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } وَاخْتِلَافُهُمْ في
شَرَائِعِهِمْ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ كل فَرِيقٍ منهم فِيمَا بَيْنَهُمْ في
بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
كَذَا هذا
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكَ صَاحِبِهِ وَلَا
يَنْتَقِصَ منه مِلْكَهُ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَتِهِ
وَلَا بِجَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَبْدَهَا وَلَا الْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ } الْآيَةَ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ عز وجل الْوَطْءَ إلا بِأَحَدِ
أَمْرَيْنِ لِأَنَّ كلمة ( ( ( الكلمة ) ) ) تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ
فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِبَاحَةُ بِهِمَا جميعا وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ حُقُوقًا
تَثْبُتُ على الشَّرِكَةِ بين الزَّوْجَيْنِ منها مُطَالَبَةُ الْمَرْأَةِ
الزَّوْجَ بِالْوَطْءِ وَمُطَالَبَةُ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ بِالتَّمْكِينِ
وَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ من الشَّرِكَةِ وإذا لم تَثْبُتْ
الشَّرِكَةُ في ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ لَا يُفِيدُ النِّكَاحُ فَلَا يَجُوزُ
وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ على
الْمَوْلَى لِأَمَتِهِ وَلَا على الْحُرَّةِ لِعَبْدِهَا لِأَنَّ مِلْكَ
الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْوَلَايَةُ لِلْمَالِكِ وَكَوْنُ
الْمَمْلُوكِ يُوَلَّى عليه وَمِلْكُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ
للمملوك ( ( ( للملوك ) ) ) على الْمَالِكِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ
الشَّخْصُ الْوَاحِدُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالِيًا وَمُولَيًا عليه في شَيْءٍ
وَاحِدٍ وَهَذَا مُحَالٌ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ مَهْرٍ
عِنْدَنَا وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلَا لِلْعَبْدِ على
مَوْلَاهُ
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَلَكَهُ فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ مِلْكُ الْيَمِينِ على
نِكَاحٍ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ أو
شِقْصًا منه لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا التَّأْبِيدُ فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ وهو نِكَاحُ
الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وما يَقُومُ
مَقَامَهُمَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أُعْطِيكِ كَذَا على أَنْ أَتَمَتَّعَ
مِنْكِ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً وَنَحْوَ ذلك وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس هو جَائِزٌ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { فما
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً }
وَالِاسْتِدْلَالُ بها من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ ذَكَرَ
الِاسْتِمْتَاعَ ولم يذكر النِّكَاحَ وَالِاسْتِمْتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ وَاحِدٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ وَحَقِيقَةُ
الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ على مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ
الِاسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ يَكُونُ في عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ فَأَمَّا
الْمَهْرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ في النِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ
الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُمَكَّنُ من الِاسْتِمْتَاعِ فَدَلَّتْ
الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على جَوَازِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ
الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عز وجل { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا
على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } حَرَّمَ تَعَالَى الْجِمَاعَ
إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ وَالْمُتْعَةُ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ
يَمِينٍ فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ
وَالدَّلِيلُ على أنها لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ إنها تَرْتَفِعُ من غَيْرِ طَلَاقٍ
وَلَا فُرْقَةٍ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا فَدَلَّ أنها لَيْسَتْ
بِنِكَاحٍ فلم تَكُنْ هِيَ زَوْجَةً له وقَوْله تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ {
فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلك فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } سُمِّيَ
____________________
(2/272)
مبتغى
ما وَرَاءَ ذلك عَادِيًا فَدَلَّ على حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِدُونِ هَذَيْنِ
الشَّيْئَيْنِ وَقَوْلُهُ عز وجل { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ
} وكان ذلك منهم إجارة ( ( ( إجازة ) ) ) الْإِمَاءِ نهى اللَّهُ عز وجل عن ذلك
وَسَمَّاهُ بِغَاءً فَدَلَّ على الْحُرْمَةِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ يوم خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ
لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ
وَعَنْ سبرة ( ( ( سمرة ) ) ) الْجُهَنِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ يوم فَتْحِ مَكَّةَ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّهُ قال نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يوم خَيْبَرَ عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان قَائِمًا بين الرُّكْنِ
وَالْمَقَامِ وهو يقول إنِّي كنت أَذِنْتُ لَكُمْ في الْمُتْعَةِ فَمَنْ كان
عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُفَارِقْهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا
فإن اللَّهَ قد حَرَّمَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ بِأَسْرِهِمْ امْتَنَعُوا عن الْعَمَلِ
بِالْمُتْعَةِ مع ظُهُورِ الْحَاجَةِ لهم إلَى ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ ما شُرِعَ لِاقْتِضَاءِ
الشَّهْوَةِ بَلْ لِأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهَا وَاقْتِضَاءُ
الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَلَا يُشْرَعُ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ { فما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ } أَيْ في النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ في أَوَّلِ الْآيَةِ
وَآخِرِهَا هو النِّكَاحُ فإن اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا من
الْمُحَرَّمَاتِ في أَوَّلِ الْآيَةِ في النِّكَاحِ وَأَبَاحَ ما وَرَاءَهَا
بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أَيْ بِالنِّكَاحِ
وقَوْله تَعَالَى { مُحْصِنِينَ غير مُسَافِحِينَ } أَيْ غير مُتَنَاكِحِينَ غير
زَانِينَ وقال تَعَالَى في سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } ذَكَرَ النِّكَاحَ لَا
الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَيُصْرَفُ قَوْله تَعَالَى فما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
إلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ سَمَّى الْوَاجِبَ أَجْرًا فَنَعَمْ الْمَهْرُ في النِّكَاحِ
يُسَمَّى أَجْرًا قال اللَّهُ عز وجل { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أَيْ مُهُورَهُنَّ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا
أَيُّهَا النبي إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
} وَقَوْلُهُ أَمَرَ تَعَالَى بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ
بِهِنَّ وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَيُؤْخَذُ قبل الِاسْتِمْتَاعِ
قُلْنَا قد قِيلَ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ
تَعَالَى قال { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فريضة } أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ
الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا النبي إذَا
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ
تَطْلِيقَ النِّسَاءِ على أَنَّهُ إنْ كان الْمُرَادُ من الْآيَةِ الْإِجَارَةَ
وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا تَلَوْنَا من الْآيَاتِ
وَرَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ
قَوْلَهُ { فما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } نَسَخَهُ قَوْلُهُ عز وجل { يا
أَيُّهَا النبي إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ }
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ
مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ وَالصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ
وَالْمَوَارِيثُ وَالْحُقُوقُ التي يَجِبُ فيها النِّكَاحُ أَيْ النِّكَاحُ هو
الذي تَثْبُتُ بِهِ هذه الْأَشْيَاءُ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ منها بِالْمُتْعَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَ
ذلك وَأَنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ النِّكَاحُ
جَائِزٌ وهو مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وروي الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا ذَكَرَا من
الْمُدَّةِ ما يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَإِنْ
ذَكَرَا من الْمُدَّةِ مِقْدَارَ ما لَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ في
الْغَالِبِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَأَنَّهُمَا ذَكَرَا الْأَبَدَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فيه شَرْطًا فَاسِدًا وَالنِّكَاحُ
لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ
صَحِيحًا كما إذَا قال تَزَوَّجْتُك إلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ
وَلَنَا أَنَّهُ لو جَازَ هذا الْعَقْدُ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجُوزَ
مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا لَا
سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ هذا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ
عنها بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ وَالْمُعْتَبَرُ في الْعُقُودِ
مَعَانِيهَا لَا الْأَلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ أنها
حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ وأن لم يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ
مَنْسُوخَةٌ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ فيه اسْتِحْقَاقَ الْبُضْعِ عليها من
غَيْرِ رِضَاهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أتى بِالنِّكَاحِ ثُمَّ أَدْخَلَ عليه شَرْطًا فَاسِدًا
____________________
(2/273)
فَمَمْنُوعٌ
بَلْ أتى بِنِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ نِكَاحُ مُتْعَةٍ
وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَصَارَ هذا كَالنِّكَاحِ الْمُضَافِ أَنَّهُ لَا
يَصِحُّ وَلَا يُقَالُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَتَبْطُلُ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ
الْمَأْتِيَّ بِهِ نِكَاحٌ مُضَافٌ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَذَا هذا بِخِلَافِ ما
إذَا قال تَزَوَّجْتُك على أنه أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ هنك ( (
( هناك ) ) ) أَبَّدَ النِّكَاحَ ثُمَّ شَرَطَ قَطْعَ التَّأْبِيدِ بِذِكْرِ
الطَّلَاقِ في النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ لِأَنَّهُ على أَنَّ ( أَنْ ) كَلِمَةُ
شَرْطٍ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَبَّدُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْمَهْرُ فَلَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَهْرِ
عِنْدَنَا وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الْمَهْرَ
هل هو شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا وفي بَيَانِ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الذي
يَصْلُحُ مَهْرًا وفي بَيَانِ ما يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وما لَا يَصِحُّ
وَبَيَانِ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا وفي بَيَانِ ما يَجِبُ بِهِ
الْمَهْرُ وَبَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وما يَتَعَلَّقُ
بِذَلِكَ من الْأَحْكَامِ وفي بَيَانِ ما يَتَأَكَّدُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ وفي
بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْكُلُّ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ النِّصْفُ وفي
بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ في الْمَهْرِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا إنَّ الْمَهْرَ شَرْطُ
جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ وقال الشَّافِعِيُّ ليس بِشَرْطٍ وَيَجُوزُ النِّكَاحُ
بِدُونِ الْمَهْرِ حتى أن من تَزَوَّجَ امْرَأَةً ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا بِأَنْ
سَكَتَ عن ذِكْرِ الْمَهْرِ أو تَزَوَّجَهَا على أَنْ لَا مَهْرَ لها وَرَضِيَتْ
الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا حتى
يَثْبُتَ لها وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ
قبل الدُّخُولِ يُؤْخَذُ مَهْرُ الْمِثْلِ من الزَّوْجِ وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ
قبل الدُّخُولِ تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ من تَرِكَتِهِ وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ
مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ على الزَّوْجِ
أو بِالدُّخُولِ حتى لو دخل بها قبل الْفَرْضِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ
طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها وَقَبْلَ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ
بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ لَا يقضي بِشَيْءٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يقضي لِوَرَثَتِهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا ويستوفي من
تَرِكَةِ الزَّوْجِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ من غَيْرِ ذِكْرِ
الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً }
رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه
وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَلَّ على جَوَازِ النِّكَاحِ
بِلَا تَسْمِيَةٍ وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
} وَالْمُرَادُ منه الطَّلَاقُ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه بِدَلِيلِ أَنَّهُ
أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ بِقَوْلِهِ { فَمَتِّعُوهُنَّ } وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا
تَجِبُ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه فَدَلَّ على جَوَازِ النِّكَاحِ من غَيْرِ
تَسْمِيَةٍ وَلِأَنَّهُ مَتَى قام الدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ
بِدُونِ الْمَهْرِ كان ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْمَهْرِ ضَرُورَةً
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَةً } سَمَّى الصَّدَاقَ نِحْلَةً وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ
وَالْعَطِيَّةُ هِيَ الصِّلَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمَهْرَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ في بَابِ
النِّكَاحِ فَلَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ
ازْدِوَاجٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا ينبى إلَّا عنه فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ
الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَحِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِصَاحِبِهِ تَحْقِيقًا لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عليها نَوْعُ
مالك ( ( ( ملك ) ) ) في مَنَافِعِ الْبُضْعِ ضَرُورَةً تُحَقِّقُ الْمَقَاصِدَ
وَلَا ضَرُورَةَ في إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ لها عليه فَكَانَ الْمَهْرُ
عُهْدَةً زَائِدَةً في حَقِّ الزَّوْجِ صِلَةً لها فَلَا يَصِيرُ عِوَضًا إلَّا
بِالتَّسْمِيَةِ
وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ النِّكَاحِ من غَيْرِ مَهْرٍ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا
زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ
لِأَنَّهُ لو وَجَبَ عليه لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على
عَبْدِهِ دَيْنٌ وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِغَيْرِ مَهْرٍ
جَازَ النِّكَاحُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ وَكَذَا إذَا مَاتَا في هذه
الْمَسْأَلَةِ قبل الْفَرْضِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أُحِلَّ ما وَرَاءَ
ذلك بِشَرْطِ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ دَلَّ أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ
بِدُونِ الْمَالِ فَإِنْ قِيلَ الْإِحْلَالُ بِشَرْطِ ابْتِغَاءِ الْمَالِ لَا
يَنْفِي الْإِحْلَالَ بِدُونِ هذا الشَّرْطِ خُصُوصًا على أَصْلِكُمْ أَنَّ
تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِشَرْطٍ لَا يَنْفِي وُجُودَهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ هو الْحُرْمَةُ
وَالْإِبَاحَةُ تَثْبُتُ بهذا الشَّرْطِ فَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ تَبْقَى
الْحُرْمَةُ على الْأَصْلِ لَا حُكْمًا لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فلم يَتَنَاقَضْ
أَصْلُنَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَرُوِيَ عن عَلْقَمَةَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ
رَجُلًا كان يَخْتَلِفُ إلَيْهِ شَهْرًا يَسْأَلُهُ عن
____________________
(2/274)
امْرَأَةٍ
مَاتَ عنها زَوْجُهَا ولم يَكُنْ فَرَضَ لها شيئا وكان يَتَرَدَّدُ في الْجَوَابِ
فلما تَمَّ الشَّهْرُ قال لِلسَّائِلِ لم أَجِدْ ذلك في كِتَابِ اللَّهِ وَلَا
فِيمَا سَمِعْتُهُ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَكِنْ اجتهد
بِرَأْيِي فَإِنْ أَصَبْت فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ أَخْطَأْت فَمِنْ أُمِّ عَبْدٍ
وفي رِوَايَةٍ فَإِنْ كان صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كان خَطَأً فَمِنِّي
وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ منه بَرِيئَانِ أَرَى لها مِثْلَ
نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ له مَعْقِلُ بن
سِنَانٍ وقال إنِّي أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَضَى
في بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيِّةِ مِثْلَ قَضَائِك هذا ثُمَّ قام
أُنَاسٌ من أَشْجَعَ وَقَالُوا إنَّا نَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِ فَفَرِحَ عبد
اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه فَرَحًا لم يَفْرَحْ مثله في الْإِسْلَامِ لِمُوَافَقَةِ
قَضَائِهِ قَضَاءَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لم يُشْرَعْ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَقَاصِدَ لَا حُصُولَ
لها إلَّا بِالدَّوَامِ على النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عليه وَلَا يَدُومُ إلَّا
بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا يَجْرِي بين الزَّوْجَيْنِ من
الْأَسْبَابِ التي تَحْمِلُ الزَّوْجَ على الطَّلَاقِ من الْوَحْشَةِ
وَالْخُشُونَةِ فَلَوْ لم يَجِبْ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُبَالِي
الزَّوْجُ عن إزَالَةِ هذا الْمِلْكِ بِأَدْنَى خُشُونَةٍ تَحْدُثُ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عليه إزَالَتُهُ لَمَّا لم يَخَفْ لُزُومَ الْمَهْرِ فَلَا
تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ الْمَطْلُوبَةُ من النِّكَاحِ
وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ وَمَقَاصِدَهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا
بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ إلَّا إذَا كانت الْمَرْأَةُ
عَزِيزَةً مُكَرَّمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِانْسِدَادِ طَرِيقِ
الْوُصُولِ إلَيْهَا إلَّا بِمَالٍ له خَطَرٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ ما ضَاقَ طَرِيقُ
إصَابَتِهِ يَعِزُّ في الْأَعْيُنِ فَيَعِزُّ بِهِ إمْسَاكُهُ وما يَتَيَسَّرُ
طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَهُونُ في الْأَعْيُنِ فَيَهُونُ إمْسَاكُهُ وَمَتَى هَانَتْ
في أَعْيُنِ الزَّوْجِ تَلْحَقُهَا الْوَحْشَةُ فَلَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فَلَا
تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ في جَانِبِهَا إمَّا
في نَفْسِهَا وَإِمَّا في الْمُتْعَةِ وَأَحْكَامُ الْمِلْكِ في الْحُرَّةِ
تُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ له خَطَرٌ
لِيَنْجَبِرَ الذُّلُّ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَالدَّلِيلُ على صِحَّةِ ما قُلْنَا وَفَسَادِ ما قال أنها إذَا طَلَبَتْ
الْفَرْضَ من الزَّوْجِ يَجِبُ عليه الْفَرْضُ حتى لو امْتَنَعَ فَالْقَاضِي
يُجْبِرُهُ على ذلك وَلَوْ لم يَفْعَلْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ في الْفَرْضِ وَهَذَا
دَلِيلُ الْوُجُوبِ قبل الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَقْدِيرٌ وَمِنْ الْمُحَالِ
وُجُوبُ تَقْدِيرِ ما ليس بِوَاجِبٍ وَكَذَا لها أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا حتى
يُفْرَضَ لها الْمَهْرُ وَيُسَلَّمَ اليها بَعْدَ الْفَرْضِ وَذَلِكَ كُلُّهُ
دَلِيلُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالنِّحْلَةُ كما تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ تُذْكَرُ
بِمَعْنَى الدِّينِ يُقَالُ ما نِحْلَتُك أَيْ ما دِينُكَ فَكَانَ مَعْنَى قَوْله
تَعَالَى { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } أَيْ دِينًا أَيْ
انْتَحِلُوا ذلك
وَعَلَى هذا كانت الْآيَةُ حُجَّةً عليه لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
وُجُوبُ الْمَهْرِ في النِّكَاحِ دِينًا فَيَقَعُ الِاحْتِمَالُ في الْمُرَادِ
بِالْآيَةِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ النِّكَاحُ ينبىء عن الِازْدِوَاجِ فَقَطْ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ
شُرِعَ لِمَصَالِحَ لَا تَصْلُح إلَّا بِالْمَهْرِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَا ينبىء عن الْمِلْكِ أَيْضًا لَكِنْ لَمَّا كان مَصَالِحُ النِّكَاحِ
لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ ثَبَتَ تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ كَذَا الْمَهْرُ
وَأَمَّا الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ
الْمَهْرَ يَجِبُ ثُمَّ يَسْقُطُ وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ هو جَوَازُ النِّكَاحِ
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً من غَيْرِ مَهْرٍ فَعَلَى
قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْمَهْرُ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَيَجِبُ أَيْضًا إلَّا أَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ
لهم لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ ذلك وقد أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وما يَدِينُونَ حتى
أنهما لو تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي فَرَضَ الْقَاضِي لها الْمَهْرَ
وَكَذَا إذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ يقضي بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنَّمَا لَا يقضي لِوُجُودِ الِاسْتِيفَاءِ
دَلَالَةً لِأَنَّ مَوْتَهُمَا مَعًا في زَمَانٍ وَاحِدٍ نَادِرٌ وَإِنَّمَا
الْغَالِبُ مَوْتُهُمَا على التَّعَاقُبِ فإذا لم تَجُزْ الْمُطَالَبَةُ
بِالْمَهْرِ دَلَّ ذلك على الِاسْتِيفَاءِ أو على اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ
وَالْإِبْرَاءِ عن الْبَعْضِ مع ما أَنَّهُ قد قِيلَ أن قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ
مَحْمُولٌ على ما إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ حتى لم يَبْقَ من نِسَائِهَا من
يُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَذَا ذَكَرَهُ أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وأبو
بَكْرٍ الرَّازِيّ وَعِنْدَ ذلك يَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَرَأَيْت لو أَنَّ وَرَثَةَ
عَلِيٍّ ادَّعَوْا على وَرَثَةِ عُمَرَ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومَ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ أَكُنْتُ أَقْضِي بِهِ وَهَذَا المنع ( ( ( المعنى ) ) ) لم يُوجَدْ في
مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الذي يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَدْنَاهُ
عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أو ما قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَهَذَا
____________________
(2/275)
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَهْرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ يَسْتَوِي فيه الْقَلِيلُ
وَالْكَثِيرُ وَتَصْلُحُ الدَّانِقُ وَالْحَبَّةُ مَهْرًا
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من
أَعْطَى في نِكَاحٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ طَعَامًا أو دَقِيقًا أو سَوِيقًا فَقَدْ
اسْتَحَلَّ
وَرُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال تَزَوَّجَ عبد الرحمن بن عَوْفٍ
امْرَأَةً على وَزْنِ نَوَاةٍ من ذَهَبٍ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ في الْمَهْرِ ليس بِلَازِمٍ
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وهو حَقُّ الْمَرْأَةِ بِدَلِيلِ
أنها تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه اسْتِيفَاءً واسقاطا فَكَانَ التَّقْدِيرُ فيه
إلَى الْعَاقِدَيْنِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ } شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا
وَالْحَبَّةُ وَالدَّانِقُ وَنَحْوُهُمَا لَا يُعَدَّانِ مَالًا فَلَا يَصْلُحُ
مَهْرًا
وَرُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا لَا يَكُونُ
الْمَهْرُ أَقَلَّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قالوا ذلك توقيفا
لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَلِأَنَّهُ
لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ في الْمِقْدَارِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْمُتَيَقَّنِ
وهو الْعَشَرَةُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ إثْبَاتُ الِاسْتِحْلَالِ إذَا ذُكِرَ فيه مَالٌ
قَلِيلٌ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةً وَعِنْدَنَا الِاسْتِحْلَالُ صَحِيحٌ
ثَابِتٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ من
غَيْرِ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ أَصْلًا فَعِنْدَ تَسْمِيَةِ مَالٍ قَلِيلٍ أَوْلَى إلَّا
أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كان دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ عَشَرَةً وَلَيْسَ في
الحديث نَفْيُ الزِّيَادَةِ على الْقَدْرِ وَعِنْدَنَا قام دَلِيلُ الزِّيَادَةِ
إلَى الْعَشَرَةِ لِمَا نَذْكُرُ فَيُكَمَّلُ عَشَرَةً وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا
رُوِيَ من الْأَثَرِ لِأَنَّ فيه وَزْنَ نَوَاةٍ من ذَهَبٍ وقد تَكُونُ مِثْلَ
وَزْنِ دِينَارٍ بَلْ تَكُونُ أَكْثَرَ في الْعَادَةِ فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ أَنَّ
قِيمَةَ النَّوَاةِ كانت ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَوِّمَ
غَيْرُ مَعْلُومٍ أَنَّهُ من كان فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ ذلك حُجَّةً
على الْغَيْرِ حتى يُعْلَمَ أَنَّهُ من هو مع ما أَنَّهُ قد قال قَوْمٌ إنَّ
النَّوَاةَ كان بَلَغَ وَزْنُهَا قِيمَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِهِ قال
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ على أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ في الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ
كان يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا في الْمَهْرِ لَا أَصْلَ الْمَهْرِ على ما
جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعْجِيلِ شَيْءٍ من الْمَهْرِ قبل الدُّخُولِ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ ذلك كُلُّهُ في حَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ على ما
قِيلَ إن النِّكَاحَ كان جَائِزًا بِغَيْرِ مَهْرٍ إلَى أَنْ نهى النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم عن الشِّغَارِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْمَهْرَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فيه إلَى
الْعَبْدِ فَنَقُولُ نعم هو في حَالَةِ الْبَقَاءِ حَقُّهَا على الْخُلُوصِ
فَأَمَّا في حَالَةِ الثُّبُوتِ فَحَقُّ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ إبَانَةً
لِخَطَرِ الْبُضْعِ صِيَانَةً له عن شُبْهَةِ الِابْتِذَالِ بِإِيجَابِ مَالٍ له
خَطَرٌ في الشَّرْعِ كما في نِصَابِ السَّرِقَةِ فَإِنْ كان الْمُسَمَّى أَقَلَّ
من عَشَرَةٍ يُكَمَّلُ عَشَرَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لها
مَهْرُ الْمِثْلِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَفَسَدَتْ
التَّسْمِيَةُ كما لو سمي خَمْرًا أو خِنْزِيرًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ
وَلَنَا أَنَّهُ لِمَا كان أَدْنَى الْمِقْدَارِ الذي يَصْلُحُ مَهْرًا في
الشَّرْعِ هو الْعَشَرَةُ كان ذِكْرُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ
لِأَنَّ الْعَشَرَةَ في كَوْنِهَا مَهْرًا لَا يَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ
فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ يَكُونُ ذِكْرًا لِكُلِّهِ كما في الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ
عن الْقِصَاصِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ ما دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَتَفْسُدُ
التَّسْمِيَةُ فَنَقُولُ التَّسْمِيَةُ إنَّمَا تَفْسُدُ إذَا لم يَكُنْ
الْمُسَمَّى مَالًا أو كان مَجْهُولًا وَهَهُنَا الْمُسَمَّى مَالٌ وَإِنْ قَلَّ
فَهُوَ مَعْلُومٌ إلا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِنَفْسِهِ إلَّا بِغَيْرِهِ
فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِمَا هو الْأَدْنَى من الْمُصْلَحِ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ
تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى من إلْحَاقِهِ
بِالْعَدَمِ وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ أَيْضًا فَكَانَ أَحَقَّ بِخِلَافِ ما
إذَا ذَكَرَ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا لِأَنَّ الْمُسَمَّى ليس بِمَالٍ فلم يَصْلُحْ
مَهْرًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ فَوَجَبَ
الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ وهو مَهْرُ الْمِثْلِ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ أو على مَوْصُوفٍ أو على مَكِيلٍ أو
مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ مَهْرُهَا إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً
وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْعَقْدِ لَا يوم التَّسْلِيمِ حتى لو كانت قِيمَتُهُ
يوم الْعَقْدِ عَشَرَةً فلم يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا حتى صَارَتْ قِيمَتُهُ
ثَمَانِيَةً فَلَيْسَ لها إلَّا ذلك وَلَوْ كانت قِيمَتُهُ يوم الْعَقْدِ
ثَمَانِيَةً فلم يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا حتى صَارَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً فَلَهَا ذلك
وَدِرْهَمَانِ
وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الثَّوْبِ وَبَيْنَ
الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فقال في الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم
التَّسْلِيمِ وفي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يوم الْعَقْدِ وَهَذَا الْفَرْقُ لَا
يُعْقَلُ له وَجْهٌ في الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ
____________________
(2/276)
الْمُعَيَّنِ
فِيهِمَا جميعا وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا في الْمَوْصُوفِ أَنَّ الْمَكِيلَ
وَالْمَوْزُونَ إذَا كان مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ فَالزَّوْجُ مَجْبُورٌ على
دَفْعِهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ غَيْرِهِ من غَيْرِ رِضَاهَا فَكَانَ مُسْتَقِرًّا
مَهْرًا بِنَفْسِهِ في ذِمَّتِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الِاسْتِقْرَارِ وهو
يَوْمُ الْعَقْدِ فَأَمَّا الثَّوْبُ وَإِنْ وُصِفَ فلم يَتَقَرَّرْ مَهْرًا في
الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ بَلْ الزَّوْجُ مُخَيَّرٌ في تَسْلِيمِهِ وَتَسْلِيمِ
قِيمَتِهِ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ مَهْرًا بِالتَّسْلِيمِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم
التَّسْلِيمِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ما جُعِلَ مَهْرًا لم يَتَغَيَّرْ في نَفْسِهِ
وَإِنَّمَا التَّغَيُّرُ في رَغَبَاتِ الناس بِحُدُوثِ فُتُورٍ فيها وَلِهَذَا لو
غَصَبَ شيئا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيُعْتَبَرُ سِعْرُهُ وَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَةً
فزده ( ( ( فرده ) ) ) على الْمَالِكِ لَا يَضْمَنُ شيئا وَلِأَنَّهُ لَمَّا
سَمَّى ما هو أَدْنَى مَالِيَّةٍ من الْعَشَرَةِ كان ذلك تَسْمِيَةً لِلْعَشَرَةِ
لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ سمي ذلك دِرْهَمَيْنِ ثُمَّ ازدادات ( ( ( ازدادت ) ) ) قِيمَتُهُ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وما لَا يَصِحُّ وبيانه ( (
( وبيان ) ) ) حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا فَنَقُولُ لِصِحَّةِ
التَّسْمِيَةِ شَرَائِطُ منها أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ
التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ كان الْمُسَمَّى مَالًا أو لم يَكُنْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عنه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رسول اللَّهِ وَقَالَتْ يا
رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَهَبْت نَفْسِي لَك فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما
بِي في النِّسَاءِ من حَاجَةٍ فَقَامَ رَجُلٌ وقال زَوِّجْنِيهَا يا رَسُولَ
اللَّهِ فقال رسول اللَّهِ ما عِنْدَك فقال ما عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهَا فقال
أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا من حَدِيدٍ فقال ما عِنْدِي فقال هل مَعَك شَيْءٌ من
الْقُرْآنِ قال نعم سُورَةُ كَذَا فقال زَوَّجْتُكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآنِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى وهو السُّورَةُ من الْقُرْآنِ لَا يُوصَفُ
بِالْمَالِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَالًا ليس بِشَرْطٍ
لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ } شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا فما لَا يَكُونُ مَالًا
لَا يَكُونُ مَهْرًا فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وقَوْله تَعَالَى {
فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ } أَمَرَ بِتَنْصِيفِ الْمَفْرُوضِ في الطَّلَاقِ قبل
الدُّخُولِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْمَفْرُوضِ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْصِيفِ وهو
الْمَالُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ في حَدِّ الْآحَادِ وَلَا يُتْرَكُ نَصُّ الْكِتَابِ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مع ما أَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ السُّورَةَ من
الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ مَهْرًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ فيه ذِكْرُ تَعْلِيمِ
الْقُرْآنِ وَلَا ما يَدُلُّ عليه ثُمَّ تَأْوِيلُهَا زَوَّجْتُكهَا بِسَبَبِ ما
مَعَك من الْقُرْآنِ وَبِحُرْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ لَا أَنَّهُ كان ذلك النِّكَاحُ
بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَالٍ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا تَزَوَّجَ على تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أو على
تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ من الْأَحْكَامِ أو على الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
وَنَحْوِهَا من الطَّاعَاتِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَنَا لِأَنَّ
الْمُسَمَّى ليس بِمَالٍ فَلَا يَصِيرُ شَيْءٌ من ذلك مَهْرًا ثُمَّ الْأَصْلُ في
التَّسْمِيَةِ أنها إذَا صَحَّتْ وَتَقَرَّرَتْ يَجِبُ الْمُسَمَّى ثُمَّ يُنْظَرُ
إنْ كان الْمُسَمَّى عَشَرَةً فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لها إلَّا ذلك وَإِنْ كان دُونَ
الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ الْعَشَرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا
لِزُفَرَ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
وإذا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ أو تَزَلْزَلَتْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ
الْعِوَضَ الْأَصْلِيَّ في هذا الْبَابِ هو مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ قِيمَةُ
الْبُضْعِ وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عنه إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ
وَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ تَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْقِيمَةِ فإذا لم تَصِحَّ
التَّسْمِيَةُ أو تَزَلْزَلَتْ لم يَصِحَّ التَّقْدِيرُ فإذا لم يَصِحَّ
التَّقْدِيرُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا كان
الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ في ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا
بِالثَّمَنِ كَذَا هذا وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ على
التَّسْمِيَةِ أَصْلًا فإنه جَائِزٌ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا فَعَدَمُ
التَّسْمِيَةِ إذًا لم يَمْنَعْ جَوَازَ النِّكَاحِ فَفَسَادُهَا أَوْلَى أَنْ لَا
يَمْنَعَ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا فَسَدَتْ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ولم يُسَمِّ شيئا وَهُنَاكَ النِّكَاحُ صَحِيحٌ كَذَا هذا
وَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ ما ليس بِمَالٍ بشرط ( ( ( شرط ) ) ) فَاسِدٌ وَالنِّكَاحُ
لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَسَادَ في بَابِ الْبَيْعِ لِمَكَانِ الرِّبَا وَالرِّبَا
لَا يَتَحَقَّقُ في النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى النِّكَاحُ
صَحِيحًا وَعِنْدَهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَصِيرُ الْمَذْكُورُ مَهْرًا
لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عنه بِالِاسْتِئْجَارِ عليه عِنْدَهُ
فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً على طَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى أو على
الْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ ليس بِمَالٍ
____________________
(2/277)
وَكَذَا
الْقِصَاصُ وَعِنْدَهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ
عن الطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا على أَنْ لَا يُخْرِجَهَا من بَلَدِهَا أو على أَنْ
لَا يَتَزَوَّجَ عليها فإن الْمَذْكُورَ ليس بِمَالٍ وَكَذَا لو تَزَوَّجَ
الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَةَ على مَيْتَةٍ أو دَمٍ أو خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ لم
تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ في حَقِّ
أَحَدٍ وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ من ذلك مَهْرًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ نِكَاحُ الشِّغَارِ وهو أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ
لِآخَرَ على أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ أُخْتَهُ أو يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ أو
يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا جَعَلَ بُضْعَ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى وَالْبُضْعُ
ليس بِمَالٍ فَفَسَدَتْ التسيمة ( ( ( التسمية ) ) ) وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِمَا قُلْنَا وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ فَاسِدٌ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ الشِّغَارِ وَالنَّهْيُ
يُوجِبُ فَسَادَ المنهى عنه وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ بُضْعَ كل
وَاحِدَةٍ من الْمَرْأَتَيْنِ نِكَاحًا وَصَدَاقًا وَهَذَا لَا يَصِحُّ
وَلَنَا أَنَّ هذا النِّكَاحَ مُؤَبَّدٌ أَدْخَلَ فيه شَرْطًا فَاسِدًا حَيْثُ
شَرَطَ فيه أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى
وَالْبُضْعُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ
الْفَاسِدَةُ كما إذَا تَزَوَّجَهَا على أَنْ يُطَلِّقَهَا وَعَلَى أَنْ
يَنْقُلَهَا من مَنْزِلِهَا وَنَحْوَ ذلك وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَجْتَمِعْ
النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ في بُضْعٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ جَعْلَ الْبُضْعِ صَدَاقًا لم
يَصِحَّ فَأَمَّا النَّهْيُ عن نِكَاحِ الشِّغَارِ فَنِكَاحُ الشِّغَارِ هو
النِّكَاحُ الْخَالِي عن الْعِوَضِ مَأْخُوذٌ من قَوْلِهِمْ شَغَرَ الْبَلَدُ إذَا
خَلَا عن السُّلْطَانِ وَشَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ
وَعِنْدَنَا هو نِكَاحٌ بِعِوَضٍ وهو مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَا يَكُونُ شِغَارًا على
أَنَّ النَّهْيَ ليس عن عَيْنِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ
مُشْتَمِلٌ على مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَلَا يُحْتَمَلُ النَّهْيُ عن
إخْلَاءِ النِّكَاحِ عن تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما روى عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال
نهى رسول اللَّهِ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ ليس لِوَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا مَهْرٌ وهو إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّهْيَ لِمَكَانِ تَسْمِيَةِ
الْمَهْرِ لَا لِعَيْنِ النِّكَاحِ فَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا
وَلَوْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً على أَنْ يَخْدُمَهَا سَنَةً فَالتَّسْمِيَةُ
فَاسِدَةٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا قِيمَةُ خِدْمَةِ سَنَةٍ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا خِدْمَةُ سَنَةٍ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا على أَنْ
يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً أَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ وَلَهَا رَعْيُ غَنَمِهَا
سَنَةً وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَدُلُّ على أنها لَا تَصِحُّ في رَعْيِ
الْغَنَمِ كما لَا تَصِحُّ في الْخِدْمَةِ لِأَنَّ رَعْيَ غَنَمِهَا خِدْمَتُهَا
من مَشَايِخِنَا من جَعَلَ في رَعْيِ غَنَمِهَا رِوَايَتَيْنِ
وَمِنْهُمْ من قال يَصِحُّ في رَعْيِ الْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا
الْخِلَافُ في خِدْمَتِهِ لها وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوَّجَ
بِإِذْنِ الْمَوْلَى امْرَأَةً على أَنْ يَخْدِمَهَا سَنَةً أَنْ تَصِحَّ
التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْمُسَمَّى
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ ما يَجُوزُ أَخْذُ
الْعِوَضِ عنه يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَمَنَافِعُ الْحُرِّ يَجُوزُ أَخْذُ
الْعِوَضِ عنها لِأَنَّ إجَارَةَ الْحُرِّ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ فَتَصِحُّ
تَسْمِيَتُهَا كما تَصِحُّ تَسْمِيَةُ مَنَافِعِ الْعَبْدِ وَأَمَّا الْكَلَامُ مع
أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ
لِأَنَّهَا مَالٌ في سَائِرِ الْعُقُودِ حتى يَجُوزَ أَخْذُ الْعِوَضِ عنها
فَكَذَا في النِّكَاحِ وإذا كانت مَالًا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ
تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَا في التَّسْلِيمِ من اسْتِخْدَامِ الْحُرَّةِ
زَوْجَهَا وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِمَا نَذْكُرُ فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قِيمَةِ
الْخِدْمَةِ كما لو تَزَوَّجَهَا على عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَنَّهُ
يَجِبُ عليه قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْعَبْدِ قد صَحَّتْ
لِكَوْنِهِ مَالًا لَكِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَوَجَبَتْ
عليه قِيمَتُهُ لَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ على
أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَلِهَذَا لم تَكُنْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لها حُكْمُ التَّقَوُّمِ في سَائِرِ الْعُقُودِ شَرْعًا
ضَرُورَةً دَفْعًا لِلْحَاجَةِ بها وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بها هَهُنَا
لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عنه
شَرْعًا لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ الْحُرَّةِ زَوْجَهَا الْحُرَّ حَرَامٌ لِكَوْنِهِ
اسْتِهَانَةً وَإِذْلَالًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ
أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَبَاهُ لِلْخِدْمَةِ فَلَا تَسْلَمُ خِدْمَتُهُ لها شَرْعًا
فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بها فلم يَثْبُتْ لها التَّقَوُّمُ فَبَقِيَتْ
على الْأَصْلِ فَصَارَ كما لو سَمَّى ما لَا قِيمَةَ له كَالْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ وَهُنَاكَ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ
كَذَا هَهُنَا حتى لو كان الْمُسَمَّى فِعْلًا لَا اسْتِهَانَةَ فيه
____________________
(2/278)
وَلَا
مَذَلَّةَ على الرَّجُلِ كَرَعْيِ دَوَابِّهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهَا
وَالْأَعْمَالُ التي خَارِجُ الْبَيْتِ تَصِحُّ بِالتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ ذلك من
بَابِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا لَا من بَابِ الْخِدْمَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ
لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ زَوْجَتِهِ إيَّاهُ ليس بِحَرَامٍ لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلِاسْتِخْدَامِ
والإبتذال لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا مُلْحَقًا بِالْبَهَائِمِ وَلِأَنَّ مَبْنَى
النِّكَاحِ على الِاشْتِرَاكِ في الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ فَكَانَ لها
في خِدْمَتِهِ حَقٌّ فإذا جَعَلَ خِدْمَتَهُ لها مَهْرَهَا فَكَأَنَّهُ جَعَلَ ما
هو لها مَهْرَهَا فلم يَجُزْ كَالْأَبِ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ بِخِدْمَتِهِ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عليه كَذَا هذا
بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَصَحَّتْ
التَّسْمِيَةُ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على مَنَافِعِ سَائِرِ الْأَعْيَانِ من سُكْنَى دَارِهِ
وَخِدْمَةِ عَبِيدِهِ وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَالْحَمْلِ عليها وَزِرَاعَةِ
أَرْضِهِ وَنَحْوِ ذلك من مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتْ
التَّسْمِيَةُ لِأَنَّ هذه الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ أو الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ
شَرْعًا في سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ في النِّكَاحِ
مُتَحَقِّقَةٌ وَإِمْكَانُ الدَّفْعِ بِالتَّسْلِيمِ ثَابِتٌ بِتَسْلِيمِ
مَحَالِّهَا إذْ ليس فيه اسْتِخْدَامُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فَجُعِلَتْ
أَمْوَالًا وَالْتَحَقَتْ بِالْأَعْيَانِ فحصت ( ( ( فصحت ) ) ) تَسْمِيَتُهَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال تَزَوَّجْتُك على هذا الْعَبْدِ فإذا هو حُرٌّ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إما أن سمي ما يَصْلُحُ
مَهْرًا وَأَشَارَ إلَى ما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا وإما أن سَمَّى ما لَا يَصْلُحُ
مَهْرًا فَأَشَارَ إلَى ما يَصْلُحُ مَهْرًا فَإِنْ سَمَّى ما يَصْلُحُ مَهْرًا
وَأَشَارَ إلَى ما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِأَنْ قال تَزَوَّجْتُك على هذا
الْعَبْدِ فإذا هو حُرٌّ أو على هذه الشَّاةِ الذَّكِيَّةِ فإذا هِيَ مَيْتَةٌ أو
على هذا الزِّقِّ الْخَلِّ فإذا هو خَمْرٌ فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ في جَمِيعِ
ذلك وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ
تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ في الْكُلِّ وَعَلَيْهِ في الْحُرِّ قِيمَةُ الْحُرِّ لو
كان عَبْدًا وفي الشَّاةِ قِيمَةُ الشَّاةِ لو كانت ذَكِيَّةً وفي الْخَمْرِ
مِثْلُ ذلك الدَّنِّ من خَلٍّ وَسَطٍ وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فقال مِثْلَ قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ في الْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَمِثْلَ قَوْلِ أبي يُوسُفَ في الْخَمْرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هو
الْعَبْدُ وَالشَّاةُ الذَّكِيَّةُ وَالْخَلُّ وَكُلُّ ذلك مَالٌ فَصَحَّتْ
التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ خِلَافَ جِنْسِ
الْمُسَمَّى في صَلَاحِيَّةِ الْمَهْرِ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ
في الْحُرِّ وَالشَّاةِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من الْمِثْلِيَّاتِ وفي الْخَمْرِ
يَجِبُ مِثْلُهُ خَلًّا لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ كما لو هَلَكَ الْمُسَمَّى أو
اُسْتُحِقَّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْفَرْقِ أَنَّ الْإِشَارَةَ مع التَّسْمِيَةِ إذَا
اجْتَمَعَتَا في الْعُقُودِ فَإِنْ كان الْمُشَارُ إلَيْهِ من جِنْسِ الْمُسَمَّى
يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ
يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى هذا أَصْلٌ مُجْمَعٌ عليه في الْبَيْعِ على
ما نَذْكُرُ في الْبُيُوعِ وَالْحُرُّ من جِنْسِ الْعَبْدِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ
الْمَنْفَعَةِ
وَكَذَا الشَّاةُ الْمَيْتَةُ من جِنْسِ الشَّاةِ الذَّكِيَّةِ فَكَانَتْ
الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ وَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ وَالْمُشَارُ
إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَصَارَ كَأَنَّهُ اقْتَصَرَ على الْإِشَارَةِ ولم
يُسَمِّ بِأَنْ قال تَزَوَّجْتُك على هذا وَسَكَتَ فَأَمَّا الْخَلُّ مع الْخَمْرِ
فَجِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَتَعَلَّقَ
الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى لَكِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ وهو مِثْلِيٌّ فَيَجِبُ مِثْلُهُ
خَلًّا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشَارَةَ وَالتَّسْمِيَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وُضِعَتْ للتعيرف ( ( ( للتعريف ) ) ) إلَّا أَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ في
التَّعْرِيفِ لِأَنَّهَا تُحْضِرُ الْعَيْنَ وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ
وَالتَّسْمِيَةُ لَا تُوجِبُ إحْضَارَ الْعَيْنِ وَلَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ
فَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ
وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَيَجِبُ مَهْرُ
الْمِثْلِ كما لو أَشَارَ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ
ولم يُسَمِّ
وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذا حُرٌّ سمي عَبْدًا
وَتَسْمِيَةُ الْحُرِّ عَبْدًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فَالْتَحَقَتْ
التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا
يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ بِالْعَدَمِ
أَيْضًا فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا وَهَذَا فِقْهٌ
وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى هذا إذَا سَمَّى ما يَصْلُحُ مَهْرًا وَأَشَارَ
إلَى ما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَمَّا إذَا سَمَّى ما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا
وَأَشَارَ إلَى ما يَصْلُحُ مَهْرًا بِأَنْ قال تَزَوَّجْتُك على هذا الْحُرِّ
فإذا هو عبدا وعلى هذه الْمَيْتَةِ فإذا هِيَ ذَكِيَّةٌ أو على هذا الدَّنِّ
الْخَمْرِ فإذا هو خَلٌّ فَقَدْ رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ
التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ وَلَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عنه أَنَّ لها مَهْرَ الْمِثْلِ
وَرِوَايَةُ أبي يُوسُفَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حُكْمَ لها مع الْإِشَارَةِ في بَابِ
النِّكَاحِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ يَصْلُحُ
مَهْرًا لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ لها الْمُشَارُ إلَيْهِ
ووجه ( ( ( وجه ) ) ) ما روي مُحَمَّدٌ
____________________
(2/279)
عنه
أَنَّهُ لَمَّا سَمَّى مالا يَصْلُحُ مَهْرًا وَأَشَارَ إلَى ما يَصْلُحُ مَهْرًا
فَقَدْ هَزَلَ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْهَازِلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهِ
حُكْمٌ فَبَطَلَ كَلَامُهُ رَأْسًا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على هذا الدَّنِّ
الْخَمْرِ وَقِيمَةُ الظَّرْفِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا رَوَى ابن سِمَاعَةَ
عن مُحَمَّدٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ روى عنه أَنَّ لها الدَّنَّ لَا
غير وروى عنه أَيْضًا أَنَّ لها مَهْرَ الْمِثْلِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ سَمَّى ما يَصْلُحُ مَهْرًا وهو الظَّرْفُ
وما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا وهو الْخَمْرُ فَيَلْغُو ما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كما لو
تَزَوَّجَهَا على الْخَلِّ وَالْخَمْرِ وَقِيمَةُ الْخَلِّ عَشَرَةٌ أَنَّهُ
يَكُونُ لها الْخَلُّ لَا غير لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الظَّرْفَ لَا يُقْصَدُ بِالْعَقْدِ عَادَةً
بَلْ هو تَابِعٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هو الْمَظْرُوفُ فإذا بَطَلَتْ
التَّسْمِيَةُ في الْمَقْصُودِ تَبْطُلُ فِيمَا هو تَبَعٌ له وَاَللَّهُ تعالى
أَعْلَمُ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فإذا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ
لها إلَّا الْعَبْدُ الْبَاقِي إذَا كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ لها الْعَبْدُ وَقِيمَةُ الْحُرِّ لو كان عَبْدًا
وقال مُحَمَّدٌ يُنْظَرُ إلَى الْعَبْدِ إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَهْرَ مِثْلِهَا
فَلَيْسَ لها إلَّا الْعَبْدُ وَإِنْ كانت قميته ( ( ( قيمته ) ) ) أَقَلَّ من
مَهْرِ مِثْلِهَا تَبْلُغُ إلَى ثَمَنِ مَهْرِ مِثْلِهَا وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَهَذَا بِنَاءً على الْأُصُولِ التي ذَكَرْنَاهَا لهم
فَمِنْ أَصْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ جَعْلَ الْحُرِّ مَهْرًا صَحِيحٌ إذَا سَمَّى
عَبْدًا وَيَتَعَلَّقُ بِقِيمَتِهِ أَنْ لو كان عَبْدًا فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ
بِالْمُسَمَّيَيْنِ جميعا بِقَدْرِ ما يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
التَّعْلِيقَ بِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ
وَيَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ بِقِيمَتِهِ لو كان عَبْدًا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ
التَّعْلِيقَ بِعَيْنِهِ
وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كان من جِنْسِ الْمُسَمَّى
فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَالْحُرُّ من جِنْسِ الْعَبْدِ
لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ
لَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ بين الْمُسَمَّى وَبَيْنَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ
مَهْرُ الْمِثْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كَانَا حُرَّيْنِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَهُ
وَمَتَى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْمُسَمَّى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَصْلَانِ أَحَدُهُمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرَّ إذَا
جُعِلَ مَهْرًا وَسُمِّيَ عَبْدًا لَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهِ شَيْءٌ وَجُعِلَ
ذِكْرُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ إذَا أُضِيفَ إلَى ما لَا يَصْلُحُ يَلْغُو ما لَا
يَصْلُحُ وَيَسْتَقِرُّ ما يَصْلُحُ كَمَنْ جَمَعَ بين امْرَأَةٍ تَحِلُّ له
وَامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ له وَتَزَوَّجَهُمَا في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بِمُسَمًّى
يَجِبُ كُلُّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْحَلَالِ وَانْعِقَادُ نِكَاحِهَا صَحِيحًا
لِلْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَتَقْرِيرًا لِلْعَقْدِ فِيمَا
أَمْكَنَ تَقْرِيرُهُ وَإِلْغَاؤُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فيه
وَالْعَبْدُ هو الصَّالِحُ لِكَوْنِهِ مَهْرًا فَصَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ وَيَصِيرُ
مَهْرًا لها إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً فَصَاعِدًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا تَزَوَّجَهَا على بَيْتٍ وَخَادِمٍ وَالْخَادِمُ
حُرٌّ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على هَذَيْنِ الدَّنَّيْنِ من الْخَلِّ فإذا
أَحَدُهُمَا خَمْرٌ لها الْبَاقِي لَا غير في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا كان يُسَاوِي
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كما في الْعَبْدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا لها الْبَاقِي وَمِثْلُ
هذا الدَّنِّ من الْخَلِّ وقد ذَكَرْنَا الْأَصْلَ وَلَوْ سمي مَالًا وَضَمَّ
إلَيْهِ ما ليس بِمَالٍ لَكِنْ لها فيه مَنْفَعَةٌ مِثْلُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ
أُخْرَى وَإِمْسَاكِهَا في بَلَدِهَا أو الْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ فَإِنْ وَفَّى
بِالْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لها إلَّا ما سَمَّى إذَا كان يُسَاوِي عَشَرَةً
فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ سَمَّى ما يَصْلُحُ مَهْرًا بِنَفْسِهِ وَشَرَطَ لها
مَنْفَعَةً وقد وَفَّى بِمَا شَرَطَ لها فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَصَارَتْ
الْعَشَرَةُ مَهْرًا وَإِنْ لم يَفِ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان ما سَمَّى لها من الْمَالِ مِثْلَ مَهْرِ مِثْلِهَا أو
أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ لها إلَّا ذلك وَإِنْ كان ما سَمَّى لها أَقَلَّ من مَهْرِ
مِثْلِهَا تَمَّمَ لها مَهْرَ مِثْلِهَا عِنْدَنَا
وقال زُفَرُ إنْ كان الْمَضْمُومُ مَالًا كما إذَا شَرَطَ أَنْ يَهْدِيَ لها
هَدِيَّةً فلم يَفِ لها تَمَّمَ لها مَهْرَ الْمِثْلِ وَإِنْ كان غير مَالٍ
كَطَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَأَنْ لَا يُخْرِجَهَا من بَلَدِهَا فَلَيْسَ لها
إلَّا ما سَمَّى
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ ما ليس بِمَالٍ لَا يُتَقَوَّمُ فَلَا يَكُونُ
فَوَاتُهُ مَضْمُونًا بِعِوَضٍ وما هو مَالٌ يُتَقَوَّمُ فإذا لم يُسَلَّمْ لها
جَازَ لها الرُّجُوعُ إلَى تَمَامِ الْعِوَضِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ في هذا الْبَابِ هو مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَا
يُعْدَلُ عنه إلَّا عِنْدَ اسْتِحْكَامِ التَّسْمِيَةِ فإذا وَفَّى
بِالْمَنْفَعَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ التَّسْمِيَةُ فَوَجَبَ الْمُسَمَّى وإذا لم
يَفِ بها لم تَتَقَرَّرْ لِأَنَّهَا ما رَضِيَتْ بِالْمُسَمَّى من الْمَالِ
عِوَضًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى مَضْمُومَةٍ إلَيْهِ وَهِيَ
مَنْفَعَةٌ أُخْرَى مَرْغُوبٌ فيها خِلَالَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فإذا لم
يُسَلَّمْ لها تَتَقَرَّرُ التَّسْمِيَةُ فَبَقِيَ حَقُّهَا في الْعِوَضِ
الْأَصْلِيِّ وهو مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كان أَقَلَّ من مَهْرِ مِثْلِهَا أو
أَكْثَرَ فَلَيْسَ لها إلَّا ذلك لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا قَدْرُ حَقِّهَا
وَإِنْ كان أَقَلَّ من مَهْرِ مِثْلِهَا يُكَمَّلُ لها مَهْرُ مِثْلِهَا أَيْضًا
لَا إلَى الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ فُرِّقَ
____________________
(2/280)
بين
هذا وَبَيْنَ ما إذَا تَزَوَّجَهَا على مَهْرٍ صَحِيحٍ وَأَرْطَالٍ من خَمْرٍ
أَنَّ الْمَهْرَ ما يُسَمَّى لها إذَا كان عَشَرَةً فَصَاعِدًا وَيَبْطُلُ
الْحَرَامُ وَلَيْسَ لها تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا أو أَكْثَرُ فَلَيْسَ لها إلَّا
ذلك لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا قَدْرُ حَقِّهَا وَإِنْ كان أَقَلَّ من مَهْرِ
مِثْلِهَا يُكَمَّلُ لها مَهْرُ مِثْلِهَا أَيْضًا لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ
لم تَصِحَّ في حَقِّ الِانْتِفَاعِ بها في حَقِّ الْمُسْلِمِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ
لِلْمُسْلِمِ فيها لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بها في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِفَوَاتِهَا عِوَضٌ فَالْتَحَقَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَدَمِ
وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يُسَمِّ إلَّا الْمَهْرَ الصَّحِيحَ فَلَا يَجِبُ لها إلَّا
الْمَهْرُ الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما
إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ على أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا منه فَقَبِلَتْ عَتَقَتْ
لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا بِعِوَضٍ فنزول ( ( ( فيزول ) ) ) مِلْكُهُ بِقَبُولِ
الْعِوَضِ كما لو بَاعَهَا وَكَمَا إذَا قال لها أَنْتِ حُرَّةٌ على أَلْفِ
دِرْهَمٍ بِخِلَافِ ما إذَا قال لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ
حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ ما لم يُؤَدِّ لِأَنَّ ذلك ليس
بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هو تَعْلِيقٌ وهو تَعْلِيقُ الْحُرِّيَّةِ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ
إلَيْهِ ولم يُوجَدْ الشَّرْطُ
ثُمَّ إذَا أَعْتَقَتْ بِالْقَبُولِ فَبَعْدَ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أن زَوَّجَتْ
نَفْسَهَا منه وَإِمَّا أن أَبَتْ التَّزْوِيجَ فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا منه
يُنْظَرُ إنْ كان قد سَمَّى لها مَهْرًا آخَرَ وهو مَالٌ سِوَى الْإِعْتَاقِ
فَلَهَا الْمُسَمَّى إذَا كان عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا
وَإِنْ كان دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ عَشَرَةً وَإِنْ لم يُسَمِّ لها سِوَى
الْإِعْتَاقِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال
أبو يُوسُفَ صَدَاقُهَا إعْتَاقُهَا ليس لها غَيْرُ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ بِمَعْنَى الْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ
أَخْذُ الْعِوَضِ عنه بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ على مَالٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ
مَهْرًا وَلَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ ليس بِمَالٍ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
إبْطَالُ الْمَالِكِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِتْقُ مَالًا إلَّا أَنَّهُ
يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ هو مَالٌ عنه وَهَذَا لَا يَدُلُّ على كَوْنِهِ مَالًا
بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ ليس بِمَالٍ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عنه
وَكَذَا الْقِصَاصُ وَأَخْذُ الْبَدَلِ عنه جَائِزٌ وَنَفْسُ الْحُرِّ لَيْسَتْ
بِمَالٍ وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا منه لَا تُجْبَرُ على ذلك
لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا تُجْبَرُ على النِّكَاحِ لَكِنَّهَا
تَسْعَى في قِيمَتِهَا لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ
لَا سِعَايَةَ عليها
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لتخلص ( ( ( لتخليص ) ) )
الرَّقَبَةِ وَهَذِهِ حُرَّةٌ خَالِصَةٌ فَلَا تَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى ما رضي بِزَوَالِ مِلْكِهِ عن رَقَبَتِهَا لَا بِنَفْعٍ
يُقَابِلُهُ وهو تَزْوِيجُ نَفْسِهَا منه وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَرْغُوبٌ فيها وقد
تَعَذَّرَ عليه اسْتِيفَاءُ هذه الْمَنْفَعَةِ بِمَعْنًى من جِهَتِهَا وهو
إبَاؤُهَا فَيُقَامُ بَدَلُ قِيمَتِهَا مَقَامَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
وَأَمَّا قَوْلُهُ السِّعَايَةُ إنَّمَا تَجِبُ لِفِكَاكِ الرَّقَبَةِ
وَتَخْلِيصِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ خَالِصَةٌ فَنَقُولُ السِّعَايَةُ قد تَكُونُ
لِتَخْلِيصِ الرَّقَبَةِ وَهَذَا الْمُسْتَسْعَى يَكُونُ في حُكْمِ الْمُكَاتَبِ
على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وقد تَكُونُ لِحَقٍّ في الرَّقَبَةِ لَا لِفِكَاكِ
الرَّقَبَةِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وهو مُعْسِرٌ
كما إذَا قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ على قِيمَةِ رَقَبَتِك فَقَبِلَ حتى عَتَقَ
كَذَا هذا
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على عِتْقِ أَبِيهَا أو ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها أو
على عِتْقِ عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ عنها فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ فيه
كَلِمَةً عنها بِأَنْ قال أَتَزَوَّجُك على عِتْقِ أَبِيك عَنْك أو على عِتْقِ هذا
الْعَبْدِ عَنْك وَأَشَارَ إلَى عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ عنها وأما أَنْ يذكر فَإِنْ لم
يذكر وَقَبِلَتْ عَتَقَ البعد ( ( ( العبد ) ) ) وَالْوَلَاءُ لِلزَّوْجِ لَا لها
لِأَنَّ الْمُعْتِقَ هو الزَّوْجُ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ على لِسَانِ رسول
اللَّهِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ لم يَكُنْ سَمَّى لها مَهْرًا آخَرَ هو
مَالٌ وَإِنْ كان قد سَمَّى فَلَهَا الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِقَبُولِهَا
النِّكَاحَ فإذا قَبِلَتْ عَتَقَ وَالْعَبْدُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ ليس
بِمَالٍ فَإِنْ كان هُنَاكَ مَالٌ مُسَمًّى وَجَبَ ذلك لِأَنَّهُ صَحَّتْ
تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا فَوَجَبَ الْمُسَمَّى وَإِنْ لم يَكُنْ فَتَسْمِيَتُهُ
الْعِتْقَ مَهْرًا لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ
هذا إذَا لم يذكر عنها فَأَمَّا إذَا ذُكِرَتْ فَقَبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ عنها
وَثَبَتَ الْوَلَاءُ لها وَصَارَ ذلك مَهْرًا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعِتْقَ
عنها وَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ عنها إلَّا بَعْدَ سَبْقِ الْمِلْكِ لها
فَمَلَكَتْهُ أَوَّلًا ثُمَّ عَتَقَ عنها كَمَنْ قال لِآخَرَ أَعْتِقْ عَبْدَك
عَنِّي عن كَفَّارَةِ يَمِينِي على أَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عن
الآمر ( ( ( الآخر ) ) ) وَحَالَ ما مَلَكَتْهُ كان مَالًا فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا
وَهَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا على الْعِتْقِ فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا على
الْإِعْتَاقِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا على أَنْ يُعْتِقَ هذا الْعَبْدَ فَهَذَا
أَيْضًا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ ذَكَرَ فيه عنها وَإِمَّا
أَنْ لم يذكر فَإِنْ لم يذكر فَقَبِلَتْ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَا يَعْتِقُ
الْعَبْدُ هَهُنَا بِقَبُولِهَا لِأَنَّهُ وَعَدَ أَنْ يُعْتِقَ وَالْعِتْقُ لَا
يَثْبُتُ بِوَعْدِ
____________________
(2/281)
الْإِعْتَاقِ
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِعْتَاقِ فما لم يُعْتِقْ لَا يَعْتِقْ بِخِلَافِ
الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الزَّوَاجَ هُنَاكَ كان على الْعِتْقِ لَا على
الْإِعْتَاقِ ثُمَّ إذَا أَعْتَقَهُ فَعَتَقَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ
كَلِمَةً عنها أو لم يذكر فَإِنْ كان لم يذكر ثَبَتَ الْوَلَاءُ منه لَا منها
لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ منه لَا منها وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ وَلَهَا مَهْرُ
مِثْلِهَا إنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ مَهْرٌ آخَرُ مُسَمًّى وهو مَالٌ وَإِنْ كان
فَلَهَا ذلك الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ ليس بِمَالٍ بَلْ هو إبْطَالُ
الْمَالِيَّةِ سَوَاءٌ كان الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا أو ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها
وَإِنْ ذَكَرَ كَلِمَةً عنها ثَبَتَ الْوَلَاءُ منها لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ منها
لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عنها وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِلْكًا لها بِمُقْتَضَى
الْإِعْتَاقِ
ثُمَّ إنْ كان ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها عَتَقَ عليها كما مَلَكَتْهُ فَتَمْلِكُهُ
فَيَعْتِقُ عليها وَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا يَصِيرُ الزَّوْجُ وَكِيلًا عنها في
الْإِعْتَاقِ وَمِنْهَا إذَا أَعْتَقَ كما وَعَدَ فَإِنْ أَبَى لَا يُجْبَرُ على
ذلك لِأَنَّهُ حُرٌّ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ ثَمَّةَ
مُسَمًّى هو مَالٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ
الْإِعْتَاقِ مَهْرًا لم يَصِحَّ ولم يُوجَدْ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ آخَرَ هو مَالٌ
فَتَعَيَّنَ مَهْرُ الْمِثْلِ مُوجَبًا وَإِنْ كان قد سَمَّى لها شيئا آخَرَ هو
مَالٌ فَإِنْ كان الْمُسَمَّى مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَكْثَرَ فَلَهَا ذلك
الْمُسَمَّى لِأَنَّ الزَّوْجَ رضي بِالزِّيَادَةِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من مَهْرِ
مِثْلِهَا فَإِنْ كان الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا فَلَهَا ذلك الْمُسَمَّى لَا غير
لِأَنَّهُ شَرَطَ لها شَرْطًا لَا مَنْفَعَةَ لها فيه فَلَا يَكُونُ غَارًّا لها بِتَرْكِ
الْوَفَاءِ بِمَا شَرَطَ لها وَإِنْ كان ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها يَبْلُغُ بِهِ
تَمَامَ مَهْرِ مِثْلِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا
بِمَا شَرَطَ ولم تَكُنْ رَاضِيَةً فَصَارَ غَارًّا لها وَهَذَا إذَا لم يَقُلْ
عنها فَأَمَّا إذَا قال ذلك بِأَنْ تَزَوَّجَهَا على أَنْ يُعْتِقَ هذا الْعَبْدَ
عنها فَقَبِلَتْ صَحَّ النِّكَاحُ وَصَارَ الْعَبْدُ مِلْكًا ثُمَّ إنْ كان ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها عَتَقَ عليها لِأَنَّهَا مَلَكَتْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها
وكان ذلك مَهْرًا لها لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ ثُمَّ يَعْتِقُ عليها وَإِنْ كان
أَجْنَبِيًّا يَكُونُ الزَّوْجُ وَكِيلًا عنها بِالْإِعْتَاقِ فَإِنْ أَعْتَقَ قبل
الْعَزْلِ فَقَدْ وَقَعَ الْعِتْقُ عنها وَإِنْ عَزَلَتْهُ في ذلك صَحَّ الْعَزْلُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً تَزِيدُ على جَهَالَةِ
مَهْرِ الْمِثْلِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَهْرَ في الْأَصْلِ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُسَمًّى غير مُعَيَّنٍ مُشَارًا إلَيْهِ فَإِنْ كان مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ
صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ سَوَاءٌ كان مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في عُقُودِ
الْمُعَاوَضَاتِ من الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ
الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أو كان
مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالدَّرَاهِمِ
لِأَنَّهُ مَالٌ لَا جَهَالَةَ فيه إلَّا أَنَّهُ كان مِمَّا يَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ ليس لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ وَيَدْفَعَ غَيْرَهَا من
غَيْرِ رِضَا الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ قد تَعَيَّنَ لِلْعَقْدِ
فَتَعَلَّقَ حَقُّهَا بِالْعَيْنِ فَوَجَبَ عليه تَسْلِيمُ عَيْنِهِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ له أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَدْفَعَ مثله جِنْسًا
وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً لِأَنَّ التَّعْيِينَ إذَا لم يَصِحَّ صَارَ
مَجَازًا عِوَضًا من الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَإِنْ كان
تِبْرًا مَجْهُولًا أو نُقْرَةً ذَهَبًا وَفِضَّةً يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ
عَيْنِهِ في رِوَايَةٍ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْعُرُوضِ وَلَا
يُجْبَرُ في رِوَايَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْمَضْرُوبِ
وَإِنْ كان الْمُسَمَّى غير عَيْنٍ فَالْمُسَمَّى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
مَجْهُولَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَإِنْ كان مَجْهُولًا
كَالْحَيَوَانِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً
على حَيَوَانٍ أو دَابَّةٍ أو ثَوْبٍ أو دَارٍ ولم يُعَيِّنْ لم تَصِحَّ
التَّسْمِيَةُ وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا ما بَلَغَ لِأَنَّ
جَهَالَةَ الْجِنْسِ مُتَفَاحِشَةٌ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ
أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَتَحْتَ كل نَوْعٍ أَشْخَاصٌ مُخْتَلِفَةٌ
وَكَذَا الدَّابَّةُ وَكَذَا الثَّوْبُ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ على ثَوْبِ
الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَزِّ وَالْبَزِّ وَتَحْتَ كل وَاحِدٍ
من ذلك أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَا الدَّارُ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ
في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ وَتَخْتَلِفُ قِيمَتُهَا
بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا
فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَالْتَحَقَتْ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ جَهَالَةَ الْعِوَضِ تَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْمِيَتِهِ كما في
الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا
أَنَّهُ يُتَحَمَّلُ ضَرْبٌ من الْجَهَالَةِ في الْمَهْرِ بِالْإِجْمَاعِ فإن
مَهْرَ الْمِثْلِ قد يَجِبُ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَجْهُولٌ ضَرْبًا من الْجَهَالَةِ فَكُلُّ
جَهَالَةٍ في الْمُسَمَّى مَهْرًا مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَقَلُّ
من ذلك يَتَحَمَّلُ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ
____________________
(2/282)
اسْتِدْلَالًا
بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ تَزِيدُ على جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ
يَبْقَى الْأَمْرُ فيها على الْأَصْلِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كما في
سَائِرِ الْأَعْوَاضِ
إذَا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ لَا شَكَّ إن جَهَالَةَ الْحَيَوَانِ وَالدَّابَّةِ
وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ أَكْثَرُ من جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ بَعْدَ
اعْتِبَارِ تَسَاوِي الْمَرْأَتَيْنِ في الْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ
وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالْبَلَدِ وَالْعِفَّةِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ
بَيْنَهُمَا فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَأَمَّا جَهَالَةُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ
فَجَهَالَةٌ مُتَفَاحِشَةٌ فَكَانَتْ أَكْثَرَ جَهَالَةً من مَهْرِ الْمِثْلِ
فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ وَإِنْ كان الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ
وَالنَّوْعِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ كما إذَا تَزَوَّجَهَا على عَبْدٍ أو
أَمَةٍ أو فَرَسٍ أو جَمَلٍ أو حِمَارٍ أو ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ أو هَرَوِيٍّ صَحَّتْ
التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْوَسَطُ من ذلك وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ
أَعْطَاهَا الْوَسَطَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال
الشَّافِعِيُّ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْوَصْفِ فَلَا تَصِحُّ
تَسْمِيَتُهُ كما في الْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ تُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ ثُمَّ جَهَالَةُ الْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ
التَّسْمِيَةِ فَكَذَا جَهَالَةُ الْوَصْفِ
وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِمَا ليس بِمَالٍ وَالْحَيَوَانُ
الذي هو مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولُ الصِّفَةِ يَجُوزُ أَنْ
يَثْبُتَ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كما في الذِّمَّةِ قال
النبي في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَالْبُضْعُ ليس بِمَالٍ
فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عنه وَلِأَنَّ
جَهَالَةَ الْوَسَطِ من هذه الْأَصْنَافِ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أو
أَقَلُّ فَتِلْكَ الْجَهَالَةُ لَمَّا لم تَمْنَعْ صِحَّةَ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ
فَكَذَا هذه إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ ثَمَنًا في الْبَيْعِ لِأَنَّ
الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْبَدَلِ أَصْلًا قَلَّتْ أو كَثُرَتْ
وَالنِّكَاحُ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مِثْلَ جَهَالَةِ مَهْرِ
الْمِثْلِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ على الْمُضَايَقَةِ
وَالْمُمَاكَسَةِ فَالْجَهَالَةُ فيه وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَمَبْنَى النِّكَاحِ على الْمُسَامَحَةِ وَالْمُرُوءَةِ فَجَهَالَةُ مَهْرِ
الْمِثْلِ فيه لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْوَسَطِ فَلِأَنَّ الْوَسَطَ هو الْعَدْلُ لِمَا فيه من
مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَتَضَرَّرُ بِإِيجَابِ الْجَيِّدِ
وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِإِيجَابِ الرَّدِيءِ فَكَانَ الْعَدْلُ في إيجَابِ
الْوَسَطِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النبي خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا
وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ الْوَسَطِ في هذا الْبَابِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دخل بها فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ
وَلَا شَطَطَ وَكَذَلِكَ قال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه في
الْمُفَوِّضَةِ أَرَى لها مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ
وَالْمَعْنَى ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ بين الْوَسَطِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّ
الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لايثبت دَيْنًا في الذِّمَّةِ في مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلَا يَثْبُتُ
في الذِّمَّةِ في ضَمَانِ الْإِتْلَافِ حتى لَا يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ في
الِاسْتِهْلَاكِ بَلْ بِالْقِيمَةِ فَمِنْ حَيْثُ أنه يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ في
الْجُمْلَةِ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْوَسَطِ منه وَمِنْ حَيْثُ أنه لَا يَثْبُتُ
ثُبُوتًا مُطْلَقًا قُلْنَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بين تَسْلِيمِهِ وَبَيْنَ
تَسْلِيمِ قِيمَتِهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ جميعا وَلِأَنَّ الْوَسَطَ لَا
يُعْرَفُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ أَصْلًا في
الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَتْ أَصْلًا في التَّسْلِيمِ
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ لَا لِلْمَرْأَةِ فَلِأَنَّهُ
الْمُسْتَحَقُّ عليه فَكَانَ الْخِيَارُ له وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا على
بَيْتٍ وَخَادِمٍ فَلَهَا بَيْتٌ وَسَطٌ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ النِّسَاءُ وهو
بَيْتُ الثوب ( ( ( النوب ) ) ) لَا الْمَبْنِيُّ فَيَنْصَرِفُ إلَى فُرُشِ
الْبَيْتِ في أَهْلِ الْأَمْصَارِ وفي أَهْلِ الْبَادِيَةِ إلَى بَيْتِ الشَّعْرِ
وَلَهَا خَادِمٌ وَسَطٌ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ من هذه الْأَصْنَافِ يَنْصَرِفُ إلَى
الْوَسَطِ لِأَنَّ الْوَسَطَ منها مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَجَهَالَتُهُ مِثْلُ
جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَقَلُّ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كما
لو نَصَّ على الْوَسَطِ وَلَوْ وَصَفَ شيئا من ذلك بِأَنْ قال جَيِّدٌ أو وَسَطٌ
أو رَدِيءٌ فَلَهَا الْمَوْصُوفُ وَلَوْ جاء بِالْقِيمَةِ تُجْبَرُ على الْقَبُولِ
لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْأَصْلُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْجَيِّدُ وَالْوَسَطُ وَالرَّدِيءُ إلَّا
بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْمُعَرِّفَةُ بِهَذِهِ
الصِّفَاتِ فَكَانَتْ أَصْلًا في الْوُجُوبِ فَكَانَتْ أَصْلًا في التَّسْلِيمِ
فإذا جاء بها تُجْبَرُ على قَبُولِهَا
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على وَصِيفٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْوَسَطُ من ذلك
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على وَصِيفٍ أَبْيَضَ لَا شَكَّ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ
لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ الْوَصْفِ فإذا وَصَفَ أَوْلَى وَلَهَا الْوَصِيفُ
الْجَيِّدُ لِأَنَّ الْأَبْيَضَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِلْجَيِّدِ ثُمَّ الْجَيِّدُ
عِنْدَهُمْ هو الرُّومِيُّ وَالْوَسَطُ السِّنْدِيُّ والردىء ( ( ( والرديء ) ) )
الْهِنْدِيُّ
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْجَيِّدُ هو التُّرْكِيُّ وَالْوَسَطُ
____________________
(2/283)
الرُّومِيّ
وَالرَّدِيءُ الْهِنْدِيُّ وقد قال أبو حَنِيفَةَ قِيمَةُ الْخَادِمِ الْجَيِّدِ
خَمْسُونَ دِينَارًا وَقِيمَةُ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ وَقِيمَةُ الرَّدِيءِ ثَلَاثُونَ
وَقِيمَةُ الْبَيْتِ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ زَادَ السِّعْرُ أو نَقَصَ فَبِحَسَبِ
الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ وَهَذَا ليس بِاخْتِلَافٍ في الْحَقِيقَةِ فَفِي زَمَنِ
أبي حَنِيفَةَ كانت الْقِيَمُ مُسَعَّرَةً وفي زَمَانِهِمَا تَغَيَّرَتْ
الْقِيمَةُ فَأَجَابَ كُلٌّ على عُرْفِ زَمَانِهِ وَالْمُعْتَبَرِ في ذِكْرِ
الْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على بَيْتٍ وَخَادِمٍ حتى وَجَبَ
الْوَسَطُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ صَالَحَتْ من ذلك زَوْجَهَا على أَقَلَّ
من قِيمَةِ الْوَسَطِ سِتِّينَ دِينَارًا أو سَبْعِينَ دِينَارًا جَازَ الصُّلْحُ
لِأَنَّهَا بهذا الصُّلْحِ أَسْقَطَتْ بَعْضَ حَقِّهَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ
فِيهِمَا ثَمَانُونَ فإذا صَالَحَتْ على أَقَلَّ من ذلك فَقَدْ أَسْقَطَتْ
الْبَعْضَ وَمَنْ له الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى
الْبَاقِيَ جَازَ وَيَجُوزُ ذلك بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الصُّلْحَ وَقَعَ على عَيْنِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ الْبَعْضِ فَكَانَ الْبَاقِي
عَيْنَ الْوَاجِبِ فَجَازَ فيه التَّأْجِيلُ فَإِنْ صَالَحَتْ على مِائَةِ
دِينَارٍ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا لم يَكُنْ مُسَعَّرًا
فَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ وَمَنْ وَجَبَ له حَقٌّ فَصَالَحَ على
أَكْثَرَ من حَقِّهِ لم يَجُزْ وَإِنْ كان المسم ( ( ( المسمى ) ) ) مَعْلُومَ
الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ كما إذَا تَزَوَّجَهَا على مَكِيلٍ
مَوْصُوفٍ أو مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ صَحَّتْ
التَّسْمِيَةُ لِأَنَّ المسم ( ( ( المسمى ) ) ) مَالٌ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ
فيه بِوَجْهٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا في الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا فإنه
يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ وَالسَّلَمُ فيه وَيُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فَيُجْبَرُ
الزَّوْجُ على دَفْعِهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ عِوَضِهِ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ ولم يَصِفْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ
لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فَإِنْ
شَاءَ الزَّوْجُ أَعْطَاهَا الْوَسَطَ من ذلك وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ وَذَكَرَ الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ الْوَسَطِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ أَصْلٌ في إيجَابِ الْوَسَطِ
لِأَنَّ بها يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسَطًا فَكَانَ أَصْلًا في التَّسْلِيمِ كما في
الْعَبْدِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ الْوَسَطَ فَقَدْ
تَعَيَّنَ الْوَسَطُ بِتَعْيِينِ الشَّرْعِ فَصَارَ كما لو عَيَّنَّهُ
بِالتَّسْمِيَةِ وَلَوْ سَمَّى الْوَسَطَ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِهِ كَذَا هذا
بِخِلَافِ الْعَبْدِ فإن هُنَاكَ لو سَمَّى الْوَسَطَ وَنَصَّ عليه لَا يُجْبَرُ
على تَسْلِيمِهِ فَكَذَا إذَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثِّيَابُ فَقَدْ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا على
ثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهَا وَإِنْ شَاءَ
سَلَّمَ قِيمَتَهَا ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا سَمَّى لها أَجَلًا أو لم يُسَمِّ
وقال أبو يُوسُفَ أن أَجَّلَهَا يُجْبَرُ على دَفْعِهَا وَإِنْ لم يُؤَجِّلْهَا
فَلَهَا الْقِيمَةُ وروى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِهَا من
غَيْرِ هذا التَّفْصِيلِ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ
ثُبُوتًا مُطْلَقًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَلَا تَرَى أنها
مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ في ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَلَا تَثْبُتُ
في الذِّمَّةِ بِنَفْسِهَا في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْأَجَلِ
فَكَانَتْ كَالْعَبِيدِ وَهُنَاكَ لَا يُجْبَرُ على دَفْعِ الْعَبْدِ وَلَهُ أَنْ
يُسَلِّمَ الْقِيمَةَ كَذَا هَهُنَا
وأبو يُوسُفَ يقول إذَا أَجَّلَهَا فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ تَثْبُتُ في
الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أنها تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ في
السَّلَمِ فَيُجْبَرُ على الدَّفْعِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَدَلَ في الْبَيْعِ
لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ رَأْسًا وَالْمَهْرُ في النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ
ضَرْبًا من الْجَهَالَةِ فلما ثَبَتَتْ في الذِّمَّةِ في الْبَيْعِ فَلَأَنْ تَثْبُتَ
في النِّكَاحِ أَوْلَى
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِهَا في
الذِّمَّةِ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ فإذا وُصِفَتْ فَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ
فَيَصِحُّ ثُبُوتُهَا في الذِّمَّةِ مَهْرًا في النِّكَاحِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ
السَّلَمُ فيها إلَّا مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْعِلْمَ بها يَقِفُ على التَّأْجِيلِ
بَلْ لِأَنَّ السَّلَمَ لم يُشْرَعْ إلَّا مُؤَجَّلًا وَالْأَجَلُ ليس بِشَرْطٍ في
الْمَهْرِ فَكَانَ ثُبُوتُهَا في الْمَهْرِ غير مُؤَجَّلَةٍ كَثُبُوتِهَا في
السَّلَمِ مُؤَجَّلَةً فَيُجْبَرُ على تَسْلِيمِهَا
وَلَوْ قال تَزَوَّجْتُكِ على هذا الْعَبْدِ أو على أَلْفٍ على أَلْفَيْنِ
فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَيُحَكَّمُ مَهْرُ مِثْلِهَا
فَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ الْأَدْوَنِ أو أَقَلَّ فَلَهَا الْأَدْوَنُ
إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِالْأَرْفَعِ وأن كان مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ
الْأَرْفَعِ فَلَهَا الْأَرْفَعُ إلَّا أَنْ تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِالْأَدْوَنِ
وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا فَوْقَ الْأَدْوَن أو أَقَلَّ من الْأَرْفَع فَلَهَا
مَهْرُ مِثْلِهَا وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا
الْأَدْوَنُ على كل حَالٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ
إيجَابِ الْمُسَمَّى وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيجَابُ
الْأَقَلِّ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا وفي الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَيَجِبُ
____________________
(2/284)
الْمُتَيَقَّنُ
بِهِ وَصَارَ كما إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ على أَلْفٍ أو أَلْفَيْنِ أو خَالَعَ
امْرَأَتَهُ على أَلْفٍ أو أَلْفَيْنِ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَتَجِبُ
الْأَلْفُ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غير عَيْنٍ
لِأَنَّ كَلِمَة أو تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غير عَيْنٍ وَأَحَدُهُمَا
غَيْرُ عَيْنٍ مَجْهُولٌ فَكَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ
أَكْثَرُ من جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّ كَلِمَةَ أو تَدْخُلُ بين أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرِهَا
فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فَيُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ
الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ في هذا الْبَابِ فَلَا يُعْدَلُ عنه إلَّا عِنْدَ صِحَّةِ
التَّسْمِيَةِ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِتَعْيِينِ الْمُسَمَّى ولم يُوجَدْ فَيَجِبُ
مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عن الْأَدْوَن لِأَنَّ الزَّوْجَ رضي
بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَلَا يُزَادُ على الْأَرْفَعِ لِرِضَا الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ
الْقَدْرِ وَلَا يَلْزَمُ على هذا ما إذَا تَزَوَّجَهَا على هذا الْعَبْدِ أو على
هذا الْعَبْدِ أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ في أَنْ يَدْفَعَ أَيُّهُمَا شَاءَ أو
على أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ في ذلك تَأْخُذُ أَيُّهُمَا شَاءَتْ أَنَّهُ
تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَإِنْ كان الْمُسَمَّى مَجْهُولًا لِأَنَّ تِلْكَ
الْجَهَالَةَ يُمْكِنُ رَفْعُهَا
أَلَا تَرَى أنها تَرْتَفِعُ بِاخْتِيَارِ من له الْخِيَارُ فَقَلَّتْ
الْجَهَالَةُ فَكَانَتْ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَقَلَّ من ذلك فَلَا
تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ هَهُنَا لَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ هذه
الْجَهَالَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ فيه خِيَارٌ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنْ يَخْتَارَ غير ما يَخْتَارُهُ صَاحِبُهُ فَفَحُشَتْ الْجَهَالَةُ فَمَنَعَتْ
صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ الأعتاق وَالْخُلْعِ لِأَنَّهُ ليس لَهُمَا مُوجِبٌ
أَصْلِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ في الْمُسَمَّى فَوَجَبَ
الْمُتَيَقَّنُ من الْمُسَمَّى لِأَنَّ إيجَابَهُ أَوْلَى من الْإِيقَاعِ
مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا لِعَدَمِ رِضَا الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ بِذَلِكَ
وَفِيمَا نَحْنُ فيه له مُوجِبٌ أَصْلِيٌّ فَلَا يُعْدَلُ عنه إلَّا عِنْدَ
تَعَيُّنِ الْمُسَمَّى وَلَا تَعَيُّنَ مع الشَّكِّ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ الشَّكِّ
فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ
وَاجِبَ الْمَصِيرِ إلَيْهِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على أَلْفٍ إنْ لم يَكُنْ له امْرَأَةٌ وَعَلَى
أَلْفَيْنِ إنْ كانت له امْرَأَةٌ أو تَزَوَّجَهَا على أَلْفٍ إنْ لم يُخْرِجْهَا
من بَلَدِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا من بَلَدِهَا أو تَزَوَّجَهَا
على أَلْفٍ إنْ كانت مَوْلَاةً وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كانت عَرَبِيَّةً وما
أَشْبَهَ ذلك فَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ
الْمُؤَبَّدَ الذي لَا تَوْقِيتَ فيه لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ
لِمَا قُلْنَا أن الشُّرُوطَ لو أَثَّرَتْ لَأَثَّرَتْ في الْمَهْرِ بِفَسَادِ
التَّسْمِيَةِ وَفَسَادُ التَّسْمِيَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَدَمِ ثُمَّ عَدَمُ
التَّسْمِيَةِ رَأْسًا لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَفَسَادُهَا أَوْلَى
وَأَمَّا الْمَهْرُ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ وَقَعَ
الْوَفَاءُ بِهِ فَلَهَا ما سَمَّى على ذلك الشَّرْطِ وَإِنْ لم يَقَعْ الْوَفَاءُ
بِهِ فَإِنْ كان على خِلَافِ ذلك أو فَعَلَ خِلَافَ ما شَرَطَ لها فَلَهَا مَهْرُ
مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ من الْأَصْلِ وَلَا يُزَادُ على الْأَكْثَرِ وَهَذَا
قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقالأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وقال زُفَرُ الشَّرْطَانِ
فَاسِدَانِ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ في الْإِجَارَاتِ وهو أَنْ
يَدْفَعَ رَجُلٌ ثَوْبًا إلَى الْخَيَّاطِ فيقول إنْ خَيَّطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ
دِرْهَمٌ وَإِنْ خَيَّطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الشَّرْطَيْنِ يُخَالِفُ الْآخَرَ
فَأَوْجَبَ ذلك جَهَالَةَ التَّسْمِيَةِ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَتَانِ كما إذَا قال
لِلْخَيَّاطِ إنْ خَيَّطْتَهُ رُومِيًّا فَبِدِرْهَمٍ وَإِنْ خَيَّطْتَهُ
فَارِسِيًّا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا بِالْإِجْمَاعِ
وَمُوجِبُهُ رَدُّ مَهْرِ الْمِثْلِ إنْ لم يَقَعْ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَتْ
التَّسْمِيَةُ الْأُولَى صَحِيحَةً فَلَوْ صَحَّ الشَّرْطُ الثَّانِي لَكَانَ
نَافِيًا مُوجَبَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَالتَّسْمِيَةُ الْأُولَى وَالتَّسْمِيَةُ
بعدما صَحَّتْ لَا يَجُوزُ نَفْيُ مُوجَبِهَا فَبَطَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي
ضَرُورَةً وقال إنَّ ما شَرَطَ الزَّوْجُ من طَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَتَرْكِ
الْخُرُوجِ من الْبَلَدِ لَا يَلْزَمُهُ في الْحُكْمِ لِأَنَّ ذلك وَعْدٌ وَعَدَ
لها فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَزَوَّجَهَا على حُكْمِهِ
أو حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ
مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ أَكْثَرُ من جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ
التَّسْلِيمِ ثُمَّ إنْ كان التَّزَوُّجُ على حُكْمِ الزَّوْجِ يُنْظَرُ إنْ
حَكَمَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أو أَكْثَرَ فَلَهَا ذلك لِأَنَّهُ رضي بِبَذْلِ
الزِّيَادَةِ وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ من مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَهَا مَهْرُ
مِثْلِهَا إلَّا أَنْ تَرْضَى بِالْأَقَلِّ وَإِنْ كان التَّزَوُّجُ على حُكْمِهَا
فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أو أَقَلَّ فَلَهَا ذلك لِأَنَّهَا رَضِيَتْ
بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ من مَهْرِ مِثْلِهَا لم تَجُزْ
الزِّيَادَةُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هو مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا إذَا رضي
الزَّوْجُ بِالزِّيَادَةِ وَإِنْ كان التَّزَوُّج على حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ
حَكَمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ من مَهْرِ الْمِثْلِ
يَتَوَقَّفُ على رِضَا الزَّوْجِ وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ من مَهْرِ الْمِثْلِ
يَتَوَقَّفُ على رِضَا الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هو مَهْرُ الْمِثْلِ
وَالزَّوْجُ لَا يَرْضَى
____________________
(2/285)
بِالزِّيَادَةِ
وَالْمَرْأَةُ لَا تَرْضَى بِالنُّقْصَانِ فَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ الْأَمْرُ في
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ على رِضَاهُمَا فَإِنْ تَزَوَّجَهَا على ما يَكْسِبُ
الْعَامَ أو يَرِثُ فَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ جَهَالَةَ هذا أَكْثَرُ
من جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ وقد انْضَمَّ إلَى الْجَهَالَةِ الْخَطَرُ
لِأَنَّهُ قد يَكْسِبُ وقد لَا يَكْسِبُ ثُمَّ الْجَهَالَةُ بِنَفْسِهَا تَمْنَعُ
صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فَمَعَ الْخَطَرِ أَوْلَى
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ على صَدَاقٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ
تَزَوَّجْتُكُمَا على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَا شَكَّ
فيه وَيَقْسِمُ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا لِأَنَّهُ
جَعَلَ الْأَلْفَ بَدَلًا عن بُضْعَيْهِمَا وَالْبَدَلُ يُقْسَمُ على قَدْرِ
قِيمَةِ الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ هو الْبُضْعُ فَيُقْسَمُ الْبَدَلُ على قَدْرِ
قِيمَتِهِ وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كما لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا كَذَا هذا
فَإِنْ قَبِلَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَازَ النِّكَاحُ في التي قَبِلَتْ
بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه إذَا قال بِعْتُ هذا الْعَبْدَ مِنْكُمَا فَقَبِلَ
أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ لم يَجُزْ الْبَيْعُ أَصْلًا وَالْفَرْقُ
أَنَّهُ لَمَّا قال تَزَوَّجْتُكُمَا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ كل وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْأُخْرَى وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ
بِالشَّرْطِ فَكَانَ إدْخَالُ الشَّرْطِ فيه فَاسِدًا وَالنِّكَاحُ لَا يَفْسُدُ
بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ
وإذا جَازَ النِّكَاحُ تُقْسَمُ الْأَلْفُ على قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهِمَا لِمَا
قُلْنَا فما أَصَابَ حِصَّةَ التي قَبِلَتْ فَلَهَا ذلك الْقَدْرُ وَالْبَاقِي
يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا ذَاتَ زَوْجٍ أو في عِدَّةٍ من
زَوْجٍ أو كانت مِمَّنْ لَا يَحِلُّ له نِكَاحُهَا فإن جَمِيعَ الْأَلْفِ التي
يَصِحُّ نِكَاحُهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُقْسَمُ الْأَلْفُ على
قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا فما أَصَابَ حِصَّةَ التي تصح ( ( ( صح ) ) )
نِكَاحُهَا فَلَهَا ذلك وَالْبَاقِي يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ مَهْرًا لَهُمَا جميعا وَكُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلنِّكَاحِ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا قَابِلَةً
لِلْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منه حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُمَا
لَا تُزَاحِمُ صَاحِبَتَهَا في الِاسْتِحْقَاقِ لِخُرُوجِهَا من أَنْ تَكُونَ
مَحَلًّا لِذَلِكَ شَرْعًا مع قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً فَيَجِبُ
إظْهَارُ أَثَرِ الْمَحَلِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ في الِانْقِسَامِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ يُقَابِلُ ما يستوفي بِالْوَطْءِ وهو
مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَهَذَا الْعَقْدُ في حَقِّ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُمْكِنُ من
اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ لِخُرُوجِهَا من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ
شَرْعًا وَالْمَوْجُودُ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ
سَوَاءٌ فَيُجْعَلُ ذلك الْمَهْرُ بِمُقَابَلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كما إذَا جَمَعَ
بين الْمَرْأَةِ وَالْأَتَانِ وقال تَزَوَّجْتُكُمَا على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ
دخل الزَّوْجُ بِاَلَّتِي فَسَدَ نِكَاحُهَا فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
لها مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا ما بَلَغَ لِأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ
حَقِّهَا فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ
وفي قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لها مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ
حِصَّتَهَا من الْأَلْفِ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ التَّسْمِيَةَ في حَقِّ
الِانْقِسَامِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ على السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ أنها
تَصِحُّ أو لَا تَصِحُّ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ السُّمْعَةَ في الْمَهْرِ
إمَّا أَنْ تَكُونَ في قَدْرِ الْمَهْرِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ في جِنْسِهِ فَإِنْ
كانت في قَدْرِ الْمَهْرِ بِأَنْ تَوَاضَعَا في السِّرِّ وَالْبَاطِنِ وَاتَّفَقَا
على أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَكِنَّهُمَا يُظْهِرَانِ في
الْعَقْدِ أَلْفَيْنِ لِأَمْرٍ حَمَلَهُمَا على ذلك فَإِنْ لم يَقُولَا أَلْفٌ
مِنْهُمَا سُمْعَةٌ فَالْمَهْرُ ما ذَكَرَاهُ في الْعَلَانِيَةِ وَذَلِكَ
أَلْفَانِ لِأَنَّ الْمَهْرَ ما يَكُونُ مَذْكُورًا في الْعَقْدِ وَالْأَلْفَانِ
مَذْكُورَتَانِ في الْعَقْدِ فإذا لم يَجْعَلَا الْأَلْفَ مِنْهُمَا سُمْعَةً
صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْأَلْفَيْنِ وَإِنْ قَالَا الْأَلْفُ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ
فَالْمَهْرُ ما ذَكَرَاهُ في السِّرِّ وهو الْأَلْفُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن
أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وروى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ ما أظهره ( ( ( أظهراه ) ) ) وهو
الْأَلْفَانِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَهْرَ هو الْمَذْكُورُ في الْعَقْدِ لِأَنَّهُ
اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ وَاَلَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ هو
الْمَذْكُورُ في الْعَقْدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا لِأَنَّهُ
مَالٌ مَعْلُومٌ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ وَيَصِيرُ مَهْرًا وَلَا تُعْتَبَرُ
المواضع ( ( ( المواضعة ) ) ) السَّابِقَةُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا لَمَّا قَالَا الْأَلْفُ مِنْهُمَا
سُمْعَةٌ فَقَدْ هَزَلَا بِذَلِكَ قَدْرَ الْأَلْفِ حَيْثُ لم يَقْصِدَا بِهِ
مَهْرًا وَالْمَهْرُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ فَفَسَدَتْ
تَسْمِيَتُهُ قَدْرَ الْأَلْفِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ الْعَقْدُ على
أَلْفٍ وَإِنْ كانت السُّمْعَةُ من جِنْسِ الْمُهْرِيَّاتِ تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا
في السِّرِّ وَالْبَاطِنِ على أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَلَكِنَّهُمَا يُظْهِرَانِ في الْعَقْدِ مِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ لم يَقُولَا
رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْمَهْرُ ما تَعَاقَدَا عليه لِمَا قُلْنَا وَإِنْ قَالَا
رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَتَعَاقَدَا على ذلك فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ عنه أَنَّ لها مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ
مِائَةَ دِينَارٍ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِائَةَ
____________________
(2/286)
دِينَارٍ
هِيَ الْمَذْكُورَةُ في الْعَقْدِ وَالْمَهْرُ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ في الْعَقْدِ
لِمَا بَيَّنَّا فَيُعْتَبَرُ الْمَذْكُورُ وَلَا تُعْتَبَرُ الْمُوَاضَعَةُ
السَّابِقَةُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ما تَوَاضَعَا عليه وهو الْأَلْفُ لم
يَذْكُرَاهُ في الْعَقْدِ وما ذَكَرَاهُ وهو الْمِائَةُ دِينَارٍ ما تَوَاضَعَا
عليه فلم تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كما لو تَزَوَّجَهَا
ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يَتَعَاقَدَا في السِّرِّ
وَالْبَاطِنِ على أَنْ يَكُونَ لِلْمَهْرِ قدرا ( ( ( قدر ) ) ) وجنس ثُمَّ
يَتَعَاقَدَا على ما تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا عليه فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا في
السِّرِّ على قَدْرٍ من مهر ( ( ( المهر ) ) ) أو جِنْسٍ منه ثُمَّ اتَّفَقَا
وَتَوَاضَعَا في السِّرِّ على أَنْ يُظْهِرَا في عَقْدِ الْعَلَانِيَةِ أَكْثَرَ
من ذلك جِنْسًا آخَرَ فَإِنْ لم يَذْكُرَا في الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ
ذلك سُمْعَةٌ فَالْمَهْرُ ما ذَكَرَاهُ في الْعَلَانِيَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَيَكُونُ ذلك زِيَادَةً على الْمَهْرِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كان من
جِنْسِهِ أو من خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ فَجَمِيعُهُ
يَكُونُ زِيَادَةً على الْمَهْرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كان من جِنْسِهِ فَقَدْرُ
الزِّيَادَةِ على الْمَهْرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ زِيَادَةً وروى عن أبي يُوسُفَ
أَنَّهُ قال الْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَهْرَ ما يَكُونُ مَذْكُورًا في الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ
هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ
فَالثَّانِي لَا يَرْفَعُ الْأَوَّلَ فلم يَكُنْ الثَّانِي عَقْدًا في
الْحَقِيقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَهْرُ هو
الْمَذْكُورُ في الْعَقْدِ الْأَوَّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئَيْنِ اسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ
والزيادة ( ( ( وزيادة ) ) ) في الْمَهْرِ وَاسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ
لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ فَصَارَ
كَأَنَّهُ زَادَ أَلْفًا أُخْرَى أو مِائَةَ دِينَارٍ وَإِنْ ذَكَرَا في
الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ أو الْجِنْسَ الْآخَرَ سُمْعَةٌ
فَالْمَهْرُ هو الْمَذْكُورُ في الْعَقْدِ الْأَوَّلِ المذكور ( ( ( والمذكور ) ) )
في الْعَقْدِ الثَّانِي لَغْوٌ لِأَنَّهُمَا هَزَلَا بِهِ حَيْثُ جَعَلَاهُ
سُمْعَةً وَالْهَزْلُ يَعْمَلُ في الْمَهْرِ فَيُبْطِلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا فَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ
في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حتى لَا يَلْزَمَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ ذلك ليس بِنِكَاحٍ
لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الدُّخُولُ
يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَكِنْ بِالْوَطْءِ لَا بِالْعَقْدِ على ما نُبَيِّنُهُ
في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على
جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا فَلَهَا الْجَارِيَةُ وما في
بَطْنِهَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ من غَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّ
تَسْمِيَةَ الْجَارِيَةِ مَهْرًا قد صَحَّتْ لِأَنَّهَا مَالٌ مَعْلُومٌ وَاسْتِثْنَاءُ
ما في بَطْنِهَا لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْجَنِينَ في حُكْمِ جُزْءٍ من أَجْزَائِهَا
فَإِطْلَاقُ الْعَقْدِ على الْأُمِّ يَتَنَاوَلُهُ فَاسْتِثْنَاؤُهُ يَكُونُ
بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ شَرْطًا فَاسِدًا
فَيَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ وَيَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لم يَسْتَثْنِ
رَأْسًا وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا أو
خَالَعَ أو صَالَحَ من دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لَا
تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على جَارِيَةٍ فَاسْتُحِقَّتْ وَهَلَكَتْ قبل
التَّسْلِيمِ فَلَهَا قِيمَتُهَا لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ قد صَحَّتْ لِكَوْنِ
الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا فَالْعَقْدُ انْعَقَدَ مُوجِبَ
التَّسْلِيمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالْهَلَاكِ لِأَنَّهُ عَجَزَ عن تَسْلِيمِهَا
فَتَجِبُ قِيمَتُهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل التَّسْلِيمِ
إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ الْبَائِعُ قِيمَتَهُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ
الثَّمَنُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وإذا
بَطَلَ الْبَيْعُ لم يَبْقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ فَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ ثُمَّ
تَفْسِيرُ مَهْرِ الْمِثْلِ هو أَنْ يَعْتَبِرَ مَهْرَهَا بِمَهْرِ مِثْلِ
نِسَائِهَا من أَخَوَاتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا أو لِأَبِيهَا وَعَمَّاتِهَا
وَبَنَاتِ أَعْمَامِهَا في بَلَدِهَا وَعَصْرِهَا على مَالِهَا وَجَمَالِهَا
وَسِنِّهَا وَعَقْلِهَا وَدِينِهَا لِأَنَّ الصَّدَاقَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الْبُلْدَانِ وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ
وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ فَيَزْدَادُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ لِزِيَادَةِ مَالِهَا
وَجَمَالِهَا وَعَقْلِهَا وَدِينِهَا وَحَدَاثَةِ سِنِّهَا فَلَا بُدَّ من
الْمُمَاثَلَةِ بين الْمَرْأَتَيْنِ في هذه الْأَشْيَاءِ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ لها
مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا إذْ لَا يَكُونُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِدُونِ
الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ أُمِّهَا وَلَا
بِمَهْرِ خَالَتِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ من قَبِيلَتِهَا من بَنَاتِ أَعْمَامِهَا
لِأَنَّ الْمَهْرَ يَخْتَلِفُ بِشَرَفِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ من الْآبَاءِ لَا من
الْأُمَّهَاتِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لها شَرَفُ النَّسَبِ من قَبِيلِ أَبِيهَا أو
قَبِيلَتِهِ لَا من قِبَلِ أُمِّهَا وَعَشِيرَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ وَبَيَانُ وَقْتِ وُجُوبِهِ
وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وما يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ من الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَهْرُ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ
لِأَنَّهُ أحداث الْمِلْكِ وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إحْدَاثِ الْمِلْكِ
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وهو مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ
فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ سَوَاءٌ كان الْمَهْرُ مَفْرُوضًا
____________________
(2/287)
في
الْعَقْدِ أو لم يَكُنْ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كان مَفْرُوضًا لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ
وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ أو بِالدُّخُولِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وفي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَجِبُ الْمَهْرُ لَكِنْ لَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ
بِوَاسِطَةِ الدُّخُولِ لِعَدَمِ حُدُوثِ الْمِلْكِ قبل الدُّخُولِ أَصْلًا
وَعَدَمِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مُطْلَقًا وَلِانْعِدَامِ الْمُعَاوَضَةِ
قبل الدُّخُولِ رَأْسًا وَانْعِدَامِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ مطقلا ( ( ( مطلقا ) )
) لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ وَيَجِبُ عَقِيبَ
الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ بِإِحْدَاثِ الْمِلْكِ
وَالْمِلْكُ يَحْدُثُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ
الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ في الْعِوَضَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ
وقد ثَبَتَ الْمِلْكُ في أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وهو الْبُضْعُ عَقِيبَ الْعَقْدِ
فَيَثْبُتُ في الْعِوَضِ الْآخَرِ عَقِيبَهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ
الْمُطْلَقَةِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا
وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ كَالثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ
أَنَّهُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ
عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْبَائِعِ وإذا طَالَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْمَهْرِ يَجِبُ على
الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلًا لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ في الْمَرْأَةِ
مُتَعَيِّنٌ وَحَقُّ الْمَرْأَةِ في الْمَهْرِ لم يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ
وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَوَجَبَ على الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ
الْمُطَالَبَةِ لِيَتَعَيَّنَ كما في الْبَيْعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُسَلِّمُ
الثَّمَنَ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلِّمُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَّا أَنَّ الثَّمَنَ
في بَابِ الْبَيْعِ إذَا كان دَيْنًا يُقَدَّمُ تَسْلِيمُهُ على تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ
لِيَتَعَيَّنَ
وَإِنْ كان عَيْنًا يُسَلَّمَانِ مَعًا وَهَهُنَا يُقَدَّمُ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ
على كل حَالٍ سَوَاءٌ كان دَيْنًا أو عَيْنًا لِأَنَّ الْقَبْضَ وَالتَّسَلُّمَ
هَهُنَا مَعًا مُتَعَذِّرٌ وَلَا تَعَذُّرَ في الْبَيْعِ
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ لِلْمَرْأَةِ قبل دُخُولِ الزَّوْجِ بها أَنْ تَمْنَعَ
الزَّوْجَ عن الدُّخُولِ حتى يُعْطِيَهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ ثُمَّ تُسَلِّمُ
نَفْسَهَا إلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كانت قد انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ بِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا فَيَكُونُ تَسْلِيمًا بِتَسْلِيمٍ
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عن بُضْعِهَا كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عن الْمَبِيعِ
وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَكَانَ
لِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ
مَنْعُهَا عن السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ من مَنْزِلِهِ وَزِيَارَةِ أَهْلِهَا قبل
إيفَاءِ الْمَهْرِ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِاسْتِيفَاءِ
الْمُسْتَحَقِّ فإذا لم يَجِبْ عليها تَسْلِيمُ النَّفْسِ قبل إيفَاءِ الْمَهْرِ
لم يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ له حَقُّ الْحَبْسِ
وإذا أَوْفَاهَا الْمَهْرَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا من ذلك كُلِّهِ إلَّا من
سَفَرِ الْحَجِّ إذَا كان عليها حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَوَجَدَتْ مَحْرَمًا وَلَهُ
أَنْ يَدْخُلَ بها لِأَنَّهُ إذَا أَوْفَاهَا حَقَّهَا يَثْبُتُ له حَقُّ
الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه فَإِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ إلَّا
دِرْهَمًا وَاحِدًا فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا وَأَنْ تَخْرُجَ من مِصْرِهَا
حتى تَقْبِضَهُ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا
بِتَسْلِيمِ كل الْبَدَلِ كما في الْبَيْعِ
وَلَوْ خَرَجَتْ لم يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ منها ما قَبَضَتْ
لِأَنَّهَا قَبَضَتْهُ بِحَقٍّ لِكَوْنِ الْمَقْبُوضِ حَقًّا لها وَالْمَقْبُوضُ
بِحَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ هذا إذَا كان الْمَهْرُ مُعَجَّلًا بِأَنْ
تَزَوَّجَهَا على صَدَاقٍ عَاجِلٍ أو كان مَسْكُوتًا عن التَّعْجِيلِ
وَالتَّأْجِيلِ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ حُكْمُ الْمُعَجَّلِ لِأَنَّ هذا
عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ من الْجَانِبَيْنِ وَالْمَرْأَةُ
عنيت ( ( ( عينت ) ) ) حَقَّ الزَّوْجِ فَيَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ الزَّوْجُ
حَقَّهَا وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّسْلِيمِ
فإما إذَا كان مُؤَجَّلًا بِأَنْ تَزَوَّجَهَا على مَهْرٍ آجِلٍ فَإِنْ لم يذكر
الْوَقْتَ لِشَيْءٍ من الْمَهْرِ أَصْلًا بِأَنْ قال تَزَوَّجْتُكِ على أَلْفٍ
مُؤَجَّلَةٍ أو ذَكَرَ وَقْتًا مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قال
تَزَوَّجْتُك على أَلْفٍ إلَى وَقْتِ الْمَيْسَرَةِ أو هُبُوبِ الرِّيَاحِ أو إلَى
أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لم يَصِحَّ لِتَفَاحُشِ
الْجَهَالَةِ فلم يَثْبُتْ الْأَجَلُ
وَلَوْ قال نِصْفُهُ مُعَجَّلٌ وَنِصْفُهُ مُؤَجَّلٌ كما جَرَتْ الْعَادَةُ في
دِيَارِنَا ولم يذكر الْوَقْتَ لِلْمُؤَجَّلِ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ الْأَجَلُ وَيَجِبُ
حَالًّا كما إذَا قال تَزَوَّجْتُك على أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَيَقَعُ ذلك على وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ
بِالطَّلَاقِ أو الْمَوْتِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ما يُؤَيِّدُ هذا الْقَوْلَ وهو أَنَّ رَجُلًا كَفَلَ
لِامْرَأَةٍ عن زَوْجِهَا نَفَقَةَ كل شَهْرٍ ذُكِرَ في كِتَابِ النِّكَاحِ
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ شَهْرٍ وَاحِدٍ في الِاسْتِحْسَانِ
وَذُكِرَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ كُلَّ شَهْرٍ ما دَامَ
النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ هَهُنَا
وَإِنْ ذَكَرَ وَقْتًا مَعْلُومًا لِلْمَهْرِ فَلَيْسَ لها أَنْ تَمْنَعَ
نَفْسَهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ أَخِيرًا لها
أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا سَوَاءٌ كانت الْمُدَّةُ قَصِيرَةً أو طَوِيلَةً بَعْدَ
أَنْ كانت مَعْلُومَةً أو مَجْهُولَةً جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً كَجَهَالَةِ
الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ من حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ
تَسْلِيمُهُ على تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِكُلِّ حَالٍ أَلَا تَرَى
____________________
(2/288)
أَنَّهُ
لو كان مُعَيَّنًا أو غير مُعَيَّنٍ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ فلما قَبِلَ الزَّوْجُ
التَّأْجِيلَ كان ذلك رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ في الْقَبْضِ بِخِلَافِ
الْبَائِعِ إذَا أَجَّلَ الثَّمَنَ أَنَّهُ ليس له أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ
وَيَبْطُلُ حَقُّهُ في الْحَبْسِ بِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ ليس من حُكْمِ
الثَّمَنِ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِهِ على تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لَا مَحَالَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان عَيْنًا يُسَلَّمَانِ مَعًا فلم يَكُنْ
قَبُولُ الْمُشْتَرِي التَّأْجِيلَ رِضًا منه بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ في الْقَبْضِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيلِ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ
نَفْسِهَا فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ كَالْبَائِعِ إذَا أَجَّلَ الثَّمَنَ
أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ ما إذَا كان التَّأْجِيلُ
إلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً لِأَنَّ التَّأْجِيلَ ثَمَّةَ
لم يَصِحَّ فلم يَثْبُتْ الْأَجَلُ فَبَقِيَ الْمَهْرُ حَالًّا
وَأَمَّا قَوْلُهُ من شَأْنِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ على
تَسْلِيمِ النَّفْسِ فَنَقُولُ نعم إذَا كان مُعَجَّلًا أو مَسْكُوتًا عن
الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا كان مُؤَجَّلًا تَأْجِيلًا صَحِيحًا فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ
يَتَأَخَّرَ تَسْلِيمُهُ عن تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِهِ
ثَبَتَ حَقًّا لها لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ
لِلْمُسَاوَاةِ حَقًّا لها فإذا أَجَّلَتْهُ فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا
فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ زَوْجِهَا لِانْعِدَامِ الْإِسْقَاطِ منه وَالرِّضَا
بِالسُّقُوطِ لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ حَقُّ الْبَائِعِ في الْحَبْسِ
بِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا فَلَهُ
أَنْ يَدْخُلَ بها إذَا أَعْطَاهَا الْحَالَّ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا
فَلِأَنَّ الْكُلَّ لو كان مُؤَجَّلًا لَكَانَ له أَنْ يَدْخُلَ بها فإذا كان
الْبَعْضُ مُعَجَّلًا وَأَعْطَاهَا ذلك أَوْلَى وَالْفِقْهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ
الزَّوْجَ ما رضي بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْبَعْضَ فلم يَرْضَ
بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ عن الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لو رضي بِذَلِكَ لم يَكُنْ لِشَرْطِ
التَّعْجِيلِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْكُلُّ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ
لَمَّا قَبِلَ التَّأْجِيلَ فَقَدْ رضي بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَلَوْ لم يَدْخُلْ
بها حتى حَلَّ أَجَلُ الْبَاقِي فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ بها إذَا أَعْطَاهَا
الْحَالَّ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الْكُلُّ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا وَشَرَطَ أَنْ يَدْخُلَ بها
قبل أَنْ يُعْطِيَهَا كُلَّهُ فَلَهُ ذلك عنه أبي يُوسُفَ أَيْضًا لِأَنَّهُ
لَمَّا شَرَطَ الدُّخُولَ لم يَرْضَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ في الِاسْتِمْتَاعِ
وَلَوْ كان الْمَهْرُ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا فَحَلَّ الْأَجَلُ ليس لها
أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِتَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قد سَقَطَ بِالتَّأْجِيلِ وَالسَّاقِطُ لَا
يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ كَالثَّمَنِ في الْمَبِيعِ وَعَلَى أَصْلِ أبي يُوسُفَ لها
أَنْ تَمْنَعَ نفسه ( ( ( نفسها ) ) ) لِأَنَّ لها أَنْ تَمْنَعَ قبل حُلُولِ
الْأَجَلِ فَبَعْدَهُ أَوْلَى
وَلَوْ كان الْمَهْرُ حَالًّا فَأَخَّرَتْهُ شَهْرًا ليس لها أَنْ تَمْنَعَ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لها ذلك لِأَنَّ هذا تَأْجِيلٌ طارىء ( ( ( طارئ ) ) )
فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ التَّأْجِيلِ الْمُقَارِنِ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه
وَلَوْ دخل الزَّوْجُ بها بِرِضَاهَا وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ
نَفْسَهَا حتى تَأْخُذَ الْمَهْرَ وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا من
بَلَدِهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ليس لها ذلك
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا خَلَا بها
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنها بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً أو بِالْخَلْوَةِ
الصَّحِيحَةِ سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عليه بِرِضَاهَا وَهِيَ من أَهْلِ
التَّسْلِيمِ فَبَطَلَ حَقُّهَا في الْمَنْعِ كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ
الْمَبِيعَ وَلَا شَكَّ في الرِّضَا وَأَهْلِيَّةِ التَّسْلِيمِ
وَالدَّلِيلُ على أنها سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عليه أَنَّ الْمَعْقُودَ
عليه في هذا الْبَابِ في حُكْمِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا يَتَأَكَّدُ جَمِيعُ
الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ لَا
يَتَأَكَّدُ بِتَسْلِيمِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عليه وما يَتَكَرَّرُ من الْوَطَآتِ
مُلْتَحِقٌ بِالِاسْتِخْدَامِ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ من الْمَهْرِ وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ ما يستوفي من مَنَافِعِ الْبُضْعِ
في جَمِيعِ الْوَطَآتِ التي تُوجَدُ في هذا الْمِلْكِ لَا بِالْمُسْتَوْفَى
بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ شَيْءٍ من
مَنَافِعِ الْبُضْعِ عن بَدَلٍ يُقَابِلُهُ احْتِرَامًا لِلْبُضْعِ وَإِبَانَةً
لِخَطَرِهِ فَكَانَتْ هِيَ بِالْمَنْعِ مُمْتَنِعَةً عن تَسْلِيمِ ما يُقَابِلُهُ
بَدَلٌ فَكَانَ لها ذلك بِالْوَطْءِ في الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ لها أَنْ
تَمْنَعَهُ عن الْأَوَّلِ حتى تَأْخُذَ مَهْرَهَا فَكَذَا عن الثَّانِي
وَالثَّالِثِ إلَّا أَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مَعْلُومٌ وما وَرَاءَهُ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ فَلَا
يُزَاحِمُهُ في الإنقسام ثُمَّ عِنْدَ الْوُجُودِ يَتَعَيَّنُ قَطْعًا فَيَصِيرُ
مُزَاحِمًا فَيَأْخُذُ قِسْطًا من الْبَدَلِ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً
يَجِبُ دَفْعُهُ بها فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَالثَّانِيَةُ تُزَاحِمُ
الْأُولَى عِنْدَ وُجُودِهَا في وُجُوبِ الدَّفْعِ بها وَكَذَا الثَّالِثَةُ
وَالرَّابِعَةُ إلَى ما لَا يَتَنَاهَى بِخِلَافِ الْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ
الْمَبِيعَ قبل قَبْضِ الثَّمَنِ أو بَعْدَمَا قَبَضَ شيئا منه ثُمَّ أَرَادَ أَنْ
يَسْتَرِدَّ أَنَّهُ ليس له ذلك لِأَنَّهُ سَلَّمَ كُلَّ الْمَبِيعِ فَلَا
يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيمَا سَلَّمَ وَهَهُنَا ما سَلَّمَتْ كُلَّ الْمَعْقُودِ
عليه بَلْ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَنَافِعُ
الْبُضْعِ وما سَلَّمَتْ كُلَّ الْمَنَافِعِ بَلْ بَعْضَهَا دُونَ الْبَعْضِ
فَهِيَ بِالْمَنْعِ تَمْتَنِعُ عن تَسْلِيمِ ما لم يَحْصُلْ مُسَلَّمًا بَعْدُ
فَكَانَ لها ذلك كَالْبَائِعِ إذَا
____________________
(2/289)
سَلَّمَ
بَعْضَ الْمَبِيعِ قبل اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كان له حَقُّ حَبْسِ الْبَاقِي
لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ كَذَا هذا
وكان أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ يُفْتِي في مَنْعِهَا نَفْسَهَا بِقَوْلِ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في السَّفَرِ بِقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَبَعْدَ إيفَاءِ
الْمَهْرِ كان له أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ شَاءَ
وَحَكَى الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عن مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ
أَنَّهُ كان يُفْتِي أَنَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَهْرِ ليس لِزَوْجِهَا أَنْ
يُسَافِرَ بها
قال أبو يُوسُفَ وَلَوْ وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ الْمَهْرَ زُيُوفًا أو سُتُّوقًا
فَرَدَّتْ أو كان الْمَقْبُوضُ عَرَضًا اشْتَرَتْهُ من الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ
فَاسْتُحِقَّ بَعْدَ الْقَبْضِ وقد كان دخل بها فَلَيْسَ لها أَنْ تَمْنَعَ
نَفْسَهَا في جَمِيعِ ذلك وَهَذَا على أَصْلِهِمَا مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّ من
أَصْلِهِمَا أَنَّ التَّسْلِيمَ من غَيْرِ قَبْضِ الْمَهْرِ يُبْطِلُ حَقَّ
الْمَنْعِ وَهَذَا تَسْلِيمٌ من غَيْرِ قَبْضٍ لِأَنَّ ذلك الْقَبْضَ بِالرَّدِّ
وَالِاسْتِحْقَاقِ انْتَقَضَ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهَا لم
تَقْبِضْهُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ الْجَوَابُ هَكَذَا عِنْدَهُمَا وَأَمَّا عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لها أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا
ثُمَّ فَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين هذا وَبَيْنَ الْمَنْعِ أَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ
الثَّمَنَ من يَدِ الْبَائِعِ أو وَجَدَهُ زُيُوفًا أو سُتُّوقًا فَرَدَّهُ له
أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ فَيَحْبِسَهُ لِأَنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ
الِاسْتِرْدَادِ يُمْكِنُهُ الْحَبْسُ على الْوَجْهِ الذي كان قبل ذلك
وَأَمَّا هَهُنَا لَا يُمْكِنُهُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ
فَلَا يَكُونُ هذا الْحَبْسُ مِثْلَ الْأَوَّلِ فَلَا يَعُودُ حَقُّهَا في
الْحَبْسِ وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بهذا الْفَصْلِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ
مَهْرَهَا لِلزَّوْجِ دخل بها أو لم يَدْخُلْ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عن شَيْءٍ منه نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَلَيْسَ لِأَحَدٍ من
أَوْلِيَائِهَا الِاعْتِرَاضُ عليها سَوَاءٌ كان أَبًا أو غَيْرَهُ لِأَنَّهَا
وَهَبَتْ خَالِصَ مِلْكِهَا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ في عَيْنِ الْمَهْرِ حَقٌّ
فَيَجُوزُ وَيَلْزَمُ بِخِلَافِ ما إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَقَصَّرَتْ عن
مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقَّ الِاعْتِرَاضِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْأَمْهَارَ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فَقَدْ تَصَرَّفَتْ في
خَالِصِ حَقِّهِمْ وَلِأَنَّهَا أَلْحَقَتْ الضَّرَرَ بِالْأَوْلِيَاءِ
بِإِلْحَاقِ الْعَارِ وَالشَّنَارِ بِهِمْ فَلَهُمْ دَفْعُ هذا الضَّرَرِ
بِالِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَهَبَ مَهْرَ ابْنَتِهِ
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ له ذلك وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { أو يَعْفُوَ الذي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَالْأَبُ بيده عُقْدَةُ
النِّكَاحِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ مِلْكُ الْمَرْأَةِ وَحَقُّهَا لِأَنَّهُ بَدَلُ
بُضْعِهَا وَبُضْعُهَا حَقُّهَا وَمِلْكُهَا وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ عز وجل {
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } أَضَافَ الْمَهْرَ إلَيْهَا فَدَلَّ
أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا وَمِلْكُهَا
وَقَوْلُهُ عز وجل { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عن شَيْءٍ منه نَفْسًا فَكُلُوهُ
هَنِيئًا مَرِيئًا }
وقَوْله تَعَالَى { منه } أَيْ من الصَّدَاقِ لِأَنَّهُ هو الْمُكَنَّى السَّابِقُ
أَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ التَّنَاوُلَ من مُهُورِ النِّسَاءِ إذَا طَابَتْ
أَنْفُسُهُنَّ بِذَلِكَ وَلِذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِبَاحَةَ
بِطِيبِ أَنْفُسِهِنَّ فَدَلَّ ذلك كُلُّهُ على أَنَّ مَهْرَهَا مِلْكُهَا
وَحَقُّهَا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ مِلْكَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ هِبَةَ غَيْرِهِ من أَمْوَالِهَا فَكَذَا
الْمَهْرُ
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ من الذي بيده
عُقْدَةُ النِّكَاحِ هو الزَّوْجُ كَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وهو
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَيَجُوزُ أَنْ
يُحْمَلَ قَوْلُ من صَرَفَ التَّأْوِيلَ إلَى الْوَلِيِّ على بَيَانِ نُزُولِ
الْآيَةِ على ما قِيلَ أن حين النُّزُولِ كان الْمُهُورُ لِلْأَوْلِيَاءِ
وَدَلِيلُهُ قَوْلُ شُعَيْبٍ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ على أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ } شَرَطَ الْمَهْرَ لِنَفْسِهِ لَا لِابْنَتِهِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا
تَلَوْنَا من الْآيَاتِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَهَبَ صَدَاقَ أَمَتِهِ
وَمُدَبَّرَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ من زَوْجِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ مِلْكُهُ
وَلَيْسَ له أَنْ يَهَبَ مَهْرَ مُكَاتَبَتِهِ وَلَوْ وَهَبَ لَا يَبْرَأُ
الزَّوْجُ وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ مَهْرَ الْمُكَاتَبَةِ لها
لَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ من اكتسابها ( ( ( أكسابها ) ) ) وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ
له لَا لِمَوْلَاهُ وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ إذَا تَرَاضَيَا بها
وَالْحَطُّ عنه إذَا رَضِيَتْ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ من بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } رَفَعَ الْجُنَاحَ
فِيمَا تَرَاضَيَا بِهِ الزَّوْجَانِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وهو التَّسْمِيَةُ
وَذَلِكَ هو الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ وَالْحَطُّ عنه وَأَحَقُّ ما تُصْرَفُ
إلَيْهِ الْآيَةُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَةَ التَّرَاضِي وَأَنَّهُ
يَكُونُ بين اثْنَيْنِ وَرِضَا الْمَرْأَةِ كان في الْحَطِّ وَلِأَنَّ
الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ الْعَقْدَ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على
الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا كَالْخِيَارِ في بَابِ الْبَيْعِ وَالْأَجَلِ فيه
فإن من اشْتَرَى من آخَرَ عَبْدًا بَيْعًا بَاتًّا ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا جَعَلَ
لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ يَوْمًا جَازَ ذلك حتى لو نَقَضَ الْبَيْعَ جَازَ نَقْضُهُ
وَيَصِيرُ ذلك كَالْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ في أَصْلِ الْبَيْعِ وَكَذَا إذَا
اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ أَجَّلَ
الْمُشْتَرِيَ في الثَّمَنِ شَهْرًا جَازَ التَّأْجِيلُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كان
مُسَمًّى في الْعَقْدِ
كَذَا هَهُنَا وَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ في الْمَهْرِ حتى لو تَزَوَّجَ
امْرَأَةً على عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أو جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ولم تَرَهُ ثُمَّ
رَأَتْهُ ليس لها أَنْ تَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا
يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ فَلَوْ رَدَّتْ لَرَجَعَتْ عليه بِعَبْدٍ آخَرَ وَثَبَتَ لها
فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَتَرُدُّهُ ثُمَّ تَرْجِعُ عليه بِآخَرَ
____________________
(2/290)
إلَى
ما لَا يَتَنَاهَى فلم يَكُنْ الرَّدُّ مُفِيدًا لِخُلُوِّهِ عن الْعَاقِبَةِ
الْحَمِيدَةِ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَثْبُتُ لها حَقُّ الرَّدِّ وَكَذَلِكَ
الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ على مَالٍ وَالصُّلْحُ عن دَمِ الْعَمْدِ لِمَا قُلْنَا
بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ
يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا
لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَهَلْ يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ في الْمَهْرِ يُنْظَرُ في
ذلك إنْ كان الْعَيْبُ يَسِيرًا لَا يَثْبُتُ وَإِنْ كان فَاحِشًا يَثْبُتُ
وَكَذَلِكَ هذا في بَدَلِ الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَالصُّلْحِ عن دَمِ
الْعَمْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ على مَالٍ
أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ لِأَنَّ هُنَاكَ يَنْفَسِخُ
الْعَقْدُ بِرَدِّهِ وَهَهُنَا لَا يَنْفَسِخُ وإذا لم يَنْفَسِخْ فَيَقْبِضُ مثله
فَرُبَّمَا يَجِدُ فيه عَيْبًا يَسِيرًا أَيْضًا لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَخْلُو
عن قَلِيلِ عَيْبٍ عَادَةً فَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَقْبِضُ مثله فَيُؤَدِّي إلَى ما
لَا يَتَنَاهَى فَلَا يُفِيدُ الرَّدُّ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في
الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ فَكَانَ
الرَّدُّ مُفِيدًا وَلِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنَّمَا يَثْبُتُ
اسْتِدْرَاكًا لِلْفَائِتِ وهو صِفَةُ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ
وَالْعَيْبُ إذَا كان يَسِيرًا لَا يُعْرَفُ الْفَوَاتُ بِيَقِينٍ لِأَنَّ
الْعَيْبَ الْيَسِيرَ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ لَا يَخْلُو عنه
فَمِنْ مُقَوِّمٍ يُقَوِّمُهُ بِدُونِ الْعَيْبِ بِأَلْفٍ وَمِنْ مُقَوِّمٍ
يُقَوِّمُهُ مع الْعَيْبِ بِأَلْفٍ أَيْضًا فَلَا يُعْلَمُ فَوَاتُ صِفَةِ
السَّلَامَةِ بِيَقِينٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ
الْعَيْبِ الْفَاحِشِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ فيه الْمُقَوِّمُونَ فَكَانَ
الْفَوَاتُ حَاصِلًا بِيَقِينٍ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ
بِالرَّدِّ إلَّا أَنَّ هذا الْمَعْنَى يُشْكِلُ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ فإن
الْعَيْبَ الْيَسِيرَ فيها يُوجِبُ حَقَّ الرَّدِّ وَإِنْ كان هذا الْمَعْنَى
مَوْجُودًا فيها فَالْأَصَحُّ هو الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَلَا شُفْعَةَ في
الْمَهْرِ لِأَنَّ من شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ
بِالْمَالِ لِمَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ فَلَا يَثْبُتُ فيه حَقُّ
الشُّفْعَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ فَالْمَهْرُ يَتَأَكَّدُ
بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ الدُّخُولُ وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ وَمَوْتُ
أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ سَوَاءٌ كان مُسَمًّى أو مَهْرَ الْمِثْلِ حتى لَا يَسْقُطَ
شَيْءٌ منه بَعْدَ ذلك إلَّا بِالْإِبْرَاءِ من صَاحِبِ الْحَقِّ أَمَّا
التَّأَكُّدُ بِالدُّخُولِ فَمُتَّفَقٌ عليه وَالْوَجْهُ فيه أَنَّ الْمَهْرَ قد
وَجَبَ بِالْعَقْدِ وَصَارَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَالدُّخُولُ لَا يُسْقِطُهُ
لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عليه وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عليه
يُقَرِّرُ الْبَدَلَ لَا أَنْ يُسْقِطَهُ كما في الْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ
يَتَأَكَّدُ بِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ من غَيْرِ اسْتِيفَائِهِ لِمَا نَذْكُرُ
فَلَأَنْ يَتَأَكَّدَ بِالتَّسْلِيمِ مع الِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى
وَأَمَّا التَّأَكُّدُ بِالْخَلْوَةِ فَمَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ حتى لو خَلَا بها
خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها في نِكَاحٍ فيه
تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عليه كَمَالُ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ نِصْفُ
الْمُسَمَّى وَإِنْ لم يَكُنْ في النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عليه كَمَالُ
مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عليه الْمُتْعَةُ وَعَلَى هذا
الِاخْتِلَافِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قبل الدُّخُولِ عِنْدَنَا
تَجِبُ وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وقد فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ }
أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ في
نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْمَسِّ هو الْجِمَاعُ ولم
يَفْصِلْ بين حَالِ وُجُودِ الْخَلْوَةِ وَعَدَمِهَا فَمَنْ أَوْجَبَ كُلَّ
الْمَفْرُوضِ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ
وقَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم
تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ } أَيْ ولم تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَمَتِّعُوهُنَّ أَوْجَبَ الله تَعَالَى لَهُنَّ الْمُتْعَةَ في الطَّلَاقِ في
نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ وُجُودِ
الْخَلْوَةِ وَعَدَمِهَا وَقَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ }
فَدَلَّتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ على نَفْيِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِ
الْمُتْعَةِ قبل الدُّخُولِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ
يَتَوَقَّفُ على اسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وهو مَنَافِعُ الْبُضْعِ
وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْوَطْءِ ولم يُوجَدْ وَلَا ضَرُورَةَ لها في التَّوَقُّفِ
لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ أو يُطَلِّقَ فَإِنْ
اسْتَوْفَى تَأَكَّدَ حَقُّهَا وَإِنْ طَلَّقَ يَفُوتُ عليها نِصْفُ الْمَهْرِ
لَكِنْ بِعِوَضٍ هو خَيْرٌ لها لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه يَعُودُ عليها سَلِيمًا
مع سَلَامَةِ نِصْفِ الْمَهْرِ لها بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ تَتَأَكَّدُ
الْأُجْرَةُ فيها بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّأَكُّدُ على
اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ لِأَنَّ في التَّوَقُّفِ هُنَاكَ ضرر ( ( ( ضررا ) ) )
بالأجر لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُمْنَعَ
الْمُسْتَأْجِرُ من اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ بَعْدَ
التَّخْلِيَةِ فَلَوْ تَوَقَّفَ تَأَكُّدُ الْأُجْرَةِ على حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ
وَرُبَّمَا لَا يستوفى لِفَائِتِ الْمَنَافِعِ عليه مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ
فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الأجر فَأُقِيمَ التَّمَكُّنُ من الِانْتِفَاعِ مَقَامَ
اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْآجِرِ وَهَهُنَا لَا ضَرَرَ
في التَّوَقُّفِ على ما بَيَّنَّا فَتَوَقَّفَ التَّأَكُّدُ على حَقِيقَةِ
الِاسْتِيفَاءِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَتَأَكَّدُ
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا منه شيئا أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقد أَفْضَى بَعْضُكُمْ
إلَى بَعْضٍ }
____________________
(2/291)
نهى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزَّوْجَ عن أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا سَاقَ إلَيْهَا من
الْمَهْرِ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَأَبَانَ عن مَعْنَى النَّهْيِ لِوُجُودِ
الْخَلْوَةِ كَذَا قال الْقُرَّاءُ إنَّ الْإِفْضَاءَ هو الْخَلْوَةُ دخل بها أو
لم يَدْخُلْ وَمَأْخَذُ اللَّفْظِ دَلِيلٌ على أَنَّ الْمُرَادَ منه الْخَلْوَةُ
الصَّحِيحَةُ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ من الْفَضَاءِ من الْأَرْضِ وهو
الْمَوْضِعُ الذي لَا نَبَاتَ فيه وَلَا بِنَاءَ فيه وَلَا حَاجِزَ يَمْنَعُ عن
إدْرَاكِ ما فيه فَكَانَ الْمُرَادُ منه الْخَلْوَةَ على هذا الْوَجْهِ وَهِيَ
التي لَا حَائِلَ فيها وَلَا مَانِعَ من الِاسْتِمْتَاعِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى
اللَّفْظِ فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ منه
بِالطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ سُقُوطَ النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ وَقَبْلَ
الْخَلْوَةِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ وَإِقَامَةَ الْمُتْعَةِ مَقَامَ نِصْفِ
مَهْرِ الْمِثْلِ في نِكَاحٍ لَا تسيمة ( ( ( تسمية ) ) ) فيه ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ
فَبَقِيَ حَالُ ما بَعْدَ الْخَلْوَةِ على ظَاهِرِ النَّصِّ
وروى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من كَشَفَ خِمَارَ
امْرَأَتِهِ وَنَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ دخل بها أو لم يَدْخُلْ وَهَذَا
نَصٌّ في الْبَابِ
وَرُوِيَ عن زُرَارَةَ بن أبي أَوْفَى أَنَّهُ قال قَضَى الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إذَا أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ
الْبَابَ فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دخل بها أو لم
يَدْخُلْ بها
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ من
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ قد وَجَبَ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ أما في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ فَلَا شَكَّ فيه وَإِمَّا في نِكَاحٍ لَا
تَسْمِيَةَ فيه فَلِمَا ذَكَرْنَا في مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ
بِنَفْسِ الْعَقْدِ ثَبَتَ مُوَسَّعًا وَيَتَضَيَّقُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ
وَالدَّيْنُ الْمُضَيَّقُ وَاجِبُ الْقَضَاءِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الدَّيْنُ مُضَيَّقٌ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مَتَى
صَارَ مِلْكًا لها بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِإِنْسَانٍ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَةِ الْمَالِكِ أو بِعَجْزِهِ عن
الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً إمَّا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ
أو لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَلَا يَزُولُ
إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ سَقَطَ النِّصْفُ
بِإِسْقَاطِ الشَّرْعِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى إلَّا بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ
الطَّلَاقَ فِعْلُ الزَّوْجِ وَالْمَهْرُ مِلْكُهَا وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ
إسْقَاطَ حَقِّ الْغَيْرِ عن نَفْسِهِ وَلِأَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ إلَى
زَوْجِهَا فيحب ( ( ( فيجب ) ) ) على زَوْجِهَا تَسْلِيمُ الْبَدَلِ إلَيْهَا كما
في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ
وَالدَّلِيلُ على أنها سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ أَنَّ الْمُبْدَلَ هو ما يُسْتَوْفَى
بِالْوَطْءِ وهو الْمَنَافِعُ إلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ قبل الِاسْتِيفَاءِ
مَعْدُومَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهَا لَكِنْ لها مَحَلٌّ مَوْجُودٌ وهو
الْعَيْنُ وَأَنَّهَا مُتَصَوَّرُ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً فَيُقَامُ تَسْلِيمُ
الْعَيْنِ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ كما في الْإِجَارَةِ وقد وُجِدَ
تَسْلِيمُ الْمَحَلِّ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ هو جَعْلُ الشَّيْءِ سَالِمًا
لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ
الْكَلَامَ في الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عن التَّمَكُّنِ من
الِانْتِفَاعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمَكُّنُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ
الْمَوَانِعِ كُلِّهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ منها تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ
فَيَجِبُ على الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ لِأَنَّ هذا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ
وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ التَّسْلِيمِ كما يَقْتَضِي مِلْكًا
بِإِزَاءِ مِلْكٍ تَحْقِيقًا بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ كما في الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فقال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أن الْمُرَادَ من الْمَسِيسِ
هو الْخَلْوَةُ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً على أَنَّ فيها إيجَابَ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ
لَا إسْقَاطَ النِّصْفِ الْبَاقِي أَلَا تَرَى أَنَّ من كان في يَدِهِ عَبْدٌ فقال
نِصْفُ هذا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ لَا يَكُونُ ذلك نَفْيًا لِلنِّصْفِ الْبَاقِي
فَكَانَ حُكْمُ النِّصْفِ الْبَاقِي مَسْكُوتًا عنه فَبَقِيَتْ على قِيَامِ
الدَّلِيلِ وقد قام الدَّلِيلُ على الْبَقَاءِ وهو ما ذَكَرْنَا فَيَبْقَى
وَأَمَّا قَوْلُهُ التَّأَكُّدُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ
فَمَمْنُوعٌ بَلْ كما يَثْبُتُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ يَثْبُتُ بِتَسْلِيمِ
الْمُسْتَحَقِّ كما في الْإِجَارَةِ وَتَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهِ وقد
حَصَلَ ذلك بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ على ما بَيَّنَّا ثُمَّ تَفْسِيرُ
الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ هو أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ من الْوَطْء لَا
حَقِيقِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ وَلَا طَبْعِيٌّ أَمَّا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ
فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أو
صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ أو صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا أو كانت
الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ أو قَرْنَاءَ لِأَنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرْنَ يَمْنَعَانِ من
الْوَطْءِ وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الزَّوْجِ إنْ كان الزَّوْجُ عِنِّينًا أوخصيا
لِأَنَّ الْعُنَّةَ وَالْخِصَاءَ لَا يَمْنَعَانِ من الْوَطْءِ فَكَانَتْ
خَلْوَتُهُمَا كَخَلْوَةِ غَيْرِهِمَا وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ من الْوَطْءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ
الْخَلْوَةِ كَالْقَرْنِ وَالرَّتْقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
____________________
(2/292)
يُتَصَوَّرُ
منه السَّحْقُ وَالْإِيلَادُ بهذا الطَّرِيقِ أَلَا تَرَى لو جَاءَتْ امْرَأَتُهُ
بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ منه بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتَحَقَّتْ كَمَالَ الْمَهْرِ
إنْ طَلَّقَهَا وَإِنْ لم يُوجَدْ منه الْوَطْءُ الْمُطْلَقُ فَيُتَصَوَّرُ في
حَقِّهِ ارْتِفَاعُ الْمَانِعِ من وَطْءِ مِثْلِهِ فَتَصِحُّ خَلْوَتُهُ
وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إذَا
صَحَّتْ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْوَطْءِ في حَقِّ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ فَفِي حَقِّ
الْعِدَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ في إيجَابِهَا وَأَمَّا عِنْدَهُمَا
فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ عليها الْعِدَّةَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كان الْمَجْبُوبُ يُنْزِلُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِأَنَّ
الْمَجْبُوبَ قد يَقْذِفُ بِالْمَاءِ فَيَصِلُ إلَى الرَّحِمِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ
وَلَدِهِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ما بَيْنَهَا
وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ وَوَجَبَ لها جَمِيعُ الصَّدَاقِ لِأَنَّ الْحُكْمَ
بِثَبَاتِ النَّسَبِ يَكُونُ حُكْمًا بِالدُّخُولِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ على
قَوْلِهِمَا أَيْضًا وَإِنْ كان لَا يُنْزِلُ فَلَا عِدَّةَ عليها فَإِنْ جَاءَتْ
بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ
كَالْمُطَلَّقَةِ قبل الدُّخُولِ وكالمتعدة ( ( ( وكالمعتدة ) ) ) إذَا أَقَرَّتْ
بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
وَأَمَّا الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا
صَوْمَ رَمَضَانَ أو مُحْرِمًا بِحَجَّةِ فَرِيضَةٍ أو نَفْلٍ أو بِعُمْرَةٍ أو
تَكُونُ الْمَرْأَةُ حَائِضًا أو نُفَسَاءَ لِأَنَّ كُلَّ ذلك مُحَرِّمٌ
لِلْوَطْءِ فَكَانَ مَانِعًا من الْوَطْءِ شَرْعًا وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ
يَمْنَعَانِ منه طَبْعًا أَيْضًا لِأَنَّهُمَا أَذًى وَالطَّبْعُ السَّلِيمُ
يَنْفِرُ عن اسْتِعْمَالِ الْأَذَى
وَأَمَّا في غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ
صَوْمَ التَّطَوُّعِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورَ لَا
يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ في مُخْتَصَرِهِ
أَنَّ نَفْلَ الصَّوْمِ كَفَرْضِهِ فَصَارَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُحَرِّمُ الْفِطْرَ من
غَيْرِ عُذْرٍ فَصَارَ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ
كَذَا هذا
وَجْهُ رِوَايَةِ بِشْرٍ أَنَّ صَوْمَ غَيْرِ رَمَضَانَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ
لَا غير فلم يَكُنْ قَوِيًّا في مَعْنَى الْمَنْعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ
فإنه يَجِبُ فيه الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَكَذَا حَجُّ التَّطَوُّعِ فَقَوِيَ
الْمَانِعُ
وَوَجْهٌ آخَرُ من الْفَرْقِ بين صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَبَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ
أَنَّ تَحْرِيمَ الْفِطْرِ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ من غَيْرِ عُذْرٍ غَيْرُ
مَقْطُوعٍ بِهِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَكَذَا لُزُومُ الْقَضَاءِ
بِالْإِفْطَارِ فلم يَكُنْ مَانِعًا بِيَقِينٍ وَحُرْمَةُ الأفطار في صَوْمِ
رَمَضَانَ من غَيْرِ عُذْرٍ مَقْطُوعٌ بها وَكَذَا لُزُومُ الْقَضَاءِ فَكَانَ
مَانِعًا بِيَقِينٍ
وَأَمَّا الْمَانِعُ الطَّبْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتِهِ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ وَيَسْتَحِي
فَيَنْقَبِضُ عن الْوَطْءِ بِمَشْهَدٍ منه وَسَوَاءٌ كان الثَّالِثُ بَصِيرًا أو
أَعْمَى يقظا ( ( ( يقظانا ) ) ) أو نَائِمًا بَالِغًا أو صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ
كان عَاقِلًا رَجُلًا أو امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً أو مَنْكُوحَتَهُ لِأَنَّ
الْأَعْمَى إنْ كان لَا يُبْصِرُ فَيُحِسُّ وَالنَّائِمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يستيقط (
( ( يستيقظ ) ) ) سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَنْقَبِضُ الْإِنْسَانُ عن الْوَطْءِ مع
حُضُورِهِ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَحْتَشِمُ
الْإِنْسَانُ منه كما يَحْتَشِمُ من الرَّجُلِ وإذا لم يَكُنْ عَاقِلًا فَهُوَ
مُلْحَقٌ بِالْبَهَائِمِ لَا يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ عن الْوَطْءِ لِمَكَانِهِ
وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وَالْإِنْسَانُ يَحْتَشِمُ من الْمَرْأَةِ
الْأَجْنَبِيَّةِ وَيَسْتَحِي
وَكَذَا لَا يَحِلُّ لها النَّظَرُ إلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضَانِ لِمَكَانِهَا وإذا
كان هُنَاكَ مَنْكُوحَةٌ له أُخْرَى أو تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فَخَلَا بِهِمَا
فَلَا يَحِلُّ لها النَّظَرُ إلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضُ عنها وقد قالوا إنَّهُ لَا
يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ بِمَشْهَدِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَلَوْ
كان الثَّالِثُ جَارِيَةً له فَقَدْ روى أَنَّ مُحَمَّدًا كان يقول أَوَّلًا
تَصِحُّ خَلْوَتُهُ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا تَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ لها حُرْمَةُ الْحُرَّةِ
فَلَا يَحْتَشِمُ الْمَوْلَى منها وَلِذَا يَجُوزُ لها النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا
تَمْنَعُهُ عن الْوَطْءِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْأَمَةَ إنْ كان يَجُوزُ لها النَّظَرُ
إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لها النَّظَرُ إلَيْهَا فَتَنْقَبِضُ الْمَرْأَةُ لِذَلِكَ
وَكَذَا قالوا لَا يَحِلُّ له الْوَطْءُ بِمَشْهَدٍ منها كما لَا يَحِلُّ
بِمَشْهَدِ امْرَأَتِهِ الْأُخْرَى وَلَا خَلْوَةَ في الْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ
وَالصَّحْرَاءِ وَعَلَى سَطْحٍ لَا حِجَابَ عليه لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَجْمَعُ
الناس لِلصَّلَاةِ وَلَا يُؤْمَنُ من الدُّخُولِ عليه سَاعَةً فَسَاعَةً وَكَذَا
الْوَطْءُ في الْمَسْجِدِ حَرَامٌ قال اللَّهُ عز وجل { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } وَالطَّرِيقُ مَمَرُّ الناس لَا تَخْلُو
عَنْهُمْ عَادَةً وَذَلِكَ يُوجِبُ الإنقباض فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ
وَكَذَا الصَّحْرَاءُ وَالسَّطْحُ من غَيْرِ حِجَابٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ
يَنْقَبِضُ عن الْوَطْءِ في مِثْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْصُلَ هُنَاكَ ثَالِثٌ
أو يَنْظُرُ إلَيْهِ أَحَدٌ مَعْلُومٌ ذلك بِالْعَادَةِ
وَلَوْ خَلَا بها في حَجَلَةٍ أو قُبَّةٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ عليه فَهُوَ خَلْوَةٌ
صَحِيحَةٌ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْبَيْتِ وَلَا خَلْوَةَ في النِّكَاحِ
الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فيه حَرَامٌ فَكَانَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ
قَائِمًا وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ مِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ وَتَأَكُّدُهُ
بَعْدَ وُجُوبِهِ يَكُونُ وَلَا يَجِبُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ شَيْءٌ فَلَا
يُتَصَوَّرُ التَّأَكُّدُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ في كل مَوْضِعٍ صَحَّتْ الْخَلْوَةُ وَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ وَجَبَتْ
الْعِدَّةُ
____________________
(2/293)
لِأَنَّ
الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ لَمَّا أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ فَلَأَنْ تُوجِبَ
الْعِدَّةَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ وفي الْعِدَّةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْتَاطُ فيها وفي كل مَوْضِعٍ فَسَدَتْ فيه
الْخَلْوَةُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الْمَهْرِ وَهَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ يَنْظُرُ في
ذلك إنْ كان الْفَسَادُ لِمَانِعٍ حَقِيقِيٍّ لَا تَجِبُ لِأَنَّهُ لَا
يُتَصَوَّرُ الْوَطْءُ مع وُجُودِ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ منه
وَإِنْ كان الْمَانِعُ شَرْعِيًّا أو طَبْعِيًّا تَجِبُ لِأَنَّ الْوَطْءَ مع
وُجُودِ هذا النَّوْعِ من الْمَانِعِ مُمْكِنٌ فَيُتَّهَمَانِ في الْوَطْءِ
فَتَجِبُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الطَّلَاقِ احْتِيَاطًا وَاَللَّهُ عز وجل
الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا التَّأَكُّدُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في
أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ
فيه تَسْمِيَةٌ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ الْمُسَمَّى سَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ حُرَّةً
أو أَمَةً لِأَنَّ الْمَهْرَ كان وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لم يَنْفَسِخْ
بِالْمَوْتِ بَلْ انْتَهَى نِهَايَتهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لِلْعُمْرِ فَتَنْتَهِي نِهَايَتُهُ
عِنْدَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ وإذا انْتَهَى يَتَأَكَّدُ فِيمَا مَضَى
وَيَتَقَرَّرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ يَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ
فَيَتَقَرَّرُ الْوَاجِبُ وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ لَمَّا وَجَبَ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ صَارَ دَيْنًا عليه وَالْمَوْتُ لم يُعْرَفْ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ في
أُصُولِ الشَّرْعِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ منه بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَكَذَا إذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا سَوَاءٌ كان قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ أو قَتَلَ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أو قَتَلَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ
فَأَمَّا إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنْ كانت حُرَّةً لَا يَسْقُطُ
عن الزَّوْجِ شَيْءٌ من الْمَهْرِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ يَسْقُطُ الْمَهْرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنها بِالْقَتْلِ فَوَّتَتْ على الزَّوْجِ حَقَّهُ في
الْمُبْدَلِ فَيَسْقُطُ حَقُّهَا في الْبَدَلِ كما إذَا ارْتَدَّتْ قبل الدُّخُولِ
أو قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو أَبَاهُ
وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يَصِيرُ تَفْوِيتًا لِلْحَقِّ عِنْدَ زُهُوقِ
الرُّوحِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا في حَقِّ الْمَحَلِّ عِنْدَ ذلك
وَالْمَهْرُ في تِلْكَ الْحَالَةِ مِلْكُ الْوَرَثَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ
بِفِعْلِهَا كما إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أو أَجْنَبِيٌّ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ
وَالتَّقْبِيلِ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَقْتَ التَّقْبِيلِ وَالرِّدَّةِ كان مِلْكَهَا
فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِفِعْلِهَا كما إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أو قَتَلَ
الْمَوْلَى أَمَتَهُ سَقَطَ مَهْرُهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَتَأَكَّدُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ مُؤَكِّدٌ لِلْمَهْرِ وقد وُجِدَ الْمَوْتُ
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَيَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ كما إذَا
قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ أو قَتَلَهَا زَوْجُهَا وَكَالْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ
نَفْسَهَا وَلِأَنَّ الْمَوْتَ إنَّمَا أَكَّدَ الْمَهْرَ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي
بِهِ النِّكَاحُ وَالشَّيْءُ إذَا انْتَهَى نِهَايَتَهُ يَتَقَرَّرُ وَهَذَا
الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ
فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمُبْدَلُ وَتَقَرُّرُ الْمُبْدَلِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ
الْبَدَلِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ من له الْبَدَلُ فَوَّتَ الْمُبْدَلَ على صَاحِبِهِ
وَتَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ على صَاحِبِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْبَدَلِ كَالْبَائِعِ
إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ أَنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وُجِدَ تَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ
الْبَدَلَ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْمُبْدَلِ هو الْمَوْلَى وقد أَخْرَجَ
الْمُبْدَلَ عن كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا
يُوجِبُ سُقُوطَ الْبَدَلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَرْضَى بِمِلْكِ الْبَدَلِ عليه
بَعْدَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ عن مِلْكِهِ فَكَانَ إيفَاءُ الْبَدَلِ عليه بَعْدَ
زَوَالِ الْمُبْدَلِ عن مكله ( ( ( ملكه ) ) ) إضْرَارًا بِهِ وَالْأَصْلُ في
الضَّرَرِ أَنْ لَا يَكُونَ فَكَانَ إقْدَامُ الْمَوْلَى على تَفْوِيتِ
الْمُبْدَلِ عن مِلْكِ الزَّوْجِ وَالْحَالَةُ هذه إسْقَاطًا لِلْبَدَلِ دَلَالَةٌ
فَصَارَ كما لو أَسْقَطَهُ نَصًّا بِالْإِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا
قَتَلَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّهَا وَقْتَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ لم تَكُنْ
مُسْتَحِقَّةً لِلْبَدَلِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ على ما بَيَّنَّا
وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ وَقْتَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ على الزَّوْجِ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَحَقُّهُ وَالْإِنْسَانُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ اسْتِيفَاءً
وَإِسْقَاطًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِتَفْوِيتِ الْمُبْدَلِ دَلَالَةً
كما كان مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِالْإِسْقَاطِ نَصًّا بِالْإِبْرَاءِ وهو
الْجَوَابُ عَمَّا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أو أَجْنَبِيٌّ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ
لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَا لِلزَّوْجِ في مَهْرِهَا فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ
بِإِسْقَاطِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِمَا نَصًّا
فَكَيْفَ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَالدَّلِيلُ على
التَّفْرِقَةِ بين هذه الْفُصُولِ أَنَّ قَتْلَ الْحُرَّةِ نَفْسَهَا لَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَصَارَ كَمَوْتِهَا حَتْفَ
أَنْفِهَا حتى قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أنها تُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليها كما
لو مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا وَقَتْلُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَقَتْلُ الْأَجْنَبِيِّ إيَّاهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ
الْقِصَاصِ إنْ كان عَمْدًا وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ كان خَطَأً فلم
يَكُنْ قَتْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ
هذا إذَا قَتَلَهَا الْمَوْلَى
فَأَمَّا إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ رَوَى
أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ لَا مَهْرَ لها وَرَوَى مُحَمَّدٌ عنه أَنَّ لها
الْمَهْرَ وهو قَوْلُهُمَا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى إن قَتْلَهَا نَفْسَهَا بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ
الْمَوْلَى إيَّاهَا بِدَلِيلِ أَنَّ جِنَايَتَهَا كَجِنَايَتِهِ في بَابِ
الضَّمَانِ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِمَالِ الْمَوْلَى وَلَوْ قَتَلَهَا
الْمَوْلَى يَسْقُطُ الْمَهْرُ
____________________
(2/294)
عِنْدَهُ
فَكَذَا إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْبَدَلَ حَقُّ الْمَوْلَى وَمِلْكُهُ
فَتَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ منها لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ
جِنَايَةِ الْمَوْلَى وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْجِنَايَتَيْنِ أَنَّ
جِنَايَتَهَا على نَفْسِهَا هَدَرٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ
من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ وَصَارَتْ كَأَنَّهَا مَاتَتْ
حَتْفَ أَنْفِهَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمَوْلَى عليها فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ
بِالْكَفَّارَةِ وَهِيَ من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عليها
مُعْتَبَرَةً فَلَا تُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وإذا تَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِأَحَدِ الْمَعَانِي التي ذَكَرْنَاهَا لايسقط بَعْدَ
ذلك وَإِنْ كانت الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا لِأَنَّ الْبَدَلَ بَعْدَ تَأَكُّدِهِ
لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ إلَّا بِالْإِبْرَاءِ كَالثَّمَنِ إذَا تَأَكَّدَ
بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ في نِكَاحٍ لَا
تَسْمِيَةَ فيه فإنه يَتَأَكَّدُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وهو
مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّ لها الْمُتْعَةَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ قال
مُتْعَتُهَا ما اسْتَحَقَّتْ من الْمِيرَاثِ لَا غير
احْتَجَّ من قال بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ
الْمُؤْمِنَاتِ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل { فَمَتِّعُوهُنَّ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بِالْمُتْعَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الْمَوْتِ وَغَيْرِهَا
وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ في الطَّلَاقِ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَارِدًا في الْمَوْتِ
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ في صَرِيحِ الطَّلَاقِ ثُمَّ ثَبَتَ حُكْمُهُ
في الكنايات ( ( ( الكتابات ) ) ) من الْإِبَانَةِ وَالتَّسْرِيحِ وَالتَّحْرِيمِ
وَنَحْوِ ذلك كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن مَعْقِلِ بن سِنَانٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم قَضَى في بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وقد مَاتَ عنها زَوْجُهَا قبل أَنْ
يَدْخُلَ بها بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الذي له وَجَبَ كُلُّ
الْمُسَمَّى بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ
مَوْجُودٌ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه وهو ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا
حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها إيجَابَ الْمُتْعَةِ في الطَّلَاقِ لَا في
الْمَوْتِ فَمَنْ ادَّعَى إلْحَاقَ الْمَوْتِ بِالطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ له من دَلِيلٍ
آخَرَ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ فَالْمَهْرُ كُلُّهُ
يَسْقُطُ بِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ منها الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قبل
الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ بها فَكُلُّ فُرْقَةٍ حَصَلَتْ
بِغَيْرِ طَلَاقٍ قبل الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْمَهْرِ
سَوَاءٌ كانت من قِبَلِ الْمَرْأَةِ أو من قِبَلِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا كان
كَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ
وَفَسْخُ الْعَقْدِ قبل الدُّخُولِ يُوجِبُ سُقُوطَ كل الْمَهْرِ لِأَنَّ فَسْخَ
الْعَقْدِ رَفَعَهُ من الْأَصْلِ وَجَعَلَهُ كَأَنْ لم يَكُنْ وَسَنُبَيِّنُ
الْفُرْقَةَ التي تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَاَلَّتِي تَكُونُ بِطَلَاقٍ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهَا
وَمِنْهَا الْإِبْرَاءُ عن كل الْمَهْرِ قبل الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إذَا كان
الْمَهْرُ دَيْنًا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ مِمَّنْ هو من
أَهْلِ الْإِسْقَاطِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ
وَمِنْهَا الْخُلْعُ على الْمَهْرِ قبل الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ ثُمَّ إنْ كان الْمَهْرُ
غير مَقْبُوضٍ سَقَطَ عن الزَّوْجِ وَإِنْ كان مَقْبُوضًا رَدَّتْهُ على الزَّوْجِ
وَإِنْ كان خَالَعَهَا على مَالٍ سِوَى الْمَهْرِ يَلْزَمُهَا ذلك الْمَالُ
وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عن كل حَقٍّ وَجَبَ لها عليه بِالنِّكَاحِ كَالْمَهْرِ
وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْخُلْعَ وَإِنْ كان
طَلَاقًا بِعِوَضٍ عِنْدَنَا لَكِنْ فيه مَعْنَى الْبَرَاءَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَسْأَلَةِ الْمُخَالَعَةِ وَالْمُبَارَأَةِ في
كِتَابِ الطَّلَاقِ في بَيَانِ حُكْمِ الْخُلْعِ وَعَمَلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَمِنْهَا هِبَةُ كل الْمَهْرِ قبل الْقَبْضِ عَيْنًا كان أو دَيْنًا وَبَعْدَهُ
إذَا كان عَيْنًا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هِبَةِ الْمَهْرِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وهو أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ
مِمَّا يَصِحُّ تَعْيِينُهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وهو أَنْ يَكُونَ في
الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُعَيَّنَةً كانت أو غير مُعَيَّنَةٍ
وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ في الذِّمَّةِ وَالْحَيَوَانِ في الذِّمَّةِ كَالْعَبْدِ
وَالْفَرَسِ وَالْعَرْضِ في الذِّمَّةِ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيُّ وَالْحَالُ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَهَبَتْ كُلَّ الْمَهْرِ أو بَعْضَهُ فَإِنْ وَهَبَتْهُ كُلَّ الْمَهْرِ قبل
الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها فَلَا شَيْءَ له عليها سَوَاءٌ كان
الْمَهْرُ عَيْنًا أو دَيْنًا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ يَرْجِعُ عليها بِنِصْفِ الْمَهْرِ إنْ كان دَيْنًا وَبِهِ أَخَذَ
الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أنها بِالْهِبَةِ تَصَرَّفَتْ في الْمَهْرِ بِالْإِسْقَاطِ
وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ اسْتِهْلَاكُهُ وَالِاسْتِهْلَاكُ يَتَضَمَّنُ الْقَبْضَ
فَصَارَ كَأَنَّهَا قَبَضَتْ ثُمَّ وَهَبَتْ
وَلَنَا أَنَّ الذي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ قبل الْقَبْضِ عَادَ
إلَيْهِ من جِهَتِهَا بِسَبَبٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ
نِصْفَ الْمَهْرِ فَقَدْ عَادَ إلَيْهِ بِالْهِبَةِ
____________________
(2/295)
وَالْهِبَةُ
لَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فَلَا يَكُونُ له حَقُّ الرُّجُوعِ عليها بِالنِّصْفِ
كَالنِّصْفِ الْآخَرِ
وَإِنْ وَهَبَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْمَوْهُوبُ عَيْنًا فَقَبَضَهُ
ثُمَّ وَهَبَهُ منها لم يَرْجِعْ عليها بِشَيْءٍ لِأَنَّ ما تَسْتَحِقُّهُ
بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ هو نِصْفُ الْمَوْهُوبِ بِعَيْنِهِ وقد رَجَعَ
إلَيْهِ بِعَقْدٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ عليها وَإِنْ
كانت دَيْنًا في الذِّمَّةِ فَإِنْ كان حَيَوَانًا أو عَرَضًا فَكَذَلِكَ لَا
يَرْجِعُ عليها بِشَيْءٍ لِأَنَّ الذي تَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
نِصْفُ ذلك الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ من الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ
تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ
وَإِنْ كان دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ مُعَيَّنَةً أو غير مُعَيَّنَةٍ أو مَكِيلًا
أو مَوْزُونًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ
منه ثُمَّ طَلَّقَهَا يَرْجِعُ عليها بِمِثْلِ نِصْفِهِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ
بِالطَّلَاقِ ليس هو الذي وَهَبَتْهُ بِعَيْنِهِ بَلْ مِثْلُهُ بِدَلِيلِ أنها
كانت مُخَيَّرَةً في الدَّفْعِ إنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ ذلك بِعَيْنِهِ وَإِنْ
شَاءَتْ دَفَعَتْ مثله كما كان الزَّوْجُ مُخَيَّرًا في الدَّفْعِ إلَيْهَا
بِالْعَقْدِ فلم يَكُنِ الْعَائِدُ إلَيْهِ عَيْنَ ما يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ
قبل الدُّخُولِ فَصَارَ كَأَنَّهَا وَهَبَتْ مَالًا آخَرَ وَلَوْ كان كَذَلِكَ
لَرَجَعَ عليها بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ كَذَا هذا
وقال زُفَرُ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا كانت مُعَيَّنَةً فَقَبَضَتْهَا
ثُمَّ وَهَبَتْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ عليها
بِشَيْءٍ بِنَاءً على أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ
بِالْعَقْدِ فَتَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ أَيْضًا كَالْعُرُوضِ وَعِنْدَنَا لَا
تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي
في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان الْمَهْرُ دَيْنًا فَقَبَضَتْ الْكُلَّ ثُمَّ وَهَبَتْ
الْبَعْضَ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عليها بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ له
أَنْ يَرْجِعَ عليها إذَا وَهَبَتْ الْكُلَّ فإذا وَهَبَتْ الْبَعْضَ أَوْلَى وإذا
قَبَضَتْ النِّصْفَ ثُمَّ وَهَبَتْ النِّصْفَ الْبَاقِيَ أو وَهَبَتْ الْكُلَّ
ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ
عليها بِشَيْءٍ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَرْجِعُ عليها بِرُبُعِ الْمَهْرِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
نِصْفُ الْمَهْرِ فإذا قَبَضَتْ النِّصْفَ دُونَ النِّصْفِ فَقَدْ استحقق ( ( (
استحق ) ) ) النِّصْفَ مُشَاعًا فِيمَا في ذِمَّتِهِ وَفِيمَا قَبَضَتْ فَكَانَ
نِصْفُ النِّصْفِ وهو رُبُعُ الْكُلِّ في ذِمَّتِهِ وَنِصْفُ النِّصْفِ فِيمَا
قَبَضَتْ إلَّا أنها إذَا لم تَكُنْ وَهَبَتْهُ حتى طَلَّقَهَا لم يَرْجِعْ عليها
بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ صَارَ ما في ذِمَّتِهِ قِصَاصًا بِمَالِهِ عليها فإذا وهب ( (
( وهبت ) ) ) بَقِيَ حَقُّهُ في نِصْفِ ما في يَدِهَا وهو الرُّبُعُ فَيَرْجِعُ
عليها بِذَلِكَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ قبل
الدُّخُولِ ما في ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أنها لو لم تَكُنْ وَهَبَتْ وَطَلَّقَهَا لم
يَرْجِعْ عليها بِشَيْءٍ وقد عَادَ إلَيْهِ ما كان في ذِمَّتِهِ بِسَبَبٍ لَا
يُوجِبُ الضَّمَانَ وهو الْهِبَةُ فَلَا يَكُونُ له الرُّجُوعُ بِشَيْءٍ وَلَوْ
كان الْمَهْرُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ أو جَنَى عليها فَوَجَبَ
الأطرش ( ( ( الأرش ) ) ) أو كان شَجَرًا فَأَثْمَرَ أو دَخَلَهُ عَيْبٌ ثُمَّ
وَهَبَتْهُ منه ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها رَجَعَ عليها بِنِصْفِ
الْقِيمَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ يَنْقَطِعُ عن الْعَيْنِ بِهَذِهِ
الْعَوَارِضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له أَخْذُهَا مع الزِّيَادَةِ وإذا
كان حَقُّهُ مُنْقَطِعًا عنها لم يَعُدْ إلَيْهِ بِالْهِبَةِ ما اسْتَحَقَّهُ
بِالطَّلَاقِ فَكَانَ له قِيمَتُهَا وإذا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فألحق وَإِنْ لم
يَنْقَطِعْ عن الْعَيْنِ بِهِ لَكِنْ يَجُوزُ له تَرْكُهُ مع الْعَيْبِ فلم يَكُنْ
الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ على سَبِيلِ اللُّزُومِ ولم يَكُنْ الْوَاصِلُ
إلَى الزَّوْجِ عَيْنَ ما يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ في
بَدَنِهَا فَوَهَبَتْهَا له ثُمَّ طَلَّقَهَا كان له أَنْ يَضْمَنَهَا في قَوْلِ
أبي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً على أَنَّ
الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ
تَمْنَعُ وإذا بَاعَتْهُ الْمَهْرَ أو وَهَبَتْهُ على عِوَضٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا
رَجَعَ عليها بِمِثْلِ نِصْفِهِ فِيمَا له مِثْلٌ وَبِنِصْفِ الْقِيمَةِ فِيمَا
لَا مِثْلَ له لِأَنَّ الْمَهْرَ عَادَ إلَى الزَّوْجِ بِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ
الضَّمَانُ فَوَجَبَ له الرُّجُوعُ وإذا ثَبَتَ له الرُّجُوعُ ضَمِنَهَا كما لو
بَاعَتْهُ من أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الزَّوْجُ من الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ إنْ
كانت بَاعَتْ قبل الْقَبْضِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يوم الْبَيْعِ
لِأَنَّهُ دخل في ضَمَانِهَا بِالْبَيْعِ وَإِنْ كانت قَبَضَتْ ثُمَّ بَاعَتْ
فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يوم الْقَبْضِ لِأَنَّهُ دخل في ضَمَانِهَا
بِالْقَبْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ فما يَسْقُطُ بِهِ
نِصْفُ الْمَهْرِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ صُورَةً
وَمَعْنًى
وَنَوْعٌ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ مَعْنًى وَالْكُلُّ صُورَةً أَمَّا
النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الطَّلَاقُ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةُ
الْمَهْرِ وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لم يُقْبَضْ بَعْدُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الطَّلَاقَ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه
تَسْمِيَةٌ قد يَسْقُطُ بِهِ عن الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ وقد يَعُودُ بِهِ
إلَيْهِ النِّصْفُ وقد يَكُونُ له بِهِ مِثْلُ النِّصْفِ صُورَةً وَمَعْنًى أو
مَعْنًى لَا صُورَةً وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى إمَّا
أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غير
____________________
(2/296)
مَقْبُوضٍ
فَإِنْ كان دَيْنًا فلم يَقْبِضْهُ حتى طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها سَقَطَ
نِصْفُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ وَبَقِيَ النِّصْفُ
هذا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وقال بَعْضُهُمْ إنَّ الطَّلَاقَ قبل
الدُّخُولِ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفٌ آخَرُ
ابْتِدَاءً على طَرِيقَةِ الْمُتْعَةِ لَا بِالْعَقْدِ إلَّا أَنَّ هذه
الْمُتْعَةَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى وَالْمُتْعَةُ في الطَّلَاقِ قبل
الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنِصْفِ مَهْرِ
الْمِثْلِ وَإِلَى هذا الطَّرِيقِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي وَكَذَا رُوِيَ
عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال في الذي طَلَّقَ قبل الدُّخُولِ وقد
سَمَّى لها أن لها نِصْفَ الْمَهْرِ وَذَلِكَ مُتْعَتُهَا
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ }
أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتْعَةَ في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ من غَيْرِ
فَصْلٍ بين ما إذَا كان في النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ أو لم يَكُنْ إلَّا أَنَّ هذه
الْمُتْعَةَ قُدِّرَتْ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو قَوْلُهُ عز وجل
{ فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ } وَلِأَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه عَادَ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ وَسَلَامَةُ
الْمُبْدَلِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْبَدَلِ لِلْآخَرِ
كما في الْإِقَالَةِ في بَابِ الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ وهذ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ
إذَا عَادَ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ فَلَوْ لم تُسَلِّمْ الْبَدَلَ إلَى
الزَّوْجِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ في مِلْكٍ وَاحِدٍ في عَقْدِ
الْمُعَاوَضَةِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي
بِالْإِقَالَةِ قبل الْقَبْضِ كَذَا الْمَهْرُ
وَلِعَامَّةِ الْمَشَايِخِ قَوْلُهُ عز وجل { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وقد فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ }
أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فَإِيجَابُ نِصْفٍ آخَرَ على
طَرِيقِ الْمُتْعَةِ إيجَابُ ما ليس بِمَفْرُوضٍ وَهَذَا خِلَافُ النصل ( ( ( النص
) ) ) وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ في الْمِلْكِ بِالْإِبْطَالِ وَضْعًا
لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وهو الْمِلْكُ فَكَانَ تَصَرُّفًا في
الْمِلْكِ ثُمَّ إذَا بَطَلَ الْمِلْكُ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ في الْمُسْتَقْبَلِ
وَيَنْتَهِي لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ وَيَتَقَرَّرُ فِيمَا مَضَى
بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَصَرُّفًا في
الْمِلْكِ ثُمَّ السَّبَبُ يَنْتَهِي في الْمُسْتَقْبَلِ لِعَدَمِ فَائِدَةِ
الْبَقَاءِ وَيَتَقَرَّرُ فِيمَا مَضَى كَذَا الطَّلَاقُ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا
يَسْقُطَ شَيْءٌ من الْمَهْرِ كما لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إلَّا أَنَّ سُقُوطَ
النِّصْفِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِإِحْدَاثِ مِلْكِ
الْمُتْعَةِ جَبْرًا لِلذُّلِّ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَبِالطَّلَاقِ لَا
يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمِلْكَ لم يَكُنْ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ بِالنَّصِّ
وَأَمَّا النَّصُّ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّصِّ الذي في سُورَةِ
الْبَقَرَةِ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الْآيَةَ أو
يُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ أو يُحْمَلُ
على الطَّلَاقِ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ
وَقَوْلُهُمْ الطَّلَاقُ فَسَخُ النِّكَاحِ مَمْنُوعٌ بَلْ هو تَصَرُّفٌ في
الْمِلْكِ بِالْقَطْعِ وَالْإِبْطَالِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ
كَالْإِعْتَاقِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه ما عَادَ إلَى الْمَرْأَةِ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عليه هو مِلْكُ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى الْمَرْأَةِ
بَلْ يَبْطُلُ مِلْكُ الزَّوْجِ عن الْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ وَيَصِيرُ لها في
الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا أَنْ يَعُودَ أو يُقَالُ إنَّ الطَّلَاقَ قبل الدُّخُولِ
يُشْبِهُ الْفَسْخَ لِمَا قالوا وَيُشْبِهُ الْإِبْطَالَ لِمَا قُلْنَا وَشِبْهُ
الْفَسْخِ يَقْتَضِي سُقُوطَ كل الْبَدَلِ كما في الْإِقَالَةِ قبل الْقَبْضِ
وَشِبْهُ الْإِبْطَالِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ من الْبَدَلِ كما في
الْإِعْتَاقِ قبل الْقَبْضِ فينتصف ( ( ( فيتنصف ) ) ) تَوْفِيرُ الْحُكْمِ على
الشَّبَهَيْنِ عَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَالدَّلِيلُ على صِحَّةِ هذا الطَّرِيقِ ما ظَهَرَ من الْقَوْلِ عن أَصْحَابِنَا
فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَسَلَّمَهَا
إلَى الْمَرْأَةِ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها
أَنَّهُ يَسْقُطُ عنها نِصْفُ الزَّكَاةِ
وَلَوْ سَقَطَ الْمُسَمَّى كُلُّهُ ثُمَّ وَجَبَ نِصْفُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَسَقَطَ
كُلُّ الزَّكَاةِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِسُقُوطِ كل الْمَهْرِ ثَمَّ يُوجِبُ
نِصْفَهُ غَيْرُ مُفِيدٍ وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فيه
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ شَرَطَ مع الْمُسَمَّى الذي هو مَالٌ ما ليس بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا
على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ الْأُخْرَى أو على أَنْ
لَا يُخْرِجَهَا من بَلَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها فَلَهَا نِصْفُ
الْمُسَمَّى وَسَقَطَ الشَّرْطُ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ إذَا لم يَقَعْ الوفاءبه
يَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ في الطَّلَاقِ
قبل الدُّخُولِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فلم يَبْقَ إلَّا الْمُسَمَّى فَيَتَنَصَّفُ
وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ مع الْمُسَمَّى شيئا مَجْهُولًا كما إذَا تَزَوَّجَهَا على
أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَرَامَتِهَا أو على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنْ يُهْدِيَ إلَيْهَا
هَدِيَّةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى
لِأَنَّهُ إذَا لم يَفِ بِالْكَرَامَةِ وَالْهَدِيَّةِ يَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ
الْمِثْلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا مَدْخَلَ له في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هذا الشَّرْطِ
وَكَذَلِكَ لو تَزَوَّجَهَا على أَلْفٍ أو على أَلْفَيْنِ حتى وَجَبَ مَهْرُ
الْمِثْلِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِهِمَا الْأَقَلُّ ثُمَّ طَلَّقَهَا
قبل الدُّخُولِ بها فَلَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ
____________________
(2/297)
أَمَّا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هو مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَنَّهُ لَا
يَثْبُتُ في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ
هو الْأَقَلُّ فَيَتَنَصَّفُ وَكَذَلِكَ لو تَزَوَّجَهَا على أَلْفٍ إنْ لم يَكُنْ
له امْرَأَةٌ وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كانت له امْرَأَةٌ حتى فَسَدَ الشَّرْطُ
التَّالِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ
الْأَقَلِّ لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُمَا الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ فَأَيُّهُمَا
وُجِدَ فَلَهَا نِصْفُ ذلك بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على أَقَلَّ من عَشَرَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها
فَلَهَا نِصْفُ ما سَمَّى وَتَمَامُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ ما دُونَ
الْعَشَرَةِ تَسْمِيَةٌ لِلْعَشَرَةِ عِنْدَنَا فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا على ذلك
الشَّيْءِ وَتَمَامِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَإِنْ كان قَبَضَتْهُ فَإِنْ كان دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ مُعَيَّنَةً أو غير
مُعَيَّنَةٍ أو كان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا في الذِّمَّةِ فَقَبَضَتْهُ وهو
قَائِمٌ في يَدِهَا فَطَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ وَلَيْسَ
عليها رَدُّ عَيْنِ ما قَبَضَتْ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ لم يَكُنْ وَاجِبًا
بِالْعَقْدِ فَلَا يَكُنْ وَاجِبًا بِالْفَسْخِ
وَأَمَّا على أَصْلِ زُفَرَ فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ
بِالْعَقْدِ فَتَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ المقبوض (
( ( المقبوص ) ) ) إنْ كان قَائِمًا
وَإِنْ كان عَبْدًا وَسَطًا أو ثَوْبًا وَسَطًا فَسَلَّمَهُ إلَيْهَا ثُمَّ
طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ لَا مِثْلَ له وَالْأَصْلُ فِيمَا لَا مِثْلَ له أَنَّهُ لَا يَجِبُ في
الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ الْوَسَطُ منه في الذِّمَّةِ وَتَحَمَّلَتْ
الْجَهَالَةَ فيه لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فإذا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ
كان إيجَابُ نِصْفِ الْعَيْنِ أَعْدَلَ من إيجَابِ الْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ
فَوَجَبَ عليها رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ كما لو كان مُعَيَّنًا
فَقَبَضَتْهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِنَفْسِ للطلاق ( ( ( الطلاق ) ) )
لِمَا نَذْكُرُ وَهَذَا إذَا كان الْمَهْرُ دَيْنًا فَقَبَضَتْهُ أو لم تَقْبِضْهُ
حتى وَرَدَ الطَّلَاقُ قبل الدُّخُولِ فَأَمَّا إذَا كان عَيْنًا بِأَنْ كان
مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ كَالْعَبْدِ
وَالْجَارِيَةِ وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ فَلَا يَخْلُو أما أن كان بِحَالِهِ لم
يَزِدْ ولم يَنْقُصْ وأما إنْ زَادَ أو نَقَصَ فَإِنْ كان بِحَالِهِ لم يَزِدْ ولم
يَنْقُصْ فَإِنْ كان غير مَقْبُوضٍ فَطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها عَادَ
الْمِلْكُ في النِّصْفِ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَلَا يَحْتَاجُ لِلْعَوْدِ إلَيْهِ
إلَى الْفَسْخِ وَالتَّسْلِيمِ منها حتى لو كان الْمَهْرُ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا
الزَّوْجُ قبل الْفَسْخِ وَالتَّسْلِيمِ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ في نِصْفِهَا بِلَا
خِلَافٍ
وَإِنْ كان مَقْبُوضًا لَا يَعُودُ الْمِلْكُ في النِّصْفِ إلَيْهِ بِنَفْسِ
الطَّلَاقِ وَلَا يَنْفَسِخُ مِلْكُهَا في النِّصْفِ حتى يَفْسَخَهُ الْحَاكِمُ أو
تُسَلِّمَهُ الْمَرْأَةُ
وَذَكَرَ ذلك في الزِّيَادَاتِ وزاد عليه الْفَسْخَ من الزَّوْجِ وهو أَنْ يَقُولَ
قد فَسَخْت
هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ مِلْكُهَا في النِّصْفِ بِنَفْسِ
الطَّلَاقِ
وهو قَوْلُ زُفَرَ حتى لو كان الْمَهْرُ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا قبل الْفَسْخِ
وَالتَّسْلِيمِ جَازَ إعْتَاقُهَا في جَمِيعِهَا وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الزَّوْجِ
فيها وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا إلَّا في النِّصْفِ
وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الزَّوْجِ في نِصْفِهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعَوْدِ هو الطَّلَاقُ وقد وُجِدَ
فَيَعُودُ مِلْكُ الزَّوْجِ كَالْبَيْعِ إذَا فُسِخَ قبل الْقَبْضِ أَنَّهُ
يَعُودُ مِلْكُ الْبَائِعِ بِنَفْسِ الْفَسْخِ
كَذَا هذا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ انْفَسَخَ بِالطَّلَاقِ
فَقَدْ بَقِيَ الْقَبْضُ بِالتَّسْلِيطِ الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ وَأَنَّهُ من
أَسْبَابِ الْمِلْكِ عِنْدَنَا فَكَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ قَائِمًا فَكَانَ
الْمِلْكُ قَائِمًا فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالْفَسْخِ من الْقَاضِي لِأَنَّهُ
فَسَخَ سَبَبَ الْمِلْكِ أو بِتَسْلِيمِهَا لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا نَقْضٌ
لِلْقَبْضِ حَقِيقَةً أو بِفَسْخِ الزَّوْجِ على رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ من
الْعَاقِدَيْنِ بِسَبِيلٍ من فَسْخِ عَقْدِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَصَارَ كما لو
اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَقَبَضَ الْعَبْدَ ولم يُسَلِّمْ الْجَارِيَةَ حتى
هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ في يَدِهِ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْجَارِيَةِ
وَيَبْقَى الْمِلْكُ في الْعَبْدِ الْمَقْبُوضِ إلَى أَنْ يسترد ( ( ( يسترده ) )
) كَأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ
كَذَا هذا
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا مُطْلَقًا فَلَا
يَنْفَسِخُ الْمِلْكُ فيه بِفِعْلِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ
كَالثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ غير المقبوض (
( ( القبض ) ) ) ليس بِمَمْلُوكٍ مِلْكًا مُطْلَقًا
هذا إذَا كان الْمَهْرُ بِحَالِهِ لم يَزِدْ ولم يَنْقُصْ فَأَمَّا إذَا زَادَ
فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أن كانت في الْمَهْرِ أو على الْمَهْرِ فَإِنْ
كانت على الْمَهْرِ بِأَنْ سَمَّى الزَّوْجُ لها أَلْفًا ثُمَّ زَادَهَا بَعْدَ
الْعَقْدِ مِائَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها فَلَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ
وَبَطَلَتْ الزِّيَادَةُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لها نِصْفَ الْأَلْفِ وَنِصْفَ الزِّيَادَةِ
أَيْضًا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ قَوْلُهُ عز وجل { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وقد فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ } وَالزِّيَادَةُ مَفْرُوضَةٌ فَيَجِبُ تَنْصِيفُهَا في الطَّلَاقِ قبل
الدُّخُولِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ على أَصْلِ
أَصْحَابِنَا كَالزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ
الْعَقْدَ وَرَدَ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا فينتصف ( ( ( فيتنصف ) ) )
بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ كَالْأَصْلِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لم تَكُنْ مُسَمَّاةً في
الْعَقْدِ حَقِيقَةً وما لم يَكُنْ مُسَمًّى في الْعَقْدِ فَوُرُودُ
____________________
(2/298)
الطَّلَاقِ
قبل الدُّخُولِ يُبْطِلُهُ كَمَهْرِ الْمِثْلِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الزِّيَادَةُ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ قُلْنَا
الزِّيَادَةُ على الْمَهْرِ لَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّهَا
وُجِدَتْ مُتَأَخِّرَةً عن الْعَقْدِ حَقِيقَةً وَإِلْحَاقُ الْمُتَأَخِّرِ عن
الْعَقْدِ بِالْعَقْدِ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا
لِحَاجَةٍ وَالْحَاجَةُ إلَى ذلك في بَابِ الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ عَقْدَ
مُعَايَنَةٍ وَمُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى
الزِّيَادَةِ دَفْعًا لِلْخُسْرَانِ وَلَيْسَ النِّكَاحُ عَقْدَ مُعَايَنَةٍ وَلَا
مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلَا يُحْتَرَزُ بِهِ عن الْخُسْرَانِ فَلَا
ضَرُورَةَ إلَى تَغْيِيرِ الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا النَّصُّ فَالْمُرَادُ منه الْفَرْضُ في الْعَقْدِ لِأَنَّهُ هو
الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عليه قَوْله
تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ } فَدَلَّ أَنَّ
الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَإِنْ كانت في الْمَهْرِ فَالْمَهْرُ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الزَّوْجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ
الْمَرْأَةِ فَإِنْ كان في يَدِ الزَّوْجِ فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أن
كانت مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ وَإِمَّا أن كانت مُنْفَصِلَةً عنه وَالْمُتَّصِلَةُ
لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ
وَالْجَمَالِ وَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالنُّطْقِ كإنجلاء بَيَاضِ الْعَيْنِ
وَزَوَالِ الْخَرَسِ وَالصَّمَمِ وَالشَّجَرِ إذَا أَثْمَرَ وَالْأَرْضِ إذَا
زُرِعَتْ أو غير مُتَوَلَّدَةٍ منه كَالثَّوْبِ إذَا صُبِغَ وَالْأَرْضِ إذَا بنى
فيها بِنَاءٌ
وَكَذَا الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أن كانت مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ
كَالْوَلَدِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ إذَا جزا ( ( ( جز ) ) ) وَالشَّعْرِ إذَا
أُزِيلَ وَالثَّمَرِ إذَا جُدَّ وَالزَّرْعِ إذَا حُصِدَ أو كانت في حُكْمِ
المتولدة ( ( ( المتولد ) ) ) منه كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَأَمَّا إنْ كانت غير
مُتَوَلَّدَةٍ منه وَلَا في حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ كَالْهِبَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنْ
كانت الزِّيَادَةُ مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ أو في حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ فَهِيَ
مَهْرٌ سَوَاءٌ كانت مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ أو مُنْفَصِلَةً عنه حتى لو
طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ جميعا
بالأجماع لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ
الْأَصْلِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ جُزْءٍ هو مَهْرٌ فليقوم ( ( ( فليقم ) ) )
مَقَامَهُ وَالْعُقْرُ بَدَلُ ما هو في حُكْمِ الْجُزْءِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ
الْمُتَوَلَّدِ من الْمَهْرِ فإذا حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ
بِالْعَقْدِ فَكَانَ وُجُودُهَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَوُجُودِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ
فَكَانَتْ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ
وَإِنْ كانت غير مُتَوَلَّدَةٍ من الْأَصْلِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ
فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ وَعَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّ
هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَهْرٍ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا لِأَنَّهَا لم
تَتَوَلَّدْ من الْمَهْرِ فَلَا تَكُونُ مَهْرًا فَلَا تَتَنَصَّفُ وَلَا يُمْكِنُ
تَنْصِيفُ الْأَصْلِ بِدُونِ تَنْصِيفِ الزِّيَادَةِ فَامْتَنَعَ التَّنْصِيفُ
فَيَجِبُ عليها نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ يوم الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا
بِالزِّيَادَةِ صَارَتْ قَابِضَةً لِلْأَصْلِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم حُكِمَ
بِالْقَبْضِ وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً عن الْأَصْلِ فَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ
بِمَهْرٍ وَهِيَ كُلُّهَا لِلْمَرْأَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَا تنتصف ( ( (
تتنصف ) ) ) وينتصف ( ( ( ويتنصف ) ) ) الْأَصْلُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ هِيَ مَهْرٌ فتنتصف ( ( ( فتتنصف ) ) ) مع الْأَصْلِ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ
الْأَصْلِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لِلْأَصْلِ فَتَتَنَصَّفُ مع الْأَصْلِ
كَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ من الْأَصْلِ
كَالسِّمَنِ وَالْوَلَدِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ
بِمَهْرٍ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا أَمَّا مَقْصُودًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ
الْعَقْدَ ما وَرَدَ عليها مَقْصُودًا وَكَذَا هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِمِلْكِ
الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِتَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ الْهِبَةَ لها
وَأَمَّا تَبَعًا فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَوَلَّدَةٍ من الْأَصْلِ فَدَلَّ
أنها لَيْسَتْ بِمَهْرٍ لَا قَصْدًا وَلَا تَبَعًا وَإِنَّمَا هِيَ مَالُ
الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَمْوَالِهَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ
الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ لِأَنَّهَا
نَمَاءُ الْمَهْرِ فَكَانَتْ جُزْءًا من أَجْزَائِهِ فَتَتَنَصَّفُ كما
يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ
وَلَوْ آجَرَ الزَّوْجُ الْمَهْرَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ فَالْأُجْرَةُ له
لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا
وَإِنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ
صَدَرَ من الزَّوْجِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ له كَالْغَاصِبِ إذَا آجَرَ
الْمَغْصُوبَ وَيُتَصَدَّقُ بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا مَالٌ حَصَلَ بِسَبَبٍ
مَحْظُورٍ وهو التَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَتَمَكَّنُ
فيه الْخَبَثُ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ هذا إذَا كان الْمَهْرُ في
يَدِ الزَّوْجِ فَحَدَثَتْ فيه الزِّيَادَةُ فَأَمَّا إذَا كان في يَدِ
الْمَرْأَةِ أَيْ قبل الْفُرْقَةِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً
مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلِلزَّوْجِ عليها نِصْفُ الْقِيمَةِ يوم سَلَّمَهُ
إلَيْهَا
وقال مُحَمَّدٌ لَا تَمْنَعُ وَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مع الزِّيَادَةِ وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وقد
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ } جَعَلَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه فَرْضُ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ
فَمَنْ جَعَلَ فيه نِصْفَ قِيمَةِ الْمَفْرُوضِ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وإذا
وَجَبَ تَنْصِيفُ أَصْلِ الْمَفْرُوضِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ إلَّا
بِتَنْصِيفِ الزِّيَادَةِ فَيَجِبُ تَنْصِيفُ الزِّيَادَةِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ
هذه الزِّيَادَةَ
____________________
(2/299)
تَابِعَةٌ
لِلْأَصْلِ من كل وَجْهٍ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِهِ وَالْأَصْلُ مَهْرٌ فَكَذَا
الزِّيَادَةُ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ من
الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ مَحْضَةٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِالِانْفِصَالِ
صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فلم يَكُنْ مَهْرًا وَبِخِلَافِ الزِّيَادَةِ
الْمُتَّصِلَةِ في الْهِبَةِ أنها تَمْنَعُ من الرُّجُوعِ وَالِاسْتِرْدَادِ
لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ في الْهِبَةِ ليس بِثَابِتٍ بِيَقِينٍ لِكَوْنِهِ
مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ
فَتَعَذَّرَ إيرَادُ الْفَسْخِ عليها فَيُمْنَعُ الرُّجُوعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لم تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ
الْعَقْدِ وَلَا عندما له شَبَهٌ بِالْعَقْدِ وهو الْقَبْضُ فَلَا يَكُونُ لها حُكْمُ
الْمَهْرِ فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فيها بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
لِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَرِدُ على ما وَرَدَ عليه الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ لم
يَرِدْ عليه أَصْلًا فَلَا يَرِدُ عليه الْفَسْخُ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ
الْمُتَوَلَّدَةِ من الْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ لو نَقَضَ الْعَقْدَ فأما إن يَرُدَّ
نِصْفَ الْأَصْلِ مع نِصْفِ الزِّيَادَةِ أو بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَا سَبِيلَ
إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ رَدُّ الْأَصْلِ بِدُونِ رَدِّ
الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي
إلَى الرِّبَا لِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ لِعَدَمِ وُرُودِ
الْعَقْدِ عليها كان أَخْذُ الزِّيَادَةِ منها أَخْذَ مَالٍ بِلَا عِوَضٍ في
عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ
وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا وَيَجِبُ نِصْفُ قِيمَةِ الْمَفْرُوضِ لَا نِصْفُ
الْمَفْرُوضِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا حُجَّةَ له فيها لِأَنَّ مُطْلَقَ
الْمَفْرُوضِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَفْرُوضِ الْمُتَعَارَفِ وهو الْأَثْمَانُ دُونَ
السِّلَعِ وَالْأَثْمَانُ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَعَلَى هذا
الِاخْتِلَافِ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ في الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا أنها
تَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
لَا تَمْنَعُ
وَلَوْ هَلَكَتْ هذه الزِّيَادَةُ في يَدِ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا
نِصْفُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من التَّنْصِيفِ قد ارْتَفَعَ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلَّدَةٍ من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ
التَّنْصِيفَ وَعَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ
فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ قِيمَةِ الْأَصْلِ إلَى الزَّوْجِ
وقال زُفَرُ لَا تَمْنَعُ وَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مع الزِّيَادَةِ
وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلَّدَةٍ من الْأَصْلِ فَهِيَ لها خَاصَّةً
وَالْأَصْلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إن الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِأَنَّهَا
مُتَوَلَّدَةٌ منه فَتَتَنَصَّفُ مع الْأَصْلِ كَالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ قبل
الْقَبْضِ
وَلَنَا أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لم تَكُنْ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا عِنْدَ
الْقَبْضِ فلم تَكُنْ مَهْرًا وَالْفَسْخُ إنَّمَا يَرِدُ على ما له حُكْمُ
الْمَهْرِ فَلَا تَتَنَصَّفُ وَتَبْقَى على مِلْكِ الْمَرْأَةِ كما كانت قبل
الطَّلَاقِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُ الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وهو رَدُّ
نِصْفِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا لَا يَصِيرُ لها فَضْلُ أَصْلِ
فَسْخِ الْعَقْدِ فيه ما لم يَكُنْ لها ذلك وَالْأَصْلُ أَنْ لَا تُبَدَّلَ من
غَيْرِ بَدَلٍ وَذَلِكَ وَصْفُ الرِّبَا وَأَنَّهُ حَرَامٌ فإذا تَعَذَّرَ
تَنْصِيفُ الْمَفْرُوضِ لِمَكَانِ الرِّبَا يُجْعَلُ الْمَفْرُوضُ كَالْهَالِكِ
لِأَنَّهُ في حَقِّ كَوْنِهِ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ إلَى الزَّوْجِ بِمَنْزِلَةِ
الْهَالِكِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِيَزُولَ مَعْنَى الرِّبَا وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ لو ارْتَدَّتْ أو قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا قبل الدُّخُولِ بها بعد ما
حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ في يَدِ الْمَرْأَةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لها وَعَلَيْهَا
رَدُّ قِيمَةِ الْأَصْلِ يوم قَبَضَتْ
كَذَا ذَكَرَ أبو يُوسُفَ في الْأَصْلِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها تَرُدُّ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ فَفَرَّقَ بين
الرِّدَّةِ وَالتَّقْبِيلِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ فقال في الطَّلَاقِ تَرُدُّ نِصْفَ
قِيمَةِ الْأَصْلِ وفي الرِّدَّةِ وَالتَّقْبِيلِ تَرُدُّ الْأَصْلَ
وَالزِّيَادَةَ جميعا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ وَالتَّقْبِيلَ فَسْخُ للعقد ( ( ( العقد ) )
) من الْأَصْلِ وَجَعْلُ إيَّاهُ كَأَنْ لم يَكُنْ فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا
بِجَارِيَةٍ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ ولم يَدْفَعْ الْعَبْدَ حتى وَلَدَتْ ثُمَّ
مَاتَ الْعَبْدُ قبل أَنْ يَدْفَعَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا
لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ في يَدِ بَائِعِهِ كَذَا
هذا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فإنه إطْلَاقٌ وَحَلٌّ العقد ( ( ( للعقد ) ) ) وَلَيْسَ
بِفَسْخٍ فَيَنْحَلُّ الْعَقْدُ وَتَطْلُقُ أو يَرْتَفِعُ من حِينِ الطَّلَاقِ لَا
من الْأَصْلِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه في الْفَصْلَيْنِ جميعا
أَعْنِي الطَّلَاقَ وَالرِّدَّةَ يَعُودُ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ كما كان إلَّا
أَنَّ الطَّلَاقَ قبل الدُّخُولِ طَلَاقٌ من وَجْهٍ وَفَسْخٌ من وَجْهٍ فَأَوْجَبَ
عَوْدَ نِصْفِ الْبَدَلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَالرِّدَّةُ وَالتَّقْبِيلُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخٌ من كل وَجْهٍ فَيُوجِبُ عَوْدَ الْكُلِّ إلَى
الزَّوْجِ هذا كُلُّهُ إذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الطَّلَاقِ فَأَمَّا إذَا
حَدَثَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثُمَّ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فَلَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ وَإِمَّا
أَنْ حَدَثَتْ قبل الْقَضَاءِ وَكُلُّ ذلك قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ فَإِنْ
حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ فَالْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ
وُجِدَ الْقَضَاءُ أو لم يُوجَدْ لِأَنَّهُ كما وُجِدَ الطَّلَاقُ عَادَ نِصْفُ
الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَصَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
فَالزِّيَادَةُ حَدَثَتْ على
____________________
(2/300)
مِلْكَيْهِمَا
فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كانت بَعْدَ
الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ لماقضى بِهِ
فَقَدْ عَادَ نِصْفُ الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ فَحَصَلَتْ الزِّيَادَةُ على
الْمِلْكَيْنِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كان قبل الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ
لِلزَّوْجِ فَالْمَهْرُ في يَدِهَا كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ
الْمِلْكَ كان لها وقد فُسِخَ مِلْكُهَا في النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ حتى لو كان الْمَهْرُ
عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ قبل الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ
جَازَ إعْتَاقُهَا وَلَوْ أَعْتَقَهُ الزَّوْجُ لَا يَنْفُذُ وَإِنْ قَضَى
الْقَاضِي له بَعْدَ ذلك كَالْبَائِعِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ بَيْعًا
فَاسِدًا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَإِنْ رُدَّ عليه بَعْدَ ذلك كَذَا
هَهُنَا
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا حُكْمُ النُّقْصَانِ فَحُدُوثُ
النُّقْصَانِ في الْمَهْرِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الزَّوْجِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كان في يَدِ الزَّوْجِ فَلَا
يَخْلُو من خَمْسَةِ أَوْجُهٍ
إمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ
سَمَاوِيَّةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِفِعْلِ الْمَهْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ وَكُلُّ ذلك لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل قَبْضِ الْمَهْرِ أو بَعْدَهُ وَالنُّقْصَانُ
فَاحِشٌ أو غَيْرُ فَاحِشٍ فَإِنْ كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وهو
فَاحِشٌ قبل الْقَبْضِ فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْعَبْدَ
النَّاقِصَ واتبعت الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَتْ تَرَكَتْ وَأَخَذَتْ من
الزَّوْجِ قِيمَةَ الْعَبْدِ يوم الْعَقْدِ ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ على
الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ وهو الْأَرْشُ
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه وهو الْمَهْرُ قد
تَغَيَّرَ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ صَارَ بَعْضُهُ قِيمَةً وَيُعْتَبَرُ
الْمَعْقُودُ عليه قبل الْقَبْضِ فَوَجَبَ الْخِيَارُ كَتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل
الْقَبْضِ فَإِنْ اخْتَارَتْ أَخْذَ الْعَبْدِ اتبعت الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ
الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهَا وَإِنْ اخْتَارَتْ أَخْذَ الْقِيمَةَ اتبع
الزَّوْجُ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ فَقَامَ مَقَامَ الْمَرْأَةِ فَكَانَ الْأَرْشُ له وَلَيْسَ لها أَنْ
تَأْخُذَ الْعَبْدَ نَاقِصًا وَتُضَمِّنَ الزَّوْجَ الْأَرْشَ لِأَنَّهَا لَمَّا
اخْتَارَتْ أَخْذَهُ فَقَدْ أَبْرَأَتْ الزَّوْجَ من ضَمَانِهِ وَإِنْ كان
النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ
أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لها غير ذلك وَإِنْ شارت ( ( ( شاءت ) ) )
تَرَكَتْهُ وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ يوم الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ على
الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ وَالْأَوْصَافُ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ لِعَدَمِ وُرُودِ
الْعَقْدِ عليها مَوْصُوفًا فَلَا يَظْهَرُ الضَّمَانُ في حَقِّهَا وَإِنَّمَا
يَظْهَرُ في حَقِّ الْأَصْلِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عليه وَإِنَّمَا ثَبَتَ لها
الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عليه وهو الْمَهْرُ عَمَّا كان عليه وَهَذَا
يُثْبِتُ الْخِيَارَ كَالْمَبِيعِ إذَا اُنْتُقِصَ في يَدِ الْبَائِعِ أَنَّهُ
يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فيه
كَذَا هذا
وَإِنْ كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ
الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَأَخَذَتْ معه أَرْشَ
النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهُ يوم الْعَقْدِ كَذَا ذُكِرَ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْبَائِعِ إذَا جَنَى على
الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا جَنَى على الْمَهْرِ فَهِيَ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لها غير ذلك وَإِنْ
شَاءَتْ أَخَذَتْ الْقِيمَةَ وسوى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ
وَوَجْهُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ على الزَّوْجِ
بِالنِّكَاحِ لم يَسْتَقِرَّ مِلْكُهَا فيه كَالْمَبِيعِ في يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ
الْحُكْمُ في الْبَيْعِ كَذَا هذا في النِّكَاحِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَوْصَافَ وَهِيَ الأتابع (
( ( الأتباع ) ) ) إنْ كانت لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ فأنها تُضْمَنُ
بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْإِتْلَافِ فَتَصِيرُ
مَضْمُونَةً إلَّا أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَضْمُونًا
بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِضَمَانٍ آخَرَ وهو الثَّمَنُ وَالْمَحَلُّ
الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ وَالْمَهْرُ غَيْرُ مَضْمُونٍ
على الزَّوْجِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ بَلْ بِالْقِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَتْلَفَ
الْمَهْرَ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَلَكِنْ تَجِبُ عليه الْقِيمَةُ
فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْجُزْءَ وَإِنْ كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَهْرِ
بِأَنْ جَنَى الْمَهْرُ على نَفْسِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ حُكْمُ
هذا النُّقْصَانِ ما هو حُكْمُ النُّقْصَانِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِأَنَّ
جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ هَدْرٌ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَكَانَتْ
كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ
وفي رِوَايَةٍ حُكْمُهُ حُكْمُ جِنَايَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ
في يَدِ الضَّامِنِ وهو الزَّوْجُ وَجِنَايَةُ الْمَضْمُونِ في يَدِ الضَّامِنِ
كَجِنَايَةِ الضَّامِنِ كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا جَنَى على نَفْسِهِ في يَدِ
الْغَاصِبِ وَإِنْ كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَقَدْ صَارَتْ
قَابِضَةً بِالْجِنَايَةِ فَجُعِلَ كَأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ في يَدِهَا
كَالْمُشْتَرِي إذَا جَنَى على الْمَبِيعِ في يَدِ الْبَائِعِ أَنَّهُ يَصِيرُ
قَابِضًا له كَذَا هَهُنَا
هذا إذَا كان النُّقْصَانُ فَاحِشًا فَأَمَّا إذَا كان يَسِيرًا فَلَا خِيَارَ لها
كما إذَا كان هذا الْعَيْبُ بِهِ يوم الْعَقْدِ ثُمَّ إنْ كان هذا النُّقْصَانُ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ أو بِفِعْلِ الْمَهْرِ فَلَا شَيْءَ
لها وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ تَتْبَعُهُ بِنِصْفِ النُّقْصَانِ وَكَذَا
إنْ كان بِفِعْلِ الزَّوْجِ هذا إاذ حَدَثَ النُّقْصَانُ
____________________
(2/301)
في
يَدِ الزَّوْجِ فَأَمَّا إذَا حَدَثَ في يَدِ الْمَرْأَةِ فَهَذَا أَيْضًا لَا
يَخْلُو من الْأَقْسَامِ التي وَصَفْنَاهَا فَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ
وهو فَاحِشٌ قبل الطَّلَاقِ فَالْأَرْشُ لها فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَلَهُ
نِصْفُ الْقِيمَةِ يوم قَبَضَتْ وَلَا سَبِيلَ له على الْعَيْنِ لِأَنَّ الْأَرْشَ
بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فَيُمْنَعُ التَّنْصِيفُ كَالْوَلَدِ وَإِنْ كانت
جِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ عليه بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْعَبْدِ
وهو بِالْخِيَارِ في الْأَرْشِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ من الْمَرْأَةِ
وَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ يوم الْقَبْضِ وَإِنْ شَاءَ اتبع الْجَانِيَ وَأَخَذَ
منه نِصْفَهُ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ وَعَوْدَ النِّصْفَ إلَيْهِ اسْتَقَرَّ
بِالطَّلَاقِ وَتَوَقَّفَ على قَضَاءِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي فَصَارَ في
يَدِهَا كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَصَارَ مَضْمُونًا عليها
وَكَذَلِكَ إنْ حَدَثَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَةِ
الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ جَنَى على مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا يَدَ له فيه فَصَارَ
كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْحُكْمُ في الْأَجْنَبِيِّ ما وَصَفْنَا
وَإِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قبل الطَّلَاقِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ له غير ذلك وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
نِصْفَ الْقِيمَةِ يوم الْقَبْضِ لِأَنَّ حَقَّهُ مَعَهَا عِنْدَ الْفَسْخِ
كَحَقِّهِ مَعَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ
وَلَوْ حَدَثَ نُقْصَانٌ في يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كان لها الْخِيَارُ بين
أَنْ تَأْخُذَهُ نَاقِصًا أو قِيمَتَهُ فَكَذَا حَقُّ الزَّوْجِ مَعَهَا عِنْدَ
الْفَسْخِ وَإِنْ كان ذلك بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ
وَنِصْفَ الْأَرْشِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ يَبْقَى في يَدِهَا
كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ الْمِلْكَ لها وَحَقُّ الْغَيْرِ
في الْفَسْخِ مُسْتَقِرٌّ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهُ يوم قَبَضَتْ وَكَذَلِكَ إنْ حَدَثَ بِفِعْلِ
الْمَرْأَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ وَلَا شَيْءَ له
من الْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ عَبْدًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَهَا الْأَرْشَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ عليها بِالْقَبْضِ وَالْأَوْصَافِ
وَهِيَ الاتباع فَتُضَمَّنُ بِالْقَبْضِ وَلَا تُضَمَّنُ بِالْعَقْدِ وَكَذَلِكَ
يقول زُفَرُ في النُّقْصَانِ الْحَادِثِ بِغَيْرِ فِعْلِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى
وَلَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ جَنَتْ على مِلْكِ نَفْسِهَا وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ
على مِلْكِ نَفْسِهِ غَيْرُ مَضْمُونَةِ عليه بِخِلَافِ ما إذَا حَدَثَ بِفِعْلِ
الزَّوْجِ على الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّ للزوج ( ( ( الزوج ) ) ) جَنَى
على مِلْكِ غَيْرِهِ وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ على مِلْكِ غَيْرِهِ مَضْمُونَةٌ
عليه وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قال زُفَرُ لِأَنَّ قَبْضَهَا صَادَفَ مِلْكَ
نَفْسِهَا وَقَبْضُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عليه
وَإِنْ كان ذلك بَعْدَ الطَّلَاقِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْأَرْشِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ قد اسْتَقَرَّ
وَكَذَلِكَ إنْ حَدَثَ بِفِعْلِ الْمَهْرِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ على
الرِّوَايَتَيْنِ جميعا إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
نِصْفَ الْقِيمَةِ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَا جِنَايَةَ الْمَهْرِ كَالْآفَةِ
السَّمَاوِيَّةِ لم تَكُنْ مَضْمُونَةً وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَجِنَايَةِ
الْمَرْأَةِ لم تَكُنْ مَضْمُونَةً أَيْضًا فلم تَكُنْ مَضْمُونَةً أَيْضًا على
الرِّوَايَتَيْنِ
هذا إذَا كان النُّقْصَانُ فَاحِشًا فَأَمَّا إنْ كان غير فَاحِشٍ فَإِنْ كان
بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الزَّوْجِ لَا يَتَنَصَّفُ لِأَنَّ الْأَرْشَ
يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ وَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِهَا أو
بِفِعْلِ الْمَهْرِ أَخَذَ النِّصْفَ وَلَا خِيَارَ له وَاَللَّهُ تَعَالَى
الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وهو ما يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ مَعْنًى
وَالْكُلُّ صُورَةً فَهُوَ كُلُّ طَلَاقٍ تَجِبُ فيه الْمُتْعَةُ فَيَقَعُ
الْكَلَامُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ الطَّلَاقِ الذي تَجِبُ فيه الْمُتْعَةُ
وَاَلَّذِي تُسْتَحَبُّ فيه وفي تَفْسِيرِ الْمُتْعَةِ وفي بَيَانِ من تُعْتَبَرُ
الْمُتْعَةُ بِحَالِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالطَّلَاقُ الذي تَجِبُ فيه الْمُتْعَةُ نَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه وَلَا
فَرْضَ بَعْدَهُ أو كانت التَّسْمِيَةُ فيه فَاسِدَةً وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ فَمَالِكٌ
لَا يَرَى وُجُوبَ الْمُتْعَةِ أَصْلًا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى قَيَّدَ الْمُتْعَةَ بِالْمُتَّقِي وَالْمُحْسِنِ بِقَوْلِهِ { حَقًّا
على الْمُحْسِنِينَ } { حَقًّا على الْمُتَّقِينَ } وَالْوَاجِبُ لَا يَخْتَلِفُ
فيه الْمُحْسِنُ وَالْمُتَّقِي وَغَيْرُهُمَا فَدَلَّ أنها لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما
لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ } وَمُطْلَقُ
الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ عز وجل { أو تَفْرِضُوا }
أَيْ ولم تَفْرِضُوا أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عليه قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وقد فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ } وَلَوْ كان الْأَوَّلُ بِمَعْنَى ما لم تَمَسُّوهُنَّ
وقد فَرَضُوا لَهُنَّ أو لم يَفْرِضُوا لَمَا عَطَفَ عليه الْمَفْرُوضَ وقد
تَكُونُ أو بِمَعْنَى الْوَاوِ
قال اللَّهُ عز وجل { وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا } أي وَلَا كَفُورًا
وقَوْله تَعَالَى { على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ }
وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ وقَوْله تَعَالَى { حَقًّا على الْمُحْسِنِينَ }
وَلَيْسَ في أَلْفَاظِ الْإِيجَابِ كَلِمَةٌ أَوْكَدُ من قَوْلِنَا حَقٌّ عليه
لِأَنَّ الْحَقِّيَّةَ تَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَعَلَى كَلِمَةُ إلْزَامٍ وإبثات ( (
( وإثبات ) ) ) فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِيَ التَّأْكِيدَ وما ذَكَرَهُ
مَالِكٌ كما يَلْزَمُنَا
____________________
(2/302)
يَلْزَمُهُ
لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ أَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ فيه الْمُتَّقِي
وَالْمُحْسِنُ وَغَيْرُهُمَا ثُمَّ نَقُولُ الْإِيجَابُ على الْمُحْسِنِ
وَالْمُتَّقِي لَا يَنْفِي الْإِيجَابَ على غَيْرِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ لم
يَنْفِ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ كَذَا هذا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْمُتْعَةَ هَهُنَا وَاجِبَةٌ أنها بَدَلُ الْوَاجِبِ وهو
نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَبَدَلُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ
الْوَاجِبِ وَيَحْكِي حِكَايَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كان
بَدَلًا عن الْوُضُوءِ وَالْوُضُوءُ وَاجِبٌ كان التَّيَمُّمُ وَاجِبًا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ بَدَلًا عن نِصْفِ الْمَهْرِ أَنَّ
بَدَلَ الشَّيْءِ ما يَجِبُ بِسَبَبِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَالتَّيَمُّمِ مع
الْوُضُوءِ وَغَيْرِ ذلك وَالْمُتْعَةُ بِالسَّبَبِ الذي يَجِبُ بِهِ مَهْرُ
الْمِثْلِ وهو النِّكَاحُ لَا الطَّلَاقُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُسْقِطٌ لِلْحُقُوقِ
لَا مُوجِبٌ لها لَكِنْ عِنْدَ الطَّلَاقِ يَسْقُطُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَتَجِبُ
الْمُتْعَةُ بَدَلًا عن نِصْفِهِ وَهَذَا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فإن الرَّهْنَ
بِمَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ عِنْدَهُ حتى إذَا هَلَكَ
تَهْلَكُ الْمُتْعَةُ
وَأَمَّا أبو يُوسُفَ فإنه لَا يَجْعَلُهُ رَهْنًا بها حتى إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ
يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمُتْعَةُ بَاقِيَةٌ عليه فَلَا يَكُونُ وُجُوبُهَا
بِطَرِيقِ الْبَدَلِ عِنْدَهُ بَلْ يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ
التي ذَكَرْنَا أو يُوجِبُهَا بَدَلًا عن الْبُضْعِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِنِصْفِ
الْمُسَمَّى في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لم يُسَمَّ فيه الْمَهْرُ
وَإِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَهُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ
أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وكان يقول أَوَّلًا يَجِبُ نِصْفُ الْمَفْرُوضَ كما إذَا
كان الْمَهْرُ مَفْرُوضًا في الْعَقْدِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عز وجل { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وقد فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ }
أَوْجَبَ تَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضَ في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ مُطْلَقًا من
غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا كان الْفَرْضُ في الْعَقْدِ أو بَعْدَهُ وَلِأَنَّ
الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْفَرْضِ في الْعَقْدِ ثُمَّ الْمَفْرُوضُ في
الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ فَكَذَا الْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ
في الْمُطَلَّقَاتِ قبل الدُّخُولِ عَامًّا ثُمَّ خُصَّتْ منه الْمُطَلَّقَةُ قبل
الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فَبَقِيَتْ الْمُطَلَّقَةُ
قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه عِنْدَ وُجُودِهِ على أَصْلِ
الْعُمُومِ وقَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ
ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ } أَيْ ولم
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وهو مُنْصَرِفٌ
إلَى الْفَرْضِ في الْعَقْدِ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَالْمُتَعَارَفُ هو الْفَرْضُ في الْعَقْدِ لَا مُتَأَخِّرًا عنه وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَذْكُورَ في قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وقد فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
} مُنْصَرِفٌ إلَى الْمَفْرُوضِ في الْعَقْدِ لِأَنَّهُ هو الْمُتَعَارَفُ وَبِهِ
نَقُولُ إنَّ الْمَفْرُوضَ في الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قد وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا
تَقَدَّمَ فَكَانَ الْفَرْضُ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ وهو
مَهْرُ الْمِثْلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
وَتَجِبُ الْمُتْعَةُ فَكَذَا ما هو بَيَانٌ وَتَقْدِيرٌ له إذْ هو تَقْدِيرٌ
لِذَلِكَ الْوَاجِبِ
وَكَذَا الْفُرْقَةُ بِالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَكُلُّ
فُرْقَةٍ جَاءَتْ من قِبَلِ الزَّوْجِ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ
فيه فَتُوجِبُ الْمُتْعَةَ لِأَنَّهَا تُوجِبُ نِصْفَ الْمُسَمَّى في نِكَاحٍ فيه
تَسْمِيَةٌ وَالْمُتْعَةُ عِوَضٌ عنه كَرِدَّةِ الزَّوْجِ وَإِبَايَةِ
الْإِسْلَامِ وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ من قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَلَا مُتْعَةَ لها
لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بها الْمَهْرُ أَصْلًا فَلَا تَجِبُ بها الْمُتْعَةُ
وَالْمُخَيَّرَةُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لَا
تَسْمِيَةَ فيه فَلَهَا الْمُتْعَةُ لِأَنَّ الْفُرْقَةُ جَاءَتْ من قِبَلِ
الزَّوْجِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُضَافَةٌ إلَى الْإِبَانَةِ السَّابِقَةِ
وَهِيَ فِعْلُ الزَّوْجِ
وَأَمَّا الذي تُسْتَحَبُّ فيه الْمُتْعَةُ فَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ
وَالطَّلَاقُ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ الْمُتْعَةُ في الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاجِبَةٌ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا على الْمُتَّقِينَ } جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعًا بلام الْمِلْكِ عَامًّا إلَّا أَنَّهُ خُصِّصَتْ منه الْمُطَلَّقَةُ قبل
الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ فَبَقِيَتْ الْمُطَلَّقَةُ قبل الدُّخُولِ
في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ على ظَاهِرِ
الْعُمُومِ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ بِالنِّكَاحِ بَدَلًا عن
الْبُضْعِ إمَّا بَدَلًا عن نِصْفِ الْمَهْرِ أو ابْتِدَاءً فإذا اسْتَحَقَّتْ
الْمُسَمَّى أو مَهْرَ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَوْ وَجَبَتْ الْمُتْعَةُ
لَأَدَّى إلَى أَنْ يَكُونَ لِمِلْكٍ وَاحِدٍ بَدَلَانِ وَإِلَى الْجَمْعِ بين
الْبَدَلِ وَالْأَصْلِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّ
الْمُطَلَّقَةَ قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ لَا تَجِبُ لها
الْمُتْعَةُ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْلَى لِأَنَّ
الْأُولَى تَسْتَحِقُّ بَعْضَ الْمَهْرِ
____________________
(2/303)
وَالثَّانِيَةَ
تَسْتَحِقُّ الْكُلَّ
فَاسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَهْرِ لَمَّا مَنَعَ عن اسْتِحْقَاقِ الْمُتْعَةِ
فَاسْتِحْقَاقُ الْكُلِّ أَوْلَى
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَيُحْمَلُ ذِكْرُ الْمَتَاعِ فيها على النَّدْبِ
وَالِاسْتِحْبَابِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّهُ يُنْدَبُ الزَّوْجُ إلَى ذلك كما
يُنْدَبُ إلَى أَدَاءِ الْمَهْرِ على الْكَمَالِ في غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها أو
يُحْمَلُ على النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ
وَلِأَنَّ كُلَّ ذلك مَتَاعٌ إذا الْمَتَاعُ اسْمٌ لِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ عَمَلًا
بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ من
قِبَلِ الزَّوْجِ بَعْدَ الدُّخُولِ تُسْتَحَبُّ فيها الْمُتْعَةُ إلَّا أَنْ
يَرْتَدَّ أو يَأْبَى الْإِسْلَامَ لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ طَلَبُ الْفَضِيلَةِ
وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْفَضِيلَةِ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّهَا
ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَهَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ
وَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن
عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال ارفع الْمُتْعَةِ الْخَادِمُ ثُمَّ دُونَ
ذلك الْكِسْوَةُ ثُمَّ دُونَ ذلك النَّفَقَةُ
وقال الشَّافِعِيُّ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا له ما رُوِيَ عن أبي مِجْلَزٍ أَنَّهُ
قال قلت لِابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَخْبِرْنِي عن الْمُتْعَةِ
وَأَخْبِرْنِي عن قَدْرِهَا فَإِنِّي مُوسِرٌ فقال اُكْسُ كَذَا اُكْسُ كَذَا
اُكْسُ كَذَا قال فَحَسَبْتُ ذلك فَوَجَدْتُهُ قَدْرَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا
فَدَلَّ أنها مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى في آيَةِ الْمُتْعَةِ { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
على الْمُحْسِنِينَ } وَالْمَتَاعُ اسْمٌ لِلْعُرُوضِ في الْعُرْفِ وَلِأَنَّ
لِإِيجَابِ الْأَثْوَابِ نَظِيرًا في أُصُولِ الشَّرْعِ وهو الْكِسْوَةُ التي
تَجِبُ لها حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَأَدْنَى ما تَكْتَسِي بِهِ
الْمَرْأَةُ وَتَسْتَتِرُ بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ وَلَا
نَظِيرَ لِإِيجَابِ الثَّلَاثِينَ فَكَانَ إيجَابُ ما له نَظِيرٌ أَوْلَى
وَقَوْلُ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكِسْوَةِ لَا
بِدَرَاهِمَ مُقَدَّرَةٍ إلَّا أَنَّهُ اُتُّفِقَ أَنَّ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ
بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَهَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ التَّقْدِيرَ فيها
بِالثَّلَاثِينَ
وَلَوْ أَعْطَاهَا قِيمَةَ الْأَثْوَابِ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ تُجْبَرُ على
الْقَبُولِ لِأَنَّ الْأَثْوَابَ ما وَجَبَتْ لِعَيْنِهَا بَلْ من حَيْثُ أنها
مَالٌ كَالشَّاةِ في خَمْسٍ من الْإِبِلِ في بَابِ الزَّكَاةِ
وَأَمَّا بَيَانُ من تُعْتَبَرُ الْمُتْعَةُ بِحَالِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فيه قال بعضم ( ( ( بعضهم ) ) ) قَدْرُ الْمُتْعَةِ يُعْتَبَرُ
بِحَالِ الرَّجُلِ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وقال
بَعْضُهُمْ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ في يَسَارِهَا وَإِعْسَارِهَا وقال
بَعْضُهُمْ تُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جميعا وقال بَعْضُهُمْ الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ
تُعْتَبَرُ بِحَالِهَا وَالْمُسْتَحَبَّةُ تُعْتَبَرُ بِحَالِهِ
وَجْهُ قَوْلِ من اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَتِّعُوهُنَّ
على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } جَعَلَ الْمُتْعَةَ على
قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ
وَجْهُ قَوْلِ من قال بِاعْتِبَارِ حَالِهَا أَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلُ بُضْعِهَا
فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا وَهَذَا أَيْضًا وَجْهُ من يقول الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ
تُعْتَبَرُ بِحَالِهَا
وَقَوْلُهُ الْمُتْعَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ تُعْتَبَرُ بِحَالِهِ لَا مَعْنَى
لِأَنَّ التَّقْدِيرَ في الْوَاجِبِ لَا في الْمُسْتَحَبِّ وَجْهُ من اعْتَبَرَ
حَالَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَبَرَ في الْمُتْعَةِ شَيْئَيْنِ
أَحَدَهُمَا حَالَ الرَّجُلِ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ بِقَوْلِهِ عز وجل { على
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } وَالثَّانِيَ أَنْ يَكُونَ مع
ذلك بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا فيها
حَالَ الرَّجُلِ دُونَ حَالِهَا عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ
يَقْتَضِي أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ
وَالْأُخْرَى مَوْلَاةٌ دَنِيئَةٌ ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قبل الدُّخُولِ بِهِمَا ولم
يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوِيَا في الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ
وَهَذَا مُنْكَرٌ في عَادَاتِ الناس لَا مَعْرُوفٌ فَيَكُونُ خِلَافَ النَّصِّ
ثُمَّ الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ لَا تُزَادُ على نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ هو
نِهَايَةُ الْمُتْعَةِ لَا مَزِيدَ عليه لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ التَّسْمِيَةِ
آكَدُ وَأَثْبَتُ منه عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ على قَدْرِ احْتِمَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ عز وجل {
على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } فَأَوْجَبَ نِصْفَ
الْمُسَمَّى مُطْلَقًا احْتَمَلَهُ وُسْعُ الزَّوْجِ وَمِلْكُهُ أولا وَكَذَا في
وُجُوبِ كَمَالِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَسُقُوطِهِ وَوُجُوبِ الْمُتْعَةِ في نِكَاحٍ
لَا تَسْمِيَةَ فيه وَعَدَمِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ اخْتِلَافٌ بين الْعُلَمَاءِ
وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ كَمَالِ الْمُسَمَّى من ذلك في نِكَاحٍ فيه تَسْمِيَةٌ
دَلَّ أَنَّ الْحَقَّ أَوْكَدُ وَأَثْبَتُ عِنْدَ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ لَا يُزَادُ
هُنَاكَ على نِصْفِ الْمُسَمَّى فَلَأَنْ لَا يُزَادَ هَهُنَا على نِصْفِ مَهْرِ
الْمِثْلِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلٌ عن نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا
يُزَادُ الْبَدَلُ على الْأَصْلِ وَلَا يَنْقُصُ من خَمْسَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّهَا
تَجِبُ على طَرِيقِ الْعِوَضِ وَأَقَلُّ عِوَضٍ يَثْبُتُ في النِّكَاحِ نِصْفُ
الْعَشَرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ في الْمَهْرِ فَجُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّ الِاخْتِلَافَ في الْمَهْرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في حَالِ
حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بين
الْحَيِّ مِنْهُمَا وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ
مَوْتِهِمَا بين وَرَثَتِهِمَا فَإِنْ كان
____________________
(2/304)
في
حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ فإما إنْ كان قبل الطَّلَاقِ وإما إنْ كان بَعْدَهُ
فَإِنْ كان قبل الطَّلَاقِ فَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في أَصْلِ التَّسْمِيَةِ
يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ في بَابِ النِّكَاحِ هو
مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْبُضْعِ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ من كل
وَجْهٍ فَكَانَ هو الْعَدْلُ وَإِنَّمَا التَّسْمِيَةُ تَقْدِيرٌ لِمَهْرِ
الْمِثْلِ فإذا لم تَثْبُتْ التَّسْمِيَةُ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فيها وَجَبَ
الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في قَدْرِ
الْمُسَمَّى أو جِنْسِهِ أو نَوْعِهِ أو صِفَتِهِ فَالْمَهْرُ لَا يَخْلُو إمَّا
أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فَإِنْ كان دَيْنًا فَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ من الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ
وإما إنْ كان من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ
الْمَوْصُوفَةِ في الذِّمَّةِ فَإِنْ كان من الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ
فَاخْتَلَفَا في قَدْرِهِ بِأَنْ قال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ على أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ تَزَوَّجْتَنِي على أَلْفَيْنِ أو قال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ
على مِائَةِ دِينَارٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ على مِائَتَيْ دِينَارٍ تَحَالَفَا
وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ فَإِنْ نَكَلَ أَعْطَاهَا أَلْفَيْنِ وَإِنْ
حَلَفَ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ فَإِنْ نَكَلَتْ أَخَذَتْ أَلْفًا وَإِنْ حَلَفَتْ
يُحْكَمُ لها بِمَهْرِ الْمِثْلِ إنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ ما قالت أو
أَكْثَرَ فَلَهَا ما قالت وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ ما قال الزَّوْجُ أو
أَقَلَّ فَلَهَا ما قال وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا قالت وأكثر
مِمَّا قال فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ في هذا كُلِّهِ
إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمُسْتَنْكِرٍ جِدًّا
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَحْكُمَانِ مَهْرَ الْمِثْلِ
وَيُنْهِيَانِ الْأَمْرَ إلَيْهِ وأبو يُوسُفَ لَا يَحْكُمُهُ بَلْ يَجْعَلُ
الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ مع يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ
مُسْتَنْكَرٍ وقد اُخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الْمُسْتَنْكَرِ قِيلَ هو أَنْ
يَدَّعِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا على أَقَلَّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُرْوَى عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ هذا
الْقَدْرَ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا إذْ لَا مَهْرَ في الشَّرْعِ أَقَلَّ من عَشَرَةٍ
وَقِيلَ هو أَنْ يدعى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا على مالا يُزَوَّجُ مِثْلُهَا بِهِ
عَادَةً وَهَذَا يُحْكَى عن أبي الْحَسَنِ لِأَنَّ ذلك مُسْتَنْكَرٌ عُرْفًا وهو
الصَّحِيحُ من التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْمَهْرِ
الْمُسَمَّى وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا على أَصْلِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى وما
دُونَ الْعَشَرَةِ لم يُعْرَفْ مَهْرًا في الشَّرْعِ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا
وقد رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ
الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةُ هَالِكَةٌ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ما لم
يَأْتِ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ في الشَّرْعِ
وَالْمُنْكِرُ هو الزَّوْجُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي عليه زِيَادَةَ مَهْرٍ
وهو يُنْكِرُ ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ كما في سَائِرِ
الْمَوَاضِعِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ في بَابِ الْإِجَارَةِ
إذَا اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْمُسَمَّى لَا يُحْكَمُ أجر ( ( ( بأجر ) ) )
الْمِثْلِ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ مع يَمِينِهِ لِمَا
قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ في الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قَوْلُ من يَشْهَدُ له الظَّاهِرُ
وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّ الناس
في الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ يُقَدِّرُونَ الْمُسَمَّى بِمَهْرِ الْمِثْلِ
وَيَبْنُونَهُ عليه لَا بِرِضَا الزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ عليه وَالْمَرْأَةُ
وَأَوْلِيَاؤُهَا لَا يَرْضَوْنَ بِالنُّقْصَانِ عنه فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ
تَقْدِيرًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِنَاءً عليه فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِمَنْ
يَشْهَدُ له مَهْرُ الْمِثْلِ فَيُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كان أَلْفَيْنِ
فَلَهَا ذلك لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لها وَإِنْ كان أَكْثَرَ من أَلْفَيْنِ
لَا يُزَادُ عليه لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا
أَلْفًا فَلَهَا أَلْفٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلزَّوْجِ وَإِنْ كان أَقَلَّ
من ذلك لَا يَنْقُصُ عن أَلْفٍ لِأَنَّ الزَّوْجَ رضي بِالزِّيَادَةِ وَإِنْ كان
مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِمَّا قال وَأَقَلَّ مِمَّا قالت فَلَهَا مَهْرُ
الْمِثْلِ لِأَنَّهُ هو الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ وَإِنَّمَا التَّسْمِيَةُ
تَقْدِيرٌ له لِمَا قُلْنَا فَلَا يُعْدَلُ عنه إلَّا عِنْدَ ثُبُوتِ
التَّسْمِيَةِ وَصِحَّتِهَا فإذا لم يَثْبُتْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَجَبَ
الرُّجُوعُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَتَحْكِيمُهُ وَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مدعى ( ( ( مدع ) ) ) من وَجْهٍ وَمُنْكِرٌ من
وَجْهٍ
أَمَّا الزَّوْجُ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي عليه زِيَادَةَ أَلْفٍ وهو
مُنْكِرٌ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عليها تَسْلِيمَ
النَّفْسِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْأَلْفِ إلَيْهَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا من وَجْهٍ وَمُنْكِرًا من وَجْهٍ فَيَتَحَالَفَانِ
لِقَوْلِهِ وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْج لِأَنَّهُ
أَشَدُّ إنْكَارًا أو أَسْبَقُ إنْكَارًا من الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ قبل
تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَبَعْدَهُ وَلَا إنْكَارَ من الْمَرْأَةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ
النَّفْسِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ هو أَسْبَقُ إنْكَارًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ
تَقْبِضُ الْمَهْرَ أَوَّلًا ثُمَّ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا فَتُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ
الْمَهْرِ إلَيْهَا وهو يُنْكِرُ فَكَانَ هو أَسْبَقُ إنْكَارًا فَكَانَتْ
الْبِدَايَةُ بِالتَّحْلِيفِ منه أَوْلَى لِمَا قُلْنَا في اخْتِلَافِ
الْمُتَبَايِعَيْنِ
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ التَّحَالُفَ في هذه الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَأَنْكَرَ
الْجَصَّاصُ التَّحَالُفَ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو ما إذَا لم يَشْهَدْ مَهْرُ
الْمِثْلِ لِدَعْوَاهُمَا بِأَنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِمَّا قال
الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا قالت الْمَرْأَةُ وَكَذَا في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
____________________
(2/305)
لم
يذكر التَّحَالُفَ إلَّا في هذا الْفَصْلِ
وَجْهُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ فِيمَا لَا شَهَادَةَ لِلظَّاهِرِ
فإذا كان مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ ما يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا كان الظَّاهِرُ
شَاهِدًا له فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ وَالظَّاهِرُ لَا يَشْهَدُ
لِأَحَدِهِمَا في الثَّالِثِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَالُفِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا
بَعْدَ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَالتَّسْمِيَةُ لايسقط اعْتِبَارُهَا
إلَّا بِالتَّحَالُفِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً على الْغَيْرِ
فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَالُفِ ثُمَّ إذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ وبدىء ( (
( وبدئ ) ) ) بِيَمِينِ الزَّوْجِ فَإِنْ نَكَلَ يقضي عليه بِأَلْفَيْنِ لِأَنَّ
النُّكُولَ حُجَّةٌ يقضي بها في بَابِ الْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ وهو أَنْ يُعْطِيَهَا مَكَانَ الدَّرَاهِمِ
دَنَانِيرَ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَلْفَيْنِ قد تَثْبُتُ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَمِنْ شَأْنِ الْمُسَمَّى أَنْ لَا يَكُونَ لِلزَّوْجِ
الْعُدُولُ عنه إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ وَإِنْ حَلَفَ تَحْلِفُ
الْمَرْأَةُ فَإِنْ نَكَلَتْ لم يُقْضَ على الزَّوْجِ إلَّا بِالْأَلْفِ وَلَا
خِيَارَ له لِمَا قُلْنَا في نُكُولِ الزَّوْجِ وَإِنْ حَلَفَتْ يُحْكَمُ مَهْرُ
الْمِثْلِ فَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا قضى لها على الزَّوْجِ بِأَلْفٍ
وَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَلْفِ قد تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا
فَيُمْنَعُ الْخِيَارُ
وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ قضى لها بِأَلْفَيْنِ وَلَهُ الْخِيَارُ
في أَخْذِ الْأَلْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِثُبُوتِ تَسْمِيَةِ أَحَدِ
الْأَلْفَيْنِ بِتَصَادُقِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا
أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قضى لها بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَا خِيَارَ له في
قَدْرِ الْأَلْفِ بِتَصَادُقِهِمَا وَلَهُ الْخِيَارُ في قَدْرِ الْخَمْسِمِائَةِ
لِأَنَّهُ لم تَثْبُتْ تَسْمِيَةُ هذا الْقَدْرِ فَكَانَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ
مَهْرِ الْمِثْلِ فَكَانَ له الْخِيَارُ فيها وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَعْدَ
التَّحَالُفِ في قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن أبي لَيْلَى يُفْسَخُ كما في الْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَقْدٌ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ بَدَلٍ
وَلَنَا الْفَرْقُ بين الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وهو أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ
اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ في بَابِ الْبَيْعِ يَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ
وَالْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَاجِبُ الرَّفْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ
وَذَلِكَ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَصْلًا
في النِّكَاحِ لَا يُوجِبُ فَسَادَهُ فَسُقُوطُ اعْتِبَارِهِ بِجَهَالَةِ
الْمُسَمَّى بِالتَّعَارُضِ أَوْلَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ فَهُوَ
الْفَرْقُ هذا إذَا لم يَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَأَمَّا إذَا قَامَتْ
لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فإنه يقضي بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّهَا قَامَتْ على أَمْرٍ
جَائِزِ الْوُجُودِ وَلَا مُعَارِضَ لها فَتُقْبَلُ وَلَا يُحْكَمُ مَهْرُ
الْمِثْلِ لأنه تَحْكِيمَهُ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ قِيَامِ
الْبَيِّنَةِ وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَثْبُتُ
بِالْبَيِّنَةِ وإنها تَمْنَعُ الْخِيَارَ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ
فَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ يقضي بِبَيِّنَتِهَا لِأَنَّهَا
تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ فَكَانَتْ مُظْهِرَةً وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لم
تُظْهِرْ شيئا لِأَنَّهَا قَامَتْ على أَلْفٍ وَالْأَلْفُ كان ظَاهِرًا
بِتَصَادُقِهِمَا أو نَقُولُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ إظْهَارًا فَكَانَ
الْقَضَاءُ بها أَوْلَى وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ في الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ
تَسْمِيَةَ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا وَتَسْمِيَةُ الْآخَرِ
تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالتَّسْمِيَةُ تَمْنَعُ الْخِيَارَ
وَإِنْ كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال
بَعْضُهُمْ يقضي بِبَيِّنَتِهَا أَيْضًا لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ لم
تَكُنْ ظَاهِرَةً بِتَصَادُقِهِمَا وَإِنْ كانت ظَاهِرَةً بِشَهَادَةِ مَهْرِ
الْمِثْلِ لَكِنَّ هذا الظَّاهِرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً على الْغَيْرِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَا يقضي بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ أو الْبَيِّنَةِ وَتَصَادُقُهُمَا
حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ فَكَانَتْ ببينتها ( ( ( بينتها ) ) ) هِيَ الْمُظْهِرَةُ أو
كانت أَكْثَرَ إظْهَارًا وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَيْسَتْ بِمُظْهِرَةٍ لِأَنَّ
الْأَلْفَ كان ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا أو هِيَ أَقَلُّ إظْهَارًا فَكَانَ
الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهَا أَوْلَى
وقال بَعْضُهُمْ يقضي بِبَيِّنَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزَّوْجِ تُظْهِرُ
حظ ( ( ( حط ) ) ) الْأَلْفِ عن مَهْرِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ أَلْفَانِ لِثُبُوتِ
الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَظْهَرُ حَطٌّ عن مَهْرِ الْمِثْلِ
بِشَهَادَتِهِ وَبَيِّنَتُهَا لَا تُظْهِرُ شيئا لِأَنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ كان
ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا وَالْآخَرُ كان ظَاهِرًا بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ
أو يُظْهِرَ صِفَةَ التَّعْيِينِ لِلْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ
مَهْرِ الْمِثْلِ أو يُظْهِرُ صِفَةَ التَّعْيِينِ لَهُمَا وَبَيِّنَتُهُ
مُظْهِرَةٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ أَوْلَى وَإِنْ كان
مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ لِلتَّعَارُضِ
لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا مُظْهِرَةً وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى من لأخرى ( ( (
الأخرى ) ) ) فَبَطَلَتْ فَبَقِيَ الْحُكْمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا خِيَارَ له
في قَدْرِ الْأَلْفِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ الْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ
لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ هذا الْقَدْرُ مُسَمًّى بِتَصَادُقِهِمَا وَلَهُ خِيَارٌ
في قَدْرِ الْخَمْسِمِائَةِ لِثُبُوتِهِ على وَجْهِ مَهْرِ الْمِثْلِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان دَيْنًا مَوْصُوفَا في الذِّمَّةِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا على
مَكِيلٍ مَوْصُوفٍ أو مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ أو مَذْرُوعٍ مَوْصُوفٍ
فَاخْتَلَفَا في قَدْرِ الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ أو الذَّرْعِ فَالِاخْتِلَافُ فيه
كَالِاخْتِلَافِ في قَدْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلِهَذَا يَتَحَالَفَانِ
وَيُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ
الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عليه وَكَذَا في الْمَذْرُوعِ
إذَا كان في الذِّمَّةِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْقُودًا عليه بَلْ كان جَارِيًا
مَجْرَى الصِّفَةِ إذَا كان عَيْنًا لِأَنَّ ما في الذِّمَّةِ غَائِبٌ مَذْكُورٌ
يَخْتَلِفُ أَصْلُهُ بِاخْتِلَافِ
____________________
(2/306)
وَصْفِهِ
فَجَرَى الْوَصْفُ فِيمَا في الذِّمَّةِ مَجْرَى الْأَصْلِ وَلِهَذَا كان
الِاخْتِلَافُ في صِفَةِ الْمُسْلَمِ فيه مُوجِبًا لِلتَّحَالُفِ فَكَانَ
اخْتِلَافُهُمَا في الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا في الْأَصْلِ وَذَلِكَ
يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَذَا هذا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مع
يَمِينِهِ وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في جِنْسِ الْمُسَمَّى بِأَنْ قال الزَّوْجُ
تَزَوَّجْتُكِ على عَبْدٍ فقالت على جَارِيَةٍ أو قال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ على
كُرِّ شَعِيرٍ فقالت على كُرِّ حِنْطَةٍ أو على ثِيَابٍ هَرَوِيَّةٍ أو قال على
أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَتْ على مِائَةِ دينارا ( ( ( دينار ) ) ) وفي نَوْعِهِ
كَالتُّرْكِيِّ مع الرُّومِيِّ وَالدَّنَانِيرِ الْمِصْرِيَّةِ مع الصُّورِيَّةِ
أو في صِفَتِهِ من الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَالِاخْتِلَافُ فيه
كَالِاخْتِلَافِ في الْعَيْنَيْنِ إلَّا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فإن
الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا كَالِاخْتِلَافِ في الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَإِنَّمَا
كان كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْجِنْسَيْنِ وَالنَّوْعَيْنِ
وَالْمَوْصُوفَيْنِ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
لَكِنَّهُمَا في بَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ يقضي من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمِائَةَ دِينَارٍ من غَيْرِ تَرَاضٍ
بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يقضي من جِنْسِهِ فلم يَجُزْ
أَنْ يُمْلَكَ من غَيْرِ تَرَاضٍ فيقضي بِقَدْرِ قِيمَتِهِ
هذا إذَا كان الْمَهْرُ دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كان عَيْنًا فَإِنْ اخْتَلَفَا في
قَدْرِهِ فَإِنْ كان مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا
على طَعَامٍ بِعَيْنِهِ فَاخْتَلَفَا في قَدْرِهِ فقال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ
على هذا الطَّعَامِ بِشَرْطِ أَنَّهُ كُرٌّ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ تَزَوَّجْتَنِي
عليه بِشَرْطِ أَنَّهُ كُرَّانِ فَهِيَ مِثْلُ الِاخْتِلَافِ في الْأَلْفِ
وَالْأَلْفَيْنِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ بِأَنْ
تَزَوَّجَهَا على ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ كُلُّ ذِرَاعٍ منه يُسَاوِي عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ فَاخْتَلَفَا فقال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ على هذا الثَّوْبِ بِشَرْطِ
أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ فقالت بِشَرْطِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ لَا
يَتَحَالَفَانِ وَلَا يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الطَّعَامِ وَالثَّوْبِ أَنَّ الْقَدْرَ في بَابِ
الطَّعَامِ مَعْقُودٌ عليه حَقِيقَةً وَشَرْعًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ
عليه عَيْنٌ وَذَاتُ حَقِيقَةٍ وَأَمَّا الشَّرْعُ فإنه إذَا اشْتَرَى طَعَامًا
على أَنَّهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ لَا يَطِيبُ له
الْفَضْلُ وَالِاخْتِلَافُ في الْمَعْقُودِ عليه يُوجِبُ التَّحَالُفَ
فَأَمَّا الْقَدْرُ في بَابِ الثَّوْبِ وَإِنْ كان من أَجْزَاءِ الثَّوْبِ
حَقِيقَةً لَكِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وهو صِفَةُ الْجَوْدَةِ شَرْعًا
لِأَنَّهُ يُوجِبُ صِفَةَ الْجَوْدَةِ لِغَيْرِهِ من الْأَجْزَاءِ أَلَا تَرَى
أَنَّ من اشْتَرَى ثَوْبًا على أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ
عَشَرَ طَابَ له للفضل ( ( ( الفضل ) ) ) وَالِاخْتِلَافُ في صِفَةِ الْمَعْقُودِ
عليه إذَا كان عَيْنًا لَا يُوجِبُ للتحالف ( ( ( التحالف ) ) ) كما إذَا
اخْتَلَفَا في صِفَةِ الْجَوْدَةِ في الْعَيْنِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما يُوجِبُ فَوَاتُ بَعْضِهِ نُقْصَانًا في الْبَقِيَّةِ فَهُوَ
جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ وما لَا يُوجِبُ فَوَاتُ بَعْضِهِ نُقْصَانًا في
الْبَاقِي لَا يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ
وَعَيْنِهِ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ قال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ على
هذا الْعَبْدِ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ على هذه الْجَارِيَةِ فَهُوَ مِثْلُ
الِاخْتِلَافِ في الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو ما إذَا
كان مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أو أَكْثَرَ فَلَهَا قِيمَةُ
الْجَارِيَةِ لَا عَيْنُهَا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْجَارِيَةِ لَا يَكُونُ إلَّا
بِالتَّرَاضِي ولم يَتَّفِقَا على تَمْلِيكِهَا فلم يُوجَدْ الرِّضَا من صَاحِبِ
الْجَارِيَةِ بِتَمْلِيكِهَا فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فيقضي بِقِيمَتِهَا
بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَا في الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ فقال الزَّوْجُ
تَزَوَّجْتُكِ على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ على مِائَةِ دِينَارٍ إن
الِاخْتِلَافَ فيه كَالِاخْتِلَافِ في الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ على مَعْنَى
أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا إنْ كان مِثْلَ مِائَةِ دِينَارٍ أو أَكْثَرَ فَلَهَا الْمِائَةُ
دِينَارٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يقضي من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه التَّرَاضِي بِخِلَافِ الْعَبْدِ فإن مَهْرَ
الْمِثْلِ لَا يقضي من جِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ من غَيْرِ مرضاة ( (
( مراضاة ) ) ) وَلَا يَكُونُ لها أَكْثَرُ من قميتها ( ( ( قيمتها ) ) ) وَإِنْ
كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ من قميتها ( ( ( قيمتها ) ) ) لِأَنَّهَا رَضِيَتْ
بهذا الْقَدْرِ وما كان الْقَوْلُ فيه أَيْ من الْعَيْنِ قَوْلَ الزَّوْجِ
فَهَلَكَ فَاخْتَلَفَا في قَدْرِ قِيمَتِهِ فَالْقَوْلُ فيه قَوْلُ الزَّوْجِ
أَيْضًا لِأَنَّ الْمُسَمَّى مُجْمَعٌ عليه فَكَانَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا عليه
وَالِاخْتِلَافُ إذَا وَقَعَ في قَدْرِ الدَّيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَدْيُونِ
كما في سَائِرِ الدُّيُونِ هذا كُلُّهُ إذَا اخْتَلَفَا قبل الطَّلَاقِ وَلَوْ
اخْتَلَفَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ أو قبل الدُّخُولِ
بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَالْجَوَابُ في الْفُصُولِ كُلِّهَا كَالْجَوَابِ فِيمَا لو
اخْتَلَفَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ أو قبل
الدُّخُولِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ مِمَّا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَهْرِ الْمِثْلِ
وَإِنْ كان قبل الدُّخُولِ بها وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ فَإِنْ كان الْمَهْرُ دَيْنًا
فَاخْتَلَفَا في الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ
وَيُتَنَصَّفُ ما يقول الزَّوْجُ
كَذَا ذُكِرَ في كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ولم يُذْكَرْ الِاخْتِلَافُ
كَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُتَنَصَّفُ ما يقول الزَّوْجُ ولم يذكر
الْخِلَافَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ فقال
____________________
(2/307)
لها
نِصْفُ الْأَلْفِ في قَوْلِهِمْ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وقال يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ إلَى مُتْعَةِ مِثْلِهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ
الزَّوْجِ في الزِّيَادَةِ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَوَجْهُهُ إن الْمُسَمَّى لم يَثْبُتْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فيه وَالطَّلَاقُ
قبل الدُّخُولِ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه يُوجِبُ الْمُتْعَةَ وَيُحْكَمُ
مُتْعَةُ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَرْضَى بِذَلِكَ وَالزَّوْجُ لَا يَرْضَى
بِالزِّيَادَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ في الزِّيَادَةِ وَالصَّحِيحُ هو
الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ هَهُنَا
لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ فَتَعَذَّرَ
تَحْكِيمُهُ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْمُتَيَقَّنَ وهو نِصْفُ الْأَلْفِ وَمُتْعَةُ
مِثْلِهَا لَا تَبْلُغُ ذلك عَادَةً فَلَا مَعْنَى لِتَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ على
إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ
وَقِيلَ لَا خِلَافَ بين الرِّوَايَتَيْنِ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ
الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ
النِّكَاحِ في الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَلَا وَجْهَ لِتَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ
لِأَنَّ الزَّوْجَ أَقَرَّ لها بِخَمْسِمِائَةٍ وَهِيَ تَزِيدُ على مُتْعَةِ
مِثْلِهَا عَادَةً فَقَدْ أَقَرَّ الزَّوْجُ لها بِمُتْعَةِ مِثْلِهَا وَزِيَادَةٍ
فَكَانَ لها ذلك وَوَضَعَهَا في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ في الْعَشَرَةِ
وَالْمِائَةِ بِأَنْ قال الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ على عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ تَزَوَّجْتَنِي على مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمُتْعَةُ مِثْلِهَا
عِشْرُونَ فَفِي هذه الصُّورَةِ يَكُونُ الزَّوْجُ مُقِرًّا لها بِخَمْسَةِ
دَرَاهِمَ وَذَلِكَ أَقَلُّ من مُتْعَةِ مِثْلِهَا عَادَةً فَكَانَ لها مُتْعَةُ
مِثْلِهَا
وَإِنْ كان الْمَهْرُ عَيْنًا كما في مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَلَهَا
الْمُتْعَةُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْجَارِيَةِ بِخِلَافِ
ما إذَا اخْتَلَفَا في الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَلْفِ
هُنَاكَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ لِاتِّفَاقِهِمَا على تَسْمِيَةِ الْأَلْفِ فَكَانَ
الْقَضَاءُ بِنِصْفِهَا حُكْمًا بِالْمُتَيَقَّنِ وَالْمِلْكُ في نِصْفِ
الْجَارِيَةِ ليس بِثَابِتٍ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُمَا لم يَتَّفِقَا على تَسْمِيَةِ
أَحَدِهِمَا فلم يُمْكِنْ الْقَضَاءُ بِنِصْفِ الْجَارِيَةِ إلَّا
بِاخْتِيَارِهِمَا فإذا لم يُوجَدْ سَقَطَ الْبَدَلَانِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى
الْمُتْعَةِ هذا إذَا كان الِاخْتِلَافُ في حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كان في
حَيَاةِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ
الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى
تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كانت حَيَّةً وَقَوْلُ وَرَثَتِهَا إنْ كانت
مَيِّتَةً وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ في الزِّيَادَةِ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتُوا
بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ
وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ بين وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا في
أَصْلِ التَّسْمِيَةِ وَكَوْنِهَا فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ لَا أقضى بِشَيْءٍ حتى
تَقُومَ الْبَيِّنَةُ على أَصْلِ التَّسْمِيَةِ وَعِنْدَهُمَا يقضي بِمَهْرِ
الْمِثْلِ كما في حَالِ الْحَيَاةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا لم تَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا
وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ فَيَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِمَا كَالْمُسَمَّى
وَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا ثُمَّ مَاتَا
وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يقضي بِشَيْءٍ حتى تَقُومَ البنية (
( ( البينة ) ) ) على التَّسْمِيَةِ
أَمَّا قَوْلُهُمَا إن مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ
التَّسْمِيَةِ فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ وَجَبَ
لَكِنَّهُ لم يَبْقَ إذْ الْمَهْرُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجَيْنِ
عَادَةً
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في الْمَسْأَلَةِ بَلْ الظَّاهِرُ هو الِاسْتِيفَاءُ
وَالْإِبْرَاءُ هذا هو الْعَادَةُ بين الناس فَلَا يَثْبُتُ الْبَقَاءُ إلَّا
بِالْبَيِّنَةِ
وَالثَّانِي لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ بَقِيَ لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ
بِهِ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ التَّقَادُمِ وَعِنْدَ التَّقَادُمِ
لَا يدري ما حَالُهَا وَمَهْرُ الْمِثْلِ يُقَدَّرُ بِحَالِهَا فَيَتَعَذَّرُ
التَّقْدِيرُ على أَنَّ اعْتِبَارَ مَهْرِهَا بِمَهْرِ مِثْلِ نِسَاءِ
عَشِيرَتِهَا فإذا مَاتَا فَالظَّاهِرُ مَوْتُ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا فَلَا
يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ مُشْكِلٌ وَلَوْ اخْتَلَفَتْ
الْوَرَثَةُ في قَدْرِ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ إلَّا
أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ مَهْرِ
مِثْلِهَا كما في حَالِ الْحَيَاةِ
وَلَوْ بَعَثَ الزَّوْجُ إلَى امْرَأَتِهِ شيئا فَاخْتَلَفَا فقالت الْمَرْأَةُ هو
هَدِيَّةٌ وقال الزَّوْجُ هو من الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا في
الطَّعَامِ الذي يُؤْكَلُ لِأَنَّ الزَّوْجَ هو الْمُمَلِّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ
بِجِهَةِ تَمْلِيكِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا فِيمَا يُكَذِّبُهُ
الظَّاهِرُ وهو الطَّعَامُ الذي يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ لَا يُبْعَثُ مَهْرًا عَادَةً
فَصْلٌ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بهذا اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ في مَتَاعِ الْبَيْتِ
وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الِاخْتِلَافَ في مَتَاعِ الْبَيْتِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ بين الزَّوْجَيْنِ في حَالِ حَيَاتِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بين
وَرَثَتِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في حَالِ حَيَاةِ
أَحَدِهِمَا وَمَوْتِ الْآخَرِ فَإِنْ كان في حَالِ حَيَاتِهِمَا فَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ في حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ زَوَالِهِ
بِالطَّلَاقِ فَإِنْ كان في حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فما كان يَصْلُحُ
لِلرِّجَالِ كَالْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهَا
فَالْقَوْلُ فيه قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له وما يَصْلُحُ
لِلنِّسَاءِ مِثْلُ الْخِمَارِ وَالْمِلْحَفَةِ وَالْمِغْزَلِ وَنَحْوِهَا
فَالْقَوْلُ فيه قَوْلُ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لها
____________________
(2/308)
وما
يَصْلُحُ لَهُمَا جميعا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْعُرُوضِ وَالْبُسُطِ
وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا فَالْقَوْلُ فيه قَوْلُ الزَّوْجِ وَهَذَا قَوْلُ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ
الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا في الْكُلِّ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ في الْبَاقِي
وقال زُفَرُ في قَوْلٍ الْمُشْكِلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
وفي قَوْلٍ آخَرَ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ الْكُلُّ بَيْنَهُمَا
نِصْفَانِ
وقال ابن أبي لَيْلَى الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ في الْكُلِّ إلَّا في ثِيَابِ
بَدَنِ الْمَرْأَةِ وقال الْحَسَنُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ في الْكُلِّ
إلَّا في ثِيَابِ بَدَنِ الرَّجُلِ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ يَدَ الْمَرْأَةِ على ما في دَاخِلِ الْبَيْتِ
أَظْهَرُ منه في يَدِ الرَّجُلِ فَكَانَ الظَّاهِرُ لها شَاهِدًا إلَّا في ثِيَابِ
بَدَنِ الرَّجُلِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهَا في ذلك وَيُصَدِّقُ الزَّوْجَ
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ الزَّوْجَ أَخَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا
في الْبَيْتِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له إلَّا في ثِيَابِ بَدَنِهَا فإن
الظَّاهِرَ يُصَدِّقُهَا فيه وَيُكَذِّبُ الرَّجُلَ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ
يَدَ كل وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَا حُرَّيْنِ ثَابِتَةٌ على ما في
الْبَيْتِ فَكَانَ الْكُلُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وهو قِيَاسُ قَوْلِهِ إلَّا
أَنَّهُ خَصَّ الْمُشْكِلَ بِذَلِكَ في قَوْلٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ
لِأَحَدِهِمَا في الْمُشْكِلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ
جَهَازِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو عن الْجَهَازِ عَادَةً فَكَانَ
الظَّاهِرُ شَاهِدًا لها في ذلك الْقَدْرِ فَكَانَ الْقَوْلُ في هذا الْقَدْرِ
قَوْلَهَا وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلرَّجُلِ في الْبَاقِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
في الْبَاقِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن يَدَ الزَّوْجِ على ما في الْبَيْتِ أَقْوَى من يَدِ
الْمَرْأَةِ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ مُتَصَرِّفَةٌ وَيَدُهَا يَدٌ حَافِظَةٌ وَيَدُ
التَّصَرُّفِ أَقْوَى من يَدِ الْحِفْظِ كَاثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ في دَابَّةٍ
وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا أَنَّ الرَّاكِبَ
أَوْلَى ألا أَنَّ فِيمَا يَصْلُحُ لها عَارَضَ هذا الظَّاهِرَ ما هو أَظْهَرُ منه
فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ
وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ ما طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو بَائِنًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الزَّوْجِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ فَزَالَتْ يَدُهَا
وَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ
هذا إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ قبل الطَّلَاقِ أو بَعْدَهُ فَأَمَّا إذَا مَاتَا
فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ
الْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا وَقَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ في
الْبَاقِي لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ فَصَارَ كَأَنَّ
الْمُورَثَيْنِ اخْتَلَفَا بِأَنْفُسِهِمَا وَهُمَا حَيَّانِ
وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَ الْحَيُّ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَإِنْ كان
الْمَيِّتُ هو الْمَرْأَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا لو كانت حَيَّةً لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَبَعْدَ الْمَوْتِ
أَوْلَى وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَتِهَا إلَى قَدْرِ جَهَازِ
مِثْلِهَا وَإِنْ كان الْمَيِّتُ هو الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ في الْمُشْكِلِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ في قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُورَثِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَتَاعَ كان في يَدِهِمَا في حَيَاتِهِمَا لِأَنَّ
الْحُرَّةَ من أَهْلِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ كما قال زُفَرُ لِأَنَّ يَدَ الزَّوْجِ كانت أَقْوَى فَسَقَطَتْ
يَدُهَا بِيَدِ الزَّوْجِ فإذا مَاتَ الزَّوْجُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
فَظَهَرَتْ يَدُهَا على الْمَتَاعِ
وَلَوْ طَلَّقَهَا في مَرَضِهِ ثَلَاثًا أو بَائِنًا فَمَاتَ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ
هِيَ وَوَرَثَةُ الزَّوْجِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ في الْمُشْكِلِ
بَعْدَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ أَيْضًا وَإِنْ
مَاتَ قبل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ في
الْمُشْكِلِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ في قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إذَا
كانت قَائِمَةً كان النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ فَصَارَ كما لو مَاتَ الزَّوْجُ
قبل الطَّلَاقِ وَبَقِيَتْ الْمَرْأَةُ وَهُنَاكَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ في الْمُشْكِلِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ في قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ
قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ كَذَا هَهُنَا
هذا كُلُّهُ إذَا كان الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أو مَمْلُوكَيْنِ أو مُكَاتَبَيْنِ
فَأَمَّا إذَا كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا أو مُكَاتَبًا
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْحُرِّ
وَعِنْدَهُمَا إنْ كان الْمَمْلُوكُ مَحْجُورًا فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كان
مَأْذُونًا أو مُكَاتَبًا فَالْجَوَابُ فيه وَفِيمَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ
سَوَاءٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ في مِلْكِ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ
بَلْ هو حُرٌّ يَدًا وَلِهَذَا كان أَحَقَّ بمكاسبة وَكَذَا الْمَأْذُونُ الْمَدْيُونُ
فَصَارَ كما لو اخْتَلَفَا وَهُمَا حُرَّانِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكٌ أَمَّا الْمَأْذُونُ
فَلَا شَكَّ فيه وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ
على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكِ
وَالْمَمْلُوكُ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا تَصْلُحُ يَدُهُ دَلِيلًا
على الْمِلْكِ فَلَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِيَدِ الْحُرِّ فَبَقِيَتْ يَدُهُ
دَلِيلَ الْمِلْكِ من غَيْرِ مُعَارِضٍ بِخِلَافِ الْحُرَّيْنِ وَلَوْ كان
الزَّوْجُ حُرًّا وَالْمَرْأَةُ أَمَةً أو مُكَاتَبَةً أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ
وَلَدٍ فَأُعْتِقَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا في مَتَاعِ الْبَيْتِ فما أَحْدَثَا من
الْمِلْكِ قبل الْعِتْقِ فَهُوَ
____________________
(2/309)
لِلزَّوْجِ
لِأَنَّهُ حَدَثَ في وَقْتٍ لم تَكُنْ الْمَرْأَةُ فيه من أَهْلِ الْمِلْكِ وما
أَحْدَثَا من الْمِلْكِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْجَوَابُ فيه وفي الْحُرَّيْنِ
سَوَاءٌ
وَلَوْ كان الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَالْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً فَالْجَوَابُ فيه
كَالْجَوَابِ في الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي
أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَكَذَا لو كان الْبَيْتُ مِلْكًا
لِأَحَدِهِمَا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْيَدِ لَا
لِلْمِلْكِ
هذا كُلُّهُ إذَا لم تُقِرَّ الْمَرْأَةُ أَنَّ هذا الْمَتَاعَ اشْتَرَاهُ لي
زَوْجِي فَإِنْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ سَقَطَ قَوْلُهَا
لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بالملك ( ( ( بذلك ) ) ) لِزَوْجِهَا
ثُمَّ ادَّعَتْ الِانْتِقَالَ فَلَا يَثْبُتُ الِانْتِقَالُ إلَّا بِدَلِيلٍ وقد
مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْكَفَاءَةُ في إنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ من الْأَخِ
وَالْعَمِّ وَنَحْوُهُمَا الصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ وفي إنْكَاحِ الْأَبِ
وَالْجَدِّ اخْتِلَافُ أبي حَنِيفَةَ مع صَاحِبَيْهِ وَأَمَّا الطَّوْعُ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَيَجُوزُ
نِكَاحُ الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ من مَسَائِلِ
كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَكَذَلِكَ الْجِدُّ ليس من شَرَائِطِ جَوَازِ النِّكَاحِ
حتى يَجُوزَ نِكَاحُ الْهَازِلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْجِدَّ وَالْهَزْلَ في
بَابِ النِّكَاحِ سَوَاءً
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ
الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ وَكَذَلِكَ الْعَمْدُ عِنْدَنَا حتى يَجُوزَ
نِكَاحُ الخاطىء وهو الذي يَسْبِقُ على لِسَانِهِ كَلِمَةُ النِّكَاحِ من غَيْرِ
قَصْدِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ
الثَّابِتَ بِالْخَطَأِ ليس إلَّا الْقَصْدُ وَأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ
النِّكَاحِ بِدَلِيلِ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَكَذَلِكَ الْحِلُّ أعنى كَوْنَهُ
حَلَالًا غير مُحْرِمٍ أو كَوْنَهَا حَلَالًا غير مُحْرِمَةٍ ليس بِشَرْطٍ
لِجَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ حتى يَجُوزَ
نِكَاحُ المحرمة ( ( ( المحرم ) ) ) وَالْمُحْرِمَةِ عِنْدَنَا لَكِنْ لَا يَحِلُّ
وَطْؤُهَا في حَالِ الْإِحْرَامِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجِمَاعَ من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَكَذَا النِّكَاحُ
لِأَنَّهُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْجِمَاعِ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الدَّوَاعِي على
الْمُحْرِمِ كما حُرِّمَ عليه الْجِمَاعُ
وَلَنَا ما روى عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ رضي اللَّهُ عنها وهو
حَرَامٌ وَأَدْنَى ما يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هو
الْجَوَازُ وَلَا يُعَارِضُ هذا ما رَوَى زَيْدُ بن الْأَصَمِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وهو حَلَالٌ بِسَرَفٍ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ ما تَزَوَّجَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ
التَّعَارُضُ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا وهو الْإِحْرَامُ
إذْ الْحِلُّ أَصْلٌ وَالْإِحْرَامُ عَارِضٌ فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ زَيْدٍ على
أَنَّهُ بني الْأَمْرَ على الْأَصْلِ وهو الْحِلُّ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ
بِالرِّوَايَتَيْنِ فَكَانَ رَاوِي الْإِحْرَامِ مُعْتَمِدًا على حَقِيقَةِ
الْحَالِ وَرَاوِي الْحِلِّ بَانِيًا الْأَمْرَ على الظَّاهِرِ فَكَانَتْ
رِوَايَةُ من اعْتَمَدَ حَقِيقَةَ الْحَالِ أَوْلَى وَلِهَذَا رَجَّحْنَا قَوْلَ
الْجَارِحِ على الْمُزَكِّي كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَفْقَهُ
وَأَتْقَنُ من زَيْدٍ وَالتَّرْجِيحُ بِفِقْهِ الرَّاوِي وَإِتْقَانُهُ تَرْجِيحٌ
صَحِيحٌ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ التي لها
حُسْنُ النِّكَاحِ في غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ مَوْجُودَةٌ في حَالِ
الْإِحْرَامِ فَكَانَ الْفَرْقُ بين الْحَالَيْنِ في الْحُكْمِ مع وُجُودِ
الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا مُنَاقَضَةً وما ذَكَرَهُ من الْمَعْنَى
يَبْطُلُ بِنِكَاحِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فإنه جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ
كان النِّكَاحُ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْجِمَاعِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ ثُمَّ كُلُّ نِكَاحٍ جَازَ بين الْمُسْلِمِينَ وهو الذي اسْتَجْمَعَ
شَرَائِطَ الْجَوَازِ التي وَصَفْنَاهَا فَهُوَ جَائِزٌ بين أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَأَمَّا ما فَسَدَ بين الْمُسْلِمِينَ من الْأَنْكِحَةِ فَإِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ
في حَقِّهِمْ منها ما يَصِحُّ وَمِنْهَا ما يَفْسُدُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ كُلُّ نِكَاحٍ فَسَدَ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَسَدَ في
حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ حتى لو أَظْهَرُوا النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ
يُعْتَرَضُ عليهم وَيُحْمَلُونَ على أَحْكَامِنَا وَإِنْ لم يُرْفَعُوا إلَيْنَا
وَكَذَا إذَا أَسْلَمُوا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا
يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ تَحَاكَمَا إلَيْنَا أو أَسْلَمَا بَلْ يُقَرَّانِ
عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أنهم لَمَّا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَقَدْ الْتَزَمُوا
أَحْكَامَنَا وَرَضُوا بها وَمِنْ أَحْكَامِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ
بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلِهَذَا لم يَجُزْ نِكَاحُهُمْ الْمَحَارِمَ في حُكْمِ
الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ في شَرِيعَتِنَا
ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ على سَبِيلِ الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا
بِشُهُودٍ وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ في الصَّحِيحِ
من الْأَقْوَالِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ثَابِتَةً في
حَقِّهِمْ
وَلَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَيَّنُونَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ
وَالْكَلَامُ فيه وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وما يَدِينُونَ إلَّا ما استثنى
من عُقُودِهِمْ كَالزِّنَا وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَثْنًى منها
____________________
(2/310)
فَيَصِحُّ
في حَقِّهِمْ كما يَصِحُّ منهم تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَمْلِيكُهُمَا
فَلَا يُعْتَرَضُ عليهم كما لَا يُعْتَرَضُ في الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَلِأَنَّ
الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطِ بَقَاءِ النِّكَاحِ على الصِّحَّةِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الشُّهُودِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ
ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ في حَقِّ الْكَافِرِ لِأَنَّ في الشَّهَادَةِ مَعْنَى
الْعِبَادَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } فَلَا
يُؤَاخَذُ الْكَافِرُ بِمُرَاعَاةِ هذا الشَّرْطِ في الْعَقْدِ وَلِأَنَّ نُصُوصَ
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ الشَّهَادَةِ وَالتَّقْيِيدُ
بِالشَّهَادَةِ في نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى
التَّقْيِيدَ بها في حَقِّ الْكَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنهم بِالذِّمَةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَنَعَمْ
لَكِنَّ جَوَازَ أَنْكِحَتِهِمْ بِغَيْرِ شُهُودٍ من أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ
وَقَوْلُهُ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ عَامٌّ مَمْنُوعٌ بَلْ هو
خَاصٌّ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِوُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وهو
عُمُومَاتُ الْكِتَابِ وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً في عِدَّةٍ من
ذِمِّيٍّ جَازَ النِّكَاحُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهَذَا وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ
شُهُودٍ سَوَاءٌ عِنْدَنَا حتى لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِالتَّفْرِيقِ وَإِنْ
تَرَافَعَا إلَيْنَا وَلَوْ أَسْلَمَا يُقَرَّانِ على ذلك وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمْ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا لِزُفَرَ في النِّكَاحِ بِغَيْرِ
شُهُودٍ وهو أَنَّهُمْ بِقَبُولِ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا وَمِنْ
أَحْكَامِنَا الْمُجْمَعِ عليها فَسَادُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَلِأَنَّ
الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ عَامٌّ قال تَعَالَى { وَلَا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } وَالْكُفَّارُ
مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَكَلَامُ أبي حَنِيفَةَ على نَحْوِ ما تَقَدَّمَ
أَيْضًا لِأَنَّ في دِيَانَتِهِمْ عَدَمَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْكَلَامُ فيه فلم
يَكُنْ هذا نِكَاحَ الْمُعْتَدَّةِ في اعْتِقَادِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ
نَتْرُكَهُمْ وما يَدِينُونَ
وَكَذَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ من الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةُ مُطْلَقَةٌ
عن هذه الشَّرِيطَةِ أَعْنِي الْخُلُوَّ عن الْعِدَّةِ وَإِنَّمَا عُرِفَ شَرْطًا
في نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ وَقَوْلُهُ عز وجل { وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ
أو يُحْمَلُ عليه عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فيها مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ حَقُّ الزَّوْجِ أَيْضًا
من وَجْهٍ قال اللَّهُ تَعَالَى { فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا } فَمِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَةٌ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا على
الْكَافِرَةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ
أو قُرُبَاتٌ وَكَذَا من حَيْثُ هِيَ حَقُّ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا
يَعْتَقِدُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا تَزَوَّجَ
كِتَابِيَّةً في عِدَّةٍ من مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ
يَعْتَقِدُ الْعِدَّةَ حَقًّا وَاجِبًا فَيُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِحَقِّهِ إنْ كان
لَا يُمْكِنُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى من حَيْثُ هِيَ عِبَادَةٌ وَلِهَذَا قُلْنَا
إنَّهُ ليس لِلزَّوْجِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُجْبِرَ امْرَأَتَهُ الْكَافِرَةَ على
الْغُسْلِ من الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِأَنَّ الْغُسْلَ من بَابِ
الْقُرْبَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِالْقُرُبَاتِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا
من الْخُرُوجِ من الْبَيْتِ لِأَنَّ الْإِسْكَانَ حَقُّهُ
وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ وَالْجَمْعُ بين خَمْسِ نِسْوَةٍ وَالْجَمْعُ بين
الْأُخْتَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ذلك كُلَّهُ فَاسِدٌ في حُكْمِ
الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ فَسَادَ هذه الْأَنْكِحَةِ في حَقِّ
الْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ لِفَسَادِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَخَوْفِ الْجَوْرِ في
قَضَاءِ الْحُقُوقِ من النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْكِسْوَةِ وَغَيْرِ ذلك
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إلَّا
أَنَّهُ مع الْحُرْمَةِ وَالْفَسَادِ لَا يُتَعَرَّضُ لهم قبل الْمُرَافَعَةِ
وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُمْ دَانُوا ذلك وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ
نَتْرُكَهُمْ وما يَدِينُونَ كما لَا يُتَعَرَّضُ لهم في عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى
وَإِنْ كانت مُحَرَّمَةً
وإذا تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي فَالْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كما يُفَرِّقُ
بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمَا إذَا تَرَافَعَا فَقَدْ تَرَكَا ما
دَانَاهُ وَرَضِيَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ جاؤوك (
( ( جاءوك ) ) ) فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ }
وَأَمَّا إذَا لم يَتَرَافَعَا ولم يُوجَدْ الْإِسْلَامُ أَيْضًا فَقَدْ قال أبو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إنَّهُمَا يُقَرَّانِ على نِكَاحِهِمَا وَلَا يُعْتَرَضُ
عَلَيْهِمَا بِالتَّفْرِيقِ
وقال أبو يُوسُفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ إذَا عَلِمَ ذلك سَوَاءٌ
تَرَافَعَا إلَيْنَا أو لم يَتَرَافَعَا وَلَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ
قال أبو حَنِيفَةَ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا ما لم يَتَرَافَعَا جميعا
وقال مُحَمَّدٌ إذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا
أَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَوَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ
ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَهُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْمُرَافَعَةِ وقد أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى حُرْمَةَ هذه الْأَنْكِحَةِ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بها مُطْلَقًا
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّرَائِعِ هو الْعُمُومُ في حَقِّ الناس كَافَّةً إلَّا
أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا في دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ
وَأَمْكَنَ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَزِمَ التَّنْفِيذُ فيها وكان النِّكَاحُ
فَاسِدًا وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ زِنًا من وَجْهٍ فَلَا يُمَكَّنُونَ منه كما لَا
يُمَكَّنُونَ من الزِّنَا في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ جاؤوك ( ( ( جاءوك ) ) ) فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو
أَعْرِضْ عَنْهُمْ } وَالْآيَةُ حُجَّةٌ له في الْمَسْأَلَتَيْنِ جميعا
أَمَّا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَجِيءَ لِلْحُكْمِ
عليهم وَأَثْبَتَ
____________________
(2/311)
سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى التَّخْيِيرَ بين الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ إلَّا أَنَّهُ قام
الدَّلِيلُ على نَسْخِ التَّخْيِيرِ وَلَا دَلِيلَ على نَسْخِ شَرْطِ الْمَجِيءِ
فَكَانَ حُكْمُ الشَّرْطِ بَاقِيًا وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ لتعزر
( ( ( لتعذر ) ) ) الْعَمَلِ بِهِمَا وَإِمْكَانِ جَعْلِ الْمُقَيَّدِ بَيَانًا
لِلْمُطْلَقِ
وَأَمَّا في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
شَرَطَ مَجِيئَهُمْ لِلْحُكْمِ عليهم فإذا جاء أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فلم
يُوجَدْ الشَّرْطُ وهو مَجِيئُهُمْ فَلَا يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ
وروى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَذَرُوا
الرِّبَا أو تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ ولم يَكْتُبْ إلَيْهِمْ
في أَنْكِحَتِهِمْ شيئا
وَلَوْ كان التَّفْرِيقُ مُسْتَحَقًّا قبل الْمُرَافَعَةِ لَكَتَبَ بِهِ كما
كَتَبَ بِتَرْكِ الرِّبَا
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا بلا ( ( ( بلاد ) ) ) فَارِسَ لم (
( ( ولم ) ) ) يَتَعَرَّضُوا لِأَنْكِحَتِهِمْ وما روى أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه كَتَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ
لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ لَنُقِلَ على طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ لِتَوَفُّرِ الوداعي (
( ( الدواعي ) ) ) إلَى نَقْلِهَا فلما لم يُنْقَلْ دَلَّ أَنَّهُ لم يَثْبُتْ أو
يُحْمَلْ على أَنَّهُ كَتَبَ ثُمَّ رَجَعَ عنه ولم يُعْمَلْ بِهِ وَلِأَنَّ تَرْكَ
التَّعَرُّضِ وَالْإِعْرَاضُ ثَبَتَ حَقًّا لَهُمَا فإذا رَفَعَ أَحَدُهُمَا
فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ رضي بِحُكْمِ
الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُ إجْرَاءُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ في حَقِّهِ فَيَتَعَدَّى
إلَى الْآخَرِ كما إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يقول
الرِّضَا بِالْحُكْمِ ليس نَظِيرَ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو رضي ثُمَّ
رَجَعَ عنه قبل الْحُكْمِ عليه لم يُلْزِمْهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وبعدما
أَسْلَمَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْبَى الرِّضَا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وإذا لم
يَكُنْ ذلك أَمْرًا لَازِمًا ضَرُورِيًّا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَجَعَلَ
رِضَاهُ في حَقِّ الْغَيْرِ كَالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ وَذَكَرَ
الْقَاضِي الْإِمَامُ أبو زَيْدٍ أَنَّ نكاح ( ( ( إنكاح ) ) ) الْمَحَارِمِ
صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ بِدَلِيلِ أَنَّ الذِّمِّيَّ
إذَا تَزَوَّجَ بِمَحَارِمِهِ وَدَخَلَ بها لم يَسْقُطْ إحْصَانُهُ عِنْدَهُ حتى
لو قَذَفَهُ إنْسَانٌ بِالزِّنَا بعدما أَسْلَمَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ عِنْدَهُ
وَلَوْ كان النِّكَاحُ فَاسِدًا لَسَقَطَ إحصائه ( ( ( إحصانه ) ) ) لِأَنَّ
الدُّخُولَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ كما في سَائِرِ
الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ
وَكَذَلِكَ لو تَرَافَعَا إلَيْنَا فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ فإن الْقَاضِيَ
يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَدَلَّ أَنَّ نِكَاحَ
الْمَحَارِمِ وَقَعَ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُمْ في حُكْمِ الْإِسْلَامِ
وَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ أُخْتَيْنِ في عُقْدَةٍ
وَاحِدَةٍ أو على التَّعَاقُبِ ثُمَّ فَارَقَ إحْدَاهُمَا قبل الْإِسْلَامِ ثُمَّ
أَسْلَمَ أَنَّ نِكَاحَ الْبَاقِيَةِ صَحِيحٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاقِيَ غَيْرُ
الثَّابِتِ
وَلَوْ وَقَعَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا حَالَ وُقُوعِهِ لَمَا أُقِرَّ عليه بَعْدَ
الْإِسْلَامِ
وَكَذَلِكَ لو تَزَوَّجَ خَمْسًا في عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ ثُمَّ فَارَقَ الْأُولَى
مِنْهُنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ بَقِيَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ على الصِّحَّةِ وَلَوْ
وَقَعَ فَاسِدًا من الْأَصْلِ لَمَا انْقَلَبَ صَحِيحًا بِالْإِسْلَامِ بَلْ كان
يَتَأَكَّدُ الْفَسَادُ فَثَبَتَ أَنَّ هذه الْأَنْكِحَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً في
حَقِّهِمْ في حُكْمِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ
الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لها في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ
وَلَوْ طَلَّقَ الذِّمِّيُّ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أو خَالَعَهَا ثُمَّ قام عليها
كَقِيَامِهِ عليها قبل الطَّلَاقِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لم يَتَرَافَعَا
لِأَنَّ الْعَقْدَ قد بَطَلَ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَبِالْخُلْعِ لِأَنَّهُ
يَدِينُ بِذَلِكَ فَكَانَ إقْرَارُهُ على قِيَامِهِ عليها إقْرَارًا على الزِّنَا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً على أَنْ لَا مَهْرَ لها وَذَلِكَ في
دِينِهِمْ جَائِزٌ صَحَّ ذلك وَلَا شَيْءِ لها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ
دخل بها أو لم يَدْخُلْ بها طَلَّقَهَا أو مَاتَ عنها أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ
أَحَدُهُمَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لها مَهْرُ مِثْلِهَا ثُمَّ إنْ طَلَّقَهَا
بَعْدَ الدُّخُولِ أو بَعْدَ الْخَلْوَةِ بها أو مَاتَ عنها تَأَكَّدَ ذلك وَإِنْ
طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها أو قبل الْخَلْوَةِ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ
وَلَهَا الْمُتْعَةُ كَالْمُسْلِمَةِ وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً في
دَارِ الْحَرْبِ على أَنْ لَا مَهْرَ لها جَازَ ذلك وَلَا شَيْءَ لها في
قَوْلِهِمْ جميعا وَالْكَلَامُ في الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في
الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُمَا يَقُولَانِ إنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قد
لَزِمَ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ لِالْتِزَامِهِمَا أَحْكَامَنَا وَمِنْ
أَحْكَامِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ من غَيْرِ مَالٍ بِخِلَافِ
الْحَرْبِيَّيْنِ لِأَنَّهُمَا ما الْتَزَمَا أَحْكَامَنَا وأبو حَنِيفَةَ يقول
إنَّ في دِيَانَتِهِمْ جَوَازَ النِّكَاحِ بِلَا مَهْرٍ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ
نَتْرُكَهُمْ وما يَدِينُونَ إلَّا فِيمَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ في عُقُودِهِمْ
كَالرِّبَا وَهَذَا لم يَقَعْ الِاسْتِثْنَاءُ عنه فَلَا نَتَعَرَّضُ لهم
وَيَكُونُ جَائِزًا في حَقِّهِمْ في حُكْمِ الْإِسْلَامِ كما يَجُوزُ لهم في
حُكْمِ الْإِسْلَامِ تَمَلُّكُ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَتَمْلِيكُهَا
هذا إذَا تَزَوَّجَهَا وَبَقِيَ الْمَهْرُ فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا وَسَكَتَ عن
تَسْمِيَتِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا فَلَهَا مَهْرُ
الْمِثْلِ في ظَاهِرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ فإنه ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّ
الذِّمِّيَّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِمَيْتَةٍ أو دَمٍ أو بِغَيْرِ شَيْءٍ
أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا
فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أو بِغَيْرِ شَيْءٍ يُشْعِرُ بِالسُّكُوتِ عن التَّسْمِيَةِ لا
بِالنَّفْيِ فَيَدُلُّ على وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ حَالَ السُّكُوتِ عن
التَّسْمِيَةِ فَفَرَّقَ أبو حَنِيفَةَ بين السُّكُوتِ وَبَيْنَ النَّفْيِ
وَحُكِيَ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ قال قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
____________________
(2/312)
لَا
فَرْقَ بين حَالَةِ السُّكُوتِ وَبَيْنَ النَّفْيِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا
جَازَ النِّكَاحُ في دِيَانَتِهِمْ بِمَهْرٍ وَبِغَيْرِ مَهْرٍ لم يَكُنْ في
نَفْسِ الْعَقْدِ ما يَدُلُّ على الْتِزَامِ الْمَهْرِ فَلَا بُدَّ لِوُجُوبِهِ من
دَلِيلٍ وهو التَّسْمِيَةُ ولم تُوجَدْ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ نِكَاحِ
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ له بِدُونِ الْمَهْرِ فَكَانَ ذلك الْعَقْدُ
الْتِزَامًا لِلْمَهْرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين السُّكُوتِ وَبَيْنَ النَّفْيِ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
أَنَّهُ لَمَّا سَكَتَ عن تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لم تُعْرَفْ دِيَانَتُهُ
النِّكَاحَ بِلَا مَهْرٍ فَيُجْعَلْ إقْدَامُهُ على النِّكَاحِ إلتزاما لِلْمَهْرِ
كما في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وإذا نَفَى الْمَهْرَ نَصًّا دَلَّ أَنَّهُ يَدِينُ
النِّكَاحَ وَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا بِلَا مَهْرٍ فَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ نِكَاحِ
أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُتْرَكُ وما يَدِينُهُ فَهُوَ الْفَرْقُ ثُمَّ ما
صَلُحَ مَهْرًا في نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ فإنه يَصْلُحُ مَهْرًا في نِكَاحِ
أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُنَا عليه كان
نِكَاحُهُمْ عليه أَجْوَزَ وما لَا يَصْلُحُ مَهْرًا في نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ
لَا يَصْلُحُ مَهْرًا في نِكَاحِهِمْ أَيْضًا إلَّا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ
لِأَنَّ ذلك مَالٌ مُتَقَوِّمٌ في حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْخَلِّ في
حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا في حَقِّهِمْ في حُكْمِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً على خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ ثُمَّ
أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كان الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ
بِعَيْنِهِ ولم يُقْبَضْ فَلَيْسَ لها إلَّا الْعَيْنُ وَإِنْ كان بِغَيْرِ
عَيْنِهِ بِأَنْ كان في الذِّمَّةِ فَلَهَا في الْخَمْرِ الْقِيمَةُ وفي
الْخِنْزِيرِ مَهْرُ مِثْلِهَا وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ لها
مَهْرُ مِثْلِهَا سَوَاءٌ كان بِعَيْنِهِ أو بِغَيْرِ عَيْنِهِ وقال مُحَمَّدٌ لها
الْقِيمَةُ سَوَاءٌ كان بِعَيْنِهِ أو بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ
الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ إذَا كان دَيْنًا في الذِّمَّةِ ليس لها غَيْرُ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لها الْعَيْنُ أَنَّ
الْمِلْكَ في الْعَيْنِ وَإِنْ ثَبَتَ لها قبل الْإِسْلَامِ لَكِنْ في الْقَبْضِ مَعْنَى
التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ لِأَنَّ مِلْكَهَا قبل الْقَبْضِ
وَاهٍ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ عِنْدَ الزَّوْجِ كان
الْهَلَاكُ عليه وَكَذَا لو تَعَيَّبَ وَبَعْدَ الْقَبْضِ كان ذلك كُلَّهُ عليها
فَثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ فَكَانَ الْقَبْضُ
مؤكد ( ( ( مؤكدا ) ) ) لِلْمِلْكِ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فَكَانَ
الْقَبْضُ تَمْلِيكًا من وَجْهٍ وَالْمُسْلِمُ مَنْهِيٌّ عن ذلك وَلِهَذَا لو
اشْتَرَى ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا
قبل الْقَبْضِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ
تَمْلِكُ الْمَهْرَ قبل الْقَبْضِ مِلْكًا تَامًّا إذْ الْمِلْكُ نَوْعَانِ مِلْكُ
رَقَبَةٍ وَمِلْكُ يَدٍ وهو مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ
ثَابِتٌ لها قبل الْقَبْضِ وَكَذَلِكَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ
التَّصَرُّفَ في الْمَهْرِ قبل الْقَبْضِ من كل وَجْهٍ فلم يَبْقَ إلَّا صُورَةُ
الْقَبْض وَالْمُسْلِمُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عن صُورَةِ قَبْضِ الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ وَإِقْبَاضُهُمَا كما إذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ من مُسْلِمٍ خَمْرًا
أَنَّ الْغَاصِبَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالتَّسْلِيمِ وَالْمَغْصُوبَ منه يَكُونُ
مَأْذُونًا له في الْقَبْضِ وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا غُصِبَ منه الْخَمْرُ ثُمَّ
أَسْلَمَ وَكَمُسْلِمٍ أَوْدَعَهُ الذِّمِّيُّ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ
أَنَّ له أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْرَ من الْمُودِعِ يَبْقَى هذا الْقَدْرُ وهو
أَنَّهُ دخل الْمَهْرُ في ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ لَكِنْ هذا لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ
مِلْكٍ لها لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِلْكَهَا تَامٌّ قبل الْقَبْضِ مع ما أَنَّ
دُخُولَهُ في ضَمَانِهَا أَمْرٌ عليها فَكَيْفَ يَكُونُ مِلْكًا لها بِخِلَافِ
الْمَبِيعِ فإن مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ كان ثَابِتًا قبل الْقَبْضِ فَمِلْكُ
التَّصَرُّفِ لم يَثْبُتْ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَفِيهِ مَعْنَى
التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ من ذلك هذا إذَا كَانَا
عَيْنَيْنِ فَإِنْ كَانَا دَيْنَيْنِ فَلَيْسَ لها إلَّا الْعَيْنُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الْمِلْكَ في هذه الْعَيْنِ التي تَأْخُذُهَا ما كان ثَابِتًا لها
بِالْعَقْدِ بَلْ كان ثَابِتًا في الدَّيْنِ في الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ
الْمِلْكُ في هذا الْمُعَيَّنِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ تَمَلُّكٌ من وَجْهٍ
وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ من ذلك
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُف أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمَّا مَنْعَ الْقَبْضَ وَالْقَبْضُ
حُكْمُ الْعَقْدِ جُعِلَ كَأَنَّ الْمَنْعَ كان ثَابِتًا وَقْتَ الْعَقْدِ
فَيُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كما لو كَانَا عِنْدَ الْعَقْدِ مُسْلِمَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا وَالتَّسْمِيَةُ في
الْعَقْدِ قد صَحَّتْ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ
لِمَا في التَّسْلِيمِ من التَّمْلِيكِ من وَجْهٍ على ما بَيَّنَّا وَالْمُسْلِمُ
مَمْنُوعٌ من ذلك فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ كما لهو هَلَكَ الْمُسَمَّى قبل الْقَبْضِ
وأبو حَنِيفَةَ يُوجِبُ الْقِيمَةَ في الْخَمْرِ لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وهو
الْقِيَاسُ في الْخِنْزِيرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ في الْخِنْزِيرِ
أَيْضًا وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ حَيَوَانٌ وَمَنْ
تَزَوَّجَ امْرَأَةً على حَيَوَانٍ في الذِّمَّةِ يُخَيَّرُ بين تَسْلِيمِهِ
وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَةِ الْوَسَطِ منه بَلْ الْقِيمَةُ هِيَ الْأَصْلُ في
التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْوَسَطَ يُعْرَفُ بها على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
فَكَانَ إيفَاءُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حُكْمَ إيفَاءِ
الْخِنْزِيرِ من وَجْهٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيفَاءِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
فَلَا سَبِيلَ إلَى إيفَاءِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِأَنَّ قِيمَتَهَا لم
تَكُنْ وَاجِبَةً قبل الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لوجاء الزَّوْجُ بِالْقِيمَةِ لَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ على
الْقَبُولِ فلم يَكُنْ لِبَقَائِهَا حُكْمُ بَقَاءِ الْخَمْرِ من وَجْهٍ لِذَلِكَ
افْتَرَقَا هذا كُلُّهُ إذَا لم يَكُنْ الْمَهْرُ مَقْبُوضًا قبل الْإِسْلَامِ
فَإِنْ كان مَقْبُوضًا فَلَا شَيْءَ
____________________
(2/313)
لِلْمَرْأَةِ
لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَقْبُوضٌ يُلَاقِيهِ بِالْعَفْوِ
لِأَنَّ الْمِلْكَ قد ثَبَتَ على سَبِيلِ الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ في
حَالِ الْكُفْرِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ وَإِنَّمَا يُوجَدُ
دَوَامُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِيهِ كَمُسْلِمٍ تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ
أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ فيها وَكَمَا في نُزُولِ تَحْرِيمِ
الرِّبَا
وروى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا دخل مَكَّةَ أَبْطَلَ من الرِّبَا ما لم
يُقْبَضْ ولم يَتَعَرَّضْ لِمَا قُبِضَ بِالْفَسْخِ وهو أَحَدُ تَأْوِيلَاتِ
قَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما
بَقِيَ من الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِتَرْكِ ما
بَقِيَ من الرِّبَا وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ ما بَقِيَ من الرِّبَا هو النَّهْيُ عن
قَبْضِهِ وَاَللَّهُ عزوجل الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على مَيْتَةٍ أو دَمٍ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّ لها مَهْرَ
مِثْلِهَا وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لها منهم
وَوَفَّقَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَحَمَلَ ما ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ على
الذِّمِّيِّينَ
وما ذَكَرَهُ في الْجَامِعِ على الْحَرْبِيِّينَ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ في
الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا
تَزَوَّجَهَا على الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فلم يَرْضَ بِاسْتِحْقَاقِ بُضْعِهَا
إلَّا بِبَدَلٍ وقد تَعَذَّرَ اسْتِحْقَاقُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ في
حَقِّ أَحَدٍ فَكَانَ لها مَهْرُ الْمِثْلِ كَالْمُسْلِمَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أنها لَمَّا رَضِيَتْ بِالْمَيْتَةِ مع
أنها لَيْسَتْ بِمَالٍ كان ذلك منها دَلَالَةَ الرِّضَا بِاسْتِحْقَاقِ بُضْعِهَا
بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا كما إذَا تَزَوَّجَهَا على أَنْ لَا مَهْرَ لها
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ ثُمَّ كُلُّ عَقْدٍ إذَا عَقَدَهُ الذِّمِّيُّ كان فَاسِدًا فإذا عَقَدَهُ
الْحَرْبِيُّ كان فَاسِدًا أَيْضًا لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُفْسِدَ لَا يُوجِبُ
الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وهو ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ تَزَوَّجَ
كَافِرٌ بِخَمْسِ نِسْوَةٍ أو بِأُخْتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنْ كان
تَزَوَّجَهُنَّ في عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَإِنْ كان
تَزَوَّجَهُنَّ في عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ صَحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ وَبَطَلَ
نِكَاحُ الْخَامِسَةِ وَكَذَا في الْأُخْتَيْنِ يَصِحُّ نِكَاحُ الْأُولَى
وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال
مُحَمَّدٌ يَخْتَارُ من الْخَمْسِ أَرْبَعًا وَمِنْ الْأُخْتَيْنِ وَاحِدَةً
سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ في عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أو في عَقَدٍ اسْتِحْسَانًا وَبِهِ
أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ
وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَمَرَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ
يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ
وَرُوِيَ أَنَّ قَيْسَ بن الْحَارِثِ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانُ نِسْوَةٍ
فَأَمَرَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ
أَرْبَعًا
وروى أَنَّ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَخَيَّرَهُ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَسْتَفْسِرْ أَنَّ نِكَاحَهُنَّ كان
دَفْعَةً وَاحِدَةً أو على التَّرْتِيبِ وَلَوْ كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ
لَاسْتَفْسَرَ فَدَلَّ أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فيه هو التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَمْعَ مُحَرَّمٌ على الْمُسْلِمِ
وَالْكَافِرِ جميعا لِأَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ وهو خَوْفُ
الْجَوْرِ في إيفَاءِ حُقُوقِهِنَّ وَالْإِفْضَاءِ إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ على ما
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين
الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مع
قِيَامِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ ذلك دِيَانَتُهُمْ وهو غَيْرُ مُسْتَثْنًى من
عُهُودِهِمْ وقد نُهِينَا عن التَّعَرُّضِ لهم عن مِثْلِهِ بَعْدَ إعْطَاءِ
الذِّمَّةِ وَلَيْسَ لنا وِلَايَةُ التَّعَرُّضِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فإذا أَسْلَمَ
فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَلَا يُمْكِنُ من اسْتِيفَاءِ الْجَمْعِ بَعْدَ
الْإِسْلَامِ فإذا كان تَزَوَّجَ الْخَمْسَ في عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ حَصَلَ
نِكَاحُ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جميعا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُنَّ بِأَوْلَى من
الْأُخْرَى وَالْجَمْعُ مُحَرَّمٌ وقد زَالَ الْمَانِعُ من التَّعَرُّضِ فَلَا
بُدَّ من الِاعْتِرَاضِ بِالتَّفْرِيقِ
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ في عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ نِكَاحَ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جُعِلَ جَمْعًا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى من
الْأُخْرَى وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ من ذلك وَلَا مَانِعَ من التَّفْرِيقِ
فَيُفَرَّقُ فَأَمَّا إذَا كان تَزَوَّجَهُنَّ على التَّرْتِيبِ في عَقَدٍ
مُتَفَرِّقَةٍ فَنِكَاحُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَقَعَ صَحِيحًا لِأَنَّ الْحُرَّ
يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ مُسْلِمًا كان أو كَافِرًا ولم يَصِحَّ
نِكَاحُ الْخَامِسَةِ لِحُصُولِهِ جَمْعًا فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ
الْإِسْلَامِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ في عَقْدَتَيْنِ فَنِكَاحُ الْأُولَى
وَقَعَ صَحِيحًا إذْ لَا مَانِعَ من الصِّحَّةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ
لِحُصُولِهِ جَمْعًا فَلَا بُدَّ من التَّفْرِيقِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَفِيهَا إثْبَاتُ الِاخْتِيَارِ لِلزَّوْجِ الْمُسْلِمِ
لَكِنْ ليس فيها أَنَّ له أَنْ يَخْتَارَ ذلك بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أو
بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَثْبَتَ له الِاخْتِيَارَ لِتَجَدُّدِ
الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَثْبَتَ له الِاخْتِيَارَ
لِيُمْسِكَهُنَّ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
مع ما أَنَّهُ قد روى أَنَّ ذلك قبل تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فإنه روى في الْخَبَرِ
أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وقد كان تَزَوَّجَ في الْجَاهِلِيَّةِ
وَرُوِيَ عن مَكْحُولٍ أَنَّهُ قال كان ذلك قبل نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَتَحْرِيمُ
الْجَمْعِ ثَبَتَ بِسُورَةِ النِّسَاءِ الْكُبْرَى وَهِيَ
____________________
(2/314)
مَدَنِيَّةٌ
وروى أَنَّ فَيْرُوزَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال له
إنَّ تَحْتِيَ أُخْتَيْنِ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ارْجِعْ
فَطَلِّقْ إحْدَاهُمَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَكُونُ في
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا في الْأَصْلِ
فَدَلَّ أَنَّهُ كان قبل تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَلَا كَلَامَ فيه
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثُمَّ
سبى هو وَسُبِينَ معه أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُفَرَّقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُلِّ سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ في عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أو في
عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ وَقَعَ صَحِيحًا لِأَنَّهُ كان
حُرًّا وَقْتَ النِّكَاحِ وَالْحُرُّ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ
مُسْلِمًا كان أو كَافِرًا إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ بَعْدَ
الِاسْتِرْقَاقِ لِحُصُولِ الْجَمْعِ من الْعَبْدِ في حَالِ الْبَقَاءِ بين
أَكْثَرَ من اثْنَتَيْنِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فَيَقَعُ
جَمْعًا بين الْكُلِّ فَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُلِّ وَلَا يُخَيَّرُ فيه
كما إذَا تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ بَطَلَ
نِكَاحُهُمَا وَلَا يُخَيَّرُ
كَذَا هذا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُخَيَّرُ فيه فَيَخْتَارُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ كما
يُخَيَّرُ الْحُرُّ في أَرْبَعِ نِسْوَةٍ من نِسَائِهِ وَلَوْ كان الْحَرْبِيُّ
تَزَوَّجَ أُمًّا وَبِنْتًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنْ كان تَزَوَّجَهُمَا في عَقْدَةٍ
وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ وَإِنْ كان تَزَوَّجَهُمَا مُتَفَرِّقًا
فَنِكَاحُ الْأُولَى جَائِزٌ وَنِكَاحُ الْأُخْرَى بَاطِلٌ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كما قَالَا في الْجَمْعِ بين الْخَمْسِ وَالْجَمْعِ بين
الْأُخْتَيْنِ
وقال مُحَمَّدٌ نِكَاحُ الْبِنْتِ هو الْجَائِزُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُمَا في
عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أو في عَقْدَتَيْنِ وَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ لِأَنَّ
مُجَرَّدَ عَقْدِ الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ دخل
بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَوْ أَنَّهُ كان دخل بِهِمَا جميعا فَنِكَاحُهُمَا جميعا
بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدُّخُولِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ
سَوَاءٌ دخل بِالْأُمِّ أو بِالْبِنْتِ وَلَوْ لم يَدْخُلْ بِالْأُولَى وَلَكِنْ
دخل بِالثَّانِيَةِ فَإِنْ كانت الْأُولَى بِنْتًا وَالثَّانِيَةُ أُمًّا
فَنِكَاحُهُمَا جميعا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ نِكَاحَ الْبِنْتِ يُحَرِّمُ
الْأُمَّ وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ وَلَوْ كان دخل بِإِحْدَاهُمَا
فَإِنْ كان دخل بِالْأُولَى ثُمَّ تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ فَنِكَاحُ الْأُولَى
جَائِزٌ وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْأُمَّ أَوَّلًا ولم يَدْخُلْ بها ثُمَّ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ
وَدَخَلَ بها فَنِكَاحُهُمَا جميعا بَاطِلٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ له أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ وَلَا يَحِلُّ له
أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُمِّ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِكَاحُ الْبِنْتِ هو الْجَائِزُ
وقد دخل بها وَهِيَ امْرَأَتُهُ وَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ اللُّزُومِ فَنَوْعَانِ في الْأَصْلِ نَوْعٌ هو شَرْطُ
وُقُوعِ النِّكَاحِ لَازِمًا وَنَوْعٌ هو شَرْطُ بَقَائِهِ على اللُّزُومِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونُ الْوَلِيُّ في إنْكَاحِ
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ هو الْأَبُ أو ( ( ( والجد ) ) ) الجد فَإِنْ كان غير
الْأَبِ وَالْجَدِّ من الْأَوْلِيَاءِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يَلْزَمُ
النِّكَاحُ حتى يَثْبُتَ لَهُمَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهَذَا قَوْلُ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَلْزَمُ نِكَاحُ غَيْرِ الْأَبِ
وَالْجَدِّ من الْأَوْلِيَاءِ حتى لَا يَثْبُتَ لَهُمَا الْخِيَارُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن هذا النِّكَاحَ صَدَرَ من وَلِيٍّ فَيَلْزَمُ كما
إذَا صَدَرَ عن الْأَبِ وَالْجَدِّ وَهَذَا لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ
وِلَايَةُ نَظَرٍ في حَقِّ الْمُولَى عليه فَيَدُلُّ ثُبُوتُهَا على حُصُولِ
النَّظَرِ وَهَذَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ لو ثَبَتَ
إنَّمَا يَثْبُتُ لِنَفْيِ الضَّرَرِ وَلَا ضَرَرَ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ
وَلِهَذَا لم يَثْبُتْ في نِكَاحِ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَذَا هذا
وَلَهُمَا ما رُوِيَ أَنَّ قُدَامَةَ بن مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ
عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ من عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَخَيَّرَهَا
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ الْبُلُوغِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا حتى
رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قال إنَّهَا اُنْتُزِعَتْ مِنِّي بعدما مَلَكْتُهَا
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْقَرَابَةِ إنْ كان يَدُلُّ على
أَصْلِ النَّظَرِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا على أَصْلِ الشَّفَقَةِ فَقُصُورُهَا
يَدُلُّ على قُصُورِ النَّظَرِ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ بِسَبَبِ بُعْدِ
الْقَرَابَةِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَصْلِ الْقَرَابَةِ بِإِثْبَاتِ أَصْلِ
الْوِلَايَةِ وَاعْتِبَارُ الْقُصُورِ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ تَكْمِيلًا
لِلنَّظَرِ وَتَوْفِيرًا في حَقِّ الصَّغِيرِ بِتَلَافِي التَّقْصِيرِ لو وَقَعَ
وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّقْصِيرُ في إنْكَاحِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِوُفُورِ
شَفَقَتِهِمَا لِذَلِكَ لَزِمَ إنْكَاحُهُمَا ولم يَلْزَمْ إنْكَاحُ الْأَخِ
وَالْعَمِّ على أَنَّ الْقِيَاسَ في إنْكَاحِ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ لَا
يَلْزَمَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا في ذلك لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
وَبَلَغَتْ لم يُعْلِمْهَا بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ
ثَابِتًا لها وَذَلِكَ حَقُّهَا لا علمها بِهِ وَهَلْ يَلْزَمُ إذَا زَوَّجَهَا
الْحَاكِمُ ذُكِرَ في الْأَصْلِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فإنه قال
إذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَهَا الْخِيَارُ وَالْحَاكِمُ
غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ هَكَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ لها الْخِيَارَ
وَرَوَى خَالِدُ بن صَبِيحٍ الْمَرْوَزِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ
لها
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ أَعَمُّ من وِلَايَةِ الْأَخِ
وَالْعَمِّ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في النَّفْسِ وَالْمَالِ جميعا
فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَبِيهَةً بِوِلَايَةِ
____________________
(2/315)
الْأَبِ
وَالْجَدِّ وَوِلَايَتُهُمَا مُلْزِمَةٌ كَذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَاكِمِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَخِ وَالْعَمِّ أَقْوَى من
وِلَايَةِ الْحَاكِمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا يَتَقَدَّمَانِ عليه حتى لَا يُزَوِّجَ
الْحَاكِمُ مع وُجُودِهِمَا ثُمَّ وِلَايَتُهُمَا غَيْرُ مُلْزِمَةٍ فَوِلَايَةُ
الْحَاكِمِ أَوْلَى
وإذا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو اخْتِيَارُ النِّكَاحِ أو
الْفُرْقَةِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ بَعْدَ هذا في مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا في
بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ
الْخِيَارُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْخِيَارُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا
قَبْلَهُ حتى لو رَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ قبل الْبُلُوغِ لَا يُعْتَبَرُ وَيَثْبُتُ
الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الرِّضَا تَثْبُتُ بَعْدَ
الْبُلُوغِ لَا قَبْلَهُ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا قَبْلَهُ
وَأَمَّا الثَّانِي فما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ صَرِيحُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ نحو أَنْ تَقُولَ رَضِيتُ
بِالنِّكَاحِ وَاخْتَرْتُ النِّكَاحَ أو أَجَزْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
فَيَبْطُلُ خِيَارُ الْفُرْقَةِ وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَحْوُ السُّكُوتِ من الْبِكْرِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ
لِأَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا
تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِكْرَ لِغَلَبَةِ حَيَائِهَا تَسْتَحِي عن إظْهَارِ الرِّضَا
بِالنِّكَاحِ
فَأَمَّا سُكُوتُ الثَّيِّبِ فَإِنْ كان وَطِئَهَا قبل الْبُلُوغِ فَبَلَغَتْ
وَهِيَ ثَيِّبٌ فَسَكَتَتْ عَقِيبَ الْبُلُوغِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ
لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِي عن إظْهَارِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ عَادَةً لِأَنَّ
بِالثِّيَابَةِ قَلَّ حَيَاؤُهَا فَلَا يَصِحُّ سُكُوتُهَا دَلِيلًا على الرِّضَا
بِالنِّكَاحِ فَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا إلَّا بِصَرِيحِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ أو
بِفِعْلٍ أو بِقَوْلٍ يَدُلُّ على الرِّضَا نحو التَّمْكِينِ من الْوَطْءِ
وَطَلَبِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذلك
وَكَذَا سُكُوتُ الْغُلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الْغُلَامَ لَا يَسْتَحِي
عن إظْهَارِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ إذْ ذَاكَ دَلِيلُ الرُّجُولِيَّةِ فَلَا
يَسْقُطُ خِيَارُهُ إلَّا بِنَصِّ كَلَامِهِ أو بِمَا يَدُلُّ على الرِّضَا
بِالنِّكَاحِ من الدُّخُولِ بها وَطَلَبُ التَّمَكُّنِ منها وَإِدْرَارُ
النَّفَقَةِ عليها وَنَحْوَ ذلك ثُمَّ الْعِلْمُ بِالنِّكَاحِ شَرْطُ بُطْلَانِ
الْخِيَارِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ حتى لو لم تَكُنْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ لَا
يَبْطُلُ الْخِيَارُ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لِوُجُودِ الرِّضَا منها
دَلَالَةً وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قبل الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ هو
اسْتِحْسَانُ الشَّيْءِ وَمَنْ لم يَعْلَمْ بِشَيْءٍ كَيْفَ يَسْتَحْسِنُهُ فإذا
كانت عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ وَوُجِدَ منها دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ بَطَلَ
خِيَارُهَا وَلَا يَمْتَدُّ هذا الْخِيَارُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ بَلْ يَبْطُلُ
بِالسُّكُوتِ من الْبِكْرِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ
لِأَنَّ التَّخْيِيرَ هُنَاكَ وُجِدَ من الْعَبْدِ وهو الزَّوْجُ أو الْمَوْلَى
أَمَّا في الزَّوْجِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا في الْمَوْلَى لِأَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ
بِالْعِتْقِ وَالْعِتْقُ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ وَالتَّخْيِيرُ من الْعَبْدِ تَمْلِيكٌ
فَيَقْتَضِي جَوَابًا في الْمَجْلِسِ فَيَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ
كَخِيَارِ الْقَبُولِ في الْبَيْعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ ما
ثَبَتَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ بَلْ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ فلم يَكُنْ تَمْلِيكًا
فَلَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ لم تَكُنْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ
فَلَهَا الْخِيَارُ حين تَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ
ثُمَّ خِيَارُ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَخِيَارُ الْعِتْقِ
لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِقُصُورِ
الْوِلَايَةِ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَخِيَارُ
الْعِتْقِ ثَبَتَ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عليها بِالْعِتْقِ وَذَا يَخْتَصُّ بها
وَكَذَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إذَا كانت الْأُنْثَى
ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الْعِتْقِ
وَالْمُخَيَّرَةُ يَبْطُلُ وَالْفَرْقُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا من خِيَارِ
الْبِكْرِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ
يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ وَالثَّانِي لَا يَبْطُلُ
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْجَهْلُ بِهِ ليس بِعُذْرٍ
لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ فَيُمْكِنُ الْوُصُولُ
إلَيْهَا بِالتَّعَلُّمِ فَكَانَ الْجَهْلُ بِالْخِيَارِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ
فَلَا يُعْتَبَرُ وَلِهَذَا لَا يُعْذَرُ الْعَوَامُّ في دَارِ الْإِسْلَامِ
بِجَهْلِهِمْ بِالشَّرَائِعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ فإن الْعِلْمَ
بِالْخِيَارِ هُنَاكَ شَرْطٌ وَالْجَهْلَ بِهِ عُذْرٌ
وَإِنْ كان دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ
لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهَا ليس من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ بِوَاسِطَةِ
التَّعَلُّمِ وَالْأَمَةُ لَا تَتَمَكَّنُ من التَّعَلُّمِ لِأَنَّهَا لَا
تَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ لِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ مَوْلَاهَا بِخِلَافِ الْحُرَّةِ
ثُمَّ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفُرْقَةَ فَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَثْبُتُ
إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ فإن الْمُعْتَقَةَ إذَا
اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ هَهُنَا ثَابِتٌ وَحُكْمُهُ نَافِذٌ
وَإِنَّمَا الْغَائِبُ وَصْفُ الْكَمَالِ وهو صِفَةُ اللُّزُومِ فَكَانَ الْفَسْخُ
من أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَفْعَ الْأَصْلِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ وَفَوَاتُ
الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ الْأَصْلِ لِمَا فيه من جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا
لِلْوَصْفِ وَلَيْسَ له هذه الْوِلَايَةُ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى ذلك فَلَا بُدَّ من
رَفْعِهِ إلَى من له الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وهو الْقَاضِي لِيَرْفَعَ
النِّكَاحَ دَفْعًا لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ الذي بَلَغَ وَنَظَرًا له بِخِلَافِ
خِيَارِ العتق ( ( ( المعتق ) ) ) لِأَنَّ الْمِلْكَ ازْدَادَ عليها بِالْعِتْقِ وَلَهَا
أَنْ لَا تَرْضَى بِالزِّيَادَةِ فَكَانَ لها أَنْ تَدْفَعَ الزِّيَادَةَ وَلَا
يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا
____________________
(2/316)
بِانْدِفَاعِ
ما كان ثَابِتًا فَيَنْدَفِعُ الثَّابِتُ ضَرُورَةَ دَفْعِ الزِّيَادَةِ وَهَذَا
يُمْكِنُ إذْ ليس بَعْضُ الْمِلْكِ تَابِعًا لِبَعْضٍ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ
إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قبل
الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ يَثْبُتُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي
وَالثَّانِي لَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ
الْقَاضِي وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ ابْنَ أَخِيهِ فَلَا خِيَارَ لها بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
النِّكَاحَ صَدَرَ عن الْأَبِ وَأَمَّا ابن الْأَخِ فَلَهُ الْخِيَارُ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِصُدُورِ النِّكَاحِ عن الْعَمِّ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا خِيَارَ له وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَلَهَا خِيَارُ
الْبُلُوغِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَلَاءِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ فلما
ثَبَتَ الْخِيَارُ ثَمَّةَ فَلَأَنْ يَثْبُتَ هَهُنَا أَوْلَى وَلَوْ زَوَّجَهَا
ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَلَهَا إذَا بَلَغَتْ خِيَارُ الْعِتْقِ لَا
خِيَارَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَادَفَهَا وَهِيَ رَقِيقَةٌ
فَصْلٌ وَمِنْهَا كَفَاءَةُ الزَّوْجِ في إنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ
الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ نَفْسَهَا من غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ بِمَهْرِ
مِثْلِهَا فَيَقَعُ الْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ
أَحَدِهَا في بَيَانِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ في بَابِ النِّكَاحِ هل هِيَ شَرْطُ
لُزُومِ النِّكَاحِ في الْجُمْلَةِ أَمْ لَا وَالثَّانِي في بَيَانِ النِّكَاحِ
الذي الْكَفَاءَةُ من شَرْطِ لُزُومِهِ وَالثَّالِثِ في بَيَانِ ما تُعْتَبَرُ فيه
الْكَفَاءَةُ وَالرَّابِعِ في بَيَانِ من يُعْتَبَرُ له الْكَفَاءَةُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنها شَرْطٌ وقال
الْكَرْخِيُّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا
طَيْبَةَ خَطَبَ إلَى بَنِي بَيَاضَةَ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فقال رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْكِحُوا أَبَا طَيْبَةَ إنْ لَا تَفْعَلُوا
تَكُنْ فِتْنَةٌ في الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
وروى أَنَّ بِلَالًا رضي اللَّهُ عنه خَطَبَ إلَى قَوْمٍ من الْأَنْصَارِ
فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قُلْ لهم
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَزَوَّجُونِي
أَمَرَهُمْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ
الْكَفَاءَةِ وَلَوْ كانت مُعْتَبَرَةً لَمَا أَمَرَ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ من
غَيْرِ كُفْءٍ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم ليس لَعَرَبِيٍّ
على عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لو
كانت مُعْتَبَرَةً في الشَّرْعِ كان ( ( ( لكان ) ) ) أَوْلَى الْأَبْوَابِ
بِالِاعْتِبَارِ بها بَابُ الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فيه ما لَا يُحْتَاطُ
في سَائِرِ الْأَبْوَابِ وَمَعَ هذا لم يُعْتَبَرْ حتى يُقْتَلَ الشَّرِيفُ
بِالْوَضِيعِ فَهَهُنَا أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عليه أنها لم تُعْتَبَرْ في جَانِبِ
الْمَرْأَةِ فَكَذَا في جَانِبِ الزَّوْجِ
وَلَنَا ما روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُزَوِّجُ
النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا من الْأَكْفَاءِ وَلَا
مَهْرَ أَقَلَّ من عشر دَرَاهِمَ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ تَخْتَلُّ عِنْدَ
عَدَمِ الْكَفَاءَةِ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ
وَالْمَرْأَةُ تَسْتَنْكِفُ عن اسْتِفْرَاشِ غَيْرِ الْكُفْءِ وَتُعَيَّرُ
بِذَلِكَ فَتَخْتَلُّ الْمَصَالِحُ وَلِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا
مُبَاسَطَاتٌ في النِّكَاحِ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ بِدُونِ تَحَمُّلِهَا عَادَةً
وَالتَّحَمُّلُ من غَيْرِ الْكُفْءِ أَمْرٌ صَعْبٌ يَثْقُلُ على الطِّبَاعِ
السَّلِيمَةِ فَلَا يَدُومُ النِّكَاحُ مع عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَزِمَ
اعْتِبَارُهَا
وَلَا حُجَّةَ لهم في الْحَدِيثَيْنِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّزْوِيجِ يَحْتَمِلُ
أَنَّهُ كان نَدْبًا لهم إلَى الْأَفْضَلِ وهو اخْتِيَارُ الدِّينِ وَتَرْكُ
الْكَفَاءَةِ فِيمَا سِوَاهُ وَالِاقْتِصَارُ عليه وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ
الِامْتِنَاعِ وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ اعْتِبَارُ الدِّينِ وَالِاقْتِصَارُ عليه
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كان أَمْرَ إيجَابٍ أَمَرَهُمْ بِالتَّزْوِيجِ مِنْهُمَا مع
عَدَمِ الْكَفَاءَةِ تَخْصِيصًا لهم بِذَلِكَ كما خَصَّ أَبَا طَيْبَةَ
بِالتَّمْكِينِ من شُرْبِ دَمِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَصَّ خُزَيْمَةَ
بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ وَنَحْوَ ذلك وَلَا شَرِكَةَ في مَوْضِعِ
الْخُصُوصِيَّةِ حَمَلْنَا الْحَدِيثَيْنِ على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين
الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ إذْ لَا
يُمْكِنُ حَمْلُهُ على أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِظُهُورِ فَضْلِ الْعَرَبِيِّ على
الْعَجَمِيِّ في كَثِيرٍ من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَيُحْمَلُ على أَحْكَامِ
الْآخِرَةِ وَبِهِ نَقُولُ وَالْقِيَاسُ على الْقِصَاصِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ شُرِعَ لَمَصْلَحَةِ الْحَيَاةِ وَاعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فيه
يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ هذه الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُ قَتْلَ
عَدُوِّهِ الذي لَا يُكَافِئُهُ فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ الْمَطْلُوبَةُ من
الْقِصَاصِ وفي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ في بَابِ النِّكَاحِ تَحْقِيقُ
الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ من النِّكَاحِ من الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا فَبَطَلَ
الِاعْتِبَارُ وَكَذَا الِاعْتِبَارُ بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا
لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَسْتَنْكِفُ عن اسْتِفْرَاشِ الْمَرْأَةِ الدَّنِيئَةِ
لِأَنَّ الِاسْتِنْكَافَ عن الْمُسْتَفْرِشِ لَا عن الْمُسْتَفْرِشِ وَالزَّوْجُ
مُسْتَفْرِشٌ فَيَسْتَفْرِشُ الوطىء ( ( ( الوطيء ) ) ) وَالْخَشِنَ
فَصْلٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَالنِّكَاحُ الذي الْكَفَاءَةُ فيه شَرْطُ لُزُومِهِ
هو إنْكَاحُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا من غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا يَلْزَمُ
____________________
(2/317)
حتى
لو زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ من غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا
يَلْزَمُ وَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّ في الْكَفَاءَةِ حَقًّا
لِلْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ
يَتَفَاخَرُونَ بِعُلُوِّ نَسَبِ الْخَتَنِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَةِ نَسَبِهِ
فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ فَكَانَ لهم أَنْ يَدْفَعُوا الضَّرَرَ عن أَنْفُسِهِمْ
بِالِاعْتِرَاضِ كَالْمُشْتَرِي إذَا بَاعَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ ثُمَّ جاء
الشَّفِيعُ كان له أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ
دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن نَفْسِهِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان التَّزْوِيجُ بِرِضَاهُمْ يَلْزَمُ حتى لَا يَكُونَ لهم حَقُّ
الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ من الْمَرْأَةِ تَصَرُّفٌ من الْأَهْلِ في
مَحَلٍّ هو خَالِصُ حَقِّهَا وهو نَفْسُهَا وَامْتِنَاعُ اللُّزُومِ كان
لِحَقِّهِمْ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَفَاءَةِ فإذا رَضُوا فَقَدْ أَسْقَطُوا حَقَّ
أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ من أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ
فَيَسْقُطُ
وَلَوْ رضي بِهِ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن حَقَّهُمْ في الْكَفَاءَةِ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا بين الْكُلِّ
فإذا رضي بِهِ أَحَدُهُمْ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ
الْبَاقِينَ كَالدَّيْنِ إذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ فَأَبْرَأَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ
حَقُّ الْبَاقِينَ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا وَلِأَنَّ رِضَا أَحَدِهِمْ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ من رِضَاهَا فَإِنْ
زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ
الْأَوْلِيَاءِ بِرِضَاهَا فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ برضى ( ( ( برضا ) ) )
أَحَدِهِمْ أَوْلَى
وَلَهُمَا أَنَّ هذا حَقٌّ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا
يَتَجَزَّأُ وهو الْقَرَابَةُ وأسقاط بَعْضِ ما لَا يَتَجَزَّأُ إسْقَاطٌ
لِكُلِّهِ لِأَنَّهُ لَا بَعْضَ له فإذا أُسْقِطَ وَاحِدٌ منهم لَا يُتَصَوَّرُ
بَقَاؤُهُ في حَقِّ الْبَاقِينَ كَالْقِصَاصِ إذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ فَعَفَا
أَحَدُهُمْ عنه أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ كَذَا هذا
وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ في الْكَفَاءَةِ ما ثَبَتَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ
وَالتَّزْوِيجُ من غَيْرِ كُفْءٍ وَقَعَ إضْرَارًا بِالْأَوْلِيَاءِ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ وهو ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ
أَحَدُهُمْ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَصْلَحَةٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ أَعْظَمُ من
مَصْلَحَةِ الْكَفَاءَةِ وَقَفَ هو عليها وَغَفَلَ عنها الْبَاقُونَ لَوْلَاهَا
لَمَا رضي وَهِيَ دَفْعُ ضَرَرِ الْوُقُوعِ في الزِّنَا على تَقْدِيرِ الْفَسْخِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحَقُّ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ فَنَقُولُ على
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ بَلْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ
كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ لِأَنَّ ما لَا يَتَجَزَّأُ لَا يُتَصَوَّرُ فيه
الشَّرِكَةُ كَحَقِّ الْقِصَاصِ وَالْأَمَانِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فإنه
يَتَجَزَّأُ فَتُتَصَوَّرُ فيه الشَّرِكَةُ وَبِخِلَافِ ما إذَا زَوَّجَتْ
نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ هُنَاكَ
الْحَقُّ مُتَعَدِّدٌ فَحَقُّهَا خِلَافُ جِنْسِ حَقِّهِمْ لِأَنَّ حَقَّهَا في
نَفْسِهَا وفي نَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا حَقَّ لهم في نَفْسِهَا وَلَا في نَفْسِ
الْعَقْدِ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ في دَفْعِ الشَّيْنِ عن أَنْفُسِهِمْ وإذا
اخْتَلَفَ جِنْسُ الْحَقِّ فَسُقُوطُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْآخَرِ
وَأَمَّا على الْوَجْهِ الثَّانِي فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ هذا الْحَقَّ ما ثَبَتَ
لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وفي إبْقَائِهِ لُزُومُ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ
فَسَقَطَ ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ لو زَوَّجُوهَا من غَيْرِ كُفْءٍ
بِرِضَاهَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ
الْأَوْلِيَاءِ من غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا من غَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ يَجُوزُ
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ بِنَاءً على أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ
وِلَايَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ وِلَايَةٌ
مُشْتَرَكَةٌ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَهَلْ
يَلْزَمُ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَلْزَمُ وقال أبو يُوسُفَ وَزُفَرُ
وَالشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَاءَةَ
حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ على الشَّرِكَةِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَسْقَطَ
حَقَّ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ صَاحِبِهِ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا حَقٌّ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا
يَتَجَزَّأُ وَمِثْلُ هذا الْحَقِّ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ يَثْبُتُ لِكُلِّ
وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ كَالْقِصَاصِ وَالْأَمَانِ
وَلِأَنَّ إقْدَامَهُ على النِّكَاحِ مع كَمَالِ الرَّأْيِ بِرِضَاهَا مع
الْتِزَامِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ بِالْقَبِيلَةِ وَبِنَفْسِهِ وهو ضَرَرُ عَدَمِ
الْكَفَاءَةِ بِلُحُوقِ الْعَارِ وَالشَّيْنِ دَلِيلُ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً في
الْبَاطِنِ وهو اشْتِمَالُهُ على دَفْعِ ضَرَرٍ أَعْظَمَ من ضَرَرِ عَدَمِ
الْكَفَاءَةِ وهو ضَرَرُ عَارِ الزِّنَا أو غَيْرِهِ لَوْلَاهُ لَمَا فُعِلَ
وَأَمَّا إنْكَاحُ الْأَبِ وَالْجَدِّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ فَالْكَفَاءَةُ
فيه لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلُزُومِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كما أنها لَيْسَتْ
بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ فَيَجُوزُ ذلك وَيَلْزَمُ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ له
كَمَالُ نَظَرٍ لِكَمَالِ الشَّفَقَةِ بِخِلَافِ إنْكَاحِ الْأَخِ وَالْعَمِّ من
غَيْرِ الْكُفْءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ على
ما بَيَّنَّا في شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَأَمَّا إنْكَاحُهُمَا من الْكُفْءِ
فَجَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَازِمٌ وَالْمَسْأَلَةُ قد
مَرَّتْ
فَصْلٌ وَأَمَّا الثَّالِثُ في بَيَانِ ما تُعْتَبَرُ فيه الْكَفَاءَةُ فما
تُعْتَبَرُ فيه الْكَفَاءَةُ أَشْيَاءُ منها النَّسَبُ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ
النبي
____________________
(2/318)
صلى
اللَّهُ عليه وسلم قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ
أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ حَيٌّ بِحَيٍّ وَقَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ
أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ وَالتَّعْيِيرَ
يَقَعَانِ بِالْأَنْسَابِ فَتُلْحَقُ النَّقِيصَةُ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ
فَتُعْتَبَرُ فيه الْكَفَاءَةُ فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ على
اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ حتى يَكُونَ الْقُرَشِيُّ الذي ليس بها شمي
كَالتَّيْمِيِّ وَالْأُمَوِيِّ وَالْعَدَوِيِّ وَنَحْوِ ذلك كفأ لِلْهَاشِمِيِّ
لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ
وَقُرَيْشٌ تَشْتَمِلُ على بَنِي هَاشِمٍ وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ
لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ وَلَا تَكُونُ الْعَرَبُ كفأ لِقُرَيْشٍ لِفَضِيلَةِ قُرَيْشٍ
على سَائِرِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّتْ الْإِمَامَةُ بِهِمْ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْأَئِمَّةُ من قُرَيْشٍ بِخِلَافِ الْقُرَشِيِّ
أَنَّهُ يَصْلُحُ كفأ لِلْهَاشِمِيِّ وَإِنْ كان لِلْهَاشِمِيِّ من الْفَضِيلَةِ
ما ليس لِلْقُرَشِيِّ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ
في بَابِ النِّكَاحِ عَرَفْنَا ذلك بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عنه ( ( ( عنهم ) ) ) فإنه روى أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم زَوَّجَ ابْنَتَهُ من عُثْمَانَ رضي
اللَّهُ عنه وكان أُمَوِيًّا لَا هَاشِمِيًّا وَزَوَّجَ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه
ابْنَتَهُ من عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه ولم يَكُنْ هَاشِمِيًّا بَلْ عَدَوِيًّا
فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ في قُرَيْشٍ لَا تَخْتَصُّ بِبَطْنٍ دُونَ بَطْنٍ
وَاسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ رضي اللَّهُ عنه بَيْتَ الْخِلَافَةِ فلم يَجْعَلْ
الْقُرَشِيَّ الذي ليس بِهَاشِمِيٍّ كفأ له وَلَا تَكُونُ الْمَوَالِي أَكْفَاءَ
لِلْعَرَبِ لِفَضْلِ الْعَرَبِ على الْعَجَمِ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ
لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ وَمَوَالِي الْعَرَبِ أَكْفَاءٌ لِمَوَالِي قُرَيْشٍ
لِعُمُومِ قَوْلِهِ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ
ثُمَّ مُفَاخَرَةُ الْعَجَمِ بِالْإِسْلَامِ لَا بِالنَّسَبِ وَمَنْ له أَبٌ
وَاحِدٌ في الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كفأ لِمَنْ له آبَاءٌ كَثِيرَةٌ في
الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِالْجَدِّ وَالزِّيَادَةُ على ذلك لَا
نِهَايَةَ لها وَقِيلَ هذا إذَا كان في مَوْضِعٍ قد طَالَ عَهْدُ الْإِسْلَامِ
وَامْتَدَّ فَأَمَّا إذَا كان في مَوْضِعٍ كان عَهْدُ الْإِسْلَامِ قَرِيبًا
بِحَيْثُ لَا يُعَيَّرُ بِذَلِكَ وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا يَكُونُ بَعْضُهُمْ كفأ
لِبَعْضِهِمْ لِأَنَّ التَّعْيِيرَ إذَا لم يُجْبَرْ بِذَلِكَ ولم يُعَدّ عَيْبًا
لم يَلْحَقْ الشَّيْنُ وَالنَّقِيصَةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ النَّقْصَ وَالشَّيْنَ بِالرِّقِّ فَوْقَ
النَّقْصِ وَالشَّيْنِ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ فَلَا يَكُونُ الْقِنُّ
وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ كفأ لِلْحُرَّةِ بِحَالٍ وَلَا يَكُونُ مولى
الْعَتَاقَةِ كفأ لِحُرَّةِ الْأَصْلِ وَيَكُونُ كفأ لِمِثْلِهِ
لِأَنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ بِالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّعْيِيرُ يَجْرِي
في الْحُرِّيَّةِ الْعَارِضَةِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْإِعْتَاقِ وَكَذَا من له
أَبٌ وَاحِدٌ في الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كفأ لِمَنْ له أَبَوَانِ فَصَاعِدًا في
الْحُرِّيَّةِ وَمَنْ له أَبَوَانِ في الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كفأ لِمَنْ له
أباء كَثِيرَةٌ في الْحُرِّيَّةِ كما في إسْلَامِ الْآبَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ
التَّعْرِيفِ بِالْأَبِ وَتَمَامُهُ بِالْجَدِّ وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ شَيْءٌ
وَكَذَا مولى الْوَضِيعِ لَا يَكُونُ كفأ لِمَوْلَاةِ الشَّرِيفِ حتى لَا يَكُونَ
مولى الْعَرَبِ كفأ لِمَوْلَاةِ بَنِي هَاشِمٍ حتى لو زَوَّجَتْ مَوْلَاةُ بَنِي
هَاشِمٍ نَفْسَهَا من مولى الْعَرَبِ كان لِمُعْتِقِهَا حَقُّ الِاعْتِرَاضِ
لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْمَالُ فَلَا يَكُونُ الْفَقِيرُ كفأ لِلْغَنِيَّةِ لِأَنَّ
التَّفَاخُرَ بِالْمَالِ أَكْثَرُ من التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً وَخُصُوصًا
في زَمَانِنَا هذا وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ تَعَلُّقًا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ
تَعَلُّقًا لَازِمًا فإنه لَا يَجُوزُ بِدُونِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةُ لَازِمَةٌ
وَلَا تَعَلُّقَ له بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ فلما اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ
ثَمَّةَ فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ هَهُنَا أَوْلَى وَالْمُعْتَبَرُ فيه الْقُدْرَةُ على
مَهْرِ مِثْلِهَا وَالنَّفَقَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ على ذلك حتى أَنَّ
الزَّوْجَ إذَا كان قَادِرًا على مَهْرِ مِثْلِهَا وَنَفَقَتِهَا يَكُونُ كفأ لها
وَإِنْ كان لَا يُسَاوِيهَا في الْمَالِ هَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
وَذُكِرَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ تَسَاوِيهِمَا في الغنا شَرْطُ
تَحَقُّقِ الْكَفَاءَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي
يُوسُفَ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ في الغنا عَادَةً وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ
لِأَنَّ الغنا لَا ثَبَاتَ له لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٍ فَلَا تُعْتَبَرُ
الْمُسَاوَاةُ في الغنا وَمَنْ لَا يَمْلِكُ مَهْرًا وَلَا نَفَقَةً لَا يَكُونُ
كفأ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضُ ما يُمْلَكُ بهذا الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ من
الْقُدْرَةِ عليه وَقِيَامُ الِازْدِوَاجِ بِالنَّفَقَةِ فَلَا بُدَّ من
الْقُدْرَةِ عليها وَلِأَنَّ من لَا قُدْرَةَ له على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ
يُسْتَحْقَرُ وَيُسْتَهَانُ في الْعَادَةِ كَمَنْ له نَسَبٌ دَنِيءٌ فَتَخْتَلُّ
بِهِ الْمَصَالِحُ كما تَخْتَلُّ عِنْدَ دَنَاءَةِ النَّسَبِ
وَقِيلَ الْمُرَادُ من الْمَهْرِ قَدْرُ الْمُعَجَّلِ عُرْفًا وَعَادَةً دُونَ ما
في الذِّمَّةِ لِأَنَّ ما في الذِّمَّةِ يُسَامَحُ فيه بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ
الْيَسَارِ فَلَا يَطْلُبُ بِهِ لِلْحَالِ عَادَةً وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٍ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ النَّفَقَةَ يَكُونُ كفأ وَإِنْ لم
يَمْلِكْ الْمَهْرَ
هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بن أبي
____________________
(2/319)
مَالِكٍ
عنه فإنه روي عنه أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عن الْكُفْءِ فقال الذي
يَمْلِكُ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فَقُلْت وَإِنْ كان يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَ
النَّفَقَةِ فقال لَا يَكُونُ كفأ فقلت فَإِنْ مَلَكَ النَّفَقَةَ دُونَ الْمَهْرِ
فقال يَكُونُ كفأ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُعَدُّ قَادِرًا على
الْمَهْرِ بِقُدْرَةِ أبيه عَادَةً وَلِهَذَا لم يَجُزْ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى
وَلَدِ الْغَنِيِّ إذَا كان صَغِيرًا وَإِنْ كان فَقِيرًا في نَفْسِهِ لِأَنَّهُ
يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أبيه وَلَا يُعَدُّ قَادِرًا على النَّفَقَةِ بغنا ( ( (
بغنى ) ) ) أبيه لِأَنَّ الْأَبَ يَتَحَمَّلُ الْمَهْرَ الذي على ابْنِهِ وَلَا
يَتَحَمَّلُ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ عَادَةً
وقال بَعْضُهُمْ إذَا كان الرَّجُلُ ذَا جَاهٍ كَالسُّلْطَانِ وَالْعَالِمِ فإنه
يَكُونُ كفأ وَإِنْ كان لَا يَمْلِكُ من الْمَالِ إلَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْمَهْرَ تَجْرِي فيه الْمُسَامَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ
الْيَسَارِ وَالْمَالُ يَغْدُو وَيَرُوحُ وَحَاجَةُ الْمَعِيشَةِ تَنْدَفِعُ
بِالنَّفَقَةِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الدِّينُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حتى لو أَنَّ
امْرَأَةً من بَنَاتِ الصَّالِحِينَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من فَاسِقٍ كان
لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالدِّينِ
أَحَقُّ من التَّفَاخُرِ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِ وَالتَّعْيِيرُ
بِالْفِسْقِ أَشَدُّ وُجُوهِ التَّعْيِيرِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ في الدِّينِ لِأَنَّ هذا من أُمُورِ
الْآخِرَةِ
وَالْكَفَاءَةُ من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا يَقْدَحُ فيها الْفِسْقُ إلَّا إذَا
كان شيئا فَاحِشًا بِأَنْ كان الْفَاسِقُ مِمَّنْ يُسْخَرُ منه وَيُضْحَكُ عليه
وَيُصْفَعُ فَإِنْ كان مِمَّنْ يُهَابُ منه بِأَنْ كان أَمِيرًا قَتَّالًا يَكُونُ
كفأ لِأَنَّ هذا الْفِسْقَ لَا يُعَدُّ شينا في الْعَادَةِ فَلَا يَقْدَحُ في
الْكَفَاءَةِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كان مُعْلِنًا لَا يَكُونُ
كفأ وَإِنْ كان مُسْتَتِرًا يَكُونُ كفأ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحِرْفَةُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ في
الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلَا يَكُونُ
الْحَائِكُ كُفْئًا لِلْجَوْهَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ بَنَى الْأَمْرَ فيها على عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَوَالِيهمْ
يَعْمَلُونَ هذه الْأَعْمَالَ لَا يَقْصِدُونَ بها الْحِرَفَ فَلَا يُعَيَّرُونَ
بها وَأَجَابَ أبو يُوسُفَ على عَادَةِ أَهْلِ الْبِلَادِ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ
ذلك حِرْفَةً فَيُعَيَّرُونَ بالدنىء ( ( ( بالدنيء ) ) ) من الصَّنَائِعِ فَلَا
يَكُونُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ في الْحَقِيقَةِ
وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ اعْتِبَارَ
الْكَفَاءَةِ في الْحِرْفَةِ ولم يذكر الْخِلَافَ فَتَثْبُتُ الْكَفَاءَةُ بين
الْحِرْفَتَيْنِ في جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبَزَّازِ مع الْبَزَّازِ وَالْحَائِكِ مع
الْحَائِكِ وَتَثْبُتُ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْحِرَفِ إذَا كان يُقَارِبُ
بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْبَزَّازِ مع الصَّائِغِ وَالصَّائِغِ مع الْعَطَّارِ
وَالْحَائِكِ مع الْحَجَّامِ وَالْحَجَّامِ مع الدَّبَّاغِ وَلَا تَثْبُتُ فِيمَا
لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُمَا كَالْعَطَّارِ مع الْبَيْطَارِ والبزار ( ( ( والبزاز
) ) ) مع الْخَرَّازِ
وَذُكِرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ في الْحِرَفِ
مُعْتَبَرَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ
إلَّا أَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً كَالْحِيَاكَةِ وَالْحِجَامَةِ وَالدَّبَّاغَةِ
وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْرٍ لَازِمٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ يَقْدِرُ على تَرْكِهَا وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْحِيَاكَةِ وَأَخَوَاتِهَا
فإنه قَادِرٌ على تَرْكِهَا وَمَعَ هذا يَقْدَحُ في الْكَفَاءَةِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَأَهْلُ الْكُفْرِ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ لِأَنَّ
اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ لِدَفْعِ النَّقِيصَةِ وَلَا نَقِيصَةَ أَعْظَمُ من
الْكُفْرِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تُعْتَبَرُ له الْكَفَاءَةُ فَالْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ
لِلنِّسَاءِ لَا لِلرِّجَالِ على مَعْنَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ في
جَانِبِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ وَلَا تُعْتَبَرُ في جَانِبِ النِّسَاءِ
لِلرِّجَالِ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِالِاعْتِبَارِ في جَانِبِ الرِّجَالِ
خَاصَّةً
وَكَذَا الْمَعْنَى الذي شُرِعَتْ له الْكَفَاءَةُ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ
اعْتِبَارِهَا بِجَانِبِهِمْ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ التي تَسْتَنْكِفُ لَا
الرَّجُلُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَفْرَشَةُ فَأَمَّا الزَّوْجُ فَهُوَ
الْمُسْتَفْرِشُ فَلَا تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ من قِبَلِهَا وَمِنْ مَشَايِخِنَا
من قال إنَّ الْكَفَاءَةَ في جَانِبِ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ أَيْضًا عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ في بَابِ الْوَكَالَةِ وَهِيَ أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ
يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ قال جَازَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَلَا دَلَالَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ على ما
زَعَمُوا لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
لِمَعْنًى آخَرَ وهو أَنَّ من أَصْلِهِمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ الْمُطْلَقَ
يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كما في
الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ
وَمِنْ أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يجري على إطْلَاقِهِ في غَيْرِ مَوْضِعِ
الضَّرُورَةِ وَالتُّهْمَةِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا لِاعْتِبَارِ
الْكَفَاءَةِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ على
الْمُتَعَارَفِ كما هو أَصْلُهُمَا إذْ الْمُتَعَارَفُ هو التَّزْوِيجُ
بِالْكُفْءِ فَاسْتَحْسَنَّا اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ في جَانِبِهِنَّ في مِثْلِ
تِلْكَ الصُّورَةِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وقد نَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ على الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ في وَكَالَةِ
الْأَصْلِ فلم تَكُنْ هذه الْمَسْأَلَةُ دَلِيلًا
____________________
(2/320)
على
اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ في جَانِبِهِنَّ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَلَا تَكُونُ
دَلِيلًا على ذلك على الْإِطْلَاقِ بَلْ في تِلْكَ الصُّورَةِ خَاصَّةً
اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ وَلَوْ أَظْهَرَ رَجُلٌ نَسَبَهُ لِامْرَأَةٍ
فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا منه ثُمَّ ظَهَرَ نَسَبُهُ على خِلَافِ ما أَظْهَرَهُ
فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُومُ مِثْلَ الْمُظْهَرِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَى منه وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ فَإِنْ كان
مثله بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ تَيْمِيٌّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَدَوِيٌّ فَلَا
خِيَارَ لها لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ يَكُونُ رِضًا بمثله وَإِنْ كان أَعْلَى
منه بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَظَهَرَ أَنَّهُ قُرَشِيٌّ فَلَا خِيَارَ
لها أَيْضًا لِأَنَّ الرِّضَا بِالْأَدْنَى يَكُونُ رِضًا بِالْأَعْلَى من طَرِيقِ
الْأَوْلَى
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّ لها الْخِيَارَ لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا
يَحْتَمِلُ منها ما يَحْتَمِلُ الْأَدْنَى فَلَا يَكُونُ الرِّضَا منها
بِالْمُظْهَرِ رِضًا بِالْأَعْلَى منه وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أنها تَرْضَى بِالْكُفْءِ وَإِنْ كان الْكُفْءُ لَا يَحْتَمِلُ منها ما يَحْتَمِلُ
غَيْرُ الْكُفْءِ لِأَنَّ غير الْكُفْءِ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ من نَفْعِهِ فَكَانَ
الرِّضَا بِالْمُظْهَرِ رِضًا بِالْأَعْلَى منه من طَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنْ كان
أَدْوَنَ منه بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ قُرَشِيٌّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ
فَلَهَا للخيار ( ( ( الخيار ) ) )
وَإِنْ كان كُفْئًا لها بِأَنْ كانت الْمَرْأَةُ عَرَبِيَّةً لِأَنَّهَا إنَّمَا
رَضِيَتْ بِشَرْطِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ زِيَادَةٌ مَرْغُوبٌ فيها ولم تَحْصُلْ
فَلَا تَكُونُ رَاضِيَةً بِدُونِهَا فَكَانَ لها الْخِيَارُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لها لِأَنَّ الْخِيَارَ لِدَفْعِ النَّقْصِ وَلَا
نَقِيصَةَ لِأَنَّهُ كُفْءٌ لها
هذا إذَا فَعَلَ الرَّجُلُ ذلك فَأَمَّا إذَا فَعَلَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ
أَظْهَرَتْ امْرَأَةٌ نَسَبَهَا لِرَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ ظَهَرَ بِخِلَافِ
ما أَظْهَرَتْ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ أنها حُرَّةٌ أو أَمَةٌ
لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ في جَانِبِ النِّسَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَيَتَّصِلُ بهذا
ما إذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً على أنها حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ منه ثُمَّ
أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ على أنها أَمَتُهُ فإن الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَجَازَ النِّكَاحَ وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَصَلَ
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَوُقِفَ على إجَازَتِهِ وَيَغْرَمُ الْعُقْرَ
لِأَنَّهُ وطىء جَارِيَةً غير مَمْلُوكَةٍ له حَقِيقَةً فَلَا يَخْلُو عن
عُقُوبَةٍ أو غَرَامَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ لِلشُّبْهَةِ
فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنْ كان الْمَغْرُورُ حُرًّا فَالْوَلَدُ حُرٌّ
بِالْقِيمَةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك فإنه روى عن
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
لأن الِاسْتِيلَادَ حَصَلَ بِنَاءً على ظَاهِرِ النِّكَاحِ إذْ لَا عِلْمَ
لَلْمُسْتَوْلِدِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ فَكَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْتَحِقًّا
لِلنَّظَرِ وَالْمُسْتَحَقُّ مستحق ( ( ( مستحقا ) ) ) لِلنَّظَرِ أَيْضًا
لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَوْنُ الْجَارِيَةِ مِلْكًا له فَتَجِبُ مُرَاعَاةُ
الْحَقَّيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَرَاعَيْنَا حَقَّ الْمُسْتَوْلِدِ في
صُورَةِ الْأَوْلَادِ وَحَقَّ الْمُسْتَحِقِّ في مَعْنَى الْأَوْلَادِ رِعَايَةً
لِلْجَانِبَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْخُصُومَةِ
لِأَنَّهُ وَقْتُ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو مَنْعُ الْوَلَدِ عن
الْمُسْتَحِقِّ له لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَبْدًا في حَقِّهِ وَمُنِعَ عنه يوم
الْخُصُومَةِ
وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قبل الْخُصُومَةِ لَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِأَنَّ
الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْمَنْعِ ولم يُوجَدْ الْمَنْعُ من الْمَغْرُورِ وَلِأَنَّهُ
لَا صُنْعَ له في مَوْتِهِ وَإِنْ كان الِابْنُ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ مِيرَاثٌ
لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ ابْنُهُ وقد مَاتَ حُرًّا فَيَرِثُهُ وَلَا يَغْرَمُ
لِلْمُسْتَحِقِّ شيئا لِأَنَّ الْمِيرَاثَ ليس بِبَدَلٍ عن الْمَيِّتِ
وَإِنْ كان الِابْنُ قَتَلَهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ الْأَبُ الدِّيَةَ فإنه يَغْرَمُ
قِيمَتَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عن الْمَقْتُولِ فَتَقُومُ
مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ
وَإِنْ كان رَجُلٌ ضَرَبَ بَطْنَ الْجَارِيَةِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا يَغْرَمُ
الضَّارِبُ الْغُرَّةَ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُسْتَوْلِدُ
لِلْمُسْتَحِقِّ فَإِنْ كان الْوَلَدُ ذَكَرًا فَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَإِنْ
كان أُنْثَى فَعُشْرُ قِيمَتِهَا وَإِنْ كان الْمَغْرُورُ عَبْدًا فَالْأَوْلَادُ
يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ لِلْمُسْتَحِقِّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُونَ أَحْرَارًا وَيَكُونُونَ أَوْلَادَ الْمَغْرُورِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا وَلَدُ الْمَغْرُورِ حَقِيقَةً لِانْخِلَاقِهِ
من مَائِهِ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِلْكَ الْمُسْتَحِقِّ لِأَنَّ
الْجَارِيَةَ تَبَيَّنَ أنها مِلْكُهُ فَيُتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ على
مِلْكِهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ إلَّا
أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَهُمْ إنَّمَا قَضَوْا بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ في الْمَغْرُورِ الْحُرِّ فَبَقِيَ
الْأَمْرُ في غَيْرِهِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ الْمَغْرُورُ هل
يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ على الْغَارِّ وَالْغَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
أَجْنَبِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مولى الْجَارِيَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هِيَ
الْجَارِيَةُ فَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كان حُرًّا فَغَرَّهُ بِأَنْ قال
تَزَوَّجْ بها فَإِنَّهَا حُرَّةٌ أو لم يَأْمُرْهُ بِالتَّزْوِيجِ لَكِنَّهُ
زَوَّجَهَا على أنها حُرَّةٌ أو قال هِيَ حُرَّةٌ وَزَوَّجَهَا منه فإنه يَرْجِعُ
الى الْغَارِّ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا له ما يَلْحَقُهُ
من الْغَرَامَةِ في ذلك النِّكَاحِ فَيَرْجِعُ عليه بِحُكْمِ الضَّمَانِ وَلَا
يَرْجِعُ عليه بِالْعُقْرِ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا يَرْجِعُ
على أَحَدٍ
وَلَوْ قال هِيَ حُرَّةٌ ولم يَأْمُرْهُ بِالتَّزْوِيجِ ولم يُزَوِّجْهَا منه لَا
يُرْجَعُ على الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ
____________________
(2/321)
مَعْنَى
الضَّمَانِ وَالِالْتِزَامِ لَا يَتَحَقَّقُ بهذا الْقَدْرِ وَإِنْ كان الْغَارُّ
عبدا لرجل ( ( ( الرجل ) ) ) فَإِنْ كان مَوْلَاهُ لم يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ
يَرْجِعُ عليه بَعْدَ الْعَتَاقِ وَإِنْ كان أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عليه
لِلْحَالِ إلَّا إذَا كان مُكَاتَبًا أو مُكَاتَبَةً فإنه يَرْجِعُ عليه بَعْدَ
الْعَتَاقِ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان الْمَوْلَى
هو الذي غَرَّهُ فَلَا يَضْمَنُ الْمَغْرُورُ من قِيمَةِ الْأَوْلَادِ شيئا
لِأَنَّهُ لو ضَمِنَ لِلْمَوْلَى لَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ على الْمَوْلَى بِمَا
ضَمِنَ فَلَا يُفِيدُ وُجُوبَ الضَّمَانِ
وَإِنْ كانت الْأَمَةُ هِيَ التي غَرَّتْهُ فَإِنْ كان الْمَوْلَى لم يَأْمُرْهَا
بِذَلِكَ فإن الْمَغْرُورَ يَرْجِعُ على الْأَمَةِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لَا
لِلْحَالِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لم يَظْهَرْ في حَقِّ الْمَوْلَى وَإِنْ كان أَمَرَهَا
بِذَلِكَ يَرْجِعُ الْأَمَةِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ وُجُوبُهُ في حَقِّ
الْمَوْلَى
هذا إذَا غَرَّهُ أَحَدٌ أَمَّا إذَا لم يَغُرَّهُ أَحَدٌ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ أنها
حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا فإذا هِيَ أَمَةٌ فإنه لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ على
أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ لِمَوْلَى الْأَمَةِ لِأَنَّ
الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ في إنْكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ
الْبَالِغَةِ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ حتى لو زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ بِأَقَلَّ من مَهْرِ
مِثْلِهَا مِقْدَارُ ما لَا يُتَغَابَنُ فيه الناس بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ
فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عِنْدَهُ فأما أَنْ يَبْلُغَ الزَّوْجُ
إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا أو يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ بِدُونِهِ حتى يَثْبُتَ لِلْأَوْلِيَاءِ
حَقُّ الِاعْتِرَاض وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ أَعْنِي هذه الْمَسْأَلَةَ
وَالْمَسْأَلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عليها وَهِيَ ما إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من
غَيْرِ كُفْءٍ وَبِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا
يَتَفَرَّعَانِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن
أبي يُوسُفَ وَرِوَايَةِ الرُّجُوعِ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنه وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ فَلَا يَجُوزُ هذا النِّكَاحُ فَيُشْكِلُ
التَّفْرِيعُ فَتُصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ لها
بِالتَّزْوِيجِ فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ أو من كُفْءٍ بِأَقَلَّ من
مَهْرِ مِثْلِهَا وَذُكِرَ في الْأَصْلِ صُورَةٌ أُخْرَى وَهِيَ ما إذَا أُكْرِهَ
الْوَلِيُّ وَالْمَرْأَةُ على النِّكَاحِ من غَيْرِ كُفْءٍ أو من كُفْءٍ بِأَقَلَّ
من مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْوَلِيَّ وَالْمَرْأَةَ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ
وَإِنْ رضي أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ
وفي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لها حَقُّ الِاعْتِرَاضِ فَإِنْ رَضِيَتْ
بِالنِّكَاحِ وَالْمَهْرِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْسَخَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ ليس له أَنْ يَفْسَخَ
وَتَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا أَمَرَ
الْوَلِيُّ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ فَزَوَّجَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا أو
من كُفْءٍ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ بِرِضَاهَا وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا على الْخُلُوصِ كَالثَّمَنِ في الْبَيْعِ وَالْأُجْرَةِ
في الْإِجَارَةِ فَكَانَتْ هِيَ بِالنَّقْصِ مُتَصَرِّفَةً في خَالِصِ حَقِّهَا
فَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ كما إذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا عن الْمَهْرِ وَلِهَذَا جَازَ
الْإِبْرَاءُ عن الثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ كَذَا
هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا في الْمَهْرِ لِأَنَّهُمْ
يَفْتَخِرُونَ بِغَلَاءِ الْمَهْرِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِبَخْسِهِ فَيَلْحَقُهُمْ
الضَّرَرُ بِالْبَخْسِ وهو ضَرَرُ التَّعْيِيرِ فَكَانَ لهم دَفْعُ الضَّرَرِ عن
أَنْفُسِهِمْ بِالِاعْتِرَاضِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لهم حَقُّ الِاعْتِرَاضِ
بِسَبَبِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ كَذَا هذا وَلِأَنَّهَا بِالْبَخْسِ عن مَهْرِ
مِثْلِهَا أَضَرَّتْ بِنِسَاءِ قَبِيلَتِهَا لِأَنَّ مُهُورَ مِثْلِهَا عِنْدَ
تَقَادُمِ الْعَهْدِ تُعْتَبَرُ بها فَكَانَتْ بِالنَّقْصِ مُلْحِقَةً الضَّرَرَ
بِالْقَبِيلَةِ فَكَانَ لهم دَفْعُ هذا الضَّرَرِ عن أَنْفُسِهِمْ بِالْفَسْخِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا خُلُوُّ الزَّوْجِ عن عَيْبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ
عَدَمِ الرِّضَا من الزَّوْجَةِ بِهِمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُهُمْ عَيْبُ الْعُنَّةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ النِّكَاحِ
وَاحْتَجُّوا بِمَا روى أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ
وَقَالَتْ يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كنت تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي آخِرَ
التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ وَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرحمن بن الزُّبَيْرِ
فَوَاَللَّهِ ما وَجَدْتُ معه إلَّا مِثْلَ الْهُدْبَةِ فَتَبَسَّمَ رسول اللَّهِ
وقال لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حتى تَذُوقِي
عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ
فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ادَّعَتْ الْعُنَّةَ على
زَوْجِهَا وَرَسُولُ اللَّهِ لم يُثْبِتْ لها الْخِيَارَ وَلَوْ لم يَقَعْ
النِّكَاحُ لَازِمًا لاثبت وَلِأَنَّ هذا الْعَيْبَ لَا يُوجِبُ فَوَاتَ
الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ بِيَقِينٍ فَلَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ
أَنْوَاعِ الْعُيُوبِ بِخِلَافِ الْجَبِّ فإنه يُفَوِّتُ الْمُسْتَحَقَّ
بِالْعَقْدِ بِيَقِينٍ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه روى عن عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى في الْعِنِّينِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً فَإِنْ قَدَرَ
عليها وَإِلَّا أَخَذَتْ منه الصَّدَاقَ كَامِلًا وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهَا
الْعِدَّةُ وروى عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُهُ
وروى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أن قال يُؤَجَّلُ سَنَةً فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا
وَإِلَّا فُرِّقَ=
ج8. بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
بَيْنَهُمَا
كان ( ( ( وكان ) ) ) قَضَاؤُهُمْ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليهم أَحَدٌ منهم فكيون ( ( ( فيكون ) )
) إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْوَطْءَ مَرَّةً وَاحِدَةً مُسْتَحَقٌّ على الزَّوْجِ
لِلْمَرْأَةِ بِالْعَقْدِ وفي إلْزَامِ الْعَقْدِ عِنْدَ تَقَرُّرِ الْعَجْزِ عن
الْوُصُولِ تَفْوِيتُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ عليها وَهَذَا ضَرَرٌ بها
وَظُلْمٌ في حَقِّهَا وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
}
وقال النبي لَا ضَرَرَ وَلَا إضرار ( ( ( ضرار ) ) ) في الْإِسْلَامِ فَيُؤَدِّي
إلَى التَّنَاقُضِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ على
الزَّوْجِ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ أو التسريح ( ( ( التسريج ) ) ) بالإحسان (
( ( بإحسان ) ) ) بِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِيفَاءَ النِّكَاحِ عليها مع كَوْنِهَا
مَحْرُومَةَ الْحَظِّ من الزَّوْجِ ليس من الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ في شَيْءٍ
فَتَعَيَّنَ عليه التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَإِنْ سَرَّحَ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا
نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ في التَّسْرِيحِ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ في عَقْدِ
النِّكَاحِ وَالْعَجْزُ عن الْوُصُولِ يُوجِبُ عَيْبًا في الْعِوَضِ لِأَنَّهُ
يَمْنَعُ من تَأَكُّدِهِ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَصِمَا إلَى قَاضٍ لَا
يَرَى تَأَكُّدَ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ فَيُطَلِّقُهَا وَيُعْطِيهَا نِصْفَ
الْمَهْرِ فَيَتَمَكَّنُ في الْمَهْرِ عَيْبٌ وهو عَدَمُ التَّأَكُّدِ بِيَقِينٍ
وَالْعَيْبُ في الْعِوَضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ كما في الْبَيْعِ وَلَا حُجَّةَ لهم في
الحديث لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ منها لم تَكُنْ دَعْوَى الْعُنَّةِ بَلْ كانت
كِنَايَةً عن مَعْنًى آخَرَ وهو دِقَّةُ الْقَضِيبِ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ
الْعُيُوبُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمُسْتَحَقِّ
بِالْعَقْدِ لِمَا نَذْكُرُ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَهَذَا يُوجِبُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَقَرَّرُ بِعَدَمِ
الْوُصُولِ في مُدَّةِ السَّنَةِ ظَاهِرًا فَيَفُوتُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ
ظَاهِرًا فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ
وإذا عُرِفَ هذا فإذا رَفَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ
وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ فإن الْقَاضِيَ يَسْأَلُهُ هل وَصَلَ إلَيْهَا أو لم
يَصِلْ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لم يَصِلْ أَجَّلَهُ سَنَةً سَوَاءٌ كانت
الْمَرْأَةُ بِكْرًا أو ثَيِّبًا وَإِنْ أَنْكَرَ وَادَّعَى الْوُصُولَ إلَيْهَا
فَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ أَنَّهُ
وَصَلَ إلَيْهَا لِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْوُصُولِ في الْجُمْلَةِ
وَالْمَانِعُ من الْوُصُولِ من جِهَتِهِ عَارِضٌ إذْ الْأَصْلُ هو السَّلَامَةُ عن
الْعَيْبِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ دَفْعًا
لِلتُّهْمَةِ
وَإِنْ قالت أنا بِكْرٌ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي
لِأَنَّ الْبَكَارَةَ بَابٌ لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ
بِانْفِرَادِهِنَّ في هذا الْبَابِ مَقْبُولَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَتُقْبَلُ فيه
شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ على الْوِلَادَةِ وَلِأَنَّ
الْأَصْلَ حُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وهو الْعَزِيمَةُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ من أَبْصَارِهِنَّ } وَحَقُّ
الرُّخْصَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِالْوَاحِدَةِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ما
قُبِلَ قَوْلُ النِّسَاءِ فيه بِانْفِرَادِهِنَّ لَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ
كَرِوَايَةِ الأخبار عن رسول اللَّهِ وَالثِّنْتَانِ أَوْثَقُ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ
بِخَبَرِ الْعَدَدِ أَقْوَى فَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الزَّوْجِ مع يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَالْقَوْلُ
قَوْلُهَا
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ
قَوْلُهَا من غَيْرِ يَمِينٍ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ فيها أَصْلٌ وقد تَفُوتُ
شَهَادَتُهُنَّ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهَا
إمَّا بِإِقْرَارِهِ أو بِظُهُورِ الْبَكَارَةِ أَجَّلَهُ الْقَاضِي حَوْلًا
لِأَنَّهُ ثَبَتَ عُنَّتُهُ وَالْعِنِّينُ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ على ذلك وَلِأَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ قبل التَّأْجِيلِ يُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ عن الْوُصُولِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبُغْضِهِ
إيَّاهَا مع الْقُدْرَةِ على الْوُصُولِ فَيُؤَجَّلُ حتى لو كان عَدَمُ الْوُصُولِ
لِلْبُغْضِ يَطَؤُهَا في الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا دَفْعًا لِلْعَارِ
وَالشَّيْنِ عن نَفْسِهِ وَإِنْ لم يَطَأْهَا حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ يُعْلَمُ
أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ كان لِلْعَجْزِ وَأَمَّا التَّأْجِيلُ سَنَةً فَلِأَنَّ
الْعَجْزَ عن الْوُصُولِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ من دَاءٍ أو طَبِيعَةٍ غَالِبَةٍ من الْحَرَارَةِ أو الْبُرُودَةِ أو
الرُّطُوبَةِ أو الْيُبُوسَةِ وَالسَّنَةُ مُشْتَمِلَةٌ على الْفُصُولِ
الْأَرْبَعَةِ وَالْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ مُشْتَمِلَةٌ على الطَّبَائِعِ
الْأَرْبَعِ فَيُؤَجَّلُ سَنَةً لِمَا عَسَى أَنْ يُوَافِقَهُ بَعْضُ فُصُولِ
السَّنَةِ فَيَزُولَ الْمَانِعُ وَيَقْدِرُ على الْوُصُولِ
وروى عن عبد اللَّهِ بن نَوْفَلٍ أَنَّهُ قال يُؤَجَّلُ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ وَهَذَا
الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ
أَجَّلُوا الْعِنِّينَ سَنَةً وقد اخْتَلَفَ الناس في عبد اللَّهِ بن نَوْفَلٍ
أَنَّهُ صَحَابِيٌّ أو تَابِعِيٌّ فَلَا يَقْدَحُ خِلَافُهُ في الْإِجْمَاعِ مع
الِاحْتِمَالِ وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ سَنَةً لِرَجَاءِ الْوُصُولِ في الْفُصُولِ
الْأَرْبَعَةِ وَلَا تَكْمُلُ الْفُصُولُ إلَّا في سَنَةٍ تَامَّةٍ ثُمَّ
يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً بِالْأَيَّامِ أو قَمَرِيَّةً بِالْأَهِلَّةِ ذَكَرَ
الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
يُؤَجَّلُ سَنَةً قَمَرِيَّةً بِالْأَهِلَّةِ قال وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً
وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ قالوا يُؤَجَّلُ سَنَةً
شَمْسِيَّةً ولم يذكر الْخِلَافَ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفُصُولَ
الْأَرْبَعَةَ لَا تَكْمُلُ إلَّا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ
على الْقَمَرِيَّةِ بِأَيَّامٍ فَيُحْتَمَلُ زَوَالُ الْعَارِضِ في الْمُدَّةِ
التي بين الشَّمْسِيَّةِ وَالْقَمَرِيَّةِ فَكَانَ التأكيل ( ( ( التأجيل ) ) )
بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ أَوْلَى وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عن الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }
____________________
(2/323)
جَعَلَ
اللَّهُ عز وجل بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ الْهِلَالَ مُعَرِّفًا لِلْخَلْقِ
الْأَجَلَ وَالْأَوْقَاتَ وَالْمُدَدَ وَمُعَرِّفًا وَقْتَ الْحَجِّ لِأَنَّهُ
لوجعل مَعْرِفَةَ ذلك بِالْأَيَّامِ لَاشْتَدَّ حِسَابُ ذلك عليهم وَلَتَعَذَّرَ
عليهم مَعْرِفَةُ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما روى أَنَّ النبي خَطَبَ في الْمَوْسِمِ وقال في
خُطْبَتِهِ أَلَا أن الزَّمَانَ قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خَلَقَ اللَّهُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ
مُضَرَ الذي بين جُمَادَى وَشَعْبَانَ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ
وَالشَّهْرُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْهِلَالِ يُقَالُ رأيت الشَّهْرَ أَيْ رأيت
الْهِلَالَ وَقِيلَ سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ وَالشُّهْرَةُ
لِلْهِلَالِ فَكَانَ تَأْجِيلُ الصَّحَابَةِ رضي أنه عَنْهُمْ الْعِنِّينَ سَنَةً
وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ تَأْجِيلًا
لِلْهِلَالِيَّةِ وَهِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ ضَرُورَةً وَأَوَّلُ السَّنَةِ حين
يَتَرَافَعَانِ وَلَا يُحْسَبُ على الزَّوْجِ ما قبل ذلك لِمَا روى أَنَّ عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً من
يَوْمِ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ قبل
التَّأْجِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
لِكَرَاهَتِهِ إيَّاهَا مع الْقُدْرَةِ على الْوُصُولِ فإذا أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عن وَطْئِهَا إلَّا لِعَجْزِهِ خَشْيَةَ
الْعَارِ وَالشَّيْنِ فإذا أُجِّلَ سَنَةً فَشَهْرُ رَمَضَانَ وَأَيَّامُ
الْحَيْضِ تُحْسَبُ عليه وَلَا يُجْعَلُ له مَكَانُهَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجَّلُوا الْعِنِّينَ سَنَةً وَاحِدَةً مع عِلْمِهِمْ بِأَنَّ
السَّنَةَ لَا تَخْلُو عن شَهْرِ رَمَضَانَ وَمِنْ زَمَانِ الْحَيْضِ فَلَوْ لم
يَكُنْ ذلك مَحْسُوبًا من الْمُدَّةِ لَأَجَّلُوا زِيَادَةً على السَّنَةِ
وَلَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ في الْمُدَّةِ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ معه الْجِمَاعَ أو
مَرِضَتْ هِيَ فَإِنْ اسْتَوْعَبَ الْمَرَضُ السَّنَةَ كُلَّهَا يُسْتَأْنَفُ له
سَنَةٌ أُخْرَى وَإِنْ لم يَسْتَوْعِبْ فَقَدْ رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ
أَنَّ الْمَرَضَ إنْ كان نِصْفَ شَهْرٍ أو أَقَلَّ اُحْتُسِبَ عليه وَإِنْ كان
أَكْثَرَ من نِصْفِ شَهْرٍ لم يُحْتَسَبْ عليه بِهَذِهِ الْأَيَّامِ وَجُعِلَ له
مَكَانَهَا وَكَذَلِكَ الْغَيْبَةُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ إذَا صَحَّ في السَّنَةِ
يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ أو صَحَّتْ هِيَ اُحْتُسِبَ عليه بِالسَّنَةِ
وروي ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرَضَ إذَا كان أَقَلَّ من شَهْرٍ
يُحْتَسَبُ عليه وَإِنْ كان شَهْرًا فَصَاعِدًا لَا يُحْتَسَبُ عليه بِأَيَّامِ
الْمَرَضِ وَيُجْعَلُ له مَكَانُهَا وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ قَلِيلَ الْمَرَضِ
مِمَّا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عن ذلك
عَادَةً وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْكَثِيرِ فَجَعَلَ أبو يُوسُفَ على إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عنه نِصْفَ الشَّهْرِ وما
دُونَهُ قَلِيلًا وَالْأَكْثَرَ من النِّصْفِ كَثِيرًا اسْتِدْلَالًا بِشَهْرِ
رَمَضَانَ فإنه مَحْسُوبٌ عليه
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْدِرُ على الْوَطْءِ في اللَّيَالِي دُونَ
النَّهَارِ وَاللَّيَالِي دُونَ النَّهَارِ تَكُونُ نِصْفَ شَهْرٍ وكان ذاك ( ( (
ذلك ) ) ) دَلِيلًا على أَنَّ الْمَانِعَ إذَا كان نِصْفَ شَهْرٍ فما دُونَهُ
يُعْتَدُّ بِهِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِالنِّصْفِ فما
دُونَهُ لما ( ( ( إما ) ) ) لَا يَنْفِي الِاعْتِدَادَ بِمَا فَوْقَهُ وأما على
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَنَقُولُ إنه لَمَّا صَحَّ زَمَانًا يُمْكِنُ الْوَطْءُ
فيه فإذا لم يَطَأْهَا فَالتَّقْصِيرُ جاء من قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ صَحَّ
جَمِيعَ السَّنَةِ بِخِلَافِ ما إذَا مَرِضَ جَمِيعَ السَّنَةِ لِأَنَّهُ لم
يَجِدْ زَمَانًا يَتَمَكَّنُ من الْوَطْءِ فيه فَتَعَذَّرَ الإعتداد بِالسَّنَةِ
في حَقِّهِ وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ ما دُونَ الشَّهْرِ قَلِيلًا وَالشَّهْرَ
فَصَاعِدًا كَثِيرًا لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الأجل وَأَقْصَى الْعَاجِلِ
فَكَانَ في حُكْمِ الْكَثِيرِ وما دُونَهُ في حُكْمِ الْقَلِيلِ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ
التَّأْجِيلِ لم يُحْتَسَبْ على الزَّوْجِ مُدَّةَ الْحَجِّ لِأَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ على مَنْعِهَا من حَجَّةِ الْإِسْلَامِ شَرْعًا فلم يَتَمَكَّنْ من الْوَطْءِ
فيها شَرْعًا وَإِنْ حَجَّ الزَّوْجُ اُحْتُسِبَتْ الْمُدَّةُ عليه لِأَنَّهُ
يَقْدِرُ على أَنْ يُخْرِجَهَا مع نَفْسِهِ أو يُؤَخِّرَ الْحَجَّ لِأَنَّ جَمِيعَ
الْعُمُرِ وَقْتُهُ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ خَاصَمَتْهُ وهو مُحْرِمٌ يُؤَجَّلُ سَنَةً بَعْدَ الْإِحْلَالِ
لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ من الْوَطْءِ شَرْعًا مع الْإِحْرَامِ فَتُبْتَدَأُ
الْمُدَّةُ من وَقْتٍ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فيه شَرْعًا وهو ما بَعْدَ
الْإِحْلَالِ وَإِنْ خَاصَمَتْهُ وهو مُظَاهِرٌ فَإِنْ كان يَقْدِرُ على
الْإِعْتَاقِ أُجِّلَ سَنَةً من حِينِ الْخُصُومَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان
قَادِرًا على الْإِعْتَاقِ كان قَادِرًا على الْوَطْءِ بِتَقْدِيمِ الْإِعْتَاقِ
كَالْمُحْدِثِ قَادِرٌ على الصَّلَاةِ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ وَإِنْ كان لَا
يَقْدِرُ على ذلك أُجِّلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى
تَقْدِيمِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِيهِمَا فَلَا يُعْتَدُّ
بِهِمَا من الْأَجَلِ ثُمَّ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ بَعْدَهُمَا فَإِنْ أُجِّلَ
سَنَةً وَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ ثُمَّ ظَاهَرَ في السَّنَةِ لم يَزِدْ على الْمُدَّةِ
بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ كان يَقْدِرُ على تَرْكِ الظِّهَارِ فلما ظَاهَرَ فَقَدْ
مَنَعَ نَفْسَهُ عن
____________________
(2/324)
الْوَطْءِ
بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كانت امْرَأَةُ
الْعِنِّينِ رَتْقَاءَ أو قَرْنَاءَ لَا يُؤَجَّلُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ
لِلْمَرْأَةِ في الْوَطْءِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ من الْوَطْءِ فَلَا مَعْنَى
لِلتَّأْجِيلِ
وَإِنْ كان الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةٌ
ولم تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ فَطَالَبَتْ بِالتَّأْجِيلِ لَا يُؤَجَّلُ بَلْ يُنْتَظَرُ
إلَى أَنْ يُدْرِكَ فإذا أَدْرَكَ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِأَنَّهُ إذَا كان لَا
يُجَامِعُ لَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ وَلِأَنَّ حُكْمَ التَّأْجِيلِ إذَا لم يَصِلْ
إلَيْهَا في الْمُدَّةِ هو ثُبُوتُ خِيَارِ الْفُرْقَةِ وَفُرْقَةُ الْعِنِّينِ
طَلَاقٌ وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَلِأَنَّ لِلصَّبِيِّ زَمَانًا
يُوجَدُ منه الْوَطْءُ فيه ظَاهِرًا وَغَالِبًا وهو ما بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا
يُؤَجَّلُ لِلْحَالِ وَإِنْ كان الزَّوْجُ كَبِيرًا مَجْنُونًا فَوَجَدَتْهُ
عِنِّينًا قالوا إنَّهُ لَا يُؤَجَّلُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ
التَّأْجِيلَ لِلتَّفْرِيقِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ وَفُرْقَةُ الْعِنِّينِ
طَلَاقٌ وَالْمَجْنُونُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ
حَوْلًا وَلَا يُنْتَظَرُ إلَى إفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الصِّغَرَ
مَانِعٌ من الْوُصُولِ فيستأني إلَى أَنْ يَزُولَ الصِّغَرُ ثُمَّ يُؤَجَّلُ
سَنَةً
فَأَمَّا المجنون ( ( ( الجنون ) ) ) فَلَا يَمْنَعُ الْوُصُولَ لِأَنَّ
الْمَجْنُونَ يُجَامِعُ فَيُؤَجَّلُ لِلْحَالِ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ
الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤَجَّلُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا
وإذا مَضَى أَجَلُ الْعِنِّينِ فَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُؤَجِّلَهُ سَنَةً
أُخْرَى لم يَفْعَلْ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ لها حَقُّ
التَّفْرِيقِ وفي التَّأْجِيلِ تَأْخِيرُ حَقِّهَا فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ
رِضَاهَا ثُمَّ إذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً وَتَمَّتْ الْمُدَّةُ فَإِنْ
اتَّفَقَا على أَنَّهُ قد وَصَلَ إلَيْهَا فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَلَا خِيَارَ لها
وَإِنْ اخْتَلَفَا وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهَا وَادَّعَى
الزَّوْجُ الْوُصُولَ فَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع
يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كانت بِكْرًا نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ فَإِنْ
قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ وَقَعَ لِلنِّسَاءِ شَكٌّ في أَمْرِهَا
فَإِنَّهَا تُمْتَحَنُ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في طَرِيقِ الِامْتِحَانِ قال بَعْضُهُمْ تُؤْمَرُ
بِأَنْ تَبُولَ على الْجِدَارِ فَإِنْ أَمْكَنَهَا بِأَنْ تَرْمِيَ بِبَوْلِهَا
على الْجِدَارِ فَهِيَ بِكْرٌ وَإِلَّا فَهِيَ ثَيِّبٌ
وقال بَعْضُهُمْ تُمْتَحَنُ بِبَيْضَةِ الدِّيكِ فَإِنْ وَسِعَتْ فيها فَهِيَ
ثَيِّبٌ وَإِنْ لم تَسَعْ فيها فَهِيَ بِكْرٌ وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ لم يَطَأْهَا
إمَّا بِاعْتِرَافِهِ وَإِمَّا بِظُهُورِ الْبَكَارَةِ فإن الْقَاضِيَ
يُخَيِّرُهَا فإن الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ خَيَّرُوا امْرَأَةَ
الْعِنِّينِ وَلَنَا فِيهِمْ قُدْوَةٌ فَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ
وَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الزَّوْجَ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُ ثُبُوتِ
الْخِيَارِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في الْخِيَارِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرَائِطِ
ثُبُوتِ الْخِيَارِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْخِيَارِ وفي بَيَانِ ما يُبْطِلُهُ
فَصْلٌ أَمَّا شَرَائِطُ الْخِيَارِ فَمِنْهَا عَدَمُ الْوُصُولِ إلَى هذه
الْمَرْأَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا في هذا النِّكَاحِ حتى لو وَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً
وَاحِدَةً فَلَا خِيَارَ لها لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا حَقُّهَا بِالْوَطْءِ
مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْخِيَارُ لِتَفْوِيتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ ولم يُوجَدْ
فَإِنْ وَصَلَ إلَى غَيْرِ امْرَأَتِهِ التي أُجِّلَ لها وكان وَصَلَ إلَى
غَيْرِهَا قبل أَنْ تُرَافِعَهُ فَوُصُولُهُ إلَى غَيْرِهَا لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا
في التَّأْجِيلِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهَا حَقُّهَا فَكَانَ لها
التَّأْجِيلُ وَالْخِيَارُ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ
وَقْتَ النِّكَاحِ حتى لو تَزَوَّجَتْ وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عِنِّينٌ فَلَا
خِيَارَ لها لِأَنَّهَا إذَا كانت عَالِمَةً بِالْعَيْبِ لَدَى التَّزْوِيجِ
فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي إذَا كان عَالِمًا بِالْعَيْبِ عِنْدَ
الْبَيْعِ وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرَّدَّ كما في الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ
فَإِنْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ فَوَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً ثُمَّ عُنَّ
فَفَارَقَتْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ ذلك فلم يَصِلْ إلَيْهَا فَلَهَا
الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعَجْزَ لم يَتَحَقَّقْ فلم تَكُنْ رَاضِيَةً بِالْعَيْبِ
وَالْوُصُولُ في أحل ( ( ( أحد ) ) ) الْعَقْدَيْنِ لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا في
الْعَقْدِ الثَّانِي فَإِنْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي فلم يَصِلْ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَا خِيَارَ لها لِأَنَّ الْعَيْبَ قد تَقَرَّرَ بِعَدَمِ
الْوُصُولِ في الْمُدَّةِ فَتَقَرَّرَ الْعَجْزُ فَكَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ الْعَيْبِ وَالْعِلْمِ بِهِ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَارِ فَهُوَ تَخْيِيرُ الْمَرْأَةِ بين الْفُرْقَةِ
وَبَيْنَ النِّكَاحِ فَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ وَإِنْ شَاءَتْ
اخْتَارَتْ الزَّوْجَ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُقَام مع الزَّوْجِ بَطَلَ حَقُّهَا
ولم يَكُنْ لها خُصُومَةٌ في هذا النِّكَاحِ أَبَدًا لِمَا ذَكَرْنَا أنها
رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ فَسَقَطَ خِيَارُهَا وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فَرَّقَ
الْقَاضِي بَيْنَهُمَا
كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَظَاهِرُ هذا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ
الِاخْتِيَارِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَقَعُ
الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ في ظاهرة الرِّوَايَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى
الْقَضَاءِ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ وَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ ما لم يَقُلْ
الْقَاضِي فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الْبُلُوغِ
هَكَذَا ذَكَرَ
وَذُكِرَ في بَعْضِ الْمَوَاضِعَ أَنَّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ ما رَوَى
الْحَسَنُ عنه وما ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عنه وما ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
قَوْلُهُمَا
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هذه الْفُرْقَةَ فُرْقَةُ
____________________
(2/325)
بُطْلَانٍ
بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ فيه الشَّافِعِيُّ
فَإِنَّهَا فَسْخٌ عِنْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْتِي
في مَوْضِعهَا من هذا الْكِتَابِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ
وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَقُومُ مَقَامَ
الزَّوْجِ وَلِأَنَّ هذه الْفُرْقَةَ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهَا الْقَاضِي وهو
التَّأْجِيلُ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا من الْقَاضِي فَكَذَا
الْفُرْقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ كَفُرْقَةِ اللِّعَانِ
وَجْهُ الْمَذْكُورِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَخْيِيرَ الْمَرْأَةِ من
الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهَا الْفُرْقَةَ
تَفْرِيقًا من الْقَاضِي من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا منها وَالْقَاضِي يَمْلِكُ ذلك
لِقِيَامِهِ مَقَامَ الزَّوْجِ وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ
لِأَنَّ الْغَرَضَ من هذا التَّفْرِيقِ تَخْلِيصُهَا من زَوْجٍ لَا يُتَوَقَّعُ
منه إيفَاءُ حَقِّهَا دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَالضَّرَرِ عنها وَذَا لَا يَحْصُلُ
إلَّا بِالْبَائِنِ لِأَنَّهُ لو كان رَجْعِيًّا يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ من غَيْرِ
رِضَاهَا فَيُحْتَاجُ إلَى التَّفْرِيقِ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَلَا يُفِيدُ
التَّفْرِيقُ فَائِدَتَهُ وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ
بِالْإِجْمَاعِ إنْ كان الزَّوْجُ قد خَلَا بها وَإِنْ كان لم يَخْلُ بها فَلَا
عِدَّةَ عليها وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كان مُسَمًّى وَالْمُتْعَةُ إنْ لم
يَكُنْ مُسَمًّى
وإذا فَرَّقَ الْقَاضِي بِالْعُنَّةِ ووجب ( ( ( ووجبت ) ) ) الْعِدَّةُ فَجَاءَتْ
بِوَلَدٍ ما بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ لِأَنَّ
الْمُعْتَدَّةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ من وَقْتِ الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ
ثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ حُكْمٌ بِشُغْلِ
الرَّحِمِ وَشَغْلُ الرَّحِمِ يَمْتَدُّ إلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا فَيَثْبُتُ
النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ
فَإِنْ قال الزَّوْجُ كنت قد وَصَلْتُ إلَيْهَا فإن أَبَا يُوسُفَ قال يُبْطِلُ
الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا
وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فَقَدْ ثَبَتَ
الدُّخُولُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ إبْطَالَ الْفُرْقَةِ وَلِأَنَّهُ لو شَهِدَ
شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي لَا يُبْطِلُ الْفُرْقَةَ
وَكَذَا هذا وَكَذَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ شَهَادَةَ النَّسَبِ على
الدُّخُولِ أَقْوَى من شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عليه
وَكَذَلِكَ لو فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَجْبُوبِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ خَلْوَةَ الْمَجْبُوبِ
تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ من الْمَجْبُوبِ إلَّا أَنَّهُ لَا
تَبْطُلُ الْفُرْقَةُ هَهُنَا لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ من الْمَجْبُوبِ لَا
يَدُلُّ على الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ منه حَقِيقَةً وَإِنَّمَا
يَقْذِفُ بِالْمَاءِ فَكَانَ الْعُلُوقُ بِقَذْفِ الْمَاءِ فإذا لم يَثْبُتْ
الدُّخُولُ لم تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ فَإِنْ فَرَّقَ بِالْعُنَّةِ فَإِنْ أَقَامَ
الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ على إقْرَارِ الْمَرْأَةِ قبل الْفُرْقَةِ أَنَّهُ قد
وَصَلَ إلَيْهَا أَبْطَلَ الْفُرْقَةَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ على إقْرَارِهَا
بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا عِنْدَ الْقَاضِي وَلَوْ كانت أَقَرَّتْ قبل
التَّفْرِيقِ لم يَثْبُتْ حُكْمُ الْفُرْقَةِ وَكَذَا إذَا شَهِدَ على إقْرَارِهَا
بِأَنْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ كان وَصَلَ إلَيْهَا قبل الْفُرْقَةِ
لم تَبْطُلْ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ إقْرَارَهَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ قَضَاءِ
الْقَاضِي فَلَا تُصَدَّقُ على الْقَاضِي في إبْطَالِ قَضَائِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَإِنْ كان زَوْجُ الْأَمَةِ عِنِّينًا فَالْخِيَارُ في ذلك إلَى الْمَوْلَى
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ الْخِيَارُ إلَى الْأَمَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ الْوَطْءِ وَذَلِكَ
حَقُّ الْأَمَةِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهَا كَالْحُرَّةِ
وَلَهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْوَطْءِ هو الْوَلَدُ وَالْوَلَدُ مِلْكُ
الْمَوْلَى وَحْدَهُ وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ والمقام مع الزَّوْجِ
تَصَرُّفٌ منها على نَفْسِهَا وَنَفْسُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مِلْكُ
الْمَوْلَى فَكَانَ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ له
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ فما يَبْطُلُ بِهِ
الْخِيَارُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
فَالنَّصُّ هو التَّصْرِيحُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ نحو
أَنْ يقول ( ( ( تقول ) ) ) أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أو رَضِيتُ بِالنِّكَاحِ أو
اخْتَرْتُ الزَّوْجَ وَنَحْوَ ذلك سَوَاءٌ كان ذلك بَعْدَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي أو
قَبْلَهُ وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ تَفْعَلَ ما يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْمُقَامِ
مع الزَّوْجِ بِأَنْ خَيَّرَهَا الْقَاضِي فَأَقَامَتْ مع الزَّوْجِ مُطَاوِعَةً
له في الْمَضْجَعِ وَغَيْرِ ذلك لِأَنَّ ذلك دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ
وَالْمُقَامِ مع الزَّوْجِ وَلَوْ فَعَلَتْ ذلك بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ قبل
تَخْيِيرِ الْقَاضِي لم يَكُنْ ذلك رِضًا لِأَنَّ إقَامَتَهَا معه بَعْدَ
الْمُدَّةِ قد تَكُونُ لِاخْتِيَارِهِ وقد تَكُونُ لِلِاخْتِيَارِ بِحَالِهِ فَلَا
تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مع الِاحْتِمَالِ وَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا
بِالْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ وذكر الْكَرْخِيُّ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ وَبِشْرًا
قَالَا عن أبي يُوسُفَ إذَا خَيَّرَهَا الْحَاكِمُ فَأَقَامَتْ معه أو قَامَتْ من
مَجْلِسِهَا قبل أَنْ تَخْتَارَ أو قام الْحَاكِمُ أو أَقَامَهَا عن مَجْلِسِهَا
بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي ولم تَقُلْ شيئا فَلَا خِيَارَ لها وَهَذَا يَدُلُّ
على أَنَّ خِيَارَهَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وهو مَجْلِسُ التَّخْيِيرِ ولم
يذكر الْخِلَافَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْتَصَرُ
على الْمَجْلِسِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
أَنَّهُمَا قَالَا يُقْتَصَرُ على الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ
وَجْهُ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَخْيِيرَ الْقَاضِي هَهُنَا
قَائِمٌ مَقَامَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ ثُمَّ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ
الزَّوْجِ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عن الْمَجْلِسِ فَكَذَا خِيَارُ هذه وَكَذَا إذَا
قام الْحَاكِمُ عن الْمَجْلِسِ قبل أَنْ تَخْتَارَ لِأَنَّ مَجْلِسَ التَّخْيِيرِ
قد بَطَلَ بِقِيَامِ
____________________
(2/326)
الْحَاكِمِ
وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عن مَجْلِسِهَا بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي قبل
الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهَا كانت قَادِرَةً على الِاخْتِيَارِ قبل الْإِقَامَةِ
فَدَلَّ امْتِنَاعُهَا مع الْقُدْرَةِ على الرِّضَا بِالنِّكَاحِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو الْفَرْقُ بين هذا الْخِيَارِ وَبَيْنَ خِيَارِ
الْمُخَيَّرَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمُخَيَّرَةِ إنَّمَا اقْتَصَرَ على الْمَجْلِسِ
لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالتَّخْيِيرِ مَلَّكَهَا بالطلاق ( ( ( الطلاق ) ) ) إذْ
الْمَالِكُ لِلشَّيْءِ هو الذي يَتَصَرَّفُ فيه بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ
فَكَانَ التَّخْيِيرُ من الزَّوْجِ تَمْلِيكًا لِلطَّلَاقِ وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ
يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْمُمَلِّكَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ
في الْمَجْلِسِ عَادَةً وَلِهَذَا يَقْتَصِرُ الْقَبُولُ على الْمَجْلِسِ في
الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَالتَّخْيِيرُ من الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ
وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ
الزَّوْجَ ما مَلَّكَهُ الطَّلَاقَ وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ التَّطْلِيقَ
وَوَلَّاهُ ذلك فَيَلِيَ التَّفْوِيضَ لَا التَّمْلِيكَ وإذا لم يَمْلِكْ
بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ من غَيْرِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين
التَّخْيِيرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْمُؤَخَّذُ وَالْخَصِيُّ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا مِثْلُ الْعِنِّينِ
لِوُجُودِ الْآلَةِ في حَقِّهِمَا فَكَانَا كَالْعِنِّينِ وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى
وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ فإنه إذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ إمَّا بِإِقْرَارِهِ أو
بِالْمَسِّ فَوْقَ الْإِزَارِ فَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ عَالِمَةً بِذَلِكَ وَقْتَ النِّكَاحِ
فَلَا خِيَارَ لها لِرِضَاهَا بِذَلِكَ وَإِنْ لم تَكُنْ عَالِمَةً بِهِ
فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ لِلْحَالِ وَلَا يُؤَجَّلُ حَوْلًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ
لِرَجَاءِ الْوُصُولِ وَلَا يُرْجَى منه الْوُصُولُ فلم يَكُنْ التَّأْجِيلُ
مُفِيدًا فَلَا يُؤَجَّلُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ وَفَرَّقَ الْقَاضِي
بَيْنَهُمَا أو لم يُفَرِّقْ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا فَلَهَا كَمَالُ
الْمَهْرِ وَعَلَيْهَا كَمَالُ الْعِدَّةِ إنْ كان قد خلى ( ( ( خلا ) ) ) بها في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لها نِصْفُ الْمَهْرِ وَعَلَيْهَا كَمَالُ
الْعِدَّةِ وَإِنْ كان لم يَخْلُ بها فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ
عليها بِالْإِجْمَاعِ وقد ذَكَرْنَا ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ وَأَمَّا خُلُوُّ الزَّوْجِ عَمَّا سِوَى هذه الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ من
الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالتَّأَخُّذِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ فَهَلْ هو
شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ وَلَا
يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِهِ
وقال مُحَمَّدٌ خُلُوُّهُ من كل عَيْبٍ لَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامَ معه إلَّا
بِضَرَرٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ حتى
يُفْسَخَ بِهِ النِّكَاحُ وَخُلُوُّهُ عَمَّا سِوَى ذلك ليس بِشَرْطٍ وهو مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِيَارَ في الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا
ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عن الْمَرْأَةِ وَهَذِهِ الْعُيُوبُ في إلْحَاقِ
الضَّرَرِ بها فَوْقَ تِلْكَ لِأَنَّهَا من الْأَدْوَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ عَادَةً
فلما ثَبَتَ الْخِيَارُ بِتِلْكَ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَذِهِ أَوْلَى بِخِلَافِ ما
إذَا كانت هذه الْعُيُوبُ في جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَإِنْ كان
يَتَضَرَّرُ بها لَكِنْ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عن نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ فإن
الطَّلَاقَ بيده وَالْمَرْأَةُ لَا يُمْكِنُهَا ذلك لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ
الطَّلَاقَ فَتَعَيَّنَ الْفَسْخُ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْخِيَارَ في تِلْكَ الْعُيُوبِ ثَبَتَ لَدَفْعِ ضَرَرِ فَوَاتِ
حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وهو الْوَطْءُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَذَا
الْحَقُّ لم يَفُتْ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَحَقَّقُ من
الزَّوْجِ مع هذه الْعُيُوبِ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ
هذا في جَانِبِ الزَّوْجِ
وَأَمَّا في جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَخُلُوُّهَا عن الْعَيْبِ ليس بِشَرْطٍ
لِلُزُومِ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا حتى لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ
بِشَيْءٍ من الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ فيها
وقال الشَّافِعِيُّ خُلُوُّ الْمَرْأَةِ عن خَمْسَةِ عُيُوبٍ بها شَرْطُ
اللُّزُومِ وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ بها وَهِيَ الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ
وَالرَّتَقُ وَالْقَرَنُ
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال فِرَّ من
الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ من الْأَسَدِ وَالْفَسْخُ طَرِيقُ الْفِرَارِ وَلَوْ
لَزِمَ النِّكَاحُ لَمَا أَمَرَ بِالْفِرَارِ وروى أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَجَدَ بَيَاضًا في كَشْحِهَا فَرَدَّهَا وقال لها الْحَقِي
بِأَهْلِكِ وَلَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ لَازِمًا لَمَا رَدَّ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ
النِّكَاحِ لَا تَقُومُ مع هذه الْعُيُوبِ أو تَخْتَلُّ بها لِأَنَّ بَعْضَهَا
مِمَّا يَنْفِرُ عنها الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وهو الْجُذَامُ وَالْجُنُونُ
وَالْبَرَصُ فَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ فَلَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ أو
تَخْتَلُّ وَبَعْضُهَا مِمَّا يَمْنَعُ من الْوَطْءِ وهو الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ
وَعَامَّةُ مَصَالِحِ النِّكَاحِ يَقِفُ حُصُولُهَا على الْوَطْءِ فإن الْعِفَّةَ
عن الزِّنَا وَالسَّكَنِ وَالْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ وَلِهَذَا
يَثْبُتُ الْخِيَارُ في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ فَلَا يُفْسَخُ
بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهَا وهو أَنَّ الْعَيْبَ
لَا يَفُوتُ ما هو حُكْمُ هذا الْعَقْدِ من جَانِبِ الْمَرْأَةِ وهو الِازْدِوَاجُ
الْحُكْمِيُّ وَمِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ وَإِنَّمَا يَخْتَلُّ وَيَفُوتُ بِهِ
بَعْضُ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ وَفَوَاتُ جَمِيعِ ثَمَرَاتِ هذا الْعَقْدِ لَا
يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ بِأَنْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ حتى
يَجِبَ عليه كَمَالُ الْمَهْرِ فَفَوَاتُ بَعْضِهَا أَوْلَى
وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هو الِازْدِوَاجُ
الْحُكْمِيُّ وَمِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ شُرِعَ مُؤَكِّدًا له وَالْمَهْرُ
يُقَابِلُ
____________________
(2/327)
إحْدَاثَ
هذا الْمِلْكِ وَبِالْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ إحْدَاثَ الْمِلْكِ لم يَكُنْ
فَلَا يَرْتَفِعُ ما يُقَابَلُ وهو الْمَهْرُ فَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ وَلَا شَكَّ
أَنَّ هذه الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ من الِاسْتِمْتَاعِ أَمَّا الْجُنُونُ
وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَلِكَ الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ
لِأَنَّ اللَّحْمَ يُقْطَعُ وَالْقَرَنُ يُكْسَرُ فَيُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ
بِوَاسِطَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لم يُفْسَخْ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ أَنَّهُ يَجِبُ
الِاجْتِنَابُ عنه وَالْفِرَارُ يُمْكِنُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْفَسْخِ وَلَيْسَ
فيه تَعْيِينُ طَرِيقِ الِاجْتِنَابِ وَالْفِرَارِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَالصَّحِيحُ من الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قال لها الْحَقِي
بِأَهْلِك وَهَذَا من كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا وَالْكَلَامُ في الْفَسْخِ
وَالرَّدِّ الْمَذْكُورُ فيه قَوْلُ الرَّاوِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً أو نحمله ( (
( تحمله ) ) ) على الرَّدِّ بِالطَّلَاقِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن
التَّنَاقُضِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَخُلُوُّ النِّكَاحِ من خِيَارِ
الرُّؤْيَةِ ليس بِشَرْطٍ لِلُزُومِ النِّكَاحِ حتى لو تَزَوَّجَ امْرَأَةً ولم
يَرَهَا لَا خِيَارَ له إذَا رَآهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَكَذَا خُلُوُّهُ عن
خِيَارِ الشَّرْطِ سَوَاءٌ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ أو لِلْمَرْأَةِ أو
لَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو أَقَلَّ أو أَكْثَرَ حتى لو تَزَوَّجَ بِشَرْطِ
الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَجَازَ النِّكَاحُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَشَرْطُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا نَوْعَانِ نَوْعٌ
يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ في نِكَاحِ زَوْجَتِهِ وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى
في نِكَاحِ أَمَتِهِ أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ في نِكَاحِ زَوْجَتِهِ
فَعَدَمُ تَمْلِيكِهِ الطَّلَاقَ منها أو من غَيْرِهَا بِأَنْ يَقُولَ
لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي أو أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَنْوِي الطَّلَاقَ أو طَلِّقِي
نَفْسَكِ أو أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أو يَقُولَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي
إنْ شِئْتَ كَذَا عَدَمُ التَّطْلِيقِ بِشَرْطٍ وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ
لِأَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ جَعَلَ النِّكَاحَ بِحَالٍ لَا يَتَوَقَّفُ زَوَالُهُ
على اخْتِيَارِهِ بَعْدَ الْجَعْلِ وَكَذَا بِالتَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ وَهَذَا
مَعْنَى عَدَمُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى في نِكَاحِ أَمَتِهِ فَهُوَ أَنْ لَا
يَعْتِقَ أَمَتَهُ الْمَنْكُوحَةَ حتى لو أَعْتَقَهَا لَا يَبْقَى الْعَقْدُ
لَازِمًا وكان لها الْخِيَارُ وهو الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الْعَتَاقَةِ وَالْكَلَامُ
فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هذا الْخِيَارِ وفي بَيَانِ وَقْتِ
ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِثُبُوتِ هذا الْخِيَارِ شَرَائِطُ منها وُجُودُ النِّكَاحِ
وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حتى لو أَعْتَقَهَا ثُمَّ زَوَّجَهَا من إنْسَانٍ فَلَا
خِيَارَ لها لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ أَعْتَقَهَا
ثُمَّ زَوَّجَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لَا خِيَارُ
الْعِتْقِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّزْوِيجُ نَافِذًا حتى لو زَوَّجَتْ الْأَمَةُ
نَفْسَهَا من إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى
فَلَا خِيَارَ لها وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ رَقِيقًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ فَهَلْ
هو شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لها
قال أَصْحَابُنَا ليس بِشَرْطٍ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لها سَوَاءٌ كان زَوْجُهَا
حُرًّا أو عَبْدًا وقال الشَّافِعِيُّ شَرْطٌ وَلَا خِيَارَ لها إذَا كان
زَوْجُهَا حُرًّا
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت زَوْجُ بَرِيرَةَ
كان عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَوْ كان حُرًّا
ما خَيَّرَهَا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَالظَّاهِرُ أنها إنَّمَا قالت ذلك
سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّ الْخِيَارَ في
الْعَبْدِ إنَّمَا ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وهو ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ
وَضَرَرُ لُزُومِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ وَضَرَرُ نُقْصَانِ الْمُعَاشَرَةِ
لِكَوْنِ الْعَبْدِ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَشَيْءٌ من ذلك لم يُوجَدْ
في الْحُرِّ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ
وَلَنَا ما روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِبَرِيرَةَ
حين أُعْتِقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي وَرُوِيَ مَلَكْتِ أَمْرَكِ
وَرُوِيَ مَلَكْتِ نَفْسَكِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا
بِنَصِّهِ وَالْآخَرِ بِعِلَّةِ النَّصِّ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنَّهُ خَيَّرَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
حين أُعْتِقَتْ وقد روى أَنَّ زَوْجَهَا كان حُرًّا فَإِنْ قِيلَ رَوَيْنَا عن
عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ زَوْجَهَا كان عَبْدًا فَتَعَارَضَتْ
الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا
فَالْجَوَابُ أَنَّ ما رَوَيْنَا مُثْبِتٌ لِلْحُرِّيَّةِ وما رَوَيْتُمْ مُبْقٍ
لِلرِّقِّ وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ قد يَكُونُ بِاسْتِصْحَابِ
الْحَالِ وَالثُّبُوتُ يَكُونُ بِنَاءً على الدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ فَمَنْ قال
كان عَبْدًا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ اعْتَمَدَ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ وَمَنْ قال كان
حُرًّا بَنَى الْأَمْرَ على الدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ كَالْمُزَكِّيَيْنِ
جَرَّحَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا وَالْآخَرُ زَكَّاهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ
الْجَارِحِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلِأَنَّ ما رَوَيْنَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ
وما رَوَيْتُمْ مُخَالِفٌ له لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَالْمُوَافِقُ لِلْقِيَاسِ أَوْلَى
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم جَعَلَ مِلْكَهَا
بُضْعَهَا أو أَمْرَهَا أو نَفْسَهَا عِلَّةً لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لها لِأَنَّهُ
أَخْبَرَ أنها مَلَكَتْ بُضْعَهَا ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لها
بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ وَمِلْكُهَا نَفْسَهَا مُؤَثِّرٌ في رَفْعِ الْوِلَايَةِ في
الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتِصَاصٌ وَلَا اخْتِصَاصَ مع وِلَايَةِ
الْغَيْرِ وَالْحُكْمُ إذَا ذُكِرَ عَقِيبَ وَصْفٍ له أَثَّرَ
____________________
(2/328)
في
الْجُمْلَةِ في جِنْسِ ذلك الْحُكْمِ في الشَّرْعِ كان ذلك تَعْلِيقًا لِذَلِكَ
الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ في أُصُولِ الشَّرْعِ كما في قَوْله تَعَالَى {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَقَوْلِهِ عز وجل {
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }
وَكَمَا روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَهَا فَسَجَدَ
وروى أَنَّ مَاعِزًا زنا فَرُجِمَ وَنَحْوَ ذلك وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ
الْعِلَّةِ وَلَا يَتَخَصَّصُ بِخُصُوصِ الْمَحَلِّ كما في سَائِرِ الْعِلَلِ
الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَزَوْجُ بَرِيرَةَ وَإِنْ كان عَبْدًا لَكِنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا بَنَى الْخِيَارَ فيه على مَعْنًى عَامٍّ وهو
مِلْكُ الْبُضْعِ يُعْتَبَرُ عُمُومُ الْمَعْنَى لَا خُصُوصُ الْمَحَلِّ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزْدَادُ مِلْكُ النِّكَاحِ عليها لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
عليها عُقْدَةً زَائِدَةً لم يَكُنْ يَمْلِكُهَا قبل الْإِعْتَاقِ بِنَاءً على
أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْبِنَاءِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَالْمَسْأَلَةُ فَرِيعَةُ
ذلك الْأَصْلِ
وَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بها وَلَهَا
وِلَايَةُ رَفْعِ الضَّرَرِ عن نَفْسِهَا وَلَا يُمْكِنُهَا رَفْعُ الزِّيَادَةِ
إلَّا بِرَفْعِ أَصْلِ النِّكَاحِ فَبَقِيَتْ لها وِلَايَةُ رَفْعِ النِّكَاحِ
وَفَسْخِهِ ضَرُورَةَ رَفْعِ الزِّيَادَةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنه
لَا ضَرَرَ فيه لِمَا بَيَّنَّا من وَجْهِ الضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ لو لم يَثْبُتْ
لها الْخِيَارُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ لَازِمًا لَأَدَّى ذلك إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ
الزَّوْجُ مَنَافِعَ بُضْعِ حُرَّةٍ جَبْرًا بِبَدَلٍ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهَا
بِالْعَقْدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ كما لو كان الزَّوْجُ عَبْدًا وَلِأَنَّ
الْقَوْلَ بِبَقَاءِ هذا النِّكَاحِ لَازِمًا يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ
بُضْعِ الْحُرَّةِ من غَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْحُرَّةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
لِأَنَّهَا لَا تَرْضَى بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ بُضْعِهَا إلَّا بِبَدَلٍ
تَسْتَحِقُّهُ هِيَ فَلَوْ لم يَثْبُتْ الْخِيَارُ لها لَصَارَ الزَّوْجُ
مُسْتَوْفِيًا مَنَافِعَ بُضْعِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ جَبْرًا عليها من غَيْرِ
رِضَاهَا بِبَدَلٍ اسْتَحَقَّهُ مَوْلَاهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِهَذَا
الْمَعْنَى ثَبَتَ لها الْخِيَارُ إذَا كان زَوْجُهَا عَبْدًا
كَذَا إذَا كان حُرًّا
وَكَذَا اُخْتُلِفَ في أَنَّ كَوْنَهَا رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ هل هو شَرْطٌ
أَمْ لَا قال أبو يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ وَيَثْبُتُ لها الْخِيَارُ سَوَاءٌ كانت
رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى أو كانت حُرَّةً وَقْتَ
النِّكَاحِ ثُمَّ طَرَأَ عليها الرِّقُّ فَأَعْتَقَهَا
حتى أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ إذَا تَزَوَّجَتْ في دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَا
مَعًا ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ
وقال مُحَمَّدٌ هو شَرْطٌ وَلَا خِيَارَ لها وَكَذَا الْمُسْلِمَةُ إذَا
تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ
سُبِيَتْ وَزَوْجُهَا مَعَهَا فَأَسْلَمَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فَهُوَ على
هذا الِاخْتِلَافِ
فَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بين الرِّقِّ الطارىء على النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُقَارِنِ
إيَّاهُ وأبو يُوسُفَ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أنها إذَا
كانت رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ
عِنْدَ الْإِعْتَاقِ وإذا كانت حُرَّةً فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ لَا يَنْعَقِدُ
مُوجِبًا لِلْخِيَارِ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِطَرَيَانِ الرِّقِّ بَعْدَ ذلك
لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا في الرِّضَا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ زِيَادَةَ
الْمِلْكِ تَثْبُتُ بِهِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقُ مُوجِبُ
الْإِعْتَاقِ وَلَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ السَّابِقَ ما
انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْأَمَةَ وَنِكَاحُ
الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الْمِلْكِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ
يَجْعَلُ زِيَادَةَ الْمِلْكِ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلُهَا حُكْمَ
الْعَقْدِ السَّابِقِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِعْتَاقِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ
يَثْبُتُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنه لَا يَثْبُتُ إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً حتى لو أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ
ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ سُبِيَتْ وَزَوْجُهَا مَعَهَا فَأُعْتِقَتْ
فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس لها
ذلك لِأَنَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْإِعْتَاقِ وقد تَكَرَّرَ
الْإِعْتَاقُ فَيَتَكَرَّرُ الْخِيَارُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ
وَأَنَّهُ لم يَتَكَرَّرْ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا خِيَارٌ وَاحِدٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ فَوَقْتُ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ وَبِالْخِيَارِ
وَأَهْلِيَّةُ الِاخْتِيَارِ فَيَثْبُتُ لها الْخِيَارُ في الْمَجْلِسِ الذي
تَعْلَمُ فيه بِالْعِتْقِ وَبِأَنَّ لها الْخِيَارَ وَهِيَ من أَهْلِ
الِاخْتِيَارِ حتى لو أَعْتَقَهَا ولم تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ أو عَلِمَتْ
بِالْعِتْقِ ولم تَعْلَمْ بِأَنَّ لها الْخِيَارَ فلم تَخْتَرْ لم يَبْطُلْ
خِيَارُهَا وَلَهَا بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ إذَا عَلِمَتْ بِهِمَا بِخِلَافِ خِيَارِ
الْبُلُوغِ فإن الْعِلْمَ بِالْخِيَارِ فيه ليس بِشَرْطٍ وقد بَيَّنَّا الْفَرْقَ
بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
كذلك ( ( ( وكذلك ) ) ) إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَلَهَا خِيَارُ
الْعِتْقِ إذَا بَلَغَتْ لِأَنَّهَا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لم تَكُنْ من أَهْلِ
الِاخْتِيَارِ وَلَيْسَ لها خِيَارُ الْبُلُوغِ لِأَنَّ النِّكَاحَ وُجِدَ في
حَالَةِ الرِّقِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ تَزَوَّجَتْ مُكَاتَبَةٌ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَأُعْتِقَتْ فَلَهَا
الْخِيَارُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا خِيَارَ لها
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا ضَرَر عليها لِأَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ لها
وَالْمَهْرُ مُسَلَّمٌ لها
وَلَنَا ما روى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيَّرَ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ
مُكَاتَبَةً وَلِأَنَّ عِلَّةَ النَّصِّ عَامَّةٌ على ما بَيَّنَّا وَكَذَا
الْمِلْكُ يَزْدَادُ عليها كما يَزْدَادُ على الْقِنَّةِ
____________________
(2/329)
فَصْلٌ
وَأَمَّا ما يَبْطُلُ بِهِ فَهَذَا الْخِيَارُ يَبْطُلُ بِالْإِبْطَالِ نَصًّا
وَدَلَالَةً من قَوْلٍ أو فِعْلٍ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالنِّكَاحِ على ما
بَيَّنَّا في خِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَيَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ
لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَلَا يَبْطُلُ
بِالسُّكُوتِ بَلْ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ إذَا لم يُوجَدْ منها دَلِيلُ
الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ لِرِضَاهَا بِالْمُقَامِ معه وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأَمُّلِ
لِأَنَّ بِالْعِتْقِ ازْدَادَ الْمِلْكُ عليها فَتَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ
وَلَا بُدَّ لِلتَّأَمُّلِ من زَمَانٍ فَقُدِّرَ ذلك بِالْمَجْلِسِ كما في خِيَارِ
الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارُ الْقَبُولِ في الْبَيْعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ
أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ من الْبِكْرِ لِأَنَّ بِالْبُلُوغِ ما ازْدَادَ
الْمِلْكُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأَمُّلِ فلم يَكُنْ سُكُوتُهَا لِلتَّأَمُّلِ
فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وفي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ثَبْتُ الْمَجْلِسِ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَنَّهُ
لَمَّا ازْدَادَ الْمِلْكُ عليها جَعَلَهَا الْعَقْدُ السَّابِقُ في حَقِّ
الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ النِّكَاحِ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وإذا
اخْتَارَتْ نَفْسَهَا حتى وقعت ( ( ( وقت ) ) ) الْفُرْقَةِ كانت فُرْقَةً
بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا تَفْتَقِرُ هذه
الْفُرْقَةُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَقَاءُ الزَّوْجِ قَادِرًا على النَّفَقَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ
النِّكَاحِ لَازِمًا حتى لو عَجَزَ عن النَّفَقَةِ لَا يَثْبُتُ لها حَقُّ
الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ
وَيَثْبُتُ لها حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ
احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
أَمَرَ عز وجل بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وقد عَجَزَ عن الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ
لِأَنَّ ذلك بِإِيفَاءِ حَقِّهَا في الْوَطْءِ وَالنَّفَقَةِ فَتَعَيَّنَ عليه
التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا نَابَ للقاضي ( ( ( القاضي )
) ) مَنَابَهُ في التَّسْرِيحِ وهو التَّفْرِيقُ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ عن
مِلْكِ النِّكَاحِ وقد فَاتَ الْعِوَضُ بِالْعَجْزِ فَلَا يَبْقَى النِّكَاحُ
لَازِمًا كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ
فَوَاتَ الْعِوَضِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ لَازِمًا فَكَذَا
فَوَاتُ الْمُعَوَّضِ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ
وَلَنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ إبْطَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ على الزَّوْجِ من غَيْرِ
رِضَاهُ وَهَذَا في الضَّرَرِ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَرْأَةِ بِعَجْزِ الزَّوْجِ عن
النَّفَقَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ النَّفَقَةَ على الزَّوْجِ إذَا طَلَبَتْ
الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ وَيَأْمُرُهَا بِالْإِنْفَاقِ من مَالِ نَفْسِهَا إنْ كان
لها مَالٌ وَبِالِاسْتِدَانَةِ إنْ لم يَكُنْ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَتَصِيرُ
النَّفَقَةُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ
عليه بِمَا أَنْفَقَتْ إذَا أَيْسَرَ الزَّوْجُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهَا إلَى
يَسَارِ الزَّوْجِ وَلَا يَبْطُلُ وَضَرَرُ الْإِبْطَالِ فَوْقَ ضَرَرِ
التَّأْخِيرِ بِخِلَافِ التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَلِأَنَّ هُنَاكَ
الضَّرَرَ من الْجَانِبَيْنِ جميعا ضَرَرُ إبْطَالِ الْحَقِّ لِأَنَّ حَقَّ
الْمَرْأَةِ يَفُوتُ عن الْوَطْءِ وَضَرَرُهَا أَقْوَى لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا
يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ كَثِيرُ ضَرَرٍ لِعَجْزِهِ عن الْوَطْءِ فَأَمَّا
الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا مَحَلٌّ صَالِحٌ لِلْوَطْءِ فَلَا يُمْكِنُهَا اسْتِيفَاءُ
حَظِّهَا من هذا الزَّوْجِ وَلَا من زَوْجٍ آخَرَ لِمَكَانِ هذا الزَّوْجِ فَكَانَ
الرُّجْحَانُ لِضَرَرِهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَقَدْ قِيلَ في التَّفْسِيرِ إن الْإِمْسَاكَ
بِالْمَعْرُوفِ هو الرَّجْعَةُ وهو أَنْ يُرَاجِعَهَا على قَصْدِ الْإِمْسَاكِ
وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ هو أَنْ يَتْرُكَهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مع
ما أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عز وجل { على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ } فَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ في حَقِّ الْعَاجِزِ عن النَّفَقَةِ
بِالْتِزَامِ النَّفَقَةِ على أَنَّهُ إنْ كان عَاجِزًا عن الْإِمْسَاكِ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عليه التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ إذَا كان
قَادِرًا وَلَا قُدْرَةَ له على ذلك لِأَنَّ ذلك بِالتَّطْلِيقِ مع إيفَاءِ
حَقِّهَا في نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وهو عَاجِزٌ عن نَفَقَةِ الْحَالِ فَكَيْفَ
يَقْدِرُ على نَفَقَةِ الْعِدَّةِ على أَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ مُحْتَمَلٌ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه التَّفْرِيقَ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه التَّفْرِيقَ وَالتَّبْعِيدَ من حَيْثُ
الْمَكَانُ وهو تَخْلِيَةُ السَّبِيلِ وَإِزَالَةُ الْيَدِ إذْ حَقِيقَةُ
التَّسْرِيحِ هِيَ التَّخْلِيَةُ وَذَلِكَ قد يَكُونُ بِإِزَالَةِ الْيَدِ
وَالْحَبْسِ وَعِنْدَنَا لَا يَبْقَى له وِلَايَةُ الْحَبْسِ فَلَا يَكُونُ
حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ النَّفَقَةُ عِوَضٌ عن مِلْكِ النِّكَاحِ فَمَمْنُوعٌ فإن
الْعِوَضَ ما يَكُونُ مَذْكُورًا في الْعَقْدِ نَصًّا وَالنَّفَقَةُ غَيْرُ
مَنْصُوصٍ عليها فَلَا تَكُونُ عِوَضًا بَلْ هِيَ بِمُقَابَلَةِ الِاحْتِبَاسِ
وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ تَزُولُ عِنْدَ الْعَجْزِ ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ
عِوَضٌ لَكِنَّ بَقَاءَ الْمُعَوَّضِ مُسْتَحِقًّا يَقِفُ على اسْتِحْقَاقِ
الْعِوَضِ في الْجُمْلَةِ لَا على وُصُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ وَالنَّفَقَةُ
هَهُنَا مُسْتَحَقَّةٌ في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كانت لَا تَصِلُ إلَيْهَا لِلْحَالِ
فَيَبْقَى الْعِوَضُ حَقًّا لِلزَّوْجِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ النِّكَاحِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ في الْأَصْلِ
أَحَدِهِمَا
____________________
(2/330)
في
بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَرْفَعُ حُكْمَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالنِّكَاحُ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا وَيَتَعَلَّقُ
بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ
أَمَّا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَلَهُ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا
من التَّوَابِعِ أَمَّا الْأَصْلِيَّةُ منها فَحِلُّ الْوَطْءِ إلَّا في حَالَةِ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وفي الظِّهَارِ قبل التَّكْفِيرِ
لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
} { إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ } نفي اللَّوْمَ عَمَّنْ لَا يَحْفَظُ فَرْجَهُ على زَوْجَتِهِ فَدَلَّ
على حال ( ( ( حل ) ) ) الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ الْوَطْءَ في حَالَةِ الْحَيْضِ
خُصَّ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَيَسْأَلُونَكَ عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ }
وَالنِّفَاسُ أَخُو الْحَيْضِ وَقَوْلِهِ عز وجل { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ
في حَرْثِهِ مع ما أَنَّهُ قد أَبَاحَ إتْيَانَ الْحَرْثِ بِقَوْلِهِ عزوجل {
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وروى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا
يَمْلِكْنَ شيئا اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ الْمَذْكُورَةُ في كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ لَفْظَةُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ على حِلِّ
الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ بِلَفْظَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ
وَغَيْرِهِمَا في مَعْنَاهُمَا فَكَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ
ضَمٌّ وَتَزْوِيجٌ لُغَةً فَيَقْتَضِي الإنضمام والإزدواج وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك
إلَّا بِحِلِّ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَمْنَعُ من ذلك
وَهَذَا الْحُكْمُ وهو حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ مُشْتَرَكٌ بين الزَّوْجَيْنِ فإن
الْمَرْأَةَ كما تَحِلُّ لِزَوْجِهَا فَزَوْجُهَا يَحِلُّ لها قال عز وجل { لَا
هُنَّ حِلٌّ لهم وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَهَا
بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إلَّا عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ مَانِعَةٍ من
الْوَطْءِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالْإِحْرَامِ وَغَيْرِ ذلك
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْوَطْءِ لِأَنَّ حِلَّهُ لها
حَقُّهَا كما أَنَّ حِلَّهَا له حَقُّهُ وإذا طَالَبَتْهُ يَجِبُ على الزَّوْجِ
وَيُجْبَرُ عليه في الْحُكْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالزِّيَادَةُ على ذلك تَجِبُ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى من بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ
وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ فَلَا يَجِبُ عليه في الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عليه في الْحُكْمِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا حِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ من رَأْسِهَا إلَى قَدَمَيْهَا في
حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ فَكَانَ
إحْلَالُهُ إحْلَالًا لِلْمَسِّ وَالنَّظَرُ من طَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَلْ يَحِلُّ
الِاسْتِمْتَاعُ بها بِمَا دُونَ الْفَرْجِ في حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فيه
خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا
يَحِلُّ له الْمَسُّ وَالنَّظَرُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا مِلْكُ الْمُتْعَةِ وهو اخْتِصَاصُ الزَّوْجِ بِمَنَافِعِ
بُضْعِهَا وَسَائِرِ أَعْضَائِهَا اسْتِمْتَاعًا أو مِلْكُ الذَّاتِ وَالنَّفْسِ
في حَقِّ التَّمَتُّعِ على اخْتِلَافِ مَشَايِخِنَا في ذلك لِأَنَّ مَقَاصِدَ
النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا الِاخْتِصَاصُ
الْحَاجِزُ عن التَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ لِأَنَّ قَلْبَ
الزَّوْجِ لَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا وَنَفْسَهُ لَا تَسْكُنُ مَعَهَا وَيَفْسُدُ
الْفِرَاشُ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَازِمٌ في النِّكَاحِ
وَأَنَّهُ عِوَضٌ عن الْمِلْكِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَدُلُّ على
لُزُومِ الْمِلْكِ في النِّكَاحِ أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا
الْحُكْمُ على الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ عِوَضٌ عن الْمَهْرِ
وَالْمَهْرُ على الرَّجُلِ وَقِيلَ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عز وجل { وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ الْمِلْكُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا مِلْكُ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ وهو صَيْرُورَتُهَا مَمْنُوعَةً عن
الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ } وَالْأَمْرُ
بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عن الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْإِخْرَاجِ إذْ الْأَمْرُ
بِالْفِعْلِ نهى عن ضِدِّهِ وَقَوْلُهُ عز وجل { وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ }
وَلِأَنَّهَا لو لم تَكُنْ مَمْنُوعَةً عن الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لَاخْتَلَّ
السَّكَنُ وَالنَّسَبُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا يُرِيبُ الزَّوْجَ وَيَحْمِلُهُ على
نَفْيِ النَّسَبِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمَهْرِ على الزَّوْجِ وَأَنَّهُ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ
لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا لَا وُجُودَ له بِدُونِهِ شَرْعًا وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عن الْمِلْكِ
لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إحْدَاثِ الْمِلْكِ على ما مَرَّ وَثُبُوتُ
الْعِوَضِ يَدُلُّ على ثُبُوتِ الْمُعَوَّضِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ وَإِنْ كان ذلك حُكْمَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً
لَكِنَّ سَبَبَهُ الظَّاهِرَ هو النِّكَاحُ لِكَوْنِ
____________________
(2/331)
الدُّخُولِ
أَمْرًا بَاطِنًا فَيُقَامُ النِّكَاحُ مَقَامَهُ في إثْبَاتِ النَّسَبِ وَلِهَذَا
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
وَكَذَا لو تَزَوَّجَ الْمَشْرِقِيُّ بِمَغْرِبِيَّةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ
النَّسَبُ وَإِنْ لم يُوجَدْ الدُّخُولُ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ وهو
النِّكَاحُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى
الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وقَوْله تَعَالَى {
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } وَقَوْلِهِ { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من
وُجْدِكُمْ } وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنَّهَا لَا
تُمَكَّنُ من الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ لِكَوْنِهَا عَاجِزَةً بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ
لِضَعْفِ بِنْيَتِهَا وَالْكَلَامُ في سَبَبِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ وَشَرْطُ
وُجُوبِهَا وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ منها نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
كِتَابِ النَّفَقَةِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَهِيَ حُرْمَةُ أَنْكِحَةِ فِرَقٍ
مَعْلُومَةٍ ذَكَرْنَاهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرْنَا دَلِيلَ الْحُرْمَةِ
إلَّا أَنَّ في بَعْضِهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وفي بَعْضِهَا
يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ وقد بَيَّنَّا جُمْلَةَ ذلك في مَوَاضِعِهَا
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْإِرْثُ من الْجَانِبَيْنِ جميعا لِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَكُمْ
نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل { فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ من بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أو دَيْنٍ }
فَصْلٌ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعَدْلِ بين النِّسَاءِ في حُقُوقِهِنَّ وَجُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ له أَكْثَرَ من
امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وأما أن كانت له امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كان له أَكْثَرُ
من امْرَأَةٍ فَعَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ في حُقُوقِهِنَّ من الْقَسْمِ
وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وهو التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ في ذلك حتى لو كانت
تَحْتَهُ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ أو أَمَتَانِ يَجِبُ عليه أَنْ يَعْدِلَ
بَيْنَهُمَا في الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالسُّكْنَى
وَالْبَيْتُوتَةِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ تعالى ( ( ( عز ) ) ) { فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } عَقِيبَ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا
ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أَيْ إنْ خِفْتُمْ
أَنْ لَا تَعْدِلُوا في الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ في نِكَاحِ الْمَثْنَى
وَالثَّلَاثِ وَالرُّبَاعِ فَوَاحِدَةً
نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ تَرْكِ
الْعَدْلِ في الزِّيَادَةِ
وَإِنَّمَا يُخَافُ على تَرْكِ الْوَاجِبِ فَدَلَّ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ في
الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَاجِبٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ
{ ذلك أَدْنَى ألا تَعُولُوا } أَيْ تَجُورُوا وَالْجَوْرُ حَرَامٌ فَكَانَ
الْعَدْلُ وَاجِبًا ضَرُورَةً وَلِأَنَّ الْعَدْلَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ عز وجل
{ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } على الْعُمُومِ
وَالْإِطْلَاقِ إلَّا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وروى عن أبي قِلَابَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَعْدِلُ بين
نِسَائِهِ في الْقِسْمَةِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هذه قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ
فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ أنت وَلَا أَمْلِكُ وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي
اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من كان له
امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جاء يوم الْقِيَامَةِ
وَشِقُّهُ مَائِلٌ وَيَسْتَوِي في الْقَسْمِ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ وَالشَّابَّةُ
وَالْعَجُوزُ وَالْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ
لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ
في سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ وهو النِّكَاحُ فَيَسْتَوِيَانِ في وُجُوبِ الْقَسْمِ
وَلَا قَسْمَ لِلْمَمْلُوكَاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْ لَا لَيْلَةَ لَهُنَّ
وَإِنْ كَثُرْنَ لِقَوْلِهِ عز وجل { وإن خِفْتُمْ أَلَّا تقسطوا ( ( ( تعدلوا ) )
) في ( ( ( فواحدة ) ) ) اليتامى فانكحوا ما طاب ( ( ( ملكت ) ) ) لكم ( ( (
أيمانكم ) ) ) } قَصَرَ الْإِبَاحَةَ في النِّكَاحِ على عَدَدٍ لِتَحَقُّقِ
الْجَوْرِ في الزِّيَادَةِ
ثُمَّ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ
الْجَوْرِ في الزِّيَادَةِ وَأَبَاحَ من مِلْكِ الْيَمِينِ من غَيْرِ عَدَدٍ
فَدَلَّ أَنَّهُ ليس فيه خَوْفُ الْجَوْرِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ إذَا لم يَكُنْ
لَهُنَّ قَسْمٌ إذْ لو كان لَكَانَ فيه خَوْفُ الْجَوْرِ كما في الْمَنْكُوحَةِ
وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو النِّكَاحُ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ كانت إحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً فَلِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ
وَلِلْأَمَةِ يَوْمٌ لِمَا روى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه
وَمَرْفُوعًا إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْحُرَّةِ الثلثان (
( ( ثلثان ) ) ) من الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ وَلِأَنَّهُمَا ما
اسْتَوَيَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو النِّكَاحُ فإنه لَا يَجُوزُ نِكَاحُ
الْأَمَةِ بَعْدَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَلَا مع نِكَاحِهَا وَكَذَا لَا يَجُوزُ
لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ من اثْنَتَيْنِ وَلِلْحُرِّ أَنْ
يَتَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ فلم يَتَسَاوَيَا في السَّبَبِ فَلَا
يَتَسَاوَيَانِ في الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ مع الْكِتَابِيَّةِ لِأَنَّ
الْكِتَابِيَّةَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا قبل الْمُسْلِمَةِ وَبَعْدَهَا وَمَعَهَا
وَكَذَا لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بين أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ
فَتَسَاوَيَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَتَسَاوَيَانِ في الْحُكْمِ وَلِأَنَّ
الْحُرِّيَّةَ تنبىء عن الْكَمَالِ وَالرِّقُّ يُشْعِرُ بِنُقْصَانِ الْحَالِ وقد
ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ في الشَّرْعِ في الْمَالِكِيَّةِ وَحِلِّ
الْمَحَلِّيَّةِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَدِّ وَغَيْرِ ذلك فكان ( ( ( فكذا ) ) ) في
الْقَسْمِ وَهَذَا التَّفَاوُتُ في السُّكْنَى وَالْبَيْتُوتَةِ يَسْكُنُ عِنْدَ
الْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ وَعِنْدَ الْأَمَةِ لَيْلَةً فَأَمَّا في الْمَأْكُولِ
____________________
(2/332)
وَالْمَشْرُوبِ
وَالْمَلْبُوسِ فإنه يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ذلك من الْحَاجَاتِ
اللَّازِمَةِ فَيَسْتَوِي فيه الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ
وَالْمَرِيضُ في وُجُوبِ الْقَسْمِ عليه كَالصَّحِيحِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ في مَرَضِ مَوْتِهِ أَنْ
يَكُونَ في بَيْتِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَلَوْ سَقَطَ الْقَسْمُ
بِالْمَرَضِ لم يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ مَعْنًى وَلَا قَسْمَ على الزَّوْجِ إذَا
سَافَرَ حتى لو سَافَرَ بِإِحْدَاهُمَا وَقَدِمَ من السَّفَرِ وَطَلَبَتْ الْأُخْرَى
أَنْ يَسْكُنَ عِنْدَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ فَلَيْسَ لها ذلك لِأَنَّ مُدَّةَ
السَّفَرِ ضَائِعَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ له أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ دُونَهُنَّ
لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيَخْرُجُ بِمِنْ خَرَجَتْ
قُرْعَتُهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ دَفْعًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عن نَفْسِهِ
هَكَذَا كان يَفْعَلُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا أَرَادَ السَّفَرَ
أَقْرَعَ بين نِسَائِهِ
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ سَافَرَ بها بِقُرْعَةٍ فَكَذَلِكَ
فَأَمَّا إذَا سَافَرَ بها بِغَيْرِ قُرْعَةٍ فإنه يَقْسِمُ لِلْبَاقِيَاتِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ بِالْقُرْعَةِ لَا يُعْرَفُ أَنَّ لها حَقًّا في
حَالَةِ السَّفَرِ أو لَا فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ إبدا
لِاخْتِلَافِ عَمَلِهَا في نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ على وَجْهٍ وَاحِدٍ بَلْ
مَرَّةٌ هَكَذَا وَمَرَّةٌ هَكَذَا وَالْمُخْتَلَفُ فيه لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على
شَيْءٍ وَلَوْ وَهَبَتْ إحْدَاهُمَا قَسْمَهَا لِصَاحِبَتِهَا أو رَضِيَتْ
بِتَرْكِ قَسْمِهَا جَازَ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لها فَلَهَا أَنْ تَسْتَوْفِيَ
وَلَهَا أَنْ تَتْرُكَ
وقد روى أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رضي اللَّهُ عنها لَمَّا كَبُرَتْ
وَخَشِيَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم جَعَلَتْ
يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَقِيلَ فيها نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {
وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ من بَعْلِهَا نُشُوزًا أو إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
وَالْمُرَادُ من الصُّلْحِ هو الذي جَرَى بَيْنَهُمَا
كَذَا قَالَهُ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
فَإِنْ رَجَعَتْ عن ذلك وَطَلَبَتْ قَسْمَهَا فَلَهَا ذلك لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ كان
إبَاحَةً منها وَالْإِبَاحَةُ لَا تَكُونُ لَازِمَةً كَالْمُبَاحِ له الطَّعَامُ
أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبِيحُ مَنْعَهُ وَالرُّجُوعَ عن ذلك وَلَوْ بَذَلَتْ
وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مَالًا لِلزَّوْجِ لِيَجْعَلَ لها في الْقَسْمِ أَكْثَرَ
مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْعَلَ وَيَرُدَّ ما أَخَذَهُ
منها لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ لِمَنْعِ الْحَقِّ عن
الْمُسْتَحِقِّ وَكَذَلِكَ لو بَذَلَ الزَّوْجُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَالًا
لِتَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِصَاحِبَتِهَا أو بَذَلَتْ هِيَ لِصَاحِبَتِهَا مَالًا
لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لها لَا يَجُوزُ شَيْءٌ من ذلك وَيُسْتَرَدُّ الْمَالُ
لِأَنَّ هذا مُعَاوَضَةُ الْقَسْمِ بِالْمَالِ فَيَكُونُ في مَعْنَى الْبَيْعِ
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا هذا
هذا إذَا كان له امْرَأَتَانِ أو أَكْثَرُ من ذلك فَأَمَّا إذَا كانت له امْرَأَةٌ
وَاحِدَةٌ فَطَالَبَتْهُ بِالْوَاجِبِ لها ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رِوَايَةَ
الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا تَشَاغَلَ الرَّجُلُ عن زَوْجَتِهِ
بِالصِّيَامِ أو بِالصَّلَاةِ أو بِأَمَةٍ اشْتَرَاهَا قَسَمَ لِامْرَأَتِهِ من كل
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَمِنْ كل أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً وَقِيلَ له
تَشَاغَلْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ ليالي ( ( ( ليال ) ) ) بِالصَّوْمِ أو
بِالْأَمَةِ
وَهَكَذَا كان الطَّحَاوِيُّ يقول إنَّهُ يَجْعَلُ لها يَوْمًا وَاحِدًا يَسْكُنُ
عِنْدَهَا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ
وَأَشْغَالِهِ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ
امْرَأَةً رَفَعَتْ زَوْجَهَا إلَى عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَذَكَرَتْ أَنَّهُ يَصُومُ
النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه ما أَحْسَنَكِ ثناءا
( ( ( ثناء ) ) ) على بَعْلِكِ فقال كَعْبٌ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهَا
تَشْكُو إلَيْكَ زَوْجَهَا فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَكَيْفَ ذلك فقال كَعْبٌ
إنَّهُ إذَا صَامَ النَّهَارَ وَقَامَ اللَّيْلَ فَكَيْفَ يَتَفَرَّغُ لها فقال
عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه لِكَعْبٍ إحكم بَيْنَهُمَا فقال أَرَاهَا إحْدَى نِسَائِهِ
الْأَرْبَعِ يُفْطِرُ لها يَوْمًا وَيَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَاسْتَحْسَنَ ذلك
منه عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ هذا في كِتَابِ النِّكَاحِ ولم يذكر أَنَّهُ يَأْخُذُ بهذا
الْقَوْلِ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ هذا ليس مَذْهَبَنَا لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ في
الْقَسْمِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِمُشَارَكَاتِ الزَّوْجَاتِ فإذا لم يَكُنْ له زَوْجَةٌ
غَيْرُهَا لم تَتَحَقَّقْ الْمُشَارَكَةُ فَلَا يَقْسِمُ لها وَإِنَّمَا يُقَالُ
له لَا تُدَاوِمْ على الصَّوْمِ وَوَفِّ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا كَذَا قَالَهُ
الْجَصَّاصُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
كان يقول أَوَّلًا كما رَوَى الْحَسَنُ عنه لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ كَعْبٌ وهو
أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا عن ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَنْ
يَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا أُخَرَ سِوَاهَا فلما لم يَتَزَوَّجْ فَقَدْ جَعَلَ ذلك
لِنَفْسِهِ فَكَانَ الْخِيَارُ له في ذلك فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ ذلك إلَى
الزَّوْجَاتِ وَإِنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى صِيَامِهِ وَصَلَاتِهِ وَأَشْغَالِهِ
ثُمَّ رَجَعَ عن ذلك وقال هذا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لو تَزَوَّجَ أَرْبَعًا
فَطَالَبْنَ بِالْوَاجِبِ منه يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةٌ من الْأَرْبَعِ
فَلَوْ جَعَلْنَا هذا حَقًّا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَا يَتَفَرَّغُ
لِأَعْمَالِهِ فلم يُوَقِّتْ في هذا وَقْتًا وَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ أَمَةً
فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَخِيرًا إنْ صَحَّ الرُّجُوعُ لَا شَكَّ أَنَّهُ
لَا يَقْسِمُ لها كما لا يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى وَعَلَى
قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يَجْعَلُ لها لَيْلَةً من كل سَبْعِ
لَيَالٍ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ إسْقَاطِ حَقِّهَا عن سِتَّةِ أَيَّام
وَالِاقْتِصَارَ على يَوْمٍ
____________________
(2/333)
وَاحِدٍ
بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عليها ثَلَاثَ حَرَائِرَ لِأَنَّ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ
وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَاحِدَةً فلما لم يَتَزَوَّجْ فَقَدْ جَعَلَ ذلك
لِنَفْسِهِ فَكَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَرَفَ ذلك إلَى الزَّوْجَاتِ وَإِنْ
شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَإِلَى أَشْغَالِ نَفْسِهِ
وَالْإِشْكَالُ عليه ما نُقِلَ عن أبي حَنِيفَةَ وما ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ أَيْضًا
وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا وُجُوبُ طَاعَةِ الزَّوْجِ على الزَّوْجَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى
الْفِرَاشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ لها الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ وَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ
في نَفْسِهَا وَتَحْفَظَ غَيْبَتَهُ وَلِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ
بِتَأْدِيبِهِنَّ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ عَدَمِ طَاعَتِهِنَّ وَنَهَى عن
طَاعَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلًا } فَدَلَّ أَنَّ التَّأْدِيبَ كان لِتَرْكِ الطَّاعَةِ فَيَدُلُّ على
لُزُومِ طَاعَتِهِنَّ الْأَزْوَاجَ
فَصْلٌ وَمِنْهَا وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إذَا لم تُطِعْهُ فِيمَا
يَلْزَمُ طَاعَتُهُ بِأَنْ كانت نَاشِزَةً فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَكِنْ على
التَّرْتِيبِ فَيَعِظُهَا أَوَّلًا على الرِّفْقِ وَاللِّينِ بِأَنْ يَقُولَ لها
كُونِي من الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ وَلَا تَكُونِي
من كَذَا وَكَذَا فَلَعَلَّ تَقْبَلُ الْمَوْعِظَةَ فَتَتْرُكُ النُّشُوزَ فَإِنْ
نَجَعَتْ فيها الْمَوْعِظَةُ وَرَجَعَتْ إلَى الْفِرَاشِ وَإِلَّا هَجَرَهَا
وَقِيلَ يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عنها وَتَرْكِ
الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا لَعَلَّ
نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ قِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا
يُجَامِعَهَا وَلَا يُضَاجِعَهَا على فِرَاشِهِ وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا
يُكَلِّمَهَا في حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إيَّاهَا لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا
وَمُضَاجَعَتَهَا لِأَنَّ ذلك حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ في ذلك عليه
من الضَّرَرِ ما عليها فَلَا يُؤَدِّبَهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِلُ
حَقَّهُ
وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا في الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى في
حَقِّهَا وَقَسْمِهَا لِأَنَّ حَقَّهَا عليه في الْقَسْمِ في حَالِ الْمُوَافَقَةِ
وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا في حَالِ التَّضْيِيعِ وَخَوْفِ النُّشُوزِ
وَالتَّنَازُعِ وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَجِمَاعِهَا
لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا وَحَاجَتِهَا لَا في وَقْتِ حاجتها ( ( ( حاجته ) )
) إلَيْهَا لِأَنَّ هذا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا
لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عن الْمُضَاجَعَةِ في حَالِ حَاجَتِهِ
إلَيْهَا فإذا هَجَرَهَا فَإِنْ تَرَكَتْ النُّشُوزَ وَإِلَّا ضَرَبَهَا عِنْدَ
ذلك ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِنٍ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ عز وجل {
وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ في
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ }
فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كان بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ
الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ منه الْجَمْعُ على سَبِيلِ التَّرْتِيبِ
وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذلك فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ وَإِلَّا رُفِعَ الْأَمْرُ
إلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ حَكَمًا من أَهْلِهِ وَحَكَمًا
من أَهْلِهَا كما قال اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
فَابْعَثُوا حَكَمًا من أَهْلِهِ وَحَكَمًا من أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا
يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا }
وَسَبِيلُ هذا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ في
حَقِّ سَائِرِ الناس أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ على الرِّفْقِ
وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ في الْقَوْلِ فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا غَلَّظَ
الْقَوْلَ بِهِ فَإِنْ قُبِلَتْ وَإِلَّا بَسَطَ يَدَهُ فيه
وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَكَبَتْ مَحْظُورًا سِوَى النُّشُوزِ ليس فيه حَدٌّ مُقَدَّرٌ
فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا تَعْزِيرًا لها لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ
زَوْجَتَهُ كما لِلْمَوْلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
وَمُسْتَحَبٌّ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ
هِيَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَخُلُقًا قال
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وأنا خَيْرُكُمْ
لِأَهْلِي
وَقِيلَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ هِيَ أَنْ يُعَامِلَهَا بِمَا لو فُعِلَ
بِك مِثْلُ ذلك لم تُنْكِرْهُ بَلْ تَعْرِفُهُ وَتَقْبَلُهُ وَتَرْضَى بِهِ
وَكَذَلِكَ من جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مع
زَوْجِهَا بِالْإِحْسَانِ بِاللِّسَانِ وَاللُّطْفِ في الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ
الْمَعْرُوفِ الذي يَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الزَّوْجِ وَقِيلَ في قَوْله تَعَالَى {
وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أَنَّ الذي عَلَيْهِنَّ من
حَيْثُ الْفَضْلُ وَالْإِحْسَانُ هو أَنْ يُحْسِنَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْبِرِّ
بِاللِّسَانِ وَالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَيُكْرَهُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِلَ عن امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا
لِأَنَّ الْوَطْءَ عن إنْزَالٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَلَهَا في الْوَلَدِ
حَقٌّ وَبِالْعَزْلِ يَفُوتُ الْوَلَدُ فَكَأَنَّهُ سَبَبًا لِفَوَاتِ حَقِّهَا
وَإِنْ كان الْعَزْلُ بِرِضَاهَا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِفَوَاتِ
حَقِّهَا وَلِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
اعْزِلُوهُنَّ أو لَا تَعْزِلُوهُنَّ أن اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ خَلْقَ
نَسَمَةٍ فَهُوَ خَالِقُهَا إلَّا أَنَّ الْعَزْلَ حَالَ عَدَمِ الرِّضَا صَارَ
مَخْصُوصًا وَكَذَلِكَ إذَا كانت الْمَرْأَةُ أَمَةَ الْغَيْرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ
الْعَزْلُ عنها من غَيْرِ رِضَا لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا أو رِضَا
مَوْلَاهَا
قال أبو حَنِيفَةَ الْإِذْنُ في
____________________
(2/334)
ذلك
إلَى المولي وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَيْهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ حَقُّهَا وَالْعَزْلُ يُوجِبُ
نُقْصَانًا في ذلك وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَرَاهَةَ الْعَزْلِ لِصِيَانَةِ
الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ له لَا لها وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلَا حُكْمَ له قبل الدُّخُولِ وَأَمَّا
بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها ثُبُوتُ النَّسَبِ وَمِنْهَا
وُجُوبُ الْعِدَّةِ وهو حُكْمُ الدُّخُولِ في الْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا وُجُوبُ
الْمَهْرِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ ليس بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً
لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ أَعْنِي مَحَلَّ حُكْمِهِ وهو الْمِلْكُ لِأَنَّ الْمِلْكَ
يَثْبُتُ في الْمَنَافِعِ وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ
وَالْحُرُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ليس مَحَلًّا لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ
خُلُوصٌ وَالْمِلْكُ يُنَافِي الْخُلُوصَ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ في الْآدَمِيِّ لَا
يَثْبُتُ إلَّا بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي الرِّقَّ إلَّا أَنَّ
الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِحَاجَةِ
الناس إلَى ذلك وفي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِحَاجَةِ النَّاكِحِ
إلَى دَرْءِ الْحَدِّ وَصِيَانَةِ مَائِهِ عن الضَّيَاعِ بِثَبَاتِ النَّسَبِ
وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَصِيَانَةِ الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ عن الِاسْتِعْمَالِ من
غَيْرِ غَرَامَةٍ وَلَا عُقُوبَةٍ تُوجِبُ الْمَهْرَ فَجُعِلَ مُنْعَقِدًا في
حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قبل
اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وهو ما قبل الدُّخُولِ فَلَا يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا
قَبْلَهُ ثُمَّ الدَّلِيلُ على وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ ما روى
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ
نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دخل بها
فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا جَعَلَ صلى اللَّهُ عليه وسلم لها مَهْرَ الْمِثْلِ
فِيمَا له حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ فَدَلَّ أَنَّ
وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في تَقْدِيرِ هذا الْمَهْرِ وهو
الْمُسَمَّى بِالْعُقْرِ
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ يَجِبُ الْأَقَلُّ من مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ
الْمُسَمَّى وقال زُفَرُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا ما بَلَغَ وَكَذَا هذا
الْخِلَافُ في الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَنَافِعَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ
وَالْفَاسِدِ جميعا كَالْأَعْيَانِ فَيَلْزَمُ إظْهَارُ أَثَرِ التَّقَوُّمِ
وَذَلِكَ بِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا ما بَلَغَ لِأَنَّهُ قِيمَةُ
مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَإِنَّمَا الْعُدُولُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ
التَّسْمِيَةِ ولم تَصِحَّ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبْنَا كَمَالَ الْقِيمَةِ في
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ ما قَوَّمَا الْمَنَافِعَ بِأَكْثَرَ من الْمُسَمَّى
فَلَا تَتَقَوَّمُ بِأَكْثَرَ من الْمُسَمَّى فَحَصَلَتْ الزِّيَادَةُ
مُسْتَوْفَاةً من غَيْرِ عَقْدٍ فلم تَكُنْ لها قِيمَةٌ إلَّا أَنَّ مَهْرَ
الْمِثْلِ إذَا كان أَقَلَّ من الْمُسَمَّى لَا يَبْلُغُ بِهِ الْمُسَمَّى
لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لِرِضَاهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا في وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أنها من أَيِّ وَقْتٍ
تُعْتَبَرُ
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ أنها تَجِبُ من حِينِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وقال
زُفَرُ من آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا حتى لو كانت قد حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ
آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا قبل التَّفْرِيقِ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْعِدَّةَ تَجِبُ بِالْوَطْءِ لِأَنَّهَا تَجِبُ
لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ حُكْمُ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أنها لَا تَجِبُ
قبل الْوَطْءِ وإذا كان وُجُوبُهَا بِالْوَطْءِ تَجِبُ عَقِيبَ الْوَطْءِ بِلَا
فَصْلٍ كَأَحْكَامِ سَائِرِ الْعِلَلِ
وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الْوَطْءِ مُنْعَقِدٌ في حَقِّ
الْفِرَاشِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْفِرَاشُ لَا يَزُولُ قبل التَّفْرِيقِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لو وَطِئَهَا قبل التَّفْرِيقِ لَا حَدَّ عليه وَلَا يَجِبُ عليه
بِتَكْرَارِ الْوَطْءِ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ
يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَلَوْ دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ حتى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ
يَلْزَمُهُ مَهْرٌ آخَرُ فَكَانَ التَّفْرِيقُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ
الْعِدَّةِ منه كما تُعْتَبَرُ من وَقْتِ الطَّلَاقِ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ
وَالْخَلْوَةِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ لِأَنَّهُ ليس
بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالنِّكَاحِ في حَقِّ الْمَنَافِعِ
الْمُسْتَوْفَاةِ حَقِيقَةً مع قِيَامِ الْمَنَافِع لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى ذلك
فَيَبْقَى في حَقِّ غَيْرِ الْمُسْتَوْفَى على أَصْلِ الْعَدَمِ ولم يُوجَدْ
اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ حَقِيقَةً بِالْخَلْوَةِ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ
لِلْعِدَّةِ في الْحَقِيقَةِ هو الْوَطْءُ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ
الرَّحِمِ ولم يُوجَدْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا أَقَمْنَا التَّمْكِينَ من
الْوَطْءِ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَقَامَهُ في حَقِّ حُكْمٍ يُحْتَاطُ فيه
لِوُجُودِ دَلِيلِ التَّمَكُّنِ وهو الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ ولم يُوجَدْ هَهُنَا
بِخِلَافِ الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أنها تُوجِبُ
الْعِدَّةَ إذَا كان مُتَمَكِّنًا من الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان مَمْنُوعًا
عنه شَرْعًا بِسَبَبِ الْحَيْضِ أو الْإِحْرَامِ أو الصَّوْمِ أو نَحْوِ ذلك
لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلُ الْإِطْلَاقِ شَرْعًا مَوْجُودٌ وهو الْمِلْكُ
الْمُطْلَقُ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ منه لِغَيْرِهِ فَكَانَ التَّمَكُّنُ ثَابِتًا
وَدَلِيلُهُ مَوْجُودٌ فَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلَا يُوجِبُ الْمَهْرَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا لم
يَجِبْ بها الْعِدَّةُ فَالْمَهْرُ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ في
وُجُوبِهَا وَلَا يُحْتَاطُ في وُجُوبِ الْمَهْرِ
____________________
(2/335)
فَصْلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ فَبَيَانُهُ بَيَانُ ما تَقَعُ
بِهِ الْفُرْقَةُ بين الزَّوْجَيْنِ وَلِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بين الزَّوْجَيْنِ
أَسْبَابٌ لَكِنَّ الْوَاقِعَ بِبَعْضِهَا فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَبَعْضُهَا
فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وفي بَعْضِهَا يَقَعُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ قَضَاءِ
الْقَاضِي وفي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَنَذْكُرُ
جُمْلَةَ ذلك بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عز وجل
منها الطَّلَاقُ بِصَرِيحِهِ وَكِنَايَاتِهِ وَلَهُ كِتَابٌ منفرد ( ( ( مفرد ) )
)
وَمِنْهَا اللِّعَانُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي
عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَكَذَا في كَيْفِيَّةِ هذه الْفُرْقَةِ خِلَافٌ بين
أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ اللِّعَانِ
وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الصَّغِيرِ أو الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ في خِيَارِ
الْبُلُوغِ وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي
بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا في خِيَارِ الْعِتْقِ
أنها تَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ وقد بَيَّنَّا
وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْفُرْقَةُ في الْخِيَارَيْنِ جميعا تَكُونُ
فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بَلْ تَكُونُ فَسْخًا حتى لو كان الزَّوْجُ لم يَدْخُلْ
بها فَلَا مَهْرَ لها أَمَّا في خِيَارِ الْعِتْقِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ
الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ منها وهو اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا
وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا لِأَنَّهَا لَا
تَمْلِكُ الطَّلَاقَ إلَّا إذَا مُلِكَتْ كَالْمُخَيَّرَةِ فَكَانَ فَسْخًا
وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ من الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لم يَكُنْ وَلَوْ لم
يَكُنْ حَقِيقَةً لم يَكُنْ لها مَهْرٌ فكان ( ( ( فكذا ) ) ) إذَا اُلْتُحِقَ
بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ وَكَذَا في خِيَارِ الْبُلُوغِ إذَا كان من له
الْخِيَارُ هو الْمَرْأَةُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قبل الدُّخُولِ بها لِمَا
قُلْنَا
وَأَمَّا إذَا كان من له الْخِيَارُ هو الْغُلَامُ فَاخْتَارَ نَفْسَهُ قبل الدُّخُولِ
بها فَلَا مَهْرَ لها أَيْضًا وَهَذَا فيه نَوْعُ إشْكَالٍ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ
جَاءَتْ من قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ
وَيَتَعَلَّقُ بها نِصْفُ الْمَهْرِ وَالِانْفِصَالُ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ له
الْخِيَارَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا وَلَوْ كان ذلك طَلَاقًا وَوَجَبَ
عليه الْمَهْرُ لم يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ مَعْنًى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
الطَّلَاقَ فَإِذًا لَا فَائِدَةَ في الْخِيَارِ إلَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ وَإِنْ
كان قد دخل بها لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْمَهْرَ قد تَأَكَّدَ
بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْفُرْقَةِ كما لَا يَحْتَمِلُ
السُّقُوطَ بِالْمَوْتِ أو لأن الدُّخُولَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ
وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ فَلَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ من الْأَصْلِ
بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْعَقْدِ فإنه أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَكَانَ مُحْتَمِلًا
لِلْفَسْخِ وَلِأَنَّهُ لو فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَوَجَبَ عليه
رَدُّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ لِأَنَّهُ عَادَ الْبَدَلُ إلَيْهِ فَوَجَبَ
أَنْ يَعُودَ الْمُبْدَلُ إلَيْهَا وهو لَا يَقْدِرُ على رَدِّهَا فَلَا يُفْسَخُ
وإذا لم يَقْدِرْ على رَدِّهَا يَغْرَمُ قِيمَتَهَا وَقِيمَتُهَا هو الْمَهْرُ
الْمُسَمَّى فَلَا يُفِيدُ ولأنها ( ( ( ولأنه ) ) ) لَمَّا اسْتَوْفَى
الْمَنَافِعَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عليه وهو الْمُبْدَلُ فَلَا يَسْقُطُ
الْبَدَلُ
وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِعَيْبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ
وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ وَالتَّأَخُّذِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أو بِنَفْسِ
الِاخْتِيَارِ على ما بَيَّنَّا وَأَنَّهُ فُرْقَةُ بطلاق ( ( ( بطلان ) ) )
لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهَا حَصَلَ من الزَّوْجِ وهو الْمَنْعُ من إيفَاءِ حَقِّهَا
الْمُسْتَحَقِّ بِالنِّكَاحِ وَأَنَّهُ ظُلْمٌ وَضَرَرٌ في حَقِّهَا إلَّا أَنَّ
الْقَاضِيَ قام مَقَامَهُ في دَفْعِ الظُّلْمِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا
حَصَلَتْ بِسَبَبٍ من جِهَةِ الزَّوْجِ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ
فُرْقَةَ بطلاق ( ( ( بطلان ) ) ) حتى لو كان ذلك قبل الدُّخُولِ بها وَقَبْلَ
الْخَلْوَةِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كان في النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ وَإِنْ
لم يَكُنْ فيه تَسْمِيَةٌ فَلَهَا الْمُتْعَةُ
وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أو لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ
وَالْفُرْقَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ لَا
من جِهَةِ الزَّوْجِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذلك طَلَاقًا لِأَنَّهُ ليس
لِغَيْرِ الزَّوْجِ وِلَايَةُ الطَّلَاقِ فَيُجْعَلُ فَسْخًا وَلَا تَكُونُ هذه
الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا في الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ
الْبُلُوغِ
وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بعدما أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ في دَارِ
الْإِسْلَامِ
وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجَةِ الْإِسْلَامَ بعدما أَسْلَمَ زَوْجُهَا الْمُشْرِكُ
أو الْمَجُوسِيُّ في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَ
أَحَدُهُمَا في دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَا كِتَابِيَّيْنِ فَأَسْلَمَ
الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مَحَلٌّ لِنِكَاحِ
الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقَعُ
الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ على
زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا على النِّكَاحِ وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ
فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ
تَحْتَ نِكَاحِ الْكَافِرِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ
ابْتِدَاءً فَكَذَا في الْبَقَاءِ عليه وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ أو مَجُوسِيَّيْنِ
فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا كان يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ على الْآخَرِ وَلَا
تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا
فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُمَا على النِّكَاحِ وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ فَرَّقَ
الْقَاضِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْمُشْرِكَةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ
غير أَنَّ الْإِبَاءَ إنْ كان من الْمَرْأَةِ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ
لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ من قِبَلِهَا وهو الْإِبَاءُ من الْإِسْلَامِ
وَالْفُرْقَةُ من قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ طَلَاقًا لِأَنَّهَا تَلِي الطَّلَاقَ
فَيُجْعَلُ فَسْخًا وَإِنْ كان الْإِبَاءُ من الزَّوْجِ يَكُونُ فُرْقَةً
بِطَلَاقٍ
____________________
(2/336)
في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ
طَلَاقٍ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ
بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ غير أَنَّهُ إنْ كان ذلك قبل الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ
لِلْحَالِ فأما بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حتى تَمْضِيَ ثَلَاثُ
حِيَضٍ فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قبل مُضِيِّهَا فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَإِنْ لم
يُسْلِمْ بَانَتْ بِمُضِيِّهَا
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنْ كَفَرَ الزَّوْجُ
يُمْنَعُ من نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ ابْتِدَاءً حتى لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ
يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ وَكَذَلِكَ شِرْكُ الْمَرْأَةِ وَتَمَجُّسُهَا مَانِعٌ من
نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ فإذا طَرَأَ على النِّكَاحِ يُبْطِلُهُ
فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من
بَنِي تَغْلِبَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَعَرَضَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه عليه
الْإِسْلَامَ فَامْتَنَعَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلَوْ وَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ لَمَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ
وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ لِأَنَّهُ
عُرِفَ عَاصِمًا لِلْأَمْلَاكِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُبْطِلًا لها وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَبْطُلَ بِالْكُفْرِ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفْرَ كان مَوْجُودًا مِنْهُمَا ولم
يَمْنَعْ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْبَقَاءَ وَأَنَّهُ
أَسْهَلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّا لو بَقَّيْنَا النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا لَا تَحْصُلُ
الْمَقَاصِدُ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ
وَالْكَافِرُ لَا يُمَكَّنُ من اسْتِفْرَاشِ الْمُسْلِمَةِ وَالْمُسْلِمُ لَا
يَحِلُّ له اسْتِفْرَاشُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ لِخُبْثِهِمَا فلم
يَكُنْ في بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا عِنْدَ
إبَاءِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْيَأْسَ عن حُصُولِ الْمَقَاصِدِ يَحْصُلُ عِنْدَهُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا في كَيْفِيَّةِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ إبَاءِ
الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بعدما أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمُشْرِكَةُ أو الْمَجُوسِيَّةُ
أو الْكِتَابِيَّةُ فَوَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذه فُرْقَةٌ يَشْتَرِكُ في
سَبَبِهَا الزَّوْجَانِ وَيَسْتَوِيَانِ فيه فإن الْإِبَاءَ من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ ثُمَّ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِإِبَائِهَا
فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَكَذَا بِإِبَائِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا في
السَّبَبِيَّةِ كما إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ
إلَى التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْإِبَاءِ لِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ
مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إذَا لم تَحْصُلْ لم يَكُنْ في بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ
فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ
وَالْأَصْلُ في التَّفْرِيقِ هو الزَّوْجُ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وَالْقَاضِي
يَنُوبُ مَنَابَهُ كما في الْفُرْقَةِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ
في الْفُرْقَةِ هو فُرْقَةُ الطَّلَاقِ فَيُجْعَلُ طَلَاقًا ما أَمْكَنَ وفي
إبَاءِ الْمَرْأَةِ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَيُجْعَلُ
فَسْخًا وَمِنْهَا رِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ
الْمَوْتِ لأن ( ( ( لأنها ) ) ) سَبَبٌ مُفْضٍ إلَيْهِ وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ
مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ لِأَحَدٍ في
الإبتداء فَكَذَا في حَالِ الْبَقَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ مع الرِّدَّةِ
وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَبْقَى مع زَوَالِ الْعِصْمَةِ غير أَنَّ رِدَّةَ
الْمَرْأَةِ تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا رِدَّةُ
الرَّجُلِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ
بِمَعْنًى من قِبَلِ الزَّوْجِ وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا تُجْعَلُ
طَلَاقًا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْفُرْقَةِ هو فُرْقَةُ الطَّلَاقِ وَأَصْلُ أبي
يُوسُفَ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فيه
الزَّوْجَانِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِثُبُوتِ
الْفُرْقَةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِرِدَّتِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَذَا
بِرِدَّتِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الْفُرْقَةَ وَإِنْ كانت بِسَبَبٍ
وُجِدَ من الرَّجُلِ وهو رِدَّتُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ
الرِّدَّةُ طَلَاقًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَفُرْقَةُ الْمَوْتِ لَا
تَكُونُ طَلَاقًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَفَادُ
بِالنِّكَاحِ وَالْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِالرِّدَّةِ فُرْقَةٌ وَاقِعَةٌ
بِطَرِيقِ التَّنَافِي لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي عِصْمَةَ الْمِلْكِ وما كان
طَرِيقُهُ التَّنَافِي لَا يُسْتَفَادُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ
طَلَاقًا بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا
تَثْبُتُ بِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَثَمَرَاتِهِ وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى
الزَّوْجِ فَيَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِلَّا التَّسْرِيحُ
بِالْإِحْسَانِ فإذا امْتَنَعَ عنه أَلْزَمَهُ الْقَاضِي الطَّلَاقَ الذي يَحْصُلُ
بِهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ كَأَنَّهُ طَلَّقَ بِنَفْسِهِ وَالدَّلِيلُ على
التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فُرْقَةَ الْإِبَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا
بِالْقَضَاءِ وَفُرْقَةَ الرِّدَّةِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لِيُعْلَمَ
أَنَّ ثُبُوتَهَا بِطَرِيقِ التَّنَافِي
ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ
فَتَثْبُتُ في الْحَالِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كان قبل الدُّخُولِ
فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ تَتَأَجَّلُ الْفُرْقَةُ إلَى مُضِيِّ
ثَلَاثِ حِيَضٍ وهو على الِاخْتِلَافِ في إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
هذا إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّا مَعًا لَا تَقَعُ
الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا حتى لو أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا على
نِكَاحِهِمَا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ
الْقِيَاسِ أَنَّهُ لو ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ
____________________
(2/337)
فَكَذَا
إذَا ارْتَدَّا لِأَنَّ في رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةً
وَلِلِاسْتِحْسَانِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فإن الْعَرَبَ لَمَّا ارْتَدَّتْ في زَمَن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه
ثُمَّ أَسْلَمُوا لم يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ
وكان ذلك بمحضر من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فَإِنْ قِيلَ بِمَ يُعْلَمُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا وَأَسْلَمُوا مَعًا
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا لم يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ فِيمَا
لم يُعْلَمْ الْقِرَانُ بَلْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ في الرِّدَّةِ
وَالْإِسْلَامِ فَفِيمَا عُلِمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَرَّقَ
ثُمَّ نَقُولُ الْأَصْلُ في كل أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ إذَا لم يُعْلَمْ تَارِيخُ
ما بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى
وَالْهَدْمَى وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أو
نَصْرَانِيَّةً فَتَمَجَّسَتْ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لَا
تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له نِكَاحُهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ إنْ كان ذلك قبل
الدُّخُولِ بها فَلَا مَهْرَ لها وَلَا نَفَقَةَ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ
طَلَاقٍ فَكَانَتْ فَسْخًا وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها فَلَهَا الْمَهْرُ
لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ
من قِبَلِهَا
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا جَاءَتْ من قِبَلِهَا فَإِنْ كان قبل
الدُّخُولِ بها فَلَا نَفَقَةَ لها وَلَا مَهْرَ وَإِنْ جَاءَتْ من قِبَلِهِ قبل
الدُّخُولِ يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كان الْمَهْرُ سُمِّيَ وَإِنْ لم يَكُنْ
تَجِبُ الْمُتْعَةُ وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَجِبُ كُلُّ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ
وَلَوْ كانت يَهُودِيَّةً فَتَنَصَّرَتْ أو نَصْرَانِيَّةً فَتَهَوَّدَتْ لم
تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ ولم يُعْتَرَضْ عليه عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُمَكَّنُ من الْقَرَارِ عليه وَلَكِنْ تُجْبَرُ على أَنْ
تُسْلِمَ أو تَعُودَ إلَى دِينِهَا الْأَوَّلِ فَإِنْ لم تَفْعَلْ حتى مَضَتْ
ثَلَاثُ حِيَضٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كما في الْمُرْتَدِّ وَجْهُ قَوْلِهِ أنها
كانت مُقِرَّةً بِأَنَّ الدِّينَ الذي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بَاطِلٌ فَكَانَ تَرْكُ
الِاعْتِرَاضِ تَقْرِيرًا على الْبَاطِلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَلَنَا أنها انْتَقَلَتْ من بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ وَالْجَبْرُ على الْعَوْدِ إلَى
الْبَاطِلِ بَاطِلٌ
وَلَوْ كانت يَهُودِيَّةً أو نَصْرَانِيَّةً فَصَبَأَتْ لم تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ
بِنَاءً على أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الصَّابِئِيَّةِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في مَوْضِعِهَا وَمِنْهَا
إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ في دَارِ الْحَرْبِ لَكِنْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ
في الْحَالِ بَلْ تَقِفُ على مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كانت مِمَّنْ تَحِيضُ
وَإِنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ أَسْلَمَ الْبَاقِي
مِنْهُمَا في هذه الْمُدَّةِ فَهُمَا على النِّكَاحِ وَإِنْ لم يُسْلِمْ حتى
مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ
سَبَبًا لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَنَفْسُ الْكُفْرِ أَيْضًا لَا
يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنْ
يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ على الْآخَرِ فإذا أَبَى حِينَئِذٍ يُفَرَّقُ وَكَانَتْ
الْفُرْقَةُ حَاصِلَةً بِالْإِبَاءِ وَلَا يُعْرَفُ الْإِبَاءُ إلَّا بِالْعَرْضِ
وقد امْتَنَعَ الْعَرْضُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ
وقد مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ إذْ الْمُشْرِكُ لَا يَصْلُحُ لِنِكَاحِ
المسلم ( ( ( المسلمة ) ) ) فَيُقَامُ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ وهو مضى ثَلَاثِ
حِيَضٍ إذْ هو شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ في الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَقَامَ
الْعِلَّةِ وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ
الْعِلَّةِ جَائِزٌ في أُصُولِ الشَّرْعِ فإذا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ وَهِيَ
ثَلَاثُ حِيَضٍ صَارَ مُضِيُّ هذه الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي
وَتَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بِسَبَبِ
الْإِبَاءِ حُكْمًا وَتَقْدِيرًا وإذا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ مُضِيِّ هذه
الْمُدَّةِ هل تَجِبُ الْعِدَّةُ بَعْدَ مُضِيِّهَا بِأَنْ كانت الْمَرْأَةُ هِيَ
الْمُسْلِمَةُ فَخَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَتَمَّتْ الْحِيَضُ في دَارِ
الْإِسْلَامِ لَا عِدَّةَ عليها عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا عليها
الْعِدَّةُ وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ كان الْمُسْلِمُ هو الزَّوْجُ فَلَا عِدَّةَ عليها بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ
وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا بِأَنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا وَتَرَكَ الْآخَرَ كَافِرًا في
دَارِ الْحَرْبِ
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْتَأْمَنًا وَبَقِيَ الْآخَرُ كَافِرًا في دَارِ
الْحَرْبِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَهَذَا
بِنَاءٌ على أَصْلٍ وهو أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ
الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس بِعِلَّةٍ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ
السَّبْيُ
وَاحْتَجَّ بِمَا روى أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رسول اللَّهِ هَاجَرَتْ من مَكَّةَ
إلَى الْمَدِينَةِ وَخَلَّفَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ كَافِرًا بِمَكَّةَ
فَرَدَّهَا عليه رسول اللَّهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَوْ ثَبَتَتْ
الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ لَمَا رُدَّ بَلْ جُدِّدَ النِّكَاحُ
وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ في انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ
وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ فإن النِّكَاحَ
يَبْقَى بين أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ وَالْوِلَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ
وَلَنَا أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ من أَنْ يَكُونَ
مُنْتَفَعًا بِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ من الِانْتِفَاعِ عَادَةً فلم يَكُنْ في
بَقَائِهِ فَائِدَةٌ فَيَزُولُ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ
بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عن أَمْوَالِهِ وَتُعْتَقُ أُمَّهَاتُ
أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ
____________________
(2/338)
أَهْلِ
الْبَغْيِ مع أَهْلِ الْعَدْلِ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ
وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَيُخَالِطُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ فَكَانَ إمْكَانُ
الِانْتِفَاعِ ثَابِتًا فَيَبْقَى النِّكَاحُ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ روى أَنَّهُ رَدَّهَا عليه بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ
فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مع ما أَنَّ الْعَمَلَ
بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا لم يَكُنْ فَكَانَ
رَاوِي الرَّدِّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ فَظَنَّ أَنَّهُ
رَدَّهَا عليه بِذَلِكَ النِّكَاحِ الذي كان وَرَاوِي النِّكَاحِ الْجَدِيدِ
اعْتَمَدَ حَقِيقَةَ الْحَالِ وَصَارَ كَاحْتِمَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ
ثُمَّ إنْ كان الزَّوْجُ هو الذي خَرَجَ فَلَا عِدَّةَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ حربية ( ( ( حربي ) ) ) وَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ هِيَ التي
خَرَجَتْ فَلَا عِدَّةَ عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا
وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لِأَنَّهُ
صَارَ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَ كما لو خَرَجَ مُسْلِمًا بِخِلَافِ ما
إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا بِأَمَانٍ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ من
أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ على سَبِيلِ
الْعَارِيَّةِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ لَا لِلتَّوَطُّنِ فَلَا يَبْطُلُ
حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ في حَقِّهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ
بِأَمَانٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِالدُّخُولِ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لِمَا
قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا في دَارِ الْحَرْبِ أو صَارَا ذِمِّيَّيْنِ مَعًا أو
خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَالنِّكَاحُ على حَالِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِلَافِ
الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا وَانْعِدَامِ السَّبْيِ عِنْدَهُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما
إذَا سبى أَحَدُهُمَا وَأُحْرِزَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ
بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا بِاخْتِلَافِ
الدَّارَيْنِ وَعِنْدَهُ بِالسَّبْيِ وَعِنْدَنَا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ قبل
الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ سُبِيَا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ
عِنْدَنَا لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَعِنْدَهُ تَقَعُ لِوُجُودِ
السَّبْيِ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ إلَّا ما
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } حَرَّمَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ
إذْ هو مَعْطُوفٌ على قَوْلِهِ عز وجل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }
وَاسْتَثْنَى الْمَمْلُوكَاتِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْحَظْرِ إبَاحَةٌ ولم
يَفْصِلْ بين ما إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا أو مع زَوْجِهَا وَلِأَنَّ السَّبْيَ
سَبَبٌ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ وَرَدَ على
مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الرَّقَبَةِ
وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ في الْمَسْبِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَمِلْكُ
الرَّقَبَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ وَمَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ
لِلسَّابِي يَزُولُ مِلْكُ الزَّوْجِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى أَمَةً
هِيَ مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُ الْمُتْعَةِ
وَإِنْ ثَبَتَ له مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِالشِّرَاءِ لِأَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ في
الْأَمَةِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ وَإِثْبَاتُ الْيَدِ على مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لَا
يَكُونُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ كان ثَابِتًا بِدَلِيلِهِ مُطْلَقًا
وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أو لِعَدَمِ
فَائِدَةِ الْبَقَاءِ إمَّا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ أو
تَقْدِيرًا لِخُرُوجِهِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ الْمَالِكِ
وَإِمَّا لِفَوَاتِ حَاجَةِ الْمَالِكِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْحُكْمَ
بِالزَّوَالِ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَنَاقُضًا وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عن التَّنَاقُضِ
ولم تُوجَدْ الْإِزَالَةُ من الزَّوْجِ وَالْمَحَلُّ صَالِحٌ وَالْمَالِكُ صَالِحٌ
حتى ( ( ( حي ) ) ) مُحْتَاجٌ إلَى الْمِلْكِ وَإِمْكَانُ الِاسْتِمْتَاعِ ثبت ( (
( ثابت ) ) ) ظَاهِرًا وَغَالِبًا إذَا سُبِيَا مَعًا وَلَا يَكُونُ نَادِرًا
وَكَذَا إذَا سبى أَحَدُهُمَا وَالْمَسْبِيُّ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ
احْتِمَالَ الِاسْتِرْدَادِ من الْكَفَرَةِ أو اسْتِنْقَاذِ الْأُسَرَاءِ من
الْغُزَاةِ ليس بِنَادِرٍ وَإِنْ لم يَكُنْ غَالِبًا بِخِلَافِ ما إذَا سبى
أَحَدُهُمَا وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ في
بَقَاءِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ من إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِالْمِلْكِ
ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ السَّبْيُ وَرَدَ على مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَنَعَمْ
لَكِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْوَارِدَ على مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ إنَّمَا يَكُونُ
سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ إذَا لم يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ وَمِلْكُ
الزَّوْجِ هَهُنَا قَائِمٌ لِمَا بَيَّنَّا فلم يَكُنْ السَّبْيُ سَبَبًا
لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلسَّابِي فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الزَّوْجِ
وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ على ما إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا لِمَا ذَكَرْنَا من
الدَّلَائِلِ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الطارىء لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ على صَاحِبِهِ بِأَنْ مَلَكَ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ النِّكَاحِ أو مَلَكَ شِقْصًا منه لِأَنَّ الْمِلْكَ
الْمُقَارَنَ يَمْنَعُ من انْعِقَادِ النِّكَاحِ فالطارىء ( ( ( فالطارئ ) ) )
عليه يُبْطِلُهُ وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ
لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ لَا من قِبَلِ الزَّوْجِ فَلَا يُمْكِنُ
أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا فَتُجْعَلُ فَسْخًا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ
الْقَاضِي لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِطَرِيقِ التَّنَافِي لِمَا بَيَّنَّا في
الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا
يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بين الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى
الْقَضَاءِ كَالْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
وَعَلَى هذا قالوا في الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمَأْذُونِ إذَا اشْتَرَيَا
زَوْجَتَيْهِمَا لم يَبْطُلْ النِّكَاحُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُفِيدُ لَهُمَا
مِلْكَ الْمُتْعَةِ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ
وَقَالُوا أَيْضًا في الْمُكَاتَبِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ
نِكَاحُهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ له فيها حَقُّ
الْمِلْكِ وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ
____________________
(2/339)
النِّكَاحِ
وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ هو
الْمِلْكُ من وَجْهٍ فَكَانَ مِلْكُهُ فيها ثَابِتًا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
فَالنِّكَاحُ إذَا لم يَكُنْ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ في انْعِقَادِهِ فَلَا
يَنْعَقِدُ بِالشَّكِّ وإذا كان مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ في زَوَالِهِ فَلَا
يَزُولُ بِالشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إن غير الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا
يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لِهَذَا
الْمَعْنَى مَنَعَتْ الْعِدَّةُ من ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ولم تَمْنَعْ الْبَقَاءَ
كَذَا هذا
وَقَالُوا فِيمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ من مُكَاتَبِهِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَبْطُلُ
النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا حتى يَعْجِزَ عن أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِنَاءً على أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا
يُورَثُ عِنْدَنَا فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ في الْمُكَاتَبِ
حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَثْبُتُ له حَقُّ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ
النِّكَاحِ وَعِنْدَهُ يُورَثُ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لها في زَوْجِهَا فَيَبْطُلُ
النِّكَاحُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ في أَمْلَاكِهِ
فَيَثْبُتُ له ما كان ثَابِتًا لِلْمُورَثِ وَمِلْكُهُ في الْمُكَاتَبِ كان
ثَابِتًا له فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا له فَيَنْفَسِخُ
النِّكَاحُ
وَلَنَا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى إبْقَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ في
الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ له حَقَّ الْحُرِّيَّةِ
لِلْحَالِ على وَجْهٍ يُصَيِّرُ ذلك الْحَقَّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ ولهذ (
( ( ولهذا ) ) ) يَثْبُتُ الْوَلَاءُ من قِبَلِهِ فَلَوْ نَقَلْنَا الْمِلْكَ من
الْمَيِّتِ إلَى الْوَارِثِ لَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ
الْأَدَاءِ لإنعدام تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ منه بِالْأَدَاءِ فَمَسَّتْ
الْحَاجَةُ إلَى اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فيه لَأَجْلِ الْحَقِّ
الْمُسْتَحَقِّ لِلْمُكَاتَبِ فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ
وَيَثْبُتُ له حَقُّ الْمِلْكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وهو الْقَرَابَةُ
وَشَرْطُهُ وهو الْمَوْتُ وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا
يَمْنَعُ الْبَقَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا إذَا عَجَزَ عن أَدَاءِ بَدَلِ
الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ ثَبَتَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ
فَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ بِنَاءً على أَنَّ مُعْتَقَ
الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عليه دَيْنٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الرَّضَاعُ الطارىء على النِّكَاحِ كَمَنْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً
فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ بَانَتْ منه لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا له من جِهَةِ
الرَّضَاعِ وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ
امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا بَانَتَا منه لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ
وَحُرْمَةُ الْأُخْتِ من الرَّضَاعِ يَسْتَوِي فيها السَّابِقُ والطارىء ( ( (
والطارئ ) ) ) وَكَذَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ من الرَّضَاعَةِ
وَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ما يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ الْمُقَارَنِ والطارىء
( ( ( والطارئ ) ) ) من الْمَسَائِلِ في كِتَابِ الرَّضَاعِ
وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ وطىء امْرَأَتِهِ أو ابْنَتَهَا
وَالْفُرْقَةُ بها فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِأَنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ
كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْفُرَقُ في هذه الْوُجُوهِ كُلِّهَا بَائِنَةٌ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ في بَعْضِهَا الْخَلَاصُ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ
وفي بَعْضِهَا الْمَحَلُّ ليس بِقَابِلٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ فَافْهَمْ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
____________________
(2/340)
كِتَابُ الْأَيْمَانِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ في
بَيَانِ أَنْوَاعِ الْيَمِينِ وفي بَيَانِ رُكْنِ كل نَوْعٍ
وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ أَنَّ
الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى على نِيَّةِ الْحَالِفِ أو الْمُسْتَحْلِفِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْيَمِينُ في الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى
قِسْمَيْنِ يَمِينٌ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وهو الْمُسَمَّى بِالْقَسَمِ في عُرْفِ
اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَيَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أَصْحَابُ الظَّاهِرِ هِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وهو الْيَمِينُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى
فَأَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل فَلَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً
وَإِنَّمَا سُمِّيَ بها مَجَازًا حتى أن من حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَحَلَفَ
بِالطَّلَاقِ أو الْعَتَاقِ يَحْنَثُ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْنَثُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُقْصَدُ بها تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ
بِهِ وَلِهَذَا كانت عَادَةُ الْعَرَبِ الْقَسَمَ بِمَا جَلَّ قَدْرُهُ وَعَظُمَ
خَطَرُهُ وَكَثُرَ نَفْعُهُ عِنْدَ الْخَلْقِ من السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنَحْوِ ذلك وَالْمُسْتَحِقُّ
لِلتَّعْظِيمِ بهذا النَّوْعِ هو اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ التَّعْظِيمَ بهذا
النَّوْعِ عِبَادَةٌ وَلَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى
وَلَنَا ما روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من حَلَفَ
بِطَلَاقٍ أو عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عليه سَمَّاهُ حَلِفًا
وَالْحَلِفُ وَالْيَمِينُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ على
مُسَمًّى وَاحِدٍ وَالْأَصْلُ في إطْلَاقِ الِاسْمِ هو الْحَقِيقَةُ فَدَلَّ أَنَّ
الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَمِينٌ حَقِيقَةً
وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عليه لِأَنَّهَا أُخِذَتْ من الْقُوَّةِ قال
اللَّهُ تَعَالَى { لَأَخَذْنَا منه بِالْيَمِينِ } أَيْ بِالْقُوَّةِ وَمِنْهُ
سُمِّيَتْ الْيَدُ الْيَمِينُ يَمِينًا لِفَضْلِ قُوَّتِهَا على الشِّمَالِ
عَادَةً
قال الشَّاعِرُ رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسْمُو إلَى الْخَيْرَاتِ
مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا ما رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ
بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ وَمَعْنَى الْقُوَّةِ توجد ( ( ( يوجد ) ) ) في
النَّوْعَيْنِ جميعا وهو أَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بها على الِامْتِنَاعِ من
الْمَرْهُوبِ وَعَلَى التَّحْصِيلِ
____________________
(3/2)
في
الْمَرْغُوبِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إلَى فِعْلٍ
لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ فَعَقْلُهُ يَزْجُرُهُ عنه
لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْعَاقِبَةِ الْوَخِيمَةِ وَرُبَّمَا لَا يُقَاوِمُ
طَبْعَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى على الْجَرْيِ على مُوجَبِ الْعَقْلِ
فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِمَا عُرِفَ من قُبْحِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا إذَا دَعَاهُ عَقْلُهُ إلَى فِعْلٍ تَحْسُنُ عَاقِبَتُهُ
وَطَبْعُهُ يَسْتَثْقِلُ ذلك فَيَمْنَعُهُ عنه فَيَحْتَاجُ إلَى الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى لِيَتَقَوَّى بها على التَّحْصِيلِ
وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ في الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ
الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهِ على الِامْتِنَاعِ من تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا من
الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الذي هو مُسْتَثْقَلٌ على طَبْعِهِ فَثَبَتَ أَنَّ
مَعْنَى الْيَمِينِ يُوجَدُ في النَّوْعَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بين نَوْعٍ
وَنَوْعٍ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ مُحَمَّدًا سَمَّى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ في أَبْوَابِ الْأَيْمَانِ من الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ يَمِينًا
وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ في اللُّغَةِ
ثُمَّ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مُنْقَسِمٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ في عُرْفِ
الشَّرْعِ يَمِينُ الْغَمُوسِ وَيَمِينُ اللَّغْوِ وَيَمِينٌ مَعْقُودَةٌ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ من الْأَصْلِ وقال
الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ وَيَمِينٌ لَا تُكَفَّرُ وَيَمِينٌ
نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بها صَاحِبَهَا وَفَسَّرَ الثَّالِثَةَ
بِيَمِينِ اللَّغْوِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ الْأَيْمَانُ
ثَلَاثٌ الْأَيْمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا جِنْسَ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ ذلك
كَثِيرٌ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ عن انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ بِلَغْوِ
الْيَمِينِ بِلَفْظَةِ التَّرَجِّي وَانْتِفَاءُ الْمُؤَاخَذَةِ بهذا النَّوْعِ من
الْيَمِينِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وهو قَوْلُهُ عز وجل { لَا
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ } فَالْجَوَابُ عنه من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إن يَمِينَ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَكِنْ
لَا عن قَصْدٍ بَلْ خَطَأً أو غَلَطًا على ما نَذْكُرُ تَفْسِيرَهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّحَرُّزُ عن فِعْلِهِ مُمْكِنٌ في الْجُمْلَةِ وَحِفْظُ
النَّفْسِ عنه مَقْدُورٌ فَكَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عليه لَكِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عليه رَحْمَةً وَفَضْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ
الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عن فِعْلِ الخطأ وَالنِّسْيَانِ كَذَلِكَ فذكر
مُحَمَّدٌ لَفْظَ الرَّجَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِرَفْعِ
الْمُؤَاخَذَةِ في هذا النَّوْعِ بَعْدَمَا كان جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عليه
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ وَإِنْ كانت مُنْتَفِيَةً عن هذا النَّوْعِ
قَطْعًا لَكِنَّ الْعِلْمَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى من اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ
غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هو مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن اجْتِهَادٍ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ
الظَّنِّ لَا عِلْمُ الْقَطْعِ فَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدٌ لَفْظَةَ الرَّجَاءِ
لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى من اللَّغْوِ
الْمَذْكُورِ ما أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُ مُحَمَّدٍ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ
لَفْظِ الرَّجَاءِ في مَوْضِعِهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وقال الْيَمِينُ على
ضَرْبَيْنِ مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّ
من شَرْطِ صِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ مُحِيطَةً بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ
بِهِ ولم يُوجَدْ لخروج ( ( ( بخروج ) ) ) الْحَالِ عنها وإنها دَاخِلَةٌ في
يَمِينِ الْغَمُوسِ وَيَمِينِ اللَّغْوِ على ما نَذْكُرُ تَفْسِيرَهُمَا فَكَانَتْ
الْقِسْمَةُ نَاقِصَةً وَالنُّقْصَانُ في الْقِسْمَةِ من عُيُوبِ الْقِسْمَةِ
كَالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ الصَّحِيحَةُ ما ذَكَرْنَا لِوُقُوعِهَا
حَاصِرَةً جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ عنها جُزْءٌ
وَكَذَا ما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ نَوْعٍ
بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَنَحْنُ أَخَّرْنَا بَيَانَ الْحُكْمِ
عن بَيَانِ النَّوْعِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ على التَّرْتِيبِ الذي ضَمَّنَّاهُ
أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَهِيَ الْكَاذِبَةُ قَصْدًا في الْمَاضِي وَالْحَالِ
على النَّفْيِ أو على الْإِثْبَاتِ وَهِيَ الْخَبَرُ عن الْمَاضِي أو الْحَالِ
فِعْلًا أو تَرْكًا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ في ذلك مَقْرُونًا بِذِكْرِ اسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ ما فَعَلْتُ كَذَا وهو يَعْلَمُ
أَنَّهُ فَعَلَهُ أو يَقُولَ وَاَللَّهِ لقد فَعَلْتُ كَذَا وهو يَعْلَمُ أَنَّهُ
لم يَفْعَلْهُ أو يَقُولَ وَاَللَّهِ ما لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وهو يَعْلَمُ
أَنَّ له عليه دَيْنًا فَهَذَا تَفْسِيرُ يَمِينِ الْغَمُوسِ
وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهَا قال أَصْحَابُنَا
هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ خَطَأً أو غَلَطًا في الْمَاضِي أو في الْحَالِ
وَهِيَ أَنْ يُخْبِرَ عن الْمَاضِي أو عن الْحَالِ على الظَّنِّ أَنَّ الْمَخْبَرَ
بِهِ كما أَخْبَرَ وهو بِخِلَافِهِ في النَّفْيِ أو في الْإِثْبَاتِ نَحْوُ
قَوْلِهِ وَاَللَّهِ ما كَلَّمْتُ زَيْدًا وفي ظَنِّهِ أَنَّهُ لم يُكَلِّمْهُ أو
وَاَللَّهِ لقد كَلَّمْتُ زَيْدًا وفي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وهو بِخِلَافِهِ
أو قال وَاَللَّهِ إنَّ هذا الْجَائِيَ لَزَيْدٌ إنَّ هذا الطَّائِرَ لَغُرَابٌ
وفي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ
وَهَكَذَا رَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ
الرَّجُلُ على الشَّيْءِ وهو يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِحَقٍّ
وقال الشَّافِعِيُّ يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ التي لَا يَقْصِدُهَا
الْحَالِفُ وهو ما يَجْرِي على أَلْسُنِ الناس في كَلَامِهِمْ من غَيْرِ قَصْدِ
الْيَمِينِ من قَوْلِهِمْ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ سَوَاءٌ كان في
الْمَاضِي أو الْحَالِ أو الْمُسْتَقْبَلِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا لَغْوَ في
الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ الْيَمِينُ على أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ
مَعْقُودَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ قَصَدَ الْيَمِينَ أو لم يَقْصِدْ
وَإِنَّمَا اللَّغْوُ في الْمَاضِي وَالْحَالِ فَقَطْ وما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ على
أثر حِكَايَتِهِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ ما يَجْرِي بين الناس من
قَوْلِهِمْ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا على
الْمَاضِي أو الْحَالِ وَعِنْدَنَا ذلك لَغْوٌ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْخِلَافِ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ في يَمِينٍ
____________________
(3/3)
لَا
يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ في الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَنَا ليس بِلَغْوٍ وَفِيهَا
الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ لَغْوٌ وَلَا كَفَّارَةَ فيها
وقال بَعْضُهُمْ يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ على الْمَعَاصِي نَحْوُ أَنْ
يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الظَّهْرِ وَلَا أَصُومُ صَوْمَ شَهْرِ
رَمَضَانَ أو لَا أُكَلِّمُ أَبَوَيَّ أو يَقُولَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ
الْخَمْرَ أو لَأَزْنِيَنَّ أو لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا
ثُمَّ منهم من يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذَا حَنِثَ في هذه الْيَمِينِ وَمِنْهُمْ من
لَا يُوجِبُ
وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّغْوَ هو الْإِثْمُ في اللُّغَةِ قال اللَّهُ
تَعَالَى { وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عنه } أَيْ كَلَامًا فيه إثْمٌ
فَقَالُوا إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في
أَيْمَانِكُمْ } أَيْ لَا يؤأخذكم اللَّهُ بِالْإِثْمِ في أَيْمَانِكُمْ على
الْمَعَاصِي بِنَقْضِهَا وَالْحِنْثِ فيها لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ
قَوْلَهُ في سُورَةِ الْبَقَرَةِ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في
أَيْمَانِكُمْ } صِلَةَ قَوْلِهِ عز وجل { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً
لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بين الناس }
وَقِيلَ في الْقِصَّةِ إنَّ الرَّجُلَ كان يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصْنَعَ
الْمَعْرُوفَ وَلَا يَبَرَّ وَلَا يَصِلَ أَقْرِبَاءَهُ وَلَا يُصْلِحَ بين الناس
فإذا أُمِرَ بِذَلِكَ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ إنِّي حَلَفْتُ على ذلك فَأَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
في أَيْمَانِكُمْ } الْآيَةَ لِأَنَّهُ لَا مَأْثَمَ عليهم بِنَقْضِ ذلك
الْيَمِينِ وَتَحْنِيثِ النَّفْسِ فيها وَإِنَّ المؤاخذ ( ( ( المؤاخذة ) ) )
بِالْإِثْمِ فيها بِحِفْظِهَا وَالْإِصْرَارِ عليها بِقَوْلِهِ { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } ثُمَّ منهم من أَوْجَبَ
الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في هذه الْآيَةِ { فَكَفَّارَتُهُ } إلَى
قَوْلِهِ { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } أَيْ حَلَفْتُمْ
وخنثتم ( ( ( وحنثتم ) ) )
وَمِنْهُمْ من لم يُوجِبْ فيها الْكَفَّارَةَ أَصْلًا لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى في بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها
سُئِلَتْ عن يَمِينِ اللَّغْوِ فقالت هِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ في كَلَامِهِ
لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ
وَعَنْ عَطَاءٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن يَمِينِ اللَّغْوِ فقال قالت
عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال هو
كَلَامُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فَثَبَتَ
مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّ تَفْسِيرَ يَمِينِ اللَّغْوِ ما قُلْنَا من غَيْرِ
فَصْلٍ بين الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ لَغْوًا على كل حَالٍ إذَا لم
يَقْصِدْهُ الْحَالِفُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ
بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ عز وجل { لَا يُؤَاخِذُكُمْ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ } وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَكَانَ غَيْرُ
الْمَقْصُودَةِ دَاخِلًا في قَسَمِ اللَّغْوِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } قَابَلَ
يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا في
الْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ اللَّغْوِ غير الْيَمِينِ
الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ وَالْيَمِينُ في الْمُسْتَقْبَلِ
يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أو لَا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ في
اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الذي لَا حَقِيقَةَ له قال اللَّهُ تَعَالَى { لَا
يَسْمَعُونَ فيها لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } أَيْ بَاطِلًا وقال عز وجل خَبَرًا
عن الْكَفَرَةِ { وَالْغَوْا فيه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَذَلِكَ فِيمَا
قُلْنَا وهو الْحَلِفُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ له بَلْ على ظَنٍّ من الْحَالِفِ أَنَّ
الْأَمْرَ كما حَلَفَ عليه وَالْحَقِيقَةُ بِخِلَافِهِ
وَكَذَا ما يَجْرِي على اللِّسَانِ من غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ في الْمَاضِي أو
الْحَالِ فَهُوَ مِمَّا لَا حَقِيقَةَ له فَكَانَ لَغْوًا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ
لَمَّا كان هو الذي لَا حَقِيقَةَ له كان هو الْبَاطِلَ الذي لَا حُكْمَ له فَلَا
يَكُونُ يَمِينًا مَعْقُودَةً لِأَنَّ لها حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّ
الْمُؤَاخَذَةَ فيها ثَابِتَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ فَدَلَّ أَنَّ
الْمُرَادَ من اللَّغْوِ ما قُلْنَا
وَهَكَذَا روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما في تَفْسِيرِ يَمِينِ
اللَّغْوِ هِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ على الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وهو يَرَى
أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِهِ تبيين ( ( ( تبين ) ) ) أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِ
عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَقَوْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إن
يَمِينَ اللَّغْوِ ما يَجْرِي في كَلَامِ الناس لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ
في الْمَاضِي لَا في الْمُسْتَقْبَلِ وَالدَّلِيلُ عليه أنها فَسَّرَتْهَا
بِالْمَاضِي في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
وَرُوِيَ عن مَطَرٍ عن رَجُلٍ قال دَخَلْت أنا وَعَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ على
عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَسَأَلْتهَا عن يَمِينِ اللَّغْوِ فقالت قَوْلُ
الرَّجُلِ فَعَلْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَصَنَعْنَا وَاَللَّهِ كَذَا فَتُحْمَلُ
تِلْكَ الرِّوَايَةُ على هذا تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ إذْ الْمُجْمَلُ
مَحْمُولٌ على الْمُفَسَّرِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَابَلَ اللَّغْوَ
بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ فَنَقُولُ في تِلْكَ الْآيَةِ قَابَلَهَا
بِالْمَكْسُوبَةِ وفي هذه الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَعْقُودَةِ وَمَتَى أَمْكَنَ
حَمْلُ الْآيَتَيْنِ على التَّوَافُقِ كان أَوْلَى من الْحَمْلِ على التَّعَارُضِ
فَنَجْمَعُ بين حُكْمِ الْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ يَمِينُ اللَّغْوِ التي هِيَ غَيْرُ
مَكْسُوبَةٍ وَغَيْرُ مَعْقُودَةٍ وَالْمُخَالِفُ عَطَّلَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ
فَكُنَّا أَسْعَدَ حَالًا منه
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوا } الْآيَةُ
فَقَدْ رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ ذلك نَهْيٌ عن الْحَلِفِ
على الْمَاضِي مَعْنَاهُ { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوا } أَيْ لَا تَحْلِفُوا أَنْ لَا تَبَرُّوا وَيَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفٍ
لَا في مَوْضِعِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى } أَيْ
لَا
____________________
(3/4)
يُؤْتَوْا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً أَيْ لَا تَحْلِفُوا لِكَيْ
تَبَرُّوا فَتَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً بِالْحِنْثِ بَعْدَ ذلك بِتَرْكِ
التَّعْظِيمِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْيَمِينِ يُقَالُ فُلَانٌ عُرْضَةٌ
لِلنَّاسِ أَيْ لَا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقَعُونَ فيه فَيَكُونُ هذا نَهْيًا عن
الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا لم يَكُنِ الْحَالِفُ على يَقِينٍ من
الْإِصْرَارِ على مُوجِبِ الْيَمِينِ وهو الْبِرُّ أو غَالِبِ الرَّأْيِ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ فَهِيَ الْيَمِينُ على أَمْرٍ في
الْمُسْتَقْبَلِ نَفْيًا أو إثْبَاتًا نحو قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا
وَكَذَا وَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اللَّفْظُ الذي
يُسْتَعْمَلُ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وإنه مُرَكَّبٌ من الْمُقْسَمِ
عليه وَالْمُقْسَمِ بِهِ ثُمَّ الْمُقْسَمُ بِهِ قد يَكُونُ اسْمًا وقد يَكُونُ
صِفَةً والإسم قد يَكُونُ مَذْكُورًا وقد يَكُونُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ قد
يَكُونُ صَرِيحًا وقد يَكُونُ كِنَايَةً أَمَّا الِاسْمُ صَرِيحًا فَهُوَ أَنْ
يَذْكُرَ اسْمًا من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كان سَوَاءٌ كان
اسْمًا خَاصًّا لَا يُطْلَقُ إلَّا على اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ اللَّهِ
وَالرَّحْمَنِ أو كان يُطْلَقُ على اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ
كَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْحَلِيمِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه
الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كانت تُطْلَقُ على الْخَلْقِ وَلَكِنْ تُعَيِّنُ الْخَالِقَ
مُرَادًا بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذا الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا
يَجُوزُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حَمْلًا
لِكَلَامِهِ على الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غير اللَّهِ تَعَالَى فَلَا
يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ في
أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ
وَحُكِيَ عن بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَنْ قال وَالرَّحْمَنِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ
اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَالِفٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرحمن
فَلَيْسَ بِحَالِفٍ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ وَسَوَاءٌ كان الْقَسَمُ
بِحَرْفِ الْبَاءِ أو الْوَاوِ أو التَّاءِ بِأَنْ قال بِاَللَّهِ أو والله أو
تَاللَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِكُلِّ ذلك من عَادَةِ الْعَرَبِ وقد وَرَدَ بِهِ
الشَّرْعُ أَيْضًا قال اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّهِ رَبِّنَا ما كنا مُشْرِكِينَ
} وقال { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } وقال تَعَالَى خَبَرًا عن
إخْوَةِ يُوسُفَ { قالوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } وقال عز وجل { تَاللَّهِ
لقد أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ من قَبْلِكَ } وقال عز وجل { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ
} وقال عز وجل { وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ } تعالى
وقد رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا
بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كان مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أو
لِيَدَعْ إلَّا أَنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وما سِوَاهَا دَخِيلٌ قَائِمٌ
مَقَامَهَا فَقَوْلُ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لِأَنَّ
الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ وهو إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ وَرَبْطُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ
وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ الْبَاءَ حَرْفَ إلْصَاقٍ وَحَرْفَ الرَّبْطِ
وَحَرْفَ الْآلَةِ وَالتَّسْبِيبِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ
فَقَدْ أَلْصَقْتَ الْفِعْلَ بِالِاسْمِ وَرَبَطْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ
فَكَانَ الْقَلَمُ آلَةَ الْكِتَابَةِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهَا فإذا
قال بِاَللَّهِ فَقَدْ أَلْصَقَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ وهو قَوْلُهُ أحلف
بِالِاسْمِ وهو قَوْلُهُ بِاَللَّهِ وَجَعَلَ اسْمَ اللَّهِ آلَةً لِلْحَلِفِ
وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هذه
اللَّفْظَةِ أُسْقِطَ قَوْلُهُ أَحْلِفُ واكتفى بِقَوْلِهِ الله ( ( ( بالله ) ) )
كما هو دَأْبُ الْعَرَبِ من حَذْفِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَعْضِ عِنْدَ
كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كان فِيمَا بَقِيَ دليلا ( ( ( دليل ) ) ) على الْمَحْذُوفِ
كما في قَوْلِهِمْ بِاسْمِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذلك وَإِنَّمَا خُفِضَ الِاسْمُ
لِأَنَّ الْبَاءَ من حُرُوفِ الْخَفْضِ وَالْوَاوُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَصَارَ
كَأَنَّ الْبَاءَ هو الْمَذْكُورُ وَكَذَا التَّاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَاوِ
فَكَانَ الْوَاوَ هو الْمَذْكُورُ إلَّا أَنَّ الْبَاءَ تُسْتَعْمَلُ في جَمِيعِ
ما يُقْسَمُ بِهِ من أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
وَكَذَا الْوَاوُ فَأَمَّا التَّاءُ فإنه لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في اسْمِ اللَّهِ
تَعَالَى تَقُولُ تَاللَّهِ وَلَا تَقُولُ تَالرَّحْمَنِ وَتَعِزَّةِ اللَّهِ
تَعَالَى لِمَعْنًى يُذْكَرُ في النَّحْوِ وَلَوْ لم يذكر شيئا من هذه
الْأَدَوَاتِ بِأَنْ قال اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا لِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَلَّفَ رُكَانَةَ بن زَيْدٍ أو زَيْدَ بن رُكَانَةَ
حين طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وقال والله ما أَرَدْتُ بِالْبَتِّ إلَّا
وَاحِدَةً وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ ما قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وهو أَنْ
يَكُونَ بِالْكَسْرِ لِأَنَّ النبي ذَكَرَ اللَّهَ بِالْكَسْرِ وهو أَفْصَحُ
الْعَرَبِ وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ أَنَّهُ
سَأَلَهُ وَاحِدٌ وقال له كَيْفَ أَصْبَحْتَ قال خَيْرٍ عَافَاكَ اللَّهُ بِكَسْرِ
الرَّاءِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ هل يَكُونُ يَمِينًا لم يذكر هذا في الْأَصْلِ وَقَالُوا
إنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الباء ( ( ( الراء ) ) ) تُوضَعُ مَوْضِعَ
اللَّامِ يُقَالُ آمَنَ بِاَللَّهِ وَآمَنَ له بِمَعْنًى قال اللَّهُ تَعَالَى في
قِصَّةِ فِرْعَوْنَ { آمَنْتُمْ له } وفي مَوْضِعٍ آخَرَ { آمَنْتُمْ بِهِ }
وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ قال وَرَبِّي وَرَبِّ الْعَرْشِ أو رَبِّ الْعَالَمِينَ كان حَالِفًا لِأَنَّ
هذا من الْأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُطْلَقُ على غَيْرِهِ
وَأَمَّا الصِّفَةُ فَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مع أنها كُلَّهَا لِذَاتِهِ على
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ منها ما لَا يُسْتَعْمَلُ في عُرْفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ
إلَّا في الصِّفَةِ نَفْسِهَا فَالْحَلِفُ بها يَكُونُ يَمِينًا
وَمِنْهَا ما يُسْتَعْمَلُ في الصِّفَةِ وفي
____________________
(3/5)
غَيْرِهَا
اسْتِعْمَالًا على السَّوَاءِ فَالْحَلِفُ بها يَكُونُ يَمِينًا أَيْضًا
وَمِنْهَا ما يُسْتَعْمَلُ في الصِّفَةِ وفي غَيْرِهَا لَكِنْ اسْتِعْمَالُهَا في
غَيْرِ الصِّفَةِ هو الْغَالِبُ فَالْحَلِفُ بها لَا يَكُونُ يَمِينًا
وَعَنْ مَشَايِخِنَا من قال ما تَعَارَفَهُ الناس يَمِينًا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا
ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عنه وما لم يَتَعَارَفُوهُ يَمِينًا لَا يَكُونُ
يَمِينًا وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا قال وَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ
اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هذه الصِّفَاتِ
إذَا ذُكِرَتْ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا يُرَادُ بها إلَّا نَفْسَهَا فَكَانَ
مُرَادُ الْحَالِفِ بها الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا النَّاس
يَتَعَارَفُونَ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ولم يَرِدْ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ
عن الْحَلِفِ بها
وَكَذَا لو قال وَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ
وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَكَلَامِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هذه
الصِّفَاتِ وَإِنْ كانت تُسْتَعْمَلُ في غَيْرِ الصِّفَةِ كما تُسْتَعْمَلُ في
الصِّفَةِ لَكِنَّ الصِّفَةَ تَعَيَّنَتْ مُرَادَةً بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ لَا
يَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَالظَّاهِرُ إرَادَةُ
الصِّفَةِ بِقَرِينَةِ الْقَسَمِ وَكَذَا الناس يُقْسِمُونَ بها في الْمُتَعَارَفِ
فَكَانَ الْحَلِفُ بها يَمِينًا
وَلَوْ قال وَرَحْمَةِ اللَّهِ أو غَضَبِهِ أو سَخَطِهِ لَا يَكُونُ هذا يَمِينًا
لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ آثَارُهَا عَادَةً لَا نَفْسُهَا
فَالرَّحْمَةُ يُرَادُ بها الْجَنَّةُ قال اللَّهُ تَعَالَى { فَفِي رَحْمَةِ
اللَّهِ هُمْ فيها خَالِدُونَ } وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِ أَثَرُ
الْغَضَبِ وَالسَّخَطِ عَادَةً وهو الْعَذَابُ وَالْعُقُوبَةُ لَا نَفْسُ
الصِّفَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إلَّا إذَا نَوَى بِهِ الصِّفَةَ وَكَذَا
الْعَرَبُ ما تَعَارَفَتْ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ
بها يَمِينًا وَكَذَا وَعِلْمِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عِلْمَ
اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ
وَلَنَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ عَادَةً يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لنا عِلْمَك فِينَا أَيْ مَعْلُومَك مِنَّا وَمِنْ زَلَّاتِنَا وَيُقَالُ هذا
عِلْمُ أبي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ لِأَنَّ عِلْمَ أبي حَنِيفَةَ قَائِمٌ
بِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُزَايِلُهُ وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى قد يَكُونُ غير
اللَّهِ تَعَالَى من الْعَالِمِ بِأَعْيَانِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَالْمَعْدُومَاتُ
كُلُّهَا لِأَنَّ الْمَعْدُومَ مَعْلُومٌ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا
إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ وَكَذَا الْعَرَبُ لم تَتَعَارَفْ الْقَسَمَ
بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِدُونِ النِّيَّةِ
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّنْ قال وَسُلْطَانِ اللَّهِ فقال لَا أَرَى من يَحْلِفُ
بهذا أَيْ لَا يَكُونُ يَمِينًا
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ يَكُونُ
حَالِفًا كما لو قال وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَقْدُورَ لَا يَكُونُ
حَالِفًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ
وَلَوْ قال وَأَمَانَةِ اللَّهِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ عن أَصْحَابِنَا جميعا أَنَّهُ ليس بِيَمِينٍ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فَرَائِضُهُ التي
تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بها من الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذلك قال اللَّهُ
تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ منها وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ } فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ عز وجل فَلَا يَكُونُ
يَمِينًا
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى عِنْدَ الْقَسَمِ يُرَادُ بها صِفَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ من
أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من الْأَمَانَةِ فَكَانَ
الْمُرَادُ بها عِنْدَ الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الْقَسَمِ صِفَةَ
اللَّهِ
وَلَوْ قال وَعَهْدِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ لِمَا
يُذْكَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال وَيَمِينِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَمِينٌ فَكَذَا هذا
وَلَوْ قال بِاسْمِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا رُوِيَ عن
مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِالِاسْمِ حَلِفًا بِالذَّاتِ كَأَنَّهُ قال
بِاَللَّهِ
وَلَوْ قال وَوَجْهِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ كَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي
يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
يُرَادُ بِهِ الذَّاتُ قال تَعَالَى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } أَيْ
ذَاتَهُ وقال عز وجل { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
أَيْ ذَاتُهُ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قال
وَوَجْهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ فَعَلَ إنها لَيْسَتْ بِيَمِينٍ
وقال ابن شُجَاعٍ أنها لَيْسَتْ من أَيْمَانِ الناس إنَّمَا هِيَ حَلِفُ
السَّفَلَةِ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ إذَا قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا أَفْعَلُ
كَذَا وَكَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا وَكَذَا
قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ
الْعَادَةَ ما جَرَتْ بِالْقَسَمِ بهذا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هذا قبل
الْخَبَرِ على طَرِيقِ التَّعَجُّبِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى
الْيَمِينَ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْقَسَمِ فَيَكُونُ حَالِفًا
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال وَمَلَكُوتِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِ اللَّهِ أنه
يَمِينٌ لِأَنَّهُ من صِفَاتِهِ التي لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا في الصِّفَةِ فَكَانَ
الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا كَقَوْلِهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ
وَكِبْرِيَائِهِ وَلَوْ قال وَعَمْرِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كان يَمِينًا
لِأَنَّ هذا حَلِفٌ بِبَقَاءِ اللَّهِ وهو لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الصِّفَةِ
وَكَذَا الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ قال اللَّهُ عز وجل { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقال طَرَفَةُ لَعَمْرُك إنَّ الْمَوْتَ ما
أَخْطَأَ الْفَتَى لك ( ( ( لكالطول ) ) ) الطول ( ( ( المرخى ) ) ) المرجى ( ( (
وثنياه ) ) ) وتبناه بِالْيَدِ وَلَوْ قال وأيم اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كان
يَمِينًا لِأَنَّ هذا من صِلَاتِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْبَصْرِيَّيْنِ قال رسول
اللَّهِ في زَيْدِ بن حَارِثَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَمَّرَهُ في حَرْبِ مُؤْتَةَ
وقد بَلَغَهُ الطَّعْنُ وأيم اللَّهِ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ وَعِنْدَ
الْكُوفِيِّينَ هو جَمْعُ الْيَمِينِ وتقديره ( ( ( تقديره ) ) ) وَأَيْمُنِ
اللَّهِ إلَّا أَنَّ النُّونَ أُسْقِطَتْ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ
لِلتَّخْفِيفِ كما في قَوْله تَعَالَى { حَنِيفًا ولم يَكُ من الْمُشْرِكِينَ }
____________________
(3/6)
وَالْأَيْمُنُ
جَمْعُ يَمِينٍ فَكَأَنَّهُ قال وَيَمِينِ اللَّهِ وأنه حَلِفٌ بِاَللَّهِ
تَعَالَى لِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْهُ يَمِينًا قال امْرُؤُ الْقَيْسِ فقلت
يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَإِنْ قُطِعَتْ رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
حَلَفْتُ لها بِاَللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ لَنَامُوا فما أن من حَدِيثٍ وَلَا
صَالِي وَقَالَتْ عُنَيْزَةُ فقالت يَمِينُ اللَّهِ ما لك حِيلَةٌ وما أَنْ أَرَى
عَنْكَ الْغِوَايَةَ تَنْجَلِي فَقَدْ اسْتَعْمَلَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَمِينَ
اللَّهِ وَسَمَّاهُ حَلِفًا بِاَللَّهِ وَلَوْ قال وَحَقِّ اللَّهِ لَا يَكُونُ
حَالِفًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي
يُوسُفَ وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَوَجْهُهُ
أَنَّ قَوْلَهُ وَحَقِّ اللَّهِ وَإِنْ كان إضَافَةَ الْحَقِّ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى لَكِنَّ الشَّيْءَ قد يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ في الْجُمْلَةِ وَالْحَقُّ
من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قال وَاَللَّهِ الْحَقِّ
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الشَّيْءُ إلَى غَيْرِهِ لَا إلَى
نَفْسِهِ فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا
وَلِأَنَّ الْحَقَّ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ
وَالْعِبَادَاتُ لِلَّهِ تَعَالَى في عُرْفِ الشَّرْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُئِلَ رسول اللَّهِ فَقِيلَ له ما حَقُّ اللَّهِ على
عِبَادِهِ فقال أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شيئا وَالْحَلِفُ
بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا
وَلَوْ قال وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ من أَسْمَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى قال اللَّهُ تَعَالَى { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هو الْحَقُّ
الْمُبِينُ } وَقِيلَ إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا
لِأَنَّ اسْمَ الْحَقِّ كما يُطْلَقُ على اللَّهِ تَعَالَى يُطْلَقُ على غَيْرِهِ
فَيَقِفُ على النِّيَّةِ
وَلَوْ قال حَقًّا لَا رِوَايَةَ فيه وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قال محمد بن
سَلَمَةَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ قَوْلَهُ حَقًّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ
صِدْقًا وقال أبو مُطِيعٍ هو يَمِينٌ لِأَنَّ الْحَقَّ من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
فَقَوْلُهُ { حَقًّا } كَقَوْلِهِ { وَالْحَقِّ }
وَلَوْ قال أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أو أَحْلِفُ أو أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أو أَعْزِمُ
بِاَللَّهِ كان يَمِينًا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا بُدَّ من
النِّيَّةِ
وَلَنَا أَنَّ صِيغَةَ افعل لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَلِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ
السِّينِ وَسَوْفَ وهو الصَّحِيحُ فَكَانَ هذا إخْبَارًا عن حَلِفِهِ بِاَللَّهِ
لِلْحَالِ وَهَذَا إذَا ظَهَرَ الْمُقْسَمُ بِهِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ بِأَنْ قال
أُقْسِمُ أو أَحْلِفُ أو أَشْهَدُ أو أَعْزِمُ كان يَمِينًا في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ يَمِينًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أنه إذَا لم يذكر الْمَحْلُوفَ بِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ
بِهِ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُجْعَلُ حَلِفًا مع الشَّكِّ
وَلَنَا أَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا لم يَجُزْ إلَّا بِاَللَّهِ عز وجل كان
الْإِخْبَارُ عنه إخْبَارًا عَمَّا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ كما في قَوْله تَعَالَى
{ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ التي كنا فيها } وَنَحْوِ ذلك وَلِأَنَّ الْعَرَبَ
تَعَارَفَتْ الْحَلِفَ على هذا الْوَجْهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } ولم يَقُلْ بِاَللَّهِ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
{ إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قالوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }
فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } وقال تَعَالَى { إذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } ولم يذكر بِاَللَّهِ ثُمَّ سَمَّاهُ قَسَمًا
وَالْقَسَمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى في عُرْفِ الشَّرْعِ
وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } فقال أَفَيَكُونُ
الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا في الْيَمِينِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا
يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْيَمِينِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي
الْإِخْبَارَ عن أَمْرٍ يَفْعَلُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ كما قال تَعَالَى { وَلَا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }
وَقَوْلُهُ اعزم مَعْنَاهُ أُوجِبُ فَكَانَ إخْبَارًا عن الْإِيجَابِ في الْحَالِ
وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ
وَكَذَا لو قال عَزَمْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا كان حَالِفًا
وَكَذَا لو قال آلَيْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الإلية هِيَ الْيَمِينُ
وَكَذَا لو قال عَلَيَّ نَذْرٌ أو نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِقَوْلِهِ من
نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى وَمَنْ نَذَرَ ولم يُسَمِّ
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
وقال النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَرُوِيَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قال لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عن بَيْعِ
رِبَاعِهَا أو لَأَحْجُرَنَّ عليها فَبَلَغَ ذلك عَائِشَةُ فقالت أو قال ذلك قالوا
نعم فقالت لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ كَلَّمْتُهُ أَبَدًا فاعتق عن يَمِينِهَا
عَبْدًا وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أو يَمِينُ اللَّهِ في قَوْلِ
____________________
(3/7)
أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ له عَلَيَّ يَمِينٌ لَا يَكُونُ يَمِينًا
وَجْهُ قَوْلِهِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ قد يَكُونُ
بِاَللَّهِ وقد يَكُونُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينًا بِالشَّكِّ
وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَيْ يَمِينُ اللَّهِ إذْ لَا يَجُوزُ
الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ يَمِينُ اللَّهِ دُونَ قَوْلِهِ
عَلَيَّ يَمِينٌ فَكَيْفَ معه أو يُقَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ أو
يَمِينُ اللَّهِ أَيْ عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ
الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ
كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أو ذِمَّةُ اللَّهِ أو مِيثَاقُهُ فَهُوَ
يَمِينٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ على
تَحْقِيقٍ أو نَفْيِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } ثُمَّ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَنْقُضُوا
الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَجُعِلَ الْعَهْدُ يَمِينًا وَالذِّمَّةُ
هِيَ الْعَهْدُ وَمِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَيْ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ
وَالْعَهْدُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان إذَا بَعَثَ جَيْشًا قال في وَصِيَّتِهِ
إيَّاهُمْ وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ
رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ أَيْ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ وَلَوْ قال
إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أو نَصْرَانِيٌّ أو مَجُوسِيٌّ أو بَرِيءٌ عن
الْإِسْلَامِ أو كَافِرٌ أو يَعْبُدُ من دُونِ اللَّهِ أو يَعْبُدُ الصَّلِيبَ أو
نَحْوُ ذلك مِمَّا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا فَهُوَ يَمِينٌ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْفِعْلَ الْمَحْلُوفَ عليه بِمَا هو
مَعْصِيَةٌ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كما لو قال إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ شَارِبٌ
خَمْرًا أو آكِلٌ مَيْتَةً
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَعَارَفٌ بين
الناس فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بها من لَدُنْ رسول اللَّهِ إلَى يَوْمِنَا هذا من
غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ لم يَكُنْ ذلك حَلِفًا لَمَا تَعَارَفُوا لِأَنَّ الْحَلِفَ
بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةٌ فَدَلَّ تَعَارُفُهُمْ على أَنَّهُمْ
جَعَلُوا ذلك كِنَايَةً عن الْحَلِفِ بِاَللَّهِ عزوجل وَإِنْ لم يُعْقَلْ
وَجْهُ الْكِنَايَةِ فيه كَقَوْلِ الْعَرَبِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ
ثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ إنَّ ذلك جُعِلَ كِنَايَةً عن التَّصَدُّقِ في
عُرْفِهِمْ وَإِنْ لم يُعْقَلْ وَجْهُ الْكِنَايَةِ فيه كَذَا هذا
هذا إذَا أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى
الْمَاضِي بِأَنْ قال هو يَهُودِيٌّ أو نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ قد
فَعَلَهُ فَهَذَا يَمِينُ الْغَمُوسِ بهذا اللَّفْظِ وَلَا كَفَّارَةَ فيه
عِنْدَنَا لَكِنَّهُ هل يُكَفَّرُ لم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ
الْكُفْرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال هو كَافِرٌ
بِاَللَّهِ وَكَتَبَ نَصْرُ بن يحيى إلَى ابْنِ شُجَاعٍ يَسْأَلُهُ عن ذلك فقال
لَا يَكْفُرُ وَهَكَذَا روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ
ما قَصَدَ بِهِ الْكُفْرَ وَلَا اعْتَقَدَهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ ترويج ( ( (
ترويح ) ) ) كَلَامِهِ وَتَصْدِيقَهُ فيه وَلَوْ قال عَصَيْتُ اللَّهَ إنْ
فَعَلْتُ كَذَا أو عَصَيْتُهُ في كل ما افْتَرَضَ عَلَيَّ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ
لِأَنَّ الناس ما اعْتَادُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ
وَلَوْ قال
هو يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أو يَسْتَحِلُّ الدَّمَ أو لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أو
يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ من ذلك
يَمِينًا لِأَنَّهُ ليس بِإِيجَابٍ بَلْ هو إخْبَارٌ عن فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ في
الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هو يَهُودِيٌّ أو نَحْوِهِ لِأَنَّ ذلك
إيجَابٌ في الْحَالِ وَكَذَلِكَ لو دعى ( ( ( دعا ) ) ) على نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ
أو عَذَابِ النَّارِ بِأَنْ قال عليه عَذَابُ اللَّهِ إنْ فَعَلَ كَذَا أو قال
أَمَاتَهُ اللَّهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لِأَنَّ هذا ليس بِإِيجَابٍ بَلْ دُعَاءٌ على
نَفْسِهِ وَلَا يُحْلَفُ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَلَوْ
حَلَفَ بِشَيْءٍ من ذلك لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالنَّاسُ وَإِنْ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهِمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ نهى
عنه
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا
بِالطَّوَاغِيتِ
فَمَنْ كان حَالِفًا فيحلف ( ( ( فليحلف ) ) ) بِاَللَّهِ أو لِيَذَرْ وَرُوِيَ
عنه أَنَّهُ قال من حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ وَلِأَنَّ هذا
النَّوْعَ من الْحَلِفِ لِتَعْظِيمِ الْمَحْلُوفِ وَهَذَا النَّوْعَ من
التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قال وَدِينِ اللَّهِ أو طَاعَتِهِ أو شَرَائِعِهِ أو أَنْبِيَائِهِ
وَمَلَائِكَتِهِ أو عَرْشِهِ لم يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ
اللَّهِ
وَمِنْ الناس من قال الْحَلِفُ بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَغَيْرِهِمْ يَمِينٌ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِلْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا
يَكُونُ قَسَمًا كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ كَذَا لو قال وَبَيْتِ اللَّهِ أو
حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أو بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أو بِالصَّفَا أو بِالْمَرْوَةِ
أو بِالصَّلَاةِ أو الصَّوْمِ أو الْحَجِّ لِأَنَّ كُلَّ ذلك حَلِفٌ بِغَيْرِ
اللَّهِ عز وجل
وَكَذَا الْحَلِفُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ لِمَا
قُلْنَا وَلَا يَحْلِفُ بِالسَّمَاءِ وَلَا بِالْأَرْضِ وَلَا بِالشَّمْسِ وَلَا
بِالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَلَا بِكُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى
وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ لِمَا قُلْنَا وقد قال أبو حَنِيفَةَ لَا يُحْلَفُ إلَّا
بِاَللَّهِ مُتَجَرِّدًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَلَوْ قال وَعِبَادَةِ
وَحَمْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ أَلَا
تَرَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْحَمْدَ فِعْلُكَ
وَلَوْ قال بِالْقُرْآنِ أو بِالْمُصْحَفِ أو بِسُورَةِ كَذَا من الْقُرْآنِ
فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَلَا شَكَّ فيه
وَأَمَّا
____________________
(3/8)
الْقُرْآنُ
وَسُورَةُ كَذَا فَلِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ من اسْمِ الْقُرْآنِ الْحُرُوفُ
الْمَنْظُومَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ بِتَقْطِيعٍ خَاصٍّ لَا كَلَامُ
اللَّهِ الذي هو صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تُنَافِي السُّكُوتَ
وَالْآفَةَ
وَلَوْ قال بِحُدُودِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ
وَاخْتَلَفُوا في الْمُرَادِ بِحُدُودِ اللَّهِ قال بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهِ
الْحُدُودُ الْمَعْرُوفَةُ من حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ والسدب ( ( ( الشرب )
) ) وَالْقَذْفِ
وقال بَعْضُهُمْ يُرَادُ بها الْفَرَائِضُ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
وَغَيْرِهِمَا وَكُلُّ ذلك حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ
يَمِينًا
وقد روى عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ
وَلَا بِحَدٍّ من حُدُودِ اللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ وَمَنْ
حُلِفَ له بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لم يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَّا
وَلَوْ قال عليه غَضَبُ اللَّهِ أو سَخَطُهُ أو لَعْنَتُهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لم
يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ على نَفْسِهِ بِالْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ
وَالطَّرْدِ عن الرَّحْمَةِ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كما لو قال عليه عَذَابُ
اللَّهِ وَعِقَابُهُ وَبُعْدُهُ عن رَحْمَتِهِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ من قال في تَخْرِيجِهِ الْقَسَمَ بِالصِّفَاتِ
إن الصِّفَاتِ على ضَرْبَيْنِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَصِفَةٌ لِلْفِعْلِ وَفَصَلَ
بَيْنَهُمَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وهو أَنَّ ما يُثْبَتُ وَلَا ينفي فَهُوَ
صِفَةٌ لِلذَّاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِهِمَا وما يُثْبَتُ وينفي
فَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالتَّكْوِينِ وَالْإِحْيَاءِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذلك
وَجَعَلَ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ من صِفَاتِ الْفِعْلِ فَجَعَلَ صِفَةَ الذَّاتِ
قَدِيمَةً وَصِفَةَ الْفِعْلِ حَادِثَةً فقال الْحَلِفُ بِصِفَةِ الذَّاتِ يَكُونُ
حَلِفًا بِاَللَّهِ فَيَكُونُ يَمِينًا وَالْحَلِفُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ يَكُونُ
حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ
صِفَاتِ الْفِعْلِ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ
اخْتَلَفُوا في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الصِّفَتَيْنِ فَفَصَّلَتْ
الْمُعْتَزِلَةُ بِمَا ذَكَرَهُ هذا الْقَائِلُ من النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ
وَالْأَشْعَرِيَّةُ فَصَّلَتْ بِلُزُومِ النَّقِيصَةِ وَعَدَمِ اللُّزُومِ وهو
أَنَّهُ ما يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ من صِفَاتِ الذَّاتِ وما لَا
يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ من صِفَاتِ الْفِعْلِ مع إتفاق
الْفَرِيقَيْنِ على حُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ
عِبَارَاتُهُمْ في التَّحْدِيدِ لِأَجْلِ الْكَلَامِ فَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى
مُحْدَثٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ ينفي وَيُثْبَتُ فَكَانَ من صِفَاتِ
الْفِعْلِ فَكَانَ حَادِثًا وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَزَلِيٌّ لِأَنَّهُ
يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَكَانَ من صِفَاتِ الذَّاتِ فَكَانَ قَدِيمًا وَمَذْهَبُنَا
وهو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ
وَاَللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بها في الْأَزَلِ سَوَاءٌ كانت رَاجِعَةً إلَى
الذَّاتِ أو إلَى الْفِعْلِ فَهَذَا التَّخْرِيجُ وَقَعَ مَعْدُولًا بِهِ عن
مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ
وَالْحُجَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ في تَخْرِيجِ هذا النَّوْعِ من الْمَسَائِلِ ما
سَلَكْنَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ وَالْهَادِي إلَى سَبِيلِ
الرَّشَادِ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى في الْقَسَمِ مَرَّةً
وَاحِدَةً فإما إذَا كُرِّرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وهو اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ولم يذكر
الْمُقْسَمَ عليه حتى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ثَانِيًا ثُمَّ ذَكَرَ
الْمُقْسَمَ عليه وإما أن ذَكَرَهُمَا جميعا ثُمَّ أَعَادَهُمَا جميعا وَكُلُّ ذلك
لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أو يَكُونَ بِدُونِهِ فَإِنْ
ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ولم يذكر الْمُقْسَمَ عليه حتى كَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ
تَعَالَى ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عليه فَإِنْ لم يَدْخُلْ بين الِاسْمَيْنِ
حَرْفُ الْعَطْفِ كان يَمِينًا وَاحِدَةً بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كان الِاسْمُ
مُخْتَلِفًا أو مُتَّفِقًا فَالْمُخْتَلِفُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الرحمن
ما فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ لم يذكر حَرْفَ الْعَطْفِ وَالثَّانِي
يَصْلُحُ صِفَةً لِلْأَوَّلِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ
حَالِفًا بِذَاتٍ مَوْصُوفٍ لَا بِاسْمِ الذَّاتِ على حِدَةٍ وَبِاسْمِ الصِّفَةِ
على حِدَةٍ وَالْمُتَّفِقُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ ما فَعَلْتُ
كَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ وَيَصْلُحُ تَكْرِيرًا
وَتَأْكِيدًا له فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ
يَمِينَيْنِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ اللَّهِ ابْتِدَاءَ يَمِينٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ
وإنه قَسَمٌ صَحِيحٌ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ أَدْخَلَ بين
الْقَسَمَيْنِ حَرْفَ عَطْفٍ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ وهو إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا
وَاحِدَةً وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وقد رُوِيَ هذا أَيْضًا عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ
رِوَايَةِ الْأُصُولِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَذْكُورِ في الْجَامِعِ أَنَّهُ لَمَّا عُطِفَ أَحَدُ
الإسمين على الْآخَرِ فَكَانَ الثَّانِي غير الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ
غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عليه فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا على حِدَةٍ
بِخِلَافِ ما إذَا لم يُعْطَفْ لِأَنَّهُ إذَا لم يُعْطَفْ أَحَدُهُمَا على
الْآخَرِ يُجْعَلُ الثَّانِي صِفَةً لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ صِفَةً
لِأَنَّ الِاسْمَ يَخْتَلِفُ وَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي بِالْأَسْمَاءِ
وَالصِّفَاتِ من غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فيقول وَاَللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ
الطَّالِبِ الْمُدْرِكِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ مع حَرْفِ الْعَطْفِ
لِأَنَّهُ ليس على الْمُدَّعَى عليه إلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ
وَجْهُ رِوَايَةِ
____________________
(3/9)
الْحَسَنِ
أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قد يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِئْنَافِ وقد يُسْتَعْمَلُ
لِلصِّفَةِ فإنه يُقَالُ فُلَانٌ الْعَالِمُ وَالزَّاهِدُ وَالْجَوَادُ
وَالشُّجَاعُ فَاحْتَمَلَ الْمُغَايِرَةَ وَاحْتَمَلَ الصِّفَةَ فَلَا تَثْبُتُ
يَمِينٌ أُخْرَى مع الشَّكِّ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا في هذه الْمَسْأَلَةِ في أَنَّ
هذا يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً أو يَكُونُ يَمِينَيْنِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ إن
ادخال الْقَسَمِ على الْقَسَمِ قبل تَمَامِ الْكَلَامِ هل يَجُوزُ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ أبي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ وَالْخَلِيلِ حتى
حَكَى سِيبَوَيْهِ عن الْخَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ عز وجل { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى
وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } يَمِينٌ وَاحِدَةٌ
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وهو قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ حتى قال
الزَّجَّاجُ إنَّ قَوْلَهُ عز وجل { ص } قَسَمٌ وَقَوْلَهُ عز وجل { وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ } قَسَمٌ آخَرُ وَالْحُجَجُ وَتَعْرِيفُ تَرْجِيحِ أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ على الْآخَرِ تُعْرَفُ في كُتُبِ النَّحْوِ وقد قِيلَ في تَرْجِيحِ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ على الثَّانِي إنَّا إذَا جَعَلْنَاهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً
لَا نَحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ جَوَابٍ آخَرَ بَلْ يَصِيرُ قَوْلُهُ لَا أَفْعَلُ
مُقْسَمًا عليه بِالِاسْمَيْنِ جميعا وَلَوْ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
قَسَمًا على حِدَةٍ لَاحْتَجْنَا إلَى إدْرَاجِ ذِكْرِ الْمُقْسَمِ عليه لِأَحَدِ
الِاسْمَيْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا
فَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ يَكُونُ يَمِينَيْنِ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَأَنَّهُ
اسْتَحْسَنَ وَحَمَلَهُ على التَّكْرَارِ لِتَعَارُفِ الناس وَهَكَذَا ذُكِرَ في
الْمُنْتَقَى عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قال وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا
أَفْعَلُ كَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِمَنْزِلَةِ
قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَفِيهِ قُبْحٌ وَيَنْبَغِي في
الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَاحِدَةً هَكَذَا ذُكِرَ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ
الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ عليه كَفَّارَتَانِ ولكني أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عليه
كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا كُلُّهُ في الِاسْمِ الْمُتَّفِقِ تَرَكَ مُحَمَّدٌ
الْقِيَاسَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ لِمَا زَعَمَ أَنَّ
مَعَانِيَ كَلَامِ الناس عليه هذا إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ ولم يذكر
الْمُقْسَمَ عليه حتى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثَانِيًا فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُمَا
جميعا ثُمَّ أَعَادَهُمَا فَإِنْ كان بِحَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ
لَا أَفْعَلُ كَذَا وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أو قال وَاَللَّهِ لَا
أَفْعَلُ كَذَا وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ
سَوَاءٌ كان ذلك في مَجْلِسَيْنِ أو في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حتى لو فَعَلَ كان عليه
كَفَّارَتَانِ وَكَذَا لو أَعَادَهُمَا بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قال
وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وقال وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّهُ
لَمَّا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عليه مع الِاسْمِ الثَّانِي عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ
بِهِ يَمِينًا أُخْرَى إذْ لو أَرَادَ الصِّفَةَ أو التَّأْكِيدَ لَمَا أَعَادَ
الْمُقْسَمَ عليه
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أو قال وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا
وقال أَرَدْتُ بِالثَّانِي الْخَبَرَ عن الْأَوَّلِ
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ
بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى هو وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وإنه أَمْرٌ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مُحْتَمِلٌ في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كان
خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فأن الْمُعَلَّى رَوَى عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ قال في رَجُلٍ حَلَفَ في مَقْعَدٍ وَاحِدٍ بِأَرْبَعَةِ أَيْمَانٍ
أو أَكْثَرَ أو بِأَقَلَّ فقال أبو يُوسُفَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن ذلك فقال
لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ وَمَقْعَدٌ وَاحِدٌ وَمَقَاعِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَاحِدٌ
فَإِنْ قال عني بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى لم يُصَدَّقْ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى وَيُصَدَّقُ في الْيَمِينِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْفِدْيَةِ
وَكُلُّ يَمِينٍ قال فيها عَلَيَّ كَذَا وَالْفَرْقُ إن الْوَاجِبَ في الْيَمِينِ
الْقُرْبُ في لَفْظِ الْحَالِفِ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ وهو
قَوْلُهُ عَلَيَّ كَذَا وَصِيغَةُ هذا صِيغَةُ الْخَبَرِ فإذا أَرَادَ
بِالثَّانِيَةِ الْخَبَرَ عن الْأَوَّلِ صَحَّ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى فإن الْوَاجِبَ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ليس في لَفْظِ
الْحَالِفِ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا يَجِبُ
بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَكُلُّ يَمِينٍ مُنْفَرِدَةٍ بِالِاسْمِ فَيَنْفَرِدُ
بِحُكْمِهَا فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال في رَجُلٍ قال هو يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا
وهو نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وهو مَجُوسِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وهو مُشْرِكٌ
إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ قال عليه لِكُلِّ شَيْءٍ من ذلك يَمِينٌ
وَلَوْ قال هو يَهُودِيٌّ هو نَصْرَانِيٌّ هو مَجُوسِيٌّ هو مُشْرِكٌ فَهُوَ
يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ
الْمُقْسَمَ بِهِ مع الْمُقْسَمِ عليه ثُمَّ أَعَادَهُ فَالثَّانِي غَيْرُ
الْأَوَّلِ في قَوْلِهِمْ جميعا وإذا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَكَرَّرَهُ من
غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ في قَوْلِهِمْ جميعا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَنْوَاعٌ
بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عليه
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا
بَالِغًا يَصِحُّ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كان عَاقِلًا
لِأَنَّهَا تَصَرُّفُ إيجَابٍ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْإِيجَابِ وَلِهَذَا لم
يَصِحَّ نَذْرُهُمَا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا
____________________
(3/10)
فَلَا
يَصِحُّ يَمِينُ الْكَافِرِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس
بِشَرْطٍ حتى لو حَلَفَ الْكَافِرُ على يَمِينٍ ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَنِثَ فَلَا
كَفَّارَةَ عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا
حَنِثَ في حَالِ الْكُفْرِ لَا تَجِبُ عليه الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ بَلْ
بِالْمَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْكَافِرَ من أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ في الدعاوي وَالْخُصُومَاتِ وَكَذَا يَصِحُّ
إيلَاؤُهُ وَلَوْ لم يَكُنْ أَهْلًا لَمَا انْعَقَدَ كَإِيلَاءِ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ وَكَذَا هو من أَهْلِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
فَكَانَ من أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَالْمُسْلِمِ بِخِلَافِ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِهَا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ أنها لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ
النِّيَّةِ وَكَذَا لَا تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عنه وَهُمَا حُكْمَانِ
مُخْتَصَّانِ بِالْعِبَادَاتِ إذْ غَيْرُ الْعِبَادَةِ لَا تُشْتَرَطُ فيه
النِّيَّةُ وَلَا يَخْتَصُّ سُقُوطُهُ بِأَدَاءِ من عليه كَالدُّيُونِ وَرَدِّ
الْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهَا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ لِلصَّوْمِ فيها مَدْخَلًا على
وَجْهِ الْبَدَلِ وَبَدَلُ الْعِبَادَةِ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْكَافِرُ ليس من
أَهْلِ الْعِبَادَاتِ فَلَا تَجِبُ بِيَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ فَلَا تَنْعَقِدُ
يَمِينُهُ كَيَمِينِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ في
الدعاوي لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الِاسْتِحْلَافِ التَّحَرُّجُ عن الْكَذِبِ
كَالْمُسْلِمِ فَاسْتَوَيَا فيه وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ فِيمَا هو
عِبَادَةٌ وَهَكَذَا نَقُولُ في الْإِيلَاء أنه لَا يَصِحُّ في حَقِّ وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَتَضَمَّنُ حُكْمَيْنِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ
على تَقْدِيرِ الْقُرْبَانِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ
إذَا لم يَقْرَبْهَا في الْمُدَّةِ وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا
يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَافِرُ وَالطَّلَاقُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ يَمِينُ الْمَمْلُوكِ إلَّا
أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ
له وَإِنَّمَا يَجِبُ عليه التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ
يَمْنَعَهُ من الصَّوْمِ
وَكَذَا كُلُّ صَوْمٍ وَجَبَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من الْعَبْدِ
كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَضَرَّر بِصَوْمِهِ
وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الاضرار بِالْمَوْلَى وَلَوْ أُعْتِقَ قبل أَنْ يَصُومَ
يَجِبُ عليه التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ
بِالْعِتْقِ وَكَذَا الطَّوَاعِيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا فَيَصِحُّ من
الْمُكْرَهِ لِأَنَّهَا من التَّصَرُّفَاتِ التي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا
يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَكُلِّ
تَصَرُّفٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ
وَكَذَا الْجَدُّ وَالْعَمْدُ فَتَصِحُّ من الخاطيء وَالْهَازِلِ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عليه فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ
الْوُجُودِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْحَلِفِ هو شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ على
أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ وَبَقَاؤُهَا أَيْضًا مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً
بَعْدَ الْيَمِينِ شَرْطُ بَقَاءِ الْيَمِينِ حتى لَا يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ على
ما هو مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً وَلَا يَبْقَى إذَا صَارَ بِحَالٍ
يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا ليس
بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَا لِبَقَائِهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ
تَكُونَ الْيَمِينُ على أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ عَادَةً فَهَلْ هو شَرْطُ انْعِقَادِ
الْيَمِينِ قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ ليس بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ على ما
يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً بَعْدَ أَنْ كان لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ
حَقِيقَةً
وقال زُفَرُ هو شَرْطٌ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِهِ وَبَيَانُ هذه
الْجُمْلَةِ إذَا قال وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الذي في هذا الْكُوزِ
فإذا لَا مَاءَ فيه لم تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَزُفَرَ لِعَدَمِ شَرْطِ الِانْعِقَادِ وهو تَصَوُّرُ شُرْبِ الْمَاءِ الذي
حَلَفَ عليه
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو الْإِضَافَةُ إلَى
أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كان يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَاءَ فيه تَنْعَقِدُ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَنْعَقِدُ وهو رِوَايَةٌ
عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ وَعَلَى هذا
الْخِلَافِ إذَا وَقَّتَ وقال وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الذي في هذا
الْكُوزِ الْيَوْمَ وَلَا مَاءَ في الْكُوزِ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال وَاَللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا وَفُلَانٌ
مَيِّتٌ وهو لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا
لِأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كان عَالِمًا بِمَوْتِهِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا
لِزُفَرَ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أو لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أو
لَأُحَوِّلَنَّ هذا الْحَجَرَ ذَهَبًا تَنْعَقِدُ عندأصحابنا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَنْعَقِدُ
وأما الْكَلَامُ مع أبي يُوسُفَ وجه ( ( ( فوجه ) ) ) قَوْلِهِ إنَّ الْحَالِفَ
جَعَلَ شَرْطَ عَدَمِ حِنْثِهِ الْقَتْلَ وَالشُّرْبَ في الْمُطْلَقِ وفي
الْمُوَقِّتِ عَدَمَ الشُّرْبِ في الْمُدَّةِ وقد تَأَكَّدَ الْعَدَمُ فَتَأَكَّدَ
شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ كما في قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ
أو لَأُحَوِّلَنَّ هذا الْحَجَرَ ذَهَبًا وَلَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ
لِلْبِرِّ لِأَنَّ الْبِرَّ هو مُوجِبُ الْيَمِينِ وهو الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ
من الْيَمِينِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ
بِيَمِينِهِ تَحْقِيقَ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِمَا عَهِدَ وانجاز ما وَعَدَ
ثُمَّ
____________________
(3/11)
الْكَفَّارَةُ
تَجِبُ لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْحَاصِلِ بِتَفْوِيتِ الْبِرِّ وهو الْحِنْثُ فإذا لم
يَكُنِ الْبِرُّ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ فلم يَكُنْ
في انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَائِدَةٌ فَلَا تَنْعَقِدُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْبِرَّ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ من هذه الْيَمِينِ
حَقِيقَةً أَنَّهُ إذَا كان عِنْدَهُ أَنَّ في الْكُوزِ مَاءً وَأَنَّ الشَّخْصَ
حَيٌّ فَيَمِينُهُ تَقَعُ على الْمَاءِ الذي كان فيه وَقْتَ الْيَمِينِ وَعَلَى
إزَالَةِ حَيَاةٍ قَائِمَةٍ وَقْتَ الْيَمِينِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كان
قَادِرًا على خَلْقِ الْمَاءِ في الْكُوزِ وَلَكِنَّ هذا الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ
ذلك الْمَاءَ الذي وَقَعَتْ يَمِينُهُ عليه وفي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ زَالَتْ
تِلْكَ الْحَيَاةُ على وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا بِخِلَافِ ما إذَا كان
عَالِمًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كان عَالِمًا بِهِ فَإِنَّمَا انْعَقَدَ
يَمِينُهُ على مَاءٍ آخَرَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى حَيَاةٍ أُخْرَى
يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ ذلك على نَقْضِ الْعَادَةِ فَكَانَ
الْعَجْزُ عن تَحْقِيقِ الْبِرِّ ثَابِتًا عَادَةً فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ
وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْبِرَّ
مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ في نَفْسِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يُقْدِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
على ذلك كما أَقْدَرَ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ من الْأَنْبِيَاءِ عليهم
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عن ذلك عَادَةً فَلِتَصَوُّرِ
وُجُودِهِ حَقِيقَةً انْعَقَدَتْ وَلِلْعَجْزِ عن تَحْقِيقِهِ عَادَةً حَنِثَ
وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع زُفَرَ في الْيَمِينِ على مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ
فَهُوَ يقول الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً يُلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وفي
الْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً لَا تَنْعَقِدُ
كَذَا في الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً
وَلَنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ وَالْعَادَةِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ وَفِيمَا
قُلْنَاهُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَالْعَادَةِ جميعا وَفِيمَا قَالَهُ
اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَإِهْدَارُ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ الْيَوْمَ يَحْنَثُ في آخَرِ
الْيَوْمِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وفي قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ
أَنَّهُ يَحْنَثُ في الْحَالِ وقد رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ما يَدُلُّ عليه
فإنه قال في رَجُلٍ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ كُلَّهُ الْيَوْمَ قال
أبو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ حتى يَمْضِيَ الْيَوْمُ
وقال أبو يُوسُفَ يَحْنَثُ السَّاعَةَ فَإِنْ قال في يَمِينِهِ غَدًا لم يَحْنَثْ
حتى يَمْضِيَ الْيَوْمُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ
يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ
فَأَمَّا أبو يُوسُفَ فقال يَحْنَثُ في أَوَّلِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْغَدِ
لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ فَكَأَنَّهُ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ في
غَدٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا لم يَكُنِ الْمَحْلُوفُ عليه مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أو عَادَةً
وَقْتَ الْيَمِينِ حتى انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ ثُمَّ فَاتَ
فَالْحَلِفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في
الْإِثْبَاتِ أو في النَّفْيِ فَإِنْ كان مُطْلَقًا في الْإِثْبَاتِ بِأَنْ قال
وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هذا الرَّغِيفَ أو لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الذي في هذا
الْكُوزِ أو لَأَدْخُلَنَّ هذه الدَّارَ أو لَآتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فما دَامَ
الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عليه قَائِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحِنْثَ في
الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ الْبِرِّ في جَمِيعِ الْبِرِّ
فما دَامَا قَائِمَيْنِ لَا يَقَعُ الْيَأْسُ عن تَحْقِيقِ الْبِرِّ فَلَا
يَحْنَثُ فإذا هَلَكَ أَحَدُهُمَا بحنث ( ( ( يحنث ) ) ) لِوُقُوعِ الْعَجْزِ عن
تَحْقِيقِهِ غير أَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عليه يَحْنَثُ وَقْتَ هَلَاكِهِ
وإذا هَلَكَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ في آخَرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ
الْحِنْثَ في الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الْبِرِّ وَوَقْتُ فَوَاتِ الْبِرِّ في
هَلَاكِ الْمَحْلُوفِ عليه وَقْتُ هَلَاكِهِ وفي هَلَاكِ الْحَالِفِ آخِرُ جُزْءٍ
من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ
وَإِنْ كان في النَّفْيِ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هذا الرَّغِيفَ أو لَا
أَشْرَبُ الْمَاءَ الذي في هذا الْكُوزِ فلم يَأْكُلْ ولم يَشْرَبْ الْمَاءَ حتى
هَلَكَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ بَرَّ في يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وهو
عَدَمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ كان مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ فَالْوَقْتُ
نَوْعَانِ مُوَقَّتٌ نَصًّا وَمُوَقَّتٌ دَلَالَةً
أَمَّا الْمُوَقَّتُ نَصًّا فَإِنْ كان في الْإِثْبَاتِ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ
لَآكُلَنَّ هذا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ أو لَأَشْرَبَنَّ هذا الْمَاءَ الذي في هذا
الْكُوزِ الْيَوْمَ أو لَأَدْخُلَنَّ هذه الدَّارَ وَنَحْوَ ذلك فما دَامَ
الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عليه قَائِمَيْنِ وَالْوَقْتُ قَائِمًا لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّ الْبِرَّ في الْوَقْتِ مَرْجُوٌّ فَتَبْقَى الْيَمِينُ
وَإِنْ كان الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عليه قَائِمَيْنِ وَمَضَى الْوَقْتُ
يَحْنَثْ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْيَمِينَ كانت مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ فإذا
لم يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عليه حتى مَضَى الْوَقْتُ وَقَعَ الْيَأْسُ عن فِعْلِهِ
في الْوَقْتِ فَفَاتَ الْبِرُّ عن الْوَقْتِ فَيَحْنَثُ
وَإِنْ هَلَكَ الْحَالِفُ في الْوَقْتِ وَالْمَحْلُوفُ عليه قَائِمٌ فَمَضَى
الْوَقْتُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحِنْثَ في الْيَمِينِ
الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ يَقَعُ في آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وهو مَيِّتٌ في ذلك
الْوَقْتِ وَالْمَيِّتُ لَا يُوصَفُ بِالْحِنْثِ
وَإِنْ هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عليه وَالْحَالِفُ قَائِمٌ وَالْوَقْتُ بَاقٍ
فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ لَا تَبْطُلُ وَيَحْنَثُ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عنه في وَقْتِ الْحِنْثِ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِلْحَالِ
أو عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ روى عنه أَنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
وروى عنه أَنَّهُ يَحْنَثُ لِلْحَالِ قِيلَ وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ وَإِنْ
كان
____________________
(3/12)
في
النَّفْيِ فَمَضَى الْوَقْتُ وَالْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عليه قَائِمَانِ فَقَدْ
بَرَّ في يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ الْحَالِفُ
وَالْمَحْلُوفُ عليه في الْوَقْتِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ فُعِلَ الْمَحْلُوفُ عليه
في الْوَقْتِ حَنِثَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وهو الْفِعْلُ في الْوَقْتِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُوَقَّتُ دَلَالَةً فَهُوَ الْمُسَمَّى يَمِينَ الْفَوْرِ وَأَوَّلُ
من اهْتَدَى إلَى جَوَابِهَا أبو حَنِيفَةَ ثُمَّ كُلُّ من سَمِعَهُ اسْتَحْسَنَهُ
وما رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وهو أَنْ يَكُونَ
الْيَمِينُ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ نَصًّا وَدَلَالَةُ الْحَالِ تَدُلُّ على
تَقْيِيدِ الشَّرْطِ بِالْفَوْرِ بِأَنْ خَرَجَ جَوَابًا لِكَلَامٍ أو بِنَاءً على
أَمْرٍ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِآخَرَ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فقال وَاَللَّهِ لَا
أَتَغَدَّى فلم يَتَغَدَّ معه ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَغَدَّى لَا
يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ
الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عن التَّغَدِّي عَامًّا فَصَرْفُهُ إلَى
الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ما وَقَعَ
السُّؤَالُ عنه وَالسُّؤَالُ وَقَعَ عن الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ
فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَعَادَ السُّؤَالَ وقال وَاَللَّهِ
لَا أَتَغَدَّى الْغَدَاءَ الذي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَكَذَا إذَا قَامَتْ
امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ من الدَّارِ فقال لها إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَقَعَدَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذلك لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ
دَلَالَةَ الْحَالِ تَدُلُّ على التَّقْيِيدِ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ كَأَنَّهُ قال
إنْ خَرَجْتِ هذه الْخَرْجَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
وَلَوْ قال لها إنْ خَرَجْتِ من هذه الدَّارِ على الْفَوْرِ أو في هذا الْيَوْمِ
فَأَنْتِ طَالِقٌ بَطَلَ اعْتِبَارُ الْفَوْرِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ما يَدُلُّ على
أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الْخَرْجَةَ الْمَقْصُودَ إلَيْهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ
الْخُرُوجَ الْمُطْلَقَ عن الدَّارِ في الْيَوْمِ حَيْثُ زَادَ على قَدْرِ
الْجَوَابِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قِيلَ له إنَّك تَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ في هذه
الدَّارِ من جَنَابَةٍ فقال إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ اغْتَسَلَ لَا
عن جَنَابَةٍ ثُمَّ قال عَنَيْتُ بِهِ الإغتسال عن جَنَابَةٍ أَنَّهُ يُصَدَّقُ
لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ ولم يَأْتِ بِمَا يَدُلُّ على
إعْرَاضِهِ عن الْجَوَابِ فَيُقَيَّدُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَيُجْعَلُ
كَأَنَّهُ إعَادَةٌ
وَلَوْ قال إنْ اغْتَسَلْتُ فيها اللَّيْلَةَ عن جَنَابَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ أو قال
إنْ اغْتَسَلْتُ اللَّيْلَةَ في هذه الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ قال عَنَيْتُ
الِاغْتِسَالَ على جَنَابَةٍ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ زَادَ عن
الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ من الْجَوَابِ حَيْثُ أتى بِكَلَامٍ مُفِيدٍ
مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَخَرَجَ عن حَدِّ الْجَوَابِ وَصَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً
فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لَكِنْ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ وَمَعَ هذا زَادَ
على قَدْرِهِ
وَهَذَا وَإِنْ كان بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُهُ في
الْجُمْلَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما قَالَهُ ابن سِمَاعَةَ سمعت مُحَمَّدًا يقول في رَجُلٍ
قال لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتَنِي ولم أَضْرِبْكَ وما أَشْبَهَ ذلك فَهَذَا على
الْفَوْرِ قال وَقَوْلُهُ لم يَكُونُ على وَجْهَيْنِ على قَبْلٍ وَعَلَى بَعْدٍ
فَإِنْ كانت على بَعْدٍ فَهِيَ على الْفَوْرِ
وَلَوْ قال إنْ كَلَّمْتَنِي فلم أُجِبْكَ فَهَذَا على بَعْدٍ وهو على الْفَوْرِ
وَإِنْ قال إنْ ضَرَبْتَنِي ولم أَضْرِبْك فَهُوَ عِنْدَنَا على أَنْ يُضْرَبَ
الْحَالِفُ قبل أَنْ يَضْرِبَ الْمَحْلُوفُ عليه فَإِنْ أُرَاد بِهِ بَعْدُ
وَنَوَى ذلك فَهُوَ على الْفَوْرِ وَهَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ وَجُمْلَةُ هذا
إن هذه اللَّفْظَةَ قد تَدْخُلُ على الْفِعْلِ الْمَاضِي وقد تَدْخُلُ على
الْمُسْتَقْبَلِ فما كان مَعَانِي كَلَامِ الناس عليه حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
عليه وَإِنْ كانت مُسْتَعْمَلَةً في الْوَجْهَيْنِ على السَّوَاءِ يَتَمَيَّزُ
أَحَدُهُمَا بِالنِّيَّةِ فإذا قال إنْ ضَرَبْتَنِي ولم أَضْرِبْكَ فَقَدْ
حَمَلَهُ مُحَمَّدٌ على الْمَاضِي كَأَنَّهُ رَأَى مَعَانِيَ كَلَامِ الناس عليه
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكَأَنَّهُ قال إنْ ضَرَبْتنِي من غَيْرِ مُجَازَاةٍ لِمَا
كان مِنِّي من الضَّرْبِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَيَحْتَمِلُ الإستقبال أَيْضًا فإذا
نَوَاهُ حُمِلَ عليه وَقَوْلُهُ إنْ كَلَّمْتَنِي ولم أُجِبْكَ فَهَذَا على
الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتَقَدَّمُ الْكَلَامَ فَحُمِلَ على
الِاسْتِقْبَالِ وَيَكُونُ على الْفَوْرِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْفَوْرِ
عَادَةً وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال كُلُّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَلَا
يَطَؤُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ قال هذا يَطَؤُهَا سَاعَةَ يَشْتَرِيهَا فَإِنْ لم
يَفْعَلْ فَهِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ
وَلَوْ قال مَكَانَ هذا إنْ لم يَطَأْهَا فَهَذَا على ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَوْتِ فَمَتَى وَطِئَهَا بَرَّ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ كَلِمَةُ شَرْطٍ فَلَا
تَقْتَضِي التَّعْجِيلَ قال هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ فَإِنْ قال لِغُلَامِهِ إنْ لم
تَأْتِنِي حتى أَضْرِبَكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَجَاءَ من سَاعَتِهِ فلم يَضْرِبْهُ قال
مَتَى ما ضَرَبَهُ فإنه يَبَرُّ في يَمِينِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ
سَاعَةَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا إنْ لِلشَّرْطِ فَلَا تَقْتَضِي
التَّعْجِيلَ إذَا لم يَكُنْ في الْكَلَامِ ما يَدُلُّ عليه
وَلَوْ قال إنْ لم أَشْتَرِ الْيَوْمَ عَبْدًا فَأُعْتِقْهُ فَعَلَيَّ كَذَا
فأشترى عَبْدًا فَوَهَبَهُ ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ فَأَعْتَقَهُ قال مُحَمَّدٌ
إنَّمَا وَقَعَتْ يَمِينُهُ على الْعَبْدِ الْأَوَّلِ فإذا أَمْسَى ولم يُعْتِقْهُ
حَنِثَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ إنْ اشْتَرَيْتُ عَبْدًا فَعَلَيَّ عنقه ( ( (
عتقه ) ) ) فَإِنْ لم أُعْتِقْهُ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ وَهَذَا قد اسْتَحَقَّهُ
الْأَوَّلُ فلم يَدْخُلْ الثَّانِي في الْيَمِينِ
قال
____________________
(3/13)
هِشَامٌ
عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِآخَرَ إنْ مِتّ ولم أَضْرِبْكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ
فَمَاتَ الْحَالِفُ ولم يَضْرِبْهُ قال مُحَمَّدٌ لَا يُعْتَقُونَ لِأَنَّ من
شَرْطِ الْحِنْثِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا مِلْكَ له في ذلك الْوَقْتِ
فَلَا يُعْتَقُونَ
وَإِنْ قال إنْ لم أَضْرِبْكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ لَا يَحْنَثُ حتى يَخْرُجَ
نَفَسُهُ فَيَحْنَثُ قبل خُرُوجِ نَفَسِهِ يَعْنِي في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ
حَيَاتِهِ فَيُعْتَقُونَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ تَرْكُ الضَّرْبِ
وَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ في تِلْكَ الْحَالَةِ
وَلَوْ قال إنْ لم أَدْخُلْ هذه الدَّارَ حتى أَمُوتَ فَغُلَامُهُ حُرٌّ فلم
يَدْخُلْهَا حتى مَاتَ لم يُعْتَقْ وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قال إنْ لم
أَضْرِبْكَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَمُوتَ فَعَبْدِي حُرٌّ فلم يَضْرِبْهُ
حتى مَاتَ عَتَقَ الْعَبْدُ قبل أَنْ يَمُوتَ لِأَنَّ في الْأَوَّلِ حَنِثَ بَعْدَ
الْمَوْتِ
وقال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قال لِرَجُلٍ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ لم
تُخْبِرْ فُلَانًا بِمَا صَنَعْتَ حتى يَضْرِبَكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ
فلم يَضْرِبْهُ بَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْبِرِّ الْإِخْبَارَ
لِأَنَّهُ سَبَبٌ صَالِحٌ لِلضَّرْبِ جَزَاءً له على صُنْعِهِ وَالْإِخْبَارُ
مِمَّا لَا يَمْتَدُّ وَلَا يُضْرَبُ له الْمُدَّةُ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ
لِلْغَايَةِ فَجُعِلَ لِلْجَزَاءِ
وَقَوْلُهُ حتى يَضْرِبَك بَيَانُ الْغَرَضِ بِمَعْنَى لِيَضْرِبَك فَيَصِيرُ
مَعْنَاهُ إنْ لم أَتَسَبَّبْ لِضَرْبِكَ فإذا أَخْبَرَ بِصَنِيعِهِ فَقَدْ
سَبَّبَ لِضَرْبِهِ فَبَرَّ في يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قال إنْ لم آتِكَ حتى
تُغَدِّيَنِي أو إنْ لم أَضْرِبْكَ حتى تَضْرِبَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَتَاهُ فلم
يُغَدِّهِ أو ضَرَبَهُ ولم يَضْرِبْهُ بَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّ التغذية ( ( (
التغدية ) ) ) لَا تَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى
زِيَادَةِ الْإِتْيَانِ وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ يَدْعُو إلَى زِيَادَةِ الضَّرْبِ
لَا إلَى تَرْكِهِ وَإِنْهَائِهِ فَلَا يُجْعَلُ غَايَةً وَيُجْعَلُ جَزَاءً
لِوُجُودِ شَرْطِهِ
وَلَوْ قال إنْ لم أَلْزَمْك حتى تَقْضِيَنِي حَقِّي أو لم أَضْرِبْك حتى يَدْخُلَ
اللَّيْلُ أو حتى تَشْتَكِيَ يَدِي أو حتى تَصِيحَ أو حتى يَشْفَعَ لَك فُلَانٌ أو
حتى يَنْهَانِي فُلَانٌ فَتَرَكَ الْمُلَازَمَةَ قبل أَنْ يقضي حَقُّهُ أو تَرَكَ
الضَّرْبَ قبل وُجُودِ هذه الْأَسْبَابِ حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حتى هَهُنَا
لِلْغَايَةِ إذْ الْمَعْقُودُ عليه فِعْلٌ مُمْتَدٌّ وهو الْمُلَازَمَةُ
وَالضَّرْبُ في قَضَاءِ الدَّيْنِ مُؤَثِّرٌ في إنْهَاءِ الْمُلَازَمَةِ إذْ هو
الْمَقْصُودُ من الْمُلَازَمَةِ وَالشَّفَاعَةُ وَالصِّيَاحُ وَالنَّهْيُ
وَغَيْرُهَا مُؤَثِّرٌ في تَرْكِ الضَّرْبِ وَإِنْهَائِهِ فَصَارَتْ لِلْغَايَةِ
لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَلَوْ نَوَى بِهِ الْجَزَاءَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَا
يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْفِيفَ على نَفْسِهِ
فَكَانَ مُتَّهَمًا
وَإِنْ قال إنْ لم آتِكَ الْيَوْمَ حتى أَتَغَدَّى عِنْدَك أو إنْ لم آتِك حتى
أَضْرِبَكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَتَاهُ فلم يَتَغَدَّ عِنْدَهُ أو لم يَضْرِبْهُ
حتى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حتى هَهُنَا لِلْعَطْفِ لِأَنَّ
الْفِعْلَيْنِ جميعا من جَانِبٍ وَاحِدٍ وهو الْحَالِفُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال
إنْ لم آتِك الْيَوْمَ فَأَضْرِبَكَ أو فَأَتَغَدَّى عِنْدَكَ فَإِنْ لم يُوجَدَا
جميعا لَا يَبَرُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ حتى تُغَدِّيَنِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَحَدَ
الْفِعْلَيْنِ من غَيْرِهِ فَكَانَ عِوَضَ فِعْلِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِعَدَمِهِ
وَإِنْ لم يُوَقِّتْ بِالْيَوْمِ فَأَتَاهُ ولم يَتَغَدَّ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ
الْبِرَّ مَوْجُودٌ بِأَنْ يَأْتِيَهُ وَيَتَغَدَّى أو يَتَغَدَّى من غَيْرِ
إتْيَانٍ وَوَقْتُ الْبِرِّ مُتَّسِعٌ فَلَا يَحْنَثُ كما لو صَرَّحَ بِهِ وقال
إنْ لم آتِكَ فَأَتَغَدَّى عِنْدَك
وَلَوْ قال ذلك لَا يَحْنَثُ ما دَامَ حَيًّا كَذَلِكَ هذا وَحَكَى هِشَامٌ عن أبي
يُوسُفَ أَنَّ من قال لِأَمَتِهِ إنْ لم تَجِيئِينِي اللَّيْلَةَ حتى أُجَامِعَكِ
مَرَّتَيْنِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَتْهُ فَجَامَعَهَا مَرَّةً وَأَصْبَحَ حَنِثَ
في يَمِينِهِ وَهَذَا وَقَوْلُهُ إنْ لم تَجِيئِينِي اللَّيْلَةَ فَأُجَامِعْك
مَرَّتَيْنِ سَوَاءٌ فَيَصِيرُ الْمَجِيءُ وَالْمُجَامَعَةُ مَرَّتَيْنِ شَرْطًا
لِلْبِرِّ فإذا انْعَدَمَ يَحْنَثُ فَإِنْ لم يُوَقِّتْ بِاللَّيْلِ لَا يَحْنَثُ
وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِأَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ
يَتَّسِعُ عِنْدَ عَدَمِ التَّوْقِيتِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ إذَا قال إنْ رَكِبْتُ دَابَّتَكَ فلم أُعْطِكَ
دَابَّتِي فَعَبْدِي حُرٌّ قال هذا على الْفَوْرِ إذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّةَ نَفْسِهِ سَاعَتَئِذٍ
وَكَذَلِكَ إذَا قال إنْ دَخَلْت دَارَكَ فلم أَجْلِسْ فيها لِأَنَّ الْفَاءَ
لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ ما دَخَلَتْ عليه عَقِيبَ الشَّرْطِ قال وَلَوْ
قال إنْ رأيت فُلَانًا فلم آتِكَ بِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ أَوَّلَ ما رَآهُ
مع الرَّجُلِ الذي قال له إنْ رَأَيْتُهُ فلم آتِكَ بِهِ فإن الْحَالِفَ حَانِثٌ
السَّاعَةَ لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ على أَوَّلِ رُؤْيَةٍ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ
يَأْتِيَهُ بِمَنْ هو معه
قال الْقُدُورِيُّ وقد كان يَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ كما قَالَا فِيمَنْ قال له إنْ رَأَيْت فُلَانًا فلم أُعْلِمْكَ
بِذَلِكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ أَوَّلَ ما رَآهُ مع الرَّجُلِ الذي قال له ذلك
لم يَحْنَثْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَنْ قد
عَلِمَهُ مُحَالٌ
وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِمَنْ معه فَيَصِيرُ كَمَنْ قال لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ
الذي في هذا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فيه
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قال إنْ لَقِيتُكَ فلم أُسَلِّمْ عَلَيْكَ فَإِنْ سَلَّمَ
عليه سَاعَةَ يَلْقَاهُ وَإِلَّا حَنِثَ وَكَذَلِكَ إنْ قال إنْ اسْتَعَرْتُ
دَابَّتَكَ فلم تُعِرْنِي لِأَنَّ هذا على الْمُجَازَاةِ يَدًا بِيَدٍ وَلَيْسَ
هذا مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَإِنْ لم أُكَلِّمْ فُلَانًا فَهَذَا
مَتَى ما كَلَّمَهُ بَرَّ وَالْأَصْلُ فيه أَنْ يَجِيءَ في هذا الْبَابِ
____________________
(3/14)
أُمُورٌ
تَشْتَبِهُ فَإِنْ لم في مَعْنَى فلم يُحْمَلُ على مُعْظَمِ مَعَانِي كَلَامِ
الناس
وَلَوْ قال إنْ أَتَيْتَنِي فلم آتِكِ أو إنْ زُرْتنِي فلم أَزُرْكَ أو إنْ
أَكْرَمْتَنِي فلم أُكْرِمْكَ فَهَذَا على الْأَبَدِ وهو في هذا الْوَجْهِ مِثْلُ
فَإِنْ لم لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَقَّبُ الزِّيَارَةَ عَادَةً فَكَانَ
الْمَقْصُودُ هو الْفِعْلَ
فَإِنْ قِيلَ أَتَيْتَنِي فلم آتِكِ فَالْأَمْرُ في هذا مُشْتَبِهٌ قد يَكُونُ
بِمَعْنَى إنْ لم آتِكَ قبل إتْيَانِكَ وقد يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ لم آتِكَ بَعْدَ
إتْيَانِك فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُحْمَلُ على ما كان الْغَالِبُ
من مَعَانِي كَلَامِ الناس عليه فَإِنْ لم يَكُنْ فَهُوَ على ما نَوَى أَيَّ ذلك
نَوَى من قَبْلُ أو بَعْدُ حَمْلًا على ما نَوَى وَإِنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ
يُلْحَقُ بِالْمُشْتَبِهِ الذي لَا يُعْرَفُ له مَعْنًى
فَأَمَّا الذي يُعْرَفُ من مَعْنَاهُ إنه قَبْلُ أو بَعْدُ فَهُوَ على الذي
يُعْرَفُ في الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لم
يَكُنْ له نِيَّةٌ فَإِنْ نَوَى خِلَافَ ما يُعْرَفُ لم يُدَيَّنْ في الْحُكْمِ
وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَاَلَّذِي الظَّاهِرُ منه
قَبْلُ كَقَوْلِهِ إنْ خَرَجْت من بَابِ الدَّارِ ولم أَضْرِبْكَ وَاَلَّذِي
ظَاهِرُهُ بَعْدُ مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ أَعْطَيْتَنِي كَذَا ولم أُكَافِئْكَ بمثله
وَالْمُحْتَمِلُ كَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُكَ ولم تُكَلِّمْنِي فَهَذَا يَحْتَمِلُ
قَبْلُ وَبَعْدُ فَأَيَّهُمَا فَعَلَ لم يَكُنْ لِلْحَالِفِ فيه وَإِنْ كان نَوَى
أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ فَهُوَ على ما نَوَى وَإِنْ كان قبل ذلك فَنَطَقَ يَكُونُ
هذا جَوَابًا له فَهُوَ على الْجَوَابِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عن الِاسْتِثْنَاءِ
نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أو إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أو
ما شَاءَ اللَّهُ أو إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لي غَيْرُ هذا أو إلَّا أَنْ أَرَى غير
هذا أو إلَّا أَنْ أُحِبَّ غير هذا أو قال إنْ أَعَانَنِي اللَّهُ أو يَسَّرَ
اللَّهُ أو قال بِمَعُونَةِ اللَّهِ أو بتيسره ( ( ( بتيسيره ) ) ) وَنَحْوُ ذلك
فَإِنْ قال شيئا من ذلك مَوْصُولًا لم تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ وَإِنْ كان
مَفْصُولًا انْعَقَدَتْ
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ في الِاسْتِثْنَاءِ وَشَرَائِطِهِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ قال إلَّا أَنْ أَسْتَطِيعَ فَإِنْ عني اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ وهو
الْمَعْنَى الذي يَقْصِدُ فَلَا يَحْنَثُ إبدا لِأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ
عِنْدَنَا فَلَا تُوجَدُ ما لم يُوجَدْ الْفِعْلُ وَإِنْ عني بِهِ اسْتِطَاعَةَ
الْأَسْبَابِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ
فَإِنْ كانت له هذه الِاسْتِطَاعَةُ فلم يَفْعَلْ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا
لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِطَاعَةِ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ من المعينين ( ( (
المعنيين ) ) ) لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا قال اللَّهُ تَعَالَى { ما
كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ }
وقال { إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } وَالْمُرَادُ منه اسْتِطَاعَةُ
الْفِعْلِ وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وقال عز وجل { فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَالْمُرَادُ منه اسْتِطَاعَةُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ
وَالْآلَاتِ فَأَيَّ ذلك نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ
يُحْمَلُ على اسْتِطَاعَةِ الْأَسْبَابِ وهو أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مَانِعٌ من
الْعَوَارِضِ وَالِاشْتِغَالِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بها ذلك في الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الْيَمِينِ أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ
بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ حتى قال الشَّيْخُ
أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ كان الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ
بِالْحَلِفِ على الْكَذِبِ يَكْفُرُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى
جُعِلَتْ لِلتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْحَالِفُ بِالْغَمُوسِ مجترىء ( ( (
مجترئ ) ) ) على اللَّهِ عز وجل مُسْتَخِفٌّ بِهِ وَلِهَذَا نهى رسول اللَّهِ عن
الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالطَّوَاغِيتِ لِأَنَّ في ذلك تَعْظِيمًا لهم
وَتَبْجِيلًا فَالْوِزْرُ له في الْجَرَاءَةِ على اللَّهِ أَعْظَمُ وَهَذَا
لِأَنَّ التَّعَمُّدَ بِالْحَلِفِ كَاذِبًا على الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ عز
وجل يَسْمَعُ اسْتِشْهَادَهُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا مجترىء ( ( ( مجترئ ) ) ) على
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمُسْتَخِفٌّ بِهِ وَإِنْ كان غَيْرُهُ يَزْعُمُ
أَنَّهُ ذُكِرَ على طَرِيقِ التَّعْظِيمِ وَسَبِيلُ هذا سَبِيلُ أَهْلِ النِّفَاقِ
إن إظْهَارَهُمْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتِخْفَافٌ
بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كان اعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِ ذلك
وَإِنْ كان ذلك الْقَوْلُ تَعْظِيمًا في نَفْسِهِ وَصِدْقًا في الْحَقِيقَةِ
تَلْزَمُهُمْ الْعُقُوبَةُ لِمَا فيه من الإستخفاف وَكَذَا هذا وَلَكِنْ نَقُولُ
لَا يَكْفُرُ بهذا لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَرَاءَةِ على
اللَّهِ تَعَالَى والإستخفاف بِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ
الْوُصُولُ إلَى مُنَاهُ وَشَهْوَتِهِ لَا الْقَصْدُ إلَى ذلك وَعَلَى هذا
يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في سُؤَالِ السَّائِلِ
أن الْعَاصِيَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ كَفَرَ
كَيْفَ لَا يَكْفُرُ الْعَاصِي فقال لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ
الطَّاعَةِ لِلشَّيْطَانِ لَكِنْ ما فَعَلَهُ قَصْدًا إلَى طَاعَتِهِ وَإِنَّمَا
يَكْفُرُ بِالْقَصْدِ إذْ الْكُفْرُ عَمَلُ الْقَلْبِ لَا بِمَا يَخْرُجُ فِعْلُهُ
فِعْلَ مَعْصِيَةٍ فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ فَلَا
تَجِبُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ } نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْيَمِينِ اللَّغْوِ في الْأَيْمَانِ
وَأَثْبَتَهَا بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَكْسُوبَةٌ القلب ( (
( بالقلب ) ) ) فَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ ثَابِتَةً بها إلَّا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَبْهَمَ الْمُؤَاخَذَةَ في هذه الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أنها بِالْإِثْمِ
أو بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَكِنْ فَسَّرَ في الْأُخْرَى أَنَّ
الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ }
____________________
(3/15)
الْآيَةُ
فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْمُؤَاخَذَةِ الْمَذْكُورَةِ في تِلْكَ الْآيَةِ
هذه الْمُؤَاخَذَةُ وَبِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } الْآيَةُ
أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ في الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ
الْمَعْهُودَةِ وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَعْقُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَقْدِ يَقَعُ
على عَقْدِ الْقَلْبِ وهو الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وقد وُجِدَ بِقَوْلِهِ عز وجل في
آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ }
جَعَلَ الْكَفَّارَةَ الْمَعْهُودَةَ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ على الْعُمُومِ
خَصَّ منه يَمِينَ اللَّغْوِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فَعَلَيْهِ
الدَّلِيلُ مع ما أَنَّ أَحَقَّ ما يُرَادُ بِهِ الْغَمُوسُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ
الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْحَلِفِ دُونَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ هو الْغَمُوسُ إذْ
الْوُجُوبُ في غَيْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ
وَلَنَا قَوْلُهُ تعالى { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لهم في الْآخِرَةِ }
الْآيَةُ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ
قال من حَلَفَ على يَمِينٍ وهو فيها فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بها مَالًا لَقِيَ
اللَّهَ وهو عليه غَضْبَانُ وَرُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه
عن النبي أَنَّهُ قال من حَلَفَ على مِنْبَرِي هذا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ
مَقْعَدَهُ من النَّارِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالنُّصُوصِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
جَعَلَ مُوجِبَ الْغَمُوسِ الْعَذَابَ في الْآخِرَةِ فَمَنْ أَوْجَبَ
الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ على النُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمِثْلِهَا وما
رُوِيَ عن نَبِيِّ الرَّحْمَةِ أَنَّهُ قال لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ
فَرَاغِهِمَا من اللِّعَانِ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ
مِنْكُمَا تَائِبٌ دَعَاهُمَا إلَى التَّوْبَةِ لَا إلَى الْكَفَّارَةِ
الْمَعْهُودَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمَا إلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ
الْمَعْهُودَةِ لو كانت وَاجِبَةً كانت أَشَدَّ من حَاجَتِهِمَا إلَى بَيَانِ
كَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ
بِالذَّنْبِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ من غَيْرِ مَعُونَةِ
السَّمْعِ وَالْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمْعِ
فلما لم يُبَيِّنْ مع أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ دَلَّ أنها
غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَكَذَا الْحَدِيثُ الذي رُوِيَ في الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ قَضَى
لِأَحَدِهِمَا وَذَكَرَ فيه الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ وهو غَيْرُ
الْحَقِّ في ذلك ثُمَّ أَمَرَهُمَا بالإستهام وَأَنْ يُحَلِّلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ولم يُبَيِّنْ الْكَفَّارَةَ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ
الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ لو كانت وَاجِبَةً فَعُلِمَ أنها غَيْرُ وَاجِبَةٍ
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُعْرَفُ
إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وهو النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ أو الْقِيَاسُ ولم
يُوجَدْ وَأَقْوَى الدَّلَائِلِ في نَفْيِ الْحُكْمِ نَفْيُ دَلِيلِهِ
أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرُ الإنتفاء وَكَذَا النَّصُّ الْقَاطِعُ لِأَنَّ
أَهْلَ الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ في مَوْضِعٍ فيه نَصٌّ قَاطِعٌ وَالنَّصُّ
الظَّاهِرُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا وَإِنْ كان لَا يَجِبُ الِاعْتِقَادُ
قَطْعًا فَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ ظَاهِرًا نفى الِاسْتِدْلَالِ بِالْيَمِينِ
الْمَعْقُودَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ التَّسَاوِي ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الذَّنْبَ في
يَمِينِ الْغَمُوسِ أَعْظَمُ وما صَلَحَ لِدَفْعِ أَدْنَى الذَّنْبَيْنِ لَا
يَصْلُحُ لِرَفْعِ أَعْلَاهُمَا وَلِهَذَا قال إِسْحَاقُ في يَمِينِ الْغَمُوسِ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ فيها فَقَوْلُ من
يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً شَرْعٌ وَنَصْبُ حُكْمٍ على الْخَلْقِ وهو لم يُشْرِكْ في
حُكْمِهِ أَحَدًا وَلَا حُجَّةَ له في قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمُؤَاخَذَةِ في الْجِنَايَاتِ يُرَادُ
بها الْمُؤَاخَذَةُ في الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمُؤَاخَذَةِ
وَالْجَزَاءِ
فَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ في الدُّنْيَا فَقَدْ تَكُونُ خَيْرًا وَتَكْفِيرًا فَلَا
تَكُونُ مُؤَاخَذَةً مَعْنًى وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِيَمِينِ
الْغَمُوسِ ثَابِتَةٌ في الْآخِرَةِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { يُؤَاخِذُكُمْ }
إخْبَارٌ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ
فَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَيَسْتَدْعِي نَوْعَ
مُؤَاخَذَةٍ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالِاسْمِ مُرَادَةٌ من هذه الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ
غَيْرُهُ مُرَادًا إذًا
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ
الْأَيْمَانَ } فَالْمُرَادُ منه الْيَمِينُ على أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ
لِأَنَّ الْعَقْدَ هو الشَّدُّ وَالرَّبْطُ في اللُّغَةِ وَمِنْهُ عَقْدُ
الْحَبْلِ وَعَقْدُ الْحِمْلِ وَانْعِقَادُ الرِّقِّ وهو ارْتِبَاطُ بَعْضِهِ
بِبَعْضٍ وقد يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ وَكُلُّ ذلك لَا يَتَحَقَّقُ
إلَّا في الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بقرائتين ( ( ( بقراءتين )
) ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَقْدَ
اللِّسَانِ وهو عَقْدُ الْقَوْلِ وَالتَّخْفِيفُ يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ
بِاللِّسَانِ وَالْعَقْدَ بِالْقَلْبِ وهو الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ فَكَانَتْ قِرَاءَةُ
التَّشْدِيدِ مُحْكَمَةً في الدَّلَالَةِ على إرَادَةِ الْعَقْدِ بِاللِّسَانِ
وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ مُحْتَمِلَةً فَيُرَدُّ الْمُحْتَمِلُ إلَى
الْمُحْكَمِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ على الْمُوَافِقَةِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْمُرَادَ من الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْيَمِينُ على
أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ فيها بِالْحَلِفِ
وَالْحِنْثِ عَرَفْنَا ذلك بِقِرَاءَةِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَالْحِنْثُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في الْيَمِينِ
على أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ }
____________________
(3/16)
وَحِفْظُ
الْيَمِينِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ في الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ ذلك تَحْقِيقُ
الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وانجاز الْوَعْدِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ في
الْمَاضِي وَالْحَالِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فيها بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِالْمَالِ
بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ } أَدْخَلَ كَلِمَةَ
النَّفْيِ على الْمُؤَاخَذَةِ فَيَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ فيها
بِالْإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ جميعا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا في تَفْسِيرِهَا
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ من فَسَّرَهَا بِالْيَمِينِ على الْمَعَاصِي في وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ على ما بَيَّنَّا ثُمَّ الْحَالِفُ بِاللَّغْوِ إنَّمَا لَا
يُؤَاخَذُ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى من الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فإنه يُؤَاخَذُ بِهِ حتى يَقَعَ
الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِنْ كان ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ في نَفْيِ
الْمُؤَاخَذَةِ عَامًّا عَرَفْنَا ذلك بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ
أَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ
وَذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَاللَّاغِي لَا يَعْدُو هَذَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ
اللَّغْوَ غَيْرُ دَاخِلٍ في الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِمَّا يَقَعُ
مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا وَمَتَى عُلِّقَ بِشَرْطٍ كان يَمِينًا فَأَعْظَمُ ما في
اللَّغْوِ أَنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ وَارْتِبَاطَ الْجَزَاءِ
بِالشَّرْطِ فَيَبْقَى مُجَرَّدَ ذِكْرِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ من
غَيْرِ شَرْطٍ فَيَعْمَلُ في إفَادَةِ مُوجَبِهِمَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ وارتباط
( ( ( بالله ) ) ) الجزاء بالشرط فيبقى مجرد ذكربالله تَعَالَى فإن هُنَاكَ إذَا
لَغَا الْمَحْلُوفُ عليه يَبْقَى مُجَرَّدُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ
شَيْءٌ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ اللَّغْوُ في
الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا في الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى من
الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الْيَمِينُ على الْمُسْتَقْبَلِ
فَالْيَمِينُ على الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ على فِعْلِ
وَاجِبٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ على تَرْكِ الْمَنْدُوبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ على
تَرْكِ الْمُبَاحِ أو فِعْلِهِ فَإِنْ كان على فِعْلِ وَاجِبٍ بِأَنْ قال
وَاَللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ صَلَاةَ الظَّهْرِ الْيَوْمَ أو لَأَصُومَنَّ رَمَضَانَ
فإنه يَجِبُ عليه الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ له الِامْتِنَاعُ عنه لِقَوْلِهِ
من حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَلَوْ امْتَنَعَ يَأْثَمُ
وَيَحْنَثُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كان على تَرْكِ الْوَاجِبِ أو على
فِعْلِ مَعْصِيَةٍ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ أو لَا
أَصُومُ رَمَضَانَ أو قال وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أو لَأَزْنِيَنَّ أو
لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا أو لَا أُكَلِّمُ وَالِدِي وَنَحْوَ ذلك فإنه يَجِبُ عليه
لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ يَجِبُ عليه أَنْ
يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيَكُونُ بِالْمَالِ لِأَنَّ عَقْدَ هذه الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ
فَيَجِبُ تَكْفِيرُهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ في الْحَالِ كَسَائِرِ
الْجِنَايَاتِ التي ليس فيها كَفَّارَةٌ مَعْهُودَةٌ
وَعَلَى هذا يُحْمَلُ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من حَلَفَ على
يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ ثُمَّ
لِيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ أَيْ عليه أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ من حَلَفَ
أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا يَعْصِهِ وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ
بِتَحْنِيثِ نَفْسِهِ فيها فَيَحْنَثُ بِهِ وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الشَّعْبِيُّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ في الْيَمِينِ على
الْمَعَاصِي وَإِنْ حَنَّثَ نَفْسَهُ فيها لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي
اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا حَلَفَ أحدكم على يَمِينٍ فَرَأَى
ما هو خَيْرٌ منها فَلْيَأْتِهِ فإنه لَا كَفَّارَةَ بها وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ
شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَالْحِنْثُ في هذه الْيَمِينِ ليس بِذَنْبٍ
لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ } إلَى قَوْلِهِ { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ }
من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْيَمِينِ على الْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحَدِيثُ
الْمَعْرُوفُ وهو ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى
غَيْرَهَا خَيْرًا منها فَلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينهوما
رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ رُوِيَ عنه خِلَافُهُ قال قال
رسول اللَّهِ إذَا حَلَفَ أحدكم بِيَمِينٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِمَّا حَلَفَ عليه
فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الذي هو خَيْرٌ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ
بين حَدِيثَيْهِ فَبَقِيَ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ لنا بِلَا تَعَارُضٍ وَلِأَنَّ
الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِعُذْرٍ
في الْحَانِثِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْحِنْثِ سَوَاءٌ كان الْحَانِثُ
سَاهِيًا أو خَاطِئًا أو نَائِمًا أو مُغْمًى عليه أو مَجْنُونًا فَلَا يَمْتَنِعُ
وُجُوبُهَا لاجل الْمَعْصِيَةِ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ في
الْيَمِينِ على الْمُبَاحَاتِ إمَّا لِأَنَّ الْحِنْثَ فيها يَقَعُ خُلْفًا في
الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ الْحَالِفَ وَعَدَ أَنْ يَفْعَلَ وعهد ( (
( وعاهد ) ) ) اللَّهَ على ذلك فإذا حَنِثَ فَقَدْ صَارَ بِالْحِنْثِ مُخْلِفًا في
الْوَعْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ
____________________
(3/17)
فَوَجَبَتْ
الْكَفَّارَةُ لِيَصِيرَ الْحَلِفُ مَسْتُورًا كَأَنَّهُ لم يَكُنْ أو لِأَنَّ
الْحِنْثَ منه يَخْرُجُ مَخْرَجَ الِاسْتِخْفَافِ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى من حَيْثُ الصُّورَةِ مَتَى قُوبِلَ ذلك بِعَقْدِهِ السَّابِقِ
لَا من حَيْثُ الْحَقِيقَةِ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ قَصْدًا
لِمُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ فَوَجَبَ عليه التَّكْفِيرُ جَبْرًا لِمَا هَتَكَ من حُرْمَةِ اسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا حَقِيقَةً وَسَتْرًا وَكُلُّ وَاحِدٍ من
الْوَجْهَيْنِ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَيَجِبُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ فَنَعَمْ لَكِنْ
لِمَ قُلْتُمْ أنه لَا ذَنْبَ
وَقَوْلُهُمْ الْحِنْثُ وَاجِبٌ قُلْنَا بَلَى لكن ( ( ( لك ) ) ) من حَيْثُ أنه
تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ لَا من حَيْثُ أنه نَقْضُ الْيَمِينِ التي هِيَ عَهْدٌ مع
اللَّهِ تَعَالَى بَلْ الْحِنْثُ من هذه الْجِهَةِ ذَنْبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى
التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَإِنْ كان على تَرْكِ الْمَنْدُوبِ بِأَنْ قال
وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي نَافِلَةً وَلَا أَصُومُ تَطَوُّعًا وَلَا أَعُودُ
مَرِيضًا وَلَا أُشَيِّعُ جِنَازَةً وَنَحْوَ ذلك فَالْأَفْضَلُ له أَنْ يَفْعَلَ
وَيُكَفِّرَ عن يَمِينِهِ بِالْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا
وَإِنْ كان على مُبَاحٍ تَرْكًا أو فِعْلًا كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ فَالْأَفْضَلُ
له الْبِرُّ وَلَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ
تَجِبُ في الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ على الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ قَصَدَ
الْيَمِينَ أو لم يَقْصِدْ عِنْدَنَا بِأَنْ كانت على أَمْرٍ في الْمُسْتَقْبَلِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا بُدَّ من قَصْدِ الْيَمِينِ لِتَجِبَ الْكَفَّارَةُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ
وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ فَتَخْصِيصُ هذه
الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ في التَّسْوِيَةِ بين الْجَدِّ وَالْهَزْلِ منها دَلِيلٌ
على أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ يَخْتَلِفُ في غَيْرِهَا لِيَكُونَ
التَّخْصِيصُ مُفِيدًا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ } أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ في
الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْقَصْدِ إذْ الْعَقْدُ هو
الشَّدُّ وَالرَّبْطُ وَالْعَهْدُ على ما بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ عز وجل { ذلك
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ جَعَلَ
أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ على الْعُمُومِ
عِنْدَ وُجُودِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ وقد وُجِدَ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ
جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ مع ما
أَنَّ رِوَايَتَهُ الْأُخْرَى مَسْكُوتَةٌ عن غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ
إذْ لَا يَتَعَرَّضُ لِغَيْرِهَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَلَا يَصِحُّ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ وَقْتُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ في الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ على
الْمُسْتَقْبَلِ هو وَقْتُ وُجُودِ الْحِنْثِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال قَوْمٌ وَقْتُهُ وَقْتُ وُجُودِ الْيَمِينِ
فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ من غَيْرِ حِنْثٍ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ
الْأَيْمَانَ } وَقَوْلِهِ عز وجل { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
} وَقَوْلِهِ عز وجل { فَكَفَّارَتُهُ } أَيْ كَفَّارَةُ ما عَقَّدْتُمْ من
الْأَيْمَانِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَدْعِي مُضَافًا إلَيْهِ سَابِقًا ولم
يَسْبِقْ غَيْرُ ذلك الْعَقْدِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ وَكَذَا في قَوْلِهِ { ذلك
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } أَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى الْيَمِينِ وَعَلَى ذلك
تُنْسَبُ الْكَفَّارَةُ إلَى الْيَمِينِ فَيُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ
وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ على السَّبَبِيَّةِ في الْأَصْلِ وَبِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أَنَّهُ قال من حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها
فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ وَالِاسْتِدْلَالُ
بِالْحَدِيثِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّكْفِيرِ بَعْدَ
الْيَمِينِ قبل الْحِنْثِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ على الْوُجُوبِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ
أَضَافَ التَّكْفِيرَ إلَى الْيَمِينِ فَكَذَا في الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
فَلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ أَمَرَ بِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ
لَا بِتَكْفِيرِ الْحِنْثِ فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ وَلِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى نهى عن الْوَعْدِ إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك النَّهْيَ في الْيَمِينِ أَوْكَدُ وَأَشَدُّ مِمَّنْ حَلَفَ
على شَيْءٍ بِلَا ثُنْيَا فَقَدْ صَارَ عَاصِيًا بِإِتْيَانِ ما نهى عنه فَتَجِبُ
الْكَفَّارَةُ لِدَفْعِ ذلك الْإِثْمِ عنه
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَالْكَفَّارَةُ تَكُونُ لِلسَّيِّئَاتِ إذْ
من الْبَعِيدِ تَكْفِيرُ الْحَسَنَاتِ فَالسَّيِّئَاتُ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ
قال اللَّهُ تعالى { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَعَقْدُ الْيَمِينِ
مَشْرُوعٌ قد أَقْسَمَ رسول اللَّهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَذَا الرُّسُلُ
الْمُتَقَدِّمَةُ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عن
إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ } وقال خَبَرًا عن أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عليهم الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُمْ قالوا { تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } وَكَذَا
أَيُّوبُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ
فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } وَالْأَنْبِيَاءُ عليهم
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ عن
____________________
(3/18)
الْكَبَائِرِ
وَالْمَعَاصِي فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَتْ بِذَنْبٍ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا حَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ وقال لَا
تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كان حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاَللَّهِ أو لِيَذَرْ أَمَرَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَدَلَّ أَنَّ
نَفْسَ الْيَمِينِ ليس بِذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ التَّكْفِيرُ لها وَإِنَّمَا يَجِبُ
لِلْحِنْثِ لِأَنَّهُ هو الْمَأْثَمُ في الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى الذَّنْبِ فيه
أَنَّهُ كان عَاهَدَ اللَّهَ تعالى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا فَالْحِنْثُ يَخْرُجُ
مَخْرَجَ نَقْضِ الْعَهْدِ منه فَيَأْثَمُ بِالنَّقْضِ لَا بِالْعَهْدِ وَلِذَلِكَ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا
تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقد جَعَلْتُمْ } الْآيَةَ وَلِأَنَّ
عَقْدَ الْيَمِينِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِلَّهِ
تَعَالَى وَجَعْلِهِ مَفْزَعًا إلَيْهِ وَمَأْمَنًا عنه فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَجِبَ
بالكفارة ( ( ( الكفارة ) ) ) مَحْوًا له وَسِتْرًا وَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ
قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَالِفَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ في
الْيَمِينِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم تَرَكُوا
الِاسْتِثْنَاءَ في الْيَمِينِ ولم يَجُزْ وَصْفُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ
أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ في الْيَمِينِ ليس بِحَرَامٍ وَإِنْ كان تَرْكُهُ في
مُطْلَقِ الْوَعْدِ مَنْهِيًّا عنه كَرَاهَةً وَذَلِكَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
لِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَعْدَ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ
افعل غَدًا كَذَا وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى
فإن فِعْلَهُ لَا يَتَحَقَّقُ لِأَحَدٍ إلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ اللَّهِ تَعَالَى
منه وَلَا يَتَحَقَّقُ منه الِاكْتِسَابُ لِذَلِكَ إلَّا باقداره فَيُنْدَبُ إلَى
قِرَانِ الإستثناء بِالْوَعْدِ لِيُوَفَّقَ على ذلك وَيُعْصَمَ عن التَّرْكِ وفي
الْيَمِينِ يُذْكَرُ الِاسْتِشْهَادُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى على طَرِيقِ
التَّعْظِيمِ قد اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ فَزِعَ فَيَتَحَقَّقُ
التَّعْظِيمُ الذي يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَزِيَادَةٌ فَلَا مَعْنَى
لِلِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِتَأْكِيدِ الْمَحْلُوفِ
عليه خُصُوصًا في الْبَيْعَةِ وَقِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ في مِثْلِ ذلك يُبْطِلُ
الْمَعْنَى الذي وُضِعَ له الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَتَأْوِيلُهَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْ
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمُحَافَظَةِ ما عَقَّدْتُمْ من الْأَيْمَانِ وَالْوَفَاءِ
بها كَقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }
فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذلك فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { ذلك كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَتَرَكْتُمْ الْمُحَافَظَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قال عز وجل { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ على إضْمَارِ الْحِنْثِ أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ وَكَذَا في قَوْلِهِ { ذلك كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } أَيْ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كما في
قَوْلِهِ { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من
صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } مَعْنَاهُ فَحَلَفَ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ
وَقَوْلُهُ عز وجل { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ }
مَعْنَاهُ فَتَحَلَّلَ وَقَوْلُهُ عز وجل { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ
أُخَرَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وهو الْقَدْرُ الذي هو سَبَبُ التَّخْفِيفِ
لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فيه
كَذَلِكَ هَهُنَا لَا تَصْلُحُ الْيَمِينُ التي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَلَّ
جَلَالُهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّكْفِيرِ فَيَجِبُ إضْمَارُ ما هو صَالِحٌ وهو
الْحِنْثُ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَلَيْسَتْ لِلْوُجُوبِ
بها بَلْ على إرَادَةِ الْحِنْثِ كَإِضَافَةِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ إلَى
الصِّيَامِ وَإِضَافَةِ الدَّمِ إلَى الْحَجِّ وَالسُّجُودِ إلَى السَّهْوِ وَإِنْ
لم يَكُنْ ما أُضِيفَ إلَيْهِ سَبَبًا كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ روى بِرِوَايَاتٍ رُوِيَ فَلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ
وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ وَرُوِيَ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ وَلْيَأْتِ الذي هو
خَيْرٌ وَرُوِيَ فَلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ يَمِينَهُ وهو على
الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا حُجَّةٌ عليهم لَا لهم لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لو كانت
وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَالَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من حَلَفَ
على يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ من غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عليه الْيَمِينُ
أَنَّهُ مَاذَا وَلَمَا لَزِمَ الْحِنْثُ إذَا كان خَيْرًا ثَمَّ بِالتَّكْفِيرِ
فلما خَصَّ الْيَمِينَ على ما كان الْحِنْثُ خَيْرًا من الْبِرِّ بِالنَّقْضِ
وَالْكَفَّارَةِ عُلِمَ أنها تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا
وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ
وَاخْتُلِفَ في جَوَازِهَا قبل الْحِنْثِ قال أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ وقال
الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ قبل الْحِنْثِ فَأَمَّا
التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ قبل الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ
قَوْلِهِ إنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كما لو
كَفَّرَ بِالْمَالِ بَعْدَ الْجَرْحِ قبل الْمَوْتِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَنَّ
الْيَمِينَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ
إلَى الْيَمِينِ يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وقال اللَّهُ تَعَالَى { ذلك
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى
سَبَبِهِ هو الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
فَكَانَ هذا تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كما في
مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ
وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ قبل الْحِنْثِ ما رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ
____________________
(3/19)
صلى
اللَّهُ عليه وسلم كَفَّرَ قبل الْحِنْثِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ
رضي اللَّهُ عنه سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ قد مُثِّلَ وَجُرِحَ جِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً
اشْتَدَّ ذلك على رسول اللَّهِ فَأَقْسَمَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَلِكَ بِكَذَا كَذَا
من قُرَيْشٍ فَنَزَلَ النَّهْيُ عن الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَكَفَّرَ عن يَمِينِهِ
وَذَلِكَ تَكْفِيرٌ قبل الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ في مِثْلِ هذه الْيَمِينِ لَا
يَتَحَقَّقُ إلَّا في الْوَقْتِ الذي لَا يُحْتَمَلُ الْبِرُّ فيه حَقِيقَةً
وَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَدَلَّ على جَوَازِ التَّكْفِيرِ لِلْأُمَّةِ قبل
الْحِنْثِ إذْ هو قُدْوَةٌ
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ ما يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ إذْ هو في
اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ من
الْحِنْثِ لِكَوْنِ الْحِنْثِ خُلْفًا في الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ وقد قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا
تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقد جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا من بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } وَلِكَوْنِهِ اسْتِخْفَافًا
بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى من حَيْثُ الصُّورَةِ وَكُلُّ ذلك مَانِعٌ من الْحِنْثِ
فَكَانَتْ الْيَمِينُ مَانِعَةً من الْحِنْثِ فَكَانَتْ مَانِعَةً من الْوُجُوبِ
إذْ الْوُجُوبُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا فَكَيْفَ يَكُونُ
سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ تَعْجِيلُ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ
كَذَا بِالْمَالِ بِخِلَافِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ لِأَنَّ
الْجُرْحَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ
عَادَةً فَكَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ
وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَعَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ
فَيَكُونُ الْحِنْثُ بَعْدَ الْيَمِينِ سَبَبًا لَا قَبْلَهُ وَالْحِنْثُ يَكُونُ
سَبَبًا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ سَمَّاهُ كفارة ( ( ( كفارته ) ) ) لِقَوْلِهِ
عز وجل { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُكَفِّرُ
بِالذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ إلَّا ذَنْبُ الْحِنْثِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه إذَا
حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كما يَقْرَأُ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
فَإِنْ قِيلَ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِنَفْسِ الْيَمِينِ أَصْلَ الْوُجُوبِ لَكِنْ
يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ
النِّصَابِ لَكِنْ يَجِبُ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْحَوْلِ وَقَوْلُهُ لَا زَكَاةَ في
مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ لِنَفْيِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِنَفْيِ
أَصْلِ الْوُجُوبِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا وُجُوبُ الْفِعْلِ
فَأَمَّا وُجُوبُ غَيْرِ الْفِعْلِ فَأَمْرٌ لَا يُعْقَلُ على ما عُرِفَ في
مَوْضِعِهِ على أَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَجَازَ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ
لِأَنَّهُ صَامَ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَعُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ ثَابِتٍ
أَصْلًا وَرَأْسًا
فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يسمي كَفَّارَةً قبل وُجُوبِهَا كما يُسَمَّى ما
يُعَجَّلُ من الْمَالِ زَكَاةً قبل الْحَوْلِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمُعَجَّلُ
كَفَّارَةً بَعْدَ الْجِرَاحَةِ قبل الْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحِنْثِ في
جَوَازِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْكَفَّارَةَ
الْحَقِيقِيَّةَ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ مُرَادَةٌ
بِالْآيَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ بها ما يُسَمَّى كَفَّارَةً مجاز ( ( ( مجازا
) ) ) العرضية ( ( ( لعرضية ) ) ) الْوُجُوبِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ اللَّفْظِ
الْوَاحِدِ مُنْتَظِمًا الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ
وَأَمَّا تَكْفِيرُ النبي فَنَقُولُ ذلك في الْمَعْنَى كان تَكْفِيرًا بَعْدَ
الْحِنْثِ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بَعْدَ الْعَجْزِ عن تَحْصِيلِ الْبِرِّ فَيَكُونُ
تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ من حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَنْ حَلَفَ لَآتِيَنَّ
الْبَصْرَةَ فَمَاتَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ بِالْمَوْتِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ النبي مَعْصُومٌ عن الْمَعْصِيَةِ وَالْوَفَاءُ بِتِلْكَ
الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ إذْ هو نهى عن ذلك فَكَانَتْ يَمِينُهُ قبل النَّهْيِ عن
الذي حَلَفَ عليه فَكَانَتْ مُنْعَقِدَةً على فِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَمَّا نهى عن
تَحْصِيلِ ذلك الْفِعْلِ وَصَارَ ذلك مَعْصِيَةً صَارَ إنْشَاءً وَعَاجِزًا عن
الْبِرِّ فَصَارَ حَانِثًا وَإِنْ كان ذلك الْفِعْلُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ في
نَفْسِهِ فَكَانَ وَقْتُ يَأْسِهِ وَقْتَ النَّهْيِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَمَّا
في حَقِّ غَيْرِ النبي وَقْتُ الْيَأْسِ وَالْعَجْزِ حَقِيقَةً هو وَقْتُ
الْمَوْتِ إذْ غَيْرُ النبي غَيْرُ مَعْصُومٍ عن الْمَعَاصِي فَلَا يَتَحَقَّقُ
الْعَجْزُ لِتَصَوُّرِ وُجُودِ الْبِرِّ مع وَصْفِ الْعِصْيَانِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ
عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عز وجل على نِيَّةِ
الْحَالِفِ أو الْمُسْتَحْلِفِ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ عن
حَمَّادٍ عن إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قال الْيَمِينُ على نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا كان
مَظْلُومًا وَإِنْ كان ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إن هذا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جميعا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ على الْمَاضِي فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ
الْمُؤَاخَذَةَ في الْيَمِينِ على الْمَاضِي بِالْإِثْمِ فَمَتَى كان الْحَالِفُ
ظَالِمًا كان آثِمًا في يَمِينِهِ وَإِنْ نَوَى بِهِ غير ما حَلَفَ عليه لِأَنَّهُ
يُتَوَصَّلُ بِالْيَمِينِ إلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ
وقد رَوَى أبو أُمَامَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال من اقْتَطَعَ حَقَّ امرىء مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عليه
الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ عليه النَّارَ قالوا وَإِنْ كان شيئا يَسِيرًا قال صلى
اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ كان قَضِيبًا من أَرَاكٍ قَالَهَا
____________________
(3/20)
ثَلَاثًا
وروى عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم قال من حَلَفَ على يَمِينٍ وهو فيها فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بها
مَالَ امرىء مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وهو عليه غَضْبَانُ
وَأَمَّا إذَا كان مَظْلُومًا فَهُوَ لَا يَقْتَطِعُ بِيَمِينِهِ حَقًّا فَلَا
يَأْثَمُ وَإِنْ نَوَى غير الظَّاهِرِ قال وَأَمَّا الْيَمِينُ على
الْمُسْتَقْبَلِ إذَا قَصَدَ بها الْحَالِفُ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى فَهُوَ على
نِيَّتِهِ دُونَ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وهو الْعَاقِدُ
فَيَنْعَقِدُ على ما عَقَدَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل فَهِيَ في الْأَصْلِ
نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ما ذَكَرْنَا وهو الْيَمِينُ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ
وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم وَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ وَالْكَعْبَةِ وَالْحَرَمِ وَزَمْزَمَ
وَالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِشَيْءٍ من ذلك
لِمَا ذَكَرْنَا
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا حَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ
وَلَوْ حَلَفَ بِذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا حُكْمَ له أَصْلًا
وَالثَّانِي بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَهَذَا النَّوْعُ يَنْقَسِمُ إلَى
قِسْمَيْنِ بيمين ( ( ( يمين ) ) ) بِالْقُرَبِ وَيَمِينٌ بِغَيْرِ الْقُرَبِ
أَمَّا الْيَمِينُ بِالْقُرَبِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ
صَلَاةٌ أو صَوْمٌ أو حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ أو بَدَنَةٌ أو هَدْيٌ أو عِتْقُ
رَقَبَةٍ أو صَدَقَةٌ وَنَحْوُ ذلك وقد اُخْتُلِفَ في حُكْمِ هذه الْيَمِينِ
أَنَّهُ هل يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْمُسَمَّى بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عن عُهْدَتِهِ
إلَّا بِهِ أو يَخْرُجُ عنها بِالْكَفَّارَةِ مع الِاتِّفَاقِ على أنها يَمِينٌ
حَقِيقَةً حتى أنه لو حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فقال ذلك يَحْنَثُ بِلَا خِلَافٍ
لِوُجُودِ رُكْنِ الْيَمِينِ وهو ما ذَكَرَهُ وَوُجُودِ مَعْنَى الْيَمِينِ
أَيْضًا وهو الْقُوَّةُ على الإمتناع من تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا من لُزُومِ
الْمَذْكُورِ وَنَذْكُرُ حُكْمَ هذا النَّوْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ في كِتَابِ
النَّذْرِ لِأَنَّ هذا التَّصَرُّفَ يُسَمَّى أَيْضًا نَذْرًا مُعَلَّقًا
بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّذْرِ وهو الْتِزَامُهُ الْقُرْبَةَ عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ الْقُرَبِ فَهِيَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ رُكْنِهِ وَبَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ
وَبَيَانِ حُكْمِهِ وَبَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الرُّكْنُ
أَمَّا الرُّكْنُ فَهُوَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ مَرْبُوطٍ بِالشَّرْطِ مُعَلَّقٍ
بِهِ في قَدْرِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ
وَمَعْرِفَةِ مَعْنَاهُمَا
أَمَّا الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ فما دخل فيه حَرْفٌ من حُرُوفِ الشَّرْطِ وَهِيَ
إنْ وإذا وإذا ما وَمَتَى وَمَتَى ما وَمَهْمَا وَأَشْيَاءُ أُخَرُ ذَكَرَهَا
أَهْلُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَأَصْلُ حُرُوفِهِ إن الْخَفِيفَةَ وَغَيْرَهَا
دَاخِلٌ عليها لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا في الشَّرْطِ وما سِوَاهَا من
الْحُرُوفِ يُسْتَعْمَلُ فيه وفي غَيْرِهِ وهو الْوَقْتُ وَهَذَا أَمَارَةُ الْأَصَالَةِ
وَالتَّبَعِيَّةِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مع هذه الْحُرُوفِ كُلَّمَا وَعَدَّهَا من حُرُوفِ
الشَّرْطِ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْحَقِيقَةِ فإن أَهْلَ اللُّغَةِ لم
يَعُدُّوهَا من حُرُوفِ الشَّرْطِ لَكِنْ فيها مَعْنَى الشَّرْطِ وهو تَوَقُّفُ
الْحُكْمِ على وُجُودِ ما دَخَلَتْ عليه لِذَلِكَ سَمَّاهُ شرطاوفي قَوْلِهِ كُلُّ
امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَقَوْلِهِ كُلُّ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ
فَهُوَ حُرٌّ إنَّمَا تَوَقَّفَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ على الزوج ( ( ( الزواج )
) ) وَالشِّرَاءِ لَا على طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّهُ
أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ على امْرَأَةٍ مُتَّصِفَةٍ بِأَنَّهُ
تَزَوَّجَهَا وَعَلَى عَبْدٍ مُتَّصِفٍ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَيَحْصُلُ
الِاتِّصَافُ بِذَلِكَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ وَالشِّرَاءِ وَأَمَّا مَعْنَى
الشَّرْطِ فَهُوَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلَامَاتُهَا
وَمِنْهُ الشُّرْطِيُّ وَالشِّرَاطُ وَالْمِشْرَطُ فسمى ما جَعَلَهُ الْحَالِفُ
عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ شَرْطًا حتى لو ذَكَرَهُ لِمَقْصُودٍ آخَرَ لَا
يَكُونُ شَرْطًا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْمُسَمَّى بِالْجَزَاءِ فما دخل فيه حَرْفُ التَّعْلِيقِ وَهِيَ حَرْفُ
الْفَاءِ إذَا كان مُتَأَخِّرًا في الذِّكْرِ عن الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَمَّا إذَا كان الْجَزَاءُ مُتَقَدِّمًا فَلَا
حَاجَةَ إلَى حَرْفِ الْفَاءِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ بِدُونِ حَرْفِ
التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ قد يَعْقُبُ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ما يُبَيِّنُ أَنَّهُ
يَمِينٌ فَيَخْرُجُ بِهِ من أَنْ يَكُونَ تَطْلِيقًا إلَى كَوْنِهِ يَمِينًا
وَتَعْلِيقًا فَلَا حَاجَةَ في مِثْلِ هذا إلَى حَرْفِ التَّعْلِيقِ بِخِلَافِ
حُرُوفِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لِلشَّرْطِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا
على الْجَزَاءِ أو تَأَخَّرَ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْفَاءُ بِالْجَزَاءِ
لِأَنَّهَا حَرْفٌ يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ من غَيْرِ تراخي ( ( ( تراخ ) ) )
كَقَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي زَيْدٌ فَعَمْرٌو وَالْجَزَاءُ يَتَعَقَّبُ
الشَّرْطَ بِلَا تراخي ( ( ( تراخ ) ) )
وَأَمَّا مَعْنَى الْجَزَاءِ فَجَزَاءُ الشَّرْطِ ما عُلِّقَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ قد
يَكُونُ مَانِعًا من تَحْصِيلِ الشَّرْطِ إذَا كان الشَّرْطُ مَرْغُوبًا عنه
لِوَقَاحَةِ عَاقِبَتِهِ وقد يَكُونُ حَامِلًا على تَحْصِيلِهِ لِحُسْنِ
عَاقِبَتِهِ لَكِنَّ الْحَمْلَ وَالْمَنْعَ من الْأَغْرَاضِ الْمَطْلُوبَةِ من
الْيَمِينِ وَمِنْ ثَمَرَاتِهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّبْحِ بِالْبَيْعِ وَالْوَلَدِ
بِالنِّكَاحِ فَانْعِدَامُهُمَا لَا يُخْرِجُ التَّصَرُّفَ عن كَوْنِهِ يَمِينًا
كَانْعِدَامِ الرِّبْحِ في الْبِيَعِ وَالْوَلَدِ في النِّكَاحِ لِأَنَّ وُجُودَ
التَّصَرُّفِ بِوُجُودِ رُكْنِهِ لَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ منه كَوُجُودِ
الْبِيَعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا
____________________
(3/21)
وَرُكْنُ
الْيَمِينِ هُمَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ فإذا وُجِدَ كان التَّصَرُّفُ يَمِينًا
وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ في مَعْرِفَةِ الْأَسَامِي إلَى أَهْلِ اللُّغَةِ وإنهم
يُسَمُّونَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينًا من غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَعْنَى
الْحَمْلِ وَالْمَنْعِ دَلَّ إن ذلك ليس بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ يَمِينًا
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ
أو قال إذَا أو إذَا ما أو مَتَى أو مَتَى ما أو حَيْثُمَا أو مَهْمَا كان
يَمِينًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حتى لو حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فقال ذلك
يَحْنَثُ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لَا يَكُونُ
يَمِينًا لإنعدام حُرُوفِ الشَّرْطِ بَلْ هو إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ
وَالشَّهْرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَدَ وَالشَّهْرَ ظَرْفًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ
لِأَنَّ مَعْنَاهُ في غَدٍ وفي شَهْرٍ وَلَا يَكُونُ ذلك ظَرْفًا لِوُقُوعِ
الطَّلَاقِ إلَّا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ قال إذَا جاء غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال إذَا مَضَى غَدٌ أو إذَا جاء
رَمَضَانُ أو إذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ أو إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أو غَرَبَتْ كان
يَمِينًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا
لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ وهو الْمَنْعُ أو الْحَمْلُ إذْ لَا يَقْدِرُ
الْحَالِفُ على الإمتناع من مَجِيءِ الْغَدِ وَلَا على الْإِتْيَانِ بِهِ فلم
يَكُنْ يَمِينًا بِخِلَافِ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ
ما في وُجُودِهِ في الْمُسْتَقْبَلِ خَطَرٌ وهو أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ
يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ وَالْغَدُ يَأْتِي لَا مَحَالَةَ فَلَا
يَصْلُحُ شَرْطًا فلم يَكُنْ يَمِينًا
وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ مُعَلَّقٍ بِالشَّرْطِ فَكَانَ
يَمِينًا وَمَعْنَى الْمَنْعِ أو الْحَمْلِ من أعراض ( ( ( أغراض ) ) ) الْيَمِينِ
وَثَمَرَاتِهَا وَحَقَائِقُ الْأَسَامِي تَتْبَعُ حُصُولَ الْمُسَمَّيَاتِ
بِذَوَاتِهَا وَذَلِكَ بِأَرْكَانِهَا إلا بِمَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ منها على
ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الشَّرْطَ ما
في وُجُودِهِ في الْمُسْتَقْبَلِ خَطَرٌ وهو أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ
يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ وَالْغَدُ يَأْتِي لَا مَحَالَةَ فَالْجَوَابُ
عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ أَنَّ هذا من شَرْطِ كَوْنِهِ شَرْطًا
بَلْ من شَرْطِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْوُجُودِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَنَعْنِي
بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِيلَ الْوُجُودِ وقد وُجِدَ هَهُنَا فَكَانَ
التَّصَرُّفُ يَمِينًا على أَنَّ جَوَازَ الْعَدَمِ إنْ كان شَرْطًا فَهُوَ
مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ مَجِيءَ الْغَدِ وَنَحْوِهِ ليس مُسْتَحِيلَ الْعَدَمِ
حَقِيقَةً لِجَوَازِ قِيَامِ السَّاعَةِ في كل لَمْحَةٍ كما قال تَعَالَى { وما
أَمْرُ السَّاعَةِ إلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هو أَقْرَبُ } وَهَذَا لِأَنَّ
السَّاعَةَ وَإِنْ كان لها شَرَائِطُ لَا تَقُومُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا ولم يُوجَدْ
شَيْءٌ من ذلك في يَوْمِنَا هذا فَيَقَعُ إلا من عن قِيَامِ السَّاعَةِ قبل
مَجِيءِ الْغَدِ وَنَحْوُ ذلك لَكِنَّ هذا يُوجِبُ الْأَمْنَ عن الْقِيَامِ إمَّا
لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الْقِيَامِ في نَفْسِهِ لِأَنَّ خَبَرَ الصَّادِقِ عن
امْرَأَتِهِ لَا يُوجَدُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أما لَا يَقْتَضِي أَنْ
لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُهُ في نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ خِلَافَ
الْمَعْلُومِ مَقْدُورُ الْعَبْدِ حتى يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّكْلِيفُ وَإِنْ كان
لَا يُوجَدُ فَكَانَ مَجِيءُ الْغَدِ جَائِزَ الْعَدَمِ في نَفْسِهِ لَا
مُسْتَحِيلَ الْعَدَمِ فَكَانَ شَرْطُ كَوْنِهِ شَرْطًا وهو جَوَازُ الْعَدَمِ
حَقِيقَةً مَوْجُودًا فَكَانَ يَمِينًا
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أو أَرَدْتِ أو أَحْبَبْتِ أو
رَضِيَتْ أو هَوِيَتْ لم يَكُنْ يَمِينًا حتى لو كان حَلَفَ لَا يَحْلِفُ لَا
يَحْنَثُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَعْنَاهُ
الْعَلَامَةُ وهو ما جَعَلَهُ الْحَالِفُ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ
وَالْحَالِفُ هَهُنَا ماجعل قَوْلَهُ إنْ شِئْت عَلَمًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَلْ
جَعَلَهُ لِتَمْلِيكِ الطَّلَاقِ منها كَأَنَّهُ قال مَلَّكْتُكِ طَلَاقَك أو قال
لها اخْتَارِي أو أَمْرُكِ بِيَدِكِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ على الْمَجْلِسِ وما جُعِلَ عَلَمًا لِوُقُوعِ
الطَّلَاقِ لَا يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ أو إنْ كَلَّمْت فُلَانًا وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَحْضَ ما
يَدُلُّ على حُصُولِ الطَّلَاقِ فَحَسْبُ
فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِهِ فإنه لَا يَكُونُ عَلَمًا بَلْ يَكُونُ
عِلَّةً لِحُصُولِهِ وَالْمَشِيئَةُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ بِدَلِيلِ
أَنَّ الزَّوْجَ لو قال لِزَوْجَتِهِ إنْ شِئْت طَلَاقَكِ فَطَلِّقِي وإذا لم
يُوجَدْ مَعْنَى الشَّرْطِ لم تَكُنِ الْمَشِيئَةُ الْمَذْكُورَةُ شَرْطًا فلم
يُوجَدْ أَحَدُ رُكْنَيْ الْيَمِينِ وهو الشَّرْطُ فلم تُوجَدْ الْيَمِينُ فَلَا
يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ لو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أنا لم يَكُنْ يَمِينًا
حتى لَا يَحْنَثَ في يَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ وَلَوْ قال لها إذَا
حِضْت وَطَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ لم يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ ما
جَعَلَ هذا الشَّرْطَ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ بَلْ جَعَلَهُ إيقَاعَ
الطَّلَاقِ على وَجْهِ السُّنَّةِ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ بذكر ( ( ( يذكر
) ) ) عَادَةً كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَكَذَا إذَا قال إذَا
حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ فَصَارَ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وما زَادَ على هذا
يُعْرَفُ في الْجَامِعِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فقال كُلُّ امْرَأَةٍ لي تَدْخُلُ هذه الدَّارَ فَهِيَ
طَالِقٌ أو قال لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
يَحْنَثُ لَا لِوُجُودِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ لِتَعَذُّرِ
التَّعْلِيقِ لِانْعِدَامِ حَرْفِهِ بَلْ لِضَرُورَةِ
____________________
(3/22)
وُجُودِ
الِاتِّصَافِ على ما بَيَّنَّا وَالتَّعْلِيقُ بِالدُّخُولِ ظَرْفٌ في وُجُودِ
الِاتِّصَافِ فَصَارَ من حَيْثُ أنه تَعَلَّقَ بِهِ بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَافِ
شَبِيهَ الشَّرْطِ لَا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا ثُمَّ في كَلِمَةِ كُلُّ إذَا دَخَلْت
مَرَّةً فَطَلُقَتْ ثُمَّ دَخَلَتْ ثَانِيًا لم تَطْلُقْ وفي كَلِمَةِ كُلَّمَا
تَطْلُقُ في كل مَرَّةٍ تَدْخُلُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ
كَلِمَةُ عُمُومٍ وَإِحَاطَةٍ لِمَا دَخَلَتْ عليه وفي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
دَخَلَتْ في الْعَيْنِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ لَا في الْفِعْلِ وهو الدُّخُولُ فإذا
دَخَلَتْ مَرَّةً فَقَدْ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا
ثَانِيًا
وَأَمَّا في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْكَلِمَةُ على
فِعْلِ الدُّخُولِ لِأَنَّ كَلِمَةَ ما تَرْجِعُ مع ما بَعْدَهَا من الْفِعْلِ
مَصْدَرًا لُغَةً يُقَالُ بَلَغَنِي ما قُلْت وَأَعْجَبَنِي ما صَنَعْت أَيْ
قَوْلُك وَصُنْعُك فَصَارَتْ الْكَلِمَةُ دَاخِلَةً على الْمَصْدَرِ لَا على من
وَقَعَ عليه الْمَصْدَرُ فَيَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمَصْدَرِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا } يَتَجَدَّدُ التَّبَدُّلُ عِنْدَ تَجَدُّدِ النُّضْجِ
وَإِنْ كان الْمَحَلُّ مُتَّحِدًا فَصَارَ الطَّلَاقُ مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ
دُخُولٍ وقد وُجِدَ الدُّخُولُ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ
فَطَلُقَتْ ثَلَاثًا فَلَوْ أنها تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ ذلك ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في
كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ على التَّزَوُّجِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا فَطَلُقَتْ
ثَلَاثًا بِكُلِّ تَزَوُّجٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ طَلُقَتْ
لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الْمِلْكِ وَالطَّلَاقُ الْمُضَافُ إلَى
الْمِلْكِ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الدُّخُولِ
وَلَوْ قال لأمرأته أَنْتِ طَالِقٌ لو دَخَلْت الدَّارَ كان يَمِينًا كما لو قال
إنْ دَخَلْت الدَّارَ وإذا دَخَلْت لِأَنَّ كَلِمَةَ لو تُذْكَرُ لِتَوَقُّفِ
الْمَذْكُورِ على وُجُودِ ما دَخَلَتْ عليه قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا من حَوْلِكَ } وقال عز وجل { وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عنه } فَكَانَتْ في مَعْنَى الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ
الْجَزَاءِ على وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ لم يَكُنْ شَرْطًا حَقِيقَةً
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ لو حَسُنَ خُلُقُكِ سَوْفَ أُرَاجِعُكِ لم يَكُنْ
يَمِينًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ السَّاعَةَ لِأَنَّ لو ما دَخَلَتْ على الطَّلَاقِ
وَإِنَّمَا دَخَلَتْ على تَرَقُّبِ الرَّجْعَةِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ في الْحَالِ
كما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ حَسُنَ خُلُقُكِ رَاجَعْتُكِ
وَكَذَلِكَ لو قال أَنْتِ طَالِقٌ لو قَدِمَ أَبُوكِ رَاجَعْتُكِ كما لو قال
أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاجَعْتُكِ وَهَذَا كُلُّهُ ليس بِيَمِينٍ
بَلْ هو عِدَةٌ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لو
دَخَلْتِ الدَّارَ لَطَلَّقْتُك لم تَطْلُقْ السَّاعَةَ وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ
لم تَطْلُقْ حتى يُطَلِّقَهَا فَإِنْ لم يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ قبل مَوْتِهِ أو
مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ لِأَنَّ هذا رَجُلٌ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ
لَطَلَّقَهَا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ فَإِنْ لم يطلق ( ( ( يطلقها ) ) ) فَهِيَ
طَالِقٌ كَأَنَّهُ قال لِأُطَلِّقَنَّكِ إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ دَخَلْتِ
الدَّارَ فلم أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
وَلَوْ قال ذلك لَا تَطْلُقُ لِلْحَالِ وإذا دَخَلْتِ الدَّارَ ولم يُطَلِّقْهَا
حتى مَاتَتْ أو مَاتَ طَلُقَتْ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِفَوَاتِ
شَرْطِ الْبِرِّ في ذلك الْوَقْتِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ ذلك الْوَقْتَ كما لو قال
لها أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لم آتِ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ قبل أَنْ يَأْتِيَهَا كَذَا
هذا
وَنَظِيرُهُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ عَبْدِي حُرٌّ لو دَخَلْت الدَّارَ
لَأَضْرِبَنَّكِ إذْ مَعْنَاهُ لَأَضْرِبَنَّكِ إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ
دَخَلْتِ ولم أَضْرِبْكِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ إذَا قال لأمرأته أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا
دُخُولُكِ الدَّارَ أو أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا مَهْرُكِ عَلَيَّ أو أَنْتِ طَالِقٌ
لَوْلَا شَرَفُكِ فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا يَقَعُ عليها الطَّلَاقُ
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ في مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ من حَيْثُ أنه يَمْنَعُ وُقُوعَ
الطَّلَاقِ كَالِاسْتِثْنَاءِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ في الْمُسْتَثْنَى
وَالْأَصْلُ أَنَّ هذه الْكَلِمَةَ تُسْتَعْمَلُ في امْتِنَاعِ الشَّيْءِ
لِوُجُودِ غَيْرِهِ
قال اللَّهُ عز وجل { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا
لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا من فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ
عليها يَظْهَرُونَ } الْآيَةَ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } وَيُقَالُ في
الْعُرْفِ لَوْلَا الْمَطَرُ لَجِئْتُكَ فَصَارَ مَعْنَى هذا الْكَلَامِ لَوْلَا
دُخُولُكِ الدَّارَ لَطَلَّقْتُكِ فَلَا يَقَعُ عليها الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ لو
قال طَلَّقْتُكِ لَوْلَا دُخُولُكِ الدَّارَ وَكَذَلِكَ لو قال لَوْلَا دُخُولُك
الدَّارَ قد طَلَّقْتُكِ أَمْسُ
وَكَذَلِكَ لو كان مَكَانَ قد لقد في هذه الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَكَذَلِكَ لو قال
أَنْتِ طَالِقٌ أَمْس لَوْلَا دُخُولُك الدَّارَ أَيْ لَوْلَا دُخُولُك الدَّارَ
أَمْس لَطَلَّقْتُكِ
وقال ابن سِمَاعَةَ سمعت أَبَا يُوسُفَ يقول في رَجُلٍ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَهَذَا يُخْبِرُ أَنَّهُ دخل الدَّارَ وَأَكَّدَ
ذلك بِالْيَمِينِ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لم أَكُنْ دَخَلْتُ الدَّارَ
فَإِنْ كان لم يَدْخُلْ طَلُقَتْ وَإِنْ كان دخل لم تَطْلُقْ لِأَنَّ هذا ليس
بِشَرْطٍ بَلْ هو خَبَرٌ عن الْمَاضِي أَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ فَإِنْ كان كَاذِبًا
طَلُقَتْ وَإِنْ كان صَادِقًا لم تَطْلُقْ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ لَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ
____________________
(3/23)
دَخَلْتِ
الدَّارَ فَلَا تَطْلُقُ حتى تَدْخُلَ لِأَنَّ لَا حَرْفُ نَفْيٍ أَكَّدَهُ
بِالْحَلِفِ فَكَأَنَّهُ نَفَى دُخُولَهَا وَأَكَّدَ ذلك بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ
بِدُخُولِهَا
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ السَّاعَةَ
لِأَنَّ قَوْلَهُ دَخَلْت ليس بِتَعْلِيقٍ بَلْ هو إخْبَارٌ عن دُخُولِهَا
الدَّارَ كَأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ عِلَّةً لَكِنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْعِلَّةِ
وَسَوَاءٌ كانت دَخَلَتْ الدَّارَ أو لم تَدْخُلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ
التَّعْلِيلَ بَعْلَةٍ لم تُوجَدْ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ
الْعِلَّةَ لم تَصِحَّ وبقي الْإِيقَاعُ صَحِيحًا
وَرَوَى ابْنَ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ
وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ السَّاعَةَ لِمَا يُذْكَرُ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ كانت طَالِقًا
السَّاعَةَ وَاحِدَةً وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أُخْرَى لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا
تَطْلِيقَةً السَّاعَةَ وَعَطَفَ الشَّرْطَ عليها بِلَا جَزَاءٍ فَيُضَمَّنُ فيه
الْجَزَاءُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَطَالِقٌ إنْ
دَخَلْت الدَّارَ فَيَقَعُ في الْحَالِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ الدُّخُولِ أُخْرَى
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ لِدُخُولِكِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ السَّاعَةَ
وَاحِدَةً لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ ثُمَّ جَعَلَ الدُّخُولَ الْمُتَقَدِّمَ
عليه عِلَّةً لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَمَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ لِعِلَّةٍ وَقَعَ
وُجِدَتْ الْعِلَّةُ أو لم تُوجَدْ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لو قال أَنْتِ
طَالِقٌ لِحَيْضَتِكِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال بِحَيْضَتِكِ أو في حَيْضَتِكِ أو بِدُخُولِكِ الدَّارَ أو لِدُخُولِكِ
الدَّارَ لم تَطْلُقْ حتى تَحِيضَ أو تَدْخُلَ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ الصاق
فَيَقْتَضِي الصاق الطَّلَاقِ بِالْحَيْضَةِ وَالدُّخُولِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا
وفي كَلِمَةِ ظَرْفٍ دَخَلَتْ على ما لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَتُجْعَلُ شَرْطًا
لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ في الْقَضَاءِ حين تَكَلُّمِهِ بِهِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا إن الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ قُدِّمَ
الشَّرْطَ أو إمَّا إنْ أُخِّرَ فَإِنْ قُدِّمَ فَهُوَ على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ
أَمَّا إنْ قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال إنْ دَخَلْت
الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ أو قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال
وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ أُخِّرَ الشَّرْطُ فَهُوَ على
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أو قال
أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أو قال أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَإِنْ قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ فَالْجَوَابُ ما
ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أنها تَطْلُقُ في الْقَضَاءِ حين تَكَلَّمَ بِهِ لِأَنَّهُ ما
عَلَّقَ الطَّلَاقَ لِانْعِدَامِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وهو حَرْفُ الْفَاءِ وكان
تَنْجِيزًا لَا تَعْلِيقًا وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّعْلِيقَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ عَنَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ نَحْوُ
إضْمَارِ حَرْفِ الْفَاءِ في الْجَزَاءِ
قال الشَّاعِرُ من يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا وَالشَّرُّ
بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ أَيْ فَاَللَّهُ يَشْكُرُهَا وَلَا يَدِينُ
في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أنها لَا تَطْلُقُ حتى تَدْخُلَ الدَّارَ
ووجه ( ( ( ووجهه ) ) ) أَنْ يُحْذَفَ حَرْفُ الْجَزَاءِ تَصْحِيحًا لِلشَّرْطِ
إذْ لو لم يُحْذَفْ لَلَغَا
وَلَوْ قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ لِلْحَالِ لإنعدام
حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَالْوَاوُ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّعْلِيقِ
وَلَوْ عَنَى بِهِ التَّعْلِيقَ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى ما لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لِأَنَّ
الْوَاوَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَلَوْ أَدْرَجَ فيه الْفَاءَ يَصِيرُ
تَقْدِيرُ كَلَامِهِ أَنْتِ دَخَلْت الدَّارَ فو أنت طَالِقٌ وَهَذَا لَغْوٌ
وَلَوْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ
قال وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَالْوَاوُ لَا يُبْتَدَأُ بها وما
يَذْكُرُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْوَاوَ قد تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ
فَمُرَادُهُمْ أَنْ يُبْتَدَأَ كَلَامٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ من
غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تُشَارِكُ الْأُولَى فَأَمَّا
ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ من غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ شَيْءٌ بِالْوَاوِ فَغَيْرُ
مَوْجُودٍ وَلَا جَائِزٍ وَإِنْ قال وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ
لِلْحَالِ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ التَّعْلِيقِ وَحَرْفِهِ على أَنَّ الْوَاوَ في
مِثْلِ هذا تُذْكَرُ لِلتَّحْقِيقِ كما يُقَالُ لَا تُسَافِرَنَّ وَإِنْ كان
الطَّرِيقُ مَخُوفًا
وَلَوْ نَوَى التَّعْلِيقَ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ عُدُولٌ عن الظَّاهِرِ
وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى ما
يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لِأَنَّهُ نَوَى إضْمَارَ حَرْفِ الْفَاءِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ قال وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَتَلْغُو الْوَاوُ هذا
إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَأَمَّا إذَا أَخَّرَ فقال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ لَا تَطْلُقُ ما لم تَدْخُلْ الدَّارَ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الْإِيجَابَ
بِمَا أَخْرَجَهُ عن كَوْنِهِ إيجَابًا إلَى كَوْنِهِ يَمِينًا فَلَا حَاجَةَ في
مِثْلِ هذا إلَى حَرْفِ التَّعْلِيقِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ حين تَكَلَّمَ
بِهِ لِأَنَّ هذا يُوجِبُ التَّأْكِيدَ على ما بَيَّنَّا
يَدُلُّ عليه قَوْلُهُ من قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دخل الْجَنَّةَ وَإِنْ
زِنَا وَإِنْ سَرَقَ
وَلَوْ قال عَنَيْتُ بِهِ
____________________
(3/24)
التَّعْلِيقَ
لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى لِأَنَّ الْوَاوَ تُجْعَلُ زَائِدَةً كما في قَوْله تَعَالَى { حتى إذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ } إلَى قَوْلِهِ { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ } قِيلَ مَعْنَاهُ
اقْتَرَبَ الْوَعْدُ وَالْوَاوُ زِيَادَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ اقْتَرَبَ جَوَابُ حتى
إذَا
وَالْجَوَابُ عن هذا أَنَّ الْوَاوَ في كَلَامِ الْعَرَبِ لم تجيء ( ( ( تجئ ) ) )
زَائِدَةً في مَوْضِعٍ تَصْلُحُ لِلْعَطْفِ أو لِلتَّحْقِيقِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ
تُجْعَلَ هَهُنَا زَائِدَةً على أَنَّا نَقُولُ إنَّ كَثِيرًا من مُحَقِّقِي
أَهْلِ اللُّغَةِ جَعَلَ الْوَاوَ زَائِدَةً في مَوْضِعٍ ما وَكَانُوا يَقُولُونَ
تَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ حتى إذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ من
كل حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فُتِحَتْ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ فَكَانَتْ الْوَاوُ
لِلْعَطْفِ على الْجَوَابِ الْمُضْمَرِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا قالوا
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ تَطْلُقُ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْفَاءَ صَارَتْ فَاصِلَةً
لِأَنَّهَا كانت لَغْوًا وَاللَّغْوُ من الْكَلَامِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ
السُّكُوتِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّ
الْفَاءَ وَإِنْ كان مُسْتَغْنًى عنها في الْحَالِ إلَّا أنها في الْجُمْلَةِ
حَرْفُ تَعْلِيقً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مَانِعَةً من التَّعْلِيقِ موجهة (
( ( موجبة ) ) ) لِلِانْفِصَالِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ ولم يذكر فِعْلًا هل يَتَعَلَّقُ أَمْ لَا ذَكَرَ
هذه الْمَسْأَلَةَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقَعُ الطلاق لِلْحَالِ لِأَنَّهُ
لم يذكر ما يَتَعَلَّقُ بِهِ وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ
لِلْحَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَرْفَ الشَّرْطِ عُلِمَ أَنَّهُ لم يُرِدْ
بِهِ التَّطْلِيقَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ وَالتَّعْلِيقَ وَاَللَّهُ
عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ في الدَّارِ أو في مَكَّةَ فَالْأَصْلُ
فيه إن كَلِمَةَ في كلمة ( ( ( مكة ) ) ) ظَرْفٌ فَإِنْ دَخَلَتْ على ما يَصْلُحُ
ظَرْفًا تَجْرِي على حَقِيقَتِهَا وَإِنْ دَخَلَتْ على ما لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا
تُجْعَلُ مَجَازًا عن الشَّرْطِ لِمُنَاسَبَةٍ بين الظَّرْفِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ
ثُمَّ الظَّرْفُ نَوْعَانِ ظَرْفُ زَمَانٍ وَظَرْفُ مَكَان فَإِنْ دَخَلَتْ على
الْمَكَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ في ذلك الْمَكَانِ وفي غَيْرِهِ بِأَنْ قال
لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ في الدَّارِ أو في مَكَّةَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ
لم تَكُنِ الْمَرْأَةُ في الدَّارِ وَلَا في مَكَّةَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا
يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فإذا وَقَعَ في مَكَان وَقَعَ في الْأَمَاكِنِ
كُلِّهَا وَإِنْ دَخَلَتْ على الزَّمَانِ فَإِنْ كان مَاضِيًا يَقَعُ الطَّلَاقُ
في الْحَالِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ في الْأَمْسِ أو في الْعَامِ
الْمَاضِي لِأَنَّ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ في الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ
فَيُجْعَلُ إخْبَارًا أو تَلْغُو الْإِضَافَةُ إلَى الْمَاضِي وَيَبْقَى قَوْلُهُ
أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ في الْحَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان حَاضِرًا بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في هذا الْوَقْتِ أو في
هذه السَّاعَةِ يَقَعُ في الْحَالِ وَإِنْ كان مُسْتَقْبَلًا لَا يَقَعُ حتى
يَأْتِيَ بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في غَدٍ أو في الشَّهْرِ الْآتِي لِأَنَّ
الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فإذا جُعِلَ الْغَدُ
ظَرْفًا له لَا يَقَعُ قَبْلَهُ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في دُخُولِكِ الدَّارَ أو في قِيَامِكِ أو في قُعُودِكِ
يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا
وَيَصْلُحُ شَرْطًا فَتُحْمَلُ الْكَلِمَةُ على الشَّرْطِ مَجَازًا وَكَذَا لو قال
أَنْتِ طَالِقٌ في ذَهَابِكِ إلَى مَكَّةَ لِأَنَّ الذَّهَابَ فِعْلٌ وَكَذَا إذَا
قال بِذَهَابِكِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ الصاق فَيَقْتَضِي الصاق الطَّلَاقِ
بِالذَّهَابِ وَذَلِكَ بِتَعْلِيقِهِ بِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في الشَّمْسِ وَهِيَ في الظِّلِّ كانت طَالِقًا لِأَنَّ
الشَّمْسَ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ وَلَا شَرْطًا له فَإِمَّا أَنْ
تَلْغُوَ وَيُرَادَ بها مَكَانُ الشَّمْسِ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ
التَّخْصِيصَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في صَوْمِكِ كانت طَالِقًا حين يَطْلُعُ الْفَجْرُ إذَا
نَوَتْ الصَّوْمَ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِعْلٌ وهو الْإِمْسَاكُ وَإِنَّهُ لَا
يَصْلُحُ ظَرْفًا فَتُجْعَلُ الْكَلِمَةُ مَجَازًا عن الشَّرْطِ وَالْفِعْلُ
يَصْلُحُ شَرْطًا فإذا وُجِدَ في أَوَّلِ الْجُزْءِ مع النِّيَّةِ في وَقْتِهِ من
أَهْلِهِ فَقَدْ وُجِدَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَيَقَعُ
الطَّلَاقُ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في صَلَاتِك لم تَطْلُقْ حتى تَرْكَعَ وَتَسْجُدَ
سَجْدَةً لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلٌ أَيْضًا فَلَا تَصْلُحُ ظَرْفًا كَالصَّوْمِ
إلَّا أنها اسْمٌ لافعال مُخْتَلِفَةٍ من الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَالْمُتَرَكِّبُ من أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَنْطَلِقُ عليه
الِاسْمُ بِوُجُودِ بَعْضِهَا كَالْأَبْلَقِ الْمُتَرَكِّبِ من السَّوَادِ
وَالْبَيَاضِ وَالسَّكَنْجَبِينِ الْمُتَرَكِّبِ عن السُّكَّرِ وَالْخَلِّ
وَنَحْوِ ذلك فما لم تُوجَدْ الْأَفْعَالُ التي وَصَفْنَا لَا يَنْطَلِقُ عليها
اسْمُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فَلَا يَحْنَثُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ
فإنه اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مُتَّفِقَةِ الْأَجْزَاءِ وَهِيَ الْإِمْسَاكَاتُ وما
تَرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ مُتَجَانِسَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ كُلِّهِ على
بَعْضِهِ لُغَةً كَاسْمِ الْمَاءِ أَنَّهُ كما يَنْطَلِقُ على مَاءِ الْبَحْرِ
يَنْطَلِقُ على قَطْرَةٍ منه فَكَانَ الْإِمْسَاكُ في أَوَّلِ النَّهَارِ
إمْسَاكًا حَقِيقَةً فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فَهُوَ الْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في حَيْضِكِ أو في طُهْرِكِ فَإِنْ كان مَوْجُودًا
وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ وَيَتَوَقَّفُ على وُجُودِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ منه
وَقْتُ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ أَيْ في الْوَقْتِ الذي تَكُونِينَ حَائِضًا أو
طَاهِرَةً فيه
____________________
(3/25)
وَنَظِيرُ
هذه الْمَسَائِلِ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ في
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَلُقَتْ حين تَكَلَّمَ بِهِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في أَكْلِكِ هذا الرَّغِيفَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ما
لم تَفْرُغْ من أَكْلِ جَمِيعِ الرَّغِيفِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دَخَلَتْ كَلِمَةُ الظَّرْفِ على
الزَّمَانِ وهو يَصْلُحُ ظَرْفًا فَجُعِلَ جَمِيعُ الْوَقْتِ ظَرْفًا لِكَوْنِهَا
طَالِقًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا إذَا كان وَقَعَ الطَّلَاقُ في أَوَّلِهِ
وفي الثَّانِيَةِ عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِفِعْلِ الْأَكْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا
يَصْلُحُ ظَرْفًا وَيَصْلُحُ شَرْطًا فَصَارَ مُعَلِّقًا الطَّلَاقَ بِفِعْلِ
الْأَكْلِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ ما لم يَنْزِلْ كَمَالُ شَرْطِهِ
وما يَقُولُهُ مَشَايِخُنَا إنَّ الطَّلَاقَ مَتَى أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُمْتَدٍّ
يَقَعُ عِنْدَ أَوَّلِهِ وَمَتَى عُلِّقَ بِفِعْلِ مُمْتَدٍّ يَقَعُ عِنْدَ
آخِرِهِ هذا صُورَتُهُ وَعِلَّتُهُ
وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ في مَجِيءِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ قال ذلك
لَيْلًا فكما ( ( ( فكلما ) ) ) طَلَعَ الْفَجْرُ من الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقَعُ
الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَجِيءِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا
يُوجَدُ ذلك إلَّا بِمَجِيءِ كل وَاحِدٍ منها وَمَجِيءُ الْيَوْمِ يَكُونُ
بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَوْ قال ذلك في ضَحْوَةٍ من يَوْمِ حَلَفَ فَإِنَّمَا
يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ طُلُوعِ الْفَجْرِ من الْيَوْمِ الرَّابِعِ
لِأَنَّ الْيَوْمَ الذي حَلَفَ فيه لم يَكُنْ معتبر ( ( ( معتبرا ) ) ) التقدم ( (
( لتقدم ) ) ) مَجِيئِهِ على الشَّرْطِ وَالشَّيْءُ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَجِيءُ لَا
بِمَا مَضَى
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ قال ذلك لَيْلًا لَا
يَقَعُ الطَّلَاقُ ما لم تَغْرُبْ الشَّمْسُ من الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِأَنَّ
مُضِيَّ الشَّيْءِ يَكُونُ بِانْقِضَاءِ جُزْئِهِ الْأَخِيرِ فَمُضِيِّ
الْأَيَّامِ يَكُونُ بِانْقِضَاءِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ منها وَذَلِكَ يُوجَدُ في
هذه السَّاعَةِ وَإِنْ قال ذلك في وَقْتِ ضَحْوَةٍ من النَّهَارِ لَا تَطْلُقُ حتى
يجىء ( ( ( يجيء ) ) ) تِلْكَ السَّاعَةُ من الْيَوْمِ الرَّابِعِ لِأَنَّهُ بِهِ
يَتِمُّ مُضِيُّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِالسَّاعَاتِ فَالْعِبْرَةُ في الْمُضِيِّ
بِهِ لَا لِلْأَيَّامِ الْكَامِلَةِ وفي المجىء ( ( ( المجيء ) ) ) لِأَوَائِلِهَا
هذا هو الْمُتَعَارَفُ
وَلَوْ قال إنْ شَتَمْتُك في الْمَسْجِدِ فَعَبْدِي حُرٌّ فإنه يُعْتَبَرُ في هذا
كَوْنُ الشَّاتِمِ في الْمَسْجِدِ حتى يَحْنَثَ سَوَاءٌ كان الْمَشْتُومُ في
الْمَسْجِدِ أو غَيْرِهِ
وَلَوْ قال إنْ ضَرَبْتُك أو قَتَلْتُك في الْمَسْجِدِ يُعْتَبَرُ فيه مَكَانُ
الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْتُولِ إنْ كان في الْمَسْجِدِ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ له أَثَرٌ في الْمَفْعُولِ يُعْتَبَرُ فيه
مَكَانُ الْمَفْعُولِ وما لَا أَثَرَ له يَظْهَرُ في الْمَفْعُولِ لَا يُعْتَبَرُ
فيه مَكَانُهُ بَلْ مَكَانُ الْفَاعِلِ وَعِلَّةُ هذا الْأَصْلِ تُذْكَرُ في
الْجَامِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْحَالِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عليه وهو الشَّرْطُ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ فما ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَكُلَّمَا هو شَرْطُ جَوَازِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ
الْيَمِينِ بِهِمَا وما لَا فَلَا وَسَنُبَيِّنُ جُمْلَةَ ذلك في كِتَابِ
الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عليه وهو الشَّرْطُ فَمِنْهَا أَنْ
يَكُونَ أَمْرًا في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ
يَمِينًا بَلْ يَكُونُ تَنْجِيزًا حتى لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
كانت السَّمَاءُ فَوْقَنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ في الْحَالِ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ
ما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ أو مَرِيضَةٌ إذَا حِضْت أو مَرِضْت
فَأَنْتِ طَالِقٌ إن ذلك على حَيْضٍ مُسْتَقْبَلٍ وَمَرَضٍ مُسْتَقْبَلٍ وهو
حَيْضٌ آخَرُ يُوجَدُ في الْمُسْتَقْبَلِ أو مَرَضٌ آخَرُ لَا على الْحَالِ فَإِنْ
عَيَّنَتْ ما يَحْدُثُ من هذا الْحَيْضِ وما يَزِيدُ من هذا الْمَرَضِ فَهُوَ كما
نَوَى لِأَنَّ الْحَيْضَ ذُو أَجْزَاءٍ تَحْدُثُ حَالًا فَحَالًا وَكَذَلِكَ
الْمَرَضُ يَزْدَادُ وَيَكُونُ ذلك حَيْضًا وَمَرَضًا فإذا نَوَى ذلك فَقَدْ نَوَى
ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَيُصَدَّقُ
فَإِنْ قال فَإِنْ حِضْت غَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وهو يَعْلَمُ أنها حَائِضٌ
فَهَذَا على هذه الْحَيْضَةِ إذَا دَامَ الْحَيْضُ منها إلَى أَنْ يَنْشَقَّ
الْفَجْرُ من الْغَدِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ تَمَامَ الثَّلَاثَةِ
أو أَكْثَرَ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِحَيْضِهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَعْنِيَ
بِيَمِينِهِ حُدُوثَ حَيْضَةٍ أُخْرَى في غَدٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ
اسْتِمْرَارَ هذه الْحَيْضَةِ وَدَوَامَهَا وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ بِتِلْكَ
السَّاعَةِ لِتَمَامِ الثَّلَاثَةِ أو أَكْثَرَ لِأَنَّ الْحَيْضَ إذَا انْقَطَعَ
فِيمَا دُونَهَا فَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الْيَمِينِ وَإِنْ كان
لَا يَعْلَمُ بِحَيْضِهَا فَهُوَ على حَيْضٍ مُسْتَقْبَلٍ وَيَدِينُ في الْقَضَاءِ
لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِحَيْضِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ حُدُوثَ
الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ هذه الْوُجُوهُ في الْمَرَضِ
وَكَذَلِكَ الْمَحْمُومُ إذَا قال إنْ حَمِيت أو الْمَصْدُوعُ إذَا قال إنْ
صُدِعَتْ وَكَذَلِكَ الرَّعَّافُ وَإِنْ كان صَحِيحًا فقال إنْ صَحَّيْتَ
فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وكان صَحِيحًا حين سَكَتَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وهو
كَبَصِيرٍ قال إنْ أَبْصَرْتُ وَكَسَمِيعٍ قال إنْ سمعت لِأَنَّ الصِّحَّةَ عَرَضٌ
يَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَالْمَوْجُودُ في الزَّمَانِ الثَّانِي غَيْرُ
الْمَوْجُودِ في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وقد حَدَثَتْ له الصِّحَّةُ حين ما فَرَغَ
من هذا الْكَلَامِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلَا
____________________
(3/26)
يُمْكِنُ
شَرْطُ صِحَّةٍ أُخْرَى في الْمُسْتَقْبَلِ كَالْحَيْضِ وَالْمَرَضِ فَتَقَعُ
يَمِينُهُ على ما يَحْدُثُ عَقِيبَ الْكَلَامِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال
لِامْرَأَتِهِ إذَا قُمْتِ أو قَعَدْتِ أو رَكِبْتِ أو لَبِسْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
وَهِيَ قَائِمَةٌ أو قَاعِدَةٌ أو رَاكِبَةٌ أو لَابِسَةٌ أَنَّهُ إذَا مَكَثَ
سَاعَةً بَعْدَ الْيَمِينِ مِقْدَارَ ما يَقْدِرُ على تَرْكِهَا حَنِثَ وَكَذَلِكَ
السُّكْنَى إذَا لم يَأْخُذْ في النَّقْلَةِ من سَاعَتِهِ لِأَنَّ الدَّوَامَ على
هذه الْأَفْعَالِ يعني بِهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهَا يُسَمَّى بِاسْمِ هذه
الْأَفْعَالِ فَقَدْ وُجِدَ ما تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ عَقِيبَ الْيَمِينِ
فَيَحْنَثُ
وَأَمَّا الدُّخُولُ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ
دَاخِلَةٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا على دُخُولٍ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ نَوَى الذي
هو فيه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الدُّخُولَ هو الِانْفِصَالُ من خَارِجٍ إلَى دَاخِلٍ
وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَدُّدَ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْمُ في حَالَةِ
الْبَقَاءِ أَعْنِي الثَّانِيَ في زَمَانِ وُجُودِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لها إنْ خَرَجْتِ وَهِيَ خَارِجَةٌ لِأَنَّ الْخُرُوجَ ضِدُّ
الدُّخُولِ وهو الِانْفِصَالُ من دَاخِلٍ إلَى خَارِجٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ
في الثَّانِي من زَمَانِ وُجُودِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْمُ بِخِلَافِ الْقِيَامِ
وَالرُّكُوبِ وَاللِّبْسِ وَنَحْوِهِمَا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُ يُقَالُ
قُمْتُ يَوْمًا وَرَكِبْتُ يَوْمًا وَلَبِسْتُ يَوْمًا وَلَا يُقَالُ دَخَلْتُ
الدَّارَ يَوْمًا وَلَا خَرَجْتُ من الدَّارِ يَوْمًا على إرَادَةِ الْمُكْثِ
وَكَذَلِكَ الْحَبَلُ إذَا قال لِلْحُبْلَى إذَا حَبِلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَهَذَا يَقَعُ على حَبَلٍ مُسْتَقْبَلٍ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ ابْتِدَاءُ
الْعُلُوقِ عُرْفًا وَعَادَةً
وَلَوْ قال إنْ أَكَلْت أو ضَرَبْتُ فَهُوَ على الْحَادِثِ كُلُّ شَيْءٍ أَكَلَهُ
بَعْدَ يَمِينِهِ أو ضَرَبَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الضَّرْبَ
يَتَجَدَّدُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ ما لم تَحِيضِي أو ما لم
تَحْبَلِي وَهِيَ حُبْلَى أو حَائِضٌ في حَالِ الْحَلِفِ فَهِيَ طَالِقٌ حين
سَكَتَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك منها حين سَكَتَ لِأَنَّهُ جَعَلَ حُدُوثَ
الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ شَرْطَ الْبِرِّ فما لم يُوجَدْ عَقِيبَ الْيَمِينِ
يَحْنَثُ وَإِنْ عَنَى بِهِ ما فيه من الْحَيْضِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ في الْحَبَلِ لِأَنَّ الْحَيْضَ ذُو أَجْزَاءٍ
فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى ما يَحْدُثُ من أَجْزَائِهِ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ فَأَمَّا
الْحَبَلُ فَلَيْسَ بِذِي أَجْزَاءٍ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَيْضَ يَزْدَادُ وَالْحَبَلُ ليس بِمَعْنًى يَحْتَمِلُ
الزِّيَادَةَ فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ في الْمُسْتَقْبَلِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ
حَقِيقَةً لَا عَادَةَ هو شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَإِنْ كان مِمَّا
يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً لَا يَنْعَقِدُ كما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إنْ
وَلَجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
وَإِنْ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ
يُذْكَرُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ أَيْ طَلَاقُك أَمْرٌ لَا يَكُونُ أَصْلًا
وَرَأْسًا كما لَا يَلِجُ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ وَلَا يَجْتَمِعُ
الضِّدَّانِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتى يَلِجَ
الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ } أَيْ لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا وَعَلَى هذا
يُخَرَّجُ ما إذَا قال إنْ لم أَشْرَبْ الْمَاءَ الذي في هذا الْكُوزِ فَامْرَأَتُهُ
طَالِقٌ أو عَبْدُهُ حُرٌّ أو قال إنْ لم أَقْتُلْ فُلَانًا وَلَا مَاءَ في
الْكُوزِ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وهو يَعْلَمُ بِذَلِكَ أو لَا يَعْلَمُ بِهِ وقد
ذَكَرْنَا جُمْلَةَ هذا وَتَفْصِيلَهُ وما فيه من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وما يَتَّصِلُ بِذَلِكَ من الْمَسَائِلِ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ
فَقِيَامُ الْمِلْكِ فيه وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ أو إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ
وَسَنُبَيِّنُ ذلك في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَذْكُرُ ذلك كُلَّهُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فما ذَكَرْنَا في الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى وهو عَدَمُ إدْخَالِ الِاسْتِثْنَاءِ عليه فإذا أَدْخَلَ عليه
الِاسْتِثْنَاءَ أَبْطَلَهُ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أو قال ما شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أو قال بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى أو قال إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أو قال بِإِرَادَةِ اللَّهِ
أو بِقَضَاءِ اللَّهِ أو بِقُدْرَتِهِ وَلَوْ قال إنْ أَعَانَنِي اللَّهُ أو
بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ
الشَّيْءَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعَانَةَ عليه فَلَا يُمْكِنُ
حَمْلُهُ على التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عن الِاسْتِثْنَاءِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال إنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أو قال بِتَيْسِيرِ اللَّهِ
تَعَالَى وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ وَسَنَذْكُرُ شَرَائِطَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ
في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَنَذْكُرُ أَنَّ منها أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا
بِالْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وهو أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ إلَّا أَنْ
يَكُونَ الْفَصْلُ لِضَرُورَةٍ وَعَلَى هذا ما رُوِيَ عن ابْنِ سِمَاعَةَ عن أبي
يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا فَاعْلَمِي ذلك إلَّا بِإِذْنِي أو قال إنْ شَاءَ اللَّهُ إنه يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ فَلَا تَطْلُقُ وَإِنْ خَرَجَتْ من الدَّارِ لِأَنَّ حَرْفَ
الْفَاءِ حَرْفُ عَطْفٍ فَيَقْتَضِي تَعَلُّقَ ما دَخَلَتْ عليه الْجُمْلَةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا
وَإِنْ قال اعْلَمِي ذلك أو اذْهَبِي لم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ لم
يُوجَدْ ما يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْمَذْكُورِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَصَارَ
كَلَامًا مُبْتَدَأً فَكَانَ
____________________
(3/27)
فَاصِلًا
قَاطِعًا لِلِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْخُرُوجِ
وقال الْقُدُورِيُّ وَيَنْبَغِي على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَصِحَّ
الِاسْتِثْنَاءُ وَيَقَعَ الطَّلَاقُ في الْفَصْلَيْنِ جميعا بِنَاءً على أَصْلِهِ
فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ بين الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حَائِلٌ فإذا دخل لم
يَكُنْ يَمِينًا وَتَعْلِيقًا بَلْ يَكُونُ تَنْجِيزًا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ
إدْخَالُ النِّدَاءِ في وَسَطِ الْكَلَامَيْنِ أَنَّهُ يَكُونُ فَاصِلًا مَانِعًا
من التَّعْلِيقِ أَوَّلًا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ النِّدَاءَ أَنْوَاعٌ
ثَلَاثَةٌ نِدَاءٌ بِالْقَذْفِ بِأَنْ يَقُولَ يا زَانِيَةُ وَنِدَاءٌ
بِالطَّلَاقِ بِأَنْ يَقُولَ يا طَالِقُ وَنِدَاءٌ بِالْعَلَمِ بِأَنْ يَقُولَ يا
زَيْنَبُ أو يا عَمْرَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ على
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن ذَكَرَ النِّدَاءَ في أَوَّلِ الْكَلَامِ وَإِمَّا إن
ذَكَرَهُ في أَوْسَطِهِ وَإِمَّا إن ذَكَرَهُ في آخِرِهِ وَكُلُّ ذلك يَنْقَسِمُ
إلَى قِسْمَيْنِ إمَّا إن عُلِّقَ بِشَرْطٍ وهو دُخُولُ الدَّارِ وَنَحْوُهُ
وَإِمَّا أَنْ نَجَّزَ وَأَدْخَلَ فيه الِاسْتِثْنَاءَ فقال إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
أَمَّا النِّدَاءُ بِالْقَذْفِ إذَا ذَكَرَهُ في أَوَّلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ
لَا يَمْنَعُ من التَّعْلِيقِ وَيَكُونُ قَذْفًا صَحِيحًا بِأَنْ قال
لِامْرَأَتِهِ يا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لِأَنَّ قَوْلَهُ
يا زَانِيَةُ وَإِنْ كان مَوْضُوعًا لِلنِّدَاءِ لَكِنَّهُ وَصْفٌ لها بِالزِّنَا
من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو
الزِّنَا وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ من مَعْنًى يَقْتَضِي وُجُودَ ذلك الْمَعْنَى
لَا مَحَالَةَ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ من الْمَعَانِي من
الْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَنَحْوِ ذلك سَوَاءٌ كان الِاسْمُ مَوْضُوعًا
لِلنِّدَاءِ أو غَيْرِهِ فَصَارَ بِوَصْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا وَنِسْبَةِ
الزِّنَا إلَيْهَا قَاذِفًا لها بِالزِّنَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ وَمُوجَبُ قَذْفِ
الزَّوْجَاتِ اللِّعَانُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ اللِّعَانِ ثُمَّ صَارَ
مُعَلِّقًا طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ
وَهَذَا لِأَنَّهُ إذا نَادَاهَا لِتَتَنَبَّهَ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ فلما
تَنَبَّهَتْ خَاطَبَهَا بِالْيَمِينِ وَهِيَ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ
الدَّارِ وَكَذَا لو قال يا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
صَارَ قَاذِفًا لِمَا قُلْنَا وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِدُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ
فيه وَلَوْ بَدَأَ بِالنِّدَاءِ في الطَّلَاقِ فقال يا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
دَخَلْت الدَّارَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ يا طَالِقُ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا
بِالطَّلَاقِ فَيَقْتَضِي تَقَدُّمَ ثُبُوتِ الطَّلَاقِ على وَصْفِهِ إيَّاهَا
لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْوَصْفِ وَتَعَلُّقِ طَلَاقٍ آخَرَ بِدُخُولِ الدَّارِ
لِمَا ذَكَرْنَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَكَذَا لو قال يا طَالِقُ أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ يا طَالِقُ ولم
يَقَعْ الثَّانِي لِدُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عليه
وَلَوْ بَدَأَ بِالنِّدَاءِ بِالْعَلَمِ فقال يا عَمْرَةُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
دَخَلْت الدَّارَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ
لِأَنَّهُ بِنِدَائِهِ إيَّاهَا بِالْعَلَمِ نَبَّهَهَا على سَمَاعِ كَلَامِهِ
ثُمَّ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالدُّخُولِ وَكَذَا لو قال يا عَمْرَةُ أَنْتِ طَالِقٌ
يا عَمْرَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا
هذا إذَا بَدَأَ بِالنِّدَاءِ إمَّا بِالْقَذْفِ أو بِالطَّلَاقِ أو بِالْعَلَمِ
فَأَمَّا إذَا أتى بِالنِّدَاءِ في وَسَطِ الْكَلَامِ في التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ
بِأَنْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ يا زَانِيَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ رَوَى
ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا وَيَتَعَلَّقُ
الطَّلَاقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَيَصِيرُ قَاذِفًا وَيَجِبُ اللِّعَانُ وكان أبو
يُوسُفَ يقول بهذا الْقَوْلِ ثُمَّ رَجَعَ وقال يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ وَلَا
يَصِيرُ قَاذِفًا حتى لَا يَجِبَ اللِّعَانُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ إن الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ
وَلَا يَصِيرُ النِّدَاءُ فَاصِلًا بين الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَانِعًا من
التَّعْلِيقِ وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ
قال الْمَشَايِخُ ما ذَكَرَهُ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ هو قَوْلُهُ الْأَخِيرُ
وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ فَحَصَلَ في
الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ تَعَلَّقَ وَبَطَلَ
في نَفْسِهِ وَتَعَلَّقَ القذف الطَّلَاقُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعَلَّقَ
الطَّلَاقُ ولم يَتَعَلَّقْ الْقَذْفُ بَلْ تَحَقَّقَ لِلْحَالِ وَعَلَى قَوْلِ
أبي يُوسُفَ تَعَلَّقَ الْقَذْفُ فَبَطَلَ في نَفْسِهِ ولم يَتَعَلَّقْ الطَّلَاقُ
بَلْ تَنَجَّزَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
عَقِيبَ قَوْلِهِ يا زَانِيَةُ فَقَدْ عَلَّقَ الْقَذْفَ بِالشَّرْطِ وَالْقَذْفُ
لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ وَصْفُ الشَّخْصِ بِالزِّنَا كَقَوْلِهِ
قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ أَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَوَصْفُ
الشَّيْءِ بِصِفَةٍ يَكُونُ إخْبَارًا عن وُجُودِ الصِّفَةِ فيه وَالْإِخْبَارُ
مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ حتى يَكُونَ صَادِقًا عِنْدَ وُجُودِهِ
كَاذِبًا عِنْدَ عَدَمِهِ أو مُخْبِرًا عِنْدَ وُجُودِهِ غير مُخْبِرٍ عِنْدَ
عَدَمِهِ وإذا لم يَتَعَلَّقْ صَارَ لَغْوًا فَصَارَ حَائِلًا بين الشَّرْطِ
وَالْجَزَاءِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ لَكِنْ مع هذا لَا يَصِيرُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ
قَصَدَ تَعْلِيقَ الْقَذْفِ بِالشَّرْطِ وَمَنْ قَصَدَ تَعْلِيقَ شَيْءٍ بِشَرْطٍ
لَا يَكُونُ مُثْبِتًا له في الْحَالِ فلم يَصِرْ قَاذِفًا وَعِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا أَيْضًا لِأَنَّهُ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حتى يَنْزِلَ
عِنْدَ وُجُودِهِ
وَجْهُ ما رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ إن قَوْلَهُ يا زَانِيَةُ وَإِنْ لم
يَتَعَلَّقْ وَلَكِنَّهُ مع هذا لَا يَصِيرُ لَغْوًا لِأَنَّهُ لِتَأْكِيدِ
الْخِطَابِ الْمَوْجُودِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طالقفصار مُؤَكِّدًا لِبَابِ الْخِطَابِ
فَالْتَحَقَ بِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ يا زَانِيَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
طَالِقٌ
____________________
(3/28)
فَتَعَلَّقَ
الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ وَبَقِيَ الْقَذْفُ مُتَحَقِّقًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو
قال أَنْتِ طَالِقٌ يا عَمْرَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ صَحَّ التَّعْلِيقُ ولم
يَصِرْ قَوْلُهُ يا عَمْرَةُ فَاصِلًا كَذَا هَهُنَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أن تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ قد صَحَّ لِمَا
مَرَّ في كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَالْقَذْفُ لم يَتَحَقَّقْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ
عَقِيبَهُ الشَّرْطَ وَالْقَذْفُ مَتَى عُلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَقْصِدُ
الْإِنْسَانُ تَحْقِيقَهُ لِلْحَالِ وَالِيًا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ على ما
مَرَّ وكان الْقَاضِي الْجَلِيلُ يقول تَعْلِيقُ الْقَذْفِ بِالشَّرْطِ يَكُونُ
تَبْعِيدًا لِلْقَذْفِ كما يقول الرَّجُلُ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتُهُ
زَانِيَةٌ أو أُمُّهُ زَانِيَةٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَبْعِيدَ الْفِعْلِ وَلَنْ
يَتَحَقَّقَ تَبْعِيدُ الْفِعْلِ إلَّا بِتَبْعِيدِ الِاتِّصَافِ بِالزِّنَا عن
أُمِّهِ وَامْرَأَتِهِ وَبِمِثْلِ هذا يَحْصُلُ الْوَصْفُ بِالْإِحْصَانِ دُونَ
الْوَصْفِ بِالزِّنَا وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَكَذَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ يا زَانِيَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ
على هذا الْخِلَافِ وَلَوْ كان النِّدَاءُ بِالطَّلَاقِ بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ
يا طَالِقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ هذا أَيْضًا على الْخِلَافِ بين أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بين هذا وَبَيْنَ النِّدَاءِ
بِالزِّنَا بِقَوْلِهِ يا زَانِيَةُ وَيَقُولُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مُنَجَّزًا
بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَيَصِيرُ
كَقَوْلِهِ يا طَالِقُ فَاصِلًا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ إن قَوْلَهُ يا طَالِقُ وَإِنْ كان نِدَاءً فَهُوَ إيقَاعُ
الطَّلَاقِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ يا طَالِقُ إيقَاعًا عَقِيبَ إيقَاعٍ
من غَيْرِ عَطْفِ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَالشَّرْطُ اتَّصَلَ بِآخِرِ
الْإِيقَاعَيْنِ دُونَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فَبَقِيَ الْأَوَّلُ تَنْجِيزًا
بِخِلَافِ قَوْلِهِ يا زَانِيَةُ فإنه نِدَاءٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ من
تَاءِ الْخِطَابِ لَا إيقَاعٌ فلم يَتَعَلَّقْ بِهِ فلم يَصِرْ حَائِلًا فلم
يَمْنَعْ من تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ يا طَالِقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ هذا أَيْضًا على ما
ذَكَرْنَا من الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بين هذا
وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يا زَانِيَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كان
النِّدَاءُ بِالْعَلَمِ بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ يا عَمْرَةُ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَهَهُنَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وأبو
يُوسُفَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين هذا وَبَيْنَ قَوْلِهِ يا زَانِيَةُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ يا عَمْرَةُ لَا يُفِيدُ إلَّا ما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ
أَنْتِ فَكَانَ تَأْكِيدًا له فَالْتَحَقَ بِهِ فلم يَصِرْ فَاصِلًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ يا زَانِيَةُ فَفِيهِ زِيَادَةُ أَمْرٍ لَا تُفِيدُهُ تَاءُ
الْخِطَابِ وهو إثْبَاتُ وَصْفِ الزِّنَا وَيَتَعَلَّقُ بِهِ شَرْعًا حُكْمٌ وهو الْحَدُّ
أو اللِّعَانُ في الْجُمْلَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَكْرَارًا لِلتَّاءِ
الْمَوْضُوعَةِ لِلْخِطَابِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا في نَفْسِهِ فلم يَصِرْ
مُلْتَحِقًا بِتَاءِ الْخِطَابِ فَبَقِيَ فَاصِلًا فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فيه
فبخلافه ( ( ( بخلافه ) ) ) على ما مَرَّ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ يا عَمْرَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ
لِمَا مَرَّ هذا إذَا أتى بِالنِّدَاءِ في أَوَّلِ الْكَلَامِ أو وَسَطِهِ
فَأَمَّا إذَا أتى بِهِ في آخِرِ الْكَلَامِ أَمَّا في النِّدَاءِ بِالزِّنَا
بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يا زَانِيَةُ فإن الطَّلَاقَ
يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالدُّخُولِ ثُمَّ
نَادَاهَا بَعْدَ ذلك فَصَارَ قَاذِفًا ولم يُوجَدْ بَعْدَ الْقَذْفِ شَرْطٌ
لِيُقَالَ أَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيقَ الْقَذْفِ بَعْدَ تَحْقِيقِهِ
وَكَذَا في قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يا زَانِيَةُ بَطَلَ
الطَّلَاقُ وَتَحَقَّقَ الْقَذْفُ وفي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ يا طَالِقُ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ بِالدُّخُولِ وَوَقَعَ بِقَوْلِهِ يا
طَالِقُ طَلَاقٌ لِدُخُولِ الشَّرْطِ في الْأَوَّلِ دُونَ قَوْلِهِ يا طَالِقُ
وَكَذَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يا طَالِقُ وَكَذَا قَوْلُهُ
أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يا عَمْرَةُ فَهَذَا رَجُلٌ عَلَّقَ
الطَّلَاقَ بِدُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ نَادَاهَا وَنَبَّهَهَا بِالنِّدَاءِ على
الْيَمِينِ وَالْخِطَابِ فَصَحَّ التَّعْلِيقُ
وَكَذَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يا عَمْرَةُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ
لِمَا مَرَّ
قال أبو حَنِيفَةَ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ ولم يَدْخُلْ بها أَنْتِ طَالِقٌ يا
زَانِيَةُ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ وَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ
وقال أبو يُوسُفَ هِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَعَلَيْهِ الْحَدُّ أبو حَنِيفَةَ لم
يُفَرِّقْ بين الْمَدْخُولِ بها وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بها لِأَنَّ قَوْلَهُ يا
زَانِيَةُ نِدَاءٌ فَلَا يَفْصِلُ بين الْعَدَدِ وهو قَوْلُهُ ثَلَاثًا وَبَيْنَ
أَصْلِ الْإِيقَاعِ وهو قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وإذا لم يَفْصِلْ فَيُوقَفْ
الْوُقُوعُ على آخِرِ الْكَلَامِ وهو قَوْلُهُ ثَلَاثًا فَتَبِينُ فَلَا يُمْكِنُ
إلْحَاقُ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وأبو يُوسُفَ يقول إنَّ قَوْلَهُ يا زَانِيَةُ
يَفْصِلُ بين الْإِيقَاعِ وَالْعَدَدِ فَبَانَتْ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ
فَصَادَفَهَا قَوْلُهُ يا زَانِيَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَيَجِبُ عليه الْحَدُّ
وَيَلْغُو قَوْلُهُ ثَلَاثًا
قال أبو يُوسُفَ وَلَا يُشْبِهُ هذا الْمَدْخُولَ بها إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ
يا زَانِيَةُ ثَلَاثًا أنها تَبِينُ بِثَلَاثٍ وَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّا
وَإِنْ اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُ يا زَانِيَةُ فَاصِلًا فإنه لَا يَمْنَعُ إلْحَاقَ
الثَّلَاثِ بِهِ فإنه لو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ فَقِيلَ له كَمْ فقال
ثَلَاثًا فَكَذَا إذَا فُصِلَ بِقَوْلِهِ يا زَانِيَةُ
وقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ إذَا قال لها قبل الدُّخُولِ بها أَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا أو قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ
أَنْتِ طَالِقٌ قبل قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا بَاطِلٌ لَا يَلْزَمُهُ
طَلَاقٌ لِأَنَّ الْعَدَدَ إذَا قُرِنَ بِالتَّطْلِيقِ كان الْوَاقِعُ هو
الْعَدَدَ وَهِيَ عِنْدَ ذلك لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عليها
وَالشَّرْطُ إذَا لَحِقَ بِآخِرِ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ
____________________
(3/29)
على
آخِرِهِ وَلَا يُفْصَلُ آخِرُ الْكَلَامِ عن أَوَّلِهِ وقد حَصَلَ آخِرُ
الْكَلَامِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يا عَمْرَةُ
فَمَاتَتْ قبل أَنْ يَقُولَ يا عَمْرَةُ فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ يا
عَمْرَةُ نِدَاءٌ ليس بِشَرْطٍ وَلَا عَدَدٍ يَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عليه فَلَا
يَتَوَقَّفُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ هذه الْيَمِينِ فَحُكْمُهَا وَاحِدٌ وهو وُقُوعُ
الطَّلَاقِ أو الْعَتَاقِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَتَبَيَّنَ
أَنَّ حُكْمَ هذه الْيَمِينِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْمُعَلَّقِ
بِالشَّرْطِ ثُمَّ نُبَيِّنُ أَعْيَانَ الشُّرُوطِ التي تَعَلَّقَ بها الطَّلَاقُ
وَالْعَتَاقُ على التَّفْصِيلِ وَمَعْنَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حتى إذَا وُجِدَ
ذلك الْمَعْنَى يُوجَدُ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِلَّا
فَلَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ هو تَعْلِيقُ
الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ وَمَعْنَى تَعْلِيقِهِمَا بِالشَّرْطِ وهو
إيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ في زَمَانِ ما بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يُعْقَلُ له
مَعْنًى آخَرُ فإذا وُجِدَ رُكْنُ الايقاع مع شَرَائِطِهِ لَا بُدَّ من الْوُقُوعِ
عِنْدَ الشَّرْطِ فَأَمَّا عَدَمُ الْوُقُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَلَيْسَ
حُكْمُ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا بَلْ هو حُكْمُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ
لِأَنَّ الْوُقُوعَ لم يَكُنْ ثَابِتًا في الْأَصْلِ وَالثُّبُوتُ على حَسْبِ
الْإِثْبَاتِ وَالْحَالِفُ لم يُثْبِتْ إلَّا بَعْدَ الشَّرْطِ فَبَقِيَ حُكْمُهُ
بَاقِيًا على أَصْلِ الْعَدَمِ لَا أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ مُوجِبَ التَّعْلِيقِ
بِالشَّرْطِ بَلْ مُوجِبُهُ الْوُقُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَقَطْ ثُمَّ
الشَّرْطُ إنْ كان شيئا وَاحِدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِهِ بِأَنْ قال
لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
دَخَلْت هذه الدَّارَ يَسْتَوِي فيه تَقْدِيمُ الشَّرْطِ في الذِّكْرِ
وَتَأْخِيرُهُ وَسَوَاءٌ كان الشَّرْطُ مُعَيَّنًا أو مُبْهَمًا بِأَنْ قال إنْ
دَخَلْت هذه الدَّارَ أو هذه فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت
هذه الدَّارَ أو هذه
وَكَذَلِكَ إذَا كان وَسَطَ الْجَزَاءِ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ أو هذه الدَّارَ لِأَنَّ كَلِمَةَ أو هَهُنَا تَقْتَضِي
التَّخْيِيرَ فَصَارَ كُلُّ فِعْلٍ على حِيَالِهِ شَرْطًا فَأَيُّهُمَا وُجِدَ
وَقَعَ الطَّلَاقُ
وَكَذَلِكَ لو أَعَادَ الْفِعْلَ مع آخَرِ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ أو
دَخَلْت هذه سَوَاءٌ أَخَّرَ الشَّرْطَ أو قَدَّمَهُ أو وَسَّطَهُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ أو هذه
الدَّارَ
وَإِنْ دَخَلْت هذه فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّ الْيَمِينَ على أَنْ يَدْخُلَ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ
وَيَدْخُلَ الثَّالِثَةَ فَأَيِّ الْأُولَيَيْنِ دخل وَدَخَلَ الثَّالِثَةَ حَنِثَ
لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ دُخُولَ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَدُخُولَ
الثَّالِثَةِ
لِأَنَّهُ ذَكَرَ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ بِكَلِمَةٍ أو فَيَتَنَاوَلُ إحْدَاهُمَا
ثُمَّ جَمَعَ دُخُولَ الثَّالِثَةِ إلَى دُخُولِ إحْدَاهُمَا لِوُجُودِ حَرْفِ
الْجَمْعِ وهو الْوَاوُ في قَوْلِهِ وَإِنْ دَخَلْت هذه فَصَارَ دُخُولُ
الثَّالِثَةِ مع دُخُولِ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ شَرْطًا وَاحِدًا فإذا وُجِدَ
حِنْثُ
هذا إذَا أَدْخَلَ كَلِمَةَ أو بين شَرْطَيْنِ في يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فَأَمَّا إذَا
أَدْخَلَهَا بين ايقاع وَيَمِينٍ أو بين يَمِينَيْنِ كما رَوَى ابن سِمَاعَةَ
وَبِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أو
وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَن هذا الْخَادِمَ الْيَوْمَ فَضَرَبَ الْخَادِمَ من يَوْمِهِ
فَقَدْ بَرَّ في يَمِينِهِ وَبَطَلَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بين
الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الضَّرْبِ في الْيَوْمِ فإذا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى
الْآخَرُ فإذا مَضَى الْيَوْمُ قبل أَنْ يَضْرِبَ الْخَادِمَ فَقَدْ حَنِثَ في
يَمِينِهِ وَيُخَيَّرُ فَإِنْ شَاءَ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَ
نَفْسَهُ الْيَمِينَ لِأَنَّهُ قد حَنِثَ في أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وهو الْمُبْهَمُ
فَكَانَ إلَيْهِ التَّعْيِينُ فَإِنْ قال في الْيَوْمِ قبل مُضِيِّهِ قد اخْتَرْتُ
إن أُوقِعَ الطَّلَاقَ لَزِمَهُ وَبَطَلَتْ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ
بين الْإِيقَاعِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ فإذا أَوْقَعَ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ
وَلَوْ قال قد اخْتَرْتُ الْتِزَامَ الْيَمِينِ وَأَبْطَلْتِ الطَّلَاقَ فإن
الطَّلَاقَ لَا يَبْطُلُ حتى لو مَضَى الْيَوْمُ قبل أَنْ يَضْرِبَ الْخَادِمَ
حَنِثَ في يَمِينِهِ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْتِزَامِ الْيَمِينِ لَا يُبْطِلُ
الْيَمِينَ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَجِبُ على الْإِنْسَانِ بِالِالْتِزَامِ حتى
يَبْطُلَ بِالِاخْتِيَارِ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ على حَالِهَا
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أو وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ
فُلَانَةَ فَمَاتَتْ فُلَانَةُ قبل أَنْ يَضْرِبَهَا فَقَدْ حَنِثَ في يَمِينِهِ
وهو مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الطَّلَاقَ وَإِنْ شَاءَ الْكَفَّارَةَ
لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فَاتَ بِمَوْتِهَا فَحَنِثَ في إحْدَى الْيَمِينَيْنِ
وَلَوْ كان الرَّجُلُ هو الْمَيِّتَ وَالْمَحْلُوفُ على ضَرْبِهَا حَيَّةً فَقَدْ
وَقَعَ الْحِنْثُ على الرَّجُلِ وَالطَّلَاقُ وقد مَاتَ قبل أَنْ يُبَيِّنَ فَلَا
يَقَعُ الطَّلَاقُ عليها وَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ لَمَّا كان مُخَيَّرًا بين
الطَّلَاقِ وَالْتِزَامِ الْكَفَّارَةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ وَلَا
يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ على الْبَيَانِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وهو الْكَفَّارَةُ لَا
يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا يَقْدِرُ الْحَاكِمُ على إلْزَامِهِ وَلَكِنْ
يَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ كان بَدَلَ
الْكَفَّارَةِ طَلَاقُ أُخْرَى فقال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أو هذه فَهَهُنَا
يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ حتى يُبَيِّنَ لِأَنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقٌ وأنه
____________________
(3/30)
مِمَّا
يَدْخُلُ في الْحُكْمِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ أو عَلَيَّ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ لم يُجْبِرْهُ
الْحَاكِمُ على الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يُفْتِي في الْوُقُوعِ أَنْ يُوقِعَ
أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُبْطِلَ الْأُخْرَى
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أو فُلَانَةُ عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي
الْيَمِينَ فإنه يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ الْفَتْوَى وَلَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي حتى
يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قبل أَنْ يَقْرَبَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على أَنْ
يُسْقِطَ ذلك عن نَفْسِهِ بِالْكَفَّارَةِ فإذا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قبل
أَنْ يَقْرَبَ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ حُكْمٍ وَيُقَالُ له أَوْقِعْ طَلَاقَ
الْإِيلَاءِ على التي حَرَّمْتَ أو طَلَاقَ الْكَلَامِ على التي تَكَلَّمْتَ
بِطَلَاقِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ على إحْدَاهُمَا فَخُيِّرَ
فيه تَخْيِيرَ الْحَاكِمِ
وقال مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هذه الدَّارَ أو
لَا أَدْخُلُ هذه فَإِنْ دخل إحْدَاهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ أو إذَا
دَخَلَتْ بين شَيْئَيْنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ على الِانْفِرَادِ قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا }
ولو قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هذه الدَّارَ أَبَدًا أو لَأَدْخُلَنَّ هذه
الدَّارَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ فَإِنْ دخل الْأُولَى حَنِثَ وَإِنْ لم يَدْخُلْهَا
ولم يَدْخُلْ الْأُخْرَى حتى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ
في الْيَمِينِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ الْأُولَى أو يَدْخُلَ الْأُخْرَى في
الْيَوْمِ فَإِنْ دخل الْأُخْرَى في الْيَوْمِ بَرَّ في يَمِينِهِ وَإِنْ مَضَى
الْيَوْمُ حَنِثَ في إحْدَى الْيَمِينَيْنِ
قال ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ سمعت مُحَمَّدًا قال في رَجُلٍ قال عَبْدُهُ
حُرٌّ إنْ لم يَدْخُلْ هذه الدَّارَ الْيَوْمَ فَإِنْ لم يَدْخُلْهَا الْيَوْمَ
دخل هذه قال مُحَمَّدٌ ليس هذا بِاسْتِثْنَاءٍ وَالْيَمِينُ على حَالِهَا وَلَا
أُبَالِي وَصَلَ هذا الْكَلَامِ أو فَصَلَهُ فَإِنْ لم يَدْخُلْ الدَّارَ
الْأُولَى الْيَوْمَ حَنِثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ لم يَدْخُلْهَا ليس بِلَفْظِ
تَخْيِيرٍ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى بِحَالِهَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الشَّرْطُ شيئا وَاحِدًا فَإِنْ كان شَيْئَيْنِ بِأَنْ عَطَفَ
أَحَدَهُمَا على الْآخَرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطَيْنِ
لِأَنَّهُ عَلَّقَهُمَا بِهِمَا فَلَوْ نَزَلَ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا
لَنَزَلَ من غَيْرِ صُنْعِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرْطَيْنِ
على الْجَزَاءِ في الذِّكْرِ أو أَخَّرَهُمَا أو وَسَّطَ الْجَزَاءَ بِأَنْ قال
لها إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ أو قال إنْ دَخَلْت هذه
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا عِنْدَ
دُخُولِ الدَّارَيْنِ جميعا
أَمَّا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَيْنِ على الْجَزَاءِ أو أَخَّرَهُمَا عنه
فَلِأَنَّهُ جَمَعَ بين الشَّرْطَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ
الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ
الْجَمْعِ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو
أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا
عِنْدَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ جميعا كَذَا هذا
وَإِنَّمَا اسْتَوَى فيه تَقْدِيمُ الشَّرْطَيْنِ وَتَأْخِيرُهُمَا لِأَنَّ
الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَيْفَمَا كان فَكَانَ التَّقْدِيمُ
وَالتَّأْخِيرُ فيه سَوَاءً
وَأَمَّا إذَا وَسَّطَ الْجَزَاءَ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ يُعْطَفُ على جِنْسِهِ لَا
على غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَا يَصِحُّ عَطْفُ الشَّرْطِ على الْجَزَاءِ فَيُجْعَلُ
مَعْطُوفًا على الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ إذَا كان الْعَطْفُ بِحَرْفِ الْفَاءِ بِأَنْ
قال إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَهَذِهِ الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ أو قال أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَهَذِهِ الدَّارَ أو قال إنْ دَخَلْت هذه
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذِهِ الدَّارَ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَلَا يَقَعُ
الطَّلَاقُ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ هَذَيْنِ الدَّارَيْنِ جميعا كما في الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُرَاعَى التَّرْتِيبُ في دُخُولِ
الدَّارَيْنِ وَهَهُنَا يُرَاعَى وهو أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ
دُخُولِهَا الْأُولَى وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْوَاوَ
وَالْفَاءَ وَإِنْ كانت كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَرْفَ عَطْفٍ وَجَمْعٍ لَكِنَّ
الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالْفَاءَ لِلْجَمْعِ الْمُقَيَّدِ وهو
الْجَمْعُ على سَبِيلِ التَّعْقِيبِ لِذَلِكَ لَزِمَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ في
الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان الْعَطْفُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت هذه
الدَّارَ ثُمَّ هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
أو قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ ثُمَّ هذه الدَّارَ أو قال إنْ
دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ هذه الدَّارَ فَهَذِهِ وَالْفَاءُ
سَوَاءٌ في أَنَّهُ يُرَاعَى التَّرْتِيبُ في الدُّخُولِ في كل وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دُخُولُ الدَّارِ
الثَّانِيَةِ مُتَرَاخِيًا عن دُخُولِ الْأُولَى لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ
لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ مع التَّرَاخِي هذا إذَا كُرِّرَ حَرْفُ الْعَطْفِ
بِدُونِ الْفِعْلِ فَإِنْ كُرِّرَ مع الْفِعْلِ فَإِنْ كان بِالْوَاوِ بِأَنْ قال
إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ وَدَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ وَدَخَلْت هذه الدَّارَ فَهَذَا وما إذَا
كُرِّرَ حَرْفُ الْعَطْفِ بِدُونِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ
الْمُطْلَقِ فَيَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الشَّرْطَيْنِ فَيَسْتَوِي فيه إعَادَةُ
الْفِعْلِ وَعَدَمُ الْإِعَادَةِ وَإِنْ كانت بِالْفَاءِ فقال إنْ دَخَلْت هذه
الدَّارَ فَدَخَلَتْ هذه الدَّارَ الْأُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ أو قال أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَدَخَلْت هذه الدَّارَ الْأُخْرَى فَقَدْ
ذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْفَاءِ وَبَيْنَ
الْوَاوِ في هذه الْأَوْجُهِ
____________________
(3/31)
فقال
في الْأَوَّلِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ من غَيْرِ
مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ وفي الثَّانِي لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ
الْمَذْكُورُ بِالْفَاءِ آخِرًا حتى لو دَخَلَتْ الدَّارَ الثَّانِيَةَ قبل
الْأُولَى ثُمَّ دَخَلَتْ الْأُولَى لَا يَحْنَثُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ
من غَيْرِ شَرْطِ التَّرْتِيبِ وَالْفَاءَ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فَيَسْتَدْعِي
تَأَخُّرَ الْفِعْلِ الثَّانِي عن الْأَوَّلِ
وقد ذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في هذا زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فقال في رَجُلٍ
قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ
طَالِقٌ ولم يَدْخُلْ بها ثُمَّ طَلَّقَهَا فَدَخَلَتْ دَارَ فُلَانٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
فَدَخَلَتْ الدَّارَ الثَّانِيَةَ لم تَطْلُقْ كَأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ دَارِ
فُلَانٍ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ حَالِفًا حين
دَخَلَتْ الدَّارَ الْأُولَى وَلَا مِلْكَ له في ذلك الْوَقْتِ فَيَصِيرُ حَالِفًا
بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَلَا تَطْلُقُ وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ
الثَّانِيَةَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ لما لم تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ
وقد رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ مِثْلُ هذه في مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فقال إذَا قال
لِامْرَأَتَيْنِ له إذَا غَشِيت هذه فإذا غَشِيت هذه الْأُخْرَى فَعَبْدِي حُرٌّ
فَلَيْسَ الْحَلِفُ على الْأُولَى إنَّمَا تَنْعَقِدُ عليه الْيَمِينُ في
الثَّانِيَةِ إذَا غَشِيَ الْأُولَى وَيَكُونُ مُولِيًا من الثَّانِيَةِ إذَا غشى
الْأُولَى وَالْفَاءُ في هذه الْمَوَاضِعِ لَا تُشْبِهُ الْوَاوَ فَدَلَّ ذلك على
أَنَّهُ جَعَلَ غِشْيَانَ الْأُولَى شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ في
الثَّانِيَةِ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ قبل الدُّخُولِ بها أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه
الدَّارَ وَإِنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ أو وَسَّطَ الْجَزَاءَ بِأَنْ قال إنْ
دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فإن أَبَا
يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا قَالَا أَيَّ الدَّارَيْنِ دَخَلَتْ طَلُقَتْ وَسَقَطَتْ
الْيَمِينُ وَلَا تَطْلُقُ بِدُخُولِ الدَّارِ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا
أَعَادَ حَرْفَ الشَّرْطِ مع الْفِعْلِ فلم يَكُنْ عَطْفًا على الْأُولَى في
الشَّرْط بَلْ صَارَ ذلك يَمِينًا أُخْرَى أُضْمِرَ فيها الْجَزَاءُ فَأَيُّهُمَا
وُجِدَ نَزَلَ الْجَزَاءُ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ لِأَنَّ جَزَاءَ الثَّانِي لم
يَبْقَ وَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَيْنِ على الجواء ( ( ( الجزاء ) ) ) فقال إنْ
دَخَلْت هذه الدَّارَ وَإِنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا
لَا تَطْلُقُ حتى تَدْخُلَ الدَّارَيْنِ جميعا وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَوَى ابن
سِمَاعَةَ عنه وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ وقال هو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عن أبي يُوسُفَ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ سَوَّى بين ذلك فقال
أَيَّ الدَّارَيْنِ دَخَلَتْ طَلُقَتْ كما في الْأُولَى
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ الشَّرْطَ على الشَّرْطِ قبل
الْجَزَاءِ دَلَّ ذلك على أنها يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ
وهو قَوْلُهُ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ ليس بِتَامٍّ لِأَنَّهُ لَا جَزَاءَ له
فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذلك وَإِنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ يَكُونُ شَرْطًا على حِدَةً
إلَّا أَنَّهُ لم يُذْكَرْ له جَزَاءٌ فَكَانَ جَزَاءُ الْأَوَّلِ جَزَاءَ
الثَّانِي فَأَيُّهُمَا وُجِدَ نَزَلَ الْجَزَاءُ وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ
الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لم يَبْقَ لها جَزَاءٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ هُنَاكَ الْيَمِينَ قد تَمَّتْ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ فلما أَعَادَ حَرْفَ
الشَّرْطِ مع الْفِعْلِ دَلَّ ذلك على أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ على الْجَزَاءِ
وَتَأْخِيرَهُ عنه في بَابِ الْيَمِينِ سَوَاءٌ وَلَوْ قَدَّمَهُ كان الْجَوَابُ
هَكَذَا فَكَذَا إذَا أَخَّرَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ كَرَّرَ الشَّرْطَ وَعُلِّقَ بِهِ جَزَاءٌ واحدا فَإِنْ كُرِّرَ بِدُونِ
حَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قال إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ
فَهِيَ طَالِقٌ فَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ بِالْقَوْلِ الثَّانِي وَالْقَوْلُ
الْأَوَّلُ لَغْوٌ وَكَذَلِكَ إذَا مَتَى وَإِنْ إذَا وَإِنْ مَتَى وَكَذَلِكَ إنْ
بَدَأَ بِإِذَا وَأَخَّرَ إنْ أو قال إذَا ثُمَّ قال مَتَى لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا بِانْضِمَامِ الْجَزَاءِ إلَيْهِ وقد ضُمَّ
الْجَزَاءُ إلَى الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ بِهِ حَقِيقَةً
فَيُقْطَعُ عن الْأَوَّلِ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ من غَيْرِ جَزَاءٍ فَلَغَا وَإِنْ
قَدَّمَ الْجَزَاءَ فقال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُكِ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ
بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامُ الثَّانِي لَغْوٌ لِأَنَّ الْجَزَاءَ
تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي غَيْرُ مَعْطُوفٍ عليه فبقى شَرْطًا
لَا جَزَاءَ له فَلَغَا
وَلَوْ قال إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُك فَإِنَّمَا
انْعَقَدَتْ اليمن ( ( ( اليمين ) ) ) بِالْكَلَامِ الأخر وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ
لَغْوٌ لِأَنَّ إنْ شَرْطٌ مَحْضٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في
الشَّرْطِ وَإِذْ قد يُسْتَعْمَلُ في الْوَقْتِ وَلَا بُدَّ من تَعْلِيقِ
الطَّلَاقِ بِأَحَدِهِمَا فَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ أَوْلَى
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ في رَجُلٍ قال لِدَارٍ وَاحِدَةٍ إنْ دَخَلْت
هذه الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَدَخَلَهَا دَخْلَةً
وَاحِدَةً فإنه يَنْبَغِي في الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَحْنَثَ حتى يَدْخُلَ الدَّارَ
دَخْلَتَيْنِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَجْعَلُهُ حَانِثًا بِالدَّخْلَةِ
الْأُولَى وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ تَكْرَارَ الشَّرْطِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ
على فَائِدَةٍ وهو أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعَطْفَ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ
الْعَطْفِ فَصَارَ الشَّرْطُ دُخُولَهَا مَرَّتَيْنِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّكْرَارَ يُجْعَلُ رَدًّا لِلْكَلَامِ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْغَرَضَ من هذه الْيَمِينِ الْمَنْعُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْإِنْسَانَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ من أَصْلِ الدُّخُولِ دُونَ التَّكْرَارِ إلَّا
أَنْ يَعْنِيَ دَخْلَتَيْنِ فَيَكُونُ على ما عني لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ
الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ
____________________
(3/32)
بِشَيْءٍ
إلَّا لِفَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ فَقَدْ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ
وَإِنْ كَرَّرَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فقال إنْ تَزَوَّجْتُك وَإِنْ تَزَوَّجْتُك
أو قال إنْ تَزَوَّجْتُك فَإِنْ تَزَوَّجْتُك أو إذَا تَزَوَّجْتُك وَمَتَى
تَزَوَّجْتُك لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حتى يَتَزَوَّجَهَا مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ
لَمَّا عَطَفَ أَحَدَ الشَّرْطَيْنِ على الآخرفقد عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِهِمَا
فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَلَوْ قَدَّمَ الطَّلَاقَ فقال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
تَزَوَّجْتُك فَإِنْ تَزَوَّجْتُك فَهَذَا على تَزْوِيجٍ وَاحِدٍ وهو مُخَالِفٌ
لِلْبَابِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ تَمَّ بِالْجَزَاءِ
وَالشَّرْطِ فإذا أَعَادَ الشَّرْطَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ لم يَتَعَلَّقْ
بِهِ حُكْمٌ
وَلَوْ قال إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ تَزَوَّجْتُك طَلُقْت
بِكُلِّ وَاحِدٍ من التَّزْوِيجَيْنِ لِأَنَّهُ عَطَفَ التَّزْوِيجَ على
الْجَزَاءِ فَصَارَ الْجَزَاءُ مُضْمَرًا فيه كَأَنَّهُ قال ان تَزَوَّجْتُك
فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ وَكَلَّمْت فُلَانًا فَعَبْدٌ من
عَبِيدِي حُرٌّ فَدَخَلَتْ الدَّارَ دَخَلَاتٍ وَكَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً
وَاحِدَةً لَا يُعْتَقُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ
دُخُولَ الدَّارِ وَكَلَامَ فُلَانٍ فإذا تَكَرَّرَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ ولم
يُوجَدْ الْآخَرُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ تَمَّ شَرْطُ يَمِينِ وَاحِدَةٍ
وَوُجِدَ بَعْضُ شَرْطِ يَمِينٍ أُخْرَى فَلَا يُعْتَقُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ
وَلَوْ قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ
طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثَ دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً
طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ
بَعْدَ حَرْفِ الْفَاءِ من ذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءُ جَزَاءُ الدُّخُولِ
وَالْجَزَاءُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ إذَا كان الشَّرْطُ مَذْكُورًا
بكملة ( ( ( بكلمة ) ) ) كُلَّمَا وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَلَّقَ عِنْدَ كل دُخُولٍ
طَلَاقَهَا بِكَلَامِهَا فإذا كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً تَطْلُقُ ثَلَاثًا إذْ
الْفِعْلُ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ شَرْطًا في أَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ فَيَحْنَثُ في
جَمِيعِهَا
وروي ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ ما يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْحِ لِلْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى أَنَّهُ قال لو قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ وَكَلَّمْت فُلَانًا
فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا عَلَيْهِمَا جميعا فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثَ
دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً لِأَنَّ الْوَاوَ
لِلْجَمْعِ فَيَصِيرُ الدُّخُولُ وَالْكَلَامُ جميعا شَرْطًا وَتَكْرَارُ بَعْضِ
الشَّرْطِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِنْثٌ فَإِنْ عَادَتْ فَكَلَّمَتْ فُلَانًا قبل
إن تَدْخُلَ الدَّارَ الرَّابِعَةَ طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّهُ تَمَّ شَرْطُ
يَمِينٍ أُخْرَى فَإِنْ عَادَتْ فَكَلَّمَتْ فُلَانًا الثَّالِثَةَ طَلُقَتْ
أُخْرَى لِتَمَامِ شَرْطِ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ
قال وَكَذَلِكَ لو بَدَأَتْ بِكَلَامِ فُلَانٍ فَكَلَّمَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ دَخْلَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً فَإِنْ عَادَتْ
فَدَخَلَتْهَا الثَّانِيَةَ قبل الْكَلَامِ طَلُقَتْ أُخْرَى فَإِنْ عَادَتْ
فَدَخَلَتْ الثَّالِثَةَ طَلُقَتْ أَيْضًا اثنتين لِأَنَّهُ لَا يُرَاعَى فيه
التَّرْتِيبُ وَأَنَّهُ لَا فَرْق بين تَقْدِيمِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ على الْآخَرِ
وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ ما يَجْرِي مَجْرَى شَرْحِ الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ أَنَّهُ قال لو قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْت
فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فإن الْيَمِينَ في هذا كُلِّهِ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِدُخُولِ
الدَّارِ فَكُلَّمَا دَخَلَتْ دَخْلَةً انْعَقَدَتْ يَمِينٌ فَإِنْ كَلَّمَتْ
فُلَانًا طَلُقَتْ فَإِنْ عَادَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا
طَلُقَتْ أُخْرَى فَإِنْ عَادَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا
طَلُقَتْ أُخْرَى وَلَوْ بَدَأَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثً دَخَلَاتٍ ثُمَّ
كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ ثَلَاثً مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ
الدَّارِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَيَنْعَقِدُ عِنْدَ كل دَخْلَةٍ يَمِينٌ
لِمَكَانِ كَلِمَةِ كُلَّمَا فَقَدْ انْعَقَدَتْ عليها إيمان فَانْحَلَّتْ
بِشَرْطٍ وَاحِدٍ
قال وَلَوْ بَدَأَتْ بِكَلَامِ فُلَانٍ لم يَنْعَقِدْ بِهِ يَمِينٌ ولم يَقَعْ
بِهِ طَلَاقٌ حتى تُكَلِّمَ فُلَانًا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ لِأَنَّهُ جَعَلَ
الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فما لم تَدْخُلْ لَا يَنْعَقِدُ فَلَا
يَقَعُ بِالْكَلَامِ طَلَاقٌ
قال وَسَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قال وَلَوْ قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ
فَكُلَّمَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ
قال فَهَذَا عليها وَيَكُونُ الْفَاءُ جَزَاءً فَإِنْ بَدَأَتْ فَدَخَلَتْ
الدَّارَ ثَلَاثَ دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ ثَلَاثًا
وَلَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ طَلُقَتْ
ثَلَاثًا لِأَنَّ الْيَمِينَ قد انْعَقَدَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ فإذا تَكَرَّرَ
شَرْطُهَا يَتَكَرَّرُ الْحِنْثُ لِأَنَّ كُلَّمَا لِلتَّكْرَارِ وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ
لِامْرَأَتِهِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ السَّاعَةَ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ
التَّزْوِيجُ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ لَيْسَتْ كَلِمَةَ شَرْطٍ لِمَا قُلْنَا
لَكِنَّ فيها مَعْنَى الشَّرْطِ من حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ نُزُولُ الْجَزَاءِ
على امْرَأَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةِ أنها مُتَزَوِّجَةٌ وَفُلَانَةُ غَيْرُ
مَوْصُوفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَقِفُ طَلَاقُهَا عليها
وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ من نِسَائِي تَدْخُلُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ
وَفُلَانَةُ سَمَّى بَعْضَ نِسَائِهِ فإن الطَّلَاقَ يَقَعُ عليها السَّاعَةَ قبل
أَنْ دخل الدَّارَ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ في الْعِدَّةِ
طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّهَا قد دَخَلَتْ في عُمُومِ قَوْلِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ من
نِسَائِي تَدْخُلُ الدَّارَ
وَلَوْ قال أَنْتِ وَمَنْ دخل الدَّارَ من نِسَائِي طَالِقٌ
____________________
(3/33)
كانت
طَالِقًا سَاعَةَ سَكَتَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ على
الْمَوْصُوفِ وَهَذِهِ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ وَلَوْ دَخَلَتْ هِيَ في هذه الْعِدَّةِ
طَلُقَتْ أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ إنْ تَزَوَّجْتهَا لم يَقَعْ
الطَّلَاقُ على امْرَأَتِهِ حتى يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى لِأَنَّهُ عَلَّقَ
طَلَاقَهَا بِالشَّرْطِ وهو التَّزَوُّجُ لِإِتْيَانِهِ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ
نَصًّا فَيَتَعَلَّقُ بِهِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ وَمَنْ دخل الدَّارَ من عَبِيدِي عَتَقَ
الْأَوَّلُ لِلْحَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ عنى أَنَّ عِتْقَهُ مُعَلَّقٌ
بِدُخُولِ الدَّارِ لم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ
لِانْعِدَامِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ حَقِيقَةً وهو مُتَّهَمٌ فيه لِمَا فيه من
التَّخْفِيفِ عليه فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ في رَجُلٍ له امْرَأَتَانِ فقال لِإِحْدَاهُمَا
أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ لَا بَلْ هذه فَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى
الدَّارَ طَلُقَتَا وَلَا تَطْلُقُ الثَّانِيَةُ قبل ذلك لِأَنَّ قَوْلَهُ
لِإِحْدَاهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا
بِشَرْطِ الدُّخُولِ وَقَوْلُهُ لَا رُجُوعٌ عن تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِالشَّرْطِ
وَقَوْلَهُ بَلْ إثْبَاتُ تَعْلِيقِ طَلَاقِ هذه بِالشَّرْطِ وَالرُّجُوعُ لَا
يَصِحُّ وَالْإِثْبَاتُ صَحِيحٌ فَبَقِيَتْ فَيَتَعَلَّقُ طَلَاقُهَا بِالشَّرْطِ
وَلَوْ قال إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ لَا بَلْ غُلَامِي فُلَانٌ
حُرٌّ عَتَقَ عَبْدُهُ السَّاعَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ غُلَامِي فُلَانٌ
حُرٌّ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لِكَوْنِهَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى
ما تَقَدَّمَ من الشَّرْطِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِخِلَافِ ما إذَا قال إنْ
تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ لَا بَلْ فُلَانَةُ وَهِيَ امْرَأَتُهُ أَنَّ
امْرَأَتُهُ لَا تَطْلُقُ السَّاعَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ فُلَانَةُ غَيْرُ
مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ بَلْ هو مُفْتَقِرٌ إلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ
مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ فَيَتَعَلَّقُ هذا أَيْضًا
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بَلْ فُلَانٌ لِعَبْدٍ
له آخَرَ لَا يَعْتِقُ الثَّانِي إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ لِأَنَّهُ
اسْتَدْرَكَ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ فَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في نَوَادِرِهِ لو أَنَّ رَجُلًا قال
لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا
بَلْ هذه فَدَخَلَتْ الْأُولَى الدَّارَ طَلُقَتَا ثَلَاثًا لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا
بَلْ هذه غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فَأَضْمَرَ فيه الشَّرْطُ فَصَارَ طَلَاقُهَا جَزَاءَ
الدُّخُولِ كَطَلَاقِ الْأُولَى وَالْجَزَاءُ في حَقِّ الْأُولَى ثَلَاثُ
تَطْلِيقَاتٍ كَذَا في حَقِّ الثَّانِيَةِ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا بَلْ هذه وَقَعَ على
الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ وَعَلَى الْأُولَى ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ يُضْمَرُ في حَقِّ
الثَّانِيَةِ ما يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ يَسْتَقِلُّ
بِإِضْمَارِ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ
أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطْلِيقَاتِ هَهُنَا مُتَفَرِّقَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال
لَا بَلْ هذه طَالِقٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ
الثَّلَاثَ جُمْلَةً بِالدُّخُولِ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِهَا جُمْلَةً
وَاحِدَةً على حَسْبِ التَّعْلِيقِ فَصَارَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مُسْتَدْرِكَةً
في حَقِّ الثَّانِيَةِ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت
فُلَانًا لَا بَلْ هذه فَكَانَ على الْكَلَامِ لَا على الطَّلَاقِ وَهَذَا خِلَافُ
ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أبي يُوسُفَ
لِأَنَّهُ نَسَّقَهَا على الْكَلَامِ فَتَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِكَلَامِ فُلَانٍ
فَإِنْ قال إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا بَلْ هذه فَقَوْلُهُ لَا
بَلْ هذه على الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ نَسَّقَهَا على الْجَزَاءِ فَتَعَلَّقَ
طَلَاقُهَا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ طَلَاقُ الْأُخْرَى
قال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ دخل الدَّارَ ثُمَّ
تَزَوَّجَ أُخْرَى فإن الطَّلَاقَ يَقَعُ على التي تَزَوَّجَ قبل الدُّخُولِ وَلَا
يَقَعُ على التي تَزَوَّجَ بَعْدَ الدُّخُولِ
وَكَذَلِكَ ذكر مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ على
امْرَأَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قبل الدُّخُولِ وَالْمَوْصُوفَةُ
بِهَذِهِ الصِّفَةِ التي تَزَوَّجَهَا قبل الدُّخُولِ لَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا
تَطْلُقُ الْمُتَزَوَّجَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنَظِيرُهُ إذَا قال كُلُّ
امْرَأَةٍ لي عَمْيَاءَ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَ ثُمَّ عَمِيَتْ
امْرَأَتُهُ لَا تَطْلُقُ كَذَا هذا
وَلَوْ بَدَأَ بِالدُّخُولِ فقال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ امْرَأَةٍ
أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ دخل الدَّارَ ثُمَّ
تَزَوَّجَ أُخْرَى فإن الطَّلَاقَ يَقَعُ على التي تَزَوَّجَ بَعْدَ الدُّخُولِ
وَلَا يَقَعُ على التي تَزَوَّجَ قبل الدُّخُولِ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ
الدَّارِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال عِنْدَ
الدُّخُولِ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَا يَدْخُلُ في ذلك
ما تَزَوَّجَ من قَبْلُ
قال أبو يُوسُفَ فَإِنْ نَوَى ما تَزَوَّجَ قَبْلُ أو بَعْدُ في الْمَسْأَلَتَيْنِ
جميعا فَلَيْسَ يَقَعُ على ما نَوَى وَلَا يَلْزَمُهُ ذلك لِأَنَّهُ نَوَى ما لَا
يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ
قال بِشْرٌ وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ تَزَوَّجَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فَإِنْ دخل
الدَّارَ ثَانِيًا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ على دُخُولٍ
بَعْدَ التَّزَوُّجِ لَا على دُخُولٍ قَبْلَهُ فلم يَكُنِ الدُّخُولُ قبل
التَّزَوُّجِ مَعْقُودًا عليه فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ فإذا وُجِدَ
الدُّخُولُ الثَّانِي وهو الْمَعْقُودُ عليه وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ
وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ
كَلَّمْت فُلَانًا فَهُوَ
____________________
(3/34)
على
ما يَتَزَوَّجُ في الْوَقْتِ سَوَاءٌ كان قبل الْكَلَامِ أو بَعْدَهُ كَذَا ذَكَرَ
مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا
إلَى سَنَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ فَلَوْ
اخْتَصَّتْ الْيَمِينُ بِمَا يَتَزَوَّجُ قبل الْكَلَامِ بَطَلَ مَعْنَى
التَّوْقِيتِ فَيَصِيرُ الْكَلَامُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ
بِالتَّزَوُّجِ
وَلَوْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ فقال إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ امْرَأَةٍ
أَتَزَوَّجُهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ فَهَذَا يَقَعُ على ما بَعْدَ
الْكَلَامِ وَالتَّوْقِيتُ وَعَدَمُ التَّوْقِيتِ فيه سَوَاءٌ
لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْكَلَامِ فَقَدْ جَعَلَ الْكَلَامَ شَرْطُهُ
انْعِقَادُ الْيَمِينِ فَلَا يَدْخُلُ فيه الْمُزَوَّجَةُ قبل الْكَلَامِ
وَيَكُونُ فَائِدَةُ التَّوْقِيتِ تَخْصِيصَ الْعَقْدِ بِمَنْ تَزَوَّجَ في
الْمُدَّةِ دُونَ ما بَعْدَهَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ عَطَفَ الْحَالِفُ على يَمِينِهِ بَعْدَ السُّكُوتِ فَالْأَصْلُ فيه ما
رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا عَطَفَ على يَمِينِهِ بَعْدَ السُّكُوتِ
ما يُوَسِّعُ على نَفْسِهِ لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ كما لَا يُقْبَلُ في
الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ السُّكُوتِ وَإِنْ عَطَفَ بِمَا شَدَّدَ على نَفْسِهِ
جَازَ
وإذا ثَبَتَ هذا الْأَصْلُ فقال ابن سِمَاعَةَ سمعت أَبَا يُوسُفَ قال في رَجُلٍ
قال إنْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ سَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ
قال وَهَذِهِ يَعْنِي امْرَأَةً له أُخْرَى فَإِنَّهَا تَدْخُلُ في الْيَمِينِ
لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ قال وَهَذِهِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ
تِلْكَ الدَّارَ وفي هذا تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ
وَكَذَلِكَ إنْ قال إنْ دَخَلَتْ هذه الدَّارَ لِأَنَّهُ عَطَفَ على الشَّرْطِ
وَفِيهِ تَشْدِيدٌ لِأَنَّ هذا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ على الْأُولَى
بِدُخُولِ كل وَاحِدَةٍ من الدَّارَيْنِ وفي هذا تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ
وَكَذَلِكَ لو نَجَّزَ فقال هذه طَالِقٌ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قال وَهَذِهِ طَلُقَتْ
الثَّانِيَةُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في الْإِيقَاعِ وَهَذَا تَشْدِيدٌ على
نَفْسِهِ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ
سَكَتَ ثُمَّ قال وَهَذِهِ يَعْنِي دَارًا أُخْرَى فَلَيْسَ له ذلك فَإِنْ
دَخَلَتْ الْأُولَى طَلُقَتْ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَذِهِ يَعْنِي دَارًا أُخْرَى
يَقْتَضِي زِيَادَةً في شَرْطِ الْيَمِينِ الْأُولَى لِأَنَّهُ إذَا عَلَّقَ
الطَّلَاقَ بِدُخُولِ دَارَيْنِ لَا يَقَعُ بِإِحْدَاهُمَا وهو لَا يَمْلِكُ
تَغْيِيرَ شَرْطِ الْيَمِينِ بَعْدَ السُّكُوتِ وَلِأَنَّ في هذا تَوْسِيعًا على
نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ السُّكُوتِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ أَعْيَانِ الشُّرُوطِ التي تَعَلَّقَ بها الطَّلَاقُ
وَالْعَتَاقُ فَالشُّرُوطُ التي تَعَلَّقَ بها الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا
سَبِيلَ إلَى حَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ
فَنَذْكُرُ الْقَدْرَ الذي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا في كُتُبِهِمْ وَالْمَذْكُورُ من
الشُّرُوطِ في كُتُبِهِمْ نَوْعَانِ أَفْعَالٌ حِسِّيَّةٌ وَأُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالدُّخُولُ وَالْخُرُوجُ وَالْكَلَامُ
وَالْإِظْهَارُ وَالْإِفْشَاءُ وَالْإِعْلَامُ وَالْكَتْمُ وَالْإِسْرَارُ
وَالْإِخْفَاءُ وَالْبِشَارَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُهَا وَالْأَكْلُ
وَالشُّرْبُ وَالذَّوْقُ وَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ وَاللِّبْسُ وَالسُّكْنَى
وَالْمُسَاكَنَةُ وَالْإِيوَاءُ وَالْبَيْتُوتَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ
وَالْمَعْرِفَةُ وَقَبْضُ الْحَقِّ وَالِاقْتِضَاءُ وَالْهَدْمُ وَالضَّرْبُ
وَالْقَتْلُ وَغَيْرُهَا
وَالنَّوْعُ الثَّانِي وهو الْحَلِفُ على أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ وما يَقَعُ منها على
الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَعَلَى الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ كَالْعَطِيَّةِ
وَالْهِبَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالرُّكُوبِ وَالْجُلُوسِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشِّرَاءِ
وَالتَّزَوُّجِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ مُتَفَرِّقَةٍ
نَجْمَعُهَا في فَصْلٍ وَاحِدٍ في آخِرِ الْكِتَابِ
وَالْأَصْلُ في هذه الشُّرُوطِ أَنْ يُرَاعَى فيها لَفْظُ الْحَالِفِ في
دَلَالَتِهِ على الْمَعْنَى لُغَةً وما يَقْتَضِيهِ من الْإِطْلَاقِ
وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَانِي
كَلَامِ الناس بِخِلَافِهِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عليه وَيَكُونُ ذلك حَقِيقَةً
عُرْفِيَّةً وأنها تَقْضِي على الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنهما وقال إنَّ صَاحِبًا لنا مَاتَ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ أفتجزى ( ( ( أفتجزئ ) )
) عنه الْبَقَرَةُ فقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ فقال
السَّائِلُ من بَنِي رَبَاحٍ فقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مَتَى اقْتَنَتْ
بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَذَهَبَ وَهْمُ
صَاحِبُكُمْ إلَى الْإِبِلِ فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ أَصِيلٌ في حَمْلِ مُطْلَقِ
الْكَلَامِ على ما يَذْهَبُ إلَيْهِ أَوْهَامُ الناس وَلِأَنَّ الْعُرْفَ وَضْعٌ
طارىء ( ( ( طارئ ) ) ) على الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَالِاصْطِلَاحُ جَارٍ من
أَهْلِ اللُّغَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ ذلك
فَيُحْمَلُ عليه مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أن
الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ على الْحَقَائِقِ
يُؤَيِّدُ ما قُلْنَا أَنَّ الْغَرِيمَ يقول لِغَرِيمِهِ وَاَللَّهِ
لَأَجُرَّنَّكَ في الشَّوْكِ يُرِيدُ بِهِ شِدَّةَ الْمَطْلِ دُونَ الْحَقِيقَةِ
وَقَوْلُ مَالِكٍ الْأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ على أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ غَيْرُ
سَدِيدٍ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ من حَلَفَ لَا يَجْلِسُ في سِرَاجٍ فَجَلَسَ في
الشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ سِرَاجًا
بِقَوْلِهِ عز وجل { وجعل ( ( ( وجعلنا ) ) ) الشَّمْسَ سِرَاجًا } وَكَذَا من
حَلَفَ لَا يَجْلِسُ على بِسَاطٍ فَجَلَسَ على الْأَرْضِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ
سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِسَاطًا
بِقَوْلِهِ عز وجل { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ بِسَاطًا } وَكَذَا من حَلَفَ
لَا يَمَسُّ وَتَدًا فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ
____________________
(3/35)
وَإِنْ
سَمَّى اللَّهُ عز وجل الْجَبَلَ وَتَدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْجِبَالَ
أَوْتَادًا } فَثَبَتَ أَنَّ ما قَالَهُ مَالِكٌ غَيْرُ صَحِيحٍ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ أَمَّا الْحَلِفُ على الدُّخُولِ فَالدُّخُولُ اسْمٌ لِلِانْفِصَالِ من
الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ وهو فيها
فَمَكَثَ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ في الْأَصْلِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ على الْفِعْلِ حُكْمُ إنْشَائِهِ كما في
الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَلْبَسُ وهو رَاكِبٌ
وَلَابِسٌ فَمَكَثَ سَاعَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ وهو أَنَّ الدَّوَامَ على
الْفِعْلِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً لِأَنَّ الدَّوَامَ هو الْبَقَاءُ
وَالْفِعْلَ الْمُحْدَثُ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ مُسْتَحِيلُ الْبَقَاءِ فَيَسْتَحِيلُ
دَوَامُهُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالدَّوَامِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهِ وَهَذَا يُوجَدُ
في الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَلَا يُوجَدُ في الدُّخُولِ لأن اسْمٌ لِلِانْتِقَالِ
من الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ وَالْمُكْثُ قَرَارٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ
انْتِقَالًا
يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِانْتِقَالَ حَرَكَةٌ وَالْمُكْثَ سُكُونٌ وَهُمَا ضِدَّانِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ يُقَالُ رَكِبْت أَمْسُ
وَالْيَوْمَ وَلَبِسْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ من غَيْرِ رُكُوبٍ وَلُبْسٍ مبتدأ وَلَا
يُقَالُ دَخَلْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ إلَّا لِدُخُولٍ مبتدأ وَكَذَا من دخل دَارًا
يوم الْخَمِيسِ وَمَكَثَ فيها إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ فقال وَاَللَّهِ ما دَخَلْت
هذه الدَّارَ يوم الْجُمُعَةِ بَرَّ في يَمِينِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَلَوْ
حَلَفَ لَا يَرْكَبُ أو لَا يَلْبَسُ وهو رَاكِبٌ أو لَابِسٌ فَنَزَلَ من
سَاعَتِهِ أو نَزَعَ من سَاعَتِهِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ وقد وُجِدَ منه
بَعْدَ يَمِينِهِ وَإِنْ قَلَّ
وَلَنَا أَنَّ ما لَا يَقْدِرُ الْحَالِفُ على الِامْتِنَاعِ من يَمِينِهِ فَهُوَ
مُسْتَثْنًى منه دَلَالَةً لِأَنَّ قَصْدَ الْحَالِفِ من الْحَلِفِ الْبِرُّ
وَالْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاسْتِثْنَاءِ ذلك الْقَدْرِ وَسَوَاءٌ دخل تِلْكَ
الدَّارَ مَاشِيًا أو رَاكِبًا لِأَنَّ اسْمَ الدُّخُولِ يَنْطَلِقُ على الْكُلِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ دَخَلْت الدَّارَ مَاشِيًا وَدَخَلْتُهَا رَاكِبًا
وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَحَمَلَهُ فَأَدْخَلَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِعْلٌ
لَا حُقُوقَ له فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافًا إلَيْهِ كَالذَّبْحِ
وَالضَّرْبِ وَنَحْوِ ذلك على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
مَوْضِعِهِ وَإِنْ احْتَمَلَهُ غَيْرُهُ فَأَدْخَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لم
يَحْنَثْ لِأَنَّ هذا يُسَمَّى إدْخَالًا لَا دُخُولًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الدُّخُولَ انْتِقَالٌ وَالْإِدْخَالُ نَقْلٌ ولم يُوجَدْ ما يُوجِبُ الْإِضَافَةَ
إلَيْهِ وهو الْأَمْرُ وَسَوَاءٌ كان رَاضِيًا بِنَقْلِهِ أو سَاخِطًا لِأَنَّ
الرِّضَا لَا يَجْعَلُ الْفِعْلَ مُضَافًا إلَيْهِ فلم يُوجَدْ منه الشَّرْطُ وهو
الدُّخُولُ وَسَوَاءٌ كان قَادِرًا على الِامْتِنَاعِ أو لم يَكُنْ قَادِرًا عليه
عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان يَقْدِرُ على الِامْتِنَاعِ فلم يَمْتَنِعْ يَحْنَثُ
لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَمْتَنِعْ مع الْقُدْرَةِ كان الدُّخُولُ مُضَافًا إلَيْهِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الدُّخُولُ حَقِيقَةً
وَامْتِنَاعُهُ مع الْقُدْرَةِ إنْ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ على رِضَاهُ
بِالدُّخُولِ لَكِنَّ الرِّضَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ وَبِدُونِ الْأَمْرِ لَا
يَكْفِي لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَانْعَدَمَ الدُّخُولُ حَقِيقَةً
وَتَقْدِيرًا وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا من بَابِهِ أو من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ
شَرْطَ الْحِنْثِ مُطْلَقَ الدُّخُولِ وقد وُجِدَ وَلَوْ نَزَلَ على سَطْحِهَا
حَنِثَ لِأَنَّ سَطْحَ الدَّارِ من الدَّارِ إذْ الدَّارُ اسْمٌ لِمَا أَحَاطَ
بِهِ الدَّائِرَةُ وَالدَّائِرَةُ أَحَاطَتْ بِالسَّطْحِ
وَكَذَا لو أَقَامَ على حَائِطٍ من حِيطَانِهَا لِأَنَّ الْحَائِطَ مِمَّا تَدُورُ
عليه الدَّائِرَةُ فَكَانَ كَسَطْحِهَا وَلَوْ قام على ظُلَّةٍ لها شَارِعَةٍ أو
كَنِيفِ شَارِعٍ فَإِنْ كان مِفْتَحُ ذلك إلَى الدَّارِ يَحْنَثُ وَإِلَّا فَلَا
لِأَنَّهُ إذَا كان مِفْتَحُهُ إلَى الدَّارِ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى الدَّارِ
فَيَكُونُ من جُمْلَةِ الدَّارِ وَإِلَّا فَلَا
وَإِنْ قام على أُسْكُفَّةِ الْبَابِ فَإِنْ كان الْبَابُ إذَا أُغْلِقَ كانت
الاسكفة خَارِجَةً عن الْبَابِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كان أُغْلِقَ
الْبَابُ كانت الْأُسْكُفَّةُ دَاخِلَةَ الْبَابِ حَنِثَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ
لِأَنَّ الْبَابَ يُغْلَقُ على ما في دَاخِلِ الدَّارِ لَا على ما في الْخَارِجِ
وَإِنْ أَدْخَلَ الْحَالِفُ إحْدَى رِجْلَيْهِ ولم يُدْخِلْ الْأُخْرَى لم
يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لم يَنْتَقِلْ كُلُّهُ بَلْ بَعْضُهُ
وقد رُوِيَ عن بُرَيْدَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُنْت مع النبي في
الْمَسْجِدِ فقال لي إنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لم تَنْزِلْ على نَبِيٍّ بَعْدَ
سُلَيْمَانَ بن دَاوُد عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا عَلَيَّ فَقُلْت وما
هِيَ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال لَا أَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ حتى أُعَلِّمَكَهَا
فلما أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَقُلْت في نَفْسِي لَعَلَّهُ قد نَسِيَ فقال لي
بِمَ نفتتح ( ( ( تفتتح ) ) ) الْقِرَاءَةُ فَقُلْت بِبَسْمِ اللَّهِ الرحمن
الرَّحِيمِ فقال هِيَ هِيَ فَلَوْ كان هذا الْقَدْرُ خُرُوجًا لَكَانَ تَأْخِيرُ
التَّعْلِيمِ إلَيْهِ خُلْفًا في الْوَعْدِ وَلَا يُتَوَهَّمُ ذلك
بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّ
التَّسْمِيَةَ آيَةٌ من الْقُرْآنِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَمَّاهَا
آيَةً
وَمِنْ
____________________
(3/36)
أَصْحَابِنَا
من قال مَوْضُوعُ هذه الْمَسْأَلَةِ في دَارٍ دَاخِلُهَا وَخَارِجُهَا سَطْحٌ
وَاحِدٌ فَإِنْ كانت الدَّارُ مُنْهَبِطَةً فَأَدْخَلَ إلَيْهَا إحْدَى رِجْلَيْهِ
حَنِثَ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ حَصَلَ فيها وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَإِنْ أَدْخَلَ
رَأْسَهُ ولم يُدْخِلْ قَدَمَيْهِ أو تَنَاوَلَ منها لم يَحْنَثْ لِأَنَّ ذلك ليس
بِدُخُولٍ
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لو فَعَلَ ذلك لَا يُقْطَعُ وَلَوْ حَلَفَ لَا
يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ خَرَابًا قد كان دَارًا وَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا
يَحْنَثُ وَلَوْ كانت حِيطَانُهَا قَائِمَةً فَدَخَلَ يَحْنَثُ وَلَوْ عَيَّنَ
فقال أَدْخُلُ هذه الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ وَلَوْ كانت
حِيطَانُهَا قَائِمَةً وَدَخَلَ يَحْنَثُ وَلَوْ عَيَّنَ فقال لَا أَدْخُلُ هذه
الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا بَعْدَ يَمِينِهِ ثُمَّ دَخَلَهَا يَحْنَثُ في
قَوْلِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارًا وَإِنْ ذُكِرَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُطْلَقَ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهِيَ الدَّارُ الْمَبْنِيَّةُ فَيُرَاعَى فيه
الِاسْمُ وَالصِّفَةُ وَهِيَ الْبِنَاءُ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ فما لم
يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ
وَقَوْلُهُ هذه الدَّارُ إشَارَةٌ إلَى الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ فَيُرَاعَى فيه
ذَاتُ الْمُعَيَّنِ لَا صِفَتُهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةُ
كَافِيَةٌ لِلتَّعْرِيفِ وَذَاتُ الدَّارِ قَائِمَةٌ بَعْدَ الِانْهِدَامِ لِأَنَّ
الدَّارَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْعَرْصَةُ قَائِمَةٌ وَالدَّلِيلُ
على أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ بِدُونِ الْبِنَاءِ قَوْلُ النَّابِغَةِ يا
دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ فَطَالَ عليها سَالِفُ
الْأَبَدِ ألا أواري ( ( ( الأواري ) ) ) لأياما أُبَيِّنُهَا والنؤى كَالْحَوْضِ
بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ سَمَّاهَا دَارًا بَعْدَمَا خَلَتْ من أَهْلِهَا
وَخَرِبَتْ ولم يَبْقَ فيها الْأَوَارِيَ والنؤى وَلَوْ أُعِيدَ الْبِنَاءُ
فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ أَمَّا في الْمُعَيَّنِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لو
دَخَلَهَا بِدُونِ الْبِنَاءِ يَحْنَثُ فَمَعَ الْبِنَاءِ أَوْلَى وَأَمَّا في
الْمُنَكَّرِ فَلِوُجُودِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ وَهِيَ الْبِنَاءُ وَإِنْ بُنِيَتْ
مَسْجِدًا أو حَمَّامًا أو بُسْتَانًا فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ
الدَّارِ قد بَطَلَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَارًا فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَلَوْ أَعَادَهَا
دَارًا فَدَخَلَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْأُولَى
وَعَنْ أبي يُوسُفَ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هذا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ
فَصَارَ صَحْرَاءَ ثُمَّ دَخَلَهُ فإنه يَحْنَثُ قال هو مَسْجِدٌ وَإِنْ لم يَكُنْ
مَبْنِيًّا وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ عِبَارَةٌ عن مَوْضِعِ السُّجُودِ وَذَلِكَ
مَوْجُودٌ في الْخَرَابِ وَلِهَذَا قال أبو يُوسُفَ أن الْمَسْجِدَ إذَا خَرِبَ
وَاسْتَغْنَى الناس عنه أَنَّهُ يَبْقَى مَسْجِدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذا الْبَيْتَ أو بَيْتًا فَدَخَلَهُ بعدما انْهَدَمَ
وَلَا بِنَاءَ فيه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من
الْبَيْتُوتَةِ سُمِّيَ بَيْتًا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فيه وَلَا يُبَاتُ إلَّا في
الْبِنَاءِ وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْأَخْبِيَةَ بُيُوتًا فَصَارَ
الْبِنَاءُ فيه في حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ مُلْتَحِقًا بِذَاتِ الْمُسَمَّى
كَاسْمِ الطَّعَامِ لِلْمَائِدَةِ وَالشَّرَابِ لِلْكَأْسِ وَالْعَرُوسِ
لِلْأَرِيكَةِ فَيَزُولُ الِاسْمُ بِزَوَالِهِ وَلَوْ بَنَى بَيْتًا آخَرَ
فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا في الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ الْمُعَادَ عَيْنٌ
أُخْرَى غَيْرُ الْأَوَّلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ فيه وفي غَيْرِ
الْمُعَيَّنِ يحنث ( ( ( حنث ) ) ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو دُخُولُ الْبَيْتِ
وَلَوْ انْهَدَمَ السَّقْفُ وَحِيطَانُهُ قَائِمَةٌ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ في
الْمُعَيَّنِ وَلَا يَحْنَثُ في الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ السَّقْفَ بِمَنْزِلَةِ
الصِّفَةِ فيه وَهِيَ في الْحَاضِرِ لَغْوٌ وفي الْغَائِبِ مُعْتَبَرَةٌ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ في هذا الْفُسْطَاطِ وهو مَضْرُوبٌ في مَوْضِعٍ
فَقُلِعَ وَضُرِبَ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَدَخَلَ فيه يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ
من الْعِيدَانِ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ دَرَجٌ من عِيدَانٍ بِدَارٍ أو مِنْبَرٍ
لِأَنَّ الِاسْمَ في هذه الْأَشْيَاءِ لَا يَزُولُ بِنَقْلِهَا من مَكَان إلَى
مَكَان وَمِنْ هذا الْجِنْسِ من حَيْثُ الْمَعْنَى إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ إلَى
هذه الْأُسْطُوَانَةِ أو إلَى هذا الْحَائِطِ فَهُدِمَا ثُمَّ بُنِيَا
بِنَقْضِهِمَا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْحَائِطَ إذَا هُدِمَ زَالَ الِاسْمُ عنه
وَكَذَا الْأُسْطُوَانَةُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَكْتُبُ
بهذا الْقَلَمِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ بَرَاهُ فَكَتَبَ بِهِ لِأَنَّ غير المبرى لَا
يُسَمَّى قَلَمًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أُنْبُوبًا فإذا كُسِرَ فَقَدْ زَالَ
الِاسْمُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ
وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ على مِقَصٍّ فَكَسَرَهُ ثُمَّ جَعَلَهُ مِقَصًّا غير ذلك
لِأَنَّ الِاسْمَ قد زَالَ بِالْكَسْرِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ سِكِّينٍ وَسَيْفٍ وَقِدْرٍ كُسِرَ ثُمَّ صُنِعَ مِثْلُهُ وَلَوْ
نَزَعَ مِسْمَارَ الْمِقَصِّ ولم يَكْسِرْهُ ثُمَّ أَعَادَ فيه مِسْمَارًا آخَرَ
حَنِثَ لِأَنَّ الِاسْمَ لم يَزُلْ بِزَوَالِ الْمِسْمَارِ وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ
نِصَابَ السِّكِّينِ وَجَعَلَ عليه نِصَابًا آخَرَ لِأَنَّ السِّكِّينَ اسْمٌ
لِلْحَدِيدِ
وَلَوْ حَلَفَ على قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أو قَبَاءً مَحْشُوًّا أو مُبَطَّنًا أو
جُبَّةً مُبَطَّنَةً أو مَحْشُوَّةً أو قَلَنْسُوَةً أو خُفَّيْنِ فَنَقَضَ ذلك
كُلَّهُ ثُمَّ أَعَادَهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْمَ بَقِيَ بَعْدَ النَّقْضِ
يُقَالُ قَمِيصٌ مَنْقُوضٌ وَجُبَّةٌ مَنْقُوضَةٌ
وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ على الْعَيْنِ لَا تَبْطُلُ بِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ
مع بَقَاءِ اسْمِ الْعَيْنِ
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هذا السَّرْجَ فَفَتَقَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هذه السَّفِينَةَ فَنَقَضَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ
بِذَلِكَ الْخَشَبِ فَرَكِبَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى سَفِينَةً
بَعْدَ النَّقْضِ
____________________
(3/37)
وَزَوَالُ
الِاسْمِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَنَامُ على هذا الْفِرَاشِ فَفَتَقَهُ وَغَسَلَهُ ثُمَّ
حَشَاهُ بِحَشْوٍ وَخَاطَهُ وَنَامَ عليه حَنِثَ لِأَنَّ فَتْقَ الْفِرَاشِ لَا
يُزِيلُ الِاسْمَ عنه
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شُقَّةَ خَزٍّ بِعَيْنِهَا فَنَقَضَهَا وَغُزِلَتْ
وَجُعِلَتْ شُقَّةً أُخْرَى لم يَحْنَثْ لِأَنَّهَا إذَا نُقِضَتْ صَارَتْ
خُيُوطًا وَزَالَ الِاسْمُ عن الْمَحْلُوفِ عليه
وَلَوْ حَلَفَ على قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ فَقَطَعَهُ جُبَّةً مَحْشُوَّةً
فَلَبِسَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْمَ قد زَالَ فَزَالَتْ الْيَمِينُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ في هذا الْمُصْحَفِ فَخَلَعَهُ ثُمَّ لَفَّ وَرَقَهُ
وَغَرَزَ دَفَّتَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ فيه يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الْمُصْحَفِ بَاقٍ
وَإِنْ فُرِّقَ
وَلَوْ حَلَفَ على نَعْلٍ لَا يَلْبَسُهَا فَقَطَعَ شِرَاكَهَا وَشَرَّكَهَا
بِغَيْرِهِ ثُمَّ لَبِسَهَا حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ النَّعْلِ يَتَنَاوَلُهَا بَعْدَ
قَطْعِ الشِّرَاكِ
وَلَوْ حَلَفَتْ امْرَأَةٌ لَا تَلْبَسُ هذه الْمِلْحَفَةَ فَخِيطَ جَانِبَاهَا
فَجُعِلَتْ دِرْعًا وَجُعِلَ لها جَيْبًا ثُمَّ لَبِسَتْهَا لم تَحْنَثْ
لِأَنَّهَا دِرْعٌ وَلَيْسَتْ بِمِلْحَفَةٍ فَإِنْ أُعِيدَتْ مِلْحَفَةً
فَلَبِسَتْهَا حَنِثَتْ لِأَنَّهَا عَادَتْ مِلْحَفَةً بِغَيْرِ تَأْلِيفٍ وَلَا
زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهِيَ على ما كانت عليه
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذا الْمَسْجِدَ
فَزِيدَ فيه طَائِفَةٌ فَدَخَلَهَا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَقَعَتْ على
بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهَا وَلَوْ قال مَسْجِدَ بَنِي
فُلَانٍ ثُمَّ زِيدَ فيه فَدَخَلَ ذلك الْمَوْضِعَ الذي زِيدَ فيه حَنِثَ
وَكَذَلِكَ الدَّارُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ
مَوْجُودٌ في الزِّيَادَةِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ مَسْجِدًا أو بِيعَةً أو كَنِيسَةً
أو بَيْتَ نَارٍ أو دخل الْكَعْبَةَ أو حَمَّامًا أو دِهْلِيزًا أو ظُلَّةَ بَابِ
دَارٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ لَا تُسَمَّى بَيْتًا على
الْإِطْلَاقِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ عز وجل الْكَعْبَةَ بَيْتًا
في كِتَابِهِ في قَوْله تَعَالَى { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةِ } وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا حَيْثُ قال تَعَالَى { في بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ } لِأَنَّ مَبْنَى الإيمان
على الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا على نَفْسِ إطْلَاقِ الِاسْمِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثُ
وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمًا في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عز
وجل { لِتَأْكُلُوا منه لَحْمًا طَرِيًّا } لَمَّا لم يُسَمَّ لَحْمًا في عُرْفِ
الناس وَعَادَاتِهِمْ كَذَا هذا
وَقِيلَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ في مِثْلِ الدِّهْلِيزِ في دِهْلِيزٍ يَكُونَ
خَارِجَ بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فيه فَإِنْ كان دَاخِلَ الْبَيْتِ
وَتُمْكِنُ فيه الْبَيْتُوتَةُ يَحْنَثْ وَالصَّحِيحُ ما أُطْلِقَ في الْكِتَابِ
لِأَنَّ الدِّهْلِيزَ لَا يُبَاتُ فيه عَادَةً سَوَاءٌ كان خَارِجَ الْبَابِ أو
دَاخِلَهُ وَلَوْ دخل صُفَّةً يَحْنَثُ كَذَا ذَكَرَ في الْكِتَابِ
وَقِيلَ إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِأَنَّ
صِفَافَهُمْ تُغْلَقُ عليها الْأَبْوَابُ فَكَانَتْ بُيُوتًا لِوُجُودِ مَعْنَى
الْبَيْتِ وهو ما يُبَاتُ فيه عَادَةً وَلِذَا سُمِّيَ ذلك بَيْتًا عُرْفًا
وَعَادَةً فَأَمَّا على عَادَةِ أَهْلِ بِلَادِنَا فَلَا يَحْنَثُ لِانْعِدَامِ
مَعْنَى الْبَيْتِ وَانْعِدَامِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالتَّسْمِيَةِ أَيْضًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ من بَابِ هذه الدَّارِ فَدَخَلَهَا من غَيْرِ الْبَابِ
لم يَحْنَثْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وهو الدُّخُولُ من الْبَابِ فَإِنْ نَقَبَ
لِلدَّارِ بَابًا آخَرُ فَدَخَلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على
الدُّخُولِ من بَابٍ مَنْسُوبٍ إلَى الدَّارِ وقد وُجِدَ وَالْبَابُ الْحَادِثُ
كَذَلِكَ فَيَحْنَثُ وَإِنْ عَنَى بِهِ الْبَابَ الْأَوَّلَ يَدِينُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُهُ وَلَا يَدِينُ
في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ حَيْثُ أَرَادَ بِالْمُطْلَقِ
الْمُقَيَّدَ وَإِنْ عَيَّنَ الْبَابَ فقال لَا أَدْخُلُ من هذا الْبَابِ فَدَخَلَ
من بَابٍ آخَرَ لَا يَحْنَثُ وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ
الشَّرْطُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانً
بِمِلْكٍ أو إجَارَةٍ أو إعَارَةٍ فَهُوَ سَوَاءٌ يَحْنَثُ في يَمِينِهِ ذَكَرَ
ذلك أبو يُوسُفَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ في
الْمُسْتَأْجِرِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَحْنَثُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارَ فُلَانٍ إضَافَةُ مِلْكٍ إذْ الْمِلْكُ في
الدَّارِ لِلْآجِرِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَأْجِرُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَلَا
يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ
وَلَنَا أَنَّ الدَّارَ الْمَسْكُونَةَ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ تُضَافُ
إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ عُرْفًا وَعَادَةً وَالدَّلِيلُ عليه
أَيْضًا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ مَرَّ بِحَائِطٍ فَأَعْجَبَهُ فقال
لِمَنْ هذا فقال رَافِعُ بن خَدِيجٍ لي يا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْتُهُ
أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ ولم يُنْكِرْ عليه رسول اللَّهِ فَقَدْ ثَبَتَتْ
الْإِضَافَةُ عُرْفًا وَشَرْعًا فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا
لِفُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا له قد آجَرَهَا لِغَيْرِهِ
قال مُحَمَّدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَلَفَ على دَارٍ يَمْلِكُهَا فُلَانٌ
وَالْمِلْكُ له سَوَاءٌ كان يَسْكُنُهَا أو لَا يَسْكُنُهَا
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى
السَّاكِنِ بِالسُّكْنَى فَسَقَطَ إضَافَةُ الْمِلْكِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ
مُمْتَنِعٍ أَنْ تُضَافَ دَارٌ وَاحِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ بِجِهَةِ الْمِلْكِ وَإِلَى
السَّاكِنِ بِجِهَةِ السُّكْنَى لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ تَذْهَبُ
الِاسْتِحَالَةُ
فَإِنْ قال لَا أَدْخُلُ حَانُوتًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ حَانُوتًا له قد آجَرَهُ
فَإِنْ كان فُلَانٌ مِمَّنْ له حَانُوتٌ يَسْكُنُهُ فإنه لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ
هذا الْحَانُوتِ لِأَنَّهُ
____________________
(3/38)
يُضَافُ
إلَى سَاكِنِهِ وَلَا يُضَافُ إلَى مَالِكِهِ وَإِنْ كان الْمَحْلُوفُ عليه لَا
يُعْرَفُ بِسُكْنَى حَانُوتٍ يَحْنَثُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
إضَافَةَ الْمِلْكِ لَا إضَافَةَ السُّكْنَى كما يُقَال حَانُوتُ الْأَمِيرِ
وَإِنْ كان لَا يَسْكُنُهَا الْأَمِيرُ
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بين فُلَانٍ وَبَيْنَ
آخَرَ فَإِنْ كان فُلَانٌ فيها سَاكِنًا حَنِثَ وَإِنْ لم يَكُنْ سَاكِنًا لَا
يَحْنَثْ لِأَنَّهُ إذَا كان سَاكِنًا فيها كانت مُضَافَةً إلَيْهِ بِالسُّكْنَى
وَإِنْ لم يَمْلِكْ شيئا منها فإذا مَلَكَ نِصْفَهَا أَوْلَى وإذا لم يَسْكُنْ
فيها كانت الْإِضَافَةُ إضَافَةَ الْمِلْكِ وَالْكُلُّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ
وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضًا لِفُلَانٍ
فَزَرَعَ أَرْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ كُلَّ
جُزْءٍ من الْأَرْضِ يُسَمَّى أَرْضًا وَبَعْضَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ له فَدَخَلَ دَارِهِ
وَفُلَانٌ فيها سَاكِنٌ لَا يَحْنَثُ حتى يَدْخُلَ الْبَيْتَ لِأَنَّ الْبَيْتَ
اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فيه عَادَةً وَلَا يُبَاتُ في صَحْنِ الدَّارِ عَادَةً
فَإِنْ نَوَاهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ شدد ( ( ( تشدد ) ) ) على نَفْسِهِ
وقال ابن رُسْتُمَ قال مُحَمَّدٌ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ رَجُلٍ
بِعَيْنِهِ مِثْلَ دَارِ عَمْرِو بن حُرَيْثٍ وَغَيْرِهَا من الدُّورِ
الْمَشْهُورَةِ بِأَرْبَابِهَا فَدَخَلَ الرَّجُلُ وقد كان بَاعَهَا عَمْرُو بن
حُرَيْثٍ أو غَيْرُهُ مِمَّنْ تُنْسَبُ قبل الْيَمِينِ إلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَهَا الْحَالِفُ
بَعْدَ ذلك حَنِثَ لِأَنَّ الدُّورَ الْمَشْهُورَةَ إنَّمَا تُضَافُ إلَى
أَرْبَابِهَا على طَرِيقِ النِّسْبَةِ لَا على طَرِيقِ الْمِلْكِ وَزَوَالُ
الْمِلْكَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ وَإِنْ كانت هذه الْيَمِينُ على دَارٍ
من هذه الدُّورِ التي لَيْسَتْ لها نِسْبَةٌ تُعْرَفُ بها لم يَحْنَثُ في
يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ لَا النِّسْبَةُ
فإذا زَالَ الْمِلْكُ زَالَتْ الْإِضَافَةُ
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذه الْحُجْرَةَ
فَكُسِرَتْ الْحُجْرَةُ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا كُسِرَتْ لَا يَحْنَثُ وَلَيْسَتْ
الْحُجْرَةُ كَالدَّارِ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ اسْمٌ لِمَا حُجِرَ بِالْبِنَاءِ
فَكَانَ كَالْبَيْتِ فإذا انْهَدَمَتْ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ
فَصَعَدَ السَّطْحَ يَحْنَثُ لِأَنَّ سَطْحَ الدَّارِ منها إلَّا أَنْ يَكُونَ
نَوَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
لِأَنَّهُمْ قد يَذْكُرُونَ الدَّارَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الصَّحْنَ دُونَ غَيْرِهِ
فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذا الْمَسْجِدَ فَصَعَدَ فَوْقَهُ حَنِثَ لِأَنَّ
سَطْحَ الْمَسْجِدِ من الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى لو انْتَقَلَ الْمُعْتَكِفُ
إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ فَإِنْ كان فَوْقَ الْمَسْجِدِ مَسْكَنٌ لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّ ذلك ليس بِمَسْجِدٍ وَلَوْ انْتَقَلَ الْمُعْتَكِفُ إلَيْهِ بَطَلَ
اعْتِكَافُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ إلَّا مُجْتَازًا
قال ابن سِمَاعَةَ روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ دخل وهو لَا يُرِيدُ الْجُلُوسَ
فإنه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على كل دُخُولٍ وَاسْتَثْنَى
دُخُولًا بِصِفَةٍ وهو ما يُقْصَدُ بِهِ الِاجْتِيَازُ وقد دخل على الصِّفَةِ
الْمُسْتَثْنَاةِ فَإِنْ دخل يَعُودُ مَرِيضًا وَمِنْ رَأْيِهِ الْجُلُوسُ
عِنْدَهُ حَنِثَ لِأَنَّهُ دخل لَا على الصِّفَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فَإِنْ دخل لَا
يُرِيدُ الْجُلُوسَ ثُمَّ بَدَا له بَعْدَ ما دخل فَجَلَسَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ
لم يَحْنَثْ حين دُخُولِهِ لِوُجُودِهِ على الْوَصْفِ الْمُسْتَثْنَى ولم يُوجَدْ
الدُّخُولُ بَعْدَ ذلك إذْ الْمُكْثُ ليس بِدُخُولٍ فَلَا يَحْنَثُ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ
إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ فَدَخَلَهَا
لِيَقْعُدَ فيها أو لِيَعُودَ مَرِيضًا فيها أو لِيَطْعَمَ فيها ولم يَكُنْ له
نِيَّةٌ حين حَلَفَ فإنه يَحْنَثُ وَلَكِنْ إنْ دَخَلَهَا مُجْتَازًا ثُمَّ بَدَا
له فَقَعَدَ فيها لم يَحْنَثْ لِأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ هو الْمُجْتَازُ فإذا
دَخَلَهَا لِغَيْرِ اجْتِيَازٍ حَنِثَ قال إلَّا أَنْ يَنْوِيَ لَا يَدْخُلُهَا
يُرِيدُ النُّزُولَ فيها فَإِنْ نَوَى ذلك فإنه يَسَعُهُ لِأَنَّهُ قد يُقَالُ
دَخَلْت عَابِرَ سَبِيلٍ بِمَعْنَى أَنِّي لم أَدُمْ على الدُّخُولِ ولم أستقر ( (
( أستتر ) ) ) فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ هذه الدَّارَ بِقَدَمِهِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا يَحْنَثُ
لِأَنَّهُ قد يُرَادُ بِهِ الدُّخُولَ في الْعُرْفِ لَا مُبَاشَرَةَ قَدَمِهِ
الْأَرْضَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان في رِجْلِهِ حِذَاءُ نَعْلٍ يَحْنَثُ
فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ منه الدُّخُولُ
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ في هذه الدَّارِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا حَنِثَ
لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ في عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ صَارَ عِبَارَةً عن الدُّخُولِ
فَإِنْ كان نَوَى أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ مَاشِيًا فَهُوَ على ما نَوَى
لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا
مَاشِيًا وَعَلَيْهِ حِذَاءٌ أو لَا حِذَاءَ عليه لِمَا قُلْنَا
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ فَدَخَلَ
حَانُوتًا مُشَرَّعًا من هذه الدَّارِ إلَى الطَّرِيقِ وَلَيْسَ له بَابٌ في
الدَّارِ فإنه يَحْنَثُ لِأَنَّهُ من جُمْلَةِ ما أَحَاطَتْ بِهِ الدَّائِرَةُ
قال هِشَامٌ وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ إنْ دخل بُسْتَانًا في تِلْكَ الدَّارِ قال
لَا يَحْنَثْ وَهَذَا مَحْمُولُ على بُسْتَانٍ مُتَّصِلٍ بِالدَّارِ فَإِنْ كان في
وَسَطِ الدَّارِ يَحْنَثْ لِإِحَاطَةِ الدَّائِرَةِ بِهِ هَكَذَا رُوِيَ عن
مُحَمَّدٍ
وقال ابن سِمَاعَةَ في نوادرهعن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ
فُلَانٍ فَحَفَرَ سَرَبًا فَبَلَغَ دَارِهِ وَحَفَرَ تَحْتَ دَارِ فُلَانٍ حتى
جَاوَزَهَا فَدَخَلَ الْحَالِفُ ذلك السَّرَبَ حتى مَضَى فيه تَحْتَ دَارِ فُلَانٍ
فإنه لَا يَحْنَثُ
____________________
(3/39)
إلَّا
أَنْ يَكُونَ من هذه الْقَنَاةِ مَكَانٌ مَكْشُوفٌ إلَى الدَّارِ يَسْتَقِي منه
أَهْلُ الدَّارِ فَدَخَلَ الْحَالِفُ الْقَنَاةَ فَبَلَغَ ذلك الْمَكْشُوفَ
فَيَحْنَثُ وَإِنْ لم يَبْلُغْ لم يَحْنَثْ وَإِنْ كان الْمَكْشُوفُ شيئا قَلِيلًا
لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الدَّارِ وَإِنَّمَا هو لِلضَّوْءِ فَمَرَّ الْحَالِفُ
بِالْقَنَاةِ حتى بَلَغَ الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ بِحَانِثٍ لِأَنَّ الْقَنَاةَ
تَحْتَ الدَّارِ إذَا لم يَكُنْ مَنْفَذٌ لَا تُعَدُّ من الدَّارِ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ من دُخُولِ دَارِهِ إمَّا كَرَامَةٌ وَإِمَّا هَتْكُ حُرْمَةٍ
وَذَاكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا لَا مَنْفَذَ له وإذا كان لها مَنْفَذٌ يستقي منه
الْمَاءُ فإنه يُعَدُّ من مَرَافِقِ الدَّارِ بِمَنْزِلَتِهِ بِئْرُ الْمَاءِ فإذا
بَلَغَ إلَيْهِ كان كَمَنْ دخل في بِئْرِ دَارِهِ وإذا كان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
إلَّا لِلضَّوْءِ لَا يَكُونُ من مَرَافِقِ الدَّارِ فَلَا يَصِيرُ بِدُخُولِهِ
دَاخِلًا في الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ
وَلَوْ دخل فُلَانٌ سَرَبًا تَحْتَ دَارِهِ وَجَعَلَهُ بُيُوتًا وَجَعَلَ له
أَبْوَابًا إلَى الطَّرِيقِ فَدَخَلَهَا رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ
فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ السَّرَبَ تَحْتَ الدَّارِ من بُيُوتِ الدَّارِ وَلَوْ
عَمَدَ فُلَانٌ إلَى بَيْتٍ من دَارِهِ أو بَيْتَيْنِ فَسَدَّ أَبْوَابَهُمَا من
قِبَلِ دَارِهِ وَجَعَلَ أبوابهما ( ( ( أبوابها ) ) ) إلَى دَارِ الْحَالِفِ
فَدَخَلَ الْحَالِفُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فإنه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا
جَعَلَ أَبْوَابَهُمَا إلَى دَارِ الْحَالِفِ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوبَةً إلَى
الدَّارِ الْأُخْرَى
وقال ابن سِمَاعَةَ في السَّرَبِ إذَا كان بَابُهُ إلَى الدَّارِ وَمُحْتَفَرُهُ
في دَارٍ أُخْرَى أنه من الدَّارِ التي مَدْخَلُهُ إلَيْهَا وَبَابُهُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ
بَيْتٌ من بُيُوتِهَا
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ
فَانْحَدَرَ من الْمُوصِلِ في سَفِينَةٍ فَمَرَّ بِدِجْلَةَ لَا يَحْنَثُ فَإِنْ
خَرَجَ فَمَضَى فَمَشَى على الْجِسْرِ حَنِثَ وَإِنْ قَدِمَ إلَى الشَّطِّ ولم
يَخْرُجْ لم يَحْنَثْ ولم يَكُنْ مُقِيمًا إنْ كان أَهْلُهُ بِبَغْدَادَ وَإِنْ
خَرَجَ إلَى الشَّطِّ حَنِثَ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ إذَا انْحَدَرَ في سَفِينَةٍ من الْمُوصِلِ إلَى
الْبَصْرَةِ فَمَرَّ في شَطِّ الدِّجْلَةِ فَهُوَ حَانِثٌ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ
مُخْتَلِفَةً بَيْنَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الدِّجْلَةَ من الْبَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو
عُقِدَ عليها جِسْرٌ كانت من الْبَلَدِ فَكَذَا إذَا حَصَلَ في هذا الْمَوْضِعِ في
سَفِينَةٍ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَوْضِعَ الدِّجْلَةِ ليس مَوْضِعَ قَرَارٍ فَلَا يَكُونُ
مَقْصُودًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ على الدُّخُولِ فَلَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ
إلَيْهِ
قال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ
ولم تعطيني ( ( ( تعطني ) ) ) ثَوْبَ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ
ثُمَّ أَعْطَتْهُ الثَّوْبَ بَعْدَ ذلك فإن الطَّلَاقَ يَقَعُ عليها وَإِنْ كانت
أَعْطَتْهُ الثَّوْبَ قبل أَنْ تَدْخُلَ لم يَقَعْ عليها الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ
جَعَلَ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُخُولَهَا الدَّارَ لَا على صِفَةِ
الْإِعْطَاءِ وهو أَنْ لَا يَكُونَ الزَّوْجُ معطي حَالَ الدُّخُولِ لِأَنَّ هذه
الْوَاوَ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ
رَاكِبَةٌ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ كَوْنَهَا رَاكِبَةً حَالَ الدُّخُولِ وَلَا
يَعْتَبِرُ الرُّكُوبَ بَعْدَهُ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو قال إنْ خَرَجْت ولم تَأْكُلِي أو خَرَجْت وَلَيْسَ عَلَيْك إزَارٌ
أو خَرَجْت ولم تَتَخَمَّرِي لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال لها إنْ لم تُعْطِنِي هذا الثَّوْبَ وَدَخَلْت هذه الدَّارَ فَأَنْتِ
طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ له فإن الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عليها حتى يَجْتَمِعَ
الْأَمْرَانِ جميعا وهو أَنْ لَا تُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إلَى أَنْ يَمُوتَ
أَحَدُهُمَا أو يَهْلِكَ الثَّوْبُ وَيُدْخَلَ الدَّارُ فإذا اجْتَمَعَ هَذَانِ
وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الْعَطِيَّةِ
وَالدُّخُولِ جميعا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَدَخَلْت
الدَّارَ شَرْطٌ مَعْطُوفٌ على تَرْكِ الْعَطِيَّةِ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ له
فَيَتَعَلَّقُ وُقُوعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِمَا ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ التَّرْكُ
إلَّا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أو بِهَلَاكِ الثَّوْبِ فإذا مَاتَ أَحَدُهُمَا أو
هَلَكَ الثَّوْبُ وَدُخِلَتْ الدَّارُ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ فَيَحْنَثُ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا تَدْخُلِينَ هذه الدَّارَ وَلَا تُعْطِينِي هذا
الثَّوْبَ فَأَيَّهمَا فَعَلَتْ حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ دَخَلَتْ على
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الِانْفِرَادِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا على الِانْفِرَادِ كما في قَوْله تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ
وَلَا جِدَالَ في الْحَجِّ } وَمِنْ هذا الْجِنْسِ ما رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي
يُوسُفَ فِيمَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بهذا الدِّرْهَمِ غير لَحْمٍ
فَاشْتَرَى بِنِصْفِهِ لَحْمًا وَبِنِصْفِهِ خُبْزًا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَلَا
يَحْنَثُ في الْقِيَاسِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِجَمِيعِ
الدِّرْهَمِ غير اللَّحْمِ وما اشْتَرَى بِجَمِيعِهِ بَلْ بِبَعْضِهِ فلم يُوجَدْ
شَرْطُ الْحِنْثِ فَلَا يَحْنَثُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ على الْعَادَةِ وَعَادَةُ
الناس أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِمِثْلِ هذا الْكَلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحَالِفُ
بِجَمِيعِ الدِّرْهَمِ اللَّحْمَ ولم يَشْتَرِ بِجَمِيعِهِ اللَّحْمَ فَيَحْنَثُ
فَإِنْ كان نَوَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ بِهِ كُلِّهِ غير اللَّحْمِ لم يَحْنَثْ
وَيَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بهذا الدِّرْهَمِ إلَّا لَحْمًا فَلَا
يَحْنَثُ حتى يَشْتَرِيَ بِالدِّرْهَمِ كُلِّهِ غير لَحْمٍ وَهَذَا يُؤَيِّدُ
وَجْهَ الْقِيَاسِ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ إلَّا وَغَيْرَ كِلَاهُمَا
من أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ وأنا نَقُولُ قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ هذا في
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَلَا يرى أَنَّهُ لو نَوَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُلِّهِ
غير اللَّحْمِ صُدِّقَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّا تَرَكْنَا هذا الْقِيَاسَ هُنَاكَ
____________________
(3/40)
لِلْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ وَلَا عُرْفَ هَهُنَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَعَمَدْنَا لِلْقِيَاسِ
فيه
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بهذا الدِّرْهَمِ إلَّا ثَلَاثَةَ أَرْطَالِ
لَحْمٍ فَاشْتَرَى بِبَعْضِ الدِّرْهَمِ لَحْمًا أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ
وَبِبَقِيَّتِهِ غير لَحْمٍ حَنِثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي
بهذا الدِّرْهَمِ يَقَعُ على كل شِرَاءٍ بهذا الدِّرْهَمِ ثُمَّ اسْتَثْنَى من هذه
الْجُمْلَةِ شِرَاءً بِصِفَةٍ وهو أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ ولم
يُوجَدْ فلم يُوجَدْ الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ ما شَرَاهُ دَاخِلًا في الْيَمِينِ
فَيَحْنَثُ بِهِ وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ ما إذَا قال لِرَجُلَيْنِ وَاَللَّهِ لَا
تَبِيتَانِ إلَّا في بَيْتٍ فَبَاتَ أَحَدُهُمَا في بَيْتٍ وَالْآخَرُ في بَيْتٍ
آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ بَيْتُوتَتَهُمَا جميعا في غَيْرِ
بَيْتٍ وَاحِدٍ وقد بَاتَا في غَيْرِ بَيْتٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا بَاتَا في
بَيْتَيْنِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ في رَجُلٍ قال إنْ كُنْت ضَرَبْت هَذَيْنِ
الرَّجُلَيْنِ إلَّا في دَارِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ وقد ضَرَبَ وَاحِدًا
مِنْهُمَا في دَارِ فُلَانٍ وَوَاحِدًا في غَيْرِهَا فإنه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ
جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ ضَرْبَهُمَا في غَيْرِ دَارِ فُلَانٍ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ قال إنْ لم أَكُنْ ضَرَبْته هَذَيْنِ السَّوْطَيْنِ في دَارِ فُلَانٍ
فَعَبْدِي حُرٌّ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَنِثَ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَنْ
يَجْتَمِعَ الشَّرْطَانِ في دَارِ فُلَانٍ ولم يَجْتَمِعَا فَيَحْنَثَ وَلَوْ
حَلَفَ لَا يَدْخُلُ على فُلَانٍ فَدَخَلَ عليه بَيْتَهُ فَإِنْ قَصَدَهُ
بِالدُّخُولِ يَحْنَثْ وَإِنْ لم يَقْصِدْهُ لَا يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إذَا دخل
عليه بَيْتَ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْقَصْدُ لِيَكُونَ دَاخِلًا عليه
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَحْلِفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ على غَيْرِهِ
اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَرْكًا لِإِكْرَامِهِ عَادَةً وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مع
الْقَصْدِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عن ابْنِ سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ خِلَافَ هذا فقال في
رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ على فُلَانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتًا على
قَوْمٍ وَفِيهِمْ فُلَانٌ ولم يَعْلَمْ بِهِ الْحَالِفُ فإنه حَانِثٌ بِدُخُولِهِ
فلم يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ لِلدُّخُولِ على فُلَانٍ لِاسْتِحَالَةِ الْقَصْدِ بِدُونِ
الْعِلْمِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ الدُّخُولَ على فُلَانٍ
وَالْعِلْمُ بِشَرْطِ الْحِنْثِ ليس بِشَرْطٍ في الْحِنْثِ كَمَنْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ وهو لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ وَظَاهِرُ
الْمَذْهَبِ ما تَقَدَّمَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِيهِمْ فَدَخَلَ يَنْوِي
الدُّخُولَ على الْقَوْمِ لَا عليه لَا يَحْنَثْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
عز وجل لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ غَيْرَهُ لم يَكُنْ دَاخِلًا عليه وَلَا يُصَدَّقُ
في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ دُخُولُهُ على الْجَمَاعَةِ وما في اعْتِقَادِهِ
لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي فَإِنْ دخل عليه في مَسْجِدٍ أو ظُلَّةٍ أو سَقِيفَةٍ أو
دِهْلِيزِ دَارٍ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ ذلك يَقَعُ على الدُّخُولِ الْمُعْتَادِ وهو
الذي يَدْخُلُ الناس بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا في الْبُيُوتِ
فَإِنْ دخل عليه في فُسْطَاطٍ أو خَيْمَةٍ أو بَيْتِ شَعْرٍ لم يَحْنَثْ إلَّا
أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ من أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ ذلك
بَيْتًا وَالتَّعْوِيلُ في هذا الْبَابِ على الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ على فُلَانٍ هذه
الدَّارَ فَدَخَلَ الدَّارَ وَفُلَانٌ في بَيْتٍ من الدَّارِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ
كان في صَحْنِ الدَّارِ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عليه إلَّا إذَا
شَاهَدَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّ السقا ( ( ( السقاء ) ) ) يَدْخُلُ دَارَ الْأَمِيرِ وَلَا
يُقَالُ أنه دخل على الْأَمِيرِ وفي الْأَوَّلِ شَاهَدَهُ وفي الثَّانِي لم
يُشَاهِدْهُ وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَدْخُلُ على فُلَانٍ هذه الْقَرْيَةَ أَنَّهُ
لَا يَكُونُ دَاخِلًا عليه إلَّا إذَا دخل في بَيْتِهِ وَتَخْصِيصُ الْقَرْيَةِ
يَمْنَعُ وُقُوعَ الْحِنْثِ بِالدُّخُولِ في غَيْرِهَا
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ على فُلَانٍ ولم
يذكر بَيْتًا وَلَا غَيْرَهُ فَدَخَلَ عليه فُسْطَاطًا أو دَارًا حَنِثَ وَهَذَا
مَحْمُولٌ على أَنَّ من عَادَةِ فُلَانٍ أَنْ يُدْخَلَ عليه في الْفَسَاطِيطِ
وَإِنْ دخل عليه في الْمَسْجِدِ أو الْكَعْبَةِ أو الْحَمَّامِ لَا يَحْنَثْ
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ من الدُّخُولِ في
الْمَوَاضِعِ التي يُكْرَمُ الناس بِالدُّخُولِ عليه فيها وَهَذَا لَا يُوجَدُ في
الْحَمَّامِ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ دخل على فُلَانٍ بَيْتَهُ وهو يُرِيدُ رَجُلًا غَيْرَهُ
يَزُورُهُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ على فُلَانٍ لَمَّا لم يَقْصِدْهُ
وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ حَنِثَ لِأَنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا على كل من في
الدَّارِ فَيَحْنَثُ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ على رَجُلٍ فَسَلَّمَ على
جَمَاعَةٍ وهو فِيهِمْ وَلَا نِيَّةَ له
قال بِشْرٌ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يقول فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هذه
الدَّارَ وَخَرَجْت منها فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاحْتَمَلَهَا إنْسَانٌ وَهِيَ
كَارِهَةٌ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ من قِبَلِ نَفْسِهَا ثُمَّ دَخَلَتْهَا
ولم تَخْرُجْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ
لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَلَا عَادَةَ في تَقَدُّمِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ
على الْآخَرِ فَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِمَا من غَيْرِ مُرَاعَاةِ
التَّرْتِيبِ وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالسُّكُوتُ وَالْكَلَامُ
وَالصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ وَنَحْوُ ذلك لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال لها إنْ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَهُرَتْ من هذا
الْحَيْضِ ثُمَّ حَاضَتْ لم يَقَعْ الطَّلَاقُ حتى تَطْهُرَ وَلَا يَقَعُ
الطَّلَاقُ في هذا الْمَوْضِعِ حتى يَتَقَدَّمَ الْحَيْضُ الطُّهْرَ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لها إذَا حَبِلْتِ وَوَلَدْتِ وَهِيَ حُبْلَى وَكَذَلِكَ إذَا
قال إذَا زَرَعْت
____________________
(3/41)
وَحَصَدْت
لَا بُدَّ من تَقَدُّمِ الزَّرْعِ الْحَصَادَ وَالْحَمْلِ الْوِلَادَةَ
وَالْحَيْضِ الطُّهْرَ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ يَتَعَقَّبُ الْآخَرَ عَادَةً
فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بِالْعَادَةِ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك وَطَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ وَلَا
نِيَّةَ له فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتَقَ عَبْدُهُ
لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّزَوُّجَ لِلْحَالِ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً له
وَتَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَيُرَاعَى فيه مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا
التَّرْتِيبِ وَمَتَى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
فَوُجِدَ الشَّرْطُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْخُرُوجِ فَالْخُرُوجُ هو الِانْفِصَالُ من
الْحِصْنِ إلَى الْعَوْرَةِ على مُضَادَّةِ الدُّخُولِ فَلَا يَكُونُ الْمُكْثُ
بَعْدَ الْخُرُوجِ خُرُوجًا كما لَا يَكُونُ الْمُكْثُ بَعْدَ الدُّخُولِ دُخُولًا
لِانْعِدَامِ حَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ ثُمَّ الْخُرُوجُ كما يَكُونُ من الْبُلْدَانِ
وَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ يَكُونُ من الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ
وَالْخِيَمِ وَالسُّفُنِ لِوُجُودِ حَدِّهِ كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ من الدُّورِ
الْمَسْكُونَةِ أَنْ يَخْرُجَ الْحَالِفُ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَعِيَالِهِ كما
إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ وَالْخُرُوجُ من الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى أَنْ يَخْرُجَ
الْحَالِفُ بِبَدَنِهِ خَاصَّةً وَهَذَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ من قال من أَصْحَابِنَا
أن من حَلَفَ لَا يَسْكُنُ في بَلَدٍ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ دُونَ عِيَالِهِ لَا
يَحْنَثُ وَالتَّعْوِيلُ في هذا على الْعُرْفِ فإن من خَرَجَ من الدَّارِ
وَأَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فيها لَا يُعَدُّ خَارِجًا من الدَّارِ وَيُقَالُ لم
يَخْرُجْ فُلَانٌ من الدَّارِ إذَا كان أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فيها وَمَنْ خَرَجَ
من الْبَلَدِ يُعَدُّ خَارِجًا من الدَّارِ وَإِنْ كان أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فيه
وقال هِشَامٌ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قال إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ وهو في
بَيْتٍ من الدَّارِ فَخَرَجَ إلَى صَحْنِ الدَّارِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الدَّارَ
وَالْبَيْتَ في حُكْمِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْحَلِفُ على الْخُرُوجِ الْمُطْلَقِ
يَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهُمَا جميعا فما لم يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ
تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ من الْبَيْتِ فإذا خَرَجَ إلَى صَحْنِ
الدَّارِ حَنِثَ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وهو الِانْفِصَالُ من
دَاخِلٍ إلَى خَارِجٍ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ
فَإِنْ قال نَوَيْت الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ أو خُرُوجًا من الْبَلَدِ فإنه لَا
يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْمَكَانِ وهو ليس بِمَذْكُورٍ وَغَيْرُ الْمَذْكُورِ
لَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ
وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ لو قال إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وقال
عَنَيْت بِهِ السَّفَرَ إلَى بَغْدَادَ دُونَ ما سِوَاهَا لم يُدَيَّنْ في
الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا وقال
هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ من الرَّيِّ إلَى
الْكُوفَةِ فَخَرَجَ من الرَّيِّ يُرِيدُ مَكَّةَ وَطَرِيقُهُ على الْكُوفَةِ
قال مُحَمَّدٌ إنْ كان حين خَرَجَ من الرَّيِّ نَوَى أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ
فَهُوَ حَانِثٌ وَإِنْ كان حين خَرَجَ من الرَّيِّ نَوَى أَنْ لَا يَمُرَّ بها
ثُمَّ بَدَا له بعد ما خَرَجَ وَصَارَ من الرَّيِّ إلَى الْمَوْضِعِ الذي تُقْصَرُ
فيه الصَّلَاةُ أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ فَمَرَّ بها لم يَحْنَثْ لِأَنَّ
النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ حين الْخُرُوجِ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وُجِدَتْ نِيَّةُ
الْخُرُوجِ إلَى الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ
وَيَمُرَّ فَقَدْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى الْكُوفَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا فَيَحْنَثُ
وفي الْفَصْلِ الثَّانِي لم تُوجَدْ النِّيَّةُ وَقْتَ الْخُرُوجِ فَلَا يَحْنَثُ
وَإِنْ كان نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى الْكُوفَةِ خَاصَّةً لَيْسَتْ إلَى
غَيْرِهَا ثُمَّ بَدَا له الْحَجُّ فَخَرَجَ وَنَوَى أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ
قال مُحَمَّدٌ هذا لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل
لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ ما في لَفْظِهِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت من
هذه الدَّارِ إلَّا إلَى الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ تُرِيدُ
الْمَسْجِدَ ثُمَّ بَدَا لها فَذَهَبَتْ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ لم تَطْلُقْ
لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَسْجِدِ مُسْتَثْنًى من الْيَمِينِ وَلَمَّا
خَرَجَتْ تُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْخُرُوجُ إلَى الْمَسْجِدِ
فَوُجِدَ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَبَعْدَ ذلك وَإِنْ قَصَدَتْ غير الْمَسْجِدِ
لَكِنْ لَا يُوجَدُ الْخُرُوجُ بَلْ الْمُكْثُ في الْخَارِجِ وأنه ليس بِخُرُوجٍ
لِعَدَمِ حَدِّهِ فَلَا يَحْنَثُ
وقال عُمَرُ بن أَسَدٍ سَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ من
الْبَلْدَةِ ما الْخُرُوجُ قال إذَا جَعَلَ الْبُيُوتَ خَلْفَ ظَهْرِهِ لِأَنَّ من
حَصَلَ في هذه الْمَوَاضِعِ جَازَ له الْقَصْرُ وَلَا يَجُوزُ له الْقَصْرُ إلَّا
بِالْخُرُوجِ من الْبَلَدِ فَعُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ من الْبَلَدِ قال عُمَرُ
سَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت في غَيْرِ حَقٍّ
فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ في جِنَازَةِ وَالِدِهَا أو أَخٍ لَا تَطْلُقُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَكَذَلِكَ خُرُوجُهَا إلَى الْعُرْسِ أو
خُرُوجُهَا فِيمَا يَجِبُ عليها لِأَنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ في هذا الْمَوْضِعِ
لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاجِبُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُبَاحُ الذي لَا
مَأْثَمَ فيه
وَلَوْ قال لها إنْ خَرَجْتِ من هذه الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ منها من
الْبَابِ أَيَّ بَابٍ كان وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كان من فَوْقِ حَائِطٍ أو سَطْحٍ
أو نَقْبٍ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو الْخُرُوجُ من الدَّارِ
وَلَوْ قال إنْ خَرَجْت من بَابِ هذه الدَّارِ فَخَرَجَتْ من أَيِّ بَابٍ كان من
____________________
(3/42)
الْبَابِ
الْقَدِيمِ أو الْحَادِثِ بَعْدَ الْيَمِينِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو
الْخُرُوجُ من بَابِ الدَّارِ
وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ من السَّطْحِ أو فَوْقِ الْحَائِطِ أو النَّقْبِ
لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَلَوْ عَيَّنَ بَابًا في الْيَمِينِ يَتَعَيَّنُ وَلَا
يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ من غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ مُقَيِّدٌ في الْجُمْلَةِ
فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ قال إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ إلَّا في أَمْرِ كَذَا
فَهَذَا وَقَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِي وَاحِدٌ وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَلَوْ قال إنْ خَرَجْتِ من هذه الدَّارِ مع فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ
وَحْدَهَا أو مع فُلَانٍ آخَرَ ثُمَّ خَرَجَ فُلَانٌ وَلَحِقَهَا لم يَحْنَثْ
لِأَنَّ كَلِمَةَ مع لِلْقِرَانِ فَيَقْتَضِي مُقَارَنَتَهَا في الْخُرُوجِ ولم
يُوجَدْ لِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْخُرُوجِ ليس بِخُرُوجٍ لِانْعِدَامِ حَدِّهِ
وَلَوْ قال إنْ خَرَجْتِ من هذه الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَصَعِدَتْ
الصَّحْرَاءَ إلَى بَيْتِ عُلُوٍّ أو كَنِيفٍ شَارِعٍ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ
لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هذا في الْعُرْفِ لَا يُسَمَّى خُرُوجًا من الدَّارِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ من هذه الدَّارِ فَخَرَجَ منها مَاشِيًا أو رَاكِبًا
أو أَخْرَجَهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو أَخْرَجَ إحْدَى
رِجْلَيْهِ فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في الدُّخُولِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ من بَلَدِهِ يُرِيدُ مَكَّةَ
حَنِثَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ من بَيْتِهِ هو انْفِصَالٌ من دَاخِلِ بَلَدِهِ إلَى
خَارِجِهِ على نِيَّةِ الْحَجِّ وقد وُجِدَ وقد ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ خُرُوجِهِ من
بَلَدِهِ وهو أَنْ يَجْعَلَ بُيُوتَ بَلَدِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَلَوْ قال لَا آتِي
مَكَّةَ فَخَرَجَ إلَيْهَا لَا يَحْنَثُ ما لم يَدْخُلْهَا لِأَنَّ إتْيَانَ
الشَّيْءِ هو الْوُصُولُ إلَيْهِ وَلَوْ قال لَا يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ فَلَا
رِوَايَةَ فيه
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قال بَعْضُهُمْ هو وَالْخُرُوجُ سَوَاءٌ
وقال بَعْضُهُمْ هو وَالْإِتْيَانُ سَوَاءٌ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت
من هذه الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي أو بِأَمْرِي أو بِرِضَائِي أو بِعِلْمِي أو قال
إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ بِغَيْرِ إذْنِي أو أَمْرِي أو رِضَائِي أو عِلْمِي
فَهُوَ على كل مَرَّةٍ عِنْدَهُمْ جميعا وَهَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا
هذه
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ حتى
آذَنَ لَك أو آمُرَ أو أَرْضَى أو أَعْلَمَ
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ إلَّا
أَنْ آذَنَ لَك أو آمُرَ أو أَعْلَمَ أو أَرْضَى
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا إن ذلك يَقَعُ على
الْإِذْنِ في كل مَرَّةٍ حتى لو أَذِنَ لها مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ عَادَتْ
ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ حَنِثَ
وَكَذَلِكَ لو أَذِنَ لها مَرَّةً فَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ نَهَاهَا عن الْخُرُوجِ
ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذلك يَحْنَثُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ
كُلَّ خُرُوجٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى خُرُوجًا مَوْصُوفًا
بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْبَاءَ في قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي
حَرْفُ إلْصَاقٍ هَكَذَا قال أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَا بُدَّ من شَيْئَيْنِ
يَلْتَصِقَانِ بِآلَةِ الْإِلْصَاقِ كما في قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَضَرَبْت
بِالسَّيْفِ الْتَصَقَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ وَالْكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ وَلَيْسَ
هَهُنَا شَيْءٌ مُظْهَرٌ يَلْتَصِقُ بِهِ الْإِذْنُ فَلَا بُدَّ من أَنْ يُضْمَرَ
كما في قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ أنه يُضْمَرُ فيه ابتدىء ( ( ( أبتدئ ) ) )
وفي بَابِ الْحَلِفِ قَوْلُهُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَنَّهُ يُضْمِرُ
فيه أُقْسِمُ لِتَكُونَ الْبَاءُ مُلْصِقَةً لِلِاسْمِ بِقَوْلِهِ ابتدىء ( ( (
أبتدئ ) ) ) وَاسْمِ اللَّهِ في بَابِ الْحَلِفِ بِقَوْلِهِ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ
وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُضْمَرٍ من دَلِيلٍ عليه إمَّا حَالٌ وَإِمَّا لَفْظٌ
مَذْكُورٌ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى ما خفى غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِوَاسِطَةِ
الْحَالِ وَلَا حَالَ ههنا ( ( ( هنا ) ) ) يَدُلُّ على إضْمَارِ شَيْءٍ
فَأَضْمَرْنَا ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ في صَدْرِ الْكَلَامِ وهو
قَوْلُهُ إنْ خَرَجْت وَلَيْسَ ذلك إلَّا الْخُرُوجَ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ
إنْ خَرَجَ فُلَانٌ من هذه الدَّارِ خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي
وَالْمَصْدَرُ الْأَوَّلُ في مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ
الثَّانِي منه لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى منه وهو خُرُوجٌ مَوْصُوفٌ
بِصِفَةِ الِالْتِصَاقِ بِالْإِذْنِ فَقَدْ نَفَى كُلَّ خُرُوجٍ وَاسْتَثْنَى
خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ فَبَقِيَ كُلُّ خُرُوجٍ
غَيْرِ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه وهو الْخُرُوجُ
الْعَامُّ الذي هو شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فإذا وُجِدَ خُرُوجٌ اتَّصَلَ بِهِ
الْإِذْنُ لم يَكُنْ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وإذا وُجِدَ خُرُوجٌ غَيْرُ
مُتَّصِلٍ بِهِ الْإِذْنِ كان شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كما إذَا قال لها
أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ إلَّا بِمِلْحَفَةٍ إنَّ كُلَّ خُرُوجٍ
يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وهو أَنْ يَكُونَ بِمِلْحَفَةٍ يَكُونُ مُسْتَثْنًى من
الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ وَكُلَّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ
يَبْقَى تَحْتَ عُمُومِ اسْمِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِهِ كَذَا هذا
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي مَرَّةً وَاحِدَةً يُدَيَّنْ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ إيضا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ وروى أَيْضًا عنه أَنَّهُ
لَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ
هذا الْكَلَامِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْإِذْنِ في كل مَرَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِذْنِ ما ثَبَتَ بِظَاهِرِ
اللَّفْظِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِإِضْمَارِ الْخُرُوجِ فإذا نَوَى مَرَّةً وَاحِدَةً
فَقَدْ نَوَى ما يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ
____________________
(3/43)
فَيُصَدَّقُ
ثُمَّ في قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي لو أَرَادَ الْخُرُوجَ لَا يَحْنَثُ وَتَقْدِرُ
الْمَرْأَةُ على الْخُرُوجِ في كل وَقْتٍ من غَيْرِ حِنْثٍ فَالْحِيلَةُ فيه أَنْ
يَقُولَ الزَّوْجُ لها أَذِنْت لَك أَبَدًا أو أَذِنْت لَك الدَّهْرَ كُلَّهُ أو
كُلَّمَا شِئْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك
وَكَذَلِكَ لو قال أَذِنْت لَك عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَدَخَلَتْ مِرَارًا في
الْعَشَرَةِ لَا يَحْنَثُ فَلَوْ أَنَّهُ أَذِنَ لها إذْنًا عَامًّا ثُمَّ
نَهَاهَا عن الْخُرُوجِ هل يَعْمَلُ نَهْيُهُ قال مُحَمَّدٌ يَعْمَلُ نَهْيُهُ
وَيَبْطُلُ إذْنُهُ حتى أنها لو خَرَجَتْ بَعْدَ ذلك بِغَيْرِ إذْنِهِ يَحْنَثُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَعْمَلُ فيه نَهْيُهُ وَرُجُوعُهُ عن الْإِذْنِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لو أَذِنَ لها مَرَّةً ثُمَّ نَهَاهَا صَحَّ
نَهْيُهُ حتى لو خَرَجَتْ بَعْدَ النَّهْيِ يَحْنَثُ فَكَذَا إذَا أَذِنَ لها في
كل مَرَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ نَهْيُهُ وَيَرْتَفِعَ الْإِذْنُ بِالنَّهْيِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن الْإِذْنَ الْمَوْجُودَ على طَرِيقِ الْعُمُومِ في
الْخَرْجَاتِ كُلِّهَا مِمَّا يُبْطِلُ الشَّرْطَ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ
الطَّلَاقِ الْخُرُوجُ الذي ليس بِمَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ
وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ لِأَنَّ كُلَّ خُرُوجٍ
يُوجَدُ بَعْدَهُ لَا يُوجَدُ إلَّا مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ فَخَرَجَ الشَّرْطُ
من أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ وَلَا بَقَاءَ لِلْيَمِينِ بِدُونِ
الشَّرْطِ كما لَا بَقَاءَ لها بِدُونِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهَا تَتَرَكَّبُ من
الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فلم يَبْقَ الْيَمِينُ فَوُجِدَ النَّهْيُ الْعَامُّ وَلَا
يَمِينَ فلم يَعْمَلْ بِخِلَافِ الْإِذْنِ الْخَاصِّ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ
النَّهْيِ عنها لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ مَرَّةً لم تَرْتَفِعْ
الْيَمِينُ فَجَاءَ النَّهْيُ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَصَحَّ النَّهْيُ
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَجَوَابُهَا إن ذلك على الْإِذْنِ مَرَّةً
وَاحِدَةً حتى لو أَذِنَ لها مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ عَادَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ
بِغَيْرِ إذْنٍ لَا يَحْنَثُ وَكَذَا إذَا أَذِنَ لها مَرَّةً ثُمَّ نَهَاهَا قبل
أَنْ تَخْرُجَ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذلك لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ كَلِمَةَ { حتى }
كَلِمَةُ غَايَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَى إلَى وَكَلِمَةُ { إلَى } كَلِمَةُ انْتِهَاءِ
الْغَايَةِ فَكَذَا كَلِمَةُ { حتى }
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين قَوْلِهِ حتى آذَنَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إلَى
أَنْ آذَنَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ حتى أَنْ آذَنَ وَكَلِمَةُ { إن } مُضْمِرَةٌ
لِأَنَّ { حتى } لَمَّا كانت من عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ وما كان من عَوَامِلِ
الْأَسْمَاءِ لَا يَدْخُلُ الْأَفْعَالَ البتة فلم يَكُنْ بُدٌّ من إضْمَارِ { إن
} لِتَصِيرَ هِيَ بِالْفِعْلِ الذي هو صِلَتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ تَقُولُ
أُحِبُّ أَنْ تَقُومَ أَيْ أُحِبُّ قِيَامَك فَيَكُونُ قَوْلُهُ حتى آذَنَ أَيْ
حتى اذني وهو قَوْلُهُ إلَى إذْنِي وَلِهَذَا ادخلوا كَلِمَةَ { إن } بَعْدَ إلَى
فَقَالُوا إلَى أَنْ آذَنَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ اعْتَادُوا الْإِظْهَارَ مع إلَى
وَهَهُنَا مع حتى اعْتَادُوا الْإِضْمَارَ وإذا كان كَذَلِكَ صَارَ وُجُودُ
الْإِذْنِ منه غَايَةً لِحَظْرِ الْخُرُوجِ وَالْمَضْرُوبُ له الْغَايَةُ
يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُود الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي حَظْرُ الْخُرُوجِ وَمَنْعُهُ
بِالْيَمِينِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حتى آذَنَ في كل مَرَّةٍ فَهُوَ على ما نَوَى في
قَوْلِهِمْ جميعا وَيَجْعَلُ حتى مَجَازًا عن { إلَى } لِوُجُودِ مَعْنَى
الِانْتِهَاءِ في الِاسْتِثْنَاءِ على ما بَيَّنَّا وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على
نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَلَا يَجُوزُ فيها فَالْجَوَابُ في قَوْلِهِ
حتى آذَنَ في قَوْلِ الْعَامَّةِ وقال الْفَرَّاءُ الْجَوَابُ فيها كَالْجَوَابِ
في قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي
وَجْهُ قَوْلِهِ إن كَلِمَةَ { إلَّا } اسْتِثْنَاءٌ فَلَا بُدَّ من تَقْدِيمِ
الْمُسْتَثْنَى منه عليها وَتَأْخِيرِ المستثني عنها وَإِنْ مع الْفِعْلِ
الْمُسْتَقْبَلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ على ما مَرَّ فَصَارَ تَقْدِيرُ
الْكَلَامِ إنْ خَرَجْت من الدَّارِ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي وَهَذَا ليس
بِكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا بُدَّ من إدْرَاجٍ حتى يَصِحَّ الْكَلَامُ فَنُدْرِجُ
الْبَاءَ وَيُجْعَلُ مَعْنَاهُ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي وَإِسْقَاطُ الْبَاءِ في
اللَّفْظِ مع ثُبُوتِهَا في التَّقْدِيرِ جَائِزٌ في اللُّغَةِ كما روى عن
رُؤْبَةَ بن الْعَجَّاجِ أَنَّهُ قِيلَ له كَيْفَ أَصْبَحْتَ فقال خَيْرٍ عَافَاك
اللَّهُ أَيْ بِخَيْرِ وَكَذَا يَحْذِفُونَ الْبَاءَ في الْقَسَمِ فَيَقُولُونَ
اللَّهِ مَكَانَ قَوْلِهِمْ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْخَفْضِ
وَالنَّصْبِ وإذا كان هذا جَائِزًا أُدْرِجَتْ لضرورة ( ( ( لضروة ) ) ) تَصْحِيحِ
الْكَلَامِ
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } أَيْ إلَّا بِإِذْنٍ
لَكُمْ حتى كان مُحْتَاجًا إلَى الْإِذْنِ في كل مَرَّةٍ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ
فيه
وَلَنَا أَنَّ هذا الْكَلَامَ لَمَّا لم يَكُنْ بِنَفْسِهِ صَحِيحًا لَمَا قَالَهُ
الْفَرَّاءُ وَلَا بُدَّ من الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِهِ وَلَكِنَّ تَصْحِيحَهُ على
التَّقْدِيرِ الذي قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ أَيْضًا بِجَعْلِهِ
إلَّا بِمَعْنَى حتى وَإِلَى لِأَنَّ كَلِمَةَ إلَّا كَلِمَةُ اسْتِثْنَاءٍ وما
وَرَاءَ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وهو الْمُسْتَثْنَى منه يَنْتَهِي عِنْدَ
كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَثْنَى فَصَارَتْ كَلِمَةُ
الِاسْتِثْنَاءِ على هذا التَّقْدِيرِ لِلْغَايَةِ فَأُقِيمَ مَقَامَ الْغَايَةِ
فَصَارَ كَأَنَّهُ قال إنْ خَرَجْت من هذه الدَّارِ إلَى إذْنِي أو حتى إذْنِي
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْكَلَامِ
بِجَعْلِ كَلِمَةٍ قَائِمَةً مَقَامَ أُخْرَى أَوْلَى من التَّصْحِيحِ بِطَرِيقِ
الْإِضْمَارِ لِأَنَّ جَعْلَ الْكَلِمَةِ قَائِمَةً مَقَامَ أُخْرَى وَإِنْ كان
فيه ضَرْبُ تَغْيِيرٍ لَكِنَّ التَّغْيِيرَ تَصَرُّفٌ في الْوَصْفِ وَالْإِضْمَارُ
إثْبَاتُ أَصْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَرُّفُ في الْوَصْفِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ
أَوْلَى من إثْبَاتِ الْأَصْلِ بِلَا شَكٍّ فَكَانَ هذا أَوْلَى على أَنَّ فِيمَا
قَالَهُ إضْمَارُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَاءُ وَالْآخَرُ الْجَالِبُ
لِلْبَاءِ
وهو قَوْلُهُ إلَّا خُرُوجًا وَلَيْسَ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ إدْرَاجُ شَيْءٍ
بَلْ إقَامَةُ ما فيه مَعْنَى الْغَايَةِ مَقَامَ الْغَايَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ
هذا أَدْوَنُ فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِهِ أَوْلَى وَلِهَذَا كان مَعْنَى قَوْله
تَعَالَى { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الذي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلَّا
أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ }
____________________
(3/44)
أَيْ
إلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ أَيْ إلَى وَقْتِ
تَقَطُّعِ قُلُوبِهِمْ وهو حَالَةُ الْمَوْتِ وفي قَوْلِهِ عز وجل { إلَّا أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ } إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِذْنِ في كل مَرَّةٍ لَا
بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ قال عز وجل في آخِرِ قَوْله
تَعَالَى { إنَّ ذَلِكُمْ كان يُؤْذِي النبي } وَمَعْنَى الْأَذَى مَوْجُودٌ في كل
سَاعَةٍ فَشَرَطَ الْإِذْنَ في كل مَرَّةٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ فَإِنْ قال
إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ فَمَاتَ الْمَحْلُوفُ على إذْنِهِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هِيَ على حَالِهَا وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ
حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الذي في هذا الْكُوزِ وَلَيْسَ في الْكُوزِ مَاءٌ
أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
أَنَّ تَصَوُّرَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عليه حَقِيقَةً في الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ
انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَاؤُهُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً شَرْطُ
بَقَاءِ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ فَإِنْ أَذِنَ لها
بِالْخُرُوجِ من حَيْثُ لَا تَسْمَعُ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ الْإِذْنِ يَحْنَثُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وقد
وُجِدَ فَأَمَّا السَّمَاعُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَأْذُونِ فَلَا
يُعْتَبَرُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ كما لو وَقَعَ الْإِذْنُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ
تَسْمَعَ وَهِيَ نَائِمَةٌ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ
خُرُوجٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه مُطْلَقًا وَهَذَا مَأْذُونٌ فيه من وَجْهٍ
لِوُجُودِ كَلَامِ الْإِذْنِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ
من الْإِذْنِ أَنْ لَا تَخْرُجَ وهو كَارِهٌ وقد زَالَتْ الْكَرَاهَةُ بِقَوْلِهِ
أَذِنْتُ وَإِنْ لم تَسْمَعْ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَأَذَانٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ إعْلَامٌ
وَقَوْلُهُ أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا
يَكُونُ إذْنًا فلم يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فيه فلم يُوجَدْ الْخُرُوجُ
الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ وَلِأَنَّ هذه الْيَمِينَ اشْتَمَلَتْ على الْحَظْرِ
وَالْإِطْلَاقِ فإن قَوْلَهُ إنْ خَرَجْتِ من هذه الدَّارِ يَجْرِي مَجْرَى
الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ وَقَوْلَهُ إلَّا بِإِذْنِي يَجْرِي مَجْرَى الْإِطْلَاقِ
وَحُكْمُ الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ من الشَّارِعِ وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ
بِدُونِ الْبُلُوغِ كَذَا من الْحَالِفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ في قَوْله تَعَالَى { ليس على الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا ما اتَّقَوْا وَآمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أنه نَزَلَ في قَوْمٍ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ
نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قبل عِلْمِهِمْ بِهِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا قبل
عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ حتى يَقِفَ تَصَرُّفُهُ على إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ
وَالتَّوْكِيلُ إذْنٌ وَإِطْلَاقٌ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَأَذَانٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ أَذِنْتُ
لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فلم
يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فيه فلم يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ
وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مَذْكُورٌ في مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ خُرُوجٍ
إلَّا الْخُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى وهو الْخُرُوجُ الْمَأْذُونُ فيه مُطْلَقًا وهو
أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فيه من كل وَجْهٍ ولم يُوجَدْ فلم يَكُنْ هذا خُرُوجًا
مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ ما
إذَا كانت نَائِمَةً فَأَذِنَ لها بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ لِأَنَّ مِثْلَ
هذا يُعَدُّ سَمَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً كما إذَا أَذِنَ لها وَهِيَ تَسْمَعُ
إلَّا أنها غَافِلَةٌ
وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا أَذِنَ لها من حَيْثُ لَا تَسْمَعُ
عَادَةً وَمِثْلُ هذا لَا يُعَدُّ سَمَاعًا في الْعُرْفِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين
الْفَصْلَيْنِ
وَقِيلَ إنَّ النَّائِمَ يَسْمَعُ لِأَنَّ ذلك بِوُصُولِ الصَّوْتِ إلَى صِمَاخِ
أُذُنِهِ وَالنَّوْمُ لَا يَمْنَعُ منه وَإِنَّمَا يَمْنَعُ من فَهْمِ
الْمَسْمُوعِ فَصَارَ كما لو كَلَّمَهُ وهو يَقْظَانُ لَكِنَّهُ غَافِلٌ
وحكي ابن شُجَاعٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّهُ قد عَقَدَ على نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ وقد أَذِنَ
قال وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ في الْأَمْرِ
وَرَوَى نَصْرُ بن يحيى عن أبي مُطِيعٍ عن أبي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِ أبي
يُوسُفَ إلَّا أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ حَكَى الْخِلَافَ في الْإِذْنِ وَاَللَّهُ
عز وجل أَعْلَمُ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ لو أَنَّ رَجُلًا قال لِعَبْدِهِ إنْ خَرَجْتَ من
هذه الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قال له أَطِعْ فُلَانًا في
جَمِيعِ ما يَأْمُرُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ
فَالْمَوْلَى حَانِثٌ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وهو الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ
الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى لم يَأْذَنْ له بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ
بِطَاعَةِ فُلَانٍ
وَكَذَلِكَ لو قال الْمَوْلَى لِرَجُلٍ إئذن له في الْخُرُوجِ فَأَذِنَ له
الرَّجُلُ فَخَرَجَ لِأَنَّهُ لم يَأْذَنْ له بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَ
فُلَانًا بِالْإِذْنِ وَكَذَلِكَ لو قال له قُلْ يا فُلَانُ مَوْلَاك قد أَذِنَ
لَك في
____________________
(3/45)
الْخُرُوجِ
فقال له فَخَرَجَ فإن الْمَوْلَى حَانِثٌ لِأَنَّهُ لم يَأْذَنْ له وَإِنَّمَا
أَمَرَ فُلَانًا بِالْإِذْنِ
وَلَوْ قال الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ ما أَمَرَك بِهِ فُلَانٌ
فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ الرَّجُلُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ فَالْمَوْلَى
حَانِثٌ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى من هذا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا
بِرِضَاهُ فإذا قال ما أَمَرَك بِهِ فُلَانٌ فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَهُوَ لَا
يَعْلَمُ أَنَّ فُلَانًا يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ
الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فلم يُعْلَمْ كَوْنُ هذا الْخُرُوجِ مَرْضِيًّا
بِهِ فلم يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه
وَلَوْ قال الْمَوْلَى لِلرَّجُلِ قد أَذِنْتُ له في الْخُرُوجِ فَأَخْبَرَ
الرَّجُلُ بِهِ الْعَبْدَ لم يَحْنَثْ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ من الْمَوْلَى
قد وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ لم يَبْلُغْ الْعَبْدَ فإذا أخبره بِهِ فَقَدْ بَلَغَهُ
فَلَا يَحْنَثُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْتِ إلَّا بِإِذْنِي ثُمَّ قال لها إنْ بِعْتِ
خَادِمَكِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَك لم يَكُنْ منه هذا إذْنًا لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ
يَجُوزُ أَنْ تَبِيعَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَبِيعَ فَلَا يُعَدُّ ذلك رِضًا
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ إذَا قال لهاإن خَرَجْتِ إلَّا بِأَمْرِي
فَالْأَمْرُ على أَنْ يَأْمُرَهَا وَيُسْمِعَهَا أو يُرْسِلَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ
إلَيْهَا فَإِنْ أَشْهَدَ قَوْمًا أَنَّهُ قد أَمَرَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ فَهُوَ
حَانِثٌ فَقَدْ فَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين الْأَمْرِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ حَيْثُ لم
يَشْتَرِطْ في الْإِذْنِ إسْمَاعَهَا وَإِرْسَالَ الرَّسُولِ بِهِ وَشَرَطَ ذلك في
الْأَمْرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ لَا يَتَوَجَّهُ على الْمَأْمُورِ
بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كما في أَمْرِ الشَّرْعِ وَالْمَقْصُودُ من الْإِذْنِ هو
الرِّضَا وهو أَنْ لَا تَخْرُجَ مع كَرَاهَتِهِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ
الْإِذْنِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ غَضِبَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ فقال دَعُوهَا تَخْرُجْ
وَلَا نِيَّةَ له فَلَا يَكُونُ هذا إذْنًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِذْنَ لِأَنَّ
قَوْلَهُ دَعُوهَا ليس بِإِذْنٍ نَصًّا بَلْ هو أَمْرٌ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لها
وَذَلِكَ بِأَنْ لَا تُمْنَعَ من الْخُرُوجِ أو بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا فَلَا
يَحْصُلُ إذْنًا بِدُونِ النِّيَّةِ
وَلَوْ قال لها في غَضَبِهِ اُخْرُجِي وَلَا نِيَّةَ له كان على الْإِذْنِ
لِأَنَّهُ نَصَّ على الْأَمْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أخرجي حتى تَطْلُقِي
فَيَكُونُ تَهْدِيدًا وَالْأَمْرُ يَحْتَمِلُ التَّهْدِيدَ كما في أَمْرِ
الشَّرْعِ قال اللَّهُ تَعَالَى { اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ } فإذا نَوَى
التَّهْدِيدَ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عليه صَحَّتْ نِيَّتُهُ
وَلَوْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ دخل هذه الدَّارَ إلَّا إنْ نَسِيَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا
ثُمَّ دخل بَعْدَ ذلك ذَاكِرًا لم يَحْنَثْ وَهَذَا على ما ذَكَرْنَا من قَوْلِ
الْعَامَّةِ في قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ من هذه الدَّارِ إلَّا أَنْ
آذَنَ لَك أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِمَنْزِلَةِ
قَوْلِهِ حتى فلما دَخَلَهَا نَاسِيًا فَقَدْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ فَلَا
يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بِدُخُولِ هذه الدَّارِ بِهَذِهِ الْيَمِينِ بِحَالٍ
وَلَوْ قال إنْ دخل هذه الدَّارَ إلَّا نَاسِيًا فَدَخَلَهَا نَاسِيًا ثُمَّ
دَخَلَهَا ذَاكِرًا حَنِثَ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على كل دُخُولٍ وَحَظَرَ
على نَفْسِهِ وَمَنَعَهَا منه وَاسْتَثْنَى منه دُخُولًا بِصِفَةٍ وهو أَنَّهُ
يَكُونُ عن نِسْيَانٍ فَبَقِيَ ما سِوَاهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ
بِهِ
قال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال عَبْدِي حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هذه
الدَّارَ دَخْلَةً إلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ مَرَّةً
وَاحِدَةً فإنه لَا يَحْنَثُ إنْ دخل هذه الدَّخْلَةَ وَلَا بَعْدَهَا وقد
سَقَطَتْ الْيَمِينُ وَهَذَا على أَنَّ الْأَمْرَ وَاحِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ {
إلَّا أَنْ } لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ كَحَتَّى فإذا وُجِدَ الْأَمْرُ مَرَّةً
وَاحِدَةً انْحَلَّتْ الْيَمِينُ
وَلَوْ قال إنْ دَخَلْتُ هذه الدَّارَ دَخْلَةً إلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي بها
فُلَانٌ فَأَمَرَهُ فَدَخَلَ ثُمَّ دخل بَعْدَ ذلك بِغَيْرِ أَمْرِهِ فإنه
يَحْنَثُ وَلَا بُدَّ هَهُنَا من الْأَمْرِ في كل مَرَّةٍ لِأَنَّهُ وَصَلَ
الْأَمْرَ بِالدَّخْلَةِ بِحَرْفِ الوصف ( ( ( الوصل ) ) ) وَهِيَ حَرْفُ الْبَاءِ
فَلَا بُدَّ من الْأَمْرِ في كل دَخْلَةٍ كما لو قال إلَّا بِأَمْرِ فُلَانٍ
قال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا
بِعِلْمِهِ فَأَذِنَ لها أَنْ تَخْرُجَ فَخَرَجَتْ بَعْدَ ذلك وهو لَا يَعْلَمُ
فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا بِعِلْمِي أَيْ إلَّا بِإِذْنِي وقد
خَرَجَتْ فَكَانَ خُرُوجًا مُسْتَثْنًى فَلَا يَحْنَثُ وإذا حَلَفَ رَجُلٌ على
زَوْجَتِهِ أو مَوْلًى على عَبْدِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ من دَارِهِ إلَّا
بِإِذْنِهِ أو سُلْطَانٌ حَلَّفَ رَجُلًا أَنْ لَا يَخْرُجَ من كَوْرَةٍ إلَّا
بِإِذْنِهِ ثُمَّ بَانَتْ الْمَرْأَةُ من الزَّوْجِ أو خَرَجَ الْعَبْدُ من مِلْكِ
الْمَوْلَى أو عُزِلَ السُّلْطَانُ عن عَمَلِهِ فَكَانَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنٍ
من وَاحِدٍ منهم فَلَا حِنْثَ على الْحَالِفِ وَتَقَعُ الْيَمِينُ على الْحَالِ
التي يَمْلِكُ الْحَالِفُ فيها الْإِذْنَ فَإِنْ زَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ
سَقَطَتْ الْيَمِينُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَحْلِفِ من
ذلك تَنْفِيذُ وِلَايَتِهِ وهو أَنْ لَا يَخْرُجَ من له عليه وِلَايَةٌ إلَّا
بِأَمْرِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ فإذا زَالَتْ زَالَتْ
الْيَمِينُ فَإِنْ عَادَتْ الْمَرْأَةُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ أو الْعَبْدُ إلَى
مِلْكِ الْمَوْلَى أو أُعِيدَ السُّلْطَانُ إلَى وِلَايَتِهِ لَا تعد ( ( ( تعاد )
) ) الْيَمِينُ لِأَنَّهَا قد سَقَطَتْ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا تَحْتَمِلُ
الْعَوْدَ
وَكَذَلِكَ الْغَرِيمُ إذَا حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ من بَلَدِهِ
إلَّا بِإِذْنِهِ فَالْيَمِينُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ فَإِنْ
قَضَاهُ الْمَطْلُوبُ أو أَبْرَأَ الطَّالِبُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ فَإِنْ عَادَ
عليه ذلك الدَّيْنُ أو غَيْرُهُ لم تَعُدْ الْيَمِينُ لِأَنَّ غَرَضَ
الْمُسْتَحْلِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ لِأَجْلِ ذلك الدَّيْنِ الذي له عليه وَقْتَ
الْحَلِفِ فإذا أُسْقِطَ ذلك
____________________
(3/46)
بَطَلَ
الْيَمِينُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ
وَعَلَى هذا قالوا في عَامِلٍ اسْتَحْلَفَ رَجُلًا أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ كُلُّ من
عَلِمَ بِهِ من فَاسِقٍ أو دَاعِرٍ أو سَارِقٍ في مَحَلَّتِهِ ولم يَعْلَمْ من ذلك
حتى عُزِلَ الْعَامِلُ عن عَمَلِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَلَيْسَ عليه أَنْ يَرْفَعَهُ
وقد خَرَجَ عن يَمِينِهِ وَبَطَلَتْ عنه لِأَنَّهَا تَقَيَّدَتْ بِحَالِ عَمَلِهِ
بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ لِأَنَّ غَرَضَ الْعَامِلِ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ ما دام
وَالِيًا فإذا زَالَتْ وِلَايَتُهُ ارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ فَإِنْ عَادَ
الْعَامِلُ عَامِلًا بَعْدَ عَزْلِهِ لم يَكُنْ عليه أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ ذلك
إلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ قد بَطَلَتْ فَلَا تَعُودُ سَوَاءٌ عَادَ عَامِلًا
بَعْدَ ذلك أو لم يَعُدْ وَلَوْ كان الْحَالِفُ عَلِمَ بِبَعْضِ ما اُسْتُحْلِفَ
عليه فَأَخَّرَ رَفْعَ ذلك حتى عُزِلَ الْعَامِلُ حَنِثَ في يَمِينِهِ ولم
يَنْفَعْهُ رَفْعُ ذلك إلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ تَقَيَّدَ
بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ فإذا زَالَتْ الْوِلَايَةُ فَقَدْ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ
قال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِمْ على
كل حَالٍ في السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ وَأَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ عز وجل وفي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ وهو الْعُمُومُ
فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً
وقال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ امْرَأَتُهُ من
هذه الدَّارِ وَلَا عَبْدُهُ فَبَانَتْ منه أو خَرَجَ الْعَبْدُ عن مِلْكِهِ ثُمَّ
خَرَجَتْ حَنِثَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمِلْكِ
لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ التَّقْيِيدِ وَهِيَ قَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَيُعْمَلُ
بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَإِنْ عَنَى بِهِ ما دَامَتْ امْرَأَتُهُ يُدَيَّنْ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ عَنَى ما يَحْتَمِلُهُ لفظ ( ( ( لفظه
) ) ) وَلَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وأنه
خِلَافُ الظَّاهِرِ
وَكَذَلِكَ من طُولِبَ بِحَقٍّ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ من دَارِ مُطَالَبِهِ
حَنِثَ بِالْخُرُوجِ زَالَ ذلك الْحَقُّ أو لم يَزُلْ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ وقد أَخَذَتْ في ذلك أو الْعَبْدُ أو
أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ وقد نَهَضَ لِذَلِكَ فقال أَنْتِ
طَالِقٌ ان خَرَجْتِ أو قال الْمَوْلَى أنت حُرٌّ إنْ خَرَجْتَ
أو قال رَجُلٌ لِلضَّارِبِ عَبْدِي حُرٌّ إنْ ضَرَبْتَهُ فَكَفُّوا عن ذلك فَقَدْ سَقَطَتْ
الْيَمِينُ حتى لو خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عليه بَعْدَ ذلك أو ضَرَبَ الرَّجُلُ
عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ لِأَنَّ غَرَضَهُ من هذه الْيَمِينِ الْمَنْعُ
من الْخُرُوجِ في الْحَالِ أو الضَّرْبُ فَتَقَيَّدَتْ بِالْحَالِ بِدَلَالَةِ
الْغَرَضِ فَتَزُولُ الْيَمِينُ بِزَوَالِ الْحَالِفِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ
بِالْخُرُوجِ بَعْدَ ذلك وَهَذِهِ من مَسَائِلِ يَمِينِ الْفَوْرِ وَنَظَائِرُهَا
تَأْتِي إنْ شَاءَ تَعَالَى في مَوَاضِعِهَا
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْكَلَامِ فَالْمَحْلُوفُ عليه وهو الْكَلَامُ قد
يَكُونُ مُؤَبَّدًا وقد يَكُونُ مُطْلَقًا وقد يَكُونُ مُؤَقَّتًا أَمَّا
الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا أَبَدًا فَهُوَ
على الْأَبَدِ لَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ نَصَّ عليه
وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يُكَلِّمَ فُلَانًا وَلَا
يَذْكُرَ الْأَبَدَ وَهَذَا أَيْضًا على الْأَبَدِ حتى لو كَلَّمَهُ في أَيِّ
وَقْتٍ كَلَّمَهُ في لَيْلٍ أو نَهَارٍ وفي أَيِّ مَكَان كان وَعَلَى أَيِّ حَالٍ
حَنِثَ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ من كَلَامِ فُلَانٍ لِيَبْقَى الْكَلَامُ من قِبَلِهِ
على الْعَدَمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ من الْكَلَامِ
في جَمِيعِ الْعُمْرِ فَإِنْ نَوَى شيئا دُونَ شَيْءٍ بِأَنْ نَوَى يَوْمًا أو
وَقْتًا أو بَلَدًا أو مَنْزِلًا لَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ ما ليس بِمَلْفُوظٍ فَلَا
يُصَدَّقُ رَأْسًا وَلَا يَحْنَثُ حتى يَكُونَ منه كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ
الْيَمِينِ فَيَنْقَطِعُ عنها فَإِنْ كان مَوْصُولًا لم يَحْنَثْ بِأَنْ قال إنْ
كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فاذهبى أو فَقُومِي فَلَا يَحْنَثُ بِقَوْلِهِ
فاذهبى أو فَقُومِي كَذَا قال أبو يُوسُفَ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْيَمِينِ
وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ أو إنْ كَلَّمْتُكِ يَقَعُ على الْكَلَامِ
الْمَقْصُودِ بِالْيَمِينِ وهو ما يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ
وَقَوْلُهُ فَاذْهَبِي أو فَقُومِي وَإِنْ كان كَلَامًا حَقِيقَةً فَلَيْسَ
بِمَقْصُودٍ بِالْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَهُ
بِحَرْفِ الْعَطْفِ دَلَّ أَنَّهُ ليس بِكَلَامٍ مبتدأ وَكَذَا إذَا قال
وَاذْهَبِي لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يُصَدَّقُ
لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ وَإِنْ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي الطَّلَاقَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي
لِأَنَّهُ من كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَيَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى
بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ صَارَ كَلَامًا
مُبْتَدَأً فَيَحْنَثُ بِهِ وَإِنْ كان في الْحَالِ التي حَلَفَ ما يَدُلُّ على
تَخْصِيصِ الْيَمِينِ كانت خَاصَّةً بِأَنْ قال له رَجُلٌ كَلِّمْ لي زَيْدًا
الْيَوْمَ في كَذَا فيقول وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ يَقَعُ هذا على الْيَوْمِ
دُونَ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ
وَعَلَى هذا قالوا لو قال ائْتِنِي الْيَوْمَ فقال امْرَأَتِي طَالِقٌ أن
أَتَيْتُكَ فَهَذَا على الْيَوْمِ وَكَذَا إذَا قال ائْتِنِي في مَنْزِلِي
فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْتِيهِ فَهُوَ على الْمَنْزِلِ وَهَذَا إذَا لم
يَطُلْ الْكَلَامُ بين دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ فَإِنْ طَالَ
كانت الْيَمِينُ على الْأَبَدِ
فَإِنْ قال لِمَ لَا تَلْقَنِي في الْمَنْزِلِ وقد أَسَأْتَ في تَرْكِكَ لِقَائِي
وقد أَتَيْتُك غير مَرَّةٍ فلم أَلْقَكَ فقال الْآخَرُ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ
أَتَاكَ فَهَذَا على الْأَبَدِ وَعَلَى كل مَنْزِلٍ لِأَنَّ
____________________
(3/47)
الْكَلَامَ
كَثِيرٌ فِيمَا بين ابْتِدَائِهِ بِذِكْرِ الْمَنْزِلِ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ
وَبَيْنَ الْحَلِفِ فَانْقَطَعَتْ الْيَمِينُ عنه وَصَارَتْ يَمِينًا مُبْتَدَأَةً
فَإِنْ نَوَى هذا الاتيان في الْمَنْزِلِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى ولم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لَكِنَّهُ
خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَوْ صلى الْحَالِفُ خَلْفَ الْمَحْلُوفِ عليه فَسَهَا
الْإِمَامُ فَسَبَّحَ بِهِ الخالف ( ( ( الحالف ) ) ) أو فَتَحَ عليه
بِالْقِرَاءَةِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ هذا لَا يُسَمَّى كَلَامًا في الْعُرْفِ
وَإِنْ كان كَلَامًا في الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعُرْفِيَّ
يُبْطِلُ الصَّلَاةُ وَهَذَا لَا يُبْطِلُهَا
وقد قالوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَصَلَّى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ
يَحْنَثَ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ كَلَامٌ حَقِيقَةً وفي
الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا عُرْفًا أَلَا
تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فُلَانٌ لَا يَتَكَلَّمُ في صَلَاتِهِ وَإِنْ كان قد
قَرَأَ فيها وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ
تَكَلَّمَ حَقِيقَةً
وَقِيلَ هذا إذَا كان الْحَالِفُ من الْعَرَبِ فَإِنْ كان الْحَالِفُ من الْعَجَمِ
أو كان لِسَانُهُ غير لِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ قَرَأَ في
الصَّلَاةِ أو خَارِجَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا وَلَوْ
سَبَّحَ تَسْبِيحَةً أو كَبَّرَ أو هَلَّلَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّهُ وُجِدَ
الْكَلَامُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْحَقِيقَةَ حَالَةَ الصَّلَاةِ
بِالْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ خَارِجَ الصَّلَاةِ
وَقِيلَ هذا في عُرْفِهِمْ فَأَمَّا في عُرْفِنَا فَلَا يَحْنَثُ خَارِجَ
الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا في الْحَالَيْنِ جميعا
وَلَوْ فَتَحَ عليه في غَيْرِ الصَّلَاةِ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً
إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْحَقِيقَةَ في الصَّلَاةِ لِلْعُرْفِ فَإِنْ كان
الْإِمَامُ هو الْحَالِفَ وَالْمَحْلُوفُ عليه خَلْفَهُ فَسَلَّمَ لم يَحْنَثْ
بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَإِنْ كان على يَمِينِهِ وَنَوَاهُ لِأَنَّهُ في
الصَّلَاةِ وَسَلَامُ الصَّلَاةِ لَا يُعَدُّ كَلَامًا كَتَكْبِيرِهَا
وَالْقِرَاءَةِ فيها
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَوْ كان من كَلَامِ الناس لَكَانَ
مُفْسِدًا وَإِنْ كان على يَسَارِهِ فَنَوَاهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قد قال
بَعْضُهُمْ يَحْنَثُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كان المقتدى هو
الْحَالِفَ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً على أَنَّ
المقتدى لَا يَصِيرُ خَارِجًا عن الصَّلَاةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عن صَلَاتِهِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ
عِنْدَهُ فَقَدْ تَكَلَّمَ كَلَامًا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيَحْنَثُ وَلَوْ مَرَّ
الْحَالِفُ على جَمَاعَةٍ فِيهِمْ الْمَحْلُوفُ عليه فَسَلَّمَ عليهم حَنِثَ
لِأَنَّهُ كَلَّمَ جَمَاعَتَهُمْ بِالسَّلَامِ فَإِنْ نَوَى الْقَوْمَ دُونَهُ لم
يَحْنَثْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ على
إرَادَةِ الْبَعْضِ جَائِزٌ وَلَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ
الظَّاهِرِ وَلَوْ نَبَّهَ الْحَالِفُ الْمَحْلُوفَ عليه من النَّوْمِ حَنِثَ
وَإِنْ لم يَنْتَبِهْ لِأَنَّ الصَّوْتَ يَصِلُ إلَى سَمْعِ النَّائِمِ لَكِنَّهُ
لَا يُفْهَمُ فَصَارَ كما لو كَلَّمَهُ وهو غَافِلٌ وَلِأَنَّ مِثْلَ هذا يُسَمَّى
كَلَامًا في الْعُرْفِ كَتَكَلُّمِ الْغَافِلِ فَيَحْنَثُ وَلَوْ دَقَّ عليه
الْبَابَ فقال من هذا أو من أنت حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ
وَلَوْ كان في مَكَانَيْنِ فَدَعَاهُ أو كَلَّمَهُ فَإِنْ كان ذلك بِحَيْثُ
يَسْمَعُ مِثْلُهُ لو أَصْغَى إلَيْهِ فإنه يَحْنَثُ وَإِنْ لم يَسْمَعْهُ وَإِنْ
كان في مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُ في مِثْلِهِ عَادَةً فَإِنْ أَصْغَى إلَيْهِ
لِبُعْدِ ما بَيْنَهُمَا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كان قَرِيبًا
بِحَيْثُ يَسْمَعُ مِثْلُهُ عَادَةً يُسَمَّى مُكَلِّمًا إيَّاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ
وَإِنْ لم يَسْمَعْ لِعَارِضٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كان بَعِيدًا وَلِأَنَّهُ
إذَا كان قَرِيبًا يُحْمَلُ على أَنَّهُ وَصَلَ الصَّوْتُ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ
لم يَفْهَمْهُ فَأَشْبَهَ الْغَافِلَ وإذا كان بَعِيدًا لَا يَصِلُ إلَيْهِ
رَأْسًا
وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إنْسَانًا فَكَلَّمَ غَيْرَهُ وهو
يَقْصِدُ أَنْ يَسْمَعَهُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ مِثْلَ هذا لَا يُسَمَّى مُكَلِّمًا
إيَّاهُ إذَا لم يَقْصِدْهُ بِالْكَلَامِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ امْرَأَتَهُ
فَدَخَلَ دَارِهِ وَلَيْسَ فيها غَيْرُهَا فقال من وَضَعَ هذا أو أَيْنَ هذا
حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهَا حَيْثُ اسْتَفْهَمَ وَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهَا
لِئَلَّا يَكُونَ لَاغِيًا فَإِنْ كان في الدَّارِ غَيْرُهَا لم يَحْنَثْ
لِجَوَازِ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ غَيْرَهَا
فَإِنْ قال لَيْتَ شِعْرِي من وَضَعَ هذا لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لم يُكَلِّمْهَا
وَإِنَّمَا كَلَّمَ نَفْسَهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَتَبَ
إلَيْهِ كِتَابًا فَانْتَهَى الْكِتَابُ إلَيْهِ أو أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا
فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ إلَيْهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُسَمَّى
كَلَامًا وَكَذَا الرِّسَالَةُ
وَأَمَّا الْمُوَقَّتُ فَنَوْعَانِ مُعَيَّنٌ وَمُبْهَمٌ أَمَّا الْمُعَيَّنُ
فَنَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا
فَيَحْنَثُ بِكَلَامِهِ من حِينِ حَلَفَ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ من الْغَدِ
فَيَدْخُلُ في يَمِينِهِ بَقِيَّةُ اللَّيْلِ حتى لو كَلَّمَهُ فِيمَا بَقِيَ من
اللَّيْلِ أو في الْغَدِ يَحْنَثُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَقَعُ
على الْأَبَدِ وَيَقْتَضِي مَنْعَ نَفْسِهِ عن كَلَامِ فُلَانٍ أَبَدًا لَوْلَا
قَوْلُهُ يَوْمًا فَكَانَ قَوْلُهُ يَوْمًا لِإِخْرَاجِ ما وَرَاءَهُ عن
الْيَمِينِ فَيَبْقَى زَمَانُ ما بَعْدَ الْيَمِينِ بِلَا فَصْلٍ دَاخِلًا
تَحْتَهَا فَيَدْخُلُ فيها بَقِيَّةُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ بِالنَّهَارِ لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ
بِكَلَامِهِ من حِينِ حَلَفَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ حَلَفَ في بَعْضِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا فَالْيَمِينُ على
بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَى مِثْلِ تِلْكَ
السَّاعَةِ التي حَلَفَ فيها من
____________________
(3/48)
الْغَدِ
لِأَنَّهُ حَلَفَ على يَوْمٍ مُنَكَّرٍ فَلَا بُدَّ من اسْتِيفَائِهِ وَلَا
يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا باتمامه من الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَدْخُلُ
اللَّيْلُ من طَرِيقِ التَّبَعِ
وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَيْلًا لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَالْيَمِينُ من تِلْكَ
السَّاعَةِ إلَى أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهَا من اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ وَيَدْخُلُ
النَّهَارُ الذي بَيْنَهُمَا في ذلك لِأَنَّهُ حَلَفَ على لَيْلَةٍ مُنَكَّرَةٍ
فَلَا بُدَّ من الِاسْتِيفَاءِ منها وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا
فَإِنْ قال في بَعْضِ الْيَوْمِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ
فَالْيَمِينُ على بَاقِي الْيَوْمِ فإذا غَرَبَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال بِاللَّيْلِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ اللَّيْلَةَ فإذا
طَلَعَ الْفَجْرُ سَقَطَتْ لِأَنَّهُ حَلَفَ على زَمَانٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ
أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ على الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غير
الْمُعَرَّفِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَوْمًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا
فَلَا بُدَّ من اسْتِيفَائِهِ وَذَلِكَ من الْيَوْمِ الثَّانِي
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا يَقَعُ على ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَوْ قال
الشَّهْرَ يَقَعُ على بَقِيَّةِ الشَّهْرِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ
السَّنَةَ يَقَعُ على بَقِيَّةِ السَّنَةِ وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ
الْيَوْمَ وَلَا غَدًا فَالْيَمِينُ على بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَعَلَى غَدٍ وَلَا
تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ التي بَيْنَهُمَا في الْيَمِينِ رَوَى ذلك ابن سِمَاعَةَ عن
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ من الْوَقْتَيْنِ
بِحَرْفِ النَّفْيِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفِيًّا على
الِانْفِرَادِ أَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا
جِدَالَ في الْحَجِّ } فَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بين
الْوَقْتَيْنِ وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ وَغَدًا دَخَلَتْ
اللَّيْلَةُ التي بين الْيَوْمِ وَالْغَدِ في يَمِينِهِ لِأَنَّ هَهُنَا جَمَعَ
بين الْوَقْتِ الثَّانِي وَبَيْنَ الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وهو الْوَاوُ
فَصَارَ وَقْتًا وَاحِدًا فَدَخَلَتْ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ اللَّيْلَةَ لَا تَدْخُلُ لِأَنَّهُ عَقَدَ
الْيَمِينَ على النَّهَارِ وَلَا ضَرُورَةَ تُوجِبُ إدْخَالَ اللَّيْلِ فَلَا
يَدْخُلُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ تَدْخُلُ فيه اللَّيْلَةُ
سَوَاءٌ كان قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في
اللَّيْلِ وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ فَهُوَ
مِثْلُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حتى لو كَلَّمَهُ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أو الثَّانِي أو
الثَّالِثِ يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ
هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ أَنَّهُ على يَوْمَيْنِ حتى لو كَلَّمَهُ في
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أو الثَّانِي يَحْنَثُ وَإِنْ كَلَّمَهُ في الْيَوْمِ
الثَّالِثِ لَا يَحْنَثُ وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ
عَطَفَ الْيَوْمَيْنِ على الْيَوْمِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عليه
فَاقْتَضَى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ غير الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال وَاَللَّهِ
لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ أو قال ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجْهُ ما
ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ
مُفْرَدَةٌ لِانْفِرَادِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَلِمَةِ النَّفْيِ وَالْوَاوُ
لِلْجَمْعِ بين الْيَمِينَيْنِ وَصَارَ تَقْدِيرُهُ أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَلَا
أُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ لِئَلَّا تَلْغُو كَلِمَةُ النَّفْيِ فَصَارَ لِكُلِّ
يَمِينٍ مُدَّةٌ على حِدَةٍ فَصَارَ على الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَمِينَانِ وَعَلَى
الْيَوْمِ الثَّانِي يَمِينٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ ما إذَا قال وَاَللَّهِ لَا
أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ فَكَلَّمَهُ في الْيَوْمِ الثَّالِثِ
أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يُعِدْ كَلِمَةَ النَّفْيِ فلم يُوجَدْ ما
يَدُلُّ على أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَلَامِ في كل مَرَّةٍ على حِدَةٍ
لِيَكُونَ يَمِينَيْنِ فَبَقِيَ يَمِينًا وَاحِدَةً وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بين
الْمُدَّتَيْنِ كما لو جَمَعَ بين الْمُدَّتَيْنِ بِكَلِمَةِ الْجَمْعِ فقال
وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالدَّلِيلُ على
التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لو قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَلَا
عَمْرًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَعَمْرًا فما لم يُكَلِّمْهُمَا لَا
يَحْنَثُ وقال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ لو قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الدَّارَ
يَوْمًا وَيَوْمًا فَهُوَ مِثْلُ حَلِفِهِ على يَوْمَيْنِ قال أبو يُوسُفَ وَلَا
يُشْبِهُ هذا قَوْلُهُ وَلَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ وَغَدًا لِأَنَّ قَوْلَهُ
يَوْمًا وَيَوْمًا عَطْفُ زَمَانٍ مُنَكَّرٍ على زَمَانٍ مُنَكَّرٍ فَصَارَ
كَقَوْلِهِ يَوْمَيْنِ فَيَدْخُلُ اللَّيْلُ وَقَوْلَهُ الْيَوْمَ وَغَدًا عَطْفُ
زَمَانٍ مُعَيَّنٍ على زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِ اللَّيْلِ
فيه فَلَا يَدْخُلُ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ
يَوْمَيْنِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ
من حِينِ فَرَغَ من الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ عليه ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالْيَوْمُ
الثَّانِي عليه يَمِينَانِ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ
عليه يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ ذَكَرَهَا
تَخْتَصُّ بِمَا يَعْقُبُهَا فَانْعَقَدَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى على الْكَلَامِ
في يَوْمٍ عَقِيبَ الْيَمِينِ وَالثَّانِيَةُ في يَوْمَيْنِ عَقِيبَ الْيَمِينِ
وَالثَّالِثَةُ في ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَقِيبَ الْيَمِينِ فَانْعَقَدَتْ على
الْكَلَامِ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ وَعَلَى الثَّانِي
يَمِينَانِ وَعَلَى الثَّالِثِ وَاحِدَةٌ وَنَظِيرُ هذه الْمَسَائِلِ ما رَوَى
دَاوُد بن رَشِيدٍ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ الْيَوْمَ
سَنَةً أو لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ شَهْرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَعَ كَلَامَهُ في
ذلك الْيَوْمِ شَهْرًا
وفي ذلك الْيَوْمِ سَنَةً حتى يُكْمِلَ كُلَّمَا دَارَ ذلك الْيَوْمُ في ذلك
الشَّهْرِ أو في تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ
يَكُونَ شَهْرًا أو سَنَةً فلم يَكُنْ ذلك مُرَادَ الْحَالِفِ فَكَانَ مُرَادُهُ
أَنْ لَا يُكَلِّمُهُ في مِثْلِهِ شَهْرًا أو سَنَةً
فَإِنْ قال لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وهو في يَوْمِ السَّبْتِ
فَهَذَا على سَبَّتَيْنِ
____________________
(3/49)
لِأَنَّ
الْيَوْمَ لَا يَكُونُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فلم يَكُنْ ذلك مُرَادًا فَيَقَعُ على
عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ لَا يَدُورُ في عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَكْثَرُ من سَبْتٍ
وَاحِدٍ
وَكَذَلِكَ لو قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ السَّبْتَ مَرَّتَيْنِ كان على
سَبَّتَيْنِ لِأَنَّ السَّبْتَ لَا يَكُونُ يَوْمَيْنِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه
مَرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ لو قال لَا أُكَلِّمُكِ يوم السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
كان كُلُّهَا يوم السَّبْتِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال لَا أُكَلِّمُك يَوْمًا ما أو لَا أُكَلِّمُك يوم السَّبْتِ يَوْمًا
فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على يَوْمٍ
شَائِعٍ في أَيَّامٍ فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ ولو قال ابن سِمَاعَةَ عن
مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمًا بين يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ له
قال فَكُلُّ يَوْمٍ بين يَوْمَيْنِ وهو عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا
أُكَلِّمُكَ يَوْمًا فَيَكُونُ على يَوْمٍ من سَاعَةِ حَلَفَ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُبْهَمُ فَنَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا زَمَنًا
أو حِينًا أو الزَّمَانَ أو الْحِينَ فَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يَقَعْ على
سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْحِينَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْقَصِيرُ
قال اللَّهُ تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حين تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }
قِيلَ حين تُمْسُونَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
صَلَاةُ الْفَجْرِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الطَّوِيلُ قال اللَّهُ
تَعَالَى { هل أتى على الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ } قِيلَ الْمُرَادُ منه
أَرْبَعُونَ سَنَةً وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَسَطُ قال اللَّهُ تَعَالَى {
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } قِيلَ أَيْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ
من وَقْتِ طُلُوعِهَا إلَى وَقْتِ ادراكها
قال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما هِيَ النَّخْلَةُ ثُمَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
لَا يُحْمَلُ على الْوَقْتِ الْقَصِيرِ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ
وَلَا حَاجَةَ إلَى الْيَمِينِ لِلْمَنْعِ في مِثْلِ هذه الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ
يُمْنَعُ بِدُونِ الْيَمِينِ وَلَا يُحْمَلُ على الطَّوِيلِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ
ذلك عَادَةً وَمَنْ أَرَادَ ذلك بِلَفْظَةِ الْأَبَدِ فَتَعَيَّنَ الْوَسَطُ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ حَمَلَهُ على ذلك
وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الطَّرَفَيْنِ في غَايَةِ الْبُعْدِ عن صَاحِبِهِ
وَالْوَسَطُ قَرِيبٌ مِنْهُمَا فَيُحْمَلُ عليه وإذا ثَبَتَ هذا في الْحِينِ
ثَبَتَ في الزَّمَانِ لِكَوْنِهِمَا من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَعَنْ
ثَعْلَبٍ أَنَّ الزَّمَانَ في كَلَامِ الْعَرَبِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ نَوَى
الْحَالِفُ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ على ما نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى ما
يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَفْظُهُ لِمَا بَيَّنَّا
وَمِنْهُمْ من قال يُصَدَّقُ في الْوَقْتِ الْيَسِيرِ في الْحِينِ وَلَا يُصَدَّقُ
في الزَّمَانِ لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في الْيَسِيرِ في
الْحِينِ كما في قَوْله تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حين تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ } ولم يَثْبُتْ في الزَّمَانِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في الْجَامِعِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدِينُ في
الزَّمَانِ وَالْحِينِ في كل ما نَوَى من قَلِيلٍ أو كَثِيرٍ وهو الصَّحِيحُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِيمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ في
الْقَضَاءِ وَلَوْ قال لَا أُكَلِّمُهُ دَهْرًا أو ( ( ( والدهر ) ) ) الدهر فقال
أبو حَنِيفَةَ إنْ كانت له نِيَّةٌ فَهُوَ على ما نَوَى وَإِنْ لم تَكُنْ له
نِيَّةٌ فَلَا أَدْرِي ما الدَّهْرُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا قال دَهْرًا فَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وإذا قال
الدَّهْرَ فَهُوَ على الْأَبَدِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا خِلَافَ في
الدَّهْرِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ الْأَبَدُ وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ أبو حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه في الدَّهْرِ الْمُنَكَّرِ فإنه قال إذَا قال دَهْرًا لَا أَدْرِي ما
هو
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ الدَّهْرَ يَنْصَرِفُ إلَى
جَمِيعِ الْعُمْرِ ولم يذكر فيه الْخِلَافَ وَقَوْلَهُ دَهْرًا لَا يدري
تَفْسِيرُهُ وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَشَارَ إلَى التَّوَقُّفِ في الدَّهْرِ
الْمُعَرَّفِ أَيْضًا فإنه قال وَالدَّهْرُ لَا أَدْرِي ما هو
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ في قَوْلِهِ دَهْرًا وَالدَّهْرَ
أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَهُمَا جَعَلَا قَوْلَهُ دَهْرًا كَالْحِينِ وَالزَّمَانِ
لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ ما رَأَيْتُكَ
من دَهْرٍ وما رَأَيْتُكَ من حِينٍ على السَّوَاءِ فإذا أُدْخِلَ عليه الْأَلْفُ
وَاللَّامُ صَارَ عِبَارَةً عن جَمِيعِ الزَّمَانِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ الدَّهْرَ يَقَعُ على سِتَّةِ أَشْهُرٍ
لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنهما وأبو حَنِيفَةَ كَأَنَّهُ رَأَى
الِاسْتِعْمَالَ مُخْتَلِفًا فلم يَعْرِفْ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ إطْلَاقِ
الِاسْمِ فَتَوَقَّفَ وقال لَا أَدْرِي أَيْ لَا أَدْرِي بِمَاذَا يُقَدَّرُ إذْ
لَا نَصَّ فيه عن أَحَدٍ من أَرْبَابِ اللِّسَانِ بِخِلَافِ الْحِينِ وَالزَّمَانِ
فإن فِيهِمَا نَصًّا عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فانه فَسَّرَ قَوْله
تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
وَالزَّمَانُ وَالْحِينُ ينبآن ( ( ( ينبئان ) ) ) عن مَعْنًى وَاحِدٍ وَهَذَا على
قَوْلِ من قال من مَشَايِخِنَا أنه تَوَقَّفَ في الْمُنَكَّرِ لَا في الْمُعَرَّفِ
أو لم يَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهُ لُغَةً فَتَوَقَّفَ فيه وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا
لَا يُعْرَفُ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ
وَانْعِدَامِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ أَمَارَةُ كَمَالِ الْعِلْمِ
وَتَمَامِ الْوَرَعِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما سُئِلَ
عن شَيْءٍ فقال لَا أَدْرِي
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فقال لَا أَدْرِي
فلما نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَهُ فَعَرَجَ إلَى
السَّمَاءِ ثُمَّ هَبَطَ فقال سَأَلْت رَبِّي عز وجل عن أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فقال
الْمَسَاجِدُ وَأَفْضَلُ أَهْلِهَا من جَاءَهَا أَوَّلًا وَانْصَرَفَ آخِرًا
وَشَرُّ أَهْلِهَا من جَاءَهَا آخِرًا وَانْصَرَفَ أَوَّلًا
وَلَوْ قال يوم أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ له
فَكَلَّمَهُ لَيْلًا أو نَهَارًا يَحْنَثُ وَكَذَا إذَا قال يوم أَدْخُلُ هذه
الدَّارَ لِأَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ
مُطْلَقُ الْوَقْتِ في مُتَعَارَفِ أَهْلِ اللِّسَانِ قال اللَّهُ عز وجل { وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا
إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ من اللَّهِ }
____________________
(3/50)
الْآيَةَ
وَمَنْ وَلَّى دُبُرَهُ بِاللَّيْلِ يَلْحَقْهُ الْوَعِيدُ كما لو وَلَّى
بِالنَّهَارِ فَإِنْ نَوَى بِهِ اللَّيْلَ خَاصَّةً دِينَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ
نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ لِأَنَّ اللَّفْظَ جُعِلَ عِبَارَةً
عن مُطْلَقِ الْوَقْتِ في عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُصَدَّقُ في الصَّرْفِ
عنه وَإِنْ قال لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا أو لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ
فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ نَهَارًا أو قَدِمَ نَهَارًا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ
اللَّيْلَةَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِسَوَادِ اللَّيْلِ يُقَالُ لِلَّيْلَةِ
الْمُظْلِمَةِ لَيْلَةٌ لَيْلَاءُ وَلَيْلٌ أَلْيَلُ وَلَا عُرْفَ هَهُنَا
يَصْرِفُ اللَّفْظَ عن مُقْتَضَاهُ لُغَةً حتى لو ذَكَرَ اللَّيَالِيَ حُمِلَتْ
على الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَهَا في الْوَقْتِ
الْمُطْلَقِ مَعْرُوفٌ ذلك في أَشْعَارِهِمْ كما قالوا لَيَالِيَ لَاقَتْنَا
جُذَامٌ وحميرا ( ( ( وحمير ) ) ) وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ يوم يَقْدَمُ فُلَانٌ
فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَا يَكُونُ لها من الْأَمْرِ
شَيْءٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ في حَالِ ذِكْرِ الأمر يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ
الْمُعَيَّنُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوَقْتَ لَا مَحَالَةَ وهو
الْمَجْلِسُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ
الْخِيَارَ ما دَامَتْ في مَجْلِسِهَا فَقَدْ وَقَّتُوا لِلْأَمْرِ وَقْتًا فإذا
كان كَذَلِكَ استغنى عن الْوَقْتِ فَيَقَعُ ذِكْرُ الْيَوْمِ على بَيَاضِ
النَّهَارِ فإذا قَدِمَ نَهَارًا صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا عَلِمَتْ أو لم
تَعْلَمْ وَيَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ لِأَنَّ هذا أَمْرٌ مُوَقَّتٌ فَيَبْطُلُ
بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَالْعِلْمُ ليس بِشَرْطٍ كما إذَا قال أَمْرُكِ بِيَدِكِ
الْيَوْمَ فَمَضَى الْيَوْمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ من يَدِهَا
وَأَمَّا في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَصِرُ على مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَلَوْ
قال لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَدِمَ نَهَارًا لم يَثْبُتْ
لها ذلك الْأَمْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّيْلَةَ عِبَارَةٌ عن سَوَادِ
اللَّيْلِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك الْجُمُعَةَ فَلَهُ
أَنْ يُكَلِّمَهُ في غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ اسْمٌ
لِيَوْمٍ مَخْصُوصٍ فصار كما لو قال لَا أُكَلِّمُك يوم الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ لو
قال جُمَعًا له أَنْ يُكَلِّمَهُ في غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ
جُمَعٌ جمعة وَهِيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ ما
إذَا قال لَا أُكَلِّمُهُ أَيَّامًا أَنَّهُ يَدْخُلُ فيه اللَّيَالِيُ لِأَنَّا
إنَّمَا عَرَفْنَا ذلك بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قال اللَّهُ تَعَالَى في قِصَّةِ
زَكَرِيَّا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا }
وقال تَعَالَى في مَوْضِعٍ آخَرَ { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَالْقِصَّةُ
وَاحِدَةٌ وَمِثْلُ هذا الِاسْتِعْمَالِ لم يُوجَدْ في مِثْلِ قَوْلِهِ جُمَعًا
ثُمَّ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك جُمَعًا فَهُوَ على ثَلَاثِ جُمَعٍ
لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ عِنْدَنَا فَيُحْمَلُ عليه
لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا وإذا قال الْجُمَعُ فَهُوَ على عَشْرِ جُمَعٍ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ وَالْأَزْمِنَةُ وَالْأَحَايِينِ وَالشُّهُورُ
والسنين ( ( ( والسنون ) ) ) أَنَّ ذلك يَقَعُ على عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَعَشَرَةِ
أَحَايِينَ أو أَزْمِنَةٍ وَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ سِنِينَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ في الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ أنه يَقَعُ على الْأَبَدِ
وَكَذَا في الْأَحَايِينِ وَالْأَزْمِنَةِ وفي الْأَيَّامِ على سَبْعَةٍ وفي
الشُّهُورِ على اثْنَيْ عَشَرَ
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا فِيمَا دخل عليه حَرْفُ التَّعْرِيفِ وهو اللَّامُ من
أَسْمَاءِ الْجَمْعِ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كان هُنَاكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ
كَالسَّبْعَةِ في الْأَيَّامِ وَالِاثْنَيْ عَشَرَ في الشُّهُورِ وَإِنْ لم يَكُنْ
هُنَاكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ الْعُمْرَ
كَالسِّنِينَ وَالْأَحَايِينِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ذلك إلَى أَقْصَى ما يُطْلَقُ عليه لَفْظُ الْجَمْعِ عِنْدَ
اقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُعَرَّفَ إذَا لم يُصْرَفْ إلَى الْجِنْسِ
فَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى بَعْضِ
الْجِنْسِ وَالصَّرْفُ إلَى الْمَعْهُودِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فيه
إلَى الْإِدْرَاجِ وفي الصَّرْفِ إلَى الْبَعْضِ يُحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ لَفْظَةِ
الْبَعْضِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَى الْمَعْهُودِ أَوْلَى وَالْمَعْهُودُ في
الْأَيَّامِ السَّبْعَةُ التي يَتَرَكَّبُ منها الشهر ( ( ( الأسبوع ) ) ) وَهِيَ
من السَّبْتِ إلَى الْجُمُعَةِ وفي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ التي تُرَكَّبُ
منها السَّنَةُ وإذا لم يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ فَالصَّرْفُ إلَى الْجِنْسِ
أَوْلَى فَيُصْرَفُ إلَيْهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ اسْتِعْمَالُ أَرْبَابِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ
في الْجُمُوعِ فإن أَقْصَى ما يُطْلَقُ عليه لَفْظُ الْجَمْعِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ
بِالْعَدَدِ هو الْعَشَرَةُ وَيُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةُ رِجَالٍ
وَعَشَرَةُ رِجَالٍ ثُمَّ إذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا
وَعِشْرُونَ رَجُلًا وَمِائَةُ رَجُلٍ وَأَلْفُ رَجُلٍ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ
يُطْلَقُ على كل قَدْرٍ من هذه الْأَقْدَارِ التي ذَكَرْنَا إلَى الْعَشَرَةِ في
حَالَةِ الْإِبْهَامِ وَالتَّعْيِينِ جميعا وَيُطْلَق على ما وَرَاءَهَا من الْأَقْدَارِ
في حَالَةِ الْإِبْهَامِ وَلَا يُطْلَقُ في حَالَةِ التَّعْيِينِ وَالِاسْمُ مَتَى
كان ثَابِتًا لِشَيْءٍ في حَالَيْنِ كان أَثْبَتَ مِمَّا هو اسْمٌ له في حَالٍ
دُونَ حَالٍ بَلْ يَكُونُ نَازِلًا من الْأَوَّلِ مَنْزِلَةَ الْمَجَازِ من
الْحَقِيقَةِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَى ما هو اسْمٌ له في
____________________
(3/51)
الْحَالَيْنِ
أَوْلَى فَلِهَذَا اُقْتُصِرَ على الْعَشَرَةِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَقَدْ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ على
عَشَرَةِ أَيَّامٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَسَوَاءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْإِمَامِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ على ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ولم يذكر فيها الْخِلَافَ
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ مُنَكَّرًا فَيَقَعُ على
أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ وهو ثَلَاثَةٌ عِنْدَنَا وَلَوْ قال لَا أُكَلِّمُكَ
سِنِينَ فَهُوَ على ثَلَاثِ سِنِينَ في قَوْلِهِمْ جميعا لِمَا ذَكَرْنَا في
الْأَيَّامِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْعُمْرَ فَهُوَ على جَمِيعِ
الْعُمْرِ إذَا لم تَكُنْ له نِيَّةٌ
وَلَوْ قال عُمْرًا فَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يَقَعُ على
يَوْمٍ وفي رِوَايَةٍ يَقَعُ على سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَالْحِينِ وهو الْأَظْهَرُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حُقُبًا فَهُوَ على ثَمَانِينَ سَنَةً لِأَنَّهُ
اسْمٌ له وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَهُوَ على عَشَرَةِ
أَيَّامٍ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ مثله لِأَنَّهُ
أَدْخَلَ الْكَثْرَةَ على اسْمِ الْجَمْعِ فَصَارَ كما لو ذُكِرَ بلام الْجِنْسِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يَقَعُ على سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ قال لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا
فَهُوَ على أَحَدٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ يُعْطَفُ على عَدَدٍ
بِحَرْفِ الْعَطْفِ
وَلَوْ قال كَذَا كَذَا يَوْمًا فَهُوَ على أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَوْ حَلَفَ
لَا يُكَلِّمُهُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ على ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا
لِأَنَّ الْبِضْعَ من ثَلَاثَةٍ إلَى تِسْعَةٍ فَيُحْمَلُ على أَقَلِّهَا وَلَوْ
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى بَعِيدٍ يَقَعُ على شَهْرٍ فَصَاعِدًا وَلَوْ حَلَفَ
لَا يُكَلِّمُهُ إلَى قَرِيبٍ وَلَا نِيَّةَ له فَهُوَ على أَقَلَّ من شَهْرٍ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَاجِلًا وَلَا نِيَّةَ له فَهُوَ على أَقَلَّ من
شَهْرٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ في حُكْمِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ أَجَلًا في
الدُّيُونِ فَكَانَ بَعِيدًا وَآجِلًا وما دُونَهُ عَاجِلًا وَلَوْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُهُ مَلِيًّا يَقَعُ على شَهْرٍ كَالْبَعِيدِ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ
بِهِ غَيْرَهُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إذا قال وَاَللَّهِ لَأَهْجُرَنَّكَ مَلِيًّا فَهُوَ على
شَهْرٍ وَأَكْثَرَ فَإِنْ نَوَى أَقَلَّ من ذلك لم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ
لِأَنَّهُ جاء في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } أَيْ طَوِيلًا
وَهَذَا يَقْتَضِي ما زَادَ على الشهر ( ( ( شهر ) ) )
وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ الشِّتَاءَ فَأَوَّلُ ذلك إذَا لَبِسَ الناس
الْحَشْوَ وَالْفِرَاءَ وَآخِرُ ذلك إذَا أَلْقَوْهَا على الْبَلَدِ الذي حَلَفَ
فيه وَالصَّيْفُ على ضِدِّهِ وهو من حِينِ إلْقَاءِ الْحَشْوِ إلَى لُبْسِهِ
وَالرَّبِيعُ آخِرُ الشِّتَاءِ وَمُسْتَقْبَلُ الصَّيْفِ إلَى أَنْ يبس ( ( ( ييبس
) ) ) الْعُشْبُ وَالْخَرِيفُ فَصْلٌ بين الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَالْمَرْجِعُ في
ذلك كُلِّهِ إلَى اللُّغَةِ
وقال خَلَفُ بن أَيُّوبَ سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ
رَجُلًا إلَى الْمَوْسِمِ قال يُكَلِّمُهُ إذَا أَصْبَحَ يوم النَّحْرِ لِأَنَّهُ
أَوَّلُ الْمَوْسِمِ وقال أبو يُوسُفَ يُكَلِّمُهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يوم
عَرَفَةَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ وهو الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
وقال عمرو ( ( ( عمر ) ) ) عن ( ( ( وعن ) ) ) مُحَمَّدٍ غُرَّةُ الشَّهْرِ
وَرَأْسُ الشَّهْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ وَيَوْمُهَا وَأَوَّلُ الشَّهْرِ إلَى ما
دُونَ النِّصْفِ وَآخِرُهُ إلَى مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وقد رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوَّلَ
يَوْمٍ من آخِرِ الشَّهْرِ وَآخِرَ يَوْمٍ من أَوَّلِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ
الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ لِأَنَّ الْخَامِسَ عَشَرَ آخِرُ
أَوَّلِهِ وَالسَّادِسَ عَشَرَ أَوَّلُ آخِرِهِ إذَا قال وَاَللَّهِ
لَأُكَلِّمَنَّكَ أَحَدَ يَوْمَيْنِ أو لَأَخْرُجَنَّ أَحَدَ يَوْمَيْنِ أو قال
الْيَوْمَيْنِ أو قال أَحَدَ أَيَّامِي فَهَذَا كُلُّهُ على أَقَلَّ من عَشَرَةِ
أَيَّامٍ إنْ كَلَّمَهُ قبل الْعَشَرَةِ أو خَرَجَ قبل الْعَشَرَةِ لم يَحْنَثْ
وَيَدْخُلُ في ذلك اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا لَا يُرَادُ بِهِ
يَوْمَانِ بِأَعْيَانِهِمَا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ على طَرِيقِ التَّقْرِيبِ على
طَرِيقِ الْعَشَرَةِ وما دُونَهَا في حُكْمِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ فَإِنْ قال
أَحَدَ يَوْمَيَّ هَذَيْنِ فَهَذَا على يَوْمِهِ ذلك وَالْغَدِ لِأَنَّهُ أَشَارَ
إلَى الْيَوْمَيْنِ وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ على الْمُعَيَّنِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا هذه السَّنَةَ إلَّا يَوْمًا
فَإِنْ جَمَعَ كَلَامَهُمَا في يَوْمٍ له اسْتَثْنَاهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ
الْيَوْمَ الذي يُكَلِّمُهُمَا فيه مُسْتَثْنًى من الْيَمِينِ فَإِنْ كَلَّمَ
أَحَدَهُمَا في يَوْمٍ وَالْآخَرَ في يَوْمٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ
يُكَلِّمُهُمَا جميعا فيه وَلَوْ يُوجَدُ فَقَدْ كَلَّمَهُمَا في غَيْرِ الْيَوْمِ
الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ كَلَّمَهُمَا جميعا
في يَوْمٍ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْيَوْمَ الذي كَلَّمَهُمَا فيه مُسْتَثْنًى
وَشَرْطُ الْحِنْثِ في غَيْرِهِ كَلَامُهُمَا لَا كَلَامُ أَحَدِهِمَا وَإِنْ
كَلَّمَهُمَا في يَوْمٍ آخَرَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ على
يَوْمٍ مُنَكَّرٍ يُكَلِّمُهُمَا فيه فَكَأَنَّهُ قال إلَّا يوم أُكَلِّمُهُمَا
فيه وَلَوْ اسْتَثْنَى يَوْمًا مَعْرُوفًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا فيه وَالْآخَرَ
في الْغَدِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ في غَيْرِ الْيَوْمِ
الْمُسْتَثْنَى كَلَامُهُمَا ولم يُوجَدْ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ بَلْ بَعْضُهُ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا قال لَا أُكَلِّمُهُمَا إلَّا يَوْمًا لم يَحْنَثْ
بِكَلَامِهِمَا في يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَلَّمَهُمَا في يَوْمٍ آخَرَ حَنِثَ
لِأَنَّهُ لم يَسْتَثْنِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وقد وُجِدَ فَصَارَتْ الْيَمِينُ
بَعْدَهُ مُطْلَقَةً
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ إذَا قال لَا أُكَلِّمُكَ شَهْرًا إلَّا يَوْمًا أو
قال غير يَوْمٍ أَنَّهُ على ما نَوَى إن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ
يَتَحَرَّى أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى يَوْمًا مُنَكَّرًا وَكُلُّ
يَوْمٍ من الشَّهْرِ يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ قال نُقْصَانَ يَوْمٍ
فَهَذَا على تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الشَّهْرِ يَكُونُ من
آخِرِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أو فُلَانًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا حَنِثَ
لِأَنَّ كَلِمَةَ أو إذَا ذُكِرَتْ عَقِيبَ كَلِمَةِ النَّفْيِ أَوْجَبَتْ
انْتِفَاءَ كل وَاحِدٍ من الْمَذْكُورِينَ على الِانْفِرَادِ قال اللَّهُ تَعَالَى
{ وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا } أَيْ وَلَا كَفُورًا
____________________
(3/52)
وَكَذَلِكَ لو قال وَلَا فُلَانًا لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا أُعِيدَتْ
تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمَذْكُورِينَ على حِيَالِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى
{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ في الْحَجِّ } وَلَوْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لم يَحْنَثْ حتى يُكَلِّمَهُمَا لِأَنَّ حَرْفَ
الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ
الْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُمَا فَقَدْ عَلَّقَ الْجَزَاءَ
بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا أو فُلَانًا فَإِنْ كَلَّمَ
أَحَدَ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَحْنَثُ ما لم يُكَلِّمْهُمَا وَإِنْ كَلَّمَ
الثَّالِثَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلَيْنِ
جميعا أو كَلَامَ الثَّالِثِ فَأَيُّ ذلك وُجِدَ حَنِثَ
وَلَوْ قال لَا أُكَلِّمُ هذا أو هذا وَهَذَا فَإِنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ
وَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْآخَرَيْنِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ
الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ أَوَّلًا ثُمَّ الْآخَرَيْنِ فَيُرَاعَى شَرْطُهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ الناس أو لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ فَكَلَّمَ
وَاحِدًا منهم يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْجِنْسِ
وَالْعُمُومِ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا في وُسْعِهِ
وَلَيْسَ في وُسْعِهِ تَكْلِيمُ الناس كُلِّهِمْ فلم يَكُنْ ذلك مُرَادَهُ وَإِلَى
هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ فقال أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ
يُكَلِّمَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ وَلَيْسَ هَهُنَا مَعْهُودٌ يُصْرَفُ اللَّفْظُ
إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الصَّرْفُ إلَى بَعْضِ الْجِنْسِ وَيُضْمَرُ فيه لَفْظَةُ
الْبَعْضِ وَإِنْ عَنَى بِهِ الْكُلَّ لَا يَحْنَثُ أَبَدًا وَيَكُونُ مُصَدَّقًا
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل وفي الْقَضَاءِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَوَى
حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ الْجِنْسُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ
الْجِنْسُ بهذا الْكَلَامِ فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ
قَضَاءً وَعَلَى هذا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أو لَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يبتدىء فُلَانًا بِكَلَامِهِ أَبَدًا فَالْتَقَيَا فَسَلَّمَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ مَعًا لم يَحْنَثْ الْحَالِفُ لِعَدَمِ
شَرْطِ الْحِنْثِ وهو ابْتِدَاؤُهُ فُلَانًا بِالْكَلَامِ لِأَنَّ ذلك
بِتَكْلِيمِهِ قبل تَكْلِيمِ صَاحِبِهِ ولم يُوجَدْ وَكَذَلِكَ لو قال إنْ
كَلَّمْتُكَ قبل أَنْ تُكَلِّمَنِي فإنه لَمَّا خَرَجَ كَلَامَاهُمَا مَعًا فلم
يُكَلِّمْ الْحَالِفُ قبل تَكْلِيمِهِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلَوْ قال
إنْ كَلَّمْتُكَ حتى تُكَلِّمَنِي فَتَكَلَّمَا مَعًا لم يَحْنَثْ في قَوْلِ أبي
يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يَحْنَثُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْحَالِفَ بِقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُكَ مَنَعَ نَفْسَهُ عن
تَكْلِيمِهِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ تَكْلِيمَ صَاحِبِهِ إيَّاهُ غَايَةً لِانْحِلَالِ
الْيَمِينِ فإذا كَلَّمَهُ قبل وُجُودِ الْغَايَةِ حَنِثَ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ
غَرَضَ الْحَالِفِ من هذا الْكَلَامِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عن تَكْلِيمِ
الْمَحْلُوفِ عليه قبل كَلَامِهِ ولم يُوجَدْ ذلك فَصَارَ كَأَنَّهُ قال إنْ
بَدَأْتُكَ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال لَا أُكَلِّمُكَ إلَّا أَنْ تُكَلِّمَنِي لِأَنَّ
كَلِمَةَ إلَّا أَنْ إذَا دَخَلَتْ على ما يَتَوَقَّتُ كانت بِمَعْنَى حتى قال
اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الذي بَنَوْا رِيبَةً في
قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا
يَدْخُلُ هذه الدَّارَ حتى يَدْخُلَهَا فُلَانٌ وَحَلَفَ الْآخَرُ على مِثْلِ ذلك
فَدَخَلَا جميعا لم يَحْنَثْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَانِ
وَالْكِتْمَانِ وَالْإِسْرَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْإِخْبَارِ وَالْبِشَارَةِ
وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا
إذَا حَلَفَ لَا أُظْهِرُ سِرَّكَ لِفُلَانٍ أو لَا أُفْشِي أو حَلَفَ
لَيَكْتُمَنَّ سِرَّهُ أو لَيَسْتُرَنَّهُ أو لَيُخْفِيَنَّهُ فَكَلَّمَ فُلَانًا
بِسِرِّهِ أو كَتَبَ إلَيْهِ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أو أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا
فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ أو سَأَلَهُ فُلَانٌ عن ذلك وقال أَكَانَ من الْأَمْرِ
كَذَا فَأَشَارَ الْحَالِفُ بِرَأْسِهِ أَيْ نعم فَهُوَ حَانِثٌ لِوُجُودِ شَرْطِ
الْحِنْثِ وهو إظْهَارُ السِّرِّ إذْ الْإِظْهَارُ إثْبَاتُ الظُّهُورِ وَذَلِكَ
لَا يَقِفُ على الْعِبَارَةِ بَلْ يَحْصُلُ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ ظَهَرَ لي اعْتِقَادُ فُلَانٍ إذَا فَعَلَ ما يَدُلُّ
على اعْتِقَادِهِ وَكَذَا الْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ عَقِيبَ السُّؤَالِ يَثْبُتُ
بِهِ ظُهُورُ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَكَانَ إظْهَارًا فَإِنْ نَوَى بِهِ الْكَلَامَ
أو الْكِتَابَ دُونَ الْإِيمَاءِ دِينَ في ذلك لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ ما في
لَفْظِهِ فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل وَكَذَلِكَ لو
حَلَفَ لَا يُعْلِمُ فُلَانًا بِمَكَانِ فُلَانٍ فَسَأَلَهُ الْمَحْلُوفُ عليه
أَفُلَانٌ في مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نعم يَحْنَثُ
لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وهو الْإِعْلَامُ إذْ هو إثْبَاتُ الْعِلْمِ الذي
يُحَدُّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بها الْمَذْكُورُ لِمَنْ قَامَتْ هِيَ بِهِ
فَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِخْبَارَ بِالْكَلَامِ أو بِالْكِتَابِ يُدَيَّنْ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وأنه
جَائِزٌ وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ
____________________
(3/53)
تَعَالَى
وَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ وَلَوْ كان مَكَانَ
الْإِعْلَامِ إخْبَارٌ بِأَنْ حَلَفَ لَا يُخْبِرُ فُلَانًا بِمَكَانِ فُلَانٍ لَا
يَحْنَثُ إلَّا بِالْكَلَامِ أو بِالْكِتَابِ أو بِالرِّسَالَةِ وَلَوْ أَوْمَأَ
بِرَأْسِهِ لَا يَحْنَثُ وَكَذَا لو ذَهَبَ بِهِ حتى أَوْقَفَهُ على رَأْسِ
فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ هو الْإِخْبَارُ وَالْإِشَارَةُ
لَيْسَتْ بِخَبَرٍ وَكَذَا الْإِيقَافُ على رَأْسِهِ إذْ الْخَبَرُ من أَقْسَامِ
الْكَلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قالوا أَقْسَامُ الْكَلَامِ أَرْبَعَةٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ
وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَيُحَدُّ بِأَنَّهُ كَلَامٌ عُرِّيَ عن مَعْنَى
التَّكْلِيفِ وَالْإِشَارَةُ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ فلم تَكُنْ خَبَرًا وَالْإِيقَافُ
على رَأْسِهِ من بَابِ الْإِعْلَامِ لَا من بَابِ الْخَبَرِ وَكُلُّ خَبَرٍ
إعْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إعْلَامٍ خَبَرًا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْكِتَابَ
إذَا قرىء ( ( ( قرئ ) ) ) على إنْسَانٍ وَقِيلَ له أَهُوَ كما كُتِبَ فيه
فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَيْ نعم لَا يَصِيرُ مُقِرًّا وَكُلُّ إقْرَارٍ إخْبَارٌ
وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يُقِرُّ لِفُلَانٍ بِمَالٍ فَقِيلَ له أَلِفُلَانٍ عَلَيْكَ
أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَيْ نعم لَا يَكُونُ ذلك منه إقْرَارًا
وَكَذَا إذَا قَرَأَ على إنْسَانٍ كِتَابَ الإخبار فَقِيلَ له أَهُوَ كما قَرَأْتُ
عَلَيْكَ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نعم لَا يَصِيرُ مُقِرًّا وَكُلُّ إقْرَارٍ
إخْبَارٌ وَكَذَا إذَا قَرَأَ على إنْسَانٍ كِتَابَ الْأَخْبَارِ فَقِيلَ له
أَهُوَ كما قَرَأْتُ عَلَيْكَ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نعم ليس له أَنْ يروى
عنه بِحَدَّثَنَا وَلَا بِأَخْبَرَنَا فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَاءَ ليس بأخبار
وَلَوْ نَوَى بِالْإِخْبَارِ الْإِظْهَارَ أو الْإِعْلَامَ يَحْنَثُ إذَا أَوْمَأَ
لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَجَازًا عن الْإِظْهَارِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا وَفِيهِ
تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ ثَمَّ في يَمِينِ الْإِظْهَارِ وَالْإِعْلَامِ
لو أَرَادَ الْحَالِفُ أَنْ لَا يَحْنَثَ وَيَحْصُلَ الْعِلْمُ وَالظُّهُورُ
يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ له أنا نَعُدُّ عَلَيْكَ أَمْكِنَةً أو أَشْيَاءَ من
الْأَسْرَارِ فَإِنْ لم تَتَكَلَّمْ بِمَكَانِ فُلَانٍ وَلَا سِرِّهِ فَقُلْ لنا
ليس كما تَقُولُونَ وَإِنْ تَكَلَّمْنَا بِسِرِّهِ أو بِمَكَانِهِ فَاسْكُتْ
فَفَعَلَ ذلك لَا يَحْنَثُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ وهو الْإِظْهَارُ
وَالْإِعْلَامُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِظْهَارَ هو إثْبَاتُ الظُّهُورِ
وَالْإِعْلَامُ هو إثْبَاتُ الْعِلْمِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالْعِلْمَ
حَصَلَ من غَيْرِ صُنْعِهِ وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ
وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَدُلُّهُمْ فَفَعَلَ مِثْلَ ذلك فَهَذَا ليس
بِدَلَالَةٍ لِأَنَّ الْحَالِفَ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ وهو الدَّلَالَةُ لَا
على فِعْلِهِمْ وهو الِاسْتِدْلَال وَالْمَوْجُودُ هَهُنَا فِعْلُهُمْ لَا
فِعْلُهُ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ
بِرَأْسِهِ أو أَشَارَ إلَيْهِمْ كان ذلك دَلَالَةً إلَّا أَنْ يَعْنِيَ
بِالدَّلَالَةِ الْخَبَرَ بِاللِّسَانِ أو بِالْكِتَابِ فَيَكُونُ على ما عَنَى
لِأَنَّ اسْمَ الدَّلَالَةِ يَقَعُ على الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ لِوُجُودِ
مَعْنَاهَا فِيهِمَا فإذا نَوَى بِهِ أَحَدَهُمَا فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ ما في
لَفْظِهِ فَيُصَدَّقُ وَالْبِشَارَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَبَرِ في أنها لَا
تَتَنَاوَلُ إلَّا الْكَلَامَ أو الْكِتَابَ لِأَنَّهَا خَبَرٌ إلَّا أنها خَبَرٌ
مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ وهو الْخَبَرُ الذي يُؤَثِّرُ في بَشَرَةِ وَجْهِ الْمُخْبَرِ
له بِإِظْهَارِ أَثَرِ السُّرُورِ وقد يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُؤَثِّرُ في
بَشَرَتِهِ بِإِظْهَارِ أَثَرِ الْحُزْنِ مَجَازًا كما في قَوْلِهِ عز وجل {
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ على
الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَقَعُ على الثَّانِي بِالْقَرِينَةِ
وَكَذَا الْإِقْرَارُ بِأَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُقِرَّ لِفُلَانٍ بِحَقِّهِ فَهُوَ
على مِثْلِ الْخَبَرِ وَلَا يَحْنَثُ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
إخْبَارٌ عن الْمَاضِي ثُمَّ يَقَعُ الْفَرْقُ بين الْبِشَارَةِ وَالْإِعْلَامِ
وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ من حَيْثُ أن الْإِعْلَامَ وَالْبِشَارَةَ يُشْتَرَطُ
لثبوتهما ( ( ( لثبوتها ) ) ) الصِّدْقُ فَلَا يَثْبُتَانِ بِالْكَذِبِ وَلَا
بِمَا عَلِمَهُ الْمُخَاطَبُ قبل الْإِعْلَامِ وَالْبِشَارَةِ سَوَاءٌ وَصَلَ ذلك
بِحَرْفِ الْبَاءِ أو بِكَلِمَةِ أن حتى أنه لو قال لِغَيْرِهِ إنْ أَعْلَمْتنِي
أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ أو قال إنْ أَعْلَمْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَأَخْبَرَهُ
كَاذِبًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْكَذِبُ لَا
يُفِيدُ الْعِلْمَ وَكَذَا لو كان الْمُخَاطَبُ عَالِمًا بِقُدُومِهِ لِأَنَّ
إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُحَالٌ
وَكَذَا في الْبِشَارَةِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ وَالْكَذِبُ لَا
يَسُرُّ وإذا كان عَالِمًا بِقُدُومِهِ فَالسُّرُورُ كان حَاصِلًا وَتَحْصِيلُ
الْحَاصِلِ مُسْتَحِيلٌ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَإِنْ وَصَلَهُ بِحَرْفِ الْبَاءِ
بِأَنْ قال إنْ أَخْبَرْتَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَالْجَوَابُ فيه وفي
الْإِعْلَامِ وَالْبِشَارَةِ سَوَاءٌ وَإِنْ وَصَلَهُ بِكَلِمَةِ أن بِأَنْ قال
إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا أو أخبره بعد ما
كان عَلِمَ الْمُخَاطَبُ بِقُدُومِهِ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ يَحْنَثْ وَالْفَرْقُ
يُعْرَفُ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ بِسِرِّ فُلَانٍ وَلَا بِمَكَانِهِ فَكَتَبَ أو
أَشَارَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشَارَةَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ
وَإِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ إلَيْنَا كِتَابًا وَلَا يُقَالُ
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى في الْعُرْفِ كَلَّمَنَا فَإِنْ سُئِلَ عنه فقال نعم فَقَدْ
تَكَلَّمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ نعم لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَيُضْمَرُ فيه
السُّؤَالُ كما في قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا قالوا نعم } أَيْ وَجَدْنَا ما وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَقَدْ أتى
بِكَلَامٍ دَالٍّ على الْمُرَادِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ فُلَانَةَ فَاسْتَخْدَمَهَا بِكَلَامٍ أو
أَمَرَهَا بِشَيْءٍ من خِدْمَةٍ أو أَشَارَ إلَيْهَا بِالْخِدْمَةِ فَقَدْ
اسْتَخْدَمَهَا فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ طَلَبُ الْخِدْمَةِ وقد
وُجِدَ وَلَوْ كانت هذه
____________________
(3/54)
الْأَيْمَانُ
كُلُّهَا وهو صَحِيحٌ ثُمَّ خَرِسَ فَصَارَ لَا يَقْدِرُ على الْكَلَامِ كانت
أَيْمَانُهُ في هذا كُلِّهِ على الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابِ في جَمِيعِ ما
وَصَفْنَا إلَّا في خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ
بِسِرِّ فُلَانٍ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالتَّكَلُّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ
الْعُرْفِيَّ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ تَدُلُّ على مَعْنًى مَفْهُومٍ وَذَلِكَ
لا يوجد في الْإِشَارَةِ وَالْخَبَرِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِظْهَارِ من
الْأَخْرَسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ فَيَحْنَثُ بِهِمَا وَكُلُّ شَيْءٍ
حَنِثَ فيه من هذه الْأَشْيَاءِ بِالْإِشَارَةِ فقال أَشَرْتُ وأنا لَا أُرِيدُ
الذي حَلَفْتُ عليه فَإِنْ كان فَعَلَ ذلك جَوَابًا لشيء ( ( ( بالشيء ) ) )
مِمَّا سُئِلَ عنه لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فيها
احْتِمَالٌ فَإِنْ كان هُنَاكَ دَلَالَةُ حَالٍ زَالَ الِاحْتِمَالُ وَإِنْ لم
يَكُنْ يَرْجِعْ إلَى نِيَّتِهِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا
أَقُولُ كَذَا لِفُلَانٍ فَهُوَ عِنْدِي مِثْلُ الْخَبَرِ وَالْبِشَارَةِ أَلَا
يرى أَنَّ رَجُلًا لو قال وَاَللَّهِ لَا أَقُولُ لِفُلَانٍ صَبَّحَكَ اللَّهُ
بِخَيْرٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فقال قُلْ لِفُلَانٍ يقول لك فُلَانٌ
صَبَّحَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فإنه حَانِثٌ قال أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ هو
الْمُرْسِلُ وَأَنَّ الرَّسُولَ هو الْقَائِلُ ذلك لِفُلَانٍ وَلَوْ كان هو هذا
الذي حَلَفَ عليه لم يَحْنَثْ
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يقول قال اللَّهُ عز وجل لنا في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ
كَذَا وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا بهذا الْأَمْرِ فَهَذَا على
الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ لَا يَحْنَثُ بِكِتَابٍ وَلَا رَسُولٍ أَلَا تَرَى أَنَّكَ
لَا تَقُولُ كَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِكَذَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ على الْمُشَافَهَةِ لِأَنَّ ما سِوَى الْكَلَامِ ليس
بِحَدِيثٍ وَلَوْ قال أَيُّ عَبِيدِي يُبَشِّرُنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ
فَبَشَّرُوهُ جميعا عَتَقُوا لِوُجُودِ الْبِشَارَةِ من كل وَاحِدٍ منهم لِوُجُودِ
حَدِّ الْبِشَارَةِ وهو ما ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ بَشَّرَهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ
لم يَعْتِقْ الثَّانِي لِأَنَّهُ ليس بِمُبَشِّرٍ وَإِنَّمَا هو مُخْبِرٌ
أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ في وَجْهِ الْمُخْبَرِ له
وَلِهَذَا قال ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم من أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كما
أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أبو
بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنهما فقال رضي اللَّهُ عنه بَشَّرَنِي بِهِ أبو
بَكْرٍ ثُمَّ أخبرني بِهِ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنهما فَإِنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ
أَحَدُهُمْ رَسُولًا فَإِنْ أَضَافَ الرَّسُولُ الْخَبَرَ إلَى الْمُرْسِلِ فقال
إنَّ عَبْدَكَ فلان ( ( ( فلانا ) ) ) يُخْبِرُكَ بِكَذَا عَتَقَ الْعَبْدُ
لِأَنَّ الْمُرْسِلَ هو الْمُبَشِّرُ وَإِنْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ ولم يُضِفْ ذلك
إلَى الْعَبْدِ لم يُعْتَقْ الْعَبْدُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ منه لَا من
الْمُرْسِلِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَكَتَبَ فَقَدْ رَوَى
هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال سَأَلَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ أَصْلَحَهُ اللَّهُ عن هذا فقلت إنْ كان سُلْطَانًا يَأْمُرُ
بِالْكِتَابِ وَلَا يَكَادُ هو يَكْتُبُ فإنه يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذًا كان لَا
يُبَاشِرُ الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ عَادَةً بَلْ يَسْتَكْتِبُ غَيْرَهُ
فَيَمِينُهُ تَقَعُ على الْعَادَةِ وهو الْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ
قال هِشَامٌ قُلْت لِمُحَمَّدٍ فما تَقُولُ إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَأُ لِفُلَانٍ
كِتَابًا فَنَظَرَ في كِتَابِهِ حتى أتى آخِرَهُ وَفَهِمَهُ ولم يَنْطِقْ بِهِ قال
سَأَلَ هَارُونُ أَبَا يُوسُفَ عن ذلك وقد كان اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ منه فقال لَا
يَحْنَثُ وَلَا أَرَى أنا ذلك
وقد رَوَى خَلَفُ بن أَيُّوبَ وَدَاوُد بن رَشِيدٍ وابن رُسْتُمَ أَيْضًا عن
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ لِأَنَّهُ لم
يَقْرَأْهُ حَقِيقَةً إذْ الْقِرَاءَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ
بِالْحُرُوفِ ولم يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ الْقَادِرَ على
الْقِرَاءَةِ إذَا لم يُحَرِّكْ لِسَانَهُ بِالْحُرُوفِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ
وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَقْرَأُ سُورَةً من الْقُرْآنِ فَنَظَرَ فيها وَفَهِمَهَا
ولم يُحَرِّكْ لِسَانَهُ لم يَحْنَثْ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ
وَالْعَادَةَ وَمَعَانِي كَلَامِ الناس وَهُمْ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِمِثْلِ هذه
الْيَمِينِ الِامْتِنَاعَ عن الْوُقُوفِ على ما في الْكِتَابِ وقد وَقَفَ على ما
فيه فَيَحْنَثُ
قال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ إذَا قَرَأَ الْكِتَابَ إلَّا سَطْرًا قال كَأَنَّهُ
قَرَأَهُ
قلت فَإِنْ قَرَأَ نِصْفَهُ قال لَا يَعْنِي لم يَقْرَأْهُ
قال مُحَمَّدٌ إذَا قَرَأَ بَعْضَهُ فَإِنْ أتى على الْمَعَانِي التي يَحْتَاجُ
إلَيْهَا فَكَأَنَّهُ قد قَرَأَهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ هِيَ
الْمَقْصُودَةُ بِالْكِتَابِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ سُورَةً فَتَرَكَ منها حَرْفًا حَنِثَ وَإِنْ تَرَكَ
آيَةً طَوِيلَةً لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَارِئًا لِلسُّورَةِ مع تَرْكِ
حَرْفٍ منها وَلَا يُسَمَّى مع تَرْكِ ما هو في حُكْمِ الْآيَةِ الطَّوِيلَةِ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال لَا أُبْلِغُكَ مِثْلُ لَا
أُخْبِرُكَ وَكَذَلِكَ أُذَكِّرُكَ بِشَيْءٍ أو لَا أُذَكِّرُكَ شيئا فإنه
يَحْنَثُ بِالْكِتَابِ فَأَمَّا الذِّكْرُ وَالْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ
وَالْإِبْلَاغُ على الْكِتَابِ وَالْقَوْلِ وَالْكَلَامُ على الْكِتَابِ أَيْضًا
قال عمرو ( ( ( عمر ) ) ) سألت ( ( ( وسألت ) ) ) مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا
يَتَمَثَّلُ بِشِعْرٍ فَتَمَثَّلَ بِنِصْفِ بَيْتٍ قال لَا يَحْنَثُ قال قلت
فَإِنْ كان نِصْفَ الْبَيْتِ من شِعْرِ آخَرَ قال لَا أَدْرِي ما هذا لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّ الشِّعْرَ ما ظَهَرَ فيه النَّظْمُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا في بَيْتٍ
قال وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ فَارِسِيٍّ حَلَفَ أَنْ يَقْرَأَ الْحَمْدُ
بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهَا فَلَحَنَ قال لَا يَحْنَثُ
وَإِنْ حَلَفَ رَجُلٌ فَصِيحٌ أَنْ يَقْرَأَ الْحَمْدُ بِالْعَرَبِيَّةِ
فَقَرَأَهَا فَلَحَنَ
____________________
(3/55)
حَنِثَ
إذَا لم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا نِيَّةٌ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنَّمَا أَرَادَ
بِيَمِينِهِ أَنْ يَقْرَأَ بِمَوْضُوعِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ الْمُعَرَّبُ دُونَ
الْمَلْحُونِ فَأَمَّا الْعَجَمِيُّ فَإِنَّمَا يُرِيدُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ
دُونَ الْعَجَمِيَّةِ وَالْمَلْحُونُ يُعَدُّ من الْعَرَبِيَّةِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّوْقِ وَالْغَدَاءِ
وَالْعَشَاءِ وَالسُّحُورِ وَالضَّحْوَةِ وَالتَّصَبُّحِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ
مَعَانِي هذه الْأَشْيَاءِ فَالْأَكْلُ هو إيصَالُ ما يَحْتَمِلُهُ الْمَضْغُ
بِفِيهِ إلَى الْجَوْفِ مُضِغَ أو لم يُمْضَغْ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ
وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا وَالشُّرْبُ إيصَالُ ما لَا يَحْتَمِلُ الْمَضْغَ من
الْمَائِعَاتِ إلَى الْجَوْفِ مِثْلِ الْمَاءِ وَالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ
وَالْعَسَلِ الممخوض ( ( ( والممخوض ) ) ) وَالسَّوِيقِ الْمَمْخُوضِ وَغَيْرِ ذلك
فَإِنْ وُجِدَ ذلك يَحْنَثْ وَإِلَّا فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كان يُسَمَّى ذلك
أَكْلًا أو شُرْبًا في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَيَحْنَثُ إذَا عُرِفَ هذا
فَنَقُولُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ كَذَا وَلَا يَشْرَبُهُ فَأَدْخَلَهُ في فيه
وَمَضَغَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ لم يَحْنَثْ حتى يُدْخِلَهُ في جَوْفِهِ لِأَنَّهُ
بِدُونِ ذلك لَا يَكُونُ أَكْلًا وَشُرْبًا بَلْ يَكُونُ ذَوْقًا لِمَا نَذْكُرُ
مَعْنَى الذَّوْقِ إنْ شَاءَ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ
قال هِشَامٌ سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هذه الْبَيْضَةَ
أو لَا يَأْكُلُ هذه الْجَوْزَةَ فَابْتَلَعَهَا قال قد حَنِثَ لِوُجُودِ حَدِّ
الْأَكْلِ وهو ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أو رُمَّانًا فَجَعَلَ يَمْضُغُهُ وَيَرْمِي
بِثِفَلِهِ ويبلغ ( ( ( ويبلع ) ) ) مَاءَهُ لم يَحْنَثْ في الْأَكْلِ وَلَا في
الشُّرْبِ لِأَنَّ ذلك ليس بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ بَلْ هو مَصٌّ وَإِنْ عَصَرَ
مَاءَ الْعِنَبِ فلم يَشْرَبْهُ وَأَكَلَ قِشْرَهُ وَحِصْرِمَهُ فإنه يَحْنَثُ
لِأَنَّ الذَّاهِبَ ليس إلَّا الْمَاءَ وَذَهَابُ الْمَاءِ لَا يُخْرِجُهُ من أَنْ
يَكُونَ أَكْلًا له أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَضَغَهُ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَكْلًا بِابْتِلَاعِ الْمَاءِ بَلْ بِابْتِلَاعِ الْحِصْرِمِ
فَدَلَّ أَنَّ أَكْلَ الْعِنَبِ هو أَكْلُ الْقِشْرِ وَالْحِصْرِمِ منه وقد وُجِدَ
فَيَحْنَثُ
وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سُكَّرًا فَأَخَذَ
سُكَّرَةً فَجَعَلَهَا في فيه فَجَعَلَ يَبْلَعُ مَاءَهَا حتى ذَابَتْ قال لم
يَأْكُلْ لِأَنَّهُ حين أَوْصَلَهَا إلَى فيه وَصَلَتْ وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ
الْمَضْغَ وَكَذَا روى عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُمَّانًا
فَمَصَّ رُمَّانَةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هذا اللَّبَنَ فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ أو تَمْرٍ أو
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هذا الْخَلَّ فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ أَكْلَ
اللَّبَنِ هَكَذَا يَكُونُ وَكَذَلِكَ الْخَلُّ لِأَنَّهُ من جُمْلَةِ الْإِدَامِ
فَيَكُونُ أَكْلُهُ بِالْخُبْزِ كَاللَّبَنِ فَإِنْ أَكَلَ ذلك بِانْفِرَادِهِ لَا
يَحْنَثْ لِأَنَّ ذلك شُرْبٌ وَلَيْسَ بِأَكْلٍ فَإِنْ صَبَّ على ذلك الْمَاءَ
ثُمَّ شَرِبَهُ لم يَحْنَثْ في قَوْلِهِ لَا آكُلُ لِعَدَمِ الْأَكْلِ وَيَحْنَثُ
في قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ لِوُجُودِ الشُّرْبِ وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ
هذا الْخُبْزَ فَجَفَّفَهُ ثُمَّ دَقَّهُ وَصَبَّ عليه الْمَاءَ فَشَرِبَهُ لَا
يَحْنَثُ لِأَنَّ هذا شُرْبٌ لَا أَكْلٌ فَإِنْ أَكَلَهُ مَبْلُولًا أو غير
مَبْلُولٍ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخُبْزَ هَكَذَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَكَذَلِكَ
السَّوِيقُ إذَا شَرِبَهُ بِالْمَاءِ فَهُوَ شَارِبٌ وَلَيْسَ بأكل
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فإن ذلك يَقَعُ على الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ
وَالْفَاكِهَةِ سِوَى التَّمْرِ وَنَحْوِ ذلك وَيَقَعُ على ما يُؤْكَلُ على
سَبِيلِ الْإِدَامِ مع الْخُبْزِ لِأَنَّ الطَّعَامَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا
يُطْعَمُ إلَّا أَنَّهُ في الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِمَا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ أو مع
غَيْرِهِ عَادَةً وَلَا يَقَعُ على الْهَلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا وَإِنْ كان ذلك
مَطْعُومًا في نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ
من طَعَامِ فُلَانٍ فَأَخَذَ من خَلِّهِ أو زَيْتِهِ أو كَامَخِهِ أو مِلْحِهِ
فأكله ( ( ( فأكل ) ) ) بِطَعَامِ نَفْسِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعَادَةَ قد جَرَتْ
بِأَكْلِ هذه الْأَشْيَاءِ مع الْخُبْزِ إدَامًا له قال النبي نِعْمَ الْإِدَامُ
الْخَلُّ فَكَانَ طَعَامًا عُرْفًا فَيَحْنَثُ فَإِنْ أَخَذَ من نَبِيذِ فُلَانٍ
أو مَائِهِ فَأَكَلَ بِهِ خُبْزًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مع
الْخُبْزِ عَادَةً فَلَا يُسَمَّى طَعَامًا وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ الْخَلُّ
طَعَامٌ وَالنَّبِيذُ وَالْمَاءُ شَرَابٌ وقال مُحَمَّدٌ الْخَلُّ وَالْمِلْحُ
طَعَامٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَلَّ وَالْمِلْحَ مِمَّا يُؤْكَلُ مع غَيْرِهِ
عَادَةً وَالنَّبِيذُ وَالْمَاءُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا فإنه يَقَعُ على الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا
وكان يَنْبَغِي في الْقِيَاسِ أَنْ يَقَعَ على جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ كما في
الْيَمِينِ على الْأَكْلِ إلَّا أَنَّ في الِاسْتِحْسَانِ يَقَعُ على الْحِنْطَةِ
وَدَقِيقِهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْبَائِعِ
وَبَائِعُ الْحِنْطَةِ يُسَمَّى بَائِعَ الطَّعَامِ في الْعُرْفِ وَالْأَكْلُ
يَتِمُّ بِنَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ نَفْسُ الْأَكْلِ دُونَ غَيْرِهِ وَصَارَ هذا
كَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي حَدِيدًا فَاشْتَرَى سَيْفًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ
بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ حَدِيدًا فَمَسَّ سَيْفًا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَسَّ
فِعْلٌ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ وَعَلَى هذا بَابُ الزِّيَادَاتِ وَرُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ فيم ( ( ( فيمن ) ) ) حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فَاضْطُرَّ إلَى
مَيْتَةٍ فَأَكَلَ منها لم يَحْنَثْ وقال الْكَرْخِيُّ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عن مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ في حَالِ الْمَخْمَصَةِ طَعَامٌ
مُبَاحٌ في حَقِّ الْمُضْطَرِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ في غَيْرِ هذه
الْحَالَةِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَإِحْدَى
____________________
(3/56)
الرِّوَايَتَيْنِ
عن مُحَمَّدٍ إن إطْلَاقَ اسْمِ الطَّعَامِ لَا يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّهُ لَا
يُسَمَّى طَعَامًا عُرْفًا وَعَادَةً لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً ومبني
الإيمان على مَعَانِي كَلَامِ الناس
وروى عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاضْطُرَّ إلَى
مَيْتَةٍ فَأَكَلَهَا قال لَا يَحْنَثُ وروى عنه أَنَّهُ حَانِثٌ في يَمِينِهِ
واثمه مَوْضُوعٌ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ مُحَرَّمَةٌ وَالرُّخْصَةُ أَثَرُهَا
في تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وهو الْمُؤَاخَذَةُ لَا في تَغْيِيرِ وَصْفِ الْفِعْلِ وهو
الْحُرْمَةُ كَالْمُكْرَهِ على أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْمَيْتَةَ حَالَ
الْمَخْمَصَةِ مُبَاحَةٌ مُطْلَقًا لَا حَظْرَ فيها بِوَجْهٍ في حَقِّ
الْمُضْطَرِّ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ في تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ جميعا
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو امْتَنَعَ حتى مَاتَ يُؤَاخَذُ بِهِ وَلَوْ بَقِيَتْ
الْحُرْمَةُ لم تَثْبُتْ الْمُؤَاخَذَةُ كما لو امْتَنَعَ من تَنَاوُلِ مَالِ
الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ أو الْإِكْرَاهِ
قال خَلَفُ بن أَيُّوبَ سَأَلْتُ أَسَدَ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما في رَجُلٍ
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَأَكَلَ لَحْمَ قِرْدٍ أو كَلْبٍ أو حِدَأَةٍ أو
غُرَابٍ قال لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ ذلك فَيَحْنَثَ لِأَنَّ مُطْلَقَ
الْحَرَامِ هو ما تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَحُرْمَةُ هذه
الْأَشْيَاءِ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ
وقال خَلَفُ بن أَيُّوبَ سَأَلْت الْحَسَنَ فقال هذا كُلُّهُ حَرَامٌ لِقِيَامِ
دَلِيلِ الْحُرْمَةِ فيها وَإِنْ لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ وَرَوَى الْمُعَلَّى
عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ حَرَامًا قال هذا على
الزِّنَا لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ
وهو الزِّنَا وَلِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الزِّنَا في الْعُرْفِ فَيَنْصَرِفُ
إلَيْهِ وقال مُحَمَّدٌ فَإِنْ كان الْحَالِفُ خَصِيًّا أو مَجْبُوبًا فَهُوَ على
الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وما أَشْبَهَهَا
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَطَأُ امْرَأَةً وطأ
حَرَامًا فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) امْرَأَتَهُ وقد ظَاهَرَ منها أو وَهِيَ حَائِضٌ
قال لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذلك لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِعَارِضِ
الْحَيْضِ وَالظِّهَارِ وَمُطْلَقُ التَّحْرِيمِ لَا يَقَعُ على التَّحْرِيمِ
الْعَارِضِ وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا
فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَصَبَهُ من إنْسَانٍ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لم يَحْنَثْ
لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْحَرَامِ إنَّمَا يَقَعُ على ما كانت حُرْمَتُهُ لِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةُ هذا لِحَقِّ الْعَبْدِ وَلَوْ غَصَبَ خُبْزًا أو
لَحْمًا فَأَكَلَهُ يَحْنَثُ بِعُرْفِ الناس وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من
طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ من طَعَامٍ اشْتَرَاهُ مع آخَرَ حَنِثَ إلَّا
أَنْ يَكُونَ نَوَى شِرَاءَهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من
طَعَامٍ مَلَكَهُ فُلَانٌ لِأَنَّ بَعْضَ الطَّعَامِ طَعَامٌ حَقِيقَةً وَيُسَمَّى
طَعَامًا عُرْفًا أَيْضًا بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ
فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ بَعْضَ
الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا يَمْلِكُهُ فُلَانٌ أو يَشْتَرِيهِ
فُلَانٌ فَلَبِسَ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مع آخَرَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ
بَعْضَ الثَّوْبِ لَا يُسَمَّى ثَوْبًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إدَامًا فَالْإِدَامُ كُلُّ ما يصطبغ ( ( ( يضطبع ) )
) بِهِ مع الْخُبْزِ عَادَةً كَاللَّبَنِ وَالزَّيْتِ وَالْمَرَقِ وَالْخَلِّ
وَالْعَسَلِ وَنَحْوِ ذلك وما لَا يصطبغ ( ( ( يضطبع ) ) ) بِهِ فَلَيْسَ
بِإِدَامٍ مِثْلُ اللَّحْمِ والشوي وَالْجُبْنِ وَالْبِيضِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ وهو أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ أن كُلَّ ما يُؤْكَلُ
بِالْخُبْزِ فَهُوَ إدَامٌ مِثْلُ اللَّحْمِ والشواء ( ( ( والشوى ) ) )
وَالْبَيْضِ وَالْجُبْنِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوْزَ الْيَابِسَ إدَامٌ
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا روى عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال سَيِّدُ إدَامِ
أَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ وَسَيِّدُ رَيَاحِينِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفَاغِيَةُ
وَهِيَ وَرْدُ الْحِنَّاءِ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الأدام من الِائْتِدَامِ وهو
الْمُوَافَقَةُ قال النبي لِمُغِيرَةَ حين أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لو
نَظَرْتَ إلَيْهَا لَكَانَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا أَيْ يَكُونَ
بَيْنَكُمَا الْمُوَافَقَةُ وَمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ بين الْخُبْزِ وَبَيْنَ هذه
الْأَشْيَاءِ في الْأَكْلِ ظَاهِرٌ فَكَانَتْ إدَامًا وَلِأَنَّ الناس يَأْتَدِمُونَ
بها عُرْفًا وَعَادَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَعْنَى الْإِدَامِ وهو الْمُوَافَقَةُ على
الْإِطْلَاقِ وَالْكَمَالُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا لَا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ
مَقْصُودًا بَلْ يُؤْكَلُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ عَادَةً
وَأَمَّا ما يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فيه مَعْنَى
الْمُوَافَقَةِ وما لَا يصطبغ ( ( ( يضطبع ) ) ) يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ فَيَخْتَلُّ
مَعْنَى الْإِدَامِ فيه وَاللَّحْمُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ
عَادَةً مع ما إن من سُكَّانِ الْبَرَارِيِّ من لَا يَتَغَذَّى إلَّا بِاللَّحْمِ
وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْإِدَامِ عليه في الحديث على طَرِيقِ
الْمَجَازِ وَالْبِطِّيخُ ليس بِإِدَامٍ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَا
يُحْتَمَلُ الِاضْطِبَاعُ بِهِ وَلَا يُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ عَادَةً وَكَذَا الْبَقْلُ
ليس بِإِدَامٍ في قَوْلِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّ آكِلَهُ لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا مَأْدُومًا فقال
الْخُبْزُ الْمَأْدُومُ الذي يُثْرَدُ ثَرْدًا يَعْنِي في الْمَرَقِ وَالْخَلِّ
وما أَشْبَهَهُ فَقِيلَ له فَإِنْ ثَرَدَهُ في مَاءٍ أو مِلْحٍ فلم يَرَ ذلك
مَأْدُومًا لِأَنَّ من أَكَلَ خُبْزًا بِمَاءٍ لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا في
الْعُرْفِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ إنَّ تَسْمِيَةَ هذه الْأَشْيَاءِ على ما
يَعْرِفُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ في كَلَامِهِمْ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ
____________________
(3/57)
خُبْزًا
وَلَا نِيَّةَ له فَهُوَ على خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إلَّا إنْ كان
الْحَالِفُ في بَلَدٍ لَا يأكل ( ( ( يؤكل ) ) ) فيها إلَّا خُبْزُ الْحِنْطَةِ
فإن يَمِينَهُ تَقَعُ على خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا غَيْر وَإِنْ أَكَلَ من خُبْزِ
لوذينج ( ( ( لوزينج ) ) ) وَأَشْبَاهِ ذلك لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ
نَوَاهُ وَإِنْ أَكَلَ من خُبْزِ الذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ فَإِنْ كان من أَهْلِ
بِلَادٍ ذلك طَعَامُهُمْ حَنِثَ وَإِنْ كان من أَهْلِ الْكُوفَةِ وَنَحْوِهَا
مِمَّنْ لَا يَأْكُلُ ذلك عَامَّتُهُمْ لَا يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذلك
لِأَنَّ اسْمَ الْخُبْزِ يَقَعُ على خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَلَا
يُرَادُ بِهِ خُبْزُ الْقَطَائِفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يُحْمَلُ عليه
وَكَذَا خُبْزُ الْأَرُزِّ في الْبِلَادِ التي لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ فيها
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَيُّ لَحْمٍ أَكَلَ من سَائِرِ
الْحَيَوَانِ غير السَّمَكِ يَحْنَثُ ثُمَّ يستوي فيه الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ
الْمُحَرَّمِ وَالْمَطْبُوخُ وَالْمَشْوِيُّ وَالضَّعِيفُ لِأَنَّ اللَّحْمَ اسْمٌ
لِأَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الذي يَعِيشُ في الْبَرِّ فَيَحْنَثُ إذَا أَكَلَ لَحْمَ
مَيْتَةٍ أو خِنْزِيرٍ أو إنْسَانٍ أو لَحْمَ شَاةٍ تَرَكَ ذَابِحُهَا
التَّسْمِيَةَ على ذَبْحِهَا عَمْدًا أو أَكَلَ ذَبِيحَةَ مَجُوسِيٍّ أو مُرْتَدٍّ
أو لَحْمَ صَيْدٍ ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ وَيَسْتَوِي فيه لَحْمُ الْغَنَمِ
وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَإِنْ
أَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ عز وجل لَحْمًا في
الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَحْمًا طَرِيًّا } لِأَنَّهُ لَا
يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ اسْمُ اللَّحْمِ فإن الرَّجُلَ يقول ما أَكَلْت
اللَّحْمَ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا وَإِنْ كان قد أَكَلَ سَمَكًا أَلَا تَرَى أَنَّ
من حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَا يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ
اللَّهُ عز وجل دَابَّةً بِقَوْلِهِ عز وجل إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يُخَرِّبُ بَيْتًا فَخَرَّبَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لم
يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْتًا في كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لو
كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَسْكُنُ الْمَاءَ فَهُوَ مِثْلُ
السَّمَكِ وَلَوْ أَكَلَ أَحْشَاءَ الْبَطْنِ مِثْلَ الْكَرِشِ وَالْكَبِدِ
وَالْفُؤَادِ وَالْكُلَى وَالرِّئَةِ وَالْأَمْعَاءِ وَالطِّحَالِ ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ في هذا كُلِّهِ إلَّا في شَحْمِ الْبَطْنِ
وَهَذَا الْجَوَابُ على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في زَمَنِ أبي حَنِيفَةَ وفي
الْمَوْضِعِ الذي يُبَاعُ مع اللَّحْمِ وَأَمَّا في الْبِلَادِ التي لَا يُبَاعُ
مع اللَّحْمِ أَيْضًا فلايحنث بِهِ فَأَمَّا شَحْمُ الْبَطْنِ فَلَيْسَ بِلَحْمٍ
وَلَا يُتَّخَذُ منه ما يُتَّخَذُ من اللَّحْمِ وَلَا يُبَاعُ مع اللَّحْمِ
أَيْضًا فَإِنْ نَوَاهُ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ شَدَّدَ على نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ
الإلية لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْمٍ فَإِنْ أَكَلَ
شَحْمَ الظَّهْرِ أو ما هو على اللَّحْمِ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَكِنَّهُ
لَحْمٌ سَمِينٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لَحْمٌ سَمِينٌ وَكَذَا يُتَّخَذُ منه
ما يُتَّخَذُ من اللَّحْمِ
وَكَذَلِكَ لو أَكَلَ رؤوس الْحَيَوَانَاتِ ما خَلَا السَّمَكَ يَحْنَثُ لِأَنَّ
الرَّأْسَ عُضْوٌ من أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ فَكَانَ لَحْمُهُ كَلَحْمِ سَائِرِ
الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا فَاشْتَرَى رَأْسًا
إنه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مُشْتَرِيَهُ لَا يُسَمَّى مُشْتَرِيَ لَحْمٍ وَإِنَّمَا
يُقَالُ اشْتَرَى رَأْسًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا فَاشْتَرَى شَحْمَ الظَّهْرِ لم يَحْنَثْ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا
فَأَيَّ شَحْمٍ اشْتَرَى لم يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ شَحْمَ الْبَطْنِ
وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عليهم
شُحُومَهُمَا إلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } وَالْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ
الْمُسْتَثْنَى منه فَدَلَّ أَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ شَحْمٌ حَقِيقَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَحْمًا عُرْفًا وَعَادَةً بَلْ
يُسَمَّى لَحْمًا سَمِينًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الشَّحْمِ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ شَحْمًا لَا يَدُلُّ على
دُخُولِهِ تَحْتَ الْيَمِينِ إذَا لم يَكُنْ الِاسْمُ مُتَعَارَفًا لِأَنَّ
مُطْلَقَ كَلَامِ الناس يَنْصَرِفُ إلَى ما يَتَعَارَفُونَهُ كما ضَرَبْنَا من
الْأَمْثِلَةِ في لَحْمِ السَّمَكِ وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِرَاجًا } وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { الْأَرْضَ بِسَاطًا } ثُمَّ لَا
يَدْخُلَانِ في الْيَمِينِ على الْبِسَاطِ وَالسِّرَاجِ
كَذَا هذا
وقد قالوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا وَلَا لَحْمًا فَاشْتَرَى إلية
أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَحْمٍ وَلَا لَحْمٍ
وقال عَمْرٌو عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ له شَحْمًا
فَاشْتَرَى شَحْمَ الظَّهْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ على الْأَمْرِ وَهَذَا يَدُلُّ
على أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الشَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُ شَحْمَ الظَّهْرِ كما قَالَهُ
أبو حَنِيفَةَ فَيَكُونُ حُجَّةً على مُحَمَّدٍ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ له لَحْمَ دَجَاجٍ فَأَكَلَ لَحْمَ دِيكٍ حَنِثَ
لِأَنَّ الدَّجَاجَ اسْمٌ لِلْأُنْثَى وَالذَّكَرِ جميعا قال جَرِيرٌ لَمَّا
مَرَرْت بِدَيْرِ الْهِنْدِ أَرَّقَنِي صَوْتُ الدَّجَاجِ وَضَرْبٌ
بِالنَّوَاقِيسِ فَأَمَّا الدَّجَاجَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْأُنْثَى وَالدِّيكُ
اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَاسْمُ الْإِبِلِ يَقَعُ على الذُّكُورِ والأناث قال النبي في
خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ ولم يُرِدْ بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ
خَاصَّةً وَكَذَا اسْمُ الْجَمَلِ وَالْبَعِيرِ وَالْجَزُورِ وَكَذَا هذه
الْأَسَامِي الْأَرْبَعَةُ تَقَعُ على الْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ وَغَيْرِ ذلك من
أَنْوَاعِ الْإِبِلِ وَاسْمُ الْبُخْتِيِّ لَا يَقَعُ على الْعَرَبِيِّ وَكَذَا
اسْمُ الْعَرَبِيِّ لَا يَقَعُ على الْبُخْتِيِّ وَاسْمُ الْبَقَرِ يَقَعُ على
الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ
قال النبي في ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَأَرَادَ بِهِ
الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ جميعا وَكَذَا اسْمُ الْبَقَرَةِ قال اللَّهُ عز وجل {
إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً }
____________________
(3/58)
وَقِيلَ
إنَّ بَقَرَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ كانت ذَكَرًا وَتَأْنِيثُهَا بِالذِّكْرِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قالوا اُدْعُ لنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لنا ما هِيَ }
لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كما في قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ قالت
طَائِفَةٌ } وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِنْ من أُمَّةٍ إلَّا خَلَا فيها
نَذِيرٌ } وَالشَّاةُ تَقَعُ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
قال النبي في أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَالْمُرَادُ منه الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَكَذَا
الْغَنَمُ اسْمُ جِنْسٍ وَالنَّعْجَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى وَالْكَبْشُ لِلذَّكَرِ
وَالْفَرَسُ اسْمٌ لِلْعِرَابِ ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا وَالْبِرْذَوْنُ اسْمٌ
لِغَيْرِ الْعِرَابِ من الطَّحَارِيَّةِ ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا وَقَالُوا إنَّ
الْبِرْذَوْنَ اسْمٌ لِلتُّرْكِيِّ ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ وَالْخَيْلُ اسْمُ جِنْسٍ
يَتَنَاوَلُ الْأَفْرَاسَ الْعِرَابِ وَالْبَرَاذِينَ وَالْحِمَارُ اسْمٌ
لِلذَّكَرِ وَالْحِمَارَةُ وَالْأَتَانُ اسْمٌ للأثنى ( ( ( للأنثى ) ) )
وَالْبَغْلُ وَالْبَغْلَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ لِلذَّكَرِ والأثنى ( (
( والأنثى ) ) )
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَإِنْ نَوَى الرؤوس كُلَّهَا من السَّمَكِ
وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا فَأَيَّ ذلك أَكَلَ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الرَّأْسِ
يَقَعُ على الْكُلِّ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ فَهُوَ على رؤوس الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ
خَاصَّةً في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْيَمِينُ الْيَوْمَ على رؤوس الْغَنَمِ خَاصَّةً
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ قَوْلَهُ لَا آكُلُ رَأْسًا فَبِظَاهِرِهِ يَتَنَاوَلُ
كُلَّ رَأْسٍ لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْعُمُومَ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ اسْمَ
الرَّأْسِ يَقَعُ على رَأْسِ الْعُصْفُورِ وَرَأْسِ الْجَرَادِ وَيُعْلَمُ أَنَّ
الْحَالِفَ ما أَرَادَ ذلك فَكَانَ ذلك الْمُرَادُ بَعْضَ ما يَتَنَاوَلُهُ
الِاسْمُ وهو الذي يُكْبَسُ في التَّنُّورِ وَيُبَاعُ في السُّوقِ عَادَةً فكان
أبو ( ( ( أبا ) ) ) حَنِيفَةَ رَأَى أَهْلَ الْكُوفَةِ يَكْبِسُونَ رؤوس
الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَيَبِيعُونَهَا في السُّوقِ فَحُمِلَ
الْيَمِينُ على ذلك ثُمَّ رَآهُمْ تَرَكُوا رؤوس الْإِبِلِ وَاقْتَصَرُوا على رؤوس
الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فَحَمَلَ الْيَمِينَ على ذلك وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
دَخَلَا بَغْدَادَ وقد تَرَكَ الناس الْبَقَرَ وَاقْتَصَرُوا على الْغَنَمِ
فَحَمَلَا الْيَمِينَ على ذلك فلم يَكُنْ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ في الْحَقِيقَةِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا فَإِنْ نَوَى بَيْضَ كل شَيْءٍ بَيْضَ
السَّمَكِ وَغَيْرِهِ فَأَيَّ ذلك أَكَلَ حَنِثَ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ
فَهُوَ على بَيْضِ الطَّيْرِ كُلِّهِ الْإِوَزِّ وَالدَّجَاجِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا
يَحْنَثُ إذَا أَكَلَ بَيْضَ السَّمَكِ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْضِ يَقَعُ على
الْكُلِّ فإذا نَوَى فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ وإذا لم تَكُنْ له
نِيَّةٌ فَيَقَعُ على ماله قِشْرٌ وهو بَيْضُ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ
ذلك عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيُحْمَلُ عليه
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا فَالْقِيَاسُ يَنْصَرِفُ إلَى كل ما يُطْبَخُ
من اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ طَبِيخٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ صُرِفَ إلَى
اللَّحْمِ خَاصَّةً وهو اللَّحْمُ الذي يُجْعَلُ في الْمَاءِ وَيُطْبَخُ
لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ لِلْعُرْفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ الْبَاقِلَاءَ أنه أَكَلَ
الطَّبِيخَ وَإِنْ كان طَبِيخًا حَقِيقَةً وَإِنْ أَكَلَ سَمَكًا مَطْبُوخًا لَا
يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا في الْعُرْفِ فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ
لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا من اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ على ما نَوَى لِأَنَّهُ
طَبِيخٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا
يَأْكُلُ شِوَاءً وهو يَنْوِي كُلَّ شَيْءٍ يُشْوَى فَأَيَّ ذلك أَكَلَ حنث ( ( (
الحنث ) ) ) وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ على اللَّحْمِ
خَاصَّةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشِّوَاءِ هِيَ ما يُشْوَى بِالنَّارِ لِيَسْهُلَ
أَكْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ
دُونَ غَيْرِهِ لِلْعُرْفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ لم يَأْكُلْ الشِّوَاءَ وَإِنْ
أَكَلَ الْبَاذِنْجَانَ الْمَشْوِيَّ وَالْجَزَرَ الْمَشْوِيَّ وَيُسَمَّى بَائِعُ
اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ شَاوِيًا فَإِنْ أَكَلَ سَمَكًا مَشْوِيًّا لم يَحْنَثْ
لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ ذلك عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ أَكَلَ قَلِيَّةً
يَابِسَةً أو لَوْنًا من الْأَلْوَانِ لَا مَرَقَ فيه لَا يَحْنَثْ لِأَنَّ هذا
لَا يُسَمَّى طَبِيخًا وَإِنَّمَا يُقَالُ له لَحْمٌ مَقْلِيٌّ وَلَا يُقَالُ
مَطْبُوخٌ إلَّا لِلَحْمٍ طُبِخَ في الْمَاءِ فَإِنْ طَبَخَ من اللَّحْمِ طَبِيخًا
له مَرَقٌ فَأَكَلَ من لَحْمِهِ أو من مَرَقِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلَ
الطَّبِيخَ وَإِنْ لم يَأْكُلْ لَحْمَهُ لِأَنَّ الْمَرَقَ فيه أَجْزَاءُ
اللَّحْمِ
قال ابن سِمَاعَةَ في الْيَمِينِ على الطَّبِيخِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على
الشَّحْمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ قد يُسَمَّى طَبِيخًا في الْعَادَةِ فَإِنْ طَبَخَ
عَدَسًا بِوَدِكٍ فَهُوَ طَبِيخٌ وَكَذَلِكَ إنْ طَبَخَهُ بِشَحْمٍ أو إلية فَإِنْ
طَبَخَهُ بِسَمْنٍ أو زَيْتٍ لم يَكُنْ طَبِيخًا وَلَا يَكُونُ الْأَرُزُّ
طَبِيخًا وَلَا يَكُونُ الطَّبَاهِجُ طَبِيخًا وَلَا الْجَوَاذِبُ طَبِيخًا
وَالِاعْتِمَادُ فيه على الْعُرْفِ
وقال دَاوُد بن رَشِيدٍ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من طَبِيخِ
امْرَأَتِهِ فَسَخَّنَتْ له قِدْرًا قد طَبَخَهَا غَيْرُهَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّ الطَّبِيخَ فَعِيلٌ من طَبَخَ وهو الْفِعْلُ الذي يَسْهُلُ بِهِ أَكْلُ
اللَّحْمِ وَذَلِكَ وُجِدَ من الْأَوَّلِ لا منها
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْحُلْوُ فَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْحُلْوَ
عِنْدَهُمْ كُلُّ حُلْوٍ ليس من جِنْسِهِ حَامِضٌ وما كان من جِنْسِهِ حَامِضٌ
فَلَيْسَ بِحُلْوٍ وَالْمَرْجِعُ فيه إلَى
____________________
(3/59)
الْعُرْفِ
فَيَحْنَثُ بِأَكَلِ الْخَبِيصِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالنَّاطِفِ وَالرَّبِّ
وَالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَأَشْبَاهِ ذلك وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ
إذَا أَكَلَ تِينًا رَطْبًا أو يَابِسًا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ ليس من جِنْسِهَا
حَامِضٌ فَخَلَصَ مَعْنَى الْحَلَاوَةِ فيه
وَلَوْ أَكَلَ عِنَبًا حُلْوًا أو بِطِّيخًا حُلْوًا أو رُمَّانًا حُلْوًا أو
اجاصا حُلْوًا لم يَحْنَث لِأَنَّ من جِنْسِهِ ما ليس بِحُلْوٍ فلم يَخْلُصْ
مَعْنَى الْحَلَاوَةِ فيه وَكَذَا الزَّبِيبُ ليس من الْحُلْوِ لِأَنَّ من
جِنْسِهِ ما هو حَامِضٌ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَلَاوَةً فَهُوَ
مِثْلُ الْحَلْوَى وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا وَلَا نِيَّةَ له فَأَكَلَ
قَضْبًا لَا يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إاذ أَكْل بُسْرًا مَطْبُوخًا أو رُطَبًا لِأَنَّ
ذلك لَا يُسَمَّى تَمْرًا في الْعُرْفِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ
على حِدَةٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذلك لِأَنَّهُ تَمْرٌ حَقِيقَةً وقد شَدَّدَ على
نَفْسِهِ وَلَوْ أَكَلَ حَيْسًا حَنِثَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِتَمْرٍ يُنْقَعُ في
اللَّبَنِ وَيَتَشَرَّبُ فيه اللَّبَنُ فَكَانَ الِاسْمُ بَاقِيًا له لِبَقَاءِ
عَيْنِهِ وَقِيلَ هو طَعَامٌ يُتَّخَذُ من تَمْرٍ وَيُضَمُّ إلَيْهِ شَيْءٌ من
السَّمْنِ أو غَيْرِهِ وَالْغَالِبُ هو التَّمْرُ فكان أَجْزَاءَ التَّمْرِ
بِحَالِهَا فَيَبْقَى الِاسْمُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا هَهُنَا أَرْبَعُ
مَسَائِلَ ثِنْتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَثِنْتَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا
أَمَّا الْأُولَيَانِ فإن من يَحْلِفْ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا مُذَنِّبًا أو حَلَفَ
لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ رُطَبًا فيه شَيْءٌ من الْبُسْرِ يَحْنَثْ فِيهِمَا
جميعا في قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْمُذَنِّبَ هو الْبُسْرُ الذي ذَنَّبَ أَيْ رَطُبَ
ذَنَبُهُ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلَّذِي حَلَفَ عليه فَكَانَ الِاسْمُ بَاقِيًا
وَأَمَّا الآخريان فإن من يَحْلِفْ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَيَأْكُلْ بُسْرًا
مُذَنِّبًا أو يَحْلِفْ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَيَأْكُلُ رُطَبًا فيه شَيْءٌ من
الْبُسْرِ
قال أبو حَنِيفَةً وَمُحَمَّدٌ يَحْنَثُ وقال أبي ( ( ( أبو ) ) ) يُوسُفَ لَا
يَحْنَثُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الِاسْمَ لِلْغَالِبِ في الْعُرْفِ وَالْمَغْلُوبُ في حُكْمِ
الْمُسْتَهْلَكِ وَكَذَا الْمَقْصُودُ في الْأَكْلِ هو الذي له الْغَلَبَةُ وَالْغَلَبَةُ
لِلْبُسْرِ في الْأَوَّلِ وفي الثَّانِي لِلرُّطَبِ فَلَا يَحْنَثُ وَلَهُمَا
أَنَّهُ أَكَلَ ما حَلَفَ عليه وَغَيْرَهُ لِأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ
وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ فَصَارَ كما لو مَيَّزَ أَحَدَهُمَا عن الْآخَرِ
فَقَطَعَهُ وَأَكَلَهُمَا جميعا
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَحَدَهُمَا غَالِبٌ فَنَعَمْ لَكِنَّ الْغَلَبَةَ إنَّمَا
تُوجِبُ اسْتِهْلَاك الْمَغْلُوبِ في اخْتِلَاط الْمُمَازَجَةِ أَمَّا في
اخْتِلَاط الْمُجَاوَرَةِ فَلَا لِأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ فَلَا يَصِيرُ
مُسْتَهْلَكًا فيه كما إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَوِيقًا أو سَمْنًا فَأَكَلَ
سَوِيقًا قد لُتَّ بِسَمْنٍ بِحَيْثُ يَسْتَبِينُ أَجْزَاءَ السَّوِيقِ في
السَّمْنِ يَحْنَثُ لِقِيَامِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ
بِعَيْنِهِ
كَذَا هذا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَبًّا فَأَيَّ حَبٍّ أَكَلَ من سِمْسِمٍ أو غَيْرِهِ
مِمَّا يَأْكُلُهُ الناس عَادَةً يَحْنَثُ لِأَنَّ مُطْلَقَ يَمِينِهِ يَقَعُ عليه
فَإِنْ عَنَى شيئا من ذلك بِعَيْنِهِ أو سَمَّاهُ حَنِثَ فيه ولم يَحْنَثْ في
غَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْمَلْفُوظِ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا
قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا يَحْنَثُ إذَا ابْتَلَعَ لُؤْلُؤَةً
لِأَنَّ الْأَوْهَامَ لَا تَنْصَرِفُ إلَى اللُّؤْلُؤَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ
الْحَبِّ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ
الْعِنَبِ لَا يَتَنَاوَلَهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جَوْزًا فَأَكَلَ منه
رَطْبًا أو يَابِسًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ وَالتِّينُ
وَأَشْبَاهُ ذلك لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ جميعا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ تُفَّاحًا أو سَفَرْجَلًا أو كمثري
أو خَوْخًا أو تِينًا أو أجاصا أو مِشْمِشًا أو بِطِّيخًا حَنِثَ وَإِنْ أَكَلَ
قِثَّاءً أو خِيَارًا أو جَزَرًا لَا يَحْنَثْ وَإِنْ أَكَلَ عِنَبًا أو رُمَّانًا
أو رُطَبًا لَا يَحْنَثْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثْ وَلَوْ أَكَلَ زَبِيبًا أو حَبَّ الرُّمَّانِ أو تَمْرًا لَا
يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الْأَشْيَاءِ تُسَمَّى فَاكِهَةً
في الْعُرْفِ بَلْ تُعَدُّ من رؤوس الْفَوَاكِهِ وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ
لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ وَتَفَكُّهُ الناس بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرٌ
فَكَانَتْ فَوَاكِهَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { فَأَنْبَتْنَا فيها حَبًّا وَعِنَبًا
وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا }
عَطَفَ الْفَاكِهَةَ على الْعِنَبِ وَقَوْلُهُ عز وجل { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } عَطَفَ الرُّمَّانَ على الْفَاكِهَةِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ
الْمَعْطُوفِ عليه هو الْأَصْلُ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُقْصَدُ
بِأَكْلِهِ التَّفَكُّهُ وهو التَّنَعُّمُ وَالتَّلَذُّذُ دُونَ الشِّبَعِ
وَالطَّعَامُ ما يُقْصَدُ بِأَكْلِهِ التَّغَذِّي وَالشِّبَعُ وَالتَّمْرُ
عِنْدَهُمْ يُؤْكَلُ بِطَرِيقِ التَّغَذِّي وَالشِّبَعِ حتى رُوِيَ عن النبي
أَنَّهُ قال بَيْتٌ لَا تَمْرَ فيه جِيَاعٌ أَهْلُهُ وقال عليه أَفْضَلُ
الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ يوم الْفِطْرِ أَغْنُوهُمْ عن المسئلة ( ( ( المسألة ) )
) في مِثْلِ هذا الْيَوْمِ ثُمَّ ذَكَرَ في جُمْلَةِ ما تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ
التَّمْرَ وفي بَعْضِهَا الزَّبِيبَ وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ
رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا فما كان رَطْبُهُ فَاكِهَةً كان يَابِسُهُ فَاكِهَةً
كَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ وَنَحْوِ ذلك وَالْيَابِسُ من هذه
الْأَشْيَاءِ ليس بِفَاكِهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وهو الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ وَحَبُّ
الرُّمَّانِ فَكَذَا رَطْبُهَا وما ذَكَرَاهُ من الْعُرْفِ
____________________
(3/60)
مَمْنُوعٌ
بَلْ الْعُرْفُ الْجَارِي بين الناس أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ليس في كَرْمِ فُلَانٍ
فَاكِهَةٌ إنَّمَا فيه الْعِنَبُ فَحَسْبُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ ثَمَرَ الشَّجَرِ
كُلِّهَا فَاكِهَةُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ كَذَلِكَ إلَّا ثَمَرَ النَّخْلِ
وَالْكَرْمِ وَشَجَرِ الرُّمَّانِ لِأَنَّ سَائِرَ الثِّمَارِ من التُّفَّاحِ
وَالسَّفَرْجَلِ وَالْإِجَّاصِ وَنَحْوِهَا يُقْصَدُ بِأَكْلِهَا التَّفَكُّهُ
دُونَ الشِّبَعِ وَكَذَا يَابِسُهَا فَاكِهَةٌ كَذَا رَطْبُهَا
قال مُحَمَّدٌ التُّوتُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّهُ يُتَفَكَّهُ بِهِ وَالْقِثَّاءُ
وَالْخِيَارُ وَالْجَزَرُ وَالْبَاقِلَّاءُ الرَّطْبُ أدام وَلَيْسَ بِفَاكِهَةٍ
أَلَا يرى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ وَإِنْ عَنَى بِقَوْلِهِ لَا أكل
فَاكِهَةً الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ وَالرُّمَّانَ فَأَكَلَ من ذلك شيئا حَنِثَ كَذَا
ذَكَرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بها وَإِنْ كان
لَا يُطْلَقُ عليها اسْمُ الْفَاكِهَةِ
وقال مُحَمَّدٌ بُسْرُ السُّكَّرِ وَالْبُسْرُ الْأَحْمَرُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّ ذلك
مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ وقال أبو يُوسُفَ اللَّوْزُ وَالْعُنَّابُ فَاكِهَةٌ
رَطْبُ ذلك من الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ وَيَابِسُهُ من الْيَابِسَةِ لِأَنَّ ذلك
يُؤْكَلُ على وَجْهِ التَّفَكُّهِ قال وَالْجَوْزُ رَطْبُهُ فَاكِهَةٌ وَيَابِسُهُ
أدام وقال في الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ فَيَدْخُلُ فيها
الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَأَشْبَاهُهُمَا
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجَوْزَ الْيَابِسَ ليس بِفَاكِهَةٍ
لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مع الْخُبْزِ غَالِبًا فَأَمَّا رَطْبُهُ فَلَا يُؤْكَلُ إلَّا
لِلتَّفَكُّهِ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ فَاكِهَةٌ ما ذَكَرْنَا أَنَّ رَطْبَهُ
وَيَابِسَهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ فَصَارَ كَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ
وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من الثِّمَارِ
شيئا وَلَا نِيَّةَ له إن ذلك على الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ فَإِنْ أَكْل تِينًا
يَابِسًا أو لَوْزًا يَابِسًا حَنِثَ فَجَعَلَ الثِّمَارَ كَالْفَاكِهَةِ لِأَنَّ
أَحَدَ الِاسْمَيْنِ كَالْآخَرِ
وقال الْمُعَلَّى قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من فَاكِهَةِ
الْعَامِ أو من ثِمَارِ الْعَامِ وَلَا نِيَّةَ له قال إنْ حَلَفَ في أَيَّامِ
الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ فَهَذَا على الرَّطْبِ فَإِنْ أَكَلَ من فَاكِهَةِ ذلك
الْعَامِ شيئا يَابِسًا لم يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ وَإِنْ حَلَفَ في
غَيْرِ وَقْتِ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ كانت يَمِينُهُ على الْفَاكِهَةِ
الْيَابِسَةِ من فَاكِهَةِ ذلك الْعَامِ وكان يَنْبَغِي في الْقِيَاسِ إنْ كان
وَقْتُ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ أَنْ يَحْنَثَ في الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِأَنَّ
اسْمَ الْفَاكِهَةِ يتناولهما ( ( ( يتناولها ) ) ) إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ
لِأَنَّ الْعَادَةَ في قَوْلِهِمْ فَاكِهَةُ الْعَامِ إذَا كان في وَقْتِ
الرَّطْبِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الرَّطْبَ دُونَ الْيَابِسِ فإذا مَضَى
وَقْتُ الرَّطْبِ فَلَا تَقَعُ الْيَمِينُ إلَّا على الْيَابِسِ فَيُحْمَلُ عليه
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه الْحِنْطَةِ أو لَا يَأْكُلُ هذه الْحِنْطَةَ
فَإِنْ عَنَى بها أَنْ لَا يَأْكُلَهَا حَبًّا كما هِيَ فَأَكَلَ من خُبْزِهَا أو
من سَوِيقِهَا لم يَحْنَثْ وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا قَضَمَهَا وَإِنْ لم تَكُنْ
له نِيَّةٌ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
يَحْنَثْ وَهَلْ يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا أَكَلَ عَيْنَهَا
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ عنهما ما يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّهُ قال فيه إنَّ الْيَمِينَ تَقَعُ على ما يَصْنَعُ الناس وَذَكَرَ عنهما
في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ يَحْنَثُ فإنه قال وقال أبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ أَكَلَهَا خُبْزًا حَنِثَ أَيْضًا فَهَذَا يَدُلُّ على
أَنَّهُ إذَا قَضَمَهَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا كما يَحْنَثُ إذَا أَكَلَهَا خُبْزًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ في إطْلَاقِ أَكْلِ الْحِنْطَةِ أَكْلُ
الْمُتَّخَذِ منها وهو الْخُبْزُ لَا أَكْلُ عَيْنِهَا يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ
من حِنْطَةِ كَذَا أَيْ من خُبْزِهَا وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يُحْمَلُ على
الْمُتَعَارَفِ خُصُوصًا في بَابِ الْأَيْمَانِ وَجْهٌ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ لَا يَقَعُ على الْخُبْزِ حَقِيقَةً
لِأَنَّهَا اسْمٌ لِذَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مُرَكَّبَةٍ فَيَزُولُ الِاسْمُ بِزَوَالِ
التَّرْكِيبِ حَقِيقَةً فَالْحَمْلُ على الْخُبْزِ يَكُونُ حَمْلًا على الْمَجَازِ
فَكَانَ صَرْفُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا أن مُطْلَقَ الْكَلَامِ يُحْمَلُ على الْمُتَعَارَفِ
فَنَعَمْ لَكِنْ على الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وهو الْمُتَعَارَفُ
في الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ كما يقول مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا على
الْمُتَعَارَفِ من حَيْثُ الْفِعْلُ كما يقول مَشَايِخُ بَلَخ بِدَلِيلِ أَنَّهُ
لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْآدَمِيِّ أو الْخِنْزِيرِ
يَحْنَثُ وَإِنْ لم يُتَعَارَفْ أَكْلُهُ لِوُجُودِ التَّعَارُفِ في الِاسْمِ
وَاسْتِعْمَالُ اسْمِ الْحِنْطَةِ في مُسَمَّاهَا مُتَعَارَفٌ عِنْدَ أَهْلِ
اللِّسَانِ إلَّا أَنَّهُ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُهُ فيه لَكِنَّ قِلَّةَ
الِاسْتِعْمَالِ فيه لِقِلَّةِ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ
الْحَمْلَ على الْمَجَازِ كما في لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ على
أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِعْلٌ ثَابِتٌ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تُطْبَخُ
وَتُقْلَى فَتُؤْكَلُ مَطْبُوخًا ومقليا ( ( ( وقليا ) ) ) وَإِنْ لم يَكُنْ في
الْكَثْرَةِ مِثْلَ أَكْلِهَا خُبْزًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا
فَأَكَلَ حِنْطَةً فيها حَبَّاتٌ من شَعِيرٍ حَنِثَ وَلَوْ كان الْيَمِينُ على
الشِّرَاءِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ من اشْتَرَى حِنْطَةً فيها حَبَّاتُ شَعِيرٍ
يُسَمَّى مُشْتَرِي الْحِنْطَةِ لَا مُشْتَرِي الشَّعِيرِ وَصَرْفُ الْكَلَامِ
إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ في الْجُمْلَةِ أَوْلَى من الصِّرْفِ إلَى
الْمَجَازِ وَإِنْ كان اسْتِعْمَالُهُ في الْمَجَازِ أَكْثَرَ لِأَنَّ
الْحَقِيقَةَ شَارَكَتْ الْمَجَازَ في أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْمَجَازُ ما
شَارَكَ الْحَقِيقَةَ في الْوَضْعِ رَأْسًا فَكَانَ الْعَمَل
____________________
(3/61)
بِالْحَقِيقَةِ
أَوْلَى
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ من خُبْزِهِ ولم تَكُنْ له
نِيَّةٌ حَنِثَ لِأَنَّ الدَّقِيقَ هَكَذَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يُسْتَفُّ
إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فلم يَكُنْ له حَقِيقَةٌ
مُسْتَعْمَلَةٌ وَلَهُ مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ وهو كلما يُتَّخَذُ منه فَحُمِلَ عليه
وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَأْكُلَ الدَّقِيقَ بِعَيْنِهِ لَا يَحْنَثُ بِأَكَلِ ما
يُخْبَزُ منه لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذا الْكُفُرَّى شيئا فَصَارَ بُسْرًا أو لَا
يَأْكُلُ من هذا الْبُسْرِ شيئا فَصَارَ رُطَبًا أو لَا يَأْكُلُ من هذا الرُّطَبِ
شيئا فَصَارَ تَمْرًا أو لَا يَأْكُلُ من هذا الْعِنَبِ شيئا فَصَارَ زَبِيبًا
فَأَكَلَهُ أو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذا اللَّبَنِ شيئا فَأَكَلَ من جُبْنٍ
صُنِعَ منه أو مَصْلٍ أو أَقِطٍ أو شِيرَازَ أو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه
الْبَيْضَةِ فَصَارَتْ فَرْخًا فَأَكَلَ من فَرْخٍ خَرَجَ منها أو حَلَفَ لَا
يَذُوقُ من هذه الْخَمْرِ شيئا فَصَارَتْ خَلًّا لم يَحْنَثْ في جَمِيع ذلك
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْيَمِينَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ تَبْقَى بِبَقَاءِ
الْعَيْنِ وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا وَالصِّفَةُ في الْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ
غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ لِتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ من غَيْرِهِ
وَالْإِشَارَة تكفي لِلتَّعْرِيفِ فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عن ذِكْرِ الصِّفَةِ
وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِشَارَة فَيَكُونُ تَعْرِيفُهُ
بِالْوَصْفِ وإذا عُرِفَ هذا نَقُولُ الْعَيْنُ بُدِّلَتْ في هذه الْمَوَاضِعِ
فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ التي عُقِدَتْ على الْأَوَّلِ وَالْعَيْنُ في الرُّطَبِ
وَإِنْ لم تُبَدَّلْ لَكِنْ زَالَ بَعْضُهَا وهو الْمَاءُ بِالْجَفَافِ لِأَنَّ
اسْمَ الرُّطَبِ يُسْتَعْمَلُ على الْعَيْنِ وَالْمَاءِ الذي فيها فإذا جَفَّ
فَقَدْ زَالَ عنها الْمَاءُ فَصَارَ آكِلًا بَعْضَ الْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهَا
فَلَا يَحْنَثُ كما لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هذا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ
بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هذا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ ما
صَارَ شَيْخًا أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا
الْفَائِتُ هو الْوَصْفُ لَا بَعْضُ الشَّخْصِ فَيَبْقَى كُلُّ الْمَحْلُوفِ عليه
فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ
وَفَرْقٌ آخَرُ أَنَّ الصِّفَاتِ التي في هذه الْأَعْيَانِ مِمَّا تُقْصَدُ
بِالْيَمِينِ مَنْعًا وَحَمْلًا كَالرُّطُوبَةِ التي هِيَ في التَّمْرِ
وَالْعِنَبِ فإن الْمَرْطُوبَ تَضْرِبُهُ الرُّطُوبَاتُ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ
بها وَالصِّبَا وَالشَّبَابُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ بَلْ الذَّاتُ هِيَ
التي تُقْصَدُ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالذَّاتِ دُونَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ
كما إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هذا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ
كَلَّمَهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من لَحْمِ هذا الْحَوْلِيِّ فَأَكَلَهُ بعد ما
صَارَ كَبْشًا أو من لَحْمِ هذا الْجَدْيِ فَأَكَلَهُ بعد ما صَارَ تَيْسًا
يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يُجَامِعُ هذه الصَّبِيَّةَ
فَجَامَعَهَا بعد ما صَارَتْ امْرَأَةً يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ نَوَى في
الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ ما يَكُونُ من ذلك حَنِثَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ على
نَفْسِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه الْحَدِّ حَبَّةً فَأَكَلَهَا
بَعْدَمَا صَارَتْ بِطِّيخًا لَا رِوَايَةَ فيه وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
قال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَذُوقُ من هذا اللَّبَنِ شيئا أو
لَا يَشْرَبُ فَصُبَّ فيه مَاءٌ فَذَاقَهُ أو شَرِبَهُ أَنَّهُ إنْ كان اللَّبَنُ
غَالِبًا حَنِثَ لِأَنَّهُ إذَا كان غَالِبًا يُسَمَّى لَبَنًا
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ على نَبِيذٍ فَصَبَّهُ في خَلٍّ أو على مَاءٍ مِلْحٍ فَصُبَّ
على مَاءٍ عَذْبٍ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْمَحْلُوفَ عليه إذَا اخْتَلَطَ
بِغَيْرِ جِنْسِهِ تُعْتَبَرُ فيه الْغَلَبَةُ بِلَا خِلَافٍ بين أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ غير أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْغَلَبَةَ في اللَّوْنِ أو
الطَّعْمِ لَا في الْأَجْزَاءِ فقال إنْ كان الْمَحْلُوفُ عليه يَسْتَبِينُ
لَوْنُهُ أو طَعْمُهُ حَنِثَ وَإِنْ كان لَا يَسْتَبِينُ له لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ
لَا يَحْنَثْ سَوَاءٌ كانت أجزاؤه ( ( ( أجزاءه ) ) ) أَكْثَرَ أو لم تَكُنْ
وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ غَلَبَةَ الْأَجْزَاءِ فقال إنْ كانت أَجْزَاءُ
الْمَحْلُوفِ عليه غَالِبًا يَحْنَثْ وَإِنْ كانت مَغْلُوبَةً لَا يَحْنَثْ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَقَلُّ
يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ
اللَّوْنَ وَالطَّعْمَ إذَا كَانَا بَاقِيَيْنِ كان الِاسْمُ بَاقِيًا أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يُقَالُ لَبَنٌ مَغْشُوشٌ وَخَلٌّ مَغْشُوشٌ وإذا لم يَبْقَ له لَوْنٌ
وَلَا طَعْمٌ لَا يبقى الِاسْمُ وَيُقَالُ مَاءٌ فيه لَبَنٌ وَمَاءٌ فيه خَلٌّ
فَلَا يَحْنَثُ
وقال أبو يُوسُفَ فَإِنْ كان طَعْمُهُمَا وَاحِدًا أو لَوْنُهُمَا وَاحِدًا
فَأَشْكَلَ عليه تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ من حَيْثُ الْأَجْزَاءُ فَإِنْ عَلِمَ
أَنَّ أَجْزَاءَ الْمَحْلُوفَ عليه هِيَ الْغَالِبَةُ يَحْنَثْ وَإِنْ عَلِمَ
أَنَّ أجزاء ( ( ( الجزاء ) ) ) الْمُخَالِطَ له أَكْثَرُ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ
وَقَعَ الشَّكُّ فيه وَلَا يدري ذلك فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّهُ
وَقَعَ الشَّكُّ في حُكْمِ الْحِنْثِ فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ وفي
الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عِنْدَ احْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ على
السَّوَاءِ فَالْقَوْلُ بالوجود ( ( ( بالجود ) ) ) أَوْلَى احْتِيَاطًا لِمَا فيه
من بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِيَقِينٍ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْتَاطُ في إيجَابِهَا
فَأَمَّا في الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ ذلك
حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يَجْرِي فيها الِاحْتِيَاطُ
لِلتَّعَارُضِ فَيُعْمَلُ فيها بِالْقِيَاسِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَ سَوِيقًا قد لُتَّ بِسَمْنٍ وَلَا
نِيَّةَ له ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّ أَجْزَاءَ السَّمْنِ
____________________
(3/62)
إذَا
كانت تَسْتَبِينُ في السَّوِيقِ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ يَحْنَثُ وَإِنْ كان لَا
يُوجَدُ طَعْمُهُ وَلَا يُرَى مَكَانُهُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَبَانَتْ
لم تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً فَكَأَنَّهُ أَكَلَ السَّمْنَ بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا
وإذا لم يَسْتَبِنْ فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَلَا يُعْتَدُّ بها وَرَوَى
الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان السَّمْنُ مُسْتَبِينًا في السَّوِيقِ
وكان إذَا عُصِرَ سَالَ السَّمْنُ حَنِثَ وَإِنْ كان على غَيْرِ ذلك لم يَحْنَثْ
وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَاف الرِّوَايَةِ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بين
الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا كان يَحْنَثُ إذَا عُصِرَ سَالَ السَّمْنُ لم يَكُنْ
مُسْتَهْلَكًا وإذا لم يَسِلْ كان مُسْتَهْلَكًا وإذا اخْتَلَطَ الْمَحْلُوفُ عليه
بِجِنْسِهِ كَاللَّبَنِ الْمَحْلُوفِ عليه إذَا اخْتَلَطَ بِلَبَنٍ آخَرَ
قال أبو يُوسُفَ هذا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَتُعْتَبَرُ فيه الْغَلَبَةُ وَإِنْ
كانت الْغَلَبَةُ لِغَيْرِ الْمَحْلُوفِ عليه لم يَحْنَثْ وقال مُحَمَّدٌ يَحْنَثْ
وَإِنْ كان مَغْلُوبًا فَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ
مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ
وإذا لم يَصِرْ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ
وقال الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من هذه الْخَمْرِ
فَصَبَّهَا في مَاءٍ فَغَلَبَ على الْخَمْرِ حتى ذَهَبَ لَوْنُهَا وَطَعْمُهَا
فَشَرِبَهُ لم يَحْنَثْ فَقَدْ قال مِثْلَ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَلَوْ حَلَفَ على
مَاءٍ من مَاءِ زَمْزَمَ لَا يَشْرَبُ منه شيئا فَصُبَّ عليه مَاءٌ من غَيْرِهِ
كَثِيرًا حتى صَارَ مَغْلُوبًا فَشَرِبَهُ يَحْنَثُ لِمَا ذَكَرْنَا من أَصْلِهِ
أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ وَلَوْ صَبَّهُ في بِئْرٍ
أو حَوْضٍ عَظِيمٍ لم يَحْنَثْ قال لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ عُيُونَ
الْبِئْرِ تَغُورُ بِمَا صُبَّ فيها وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ الْيَسِيرَ من الْمَاءِ
الذي صُبَّ في الْحَوْضِ الْعَظِيمِ لم يَخْتَلِطْ بِهِ كُلِّهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هذا الْمَاءَ الْعَذْبَ فَصَبَّهُ في مَاءٍ مَالِحٍ
فَغَلَبَ عليه ثُمَّ شَرِبَهُ لم يَحْنَثْ فَجُعِلَ الْمَاءُ مُسْتَهْلَكًا
بِجِنْسِهِ إذَا كان على غَيْرِ صِفَتِهِ قال وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ
لَبَنَ ضَأْنٍ فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ مَعْزٍ فإنه تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ
لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ قال الْكَرْخِيُّ وَلَوْ قال لَا
أَشْرَبُ لَبَنَ هذه الشَّاةِ لِشَاةٍ مَعْزٍ أو ضَأْنٍ ثُمَّ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ
من لَبَنِ ضَأْنٍ أو مَعْزٍ حَنِثَ إذَا شَرِبَهُ وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَثْرَةُ
وَالْغَلَبَةُ وَعَلَّلَ فقال لِأَنَّهُ ليس في يَمِينِهِ ضَأْنٌ وَلَوْ مَعْزٌ
وَمَعْنَاهُ أَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ على لَبَنٍ وَاخْتِلَاطُهُ بِلَبَنٍ آخَرَ
لَا يُخْرِجُهُ من أَنْ يَكُونَ لَبَنًا وَالْيَمِينُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَقَعَتْ على لَبَنِ الضَّأْنِ فإذا غَلَبَ عليه لَبَنُ الْمَعْزِ فَقَدْ
اُسْتُهْلِكَتْ صِفَتُهُ وَاسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ لِلْفَرْقِ بين
الْمَسْأَلَتَيْنِ فقال وَلَا تُشْبِهُ الشَّاةُ إذَا حَلَفَ عليها بِعَيْنِهَا
حَلِفَهُ على لَبَنِ الْمَعْزِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو قال وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي
رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فيها رُطَبَتَانِ أو ثَلَاثٌ لم يَحْنَثْ
لِأَنَّ هذا إنَّمَا هو الْغَالِبُ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي هذه الرُّطَبَةَ لِرُطَبَةٍ في كِبَاسَةٍ
ثُمَّ اشْتَرَى الْكِبَاسَةَ حَنِثَ
وَنَظِيرُ هذا ما ذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا
أكل ما يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ يَعْنِي ما يَجِيءُ بِهِ من طَعَامٍ أو لَحْمٍ أو
غَيْرِهِ ذلك ( ( ( لك ) ) ) مِمَّا يُؤْكَلُ فَدَفَعَ الْحَالِفُ إلَى
الْمَحْلُوفِ عليه لَحْمًا لِيَطْبُخَهُ فَطَبَخَهُ وألقى فيه قِطْعَةً من كَرِشِ
بَقَرٍ ثُمَّ طُبِخَ الْقِدْرُ بِهِ فَأَكَلَ الْحَالِفُ من الْمَرَقِ قال
مُحَمَّدٌ لَا أُرَاهُ يَحْنَثُ إذَا ألقى فيه من اللَّحْمِ ما لَا يُطْبَخُ
وَحْدَهُ وَيُتَّخَذُ منه مَرَقَةٌ لِقِلَّتِهِ وَإِنْ كان مِثْلُ ذلك يُطْبَخُ
وَيَكُونُ له مَرَقَةٌ فإنه يَحْنَثُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْيَمِينَ على اللَّحْمِ
الذي يَأْتِي بِهِ فُلَانٌ وَعَلَى مَرَقَتِهِ والمرقة لَا تَكُونُ إلَّا بِدَسَمِ
اللَّحْمِ الذي جاء بِهِ فإذا اخْتَلَطَ بِهِ لَحْمٌ لَا يَكُونُ له مَرَقٌ
لِقِلَّتِهِ فلم يَأْكُلْ ما جاء بِهِ فُلَانٌ وإذا كان مِمَّا يُفْرَدُ
بِالطَّبْخِ وَيَكُونُ له مَرَقٌ وَالْمَرَقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فلم تُعْتَبَرُ فيه
الْغَلَبَةُ وَحَنِثَ
وقد قال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قال لَا آكُلُ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ فَجَاءَ
فُلَانٌ بِلَحْمٍ فَشَوَاهُ وَجَعَلَ تَحْتَهُ أَرُزًّا لِلْحَالِفِ فَأَكَلَ
الْحَالِفُ من جَوَانِبِهِ حَنِثَ وَكَذَلِكَ لو جاء الْمَحْلُوفُ عليه بِحِمِّصٍ
فَطَبَخَهُ فَأَكَلَ الْحَالِفُ من مَرَقَتِهِ وَفِيهِ طَعْمُ الْحِمِّصِ حَنِثَ
وَكَذَلِكَ لو جاء بِرُطَبٍ فَسَالَ منه رُبٌّ فَأَكَلَ منه أو جاء بِزَيْتُونٍ
فَعُصِرَ فَأَكَلَ من زَيْتِهِ حَنِثَ
قال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا أَكْلُ من
ثَمَرَةِ هذا الْبُسْتَانِ وَفِيهِ نَخْلٌ يُحْصَى أو لَا آكُلُ من ثَمَرَةِ هذا
النَّخْلِ وَهِيَ عَشَرَةٌ أو ثَلَاثٌ أو لَا آكُلُ من ثَمَرَةِ هَاتَيْنِ
النَّخْلَتَيْنِ أو من هَاتَيْنِ الرَّطْبَتَيْنِ أو من هذه الثَّلَاثِ
التُّفَّاحَاتِ أو من هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ أو لَا أَشْرَبُ من لَبَنِ
هَاتَيْنِ الشَّاتَيْنِ فَأَكَلَ بَعْضَ ذلك أو شَرِبَ بَعْضَهُ فإنه يَحْنَثُ
لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ من أَكْلِ بَعْضِ الْمَذْكُورِ وَشُرْبِ بَعْضِهِ
لِأَنَّ كَلِمَةَ من لِلتَّبْعِيضِ فإذا أَكَلَ الْبَعْضَ أو شَرِبَ حَنِثَ
قال أبو يُوسُفَ وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَبَنَ هَاتَيْنِ
الشَّاتَيْنِ ولم يَقُلْ من فإنه لَا يَحْنَثُ حتى يَشْرَبَ من لَبَنِ كل شَاةٍ
لِأَنَّهُ حَلَفَ على شُرْبِ لَبَنِهِمَا فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ لَبَنِ
إحْدَاهُمَا وإذا شَرِبَ جزأ من لَبَنِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
____________________
(3/63)
يَشْرَبَ
جَمِيعِ لَبَنِ الشَّاةِ فَلَا يَقْصِدُ بيمي ( ( ( بيمينه ) ) ) مَنْعَ نَفْسِهِ
عن ذلك فَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ على الْبَعْضِ كما إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ
الْبَحْرِ قال وَإِنْ كان لَبَنٌ قد حُلِبَ فقال وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَبَن
هَاتَيْنِ الشَّاتَيْنِ لِلَبَنٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كان لَبَنًا يَقْدِرُ على
شُرْبِهِ في مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لم يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ وَإِنْ كان لَبَنًا
لَا يَسْتَطِيعُ شُرْبَهُ في مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ
لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ على شُرْبِ الْكُلِّ حَقِيقَةً فإذا اسْتَطَاعَ شُرْبَهُ
دَفْعَةً وَاحِدَةً أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وإذا لم يَسْتَطِعْ
شُرْبَهُ دَفْعَةً يُحْمَلُ على الْجُزْءِ كما في مَاءِ الْبَحْرِ وَعَلَى هذا
إذَا قال لَا آكُلُ هذا الطَّعَامَ وهو لَا يَقْدِرُ على أَكْلِهِ دَفْعَةً
وَاحِدَةً
وَنَظِيرُ هذا ما قالوا فِيمَنْ قَبَضَ من رَجُلٍ دَيْنًا عليه فَوَجَدَ فيه
دِرْهَمَيْنِ زَائِفَيْنِ فقال وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مِنْهُمَا شيئا فَأَخَذَ
أَحَدَهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ من لِلتَّبْعِيضِ
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا آكُلُ لَحْمَ هذا
الْخَرُوفِ فَهَذَا على بَعْضِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ كُلِّهِ مَرَّةً
وَاحِدَةً عَادَةً
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ فِيمَنْ قال لَا آكُلُ هذه الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا إلَّا
حَبَّةً أو حَبَّتَيْنِ حَنِثَ في الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ لَا يُعْتَدُّ
بِهِ فإنه يُقَالُ في الْعُرْفِ لِمَنْ أَكَلَ رُمَّانَةً وَتَرَكَ منها حَبَّةً
أو حَبَّتَيْنِ أنه أَكَلَ رُمَّانَةً وَإِنْ تَرَكَ نِصْفِهَا أو ثُلُثَهَا أو
تَرَكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي في الْعُرْفِ أَنَّهُ يَسْقُطُ من الرُّمَّانَةِ
لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى آكِلًا لِجَمِيعِهَا وَلَوْ قال وَاَللَّهِ
لَا أَبِيعُك لَحْمَ هذا الْخَرُوفِ أو خَابِيَةَ الزَّيْتِ فَبَاعَ بَعْضَهَا لم
يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ هَهُنَا على الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ
بَيْعَ الْكُلِّ مُمْكِنٌ وقد قال ابن سِمَاعَةَ فِيمَنْ قال لَا أَشْتَرِي من
هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حتى يَشْتَرِيَ مِنْهُمَا وَلَا
يُشْبِهُ هذا قَوْلَهُ لَا آكُلُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ لِأَنَّ من
لِلتَّبْعِيضِ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ في الْأَكْلِ وَلَا يُمْكِنُ
في الشِّرَاءِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتَبَعَّضُ فَيُحْمَلُ على ابْتِدَاءِ
الْغَايَةِ فَقَدْ ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا
يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أو لم يُكَلِّمْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ يَقَعُ على
الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْحَمْلِ على الْكُلِّ فَيُحْمَلُ على بَعْضِ الْجِنْسِ
وقد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
ولو ( ( ( حلف ) ) ) حلفت لَا يَأْكُلُ من كَسْبِ فُلَانٍ فَالْكَسْبُ ما صَارَ
لَلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ وَالْقَبُولِ في الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ
وَالْأَخْذِ في الْمُبَاحَاتِ فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَا يَكُونُ كَسْبًا
لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ من غَيْرِ صُنْعِهِ وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ
عليه وقد كَسَبَ شيئا فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَكَلَ الْحَالِفُ منه حَنِثَ لِأَنَّ
ما في يَدِ الْوَارِثِ يُسَمَّى كَسْبَ الْمَيِّتِ بِمَعْنَى مَكْسُوبِهِ عُرْفًا
فَلَوْ انْتَقَلَ عنه إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ
صَارَ لِلثَّانِي بِفِعْلِهِ فَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْأَوَّلِ
قال أبو يُوسُفَ وكذلك إذَا قال لَا آكُلُ مِمَّا مَلَكْت أو مِمَّا يُمْلَكُ له
أو من مِلْكِكَ فإذا خَرَجَ من مِلْكِ الْمَحْلُوفِ عليه إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ
فَأَكَلَ منه الْحَالِفُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَهُ الثَّانِي لم يَبْقَ
مِلْكَ الْأَوَّلِ فلم يَبْقَ مُضَافًا إلَيْهِ بِالْمِلْكِ
قال وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا اشْتَرَى فُلَانٌ أو مِمَّا
يَشْتَرِي فَاشْتَرَى الْمَحْلُوفَ لِنَفْسِهِ أو لِغَيْرِهِ فَأَكَلَ منه
الْحَالِفُ حَنِثَ فَإِنْ بَاعَهُ الْمَحْلُوفَ عليه من غَيْرِهِ بِأَمْرِ المشتري
له ثُمَّ أَكَلَ منه الْحَالِفُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا طَرَأَ على
الشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ الْأُولَى وَتَجَدَّدَتْ إضَافَةٌ أُخْرَى لم
تَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ وَإِنَّمَا كان الشِّرَاءُ لِغَيْرِهِ وَلِنَفْسِهِ
سَوَاءً لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَرِي فَكَانَتْ
الْإِضَافَةُ إلَيْهِ لَا إلَى المشتري له
قال وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من مِيرَاثِ فُلَانٍ شيئا فَمَاتَ فُلَانٌ
فَأَكَلَ من مِيرَاثِهِ حَنِثَ فَإِنْ مَاتَ وَارِثُهُ فَأُورِثَ ذلك الْمِيرَاثُ
فَأَكَلَ منه الْحَالِفُ لم يَحْنَثْ لِنَسْخِ الْمِيرَاثِ الْأَخِيرِ الْمِيرَاثَ
الْأَوَّلَ كَذَا ذَكَرَ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إذَا طَرَأَ على الْمِيرَاثِ
بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ الْأُولَى
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ ما قالوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا زَرَعَ
فُلَانٌ فَبَاعَ فُلَانٌ زَرْعَهُ فَأَكَلَهُ الْحَالِفُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي
حَنِثَ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْأَوَّلِ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَإِنْ
بَذَرَهُ الْمُشْتَرِي وَزَرَعَهُ فَأَكَلَ الْحَالِفُ من هذا الزَّرْعِ فإنه لَا
يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِالزَّرْعِ إنَّمَا تَكُونُ إلَى الثَّانِي دُونَ
الْأَوَّلِ
وَعَلَى هذا لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من طَعَامٍ يَصْنَعُهُ فُلَانٌ أو من خُبْزٍ
يَخْبِزُهُ فُلَانٌ فَتَنَاسَخَتْهُ الْبَاعَةُ ثُمَّ أَكَلَ الْحَالِفُ منه فإنه
يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُقَالُ هو من خُبْزِ فُلَانٍ وَمِنْ طَبِيخِهِ وَإِنْ بَاعَهُ
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا من نَسْجِ فُلَانٍ فَنَسَجَ فُلَانٌ
ثَوْبًا فَبَاعَهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُبْطِلُ الْإِضَافَةَ وَلَوْ كان ثَوْبَ
خَزٍّ فَنُقِضَ وَنَسَجَهُ آخَرُ ثُمَّ لَبِسَهُ الْحَالِفُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ
النَّسْجَ الثَّانِيَ أَبْطَلَ الْإِضَافَةَ الْأُولَى
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا مَسَّهُ فُلَانٌ فَمَسَّ فُلَانٌ ثَوْبًا
وَتَنَاسَخَتْهُ الْبَاعَةُ فإنه يَحْنَثُ إذَا اشْتَرَاهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ
بِالْمَسِّ لَا تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال لَا أَشْتَرِي ثَوْبًا
كان فُلَانٌ مَسَّهُ وقال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا
يَأْكُلَ من هذه
____________________
(3/64)
الدَّرَاهِمِ
فَاشْتَرَى بها طَعَامًا فَأَكَلَهُ حَنِثَ وَإِنْ بَدَّلَهَا بِغَيْرِهَا
وَاشْتَرَى مِمَّا أَبْدَلَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ
بِعَيْنِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْأَكْلَ وَإِنَّمَا أَكْلُهَا في الْمُتَعَارَفِ
أَكْلُ ما يُشْتَرَى بها وَلَمَّا اشْتَرَى بِبَدَلِهَا لم يُوجَدْ أَكْلُ ما
اشْتَرَى بها فَلَا يَحْنَثُ
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من ثَمَنِ هذا الْعَبْدِ فَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ
طَعَامًا فَأَكَلَهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من مِيرَاثِ أبيه شيئا وَأَبُوهُ حَيٌّ فَمَاتَ
أَبُوهُ فَوَرِثَ من مَالًا فَاشْتَرَى بِهِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ فَفِي الْقِيَاسِ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ الطَّعَامَ المشتري ليس بِمِيرَاثٍ وفي
الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ هَكَذَا تُؤْكَلُ وَيُسَمَّى ذلك
أَكْلَ الْمِيرَاثِ عُرْفًا وَعَادَةً فَإِنْ اشْتَرَى بِالْمِيرَاثِ شيئا
فَاشْتَرَى بِذَلِكَ الشَّيْءِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ
مُشْتَرٍ بِكَسْبِهِ وَلَيْسَ بِمُشْتَرٍ بِمِيرَاثِهِ
وقال أبو يُوسُفَ في الْمِيرَاثِ بِعَيْنِهِ إذَا حَلَفَ عليه فَغَيَّرَهُ
وَاشْتَرَى بِهِ لم يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا قال فَإِنْ كان قال لَا آكُلُ
مِيرَاثًا يَكُونُ لِفُلَانٍ فَكَيْفَ ما غَيَّرَهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ لِأَنَّ
الْيَمِينَ الْمُطْلَقَةَ تُعْتَبَرُ فيها الصِّفَةُ الْمُعْتَادَةُ وفي
الْعَادَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَا وَرِثَهُ الْإِنْسَانُ أنه مِيرَاثٌ وَإِنْ
غَيَّرَهُ
وقال الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ إذَا حَلَفَ لَا يُطْعِمُ فُلَانًا مِمَّا وَرِثَ
من أبيه شيئا فَإِنْ كان وَرِثَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ منه حَنِثَ فَإِنْ اشْتَرَى
بِذَلِكَ الطَّعَامِ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ منه لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْيَمِينَ
وَقَعَتْ على الطَّعَامِ الْمَوْرُوثِ فإذا بَاعَهُ بِطَعَامٍ آخَرَ فَالثَّانِي
ليس بِمَوْرُوثٍ وقد أَمْكَنَ حَمْلُ الْيَمِينِ على الْحَقِيقَةِ فَلَا تُحْمَلُ
على الْمَجَازِ وَإِنْ كان وَرِثَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بها طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ
منه حَنِثَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ على الْحَقِيقَةِ فَحُمِلَتْ
على الْمَجَازِ
وقال هِشَامٌ سَمِعْت مُحَمَّدًا يقول في رَجُلٍ معه دَرَاهِمُ حَلَفَ أَنْ لَا
يَأْكُلَهَا فَاشْتَرَى بها دَنَانِيرَ أو فُلُوسًا ثُمَّ اشْتَرَى
بِالدَّنَانِيرِ أو الْفُلُوسِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لم يَحْنَثْ فَإِنْ حَلَفَ لَا
يَأْكُلُ هذه الدَّرَاهِمَ فَاشْتَرَى بها عَرَضًا ثُمَّ بَاعَ ذلك الْعَرْضَ
بِطَعَامٍ فَأَكَلَهُ فإنه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعَادَةَ في قَوْلِهِ لَا أشترى
بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الِامْتِنَاعُ من إنْفَاقِهَا في الطَّعَامِ وَالنَّفَقَةُ
تَارَةً تَكُونُ بِالِابْتِيَاعِ وَتَارَةً بِتَصْرِيفِهَا بِمَا يُنْفَقُ
فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ على الْعَادَةِ فَأَمَّا ابْتِيَاعُ الْعُرُوضِ
بِالدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ بِنَفَقَةٍ في الطَّعَامِ في الْعَادَةِ فَلَا تُحْمَلُ
الْيَمِينُ عليه وَهَذَا خِلَافُ ما حَكَاهُ عن أبي يُوسُفَ
وقال ابن رُسْتُمَ فِيمَنْ قال وَاَللَّهِ لَا آكُلُ من طَعَامِك وهو يَبِيعُ
الطَّعَامَ فَاشْتَرَى منه فَأَكَلَ حَنِثَ لِأَنَّ مِثْلَ هذه الْيَمِينِ يُرَادُ
بها مَنْعُ النَّفْسِ عن الِابْتِيَاعِ
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أكل من طَعَامِك هذا الطَّعَامَ
بِعَيْنِهِ فَأَهْدَاهُ له فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْنَثُ في قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهَذَا فَرْعُ
اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ قال لَا أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هذه فَبَاعَهَا فُلَانٌ
ثُمَّ دَخَلَهَا وَالْمَسْأَلَةُ تَجِيءُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من طَعَامِهِ فَأَكَلَ من طَعَامٍ
مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من الطَّعَامِ يُسَمَّى
طَعَامًا فَقَدْ أَكَلَ من طَعَامِ الْمَحْلُوفِ عليه وقال عَلِيُّ بن الْجَعْدِ
وابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من غَلَّةِ أَرْضِهِ
وَلَا نِيَّةَ له فَأَكَلَ من ثَمَنِ الْغَلَّةِ حَنِثَ لِأَنَّ هذا في الْعَادَةِ
يُرَادُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ فَإِنْ نَوَى أَكْلَ نَفْسِ ما يَخْرُجُ منه
فَأَكَلَ من ثَمَنِهِ دَيَّنْتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ولم
أُدَيِّنْهُ في الْقَضَاءِ
قال الْقُدُورِيُّ وَهَذَا على أَصْلِهِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ
وَنَوَى الْجِنْسَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ فَأَمَّا على الرِّوَايَةِ
الظَّاهِرَةِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وقال مُحَمَّدٌ في
الْجَامِعِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه النَّخْلَةِ شيئا وَأَكَلَ من
ثَمَرِهَا أو جُمَّارِهَا أو طَلْعِهَا أو بُسْرِهَا أو الدِّبْسِ الذي يَخْرُجُ
من رُطَبِهَا فإنه يَحْنَثُ لِأَنَّ النَّخْلَةَ لَا يَتَأَتَّى أَكْلُهَا
فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ على ما يَتَوَلَّدُ منها وَالدِّبْسُ اسْمٌ لِمَا يَسِيلُ
من الرُّطَبِ لَا الْمَطْبُوخِ منه
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذا الْكَرْمِ شيئا فَأَكَلَ من عِنَبِهِ أو
زَبِيبِهِ أو عَصِيرِهِ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هو الْخَارِجُ من الْكَرْمِ إذْ
عَيْنُ الْكَرْمِ لَا تَحْتَمِلُ الْأَكْلَ كما في النَّخْلَةِ بِخِلَافِ ما إذَا
نَظَرَ إلَى عِنَبٍ فقال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَكَلَ من هذا الْعِنَبِ فَأَكَلَ من
زَبِيبِهِ أو عَصِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعِنَبَ مِمَّا تُؤْكَلُ
عَيْنُهُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ على ما يَتَوَلَّدُ منه
وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه الشَّاةِ فَأَكَلَ من لَبَنِهَا أو
زُبْدِهَا أو سَمْنِهَا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الشَّاةَ مَأْكُولَةٌ في نَفْسِهَا
فَأَمْكَنَ حَمْلُ الْيَمِينِ على أَجْزَائِهَا فَيُحْمَلُ عليها لَا على ما
يَتَوَلَّدُ منها
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ أَكَلَ من نَاطِفٍ جُعِلَ من ثَمَرِ النَّخْلَةِ أو نَبِيذٍ
نُبِذَ من ثَمَرِهَا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ كَلِمَةَ من لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وقد
خَرَجَ هذا مَحْذُوفَ الصِّيغَةِ عن حَالِ الِابْتِدَاءِ فلم يَتَنَاوَلْهُ
الْيَمِينُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذا اللَّبَنِ فَأَكَلَ من زُبْدِهِ أو سَمْنِهِ لم
يَحْنَثْ لِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ بِنَفْسِهِ فَتُحْمَلُ الْيَمِينُ على
نَفْسِهِ دُونَ ما يُتَّخَذُ منه وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحَلِفُ على الشُّرْبِ
____________________
(3/65)
فَقَدْ
ذَكَرْنَا مَعْنَى الشُّرْبِ أَنَّهُ إيصَالُ ما لَا يَحْتَمِلُهُ الْمَضْغُ من
الْمَائِعَاتِ إلَى الْجَوْفِ حتى لو حَلَفَ لَا يَشْرَبُ فَأَكَلَ لَا يَحْنَثُ
كما لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَشَرِبَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ
فِعْلَانِ مُتَغَايِرَانِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } عَطَفَ الشُّرْبَ على
الْأَكْلِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عليه وإذا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ
وَلَا نِيَّةَ له فَأَيَّ شَرَابٍ شَرِبَ من مَاءٍ أو غَيْرِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ
مَنْعَ نَفْسَهُ عن الشُّرْبِ عَامًّا وَسَوَاءٌ شَرِبَ قَلِيلًا أو كَثِيرًا
لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرَابِ يُسَمَّى شَرَابًا وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ
طَعَامًا فَأَكَلَ شيئا يَسِيرًا يَحْنَثُ لِأَنَّ قَلِيلَ الطَّعَامِ طَعَامٌ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا فَأَيَّ نَبِيذٍ شَرِبَ حَنِثَ لِعُمُومِ
اللَّفْظِ وَإِنْ شَرِبَ سَكَرًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السَّكَرَ لَا يُسَمَّى
نَبِيذًا لِأَنَّهُ اسْمٌ لِخَمْرِ التَّمْرِ وهو الذي من مَاءِ التَّمْرِ إذَا
غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بالزبذ ( ( ( بالزبد ) ) ) أو لم يَقْذِفْ على
الِاخْتِلَافِ وَكَذَا لو شَرِبَ فَضِيخًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا إذْ هو
اسْمٌ لِلْمُثَلَّثِ يُصَبُّ فيه الْمَاءُ وَكَذَا لو شَرِبَ عَصِيرًا لِأَنَّهُ
لَا يُسَمَّى نَبِيذًا
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مع فُلَانٍ شَرَابًا فَشَرِبَا في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ من
شَرَابٍ وَاحِدٍ حَنِثَ وَإِنْ كان الْإِنَاءُ الذي يَشْرَبَانِ فيه مُخْتَلِفًا
وَكَذَا لو شَرِبَ الْحَالِفُ من شَرَابٍ وَشَرِبَ الْآخَرُ من شَرَابٍ غَيْرِهِ
وقد ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ من الشُّرْبِ مع فُلَانٍ في
الْعُرْفِ هوأن يَشْرَبَا في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اتَّحَدَ الْإِنَاءُ وَالشَّرَابُ
أو اخْتَلَفَا بَعْدَ أَنْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ يُقَالُ شَرِبْنَا مع
فُلَانٍ وَشَرِبْنَا مع الْمَلِكِ وَإِنْ كان الْمَلِكُ يَتَفَرَّدُ بِالشُّرْبِ
من إنَاءٍ فَإِنْ نَوَى شَرَابًا وَاحِدًا وَمِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يُصَدَّقْ
لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من دِجْلَةَ أو من الْفُرَاتِ قال أبو حَنِيفَةَ لَا
يَحْنَثُ ما لم يَشْرَبْ منه كَرْعًا وهو أَنْ يَضَعَ فَاهُ عليه فَيَشْرَبَ منه
فَإِنْ أَخَذَ الْمَاءَ بيده أو بِإِنَاءٍ لم يَحْنَثْ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثُ شَرِبَ كَرْعًا أو بِإِنَاءٍ أو اغْتَرَفَ بيده
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يُصْرَفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ
أَهْلِ اللِّسَانِ
وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ أَنَّ من رَفَعَ الْمَاءَ من الْفُرَاتِ بيده أو
بِشَيْءٍ من الْأَوَانِي أَنَّهُ يُسَمَّى شَارِبًا من الْفُرَاتِ فَيُحْمَلُ
مُطْلَقُ الْكَلَامِ على غَلَبَةِ الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ كان مَجَازًا بَعْدَ أَنْ
كان مُتَعَارَفًا كما لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه الشَّجَرَةِ أو من هذا
الْقِدْرِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ذلك إلَى ما يَخْرُجُ من الشَّجَرَةِ من الثَّمَرِ
وَإِلَى ما يُطْبَخُ في الْقِدْرِ من الطَّعَامِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ على الْحَقِيقَةِ وَحَقِيقَةُ
الشُّرْبِ من الْفُرَاتِ هو أَنْ يَكْرَعَ منه كَرْعًا لِأَنَّ كَلِمَةَ من
هَهُنَا اُسْتُعْمِلَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ بِلَا خِلَافٍ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا
على التَّبْعِيضِ إذْ الْفُرَاتُ اسْمٌ لِلنَّهْرِ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْرُ اسْمٌ
لِمَا بين ضِفَّتَيْ الْوَادِي لَا لِلْمَاءِ الْجَارِي فيه فَكَانَتْ كَلِمَةُ من
هَهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ من هذا
الْمَكَانِ وَلَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ منه إلَّا وَأَنْ يَضَعَ فَاهُ عليه
فَيَشْرَبَ منه وهو تَفْسِيرُ الْكَرْعِ كما لو حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من هذا
الْكُوزِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو شَرِبَ من إنَاءٍ أُخِذَ فيه الْمَاءُ من الْفُرَاتِ كان
شَارِبًا من ذلك الْإِنَاءِ حَقِيقَةً لَا من الْفُرَاتِ
وَالْمَاءُ الْوَاحِدُ لَا يُشْرَبُ من مَكَانَيْنِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
حَقِيقَةً وَلِهَذَا لو قال شَرِبْت من الْإِنَاءِ لَا من الْفُرَاتِ كان
مُصَدَّقًا وَلَوْ قال على الْقَلْبِ كان مُكَذَّبًا فَدَلَّ أَنَّ الشُّرْبَ من
الْفُرَاتِ هو الْكَرْعُ منه وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَمُسْتَعْمَلٌ في الْجُمْلَةِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى قَوْمًا فقال هل عِنْدَكُمْ من مَاءٍ
بَاتَ في شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا وَيَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرٌ في زَمَانِنَا من
أَهْلِ الرَّسَاتِيقِ على أَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ فِعْلًا مُسْتَعْمَلًا فَذَا لَا
يُوجِبُ كَوْنَ الِاسْمِ مَنْقُولًا عن الْحَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ كان الِاسْمُ
مُسْتَعْمَلًا فيه تَسْمِيَةً وَنُطْقًا كما لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا
فَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إنه يَحْنَثُ وَإِنْ كان لَا يُؤْكَلُ عَادَةً لِانْطِلَاقِ
الِاسْمِ عليه حَقِيقَةً تَسْمِيَةً وَنُطْقًا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قِلَّةَ
الْحَقِيقَةِ وُجُودًا لَا يَسْلُبُ اسْمَ الْحَقِيقَةِ عن الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ
ماإذا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه الشَّجَرَةِ أو من هذا الْقِدْرِ لِأَنَّ
هَهُنَا كما لَا يُمْكِنُ جَعْلُ هذه الْكَلِمَةِ لِتَبْعِيضِ مادخلت عليه
بِخُرُوجِ الشَّجَرَةِ وَالْقِدْرِ من أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ لَا
يُمْكِنُ جَعْلُهَا ابْتِدَاءَيْنِ لِغَايَةِ الْأَكْلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ
الْأَكْلِ لَا تحصل ( ( ( يحصل ) ) ) من الْمَكَانِ بَلْ من الْيَدِ لِأَنَّ
الْمَأْكُولَ مُسْتَمْسِكٌ في نَفْسِهِ وَالْأَكْلُ عِبَارَةٌ عن الْبَلْعِ عن
مَضْغٍ وَلَا يَتَأَتَّى فيه الْمَضْغُ بِنَفْسِهِ فلم يُمْكِنْ جَعْلُهَا
لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَأُضْمِرَ فيه ما يَتَأَتَّى فيه الْأَكْلُ وهو
الثَّمَرَةُ في الشَّجَرَةِ وَالْمَطْبُوخُ في الْقِدْرِ فَكَانَ من لِلتَّبْعِيضِ
وَهَهُنَا أَمْكَنَ جَعْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ يُشْرَبُ
من مَكَان لَا مَحَالَةَ لِانْعِدَامِ اسْتِمْسَاكِهِ في نَفْسِهِ إذْ الشُّرْبُ
هو الْبَلْعُ من غَيْرِ مَضْغٍ وما يُمْكِنُ ابْتِلَاعُهُ من غَيْرِ مَضْغٍ لَا
يَكُونُ له في نَفْسِهِ اسْتِمْسَاكٌ فَلَا بُدَّ من حَامِلٍ له يُشْرَبُ منه
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ شَرِبَ من نَهْرٍ يَأْخُذُ من
____________________
(3/66)
الْفُرَاتِ
لم يَحْنَثْ في قَوْلِهِمْ جميعا أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ هذا
النَّهْرَ ليس بِفُرَاتٍ فَصَارَ كما لو شَرِبَ من آنِيَةٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا
فلأنهما يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ وَمَنْ شَرِبَ من نَهْرٍ يَأْخُذُ
من الْفُرَاتِ لَا يُعْرَفُ شَارِبًا من الْفُرَاتِ لِأَنَّ الشُّرْبَ من
الْفُرَاتِ عِنْدَهُمَا هو أَخْذُ الْمَاءِ الْمُفْضِي إلَى الشُّرْبِ من
الْفُرَاتِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّهُ أَخَذَ من نَهْرٍ لَا يُسَمَّى فُرَاتًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ من نَهْرٍ أَخَذَ
الْمَاءَ من الْفُرَاتِ فَإِنْ شَرِبَ منه بِالِاغْتِرَافِ بِالْآنِيَةِ أو
بِالِاسْتِقَاءِ بِرَاوِيَةٍ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَرَعَ منه يَحْنَثْ
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّهْرَ لَمَّا
أَخَذَ الْمَاءَ من الْفُرَاتِ فَقَدْ صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ فَانْقَطَعَتْ
الْإِضَافَةُ إلَى الْفُرَاتِ
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أنه مَنْعُ نَفْسِهِ عن شُرْبِ جُزْءٍ من مَاءِ
الْفُرَاتِ لِأَنَّ كَلِمَةَ من دَخَلَتْ في الْمَاءِ صِلَةً لِلشُّرْبِ وهو
قَابِلٌ لِفِعْلِ الشُّرْبِ فَكَانَتْ لِلتَّجْزِئَةِ وَبِالدُّخُولِ في نَهْرٍ
انْشَعَبَ من الْفُرَاتِ لَا تَنْقَطِعُ إلَيْهِ النِّسْبَةُ كما لَا تَنْقَطِعُ
بِالِاغْتِرَافِ بِالْآنِيَةِ وَالِاسْتِقَاءِ بالرواية ( ( ( بالراوية ) ) )
أَلَا تَرَى أَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ يُنْقَلُ إلَيْنَا وَنَتَبَرَّكُ بِهِ وَنَقُولُ
شَرِبْنَا من مَاءِ زَمْزَمَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من مَاءِ دِجْلَةَ
فَهَذَا وَقَوْلُهُ لَا أَشْرَبُ من دِجْلَةَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشُّرْبَ
من النَّهْرِ فَكَانَ على الِاخْتِلَافِ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من نَهْرٍ يَجْرِي
ذلك النَّهْرُ إلَى دِجْلَةَ فَأَخَذَ من دِجْلَةَ من ذلك الْمَاءِ فَشَرِبَهُ لم
يَحْنَثْ لِأَنَّهُ قد صَارَ من مَاءِ دِجْلَةَ لِزَوَالِ الْإِضَافَةِ إلَى
النَّهْرِ الْأَوَّلِ بِحُصُولِهِ في دِجْلَةَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من هذا الْجُبِّ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ حتى لو
اغْتَرَفَ من مَائِهِ في إنَاءٍ آخَرَ فَشَرِبَ لم يَحْنَثْ حتى يَضَعَ فَاهُ على
الْجُبِّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْنَثُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من
قَسَّمَ الْجَوَابَ في الْجُبِّ فقال إنْ كان مَلْآنَ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَقْصُورَةُ الْوُجُودِ وَإِنْ كان غير مَلْآنَ فَاغْتَرَفَ
يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ فَتَنْصَرِفَ يَمِينُهُ
إلَى الْمَجَازِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من هذا الْكُوزِ انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى
الْحَقِيقَةِ إجْمَاعًا لِتَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
لِلْعُرْفِ فَإِنْ نُقِلَ الْمَاءُ من كُوزٍ إلَى كُوزٍ وَشَرِبَ من الثَّانِي لَا
يُسَمَّى شَارِبًا من الْكُوزِ الْأَوَّلِ
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من مَاءِ هذا الْجُبِّ فَاغْتَرَفَ منه بِإِنَاءٍ
فَشَرِبَ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على مَاءِ ذلك
الْجُبِّ وقد شَرِبَ من مَائِهِ فَإِنْ حَوَّلَ مَاءَهُ إلَى جُبٍّ آخَرَ فَشَرِبَ
منه فَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من مَاءِ
الْفُرَاتِ فَشَرِبَ من نَهْرٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ من الْفُرَاتِ وقد مَرَّ
وَلَوْ قال لَا أَشْرَبُ من مَاءِ هذا الْجُبِّ فَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في
قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ من مَاءِ دِجْلَةَ وقد ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا
يَشْرَبُ من هذه الْبِئْرِ أو من مَائِهَا فَاسْتَقَى منها وَشَرِبَ حَنِثَ
لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةِ الْوُجُودِ فَيُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ
وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من مَاءِ الْمَطَرِ فَمُدَّتْ الدِّجْلَةُ
من الْمَطَرِ فَشَرِبَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ في الدِّجْلَةِ
انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَطَرِ فَإِنْ شَرِبَ من مَاءِ وَادٍ سَالَ من
الْمَطَرِ لم يَكُنْ فيه مَاءٌ قبل ذلك أو جاء من مَاءِ مَطَرٍ مُسْتَنْقَعٍ في
قَاعٍ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يُضَفْ إلَى نهر ( ( ( النهر ) ) ) بَقِيَتْ
الْإِضَافَةُ إلَى الْمَطَرِ كما كانت
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من مَاءٍ فُرَاتٍ فَشَرِبَ من مَاءِ دِجْلَةَ أو
نَهْرٍ آخَرَ أو بِئْرٍ عَذْبَةٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ من شُرْبِ
مَاءٍ عَذْبٍ إذْ الْفُرَاتُ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْعَذْبِ قال اللَّهُ عز
وجل { وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } وَلَمَّا أَطْلَقَ الْمَاءَ ولم
يُضِفْهُ إلَى الْفُرَاتِ فَقَدْ جَعَلَ الْفُرَاتَ نَعْتًا لِلْمَاءِ وقد شَرِبَ
من الْمَاءِ الْمَنْعُوتِ فَيَحْنَثُ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَضَافَ الْمَاءَ
إلَى الْفُرَاتِ وَعَرَّفَ الْفُرَاتَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ فَيُصْرَفُ إلَى
النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ الْمُسَمَّى بِالْفُرَاتِ
وَأَمَّا الْحَلِفُ على الذَّوْقِ فَالذَّوْقُ هو إيصَالُ الْمَذُوقِ إلَى الْفَمِ
ابْتَلَعَهُ أو لَا بَعْدَ إن وَجَدَ طَعْمَهُ لِأَنَّهُ من أَحَدِ الْحَوَاسِّ
الْخَمْسِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْعِلْمِ بِالْمَذُوقَاتِ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ
وَالشَّمِّ وَاللَّمْسِ لِلْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ
وَالْمَشْمُومَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَالْعِلْمُ بِالطَّعْمِ يَحْصُلُ بِحُصُولِ
الذَّوْقِ في فَمِهِ سَوَاءٌ ابْتَلَعَهُ أو مَجَّهُ فَكُلُّ أَكْلٍ فيه ذَوْقٌ
وَلَيْسَ كُلُّ ذَوْقٍ أَكْلًا
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذاحلف لَا يَذُوقُ طَعَامًا أو شَرَابًا فَأَدْخَلَهُ
في فيه حَنِثَ لِحُصُولِ الذَّوْقِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ وهو ما ذَكَرْنَا
فَإِنْ قال أَرَدْت بِقَوْلِي لَا أَذُوقُهُ لَا آكُلُهُ وَلَا أَشْرَبُهُ دِينَ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل وَلَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ
قد يُرَادُ بِالذَّوْقِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ يُقَالُ في الْعُرْفِ ما ذُقْت
الْيَوْمَ شيئا وما ذُقْت إلَّا الْمَاءَ وَيُرَادُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ
فإذا نَوَى ذلك لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حتى
يَأْكُلَ أو يَشْرَبَ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَا يُصَدَّقُ
في الْقَضَاءِ لِعُدُولِهِ عن الظَّاهِرِ
قال هِشَامٌ وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلً حَلَفَ
____________________
(3/67)
لَا
يَذُوقُ في مَنْزِلِ فُلَانٍ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَذَاقَ منه شيئا أَدْخَلَهُ
فَاهُ ولم يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ فقال مُحَمَّدٌ هذا على الذَّوْقِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ تَقَدَّمَ كَلَامٌ
قُلْت فَإِنْ كان قال له الْمَحْلُوفُ عليه تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ فَحَلَفَ
لَا يَذُوقُ في مَنْزِلِهِ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فقال مُحَمَّدٌ هذا على
الْأَكْلِ ليس على الذَّوْقِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ
حَقِيقَةَ الذَّوْقِ هِيَ اكْتِسَاب سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَذُوقِ وقد
يُسْتَعْمَلُ ذلك في الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِنْ تَقَدَّمَتْ هُنَاكَ دَلَالَةُ
حَالٍ خَرَجَ الْكَلَامُ عليه حُمِلَتْ الْيَمِينُ عليها وَإِلَّا عَمِلْت
بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ الْمَاءَ فَتَمَضْمَضَ لِلصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ
حَصَلَ له الْعِلْمُ بِطَعْمِ الْمَاءِ لِأَنَّ ذلك لَا يُسَمَّى ذَوْقًا عُرْفًا
وَعَادَةً إذْ الْمَقْصُودُ منه التَّطْهِيرُ لَا مَعْرِفَةُ طَعْمِ الْمَذُوقِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا أو لَا يَشْرَبُ شَرَابًا أو لَا يَذُوقُ
وَنَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ أو شَرَابًا دُونَ شَرَابٍ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ
في هذا أَنَّ الْحَالِفَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ تخصيص ( ( ( تحصيص ) ) )
ما هو مَذْكُورٌ وأما إن نَوَى تَخْصِيصَ ما ليس بِمَذْكُورٍ فَإِنْ نَوَى
تَخْصِيصَ ما هو مَذْكُورٌ بِأَنْ ذَكَرَ لَفْظًا عَامًّا وَأَرَادَ بِهِ بَعْضَ
ما دخل تَحْتَ اللَّفْظِ الْعَامِّ من حَيْثُ الظَّاهِرُ يُصَدَّقُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ
التَّكَلُّمَ بِالْعَامِّ على إرَادَةِ الْخَاصِّ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ
الظَّاهِرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ دَلَالَةً على الْعُمُومِ وَالظَّاهِرُ من
اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ دَلَالَةً على الْعُمُومِ في اللُّغَةِ إرَادَةُ
الْعُمُومِ فَكَانَ نِيَّةُ الْخُصُوصِ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ
قَضَاءً وَإِنْ نَوَى تَخْصِيصَ ما ليس بِمَذْكُورٍ لَا يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ
وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل سَوَاءٌ كان التَّخْصِيصُ رَاجِعًا
إلَى الذَّاتِ أو إلَى الصِّفَةِ أو إلَى الْحَالِ لِأَنَّ الْخُصُوصَ
وَالْعُمُومَ من صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي فَغَيْرُ الْمَلْفُوظِ
لَا يَحْتَمِلُ التَّعْمِيمَ وَالتَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فإذا نَوَى
التَّخْصِيصَ فَقَدْ نَوَى ما لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فلم تَصِحَّ نِيَّتُهُ
رَأْسًا وإذا عُرِفَ هذا فَتُخَرَّجُ عليه مَسَائِلُ إذَا قال إنْ أَكَلْت طَعَامًا
أو شَرِبْت شَرَابًا أو إنْ ذُقْت طَعَامًا أو شَرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ وقال
عَنَيْت اللَّحْمَ أو الْخُبْزَ فَأَكَلَ غَيْرَهُ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى
التَّخْصِيصَ من اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ في مَوْضِعِ الْعُمُومِ كما بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ أَكَلْت طَعَامًا بِمَعْنَى قَوْلِهِ لَا
آكُلُ طَعَامًا فَيَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ كُلَّ طَعَامٍ فإذا نَوَى بِهِ بَعْضَ
الْأَطْعِمَةِ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ في اللَّفْظِ الْعَامِّ
وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً
وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل
وَإِنْ قال إنْ أَكَلْت أو ذُقْت أو شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ وهو يَنْوِي طَعَامًا
بِعَيْنِهِ أو شَرَابًا بِعَيْنِهِ فَأَكَلَ أو شَرِبَ غَيْرَهُ فإن عَبْدَهُ
يَعْتِقُ في الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ
نَوَى التَّخْصِيصَ من غَيْرِ الْمَذْكُورِ إذْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَيْسَا
بِمَذْكُورَيْنِ بَلْ يَثْبُتَانِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَالْمُقْتَضَى لَا
عُمُومَ له
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل
وَيَزْعُمُ أَنَّ لِلْمُقْتَضَى عُمُومًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ من صِفَاتِ الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ إذْ
الْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الصِّفَةَ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ
مَوْجُودًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِصِحَّةِ الْكَلَامِ فيبقى فِيمَا وَرَاءَهُ
على حُكْمِ الْعَدَمِ
وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الرَّاجِعُ إلَى الصِّفَةِ وَالْحَالِ فَنَحْوُ ما حَكَى
بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ هذا الرَّجُلَ وهو
قَائِمٌ وَعَنَى بِهِ ما ( ( ( وما ) ) ) دَامَ قَائِمًا لَكِنَّهُ لم يَتَكَلَّمْ
بِالْقِيَامِ كانت نِيَّتُهُ بَاطِلَةً وَحَنِثَ إنْ كَلَّمَهُ لِأَنَّ الْحَالَ
وَالصِّفَةَ لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هذا الْقَائِمَ يعني بِهِ ما دَامَ قَائِمًا وَسِعَهُ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِوُرُودِ التَّخْصِيصِ على
الْمَلْفُوظِ وَكَذَلِكَ إذَا قال وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ فُلَانًا خَمْسِينَ
وهو يَنْوِي بِسَوْطٍ بِعَيْنِهِ فَبِأَيِّ سَوْطٍ ضَرَبَهُ فَقَدْ خَرَجَ عن
يَمِينِهِ وَالنِّيَّةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ آلَةَ الضَّرْبِ لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ
فَبَطَلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ
وَنَظِيرُ هذا ما حَكَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ وقال
وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وهو يَنْوِي كُوفِيَّةً أو بَصْرِيَّةً فقال
ليس في هذا نِيَّةٌ فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل
وَلَا في الْقَضَاءِ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً يَعْنِي امْرَأَةً كان أَبُوهَا
يَعْمَلُ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا كُلُّهُ لَا تَجُوزُ فيه النِّيَّةُ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً يَعْنِي امْرَأَةً عَرَبِيَّةً
أو حَبَشِيَّةً قال هذا جَائِزٌ يَدِينُ فِيمَا نَوَاهُ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ
عَرَبِيَّةً أو حَبَشِيَّةً بَيَانَ النَّوْعِ وَقَوْلَهُ كُوفِيَّةً أو
بَصْرِيَّةً وَصْفًا فَجَوَّزَ تَخْصِيصَ النَّوْعِ ولم يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ
الْوَصْفِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ وَالْجِنْسُ مَذْكُورٌ وهو
قول امْرَأَةً لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ امْرَأَةٍ لِأَنَّهُ في مَوْضِعِ
النَّفْيِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ في نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ لِاشْتِمَالِ اسْمِ
الْجِنْسِ على الْأَنْوَاعِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ
امْرَأَةً على ظَهْرِ الْأَرْضِ يَنْوِي امْرَأَةً بِعَيْنِهَا قال يُصَدَّقُ
فِيمَا بَيْنَهُ
____________________
(3/68)
وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَحْتَمِلُ تَخْصِيصَ جِنْسِ أَفْرَادِ
الْعُمُومِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ قال
وَلَوْ قال لَا أَشْتَرِي جَارِيَةً وَنَوَى مُوَلَّدَةً فإن نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ
لِأَنَّهُ ليس بِتَخْصِيصِ نَوْعٍ من جِنْسٍ وَإِنَّمَا هو تَخْصِيصُ صِفَةٍ
فَأَشْبَهَ الْكُوفِيَّةَ وَالْبَصْرِيَّةَ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا آكُلُ الطَّعَامَ أو لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ أو لَا
أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَيَمِينُهُ على بَعْضِ الْجِنْسِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ
كَلَامِهِ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَلَا بُدَّ من
مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ وَمَعْرِفَةِ وَقْتِهِمَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَارَةٌ
عن أَكْلِ ما يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً فَيُعْتَبَرُ في ذلك الْعَادَةُ في
كل بَلَدٍ فما كان غَدَاءً عِنْدَهُمْ حُمِلَتْ الْيَمِينُ عليه وَلِهَذَا قالوا
في أَهْلِ الْحَضَرِ إذَا حَلَفُوا على تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبُوا اللَّبَنَ لم
يَحْنَثُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ ذلك لِلشِّبَعِ عَادَةً
وَلَوْ حَلَفَ الْبَدَوِيُّ فَشَرِبَ اللَّبَنَ حَنِثَ لِأَنَّ ذلك غَدَاءٌ في
الْبَادِيَةِ وإذا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَأَكَلَ غير الْخُبْزِ من أَرُزٍّ أو
تَمْرٍ أو غَيْرِهِ حتى شَبِعَ لم يَحْنَثْ ولم يَكُنْ ذلك غَدَاءً وَكَذَلِكَ
إذَا أَكَلَ لَحْمًا بِغَيْرِ خُبْزٍ لم يَحْنَثْ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قال وَقَالَا ليس الْغَدَاءُ في مِثْلِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إلَّا على الْخُبْزِ وَالْمَرْجِعُ في هذا إلَى
الْعَادَةِ فما كان غَدَاءً معتادا ( ( ( متعادا ) ) ) عِنْدَ الْحَالِفِ حَنِثَ
وما لَا فَلَا وَرَوَى هِشَامٌ عن أبي حَنِيفَةَ في أَكْلِ الْهَرِيسَةِ
وَالْأَرُزِّ أَنَّهُ يَحْنَثُ وروى عن أبي يُوسُفَ في الْهَرِيسَةِ
وَالْفَالُوذَجِ وَالْخَبِيصِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك
غَدَاءَهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ غَدَاءَ كل بَلَدٍ ما تَعَارَفُونَهُ غَدَاءً
فَيُعْتَبَرُ عَادَةُ الْحَالِفِ فِيمَا يَحْلِفُ عليه فَإِنْ كان الْحَالِفُ
كُوفِيًّا يَقَعُ على خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَلَا يَقَعُ على اللَّبَنِ
وَالسَّوِيقِ وَإِنْ كان بَدَوِيًّا يَقَعُ على اللَّبَنِ وَالسَّوِيقِ وَإِنْ كان
حِجَازِيًّا يَقَعُ على السَّوِيقِ وفي بِلَادِنَا يَقَعُ على خُبْزِ الْحِنْطَةِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ وَقْتُ الْغَدَاءِ من طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ
الزَّوَالِ لِأَنَّ الْغَدَاءَ عِبَارَةٌ عن أَكْلِ الْغُدْوَةِ وما بَعْدَ نِصْفِ
النَّهَارِ لَا يَكُونُ غُدْوَةً وَالْعَشَاءُ من وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى نِصْفِ
اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من أَكْلِ الْعَشِيَّةِ وَأَوَّلُ أَوْقَاتِ
الْعِشَاءِ ما بَعْدَ الزَّوَالِ
وقد رُوِيَ أَنَّ النبي صلى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ يُرِيدُ الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ وفي عُرْفِ دِيَارِنَا الْعِشَاءُ ما بَعْدَ وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ
وَأَمَّا السُّحُورُ فما بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من السَّحَرِ وهو وَقْتُ السَّحَرِ ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ مِقْدَارُ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ
وقد رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِأَمَتِهِ إنْ لم تتعشي ( (
( تتعش ) ) ) اللَّيْلَةَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَكَلَتْ لُقْمَةً وَاحِدَةً لم
تَزِدْ عليها فَلَيْسَ هذا بِعَشَاءٍ وَلَا يَحْنَثُ حتى تَأْكُلَ أَكْثَرَ من
نِصْفِ شِبَعِهَا لِأَنَّ من أَكَلَ لُقْمَةً يقول في الْعَادَةِ ما تَغَدَّيْت
وَلَا تَعَشَّيْت فإذا أَكَلَ أَكْثَرَ أَكْلِهِ يُسَمَّى ذلك غَدَاءً في
الْعَادَةِ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنه غُدْوَةً أَنَّهُ
إذَا أَتَاهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَدْ بَرَّ وهو
غُدْوَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا وَقْتُ الْغَدَاءِ وَلَوْ قال لَيَأْتِيَنه
ضَحْوَةً فَهُوَ من بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ من السَّاعَةِ التي تَحِلُّ فيها
الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ لِأَنَّ هذا وَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى
قال مُحَمَّدٌ إذَا حَلَفَ لَا يُصْبِحُ فَالتَّصْبِيحُ عِنْدِي ما بين طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَبَيْنَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى الْأَكْبَرِ فإذا ارْتَفَعَ الضُّحَى
الْأَكْبَرُ ذَهَبَ وَقْتُ التَّصْبِيحِ لِأَنَّ التَّصْبِيحَ تَفْعِيلٌ من الصباح
( ( ( الصبح ) ) ) وَالتَّفْعِيلُ لِلتَّكْثِيرِ فَيَقْتَضِي زِيَادَةً على ما
يُفِيدُهُ الاصباح وَرَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُهُ إلَى السَّحَرِ قال إذَا دخل ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ
فَلْيُكَلِّمْهُ لِأَنَّ وَقْتَ السَّحَرِ ما قَرُبَ من الْفَجْرِ
قال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ وَالْمَسَاءُ مساآن ( ( ( مساءان ) ) ) أَحَدُهُمَا إذَا
زَالَتْ الشَّمْسُ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ كَيْفَ
أَمْسَيْت وَالْمَسَاءُ الْأَخِيرُ إذَا غَرُبَتْ الشَّمْسُ فإذا حَلَفَ بَعْدَ
الزَّوَالِ لَا يَفْعَلُ كَذَا حتى يُمْسِيَ كان ذلك على غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ على الْمَسَاءِ الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ
على الثَّانِي وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على اللُّبْسِ وَالْكِسْوَةِ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ
قَمِيصًا أو سَرَاوِيلَ أو رِدَاءً فَاِتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ أو الْقَمِيصِ أو
الرِّدَاءِ لم يَحْنَثْ وَكَذَا إذَا اعتم بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ الْمُطْلَقَ
تُعْتَبَرُ فيه الْعَادَةُ وَالِاتِّزَارُ وَالتَّعَمُّمُ ليس بِمُعْتَادٍ في هذه
الْأَشْيَاءِ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هذا الْقَمِيصَ أو هذا
الرِّدَاءَ فَعَلَى أَيِّ حَالٍ لَبِسَ ذلك حَنِثَ وَإِنْ اتَّزَرَ بِالرِّدَاءِ
وَارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أو اغْتَسَلَ فَلَفَّ الْقَمِيصَ على رَأْسِهِ وَكَذَلِكَ
إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هذه الْعِمَامَةَ فألقاها على عَاتِقِهِ لِأَنَّ
الْيَمِينَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ اُعْتُبِرَ فيها وُجُودُ الِاسْمِ وَلَا
تُعْتَبَرُ فيها الصِّفَةُ الْمُعْتَادَةُ لِأَنَّ الصِّفَةَ في الْحَاضِرِ غَيْرُ
مُعْتَبَرَةٍ
____________________
(3/69)
وَالِاسْمُ
بَاقٍ وَهَذَا ليس بِمُعْتَادٍ فَيَحْنَثُ بِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا فَلَبِسَ مُصَمَّتًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ
الثَّوْبَ يُنْسَبُ إلَى اللُّحْمَةِ دُونَ السَّدَاءِ لِأَنَّهَا هِيَ
الظَّاهِرَةُ منه وَالسِّدَاءُ ليس بِظَاهِرٍ
وَنَظِيرُ مَسَائِلِ الْبَابِ ما قال في الْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ
قَمِيصَيْنِ فَلَبِسَ قَمِيصًا ثُمَّ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَ آخَرَ فإنه لَا
يَحْنَثُ حتى يَلْبَسَهُمَا مَعًا لِأَنَّ الْمَفْهُومَ من لُبْسِ الْقَمِيصَيْنِ
في الْعُرْفِ هو أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ فَلَبِسَ أَحَدَهُمَا
ثُمَّ نَزَعَهُ وَلَبِسَ الْآخَرَ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ هَهُنَا وَقَعَتْ على
عَيْنٍ فَاعْتُبِرَ فيها الِاسْمُ دُونَ اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ وَقَالُوا فِيمَنْ
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شيئا وَلَا نِيَّةَ له فَلَبِسَ دِرْعًا من حَدِيدٍ أو دِرْعَ
امْرَأَةٍ أو خُفَّيْنِ أو قَلَنْسُوَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ ذلك كُلُّهُ
يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللُّبْسِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سِلَاحًا فَتَقَلَّدَ سَيْفًا أو تَنَكَّبَ قَوْسًا أو
تُرْسًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ هذا لَا يُسَمَّى لُبْسًا يُقَالُ تَقَلَّدَ
السَّيْفَ وَلَا يُقَالُ لَبِسَهُ وَلَوْ لَبِسَ دِرْعًا من حَدِيدٍ أو غَيْرِهِ
حَنِثَ لِأَنَّ السِّلَاحَ هَكَذَا يُلْبَسُ وَقَالُوا فيمن حَلَفَ لَا يَلْبَسُ
قُطْنًا فَلَبِسَ ثَوْبَ قُطْنٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَا يَحْتَمِلُ
اللُّبْسَ حَقِيقَةً فَيُحْمَلُ على لُبْسِ ما يُتَّخَذُ منه فَإِنْ لَبِسَ
قَبَاءً ليس بِقُطْنٍ وَحَشْوُهُ قُطْنٌ لم يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ
الْحَشْوَ لِأَنَّ الْحَشْوَ ليس بِمَلْبُوسٍ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ
فَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا من قُطْنٍ وَكَتَّانٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ على
الْقُطْنِ تَتَنَاوَلُ ما يُتَّخَذُ منه وَبَعْضُ الثَّوْبِ يُتَّخَذُ منه
وروى ( ( ( روى ) ) ) بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ حَلَفَ لَيَقْطَعَن من هذا
الثَّوْبِ قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ فَقَطَعَهُ قَمِيصًا فَلَبِسَهُ ما شَاءَ ثُمَّ
قَطَعَ من الْقَمِيصِ سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهُ فإنه يَبَرُّ في يَمِينِهِ لِأَنَّ
الْقَمِيصَ يُسَمَّى ثَوْبًا فَقَدْ قُطِعَ الثَّوْبُ سَرَاوِيلَ وَاسْمُ
الثَّوْبِ لم يَزُلْ فَلَا يَحْنَثُ
وَإِنْ حَلَفَ على قَمِيصٍ لَيَقْطَعَن منه قَبَاءً وَسَرَاوِيلَ فَقَطَعَ منه
قَبَاءً فَلَبِسَهُ أو لم يَلْبَسْهُ ثُمَّ قَطَعَ من الْقَبَاءِ سَرَاوِيلَ فإنه
قد حَنِثَ في يَمِينِهِ حين قَطَعَ الْقَمِيصَ قَبَاءً لِأَنَّهُ قَطَعَ
السَّرَاوِيلَ مِمَّا لَا يُسَمَّى قَمِيصًا وَيَمِينُهُ اقتضت أَنْ يَقْطَعَ
السَّرَاوِيلَ من قَمِيصٍ لَا من قَبَاءٍ
وقال في الزِّيَادَاتِ إذَا قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لم يَجْعَلْ من هذا الثَّوْبِ
قَبَاءً وَسَرَاوِيلَ وَلَا نِيَّةَ له فَجَعَلَهُ كُلَّهُ قَبَاءً وَخَاطَهُ
ثُمَّ نَقَضَ الْقَبَاءَ وَجَعَلَهُ سَرَاوِيلَ فإنه لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ
يَكُونَ عني أَنْ يَجْعَلَ من بَعْضِهِ هذا أو بَعْضِهِ هذا وهو على الْحَالَةِ
الْأُولَى
وقال عَمْرٌو عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هذا الثَّوْبَ
فَقَطَعَهُ سَرَاوِيلِينَ فَلَبِسَ سَرَاوِيلَ بَعْدَ سَرَاوِيلَ لَا يَحْنَثُ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا صَارَ سَرَاوِيلِينَ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لِأَنَّ
لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُشَارِ إلَيْهِ يُلْبَسُ جَمِيعُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا
يَلْبَسُ هذا الثَّوْبَ فَأَخَذَ منه قَلَنْسُوَاتٍ فَلَبِسَهَا لم يَحْنَثْ
لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَهُ قَلَنْسُوَاتٍ لم يَبْقَ اسْمُ الثَّوْبِ لِأَنَّ
الْقَلَنْسُوَةَ لَا تُسَمَّى ثَوْبًا وَإِنْ قَطَعَهُ قَمِيصًا فَفَضَلَ منه
فَضْلَةٌ عن الْقَمِيصِ رُقْعَةٌ صَغِيرَةٌ يَتَّخِذُ منها لَبِنَةً أو ما
أَشْبَهَ ذلك فإنه يَحْنَثُ لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَانَ
لَابِسًا كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُمَّانَةً فَأَكَلَهَا إلَّا حَبَّةً
وَكَذَا لو اتَّخَذَ من الثَّوْبِ جَوَارِبَ فَلَبِسَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ
لَمَّا قَطَعَهُ جَوَارِبَ زَالَ اسْمُ الثَّوْبِ عنها وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ
ثَوْبًا من غَزْلِ فُلَانَةَ فَقَطَعَ بَعْضَهُ فَلَبِسَهُ فَإِنْ كان لَا يَكُونُ
ما قَطَعَ إزَارًا أو رِدَاءً لم يَحْنَثْ فَإِنْ بَلَغَ ذلك حَنِثَ وَإِنْ
قَطَعَهُ سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهُ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ إنَّمَا يَقَعُ
على ما تُسْتَرُ بِهِ الْعَوْرَةُ وَأَدْنَى ذلك الْإِزَارُ فما دُونَهُ ليس
بِلُبْسِ ثَوْبٍ وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا حَلَفَتْ لَا تَلْبَسُ ثَوْبًا
فَلَبِسَتْ خِمَارًا أو مِقْنَعَةً لم تَحْنَثْ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْخِمَارُ
الذي لم يَبْلُغْ مِقْدَارَ الْإِزَارِ فإذا بَلَغَ ذلك الْإِزَارَ حَنِثَ بِلُبْسِهِ
وَإِنْ لم تُسْتَرْ بِهِ الْعَوْرَةُ
وَكَذَلِكَ إذَا لَبِسَ الْحَالِفُ عِمَامَةً لم يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَلُفَّ على
رَأْسِهِ وَيَكُونَ قَدْرَ إزَارٍ أو رِدَاءٍ أو يَقْطَعَ من مِثْلِهَا قَمِيصًا
أو دِرْعًا أو سَرَاوِيلَ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ إذَا لم تَبْلُغْ مِقْدَارَ
الْإِزَارِ فَلَابِسُهَا لَا يُسَمَّى لَابِسَ ثَوْبٍ فلم يَحْنَثْ وإذا بَلَغَتْ
مِقْدَارَ الْإِزَارِ أو الرِّدَاءِ فَقَدْ لَبِسَ ما يُسَمَّى ثَوْبًا إلَّا
أَنَّهُ ليس في مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ من بَدَنِهِ فَهُوَ كما لو لَبِسَ الْقَمِيصَ
على رَأْسِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ من غَزْلِ فُلَانَةَ ولم يَقُلْ ثَوْبًا لم يَحْنَثْ
في التِّكَّةِ وَالزِّرِّ وَالْعُرْوَةِ وَاللَّبِنَةِ رُوِيَ ذلك عن مُحَمَّدٍ
لِأَنَّ هذا ليس بِلُبْسٍ في الْعَادَةِ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ كان عليه لَابِسٌ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ لَبِسَ رُقْعَةً في ثَوْبٍ شِبْرًا في شِبْرٍ حَنِثَ لِأَنَّ
هذا عِنْدَهُ في حُكْمِ الْكَثِيرِ فَصَارَ لَابِسًا له
وقال مُحَمَّدٌ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لَا يَحْنَثُ في الْعِمَامَةِ
وَالْمِقْنَعَةِ وَيَحْنَثُ في السَّرَاوِيلِ وقد قالوا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ
ثَوْبًا من غَزْلِهَا فَلَبِسَ ثَوْبَ خَزٍّ غَزَلَتْهُ حَنِثَ لِأَنَّ ذلك
يُنْسَبُ إلَى الثَّوْبِ فإنه كان كِسَاءٌ من غَزْلِهَا سُدَاهُ قُطْنٌ فَإِنْ كان
ذلك يُسَمَّى ثَوْبًا حَنِثَ وَإِلَّا لم يَحْنَثْ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا من نَسْجِ فُلَانٍ فَنَسَجَهُ غِلْمَانُهُ
فَإِنْ كان فُلَانٌ يَعْمَلُ بيده لم يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَلْبَسَ من
____________________
(3/70)
عَمَلِهِ
وَإِنْ كان فُلَانٌ لَا يَعْمَلُ بيده حَنِثَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّسْجِ ما
فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْحَمْلُ على الْحَقِيقَةِ
يُحْمَلْ عليها وَإِنْ لم يكن ( ( ( يمكن ) ) ) يُحْمَلْ على الْمَجَازِ فإذا كان
فُلَانٌ لَا يَنْسِجُ بيده لم تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِالْيَمِينِ
فَيُحْمَلُ على الْمَجَازِ وهو الْأَمْرُ بِالْعَمَلِ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شيئا من السَّوَادِ
قال هذا على ما يَلْبَسُ مِثْلُهُ وَلَا يَحْنَثُ في التِّكَّةِ وَالزِّرِّ
وَالْعُرْوَةِ لِأَنَّ ذلك ليس بِلُبْسٍ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا شيئا
وَلَا نِيَّةَ له فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أو خُفَّيْنِ أو جَوْرَبَيْنِ حَنِثَ
لِأَنَّ الْكِسْوَةَ اسْمٌ لِمَا يُكْسَى بِهِ وَذَلِكَ يُوجَدُ في الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ
وَرَوَى عَمْرٌو عن مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يَكْسُو امْرَأَةً فَبَعَثَ
إلَيْهَا مِقْنَعَةً قال لَا يَحْنَثُ فَجَعَلَ الْكِسْوَةَ عِبَارَةً عَمَّا
يجزىء في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وأجري ذلك مَجْرَى قَوْلِهِ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا ثَوْبًا فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بها
ثَوْبًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لم يَكْسُهُ وَإِنَّمَا وَهَبَ له دَرَاهِمَ وَشَاوَرَهُ
فِيمَا يَفْعَلُ بها وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِثَوْبٍ كِسْوَةً حَنِثَ لِأَنَّ
الْحُقُوقَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْسَلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الرُّكُوبِ إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً
فَهُوَ على الدَّوَابِّ التي يَرْكَبُهَا الناس في حَوَائِجِهِمْ في مَوَاضِعِ
إقَامَتِهِمْ فَإِنْ رَكِبَ بَعِيرًا أو بَقَرَةً لم يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ أَنْ
يَحْنَثَ في رُكُوبِ كل حَيَوَانٍ
لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ على وَجْهِ الْأَرْضِ قال اللَّهُ
تَعَالَى { وما من دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا } وقال عز
وجل { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } إلَّا
أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَحَمَلُوا الْيَمِينَ على ما يَرْكَبُهُ الناس في
الْأَمْصَارِ وَلِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ غَالِبًا وهو الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ
وَالْحَمِيرُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِأَنَّا نَعْلَمُ
أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ كُلَّ حَيَوَانٍ فَحَمَلْنَا مُطْلَقَ كَلَامِهِ على
الْعَادَةِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِيلَ وَالْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ لَا يُرْكَبُ لِقَضَاءِ
الْحَوَائِجِ في الْأَمْصَارِ عَادَةً فَإِنْ نَوَى في يَمِينِهِ الْخَيْلَ
خَاصَّةً دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّ اللَّفْظَ
يَحْتَمِلُهُ وَلَا يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْعُمُومِ
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا أو حَلَفَ لَا يَرْكَبُ
بِرْذَوْنًا فَرَكِبَ فَرَسًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْفَرَسَ عِبَارَةٌ عن
الْعَرَبِيِّ وَالْبِرْذَوْنَ عن الشَّهْرِيِّ فَصَارَ كَمَنْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُ رَجُلًا عَرَبِيًّا فَكَلَّمَ عَجَمِيًّا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ وقال نَوَيْت الْخَيْلَ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّ الرُّكُوبَ ليس
بِمَذْكُورٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ الْخَيْلَ
فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا أو فَرَسًا يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخَيْلَ اسْمُ جِنْسٍ قال
اللَّهُ عز وجل { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً
}
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَيْلُ في نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً وهو رَاكِبُهَا فَمَكَثَ على حَالِهِ سَاعَةً
وَاقِفًا أو سَائِرًا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّكُوبَ يَحْتَمِلُ
الِابْتِدَاءَ وَيَتَجَدَّدُ أَمْثَالُهُ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَلْبَسُ وهو
لَابِسٌ أو لَا يَجْلِسُ على هذا الفرش ( ( ( الفراش ) ) ) وهو جَالِسٌ لِمَا
قُلْنَا
فَإِنْ نَزَلَ عَقِيبَ يَمِينِهِ أو نَزَعَ أو قام لم يَحْنَثْ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا
تَقَدَّمَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً لِعَبْدِ فُلَانٍ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أو لَا دَيْنَ عليه لَا يَحْنَثُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ أَمَّا إذَا كان عليه دَيْنٌ فلانة لَا يَمْلِكُهَا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْعَبْدِ دُونَ
الْمَوْلَى وَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْعَبْدِ
فلم يَحْنَثْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَيَحْنَثُ
بِرُكُوبِهَا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نَوَى شيئا فَرَكِبَ سَفِينَةً أو
مَحْمَلًا أو دَابَّةً بِإِكَافٍ أو سَرْجٍ حَنِثَ لِوُجُودِ الرُّكُوبِ أَمَّا في
الدَّابَّةِ بِالسَّرْجِ والاكاف فَلَا شَكَّ فيه وَأَمَّا في السَّفِينَةِ فلان
اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى ذلك رُكُوبًا بِقَوْلِهِ عز وجل { وقال ارْكَبُوا فيها
بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا } وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْجُلُوسِ فإذا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ على الْأَرْضِ
فإنه لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَجْلِسَ عليها وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا
غَيْرُ ثِيَابِهِ فَإِنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَصِيرٌ أو بوري أو
بِسَاطٌ أو كُرْسِيٌّ أو شَيْءٌ بَسَطَهُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْجَالِسَ على
الْأَرْضِ من بَاشَرَ الْأَرْضَ ولم يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ هذا هو
الْجُلُوسُ على الْأَرْضِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْجُلُوسَ عليها بِمَا هو مُتَّصِلٌ
بِهِ من ثِيَابِهِ يُسَمَّى جُلُوسًا على الْأَرْضِ عُرْفًا وإذا حَالَ
بَيْنَهُمَا ما هو مُنْفَصِلٌ عنه من الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ لَا يُسَمَّى
جُلُوسًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ جَلَسَ على الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ لَا على
الْأَرْضِ فإذا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ على هذا الْفِرَاشِ أو هذا الْحَصِيرِ أو هذا
الْبِسَاطِ فَجَعَلَ عليه مثله ثُمَّ جَلَسَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْجُلُوسَ
يُضَافُ إلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الطِّنْفِسَةَ إذَا جُعِلَتْ على البورى لَا يُقَالُ جَلَسَ على
البورى بَلْ يُقَالُ جَلَسَ على الطِّنْفِسَةِ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَ الْفِرَاشَ
____________________
(3/71)
على
الْفِرَاشِ أو الْبِسَاطَ على الْبِسَاطِ وَخَالَفَ أبو يُوسُفَ في الْفِرَاشِ
خَاصَّةً فقال إذَا حَلَفَ لَا يَنَامُ على هذا الْفِرَاشِ فَجَعَلَ فَوْقَهُ
فِرَاشًا آخَرَ وَنَامَ عليه حَنِثَ لِأَنَّهُمَا جميعا مَقْصُودَانِ بِالنَّوْمِ
لِأَنَّ ذلك إنَّمَا يُجْعَلُ لِزِيَادَةِ التَّوْطِئَةِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو حَلَفَ لَا يَنَامُ على هذا الْفِرَاشِ فَجَعَلَ
فَوْقَهُ قِرَامًا أو مَحْبِسًا حَنِثَ لِأَنَّ ذلك لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ
نَامَ على الْفِرَاشِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ على هذا السَّرِيرِ أو على هذا الدُّكَّانِ أو لَا
يَنَامُ على هذا السَّطْحِ فَجَعَلَ فَوْقه مُصَلًّى أو فراشا ( ( ( فرشا ) ) ) أو
بِسَاطًا ثُمَّ جَلَسَ عليه حَنِثَ لِأَنَّهُ يُقَالُ جَلَسَ الْأَمِيرُ على
السَّرِيرِ وَإِنْ كان فَوْقَهُ فِرَاشٌ وَيُقَالُ نَامَ على السَّطْحِ وَإِنْ كان
نَامَ على فِرَاشٍ فَلَوْ جَعَلَ فَوْقَ السَّرِيرِ سَرِيرًا أو بَنَى فَوْقَ
الدُّكَّانِ دُكَّانًا أو فَوْقَ السَّطْحِ سَطْحًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْجُلُوسَ
يُضَافُ إلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا كان نَوَى مُبَاشَرَتَهُ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ فَوْقَهُ
شَيْءٌ لم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ يعني بِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَنَامُ على
السَّرِيرِ فَنَامَ على فراش ( ( ( الفراش ) ) ) فَوْقَ السَّرِيرِ لِأَنَّهُ
نَوَى غير ظَاهِرِ كَلَامِهِ
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَنَامُ على أَلْوَاحِ هذا السَّرِيرِ أو أَلْوَاحِ هذه
السَّفِينَةِ فَفَرَشَ على ذلك فِرَاشًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ ما نَامَ على
أَلْوَاحٍ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَمْشِي على الْأَرْضِ فَمَشَى
عليها وفي رِجْلِهِ خُفٌّ أو نَعْلٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَشْيَ على الْأَرْضِ
هَكَذَا يَكُونُ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ما
هو مُنْفَصِلٌ عنه وَإِنْ مَشَى على بِسَاطٍ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُقَالُ مَشَى
على الْبِسَاطِ وَجَاءَ في الشِّعْرِ
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقِ نَمْشِي على النَّمَارِقِ وَلَوْ مَشَى على السَّطْحِ
حَنِثَ لِأَنَّهُ يُقَالُ هذه أَرْضُ السَّطْحِ وَيُقَالُ لِمَنْ على السَّطْحِ
لَا تَنَمْ على الْأَرْضِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على السُّكْنَى وَالْمُسَاكَنَةِ وَالْإِيوَاءِ
وَالْبَيْتُوتَةِ أَمَّا السُّكْنَى فإذا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هذه الدَّارَ إما أن
كان فيها سَاكِنًا أو لم يَكُنْ فَإِنْ لم يَكُنْ فيها سَاكِنًا فَالسُّكْنَى فيها
أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ وَيَنْقُلَ إلَيْهَا من مَتَاعِهِ ما يَتَأَثَّثُ
بِهِ وَيَسْتَعْمِلُهُ في مَنْزِلِهِ فإذا فَعَلَ ذلك فَهُوَ سَاكِنٌ وَحَانِثٌ في
يَمِينِهِ لِأَنَّ السُّكْنَى هِيَ الْكَوْنُ في الْمَكَانِ على طَرِيقِ
الِاسْتِقْرَارِ فإن من جَلَسَ في الْمَسْجِدِ وَبَاتَ فيه لَا يُسَمَّى سَاكِنَ
الْمَسْجِدِ وَلَوْ أَقَامَ فيه بِمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ يُسَمَّى بِهِ فَدَلَّ
أَنَّ السُّكْنَى ما ذَكَرْنَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَسْكُنُ بِهِ في
الْعَادَةِ وَذَلِكَ ما قُلْنَا وَإِنْ كان فيها سَاكِنًا فَحَلَفَ لَا
يَسْكُنُهَا فإنه لَا يَبَرُّ حتى يَنْتَقِلَ عنها بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ
وَوَلَدِهِ الَّذِينَ معه وَمَتَاعِهِ وَمَنْ كان يَأْوِيهَا لِخِدْمَتِهِ
وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ في مَنْزِلِهِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ ذلك ولم يَأْخُذْ في
النُّقْلَةِ من سَاعَتِهِ وَهِيَ مُمْكِنَةٌ حَنِثَ هَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ
أَحَدُهَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فَانْتَقَلَ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ في
الْحَالِ لم يَحْنَثْ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
يَحْنَثُ وهو على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الرَّاكِبِ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ
وَاللَّابِسِ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ فَنَزَلَ وَنَزَعَ في الْحَالِ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالثَّانِي إذَا انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ ولم يَنْتَقِلْ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ قال
أَصْحَابُنَا يَحْنَثُ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَحْنَثُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن شَرْطَ حِنْثِهِ سُكْنَاهُ ولم يَسْكُنْ فَلَا يَحْنَثُ كما لو
حَلَفَ لَا يَسْكُنُ في بَلَدٍ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ فيه وقال
الشَّافِعِيُّ مُحْتَجًّا عَلَيْنَا إذَا خَرَجْت من مَكَّةَ وَخَلَّفْت
دُفَيْتِرَاتٍ بها أَفَأَكُونُ سَاكِنًا بِمَكَّةَ
وَلَنَا أَنَّ سُكْنَى الدَّارِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا يُسْكَنُ بِهِ في
الْعَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ لِلْكَوْنِ على وَجْهِ الِاسْتِقْرَارِ
وَلَا يَكُونُ الْكَوْنُ على هذا الْوَجْهِ إلَّا بِمَا يُسْكَنُ بِهِ عَادَةً
فإذا حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا وهو فيها فَالْبِرُّ في إزَالَةِ ما كان بِهِ
سَاكِنًا فإذا لم يَفْعَلْ حَنِثَ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ لَا أَسْكُنُ هذه
الدَّارَ فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ عن سُكْنَى الدَّارِ وَكُرِهَ سُكْنَاهَا
لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الدَّارِ وَالْإِنْسَانُ كما يَصُونُ نَفْسَهُ عَمَّا
يَكْرَهُ يَصُونُ أَهْلَهُ عنه عَادَةً فَكَانَتْ يَمِينُهُ وَاقِعَةً على
السُّكْنَى وما يُسْكَنُ بِهِ عَادَةً فإذا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ
وَمَتَاعَهُ فيه ولم يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ فَيَحْنَثُ وَالدَّفَاتِرُ لَا
يُسْكَنُ بها في الدُّورِ عَادَةً فَبَقَاؤُهَا لَا يُوجِبُ بَقَاءَ السُّكْنَى
فَهَذَا كان تَشْنِيعًا في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلِأَنَّ من حَلَفَ لَا يَسْكُنُ
هذه الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فيها يُسَمَّى في
الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ سَاكِنَ الدَّارِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ له وهو في السُّوقِ أَيْنَ تَسْكُنُ يقول في
مَوْضِعِ كَذَا وَإِنْ لم يَكُنْ هو فيه وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَلَدَ لِأَنَّهُ لا
يُقَالُ لِمَنْ بِالْبَصْرَةِ أنه سَاكِنٌ بِالْكُوفَةِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمَتَاعِهِ
وَتَرَكَ من أَثَاثِهِ شيئا يَسِيرًا قال أبو حَنِيفَةَ يَحْنَثُ وقال أبو يُوسُفَ
إذَا كان الْمَتَاعُ الْمَتْرُوكُ لَا يَشْغَلُ بَيْتًا وَلَا بَعْضَ الدَّارِ لَا
يَحْنَثُ وَلَسْت أَجِدُ في هذا حَدًّا وَإِنَّمَا هو على الِاسْتِحْسَانِ وَعَلَى
ما يَعْرِفُهُ الناس
وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا تَرَكَ
____________________
(3/72)
شيئا
يَسِيرًا يَعْنِي ما لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُسْكَنُ بمثله فَأَمَّا إذَا خَلَّفَ
فيها وَتَدًا أو مِكْنَسَةً لم يَحْنَثْ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْيَسِيرَ من
الْأَثَاثِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ يُسْكَنُ بمثله فَصَارَ كَالْوَتَدِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن شَرْطَ الْبِرِّ إزَالَةُ ما بِهِ صَارَ سَاكِنًا فإذا
بَقِيَ منه شَيْءٌ لم يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ بِكَمَالِهِ فَيَحْنَثُ فَإِنْ
مُنِعَ من الْخُرُوجِ وَالتَّحَوُّلِ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَوْقَعُوهُ
وَقَهَرُوهُ لَا يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ على ذلك أَيَّامًا لِأَنَّهُ ما
يَسْكُنُهَا بَلْ أَسْكَنَ فيها فَلَا يَحْنَثْ وَلِأَنَّ الْبَقَاءَ على
السُّكْنَى يَجْرِي مَجْرَى الِابْتِدَاءِ
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هذه الدَّارَ وهو خَارِجُ الدَّارِ فَحُمِلَ إلَيْهَا
مُكْرَهًا لم يَحْنَثْ كَذَا الْبَقَاءُ إذَا كان بِإِكْرَاهٍ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا خَرَجَ من سَاعَتِهِ وَخَلَّفَ مَتَاعَهُ كُلَّهُ في
الْمَسْكَنِ فَمَكَثَ في طَلَبِ الْمَنْزِلِ أَيَّامًا ثَلَاثًا فلم يَجِدْ ما
يَسْتَأْجِرُهُ وكان يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ من الْمَنْزِلِ وَيَضَعَ مَتَاعَهُ
خَارِجَ الدَّارِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هذا من عَمَلِ النُّقْلَةِ إذْ النُّقْلَةُ
مَحْمُولَةٌ على الْعَادَةِ وَالْمُعْتَادُ هو الِانْتِقَالُ من مَنْزِلٍ إلَى
مَنْزِلٍ وَلِأَنَّهُ ما دَامَ في طَلَبِ الْمَنْزِلِ فَهُوَ مُتَشَاغِلٌ
بِالِانْتِقَالِ كما لو خَرَجَ يَطْلُبُ من يَحْمِلُ رَحْلَهُ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان السَّاكِنُ مُوسِرًا وَلَهُ مَتَاعٌ كَثِيرٌ وهو يَقْدِرُ
على أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُ من يَنْقُلُ مَتَاعَهُ في يَوْمٍ فلم يَفْعَلْ وَجَعَلَ
يَنْقُلُ بِنَفْسِهِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَمَكَثَ في ذلك سَنَةً قال إنْ كان
النَّقْلَانُ لَا يفتر انه لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحِنْثَ يَقَعُ
بِالِاسْتِقْرَارِ بِالدَّارِ وَالْمُتَشَاغِلُ بِالِانْتِقَالِ غَيْرُ
مُسْتَقَرٍّ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ على أَسْرَعِ الْوُجُوهِ
أَلَا يرى أَنَّهُ بِالِانْتِقَالِ الْمُعْتَادِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كان غَيْرُهُ
أَسْرَعَ منه فَإِنْ تَحَوَّلَ بِبَدَنِهِ وقال ذلك أَرَدْت فَإِنْ كان حَلَفَ لَا
يَسْكُنُ هذه الدَّارَ وهو سَاكِنٌ فيها لَا يُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ
خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل
لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ كان حَلَفَ وهو غَيْرُ سَاكِنٍ
وقال نَوَيْت الِانْتِقَالَ بِبَدَنِي دِينَ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ
وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ
وَأَمَّا الْمُسَاكَنَةُ فإذا كان رَجُلٌ سَاكِنًا مع رَجُلٍ في دَارٍ فَحَلَفَ
أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُسَاكِنَ صَاحِبَهُ فَإِنْ أَخَذَ في النُّقْلَةِ وَهِيَ
مُمْكِنَةٌ وَإِلَّا حَنِثَ وَالنُّقْلَةُ على ما وَصَفْت لَك إذَا كان سَاكِنًا
في الدَّارِ فَحَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ أَنْ
يَجْمَعَهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ فإذا لم يَنْتَقِلْ في الْحَالِ فَالْبَقَاءُ على
الْمُسَاكَنَةِ مُسَاكَنَةٌ فَيَحْنَثُ فَإِنْ وَهَبَ الْحَالِفُ مَتَاعَهُ
لِلْمَحْلُوفِ عليه أو أَوْدَعَهُ أو أَعَارَهُ ثُمَّ خَرَجَ في طَلَبِ مَنْزِلٍ
فلم يَجِدْ مَنْزِلًا أَيَّامًا ولم يَأْتِ الدَّارَ التي فيها صَاحِبُهُ
قال مُحَمَّدٌ إنْ كان وَهَبَ له الْمَتَاعَ وَقَبَضَهُ منه وَخَرَجَ من سَاعَتِهِ
وَلَيْسَ من رَأْيِهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ فَلَيْسَ بِمُسَاكِنٍ له فَلَا يَحْنَثُ
وَكَذَلِكَ أن أَوْدَعَهُ الْمَتَاعَ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى ذلك
الْمَنْزِلِ وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ لِأَنَّهُ إذَا وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ
وَخَرَجَ فَلَيْسَ بِمُسَاكِنٍ إيَّاهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِمَالِهِ وإذا
أَوْدَعَهُ فَلَيْسَ بِسَاكِنٍ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ إنْ أَوْدَعَهُ
الْمَتَاعَ ثُمَّ خَرَجَ وَإِنَّمَا هو في يَدِ الْمُودَعِ وَكَذَلِكَ إذَا
أَعَارَهُ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ كان له في الدَّارِ زَوْجَةٌ فَرَاوَدَهَا على
الْخُرُوجِ فَأَبَتْ وَامْتَنَعَتْ وَحَرَصَ على خُرُوجِهَا وَاجْتَهَدَ فلم
تَفْعَلْ فإنه لَا يَحْنَثُ إذَا كانت هذه حَالَهَا لِأَنَّهُ لو بَقِيَ هو في
الدَّارِ مُكْرَهًا لم يَحْنَثْ لِعَدَمِ اخْتِيَاره السُّكْنَى بِهِ فَكَذَا إذَا
بَقِيَ ما يُسْكَنُ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَاره وإذا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا
فَسَاكَنَهُ في عَرْصَةِ دَارٍ أو بَيْتٍ أو غُرْفَةٍ حَنِثَ لِأَنَّ
الْمُسَاكَنَةَ هِيَ الْقُرَبُ وَالِاخْتِلَاطُ فإذا سَكَنَهَا في مَوْضِعٍ
يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى فَقَدْ وُجِدَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عليه فَيَحْنَثُ
فَإِنْ سَاكَنَهُ في دَارٍ هذا في حُجْرَةٍ وَهَذَا في حُجْرَةٍ أو هذا في
مَنْزِلٍ وَهَذَا في مَنْزِلٍ حَنِثَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَارًا كَبِيرَةً
قال أبو يُوسُفَ مِثْلُ دَارِ الرَّقِيقِ وَنَحْوِهَا وَدَارِ الْوَلِيدِ
بِالْكُوفَةِ فإنه لَا يَحْنَثُ وَكَذَا كُلُّ دَارٍ عَظِيمَةٍ فيها مَقَاصِيرُ
وَمَنَازِلُ
وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا ولم يُسَمِّ دَارًا
فَسَكَنَ هذا في حُجْرَةٍ وَهَذَا في حُجْرَةٍ لم يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يُسَاكِنَهُ
في حُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ
قال هِشَامٌ قُلْت فَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ في هذه الدَّارِ فَسَكَنَ هذا في
حُجْرَةٍ وَهَذَا في حُجْرَةٍ قال يَحْنَثُ
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْحُجْرَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ كَالدَّارَيْنِ بِدَلِيلِ
أَنَّ السَّارِقَ من إحْدَاهُمَا إذَا نَقَلَ الْمَسْرُوقَ إلَى الْأُخْرَى قُطِعَ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ في دَارٍ لِأَنَّهُ حَلَفَ على
أَنْ لَا يَجْمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ وقد جَمَعْتَهُمَا وَإِنْ كَانَا في
حُجَرِهَا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ الِاخْتِلَاطُ وَالْقُرْبُ فإذا
كَانَا في حُجْرَتَيْنِ في دَارٍ صَغِيرَةٍ فَقَدْ وُجِدَ الْقُرَبُ فَهُوَ
كَبَيْتَيْنِ من دَارٍ وَإِنْ كَانَا في حُجْرَتَيْنِ من دَارٍ عَظِيمَةٍ فَلَا
يُوجَدُ الْقُرَبُ فَهُوَ كَدَارَيْنِ في مَحَلَّةٍ فَإِنْ سَكَنَ هذا في بَيْتٍ
من دَارٍ وَهَذَا في بَيْتٍ وقد حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ ولم يُسَمِّ دَارًا حَنِثَ
في قَوْلِهِمْ لِأَنَّ بُيُوتَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ كَالْبَيْتِ الْوَاحِدِ
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لو نَقَلَ الْمَسْرُوقَ
____________________
(3/73)
من
أَحَدِ الْبَيْتَيْنِ إلَى الْآخَرِ لم يُقْطَعْ وقال أبو يُوسُفَ فَإِنْ
سَاكَنَهُ في حَانُوتٍ في السُّوقِ يَعْمَلَانِ فيه عَمَلًا أو يَبِيعَانِ فيه
تِجَارَةً فإنه لَا يَحْنَثُ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ على الْمَنَازِلِ التي هِيَ
الْمَأْوَى وَفِيهَا الْأَهْلُ وَالْعِيَالُ فَأَمَّا حَوَانِيتُ الْبَيْعِ
وَالْعَمَلِ فَلَيْسَ يَقَعُ الْيَمِينُ عليها إلَّا أَنَّهُ يَنْوِي أو يَكُونُ
بَيْنَهُمَا قبل الْيَمِينِ بَدَلٌ يَدُلُّ عليها فَتَكُونُ الْيَمِينُ على ما
تَقَدَّمَ من كَلَامِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا لِأَنَّ السُّكْنَى عِبَارَةٌ عن
الْمَكَانِ الذي يَأْوِي إلَيْهِ الناس في الْعَادَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ فُلَانٌ يَسْكُنُ السُّوقَ وَإِنْ كان يَتَّجِرُ
فيها فإنه جَعَلَ السُّوقَ مَأْوَاهُ قِيلَ أنه يَسْكُنُ السُّوقَ فَإِنْ كان
هُنَاكَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ على أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَمِينِ تَرْكَ
الْمُسَاكَنَةِ في السُّوقِ حُمِلَتْ الْيَمِينُ على ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ
دَلَالَةٌ فقال نَوَيْت الْمُسَاكَنَةَ في السُّوقِ أَيْضًا فَقَدْ شَدَّدَ على
نَفْسِهِ قالوا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا بِالْكُوفَةِ وَلَا نِيَّةَ له
فَسَكَنَ أَحَدَهُمَا في دَارٍ وَالْآخَرُ في دَارٍ أُخْرَى في قَبِيلَةٍ
وَاحِدَةٍ أو مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ أو دَرْبٍ فإنه لَا يَحْنَثُ حتى تَجْمَعَهُمَا
السُّكْنَى في دَارٍ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ الْمُقَارَبَةُ وَالْمُخَالَطَةُ
وَلَا يُوجَدُ ذلك إذَا كَانَا في دَارَيْنِ وَذَكَرَ الْكُوفَةَ لِتَخْصِيصِ
الْيَمِينِ بها حتى لَا يَحْنَثَ بِمُسَاكَنَتِهِ في غَيْرِهَا
فَإِنْ قال نَوَيْت أَنْ لَا أَسْكُنَ الْكُوفَةَ وَالْمَحْلُوفُ عليه
بِالْكُوفَةِ صُدِّقَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ على نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا
يُسَاكِنُهُ في الدَّارِ فَالْيَمِينُ على الْمُسَاكَنَةِ في دَارٍ وَاحِدَةٍ على
ما بَيَّنَّا
وَلَوْ أَنَّ مَلَّاحًا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا في سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ
وَمَعَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ وَاتَّخَذَهَا مَنْزِلَهُ فإنه
يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ إذَا جَمَعَتْهُمْ خَيْمَةٌ وَإِنْ
تَفَرَّقَتْ الْخِيَامُ لم يَحْنَثْ وَإِنْ تَقَارَبَتْ لِأَنَّ السُّكْنَى
مَحْمُولَةٌ على الْعَادَةِ وَعَادَةُ الْمَلَّاحِينَ السُّكْنَى في السُّفُنِ
وَعَادَةُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ السُّكْنَى في الْأَخْبِيَةِ فَتُحْمَلُ
يَمِينُهُمْ على عَادَاتِهِمْ وَأَمَّا الْإِيوَاءُ فإذا حَلَفَ لَا يَأْوِي مع
فُلَانٍ أو لَا يَأْوِي في مَكَان أو دَارٍ أو في بَيْتٍ فَالْإِيوَاءُ الْكَوْنُ
سَاكِنًا في الْمَكَانِ فَأَوَى مع فُلَانٍ في مَكَان قَلِيلًا كان الْمُكْثُ أو
كَثِيرًا لَيْلًا كان أو نَهَارًا حَنِثَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك يَوْمًا أو أَكْثَرَ
فَيَكُونُ على ما نَوَى
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ في رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْوِيهِ وَفُلَانًا
بَيْتٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ عِبَارَةٌ عن الْمَصِيرِ في الْمَوْضِعِ قال
اللَّهُ عز وجل { سَآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي من الْمَاءِ } أَيْ ألتجىء ( ( (
ألتجئ ) ) ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ في قَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ وقد كان قَوْلُ
أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ أن الْإِيوَاءَ مِثْلُ الْبَيْتُوتَةِ وأنه لَا يَحْنَثُ
حتى يُقِيمَ في الْمَكَانِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ
الْإِيوَاءَ كما يَذْكُرُونَ الْبَيْتُوتَةَ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ يَأْوِي في هذه
الدَّارِ كما يَقُولُونَ يَبِيتُ فيها وَأَمَّا إذَا نَوَى أَكْثَرَ من ذلك
فَالْأَمْرُ على ما نَوَى لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ
الْإِيوَاءَ وَيُرِيدُونَ بِهِ السُّكْنَى وَالْمَقَامَ
وقد رَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال إنْ آوَانِي وَإِيَّاكَ بَيْتٌ
أَبَدًا على طَرْفَةِ عَيْنٍ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرِ وَقَوْلِنَا إلَّا
أَنْ يَكُونَ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك يَوْمًا أو أَكْثَرَ فَالْأَمْرُ على ما نَوَى
لِأَنَّ اللَّفْظَ يَوْمًا أو أَكْثَرَ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْوِي فُلَانًا وقد كان
الْمَحْلُوفُ عليه في عِيَالِ الْحَالِفِ وَمَنْزِلِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ
يُعِيدَ الْمَحْلُوفُ عليه مِثْلَ ما كان عليه وَإِنْ لم يَكُنْ الْمَحْلُوفُ عليه
في عِيَالِ الْحَالِفِ فَهَذَا على نِيَّةِ الْحَالِفِ إنْ نَوَى أَنْ لَا
يَعُولَهُ فَهُوَ كما نَوَى وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى لَا يُدْخِلُهُ عليه بَيْتَهُ
لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَأْوِيهِ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضَمُّهُ إلَى نَفْسِهِ
وَمَنْزِلِهِ وقد يُرَادُ بِهِ الْقِيَامُ بِأَمْرِهِ فَإِنْ كان في اللَّفْظِ
دَلِيلٌ على شَيْءٍ وَإِلَّا يَرْجِعُ إلَى نيته ( ( ( بيته ) ) ) فَإِنْ دخل
الْمَحْلُوفُ عليه بِغَيْرِ إذْنِهِ فَرَآهُ فَسَكَتَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ
حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ فإذا لم يَأْمُرْهُ لم يُوجَدْ فِعْلُهُ
وقال عمرو ( ( ( عمر ) ) ) عن ( ( ( وعن ) ) ) مُحَمَّدٍ الْإِيوَاءُ عِنْدَ
الْبَيْتُوتَةِ وَالسُّكْنَى فَإِنْ نَوَى الْمَبِيتَ فَهُوَ على ذَهَابِ
الْأَكْثَرِ من اللَّيْلِ وَإِنْ لم يَنْوِ شيئا فَهُوَ على ذَهَابِ سَاعَةٍ
وَأَمَّا البيتوتة ( ( ( البيوتة ) ) ) فإذا حَلَفَ لَا يَبِيتُ مع فُلَانٍ أو لَا
يَبِيتُ في مَكَانِ كَذَا فَالْمَبِيتُ بِاللَّيْلِ حتى يَكُونَ فيه أَكْثَرَ من
نِصْفِ اللَّيْلِ وإذا كان أَقَلَّ لم يَحْنَثْ وَسَوَاءٌ نَامَ في الْمَوْضِعِ أو
لم يَنَمْ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ عِبَارَةٌ عن الْكَوْنِ في مَكَان أَكْثَرَ من
نِصْفِ اللَّيْلِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ على غَيْرِهِ لَيْلًا
يُقِيمُ عِنْدَهُ قِطْعَةً من اللَّيْلِ وَلَا يُقَالُ بَاتَ عِنْدَهُ وإذا
أَقَامَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ يُقَالُ بَاتَ عِنْدَهُ وَيُقَالُ فُلَانٌ بَائِتٌ في
مَنْزِلِهِ وَإِنْ كان في أَوَّلِ اللَّيْلِ في غَيْرِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ
النَّوْمُ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ لُغَةً كما لَا يَقْتَضِي
الْيَقَظَةَ فلم يَكُنْ شَرْطًا فيه
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَةَ في هذه
الدَّارِ وقد ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ بَاتَ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ قال لَا
يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ إذَا كانت تَقَعُ على أَكْثَرِ اللَّيْلِ فَقَدْ
حَلَفَ على ما لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
____________________
(3/74)
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْحَلِفُ على الِاسْتِخْدَامِ فإذا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَخْدِمُ
خَادِمَةً له قد كانت تَخْدُمُهُ وَلَا نِيَّةَ له فَجَعَلَتْ الْخَادِمَةُ
تَخْدُمُهُ من غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهَا حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهَا من
الْخِدْمَةِ فَقَدْ تَرَكَهَا على الِاسْتِخْدَامِ السَّابِقِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا
لم يَمْنَعْهَا فَقَدْ اسْتَخْدَمَهَا دَلَالَةً وَإِنْ لم يَسْتَخْدِمْ نَصًّا
صَرِيحًا وَلَوْ كان الْحَالِفُ على خَادِمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَخَدَمَتْهُ
بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ سَبْقِ الِاسْتِخْدَامِ لِيَكُونَ
التَّمْكِينُ من الْخِدْمَةِ إبْقَاءً لها على الِاسْتِخْدَامِ وَلِتَعَذُّرِ
جَعْلِ التَّمْكِينِ دَلَالَةَ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ جَارِيَةِ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورٌ فَلَا يَكُونُ إذْنًا بِهِ من طَرِيقِ
الدَّلَالَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ حتى لو كان نهى خَادِمَتَهُ التي كانت تَخْدُمُهُ
عن خِدْمَتِهِ ثُمَّ خَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ قِيلَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ
بِالتَّمْكِينِ قَطَعَ اسْتِخْدَامَهَا السَّابِقَ فَقَدْ وُجِدَ منها بِغَيْرِ
اسْتِخْدَامٍ فَلَا يَحْنَثُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا تَخْدُمُهُ فُلَانَةُ فَخَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو
بِأَمْرِهِ وَهِيَ خَادِمَتُهُ أو خَادِمَةُ غَيْرِهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ عَقَدَ
الْيَمِينَ على فِعْلِهَا وهو خِدْمَتُهَا لَا على فِعْلِهِ وهو اسْتِخْدَامُهُ
وقد خَدَمَتْهُ وَكُلُّ شَيْءٍ من عَمَلِ بَيْتِهِ فَهُوَ خِدْمَتُهُ لِأَنَّ
الْخِدْمَةَ عِبَارَةٌ عن عَمَلِ الْبَيْتِ الذي يُحْتَاجُ إلَيْهِ في الْغَالِبِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ خَادِمَةً لِفُلَانٍ فَسَأَلَهَا وضوأ ( ( ( وضوءا
) ) ) أو شَرَابًا أو أَوْمَأَ إلَيْهَا ولم يَكُنْ له نِيَّةٌ حين حَلَفَ حَنِثَ
إنْ فَعَلْت ذلك أو لم تَفْعَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى حين حَلَفَ أَنْ لَا
يَسْتَعِينَ بها فَتُعِينَهُ فَلَا يَحْنَثُ حتى تُعِينَهُ لِأَنَّهُ عقد ( ( (
عقه ) ) ) يَمِينَهُ على فِعْلِهِ وهو الِاسْتِخْدَامُ وقد اسْتَخْدَمَ وَإِنْ لم
تُجِبْهُ فَإِنْ عَنَى أَنْ تَخْدُمَهُ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ
فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَخْدُمُنِي خَادِمٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ على الْجَارِيَةِ
وَالْغُلَامِ وَالصَّغِيرُ الذي يَخْدُمُ وَالْكَبِيرُ في ذلك سَوَاءٌ لِأَنَّ
اسْمَ الْخَادِمِ يَجْمَعُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ إذَا
كان الصَّغِيرُ مِمَّنْ يَقْدِرُ على الْخِدْمَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْمَعْرِفَةِ فإذا حَلَفَ على إنْسَانٍ أَنَّهُ
لَا يَعْرِفُهُ وهو يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ فَقَدْ
بَرَّ في يَمِينِهِ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْرِفَ اسْمَهُ لم
يَعْرِفْهُ بِدَلِيلِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
سَأَلَ رَجُلًا عن رَجُلٍ وقال له هل تَعْرِفُهُ فقال الرَّجُلُ نعم فقال هل
تَدْرِي ما اسْمُهُ فقال لَا
فقال إنَّك لم تَعْرِفْهُ وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَعْرِفْهُ بِاسْمِهِ وَإِنْ
عَرَفَهُ بِوَجْهِهِ لم يَكُنْ عَارِفًا بِهِ على الْإِطْلَاقِ بَلْ من وَجْهٍ
دُونَ وَجْهٍ وَمِنْ شَرْطِ حِنْثِهِ الْمَعْرِفَةُ على الْإِطْلَاقِ ولم تُوجَدْ
فَلَا يَحْنَثُ
وقال خَلَفُ بن أَيُّوبَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بها
وَلَا يَدْرِي ما اسْمُهَا فَحَلَفَ أنه لَا يَعْرِفُهَا قال لَا يَحْنَثُ لِمَا
بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وُلِدَ له مَوْلُودٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى جَارٍ له
ولم يَكُنْ سَمَّاهُ بَعْدُ فَحَلَفَ جَارُهُ هذا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هذا
الصَّبِيَّ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِمَعْرِفَةِ اسْمِهِ فَلَا
يُعْرَفُ قبل التَّسْمِيَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على أَخْذِ الْحَقِّ وَقَبْضِهِ وَقَضَائِهِ
وَاقْتِضَائِهِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيَأْخُذَن من فُلَانٍ حَقَّهُ أو
لَيَقْبِضَن من فُلَانٍ حَقَّهُ فَأَخَذَ منه بِنَفْسِهِ أو أَخَذَ منه وَكِيلُهُ
أو أَخَذَهُ من ضَامِنٍ عنه أو مُحْتَالٍ عليه بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بَرَّ
لِأَنَّ حُقُوقَ الْقَضَاءِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ فَتَرْجِعُ إلَى
الْآمِرِ فَكَأَنَّ قَبْضَ وَكِيلِ الطَّالِبِ قَبْضُهُ مَعْنًى وَكَذَا الْقَبْضُ
من وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ أو كَفِيلِهِ أو الْمُحْتَالِ بِأَمْرِهِ عليه قَبْضًا
منه من حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَوْ قَبَضَ من رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَطْلُوبِ
أو كانت الْكَفَالَةُ أو الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَنِثَ في يَمِينِهِ ولم
يَبَرَّ لِأَنَّهُ لم يَقْبِضْ من الْمَطْلُوبِ حَقَّهُ حَقِيقَةً في
الْوَجْهَيْنِ جميعا إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ قَابِضًا عنه مَعْنًى في مَوْضِعِ الأمر
وَجُعِلَ الْقَبْضُ من الْغَيْرِ كَالْقَبْضِ منه فإذا لم يَكُنْ ذلك بِأَمْرِهِ
لم تَكُنْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ وَلِهَذَا لم يَرْجِعْ إلَى الدَّافِعِ إلَيْهِ
بِمَا أَعْطَاهُ فلم يُوجَدْ منه قَبْضُ حَقِّهِ فلم يَبَرَّ وَكَذَلِكَ لو كان
الْحَالِفُ هو الذي عليه الْمَالُ فَحَلَفَ لَيَقْضِيَن فُلَانًا حَقَّهُ أو
لَيُعْطِيَن فَأَعْطَاهُ بِنَفْسِهِ أو بِرَسُولٍ أو بِإِحَالَةٍ أو أَمْرِ من
ضَمِنَهُ له فَأَخَذَهُ الطَّالِبُ بَرَّ الْحَالِفُ في يَمِينِهِ لِأَنَّ حُقُوقَ
الْقَضَاءِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ فَتَتَعَلَّقُ بِالْآمِرِ فَكَانَ هو
الْقَاضِيَ وَالْمُعْطِيَ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَوْ كان ذلك بِغَيْرِ أَمْرِهِ
حَنِثَ الْحَالِفُ لِأَنَّهُ لم يَقْضِ حَقَّهُ وَلَا أَعْطَاهُ أَصْلًا وَرَأْسًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الدَّافِعُ إلَيْهِ
وَإِنْ قال الْحَالِفُ في هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَرَدْت أَنْ يَكُونَ ذلك
بِنَفْسِي كان كما قال فَإِنْ لم يَفْعَلْ ذلك بِنَفْسِهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ
شَدَّدَ على نَفْسِهِ وَإِنْ كان الْمَطْلُوبُ حَلَفَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ
فَأَعْطَاهُ على أَحَدِ هذه الْوُجُوهِ حَنِثَ
فَإِنْ قال إنَّمَا أَرَدْت أَنْ لَا أُعْطِيَهُ أنا بِنَفْسِي لم يُدَيَّنْ في
الْقَضَاءِ وَدُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ
الْعَطَاءَ بِفِعْلِهِ وَبِفِعْلِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ في الْقَصْدِ فَتَنَاوَلَهُ
الْيَمِينُ فإذا نَوَى أَنْ لَا يُعْطِيَهُ بِنَفْسِهِ
____________________
(3/75)
فَقَدْ
نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ وَأَرَادَ التَّخْفِيفَ على نَفْسِهِ فَلَا يُصَدَّقُ في
الْقَضَاءِ وَلَوْ أَخَذَ بِهِ ثَوْبًا أو عَرَضًا فَقَبَضَ الْعَرْضَ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَخْذِ
الْعِوَضِ كما يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَخْذِ نَفْسِ الْحَقِّ وَلَوْ حَلَفَ
الطَّالِبُ لَيَأْخُذَن مَالَهُ منه أو لَيَقْضِيَنه أو لَيَسْتَوْفِيَنه ولم
يُوَقِّتْ وَقْتًا فَأَبْرَأَهُ من الْمَالِ أو وَهَبَهُ له حَنِثَ في يَمِينِهِ
لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ ليس بِقَبْضٍ وَلَا اسْتِيفَاءٍ فَفَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ
فَحَنِثَ وَلَوْ كان وَقَّتَ وَقْتًا فقال الْيَوْمَ أو إلَى كَذَا وَكَذَا فَأَبْرَأَهُ
قبل ذلك أو وَهَبَهُ له لم يَحْنَثْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا
جَاوَزَ ذلك الْوَقْتَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْنَثُ بِنَاءً على أَنَّ الْيَمِينَ الْمُوَقَّتَةَ
يَتَعَلَّقُ انْعِقَادُهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا فَكَأَنَّهُ قال في آخِرِ
الْوَقْتِ لَأَقْبِضَنَّ منه دَيْنِي وَلَا دَيْنَ عليه فَلَا تَنْعَقِدُ
الْيَمِينُ عِنْدَهُمَا وَتَنْعَقِدُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَيَحْنَثُ أَصْلُ
الْمَسْأَلَةِ إذَا حَلَفَ لَيَشْرَبَن الْمَاءَ الذي في هذا الْكُوزِ الْيَوْمَ
فَأُهْرِيقَ الْمَاءُ قبل انْقِضَاءِ الْيَوْمِ وقد ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ
فَإِنْ قَبَضَ الدَّيْنَ فَوَجَدَهُ زُيُوفًا أو نَبَهْرَجَةً فَهُوَ قَبْضٌ
وَبَرَّ في يَمِينِهِ سَوَاءٌ كان حلف ( ( ( الحلف ) ) ) على الْقَبْضِ أو على
الدَّفْعِ لِأَنَّهَا من جِنْسِ حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهُمَا في ثَمَنِ الصَّرْفِ فَوَقَعَ بِهِمَا
الِاقْتِضَاءُ وَإِنْ كانت سَتُّوقَةً فَلَيْسَ هذا بِقَبْضٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّجَوُّزُ بها في ثَمَنِ
الصَّرْفِ وَكَذَلِكَ لو رَدَّ الثَّوْبَ الذي أَخَذَ عن الدَّيْنِ بِعَيْبٍ أو
اُسْتُحِقَّ كان قد بَرَّ في يَمِينِهِ وكان هذا قَبْضًا لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا
يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَكَذَا الْمُسْتَحَقُّ يَصِحُّ قَبْضُهُ ثُمَّ
يَبْطُلُ لِعَدَمِ الْإِجَازَةِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ فَلَا يُتَصَوَّرُ
الْحِنْثُ بَعْدَ ذلك وقد قالوا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنِهِ بَيْعًا فَاسِدًا
وَقَبَضَهُ فَإِنْ كان في قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ فَهُوَ قَابِضٌ لِدَيْنِهِ
وَلَا يَحْنَثُ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه وَفَاءٌ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ في
الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْقِيمَةُ لَا الْمُسَمَّى وَلَوْ غَصَبَ الْحَالِفُ مَالًا
مِثْلَ دَيْنِهِ بَرَّ لِأَنَّهُ وَقَعَ الِاقْتِضَاءُ بِهِ وَكَذَلِكَ لو
اسْتَهْلَكَ له دَنَانِيرَ أو عُرُوضًا لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ في ذِمَّتِهِ
فَيَصِيرُ قِصَاصًا
وقال مُحَمَّدٌ إذَا قال إنْ لم أَتَّزِنْ من فُلَانٍ مالي عليه أو لم أَقْبِضْ
مالي عليه في كِيسٍ أو قال إنْ لم أَقْبِضْ مالي عَلَيْك دَرَاهِمَ أو
بِالْمِيزَانِ أو قال إنْ لم أَقْبِضْ دَرَاهِمَ قَضَاءً من الدَّرَاهِمِ التي لي
عَلَيْك فَأَخَذَ بِذَلِكَ عَرَضًا أو شيئا مِمَّا يُوزَنُ من الزَّعْفَرَانِ أو
غَيْرِهِ فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَزْنَ وَالْكِيسَ
وَالدَّرَاهِمَ فَقَدْ وَقَعَتْ يَمِينُهُ على جِنْسِ حَقِّهِ فإذا أَخَذَ عِوَضًا
عنه حَنِثَ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَالِفُ على الْهَدْمِ قال ابن سِمَاعَةَ وَسَمِعْت أَبَا
يُوسُفَ يقول في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَأَهْدِمَن هذه الدَّارَ فَإِنْ هَدَمَ
سُقُوفَهَا بَرَّ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على أَنْ يُزِيلَ اسْمَ الدَّارِ
بِالْهَدْمِ لِأَنَّهُ لو هَدَمَ جَمِيعَ بِنَائِهَا لَكَانَتْ بِذَلِكَ تُسَمَّى
دارا ( ( ( دار ) ) ) لِمَا ذَكَرْنَا أنها اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَحُمِلَتْ
الْيَمِينُ على الْكَسْرِ
قال مُحَمَّدٌ إذَا حَلَفَ لَيَنْقُضَن هذا الْحَائِطَ أو لَيَهْدِمَنهُ الْيَوْمَ
فَنَقَضَ بَعْضَهُ أو هَدَمَ بَعْضَهُ ولم يَهْدِمْ ما بَقِيَ حتى مَضَى الْيَوْمُ
يَحْنَثُ قال وَالْهَدْمُ عِنْدَنَا أَنْ يَهْدِمَ حتى يبقى منه ما لَا يُسَمَّى
حَائِطًا لِأَنَّ الْحَائِطَ يُمْكِنُ هَدْمُهُ حتى يُزِيلَ الِاسْمَ عنه
فَوَقَعَتْ الْيَمِينُ على ذلك بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنْ نَوَى هَدْمَ بَعْضِهِ
صُدِّقَ دِيَانَةً لِأَنَّ ذلك يُسَمَّى هَدْمًا بِمَعْنَى الْكَسْرِ وَلَوْ
حَلَفَ لَيَكْسِرَن هذا الْحَائِطَ فَكَسَرَ بَعْضَهُ بَرَّ لِأَنَّهُ يُقَالُ له
حَائِطٌ مَكْسُورٌ فَلَا يُعْتَبَرُ ما يُزِيلُ بِهِ اسْمَ الْحَائِطِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَهُنَا ألفاظ ( ( ( ألفاظا ) ) ) ثَلَاثَةً الْهَدْمُ وَالنَّقْضُ
وَالْكَسْرُ وَالْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ مَعْنَى كل لَفْظٍ
فَالْهَدْمُ اسْمٌ لِإِزَالَةِ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبِنَاءِ فَإِنْ
فَعَلَ في الْحَائِطِ فِعْلًا يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ بَعْدَهُ ما يُسَمَّى
مَبْنِيًّا حَنِثَ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع وُجُودِ ما يُضَادُّهُ
وَإِنْ لم يَبْقَ ما يُسَمَّى مَبْنِيًّا بَرَّ لتحققه ( ( ( لتحقيقه ) ) ) في
نَفْسِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الناس بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وَالْمُرَادُ منه اسْتِئْصَالُهَا لَا إحْدَاث
صَدْعٍ أو وَهَنٍ في أَبْنِيَتِهَا وَكَذَلِكَ النَّقْضُ يُقَالُ فُلَانٌ نَقَضَ
بينه ( ( ( بيته ) ) ) كَذَا أَيْ أَزَالَهَا وَلَوْ نَقَضَ بَعْضَ الْحَائِطِ أو
هَدَمَ بَعْضَهُ وقال عَنَيْت بِهِ بَعْضَهُ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وأنه مُحْتَمَلٌ
فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ عُدُولٌ عن الظَّاهِرِ وَالْكَسْرُ
عِبَارَةٌ عن إحْدَاثِ صَدْعٍ أو شَقٍّ فِيمَا صَلُبَ من الْأَجْسَامِ
بِمَنْزِلَةِ الْخَرْقِ فِيمَا اسْتَرْخَى منها فإذا ثَبَتَ فيه هذا فَقَدْ بَرَّ
في يَمِينِهِ وَإِنْ بَقِيَ التَّرْكِيبُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ على الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ قال الْمُعَلَّى سَأَلْت
مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَضْرِبَنهَا حتى
يَقْتُلَهَا أو حتى تُرْفَعَ مَيِّتَةً وَلَا نِيَّةَ له قال إنْ ضَرَبَهَا
ضَرْبًا شَدِيدًا كَأَشَدِّ الضَّرْبِ بَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ
بِمِثْلِ هذا الْقَوْلِ في الْعَادَةِ =
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق