كتاب الآمل والمأمول الجاحظ
المقدمة قال الباحث:
من تركيب الإنسان استفراغ الحرص مدى لبه، واستيلاء الأماني على خواطره، فمقصر في الارتياد،
حائد عن مذهب الصواب، عاجز في مذهبه، ظافر بأقصى مناه. ومجد في الدؤوب، متحرٍ قصد
الحجة، مستأهل فوق تأميله الذي في طلبته، مع أنه وإن كان موضع الرتع درك المنى،
فتحري الصواب أولى بذي النهى، والمجد في التماس ما هو به، أعذر من التجافي عما إن
فاته قعد به عن مرتبة أهل الفضل ودرجة ذوي المروءة.
والكاتب وإن لم يكن
في عمل يتقلده ومع صاحب يكتب له فغير خالٍ من حاجة تبدو له عند صديقه، وطلبةٍ تكون
له عند خليطه، ولا بد أيضاً من أن يكون في بعض الأحوال مسؤولاً وفي بعضها معتذراً.
فإن هو لم يأنف بتسبيب المسألة والإفصاح عن البغية والمطالبة بالعدة والاعتذار عند
المنع، والحث على الجهد، والنهي عن الإلحاف، ولم يدر كيف يستبطئ الموعود ويعذر
المجتهد، ويذم المستذم، كان غير مميز من العامة ولا مستحق اسمٍ الكتابة. فتكلفت ما
على الآمل والمأمول، وما في الآمل من الذلة والحيرة، ليقتدي الكاتب في ذلك بما في
الأبواب من المعاني، فيكون كالساري بدليل والحادي على مثال. وبالله أعتصم واسترشد.
على الآمل بل على
الناس أجمعين صون الوجه عن المسألة ورجاء الله عز وجل واليأس من الناس، فإن اضطر
إلى ذلك فالإجمال في الطلب والتلطف للمأمول بعد الوسيلة بدعاء يبعثه على الإسعاف،
فإن تأخرت الحاجة فالتؤدة والرفق وتجنب العجلة والخرق، ثم الحث في الطلب والمخاطرة
وترك التسويف والتواني، ثم حسن الاقتضاء، ثم استبطاء المواعيد، ثم الإلحاح والوعيد.
وليس بعدهما إلا الشكر إن أسعف، ونشر صنيعته إن أولى، والحمد والمدح إن أنعم.
وعليه أن لا يلوم مع العذر ويحتاج إلى ذم المستذم، ومن منع مع قدرةٍ فعليه التلطف
في هذه المعاني، وليس عليه أن يساعده القدر. وعلى المأموا أن لا يماطل بعد الرغبة
في اصطناع المعروف، ولقاء الآمل بالبشر، وترك التجهم، والإعطاء قبل المسألة،
والمبادرة إلى قضاء الحاجة قبل فوت القدرة، وشكر السائل على إنبساطه، وإيضاح العذر
إن تعذرت الحاجة، والتلطف في الاحتجاج بالمدافعة، وترك الوعد حتى يجد إنجازاً،
واليأس قبل المطل، ومنع غير المستحق. وعليه أن لا يفسد الصنيعة بالمن إلا أن
أكفرها وليها، وفي الآمل ذلة وحيرة.
وقد فصلت هذه الجمل
بأبواب من وعاها واستنهج في مكاتبته سبيلها كان كالساري بدليل، والحادي على مثال.
والله المعين على السداد والموفق للرشاد والمعوذ به من الانحراف، عن قصد وسنن
الصدق والحرمان.
باب ما جاء في
القناعة كان يقال أروح الروح القناعة، وهي أقصى رتبة الفقير كما أن أقصى رتبة
الغني الشكر. وقال الحسن بن سهل: ما رأيت رجلاً قط مقصراً في مطالبة الظفر بالفضل
إلا وسعت عليه العذر وإن كان عظيم التفريط، إذا كانت الأنفس مطبوعةً على حب السعي
في حواية الفضل. وذلك دليل على أن اقتصار هذا على ما قل منه دون ما كثر لما وقف
عليه من القسم وميلاً إلى راحة القناعة. أنشدني بعضهم للعطوي:
الحر يد نس بين الحرص
والطلب ... فاخلع لباسهم بالعلم والأدب
أقبح بوجه يسارٍ كان
قائده ... وجهاً رعت كنفيه ذلة الطلب
ما كان قائده ذلا
وسائقه ... منا فأكرم منه لوعة السغب
قرأت في كتاب كليلة
ودمنة: إن من صفة الناسك السكينة لغلبة التواضع وإتيان القناعة ورفض الشهوات
ليتخلى من الأحزان وترك إخافة الناس لئلا يخافهم. وفيه إن الرجل ذا المروءة يكرم من غير مالٍ كالأسد الذي يخاف وإن كان رابضاً.
والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كثر ماله كالكلب وإن كان جوالاً. وأنشدت
لمحمد بن حازم الباهلي.
ما كان مال يفوت دون
غدٍ ... فليس بي حاجة إلى أحد
إن غنى النفس رأس كل
غنى ... فما افتقار إلا إلى الصمد
رب عديمٍ أعز من أسدٍ
... ورب مثرٍ أقل من نقد
الناس صنفان في زمانك
ذا، ... لو تبتغي غير ذين لم تجد
هذا بخيل وعنده سعة
... وذا جواد بغير ذات يد
وقال علي بن عبيدة:
القناعة نعمة جسيمة، ورزق واسع، وحصن حصين، وألفة دائمة، وراحة عظيمة، وعيش صاف،
ودعة للبدن، وعزة للنفس، وصيانة للعرض، وحياة طيبة، وسلامة وعافية فان وفق صاحبها
للصواب في التمييز، واختيار ما يستحق به الاصطفاء صفا من الشكوك وعصمة الله (والله
لا يحب كل مختال فخور). وأنشدت:
قل للزمان أصب من شئت
بالعدم ... وللمنية من أحببت فاصطلم
فحسبي الله رباً قد
رضيت به ... البر بالعود والعواد بالنعم
أعد خمسين حولاً ما
علي يد ... لأجنبي ولا فضل لذي رحم
الحمد لله شكراً قد
غنيت فلا ... أشكو لئيماً ولا أطري أخاكرم
يا نفسلا تعلقي
بالأمل في إنصاف من صبحت من المترفين فإنهم في نخوة التجبر وعقوق التكبر
والاستخفاف بمن لجأ إليهم.
ولا تغتري بالحرمة
بهم والتقدم بالاستطالة، وإيثار عاجل اللذة على الحقوق الواجبة، وإغفال محمود
العاقبة وترك الأناة عند الغضب والعجلة بالعقوبة، فتنكبي أفنيتهم المعيبة وآمالهم
الكاذبة، ولا تكوني تواقة إلى ما لا يجدي عليك، ومعرضةً عما فيه الحط لك. وارضي
بقليل الحظ من الدنيا، وتبلغي بما أمكن منها، وخذي عفو ما كان مخبأ لك، ولا
تستصغري ما أنت فيه من الكفاف مع الحروج وما أتيت من الاثم الفاحش. للعرزمي:
رضيت ببلغة وحططت
رحلي ... وإني للمطالب مستطيع
وأدركت الغنى وملكت
أمري ... إذا اشتملت على اليأس الضلوع
وأحسن بالفتى من لؤم
عارٍ ... ينال به الغني كرم وجوع
وسوى اليأس بين الناس
عندي ... فلن يشقى بي الرجل الوضيع
وقالوا: قد
دهيت.فقلت: كلا ... ولكني أعز بي القنوع
فمن أبدي لنا بشراً
جزينا ... ومن ولى فما فقد الربيع
علي بن عبيدة: يا نفس
لا تسلكي سبل الاستكثار من المال فإن جمعه حسرة ووبال، واعتزي بالقناعة فإنها أشرف
قدراً وأرفع ذكرا وخطراً، وأقرب إلى منزلة السعداء وأكسب للشكر وأزلف عند الخالق
من الاستكثار من الفتنة الذميمة واحتمال أوزار المكاسب ولهب الحرمان وثبات حجة
المقت ولزوم سمت البخل.
قال الشاعر:
لطي ثلاث واصطبار على
أذى ... من الدهر خير من نوال لئيم
وأحسن عندي من تعرض
ذي غنى ... تجمل مجهودٍ وصبر كريم
وألزمت نفسي اليأس
حتى كأنني ... عدو لمن أثرى صديق عديم
وإن من استغنى وإن
كان معسراً ... على ثقة بالله غير ملوم
عبيد الله بن عبد
الله بن طاهر:
جر ما بدا لك أيها
الدهر ... لك أن تجور وعندي الصبر
لا زلت أستعفيك من
خطل ... حتى يردك من له الأمر
لعلي بن عبيدة
الريحاني: لقد سلك الأكياس سبيل الحظ في العاجل، وعظمت مراتب أقدارهم عند الناس،
ورغبوا بأرض الدعة وعمروا أفنية السلامة، وأصابوا من الدنيا بلغة وكفاية قنعوا
بها، وصرفوا ما لهم بما لا احتكام للافات عليه، ولا تنظر عيون الدول في الزوال
إليه من رضوانه ونعيم جنانه.
أنشدني أحمد بن عبد
الله:
لا تقنعن ومذهب لك
ممكن ... فاذا تضايقت المطامع فاقنع
ومن المروءة قانع
ذوهمة ... يسمو لها فاذا نبت لم يهلع
ما كنت إمعةً ولكن
همة ... تأبى الهوان وفسحة في المنجع
وهذا ضد المعاني
المتقدمة، لأنه أمر بالطلب فإذا أعيت الحيلة فبالقناعة. وهذه قناعة اضطرار لا
قناعة اختيار.
وسئل ابن حازم: ما
مالك؟ فقال:
للناس مال ولي مالان
مالهما ... إذا تحادس أهل المال حراس
مالي الرضا بالذي
أصبحت أملكه ... ومالي اليأس مما يملك الناس
وقال أيضاً: الثقة
بالناس من اليأس.
وقال خالد بن صفوان:
نظرت في أمري فوجدت الذي منعنيه القدر لا سائق له، ووجدت الذي أعطانيه لا حابس له،
فعلام أعني نفسي.
قال بزر جمهر: إذا
كان قاسم رزقي هو الله وما قد قسمه فليس يغيره أحد فلم أتحمل منة الخلائق؟ وللحسين
بن علي رضى الله عنهما:
فان تكن الدنيا تعد
نفيسة ... فدار ثواب الله أعلا وأنبل
ولأبي خراش الهذلي في
القناعة والإيثار على النفس:
أرد شجاع البطن قد
تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم
وأغتبق الماء القراح
تعففا ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
لعنترة بن شداد في
الصبر مع القناعة:
ولقد أبيت على الطوى
وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
عبيد الله: القناعة
عز صاحبها، وميسرة فقره، ومسلاة عدوه، وتبجيل له في أعين العقلاء، وتجمل في الخاصة
والعامة، وذهاب بالنفس عن مسألة البخيل، والتعريض لمعروف من جعل فقره في قلبه
وغناءه في كسبه، وصيانة العرض، وإحياء السنة، والرضا باليسير، والتقليل للكثير،
والرغبة عما في أيدي الناس. فان الناس أتباع بالحق ونظارون بعين الدنيا موكلون
باجتناب المؤمن إذا اختل وتعظيم المنافق إذا استغنى إلا قليلاً منهم في جملتهم
كالشامة في مسك البعير والقلامة في النهر الغزير، ففي الاعتزال عنهم سلامة وفي
الاختلاط بهم الضر، والبلاء الذي ليس بمنقض إلا ما دفع الله.
ولذلك أقول:
رضيت للعز بالقنوع
... فلست أنقاد للمنوع
لبائع حظه هلوع ...
لازم دنياه ذي خضوع
كان الخليل بن
أحمدقنعا ضففا، فكتب إليه سليمان بن المهلب وقد ولي السند يستزيره ليوليه أموره.
فكتب إليه:
أبلغ سليمان أني عنه
في دعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
شح بنفسي أني لا أرى
أحداً ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
والرزق عن قدر لا
العجز منقصه ... ولا يزيدن فيه حول محتال
وكان يقال: احتج إلى
من شئت فأنت دونه، واستغن عن من شئت فأنت مثله، وافضل على من شئت فإنك فوقه.
ولأبي دلف.
ليس الغنى في المال
بل ... نفس الكريم هي الغنية
باب ما جاء في
المقادير إلتجأ اختلاف المخلوقين في المتضادات إلى أصلين. يتفرع منهما فصول شتى.
فأحد الصلين ما يجب في حجة العقل الانقياد له والتسليم لما جاء عن الله عز وجل فيه
فإنه يقول: (ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها). وقال عز وجل: ( وما تشاؤن إلا أن يشاء الله). وقال: ( نحن قسمنا بينهم
معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات). مع أيٍ كثيرةٍ تقوم الحجة
عند المصغي إلى الحس المنقاد إلى البرهان. ولم يمنعنا من ذكرها إلا إحاطة علم أكثر
الناظرين في هذا الكتاب بها.
سئل بعض الحكماء: ما
الذي يحمل الموقن بالقضاء والقدر على الدووب والسعي؟ قال: يحمله عليهما القضاء
والقدر.
وقيل: استعمال الجد
من دلالة التوفيق.
قرأت في كتاب كليلة
ودمنة: إن السبب المانع رزق العاقل هو الذي يسوق رزق الجاهل. قال الشاعر:
الجد أنهض بالفتى من
عقله ... فانهض بجد في الحوادث أو ذر
ما أقرب الأشياء حين
يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم يقدر
فاذا تعسرت الأمور
فارجها ... وعليك بالأمر الذي لم يعسر
قال بزرجمهر: العاقل
لا يجزع من جفاء السلطان وتقديمه الجاهل دونه لمعرفته بأن الأقسام لم توضع على قدر
الأخطار وعلى سبيل الاستحقاق.
ولمنصور بن باذان:
يا ذا الذي ذمٍ دهره
... من أجل أن حط قدره
لا تأسفن لشيء ...
ففي المغيرة عبره
لو نيل رزق بعقل ...
لم يعطه الله بعره
فأخذ بعض المحدثين
هذا فقال:
قد كنت للآعتزال
منتحلاً ... أزعم أن الحظوظ بالسبب
فالآن قد صرت لا أقول
به ... ولست أوصي بالعلم والطلب
فالعلم كالجهل
والمطالب ... للرزق كوانٍ والجد كاللعب
وروي عن جعفر بن محمد
أنه قال: إن الله وكل الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل ليعلم العاقل أنه ليس إليه من
الأمر شيء.
وقيل: لا يزال الله
يرزق الجهال حتى يعتبر بهم العقلاء.
وكان يقال: غباوة
تنفع خير من عقل يضر.
وقيل: الحظ يغلب
العقل.
وأنشد الشاعر:
إذا كان الزمان زمان
حمقٍ ... فان العقل حرمان وشوم
فكن حمقاً مع الحمقى
فإني ... أرى الدنيا بحظهم تدوم
آخر:
لا تأتين الأمر من
وجهه ... فانه يعسر من كل باب
وشاور النوكى ولا
تعصهم ... تلاق ما تهوى بعين الصواب
وجالس الأنذال تسعد
بهم ... فان هذا الدهر دهر الكلاب
الواسطي:
سبحان من أنزل الأيام
منزلها ... وصير الناس مرفوضاً ومرموقا
فعاقل فطن أعيت
مذاهبه ... وجاهل كان في الأقوامخ مرزوقا
هذا الذي جعل الألباب
حائرة ... وصير العاقل النحرير زنديقا
آخر:
خاب امرؤ راح يرجو أن
ينال غنى ... بالعقل ما عاش في دهر المجانين
يا رب فاجعل لنا
عقلاً نعيش به ... يا مستجيب دعاء المرء ذي النون
آخر:
ثنتان من سيرة الزمان
تحيرت ... بهما عقول ذوي التفلسف والنهى
مثر من الأموال منقوص
الحجى ... وموفر الآداب منقوص الغنى
آخر:
لما رأيت الدهر دهر
الجاهل ... ولم أر المغبون غير العاقل
شربت خمراً من خمور
بابل ... فصرت من عقلي على مراحل
آخر:
قد يعدم الحازم
المحمود نيته ... نيل الثراء ويثري العاجز الحمق
فلا تخافي علينا
الدهر وانتظري ... فضل الذي بالغنى من عنده نثق
إن يفن ما عندنا
فالله يرزقنا ... من حيث شاء ولسنا نحن نرتزق
وكان يقال: الاجتهاد
في الطلب من دليل القضاء والقدر.
وقال بزرجمهر: كيأ
يذبذن توشأي وتر. يقول: إذا لم يساعد القدر كانت الآفات من جهة الاجتهاد والطلب.
وكان يقال: إذا كان
القدر حقاً فالحرص باطل.
قال الشاعر:
هي المقادير فلمني أو
فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
ومن قول الواسطة بين
من يقول بالحتم في هذه المعاني وبين من يقول بالإهمال ومحض الاستطاعة قول بعض
الحكماء: إن اليقين بالقدر لا يمنع العاقل من التوقي. ولكن التوقي فرض والطلب واجب
والقدر غالب. وما أقرب ما قال من قول النبي صلى الله عليه وسلم : إعلموا فكل ميسر
لما خلق له. ومن قول من يقول بمحض الاستطاعة والاعتزال وأبرأ إلى الله من ذلك، غير
أني أحببت ذكره للناظر في كتابي ليتبين له فساد الأصل. قال بعضهم:
فسدد وقارب في أمورك
واجتهد ... فهل لك في ترك المحجة عاذر
ولا تلزم المقدار
ذنبك كله ... فأنت ولي الذنب ليس المقادر
فلو كان للمقدار في
الذنب شركة ... لكان له حظ من الإثم وافر
آخر:
وعاجز الرأي مضياع
لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
آخر:
إذا أعطاك قتر حين
يعطي ... وإن لم يعط قال: أبى القضاء
فبخل ربه سفهاً
وظلماً ... ليعذر نفسه فيما يشاء
آخر:
اصفع المجبر الذي
بقضاء السوء قد رضي ... فاذا قال: لم فعلت؟ فقل هكذا قضي
باب مدح اليأس
واستدعائه
وما يعرض للطالب من
الذلة والحيرة قال أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد: موطنان لا أعتذر للعيي فيهما: عند طلب الحاجة وعند مخاطبة الجاهل.
وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: طالب الحاجة أبله، فأرشدوا أخاكم وسددوه. وعن ابن
عباس: عند كل دخيل دهشة فأرشدوا أخاكم وابدأوا ذوي الحواتج بالجح قبل المطالب.
ويقال: ذل الطالب بقدر حاجته.
وكلم أعرابي خالد بن
عبد الله في حاجة فلجلج في كلامه. فلما عرف ذلك من نفسه قال: لا تلمني على
الاختلاط فان معي ذل الحاجة ومعك عز الغنى عني.
وقال علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه. احتج إلى من شئت فأنت أسيره، واستغن عمن شئت فأنت نظيره، وافضل على
من شئت فأنت أميره.
وقال رجل لخالد بن
عبد الله: أكلمك بهيبة الأمل أم بجرأة اليأس؟ قال: بل انبسط فتكلم فلك ما أملت.
قال النبي صلى الله عليه: المسئلة من وجه غني كدوحٍ أو خموش في وجه صاحبها. قال:
أتى رجل محمد بن مطرف بن عبد الله بن الشيخير فقال له: يا ابن أخي اكتب حاجتك في
كتاب فاني أضن بوجهك عن ذل المسألة. وكان خالد بن عبد الله يقول: ارفعوا إلي
حوائجكم في رقاع فاني أكره أن أرى ذل السؤال في وجوهكم. وكان يتمثل بهذه الأبيات:
لا تحسبن الموت موت
البلى ... فانما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا
... أشد من ذاك لذل السؤال
ولبعض الكتاب.
الكتاب وقاية للمسؤل،
وصيانة للسائل، ومبلغ ما الحياء مانع منه. وقال لقمان لابنه: أوصيك بتقوى الله
فإنها رأس كل شيء، واحفظ عني ما أقول: اعلم أنه لا يطأ بساطك في فنائك إلا راهباً
منك أو راغباً إليك، فابدأ بالنوال قبل السؤال فإنك متى لألجأته إلى مسألة أخذت من
عرضه، وحر وجهه أكثر مما تعطيه من مالك.
العتبي قال: قال سعيد
بن العاص: ما في الأرض أحد سألني حاجة وكلفته أن ينتصب فيها انتصاب العود فرأيت
شيئاً مما أعطيته عوضاً مما كلفته. أبو سعيد قال: أخبرني رجل قال: قال القسري
لرجل: ما يمنعك أن تسألني؟ قال: إذا سألتك أخذت مني ثمن ما أعطتني.
دخل عبد الله بن عباس
على معاوية رحمهما الله، فقال معاوية: والله يا ابن عباس إن بابي لكم لمفتوح، وإن
خيري لممنوح، ولا يغلق بابي عنكم قلة ولا يمنع خيري عنكم علة. ولقد
نظرت أمري وأمركم فرأيت أموراً مختلفة: ترون أنكم أحق بما في يدي مني وأنا أحق به
منكم. وأعطيكم العطية فتأخدونها متكارهين عليها.
تقولون أخذنا دون
حقنا وقصر بنا عن واجبنا، فبئس المنزلة نزلت بها منكم، أعطيكم فلا أشكر وأمنع فلا
أعذر، ونعم المنزلة نزلت مني أنصف قائلكم وأعطى سائلكم؟ فحسر ابن عباس عن ذراعيه
فقال: يا معاوية فتحت لنا بابك حين قرعناه، ومنحتنا حين سألناه، ولئن أغلقت عنا
بابك لنكفن أنفسنا عنك. وهذا المال فليس لك فيه إلا ما لرجل من المسلمين فعلى أي
جهة أعطيتناه. ولولا حقنا فيه ما أتلك آت منا بجمله خف ولا حافر. كفاك يا معاوية
أم أزيدك؟ قال: لا. بل كفاني.
مر أبو الأسود الدؤلي
بالأحنف بن قيس وعليه ثياب رثة.
فقال: يا أبا
الأسود لو استبدلت بمكانه؟ فقال: رب مملولٍ لا يستطاع فراقه. فبعث اليه بتخوت فيها
من ألوان الثياب. فأنشأ أبو الأسود يقول:
كساني ولم أستكسه
فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
أليس أحق الناس إن
كنت شاكراً ... لشكرك من أعطاك والوجه وافر
أنشدني عاصم بن محمد
الكاتب لأبي الأسود الدولي:
سأشكر عمرا إن تراخت
منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى
عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلة من حيث يخفى
مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
آخر:
لسانك بالموعود باب
مفتح ... وكفك بالمعروف أضيق من قفل
تمني الذي يأتيك حتى
إذا انتهى ... إلى أمدٍ ناولته طرف الحبل
باب راحة اليأس وعزه
أنشدني محمد بن عيسى:
ويوم منى أعرضت عنها
ولم ... أقل لحاجة نفسٍ عند ليلى نوالها
وفي اليأس للنفس
المريضة راحة ... إذا النفس زلفت خطة لا تنالها
وكان يقال: اليأس أحد
النجحين. ويقال: السراح من النجاح.
قال الشاعر:
أرحني بالذي تضمر إن
المطل تكدير ... وإن اليأس كالنجح إذا لم يك تحرير
آخر:
لعمرك لليأس قبل
المطال ... أروح من أملٍ كاذب
اليأس أروح من تأميل
مغرور. وقال بعض الحكماء: كل فائتة إذا وقع اليأس منها رزقت السلوة عنها. ومما
يشبه هذا قول المجنون:
وإن أك عن ليلى سلوت
فانما ... تسليت عن يأس ولم أسل عن صبر
ولبعض الكتاب. شغلت
قلباً فارغاً بوعدك، وأتعبت بدناً وادعاً بضمانك، فإن أعدمتني لذة النجح من مطلبي
فلا تعدمني اليأس بصدقي. أنشدني أبو النضر.
وعدت أبا العباس
وعداً فإن يكن ... له منك إنجاز فمني له الشكر
وإن تكن الخرى فيأس
معجل ... تراح به نفسي وينبسط العذر
وقال الفارسي: يكي به
هزارها آسانية. معناه: مرة واحدة تعقب ألف راحة. شاعر:
اضرع إلى الله لا
تضرع إلى الناس ... واقنع بيأسٍ فإن العز في الياس
من يعمل اليأس يبدي
اليأس بهجته ... حتى يرى جبلاً في أعين الناس
آخر:
واليأس مما فات يعقب
راحة ... ولرب مطمعة تعود ذباحا
وقيل: اليأس عز
والطمع ذل. وللباهلي:
وسوى اليأس بين الناس
عندي ... ولن يشقى بي الرجل الوضيع
آخر:
قال سعيد بن العاص:
ما رددت أحداً عن حاجة فخرج عني إلا تبينت عز اليأس في قفاه. وقال عمر بن الخطاب:
من يئس من شيء استغنى عنه.
آخر:
وما نال مثل اليأس
طالب حاجة ... إذا لم يكن فيها نجاح للطالب
آخر:
ويئست مما قد لهجت به
... منها ولا يسليك مثل اليأس
باب إحماد التؤدة
والرفق قال بعض الحكماء: التؤدة يمن وفي اليمن نجح.
القطامي.
قد يدرك المتأنى بعض
حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
قال النبي صلى الله
عليه : من حرم الرفق فقد حرم الخير.
وقال صلى الله عليه
لعائشة: عليك بالرفق فإن الرفق لا يخالط شيئاً إلا زانه ولا يفارق شيئاً إلا شانه.
ولعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
إصبر على مضض الإدلاج
في السحر ... وللرواح على الحاجات والبكر
لا تعجزن ولا يضجرك
مطلبة ... فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني وجدت وفي الأيام
تجربة ... للصبر عاقبةً محمودة الأثر
وقل من جد في شيء
يطالبه ... فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
خلق الله عز وجل
السموات والأرض في ستة أيام ولو شاء قال لهما: كونا. فكانتا. وقال عز وجل. (فقولا له قولاً لينا) ولو شاء أن يأمرهما
بالعنف لأمرهما، ثم لم يكن يصيبهما من مكروه فرعون ما قد تكفل لهما بصرفه عنهما ربهما.
وقال الشاعر:
تأمل ولا تعجل بأمر
تريده ... فإن الفتى من أمره ما تأملا
يقول: الإنسان على
رأس أمره ما دام يتأمل ويترفق في استعمال الحزم. فاذا عجل فرط وخرج الأمر عن يده.
وقال هدبة:
ولا أركب الأمر
المدوي غمةً ... بعميائه حتى أزور فأنظرا
كما تعمل العشواء
تركب راسها ... وتترك جنبا للمعاذير معوراً
المدوي: الملتبس
المغطى كاللبن الذي عليه دواية. وهي جلدة تركبه. غمة: لبسة. العشواء: التي تبصر في الليل. يقول: إذا لم تحزم في أمرها ذهبت
حيث أرادت على غير بصيرة وتركت جنبها معوراً للمعاذير، أي لم يكن لها عذر في خطابها.
وهذا مثل، يقول فلست أنا كهذه.
باب ذم الحرص قال علي
بن عبيدة: الحرص فضول الشهوات، واشتطاط الأماني، وأذى الطبائع، ومهانة النفس،
وشك في المقدور، وسخف في الرأي، وزهد دائم. وقد نهى الله عن الحرص. فقال عز وجل: (لا تمدن
عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم). وقال الحسن بن سهل: ما رأيت رجلاً قط مقصراً
في مطالبة الظفر إلا وسعت عليه العذر وإن كان عظيم التفريط، إذا كانت النفس مطبوعة
على حسب السعي في حواية الفضل. وذلك دليل على أن اقتصار هذا على ما قل منه دون ما
كثر لما وقف عليه من القسم.
تقول العرب: جاءنا
فلان تضب لثته ويدمى فوه ويرذم أنفه. إذا جاء طعاماً حريصاً. فقولهم تضب لثته أي
يسيل من لثته الماء لا يحبس من حرصه لعابه. وقال عنترة في مصداقه:
أبينا أبينا أن تضب
لثاتكم ... على مرشقات كالظباء عواطيا
قوله: يدمى فوه من
الدم أي يسيل منه الدم. وأصله من أكل اللحم أن يحرص الرجل عليه فيسرع أكله حتى
يأكل العظم فيدميه.
ويرذم أنفه أي يسيل
منه المخاط من حرصه لا يمسحه. والرذم القطر. وقال فيه كعب بن زهير يصف الغنم.
من لي منها إذا ما
أزمة أزمت ... ومن أويس إذا ما أنفه ردما
ليس حرصك على مطلوبك
بزائد في مقسومك، ولا توانيك فيه بناقص ما قدر لك منه. وبين ذلك سعة الاستبصار
وتفصير الاقتصار، فأجمل في الطلب وأقلل من التعب. فحسبك تكلفاً حملك نفسك على
متالفها مع علمك بقول الله في قصة لقمن: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو
في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير.
الحرص يزري لصاحبه
وترك السعي يدعوه إلى سوء الظن بخالقه، فلا تكابر القدر مكابرة المغالب ولا تتكل
عليه اتكال المستسلم. قال عدي بن زيد:
قد يدرك العاجز من
حظه ... والرزق قد يسبق حرص الحريص
باب ما يعرض للطالب
من المكاره
في كتاب كليلة ودمة:
ينبغي للعاقل أن يقرن رجاء النجح والسلامة بخوف الإكداء والنكبة، ولا خير في الشيء
الذي في عاجله مال وجاه وفي آجله الجائحة والتلف. وفي الأمثال: رب طلب قد جر إلى
حرب، ورب مطمعة تعود ذباحاً. وسقط العشاء به على سرحان. قيل ذلك لرجلٍ خرج في طلب
ما يتعشى به فأكله الذئب. وفي الأمثال كالباحث عن المدية.
وأصل ذلك أن تيساً
بحث عن شيء يأكله فوقع على مدية ذبح بها. قال صالح بن عبد القدوس:
وكم من ملح على بغيةٍ
... وفيها منيته لو شعر
وكم تارك حظه بعدما
... أزيد من حظه واقتدر
قال بعض الحكماء: خل
عما تهوى تنج مما تخشى. وفي كلام لبعض الأعراب: ربما أثمر الأمل أجلاً ونتجت
الأمنية منيةً وأنشدني الليث:
ورب سلامة تدعو ...
إلى الآفات والعلل
ومطمعة بها حقاً ...
تكون بديهة الأجل
وقال بعض الأعراب:
طالب الفلاح كالضارب بالقداح سهم له وسهم عليه. وللفارسي: نه هر جاكه دوذ آيد دير برتك توكداني نهند. يقول: ليس كل
دخان طبيخ ربما كان دخان كي.
المعنى: لا تطمع في
كل شيء حتى تختبره. وللعرب في هذا: لا تطمع في كل ما تسمع. قال عبيد الله: من حاول
أمراً بمعصية كان أفوت لما رجي وأقرب لمجيء ما اتقي. إن الحوائج جمة منها اليسيرة
والمنيعة، فاحذر تنجز حاجة توفي على شرف القطيعة. انشدني هشام بن محمد للعتابي.
فإن جسيمات الأمور
مشوبة ... بمستودعاتٍ في بطون الأساود
عبيد الله: أما بعد
فإن الجد في الطلب يعرض صاحبه للعطب فتبصر في العواقب، فقد قيل: من لم ينظر في
العواقب فليس للأمور بصاحب.
باب الإجمال في الطلب
قيل لبزر جمهر: متى يكون الإكداء خيراً من النجح؟. قال: إذا أكدى بك الإجمال وأنجح بك سوء الطلب. قال الحسن البصري: لا تجاهد
الطلب جهاد المغالب واتكل على القدر اتكال المستسلم، فإن ابتغاء الفضل من السنة والإجمال
في الطلب من العفة. وليست العفة بدافعة رزقاً ولا الحرص بجالب فضلاً، لكن الرزق
مقدور واستعمال الحرص اكتساب المأثم.
وفي كتاب كليلة ودمة:
ينبغي للعاقل أن يكون إدخاله يده في فم التنين وابتلاعه سمه أهون عليه من مسألة
اللئيم. قال إبراهيم بن حفصة لابنه: يا بني صن شكرك عمن لا يستحقه واطلب المعروف
ممن يحسن طلبك إليه واستر ماء وجهك بقناعتك وتسل عن الدنيا كتجافيها عن الكرام.
قال علي بن أبي طالب
عليه السلام: مسألة الرجل السلطان كمسألة والده لا يشينه ولا ينقصه. قال بزرجمهر:
أشد من الحاجة أن تكون إلى غير أهلها. قال آخر: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.
قال أكثم بن صيفي:
خير ما فاتك ما توقي بفوته عرضك. ومن هنا أخذ الباهلي قوله:
ما سؤتني اذا وضعت
الثقل عن عنقي ... بمنع رفدك اذا أخطأت في طلبي
اعتضت من ذاك عزا
باقياً وحمياً ... للعرض مني وإبقاءً على حسبي
قال بعض الحكماء: لا
تسأل من لا يشفع لك عنده رغبة في الشكر أو يعينك عليه نية في المعروف. وقيل: مكتوب
في التوراة: ابن آدم لا تسأل الناس، فإن كنت لا بد فاعلاً فسل معادن الخير ترجع
مغبوطاً محسوداً.
للباهلي وقيل للعلوي
البصري:
ولست بنظارٍ الى جانب
الغنى ... اذا كانت العلياء من جانب الفقر
آخر:
وأعسر أحياناً فتشتد
عسرتي ... وأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي
قال: وأتنشدني ابن
أبي الأشعث:
سل الخير أهل الخير
قدماً ولا تسل ... فتى ذاق طعم العيش منذ قريب
قال بعض الحكماء: من
أمل فاجراً كان ادنى عقوبته الحرمان.
قال أبو سعيد: سمعت
أعرابياً يقول لأخيه: قد كنت نهيتك عن مسألة قوم أرزاقهم من ألسنة الموازين وأفواه
المكاييل.
وأنشدني محمد بن إسحق:
لئن أخطأت في مدح ...
ك ما أخطأت في منعي
فقد أحللت حاجاتي ...
بوادٍ غير ذي زرع
عربي:
أملي فيك غرني فأقلني
... مدحي فيك يا أبا عدنان
إن من ضيع الرجاء
حقيق ... أن يجازى عليه بالحرمان
قال زيد بن نشيط لوهب
الشاعر: ما الاجمال؟ قال: أن لا تسأل مثلك. وأنشدني وهب:
ولست بسائل الأعراب
شيئاً ... حمدت الله ان لم يأكلوني
تعرض بعض طلاب
المعروف لبخيل ذي سلطان فتوعده بضرب خمس مئة سوط. قال: وددت أنك قد عجلتها. قال:
ولم تستحب تعجيل المكروه؟ قال: لأصير عظةً ونكالاً لمن سأل مثلك. إني تكلفت من
هراقة ماء وجهي لك وإعمال فكري اليك وجولان قلبي في ليلي لاختيارك موضعاً لحاجتي
شقة وتعباً.
فكما لم أصن وجهي عن
ابتذاله فلا تصن رفدك عن اختصاصي به. فانه إن لم يكن لي مجازة بذات اليد فالاجتهاد
في الشكر أحد الجزائين، وعلى الله المكافاة في الآخرة اذ قصرت عنها طاقتي، وكل
دونها وسعي.
آخر:
يجزيك أو يثني عليك
وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
ومن أحسن ما بلغني في
شبيه هذا المعنى:
فعاجو فأثنوا بالذي
أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقال بعضهم: ما أحد
أعظم علي يداً من رجل بات طول ليلته يتململ على فراشه، فلما أصبح رآني موضع
اختياره فذاك لو وهبت له الدنيا لما كان لماء وجهه عوضاً:
ما ماء كفك إن جادت
أو بخلت ... من ماء وجهي وان أفنيته عوضا
باب ذم الفقر قال
أكثم بن صيفي: الفاقة تمنه الشرف وتخمل الذكر، وتوجب المذلة:
كم من كريم سيد ماجدٍ
... شيمته خلف واجمال
أخمله الفقر فأزرى به
... وناقصٍ سوده المال
لا تحمد الناس وإن
عظموا ... فانما تكرمك الحال
ذو المال معبود وإن
لم يكن ... له على الإخوان إفضال
وما عال الفقر على
أحد ولا عدل عليه الارد عن الحجة وقورن بالخيبة، وانتكثت دونه الحيل، وضاق عليه
الزين، واتسع فيه الشين، وسيم خسفاً وجشم افراطاً وحمل هضيمة وألزم في كل أحواله
عاراً ومذمة، وكان ضرعاً مستجدياً. روي في بعض الأحاديث: كاد الفقر يكون كفراً. وأنشد:
المال فيه مجلة
ومهابة ... والفقر فيه مذلة وقبوح
آخر:
سميت الدهر حين رأيت
دهراً ... يكلفني التنصف للرجال
آخر:
لعمرك ان المال قد
يجعل الفتى ... سنياً وان الفقر بالمرء قد يرزى
آخر:
ذريني للغنى أسعى
فاني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأصغرهم وأهونهم
عليهم ... وإن أمسى له كرم وخير
يباعد في الندي
وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
ولتلقى ذا الغنى وله
جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
له فضل عليهم غير عرف
... سوى أن ماله مال كثير
قليل عيبه والعيب جم
... ولكن الغنى رب غفور
وقال بعض الحكماء:
المال يسود غير السيد ويقوي غير الأيد.
الفقر يرزي بأقوام
ذوي حسب ... وقد يسود غير السيد المال
آخر:
كم سود المال قوماً
لا قديم لهم ... وأخمل الفقر سادات من العرب
وفي كتاب كليلة
ودمنة: الفقر داعية الى أصحابه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل وللمروءة، ومذهبة للعلم
والأدب، ومعدن للتهمة ومجمعة للبلايا. من نزل به الفقر والفاقة لم يجد بداً من ترك
الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت وأوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن
فقد عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب بفهمه وعقله وحفظه كان أكثر قوله وععمله
قيمةً عليه لا له. فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان
يظنبه حسناً، وإن أذنب غيره ظنوه وكان للتهمة وسوء الظن موضعاً، وليس من خلة هي
للغني مدح إلا هي للفقير عيب، فإن كانه شجاعاً سمي أهوج، وإن كان جواداً سمي مفسداً،
وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً. فالموت أهون من الفاقة
التي يضطر صاحبها الى المسألة لا سيما من البخيل.
قال: وكان
احيحة بن الجلاح ينزل بالمدينة، فافتقر فجفاه اخوانه وأحباؤه وجفته زوجته، ثم أنه
اثرى فاستفاد نيفاً وتسعين ببراً للنخل بالمدينة وكان له نخلة على ثلاث منها. فكان
يأتيها بنفسه ويسقيها ويتعهدها. فقال في ذلك:
استغن أو مت ولا
يغررك ذو حسب ... من ابن عم ولا عمٍ ولا خال
إني اكب على الزوراء اعمرها
... ان الكريم على الإخوان ذو المال
والمال يغشى أناساً
لا طباخ بهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي
الدندن من النبات: ما
قد بليت. لا طباخ لا فائدة.وله أيضاً:
أطعت العرس في
الشهوات حتى ... أصارتني عسيفاً عند عبدي
اذا ما جئتها قد بعت
عذقاً ... تقبل أو تعانق أو تفدي
والسائر في هذا
المعنى قول أوس بن حجر:
وإني رأيت الناس إلا
أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التنقلا
بني أم ذي المال
الكثير يرونه ... وإن كان عبداً سيد الأمر جحفلا
وهم لمقل المال أولاد
علة ... وإن كان محضاً في العشيرة مخولا
آخر:
إذا قل مال الرجل قل
صديقه ... وأومت إليه بالعيوب الأصابع
آخر:
إذا قل مال المرء قل
حياؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن
كان حازماً ... أقدامه خير له أم وراؤه
وقال بعض الفرس:
الموت شديد وأشد منه الغربة، وأشد الشدة الفقر، فإن الرجل إذا افتقر كان ضرع
اللسان لا يزال يضرع فلا يقبل منه.
باب مدح الفقر قال
عبيد الله: قد قال الناس في ذم الفقر فأكثروا. وغنما ذمه من ذم لن الفقر بلوى
والغنى عافية. والناس يختارون العافية وإن لم يقوموا بشكرها ويتبرأون من البلوى،
وإن أسوأ جزاء الصبر عليها. وليس من ابتلي فصبر كمن عوفي فشكر، وإن كان كلتا
المنزلتين عند الله وجيهتين معظمتين، لأن المبتلى الصابر يكاد يبلغ درجة النبياء
صلى الله عليهم. وينبغي للعاقل أم يسأل الله عز وجل العافية على كل حال، ولا يتعرض
للبلاء على حال، غير أن محمل العافية خفيف ومحمل البلاء ثقيل. فعلى قدر ثقل البلاء
وشدته يرى للصابر عليه الثواب من ربه. وقد قال الله تعالى: (كلا إن اإنسان ليطغى
أن رآه استغنى). وقال: (وإذا أنعمنا على الإنسان اعرض ونآى بجانبه). وقال: ( إنما أولادكم فتنة). فمن وفق رأى في أضعاف البلاء جلائل من نعم الله
عز وجل وحسن اختياره وجميل نظره فعلم أن منع عبده ما منعه خير له وأعطاه ما ينبغي أن
يفوز به من ان يكون حجة عليه واستدراجاً له. فقد بلغنا في تفسير قوله: سنستدرجهم
من حيث لا يعلمون. قأل: ما جددوا معصية الا جدد الله لهم نعمة يستدرجهم بها. وقال
في آل فرعون: كم تركوا من جنات وعيون. وزرع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين.
كذلك وأورثناها قوماً
آخرين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.
وفي الحديث إن اليهود
عيروا عيسى عليه السلام بالفقر. فقال: من الغنى أو تيتم البلاء. إنا لم نر أحداً
يعصي الله ليفتقر إنما يعصي الله ليستغني. وإنما كان يقول: شعاري الفقر ولباسي الشعر، وطعامي ما أنبتت الأرض،
ودابتي رجلاي، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس، أصبح ولا شيء لي، وليس على وجه الأرض
أحد هو أغنى مني.
وبلغني أن الفقير
الصبور يدخل الجنة قبل الغني الشكور بأربعين عاماً. قال: وإن يوماً عند ربك كألف
سنة مما تعدون.
وروي عن أبي الدرداء
أنه قال: لن أموت وعلي أربعة آلاف أنوي قضاءها أحب إلي من أن أترك مثلها حلالاً.
وقرأت أن سلمان قال:
خشيت أن أكون تركت عهد النبي صلى الله عليه. قالوا: ولم؟ قال: لأنه عليه السلام قال: من أراد أن يدخل الجنة فلا يكونن
زاده من الدنيا إلا كزاد الراكب. قال سلمان: وأنا قد جمعت ما ترون. قال: فقوموا ما
عنده فبلغ ثمانية عشر درهماً. ويروى عن النبي صلى الله عليه أنه كان من دعائه:
اللهم أحيني مسكيناً وتوفني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين. وروي أنه كان يقول:
اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً. فسئل بعضهم ما الكفاف؟ فقال: جوع يوم وشبع يوم.
ولبعض المعمرين:
أأخي إن الجائحات ...
عركنني عرك الأديم
وتركنني متخرق
الأطمار في ثوبي عديم
إن كن أثوابي بلين
... فإنهن علي كريم
ويروى أن الفقر شعار
الصالحين. ويروى عن عيسى عليه السلام أنه كان لا يأوي تحت سقف بيت، فألجأه المطر
ذات ليلة الى غار فدخله فإذا سبع قد سبقه اليه. وكان صدره قد ضاق قليلاً فأوحى الله اليه: يا عيسى أضاق صدرك؟ فوعزتي لأزوجنك
أربعة آلاف حوراء ولأولمن عليك ولأولمن عليك ألف عام.
للعتابي ويقال لابن
الجهم:
ولا عار إن زالت عن
الحر نعمة ... ولكن عاراً أن يزول التجمل
ابن الأعرابي:
لعمري لئن ساءتك مني
بديهة ... من الحال ينبو عن رثاثتها البصر
لقد ضمن الأحشاء مني
عزيمةً ... إذا امتحنت زكى موردها الصدر
وان امرأ لم يثلم
الدهر عرضه ... على طول تعنيف لموضع مدخر
كفا بالغني عاراً أو
نقصاً اذا بدا ... له منظر زاكٍ وليس له خبر
وكان يقال: من أصبح
آماً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما خيرت له الدنيا. قال الحسن:
يا ابن آدم ان كنت تطلب ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك. وغن لم يقنعك ما يكفيك
فليس شيء من الدنيا يغنيك.
باب الحث على الطلب
قال بعض الحكماء: عليكم بالرحل والإرتحال ونصب البدن واحتياض الغمرات واستهال
الوعور، واجتراء أودية الرغبة لارتياد المنفعة وطلب المعيشة، فان الحازم لا يدع
لدعة نفسه ومصلحة شأنه مصعداً الا صعده، ولا موطأ الا ألتمسه، ولا مرجماً الا
رجمه، ولا مضيقاً الا سلكه. وأنشدني بعضهم:
زحزح همومك بالمهرية
النجب ... واقذف بنفسك في الآفاق واغترب
حتى تنال غنى من وجه
مطلبه ... وتستريح من الترداد والطلب
وقال بعض الحكماء: لا
تدع الحيلة في التماس المال بكل مكان. فان الكريم محتال والدني عيال. وكان يقال:
اتعب يومك لراحة غدك. قال الله تعالى حثاً على الطلب: فانتشروا في الأرض وابتغوا
من فضل الله. ومدح قوماً بالطلب. فقال: وآخرون يضربون في الأرص يبتغون من فضل الله. وقال عمر بن الخطاب: اقبلوا
على ما يصلحكم من أمر دنياكم فإنه قوام وجوهكم وبلاغ إلى آخرتكم.
فسر في بلاد الله
والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيش بدونٍ
ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
وفي الأمثال: أطلب
تظفر. وفيها قال شاعر:
ولا تقعدن بمضيعة
ذلولاً ... ولكن ألق دلواً في الدلاء
تجيء بملئها ماءً
وطوراً ... تجيء بحمأة وقليل ماءٍ
وفيها: كلب جوال خير
من أسد رابض. وكان يقال: من غلا دماغه صائفاً غلت قدره شاتياً. ولبعض الأعراب:
ألا خلني أمضي لشأني
ولا أكن ... على الدهر كلا إن ذا لشديد
أرى السير في البلدان
يغني معاشراً ... ولم أر من يجدي عليه قعود
إذ ما الفتى لم يبغ
إلا لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد
آخر:
الوكر من آلة الفراخ
ولا ... يوكر سبط الجناح هدار
أجدل ذو مخلبين مندمج
... يدمى له منسر وأظفار
فبالسرى والدجى
وهاجرة ... والعيس تحت الظلام أوطار
ومهمهٍ لا يرام جانبه
... عسكره بالمنون جرار
إذا تجاوزت منه
مسبعةً ... لاقتك مجهولة وأوعار
لا يألف الدهر وهو
آيته ... حر أبي نمته أحرار
آخر:
رأتني قليل النوم غير
مسهد ... أخا أملٍ عالٍ وهم مخالف
وقد سمعت لي منطقاً
ذا أصالة ... وقد حمدتني في الأمور العواسف
وقد راعها مني جمال
وبهجة ... وعلم بأنباء القرون السوالف
وقد عجبت أن لا تراني
مومراً ... ولا ذي تلاد مستهل الطرائف
لأكسب مالاً أو يقال:
ابن حرةٍ ... سقته صروف الدهر كأس المتالف
وقع عبد الله بن
طاهرٍ: من سعى رعى ومن نام رأى الأحلام. قال الكسروي: أخذه من توقيع لأنوشروان:
ليس للحاجات إلا ...
من له وجه وقاح
ولسان ذا فضولٍ ...
وغدو ورواح
قال بعض الحكماء: إني
لأسعى في الحاجات، وإني لا أيأس منها. وذلك الإعذار لئلا أرجع على نفسي بلوم. قال
عمرو بن عتبة: من لم يقدمه الحزم أخره العجز. وقال بعض الحكماء: الروح في الحركة وهي مفتاح الدرك، وداعية النجح.
والكسل مغلاق الدرك وداعية الحرمان. وقيل لبزرجمهر: بم ادركت ما أدركت؟ قال: ببكورٍ
كبكور الغراب، وصبر كصبر الحمار وحرص كحرص الخنزير. وقيل لد غفل: بم بلغت ما بلغت؟
قال: بقلب عقول ولسان سؤول. عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال
ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب
غنيمةً ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
وفي الحديث عن النبي
صلى الله عليه عن ربه عز وجل: (يا ابن آدم احدث سفراً أحدث لك رزقاً. عبيد الله في
الحديث: سافروا تصحوا وتغنموا:
ولن يريح هموم النفس
إذ حضرت ... حاجات مثلك إلا الرحل والجمل
وقيل لأبي الأسود:
مالك كثير الجولان وأنت كبينر السن؟ قال: لئلاً أكون جليس المرأة وجليس البيت: لا
تشاء العنز تبول علي إلا بالت.
فصل لعبيد الله: ليس
فضل السعي بزائد في مقسوم الرزق ولكن الله جعل له سبيلاً إلى إزالة العتب عن النفس
ودركا في الاستسلام لغلبة القضاء والقدر، إذ كان على المرء ألا يقبل على نفسه ذلا.
وليس عليه أن يزيل
عنها قدراً حتماً. وهذا شبيه بقول الشاعر:
على المرء ألا يرام
الضيم أنفه ... وليس عليه أن يساعده القدر
باب ذم التواني
والتسويف كان يقال: العجز وطيء أي لا تكره صعوبة الحزم وتختار وطأة العجز.
ولبعضهم: نكح العجز التواني فولدت بينهما الندامة. وقال أكثم: لا أحب
أن أكفى أمري كله.
قيل: ولم ذلك؟ قال:
أخاف عادة العجز. وقال حكيم لولده: اياك والعجز والتواني في الأمور فتقذفك الرجال
خلف أعقابها.
وكان الغريض مترفاً
منعماً لنفسه. فسأله بعض إخوانه أن يمشي معه في حاجة فقال له: لولا أن يراني عدوتي
- ولم ترني منذ حين لمشيت معك. قال: ومن عدوتك؟ اقل: الشمس. لا وحياتك ما وقعت علي
منذ سنة. وكما أن الإبطاء عند القدرة مذموم فكذلك العجلة قبل الفكرة مذمومة.
وقد مدح رجل من العرب
رجلاً سئل عنه، فقال: إنه والله ما يكفكف من عجلة ولا يدفع في ظهره من بطءٍ. وكان
يقال للحاجة آفتان الاستعجال بها قبل وقتها والتأني فيها حتى تموت. وفي عهود بعض
القضاة: وأمره أن يتجنب خصلتين هما آفتا القضاء وسبب تودير الحقوق: العجلة قبل
إثبات الحجة، والانتظار بالفصل بعد وضوح الدلالة وقيام البينة. وانشدني محمد بن
عيسى:
فلا تطمع لأمر إن
تدانى ... ولا تيأس من الأمر السحيق
ولا تعجل فتسبق ما
يرجى ... ولا تنظر فتقصر عن حقوق
وكان إياس بن معاوية
يتمثل:
وأوقف عند الأمر ما
لم يبن له ... وأمضي إذا ما شك من كان ماضيا
وقيل لبزرجمهر: أمن
الاجتهاد ما هو شر من التواني؟ قال: نعم. ما كان في غير حينه. قال بعض الحكماء:
آفة الطلب في تيمم أوقاته. بلغنا أن رجلاً من العرب طلب الأدب حيناً فأعياه فتركه،
فبينا هو في بعض الطريق يسير إذ مر بصخرة ملساء فتأملها فإذا الذر يدب عليها فمن
كثرة دبيبه كان أثر في الصخرة. ففكر فقال في تفكره: مع صلابة هذا الصخر وخفة هذا
الذر أثر فيه هذا الأثر فأنا حري أن أدوم على الطلب وأجد في الأدب فلعلي أصير فيه
رأساً. فراجع الإكباب على الأدب فلم يلبث أن خرج فيه مبرزاً. ولأبي العتاهية
في ذمسوف وما أشبهها:
لا يشغلنك لو وليت عن
الذي ... أفنى القرون ولا لعل ولا عسى
وفي الحديث: أن رجلاً
دخل المسجد والنبي صلى الله عليه جالس.قال له: يا فلان أما جمعت؟ قال: أما رأيتني
يا رسول الله جمعت معك. قال صلى الله عليه: رأيتك آذيت وآنيت أي أخرت المجيء.
لم تزل تسوق حاجتي
حتى خرجت من آوانها إلى آواني لو أسعفتني بها فيه ما كان لها علي كثير أثر ولا من
نفع، ولو أسعفتني بها في أول طلبتها لكان في ذلك صون لوجهي عن سؤال أحدٍ سواك. وسبق منك
إلي بارع عرف وجميل اصطناع قل ما سبق السابقون إلى أفضل منه. فقد قطعت الآن لساني
عن الاحتجاج عنك فجعلت ذنبك وقايةً له عن الاحتجاج عنك. وبحسبي ما لحقني من إساءتط بعد إحسانك. وزال عني عن معروفك ما قد كنت
أعده لي عتاداً ومن محذوري حرزاً حريزاً.
باب ذم العجلة وفي
الأمثال: رب عجلة تهب ريثاً، يقول:رب عجلة يراد بها صلاح الأمر فتفسده حتى لا يصلح
إلا بعد مدةطويلة فكأنها كانت ريثاً. وهذا قريب من قول بزر جمهر: إن شراً من التواني
الإجتهاد في غير حينه.
الخرق شؤم والأناة
سعادة ... فاستأن حلمك في أمورك تسلم
والرفق يمن والأناة
سعادة ... فتأن في رفقٍ تلاق نجاحا
وفي الأمثال: الرفق
يمن والخرق شؤم. أنشدني عبد السلام:
ولا تعجل بأمر الشك
حتى ... تبين والظهور لها بطون
ولا تعجل بأمرك قبل
حين ... فعند الحين تنقطع الظنون
قال بعض الحكماء:
إياك والعجلة فإنها خرق والخرق شؤم. وعليك بالأناة فإن يمن. وكان يقال: الزلل من
العجل.
وإذا هممت بأمر شر
فاتئد ... وإذا هممت بأمر خير فاعجل
وليس من هذا الباب
ولكنه ظريف.
قد يدرك المبطئ من
حقه ... والنجح قد يسبق جهد الحريص
وهذا المعنى من باب
المقادير وقد ذكرناه فيه. وكان يقال فيه: إن من الحزم والأناة التثبت، وإن العجلة
لا تزال تورث أهلها حسرةً وندامة. قال: وأنشدت:
اصبر على مضض الإدلاج
بالسحر ... وبالرواح على الحاجات والبكر
السائر في هذا المعنى
قول الشاعر:
تأمل ولا تعجل بأمرٍ
تريده ... فإن للفتى من أمره ما تأملا
ولعبيد الله: من عجلت
إلى مدحه فلما كشفته اضطررت إلى مقته. ابن جدعان:
ربما عاجل يخالف
نجحاً ... وبطيء يصيب يوماً نجاحا
قال بعض البلغاء:
العجول مخطئ وإن أصاب. فكيف إذا أخفق؟ وقال: العجلة من الشيطان. لا تغرنك إصابتك
مع العجلة، ولا يسوءنك إخطاؤك من التأني والرفق. فإنك إذا عجلت فأصبت وافقت إصابتك قدراً لا محيص عنه. ولو لم تعجل
لبلغت المراد كما بلغته لما عجلت، وغن كان ما أردت متعذراً في حال الرفق فهو مع العجلة
اشد تعذراً، لأن العجلة رهق والتؤدة تأمل وبصيرة.
باب اختيار المأمول
قال النبي صلى الله عليه: (إذا طلبتم الحوائج فعليكم بحسان الوجوه. فأخذ معناه
شاعر فقال:
لوجه المرء ذي الخلق
المصفى ... على ما ثم من خير دليل
كما قال الرسول رسول
ربي ... وقد صدق الإله والرسول
عليكم بالحوائج
فاطلبوها ... إلى من وجهه حسن جميل
آخر:
حسن ظني إليك أسعدك
الله ... دعاني فلا عدمت صلاحا
ودعاني إليك قول رسول
الله ... إذ قال مفصحاً إفصاحا
إن طلبتم حوائجاً عند
ثوم ... فتنقوا لها الوجوه الصباحا
ولعمري لقد تنقيت
وجهاً ... ما به خاب من أراد النجاحا
وقال ابن عباس: لا
تطلبن إلى أعمى حاجةً ولا تطلبنها بالليل من البصير. فإذا طلبتها فاستقبلها بوجهك. فإن الحياء في العينين. عطاء بن ميسرة
قال: الحوائج من عند الشبان أسهل منها عند المشايخ. ثم تلا هذه الآية من
قول يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم). وقول يعقوب: ( سوف أستغفر لكم ربي).
وكان ياقل: لا تنزل حوائجك بالجيد اللسان ولا بالمتسرع إلى الضمان فإن العجز مقصور
على التسرع ومن وثق بجودة لسانه ظن أن في فصل بيانه ما ينوب عن عذره وأن وعده يقوم
مقام حجته. قال وهب نب منبه: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم لا تسأل الناس، وغن كنت لا بد فاعلاً فسل معادن الخير ترجع
مغبوطاً؟ ومحسوداً. ولا تسأل معادن الشر فترجع مغلوباً محسوراً. ابن حازم:
لا تسألن المال عند
امرئ ... أصاب اليسارة من كده
ولكن سل المال عند
امرىءٍ ... إذا أورث المال عن جده
كان يقال: أبو كبسة
أقوم مسنان. يقول: لا تستقرض رجلاً حديث عهد بالنعمة. إنه سيء الاقتضاء قليل النظيرة مستكثر للقليل يخشى من الفقر الذي جرب
وعرف. وتقول العامة في كلامها: لا يلتمس الحوائج عند من لا يأكل من مائدة
أبيه.
وفي شبيه بهذا المعنى
قول العجاج في رجل مدحه:
في معدن الملك القديم
الكرس ... ليس بمقلوع ولا منحس
أي في معدن الملك
الذي قد توارثه آخر عن اول.
ولو كنت إذ أفنيت
أيامي في التردد إلى فلان ووقفت أملي عليه قدمت للروية في الاتياد وأصبت مطية
النجح ما أكدى مطلبي، ولا أخطأت فراستي. ولكني وردت عليه بغير بصيرة فكانت عاقبة
أمري خسراً، أو أكسبني ذلك نقيصة وذماً. فتبارك الله رب العالمين.
باب الإهداء إلى من
يلتمس فضله
إنما يجتلب الدر ممن
ليس بضامر على الخرز، ويلتمس المعروف من طلق الوجه واليدين. وقد
حضرني مما رجوت أن يصلح لك كذا فأجبت أن أجعله تذكرة لي في خزانتك، وسبيلاً إلى
إحسانك إذ أعيت الوسائل عندك إلا بك، وسهل عليك استدعاء الإحسان منك بيسير الرغبة
إليك. فلا زلت غلاباً على المكرمات محظوراً عن النائبات منصوراً في نوازل المهمات
بقدرة من لا يعجز قدرته شيء، ولا يخفى من علمه إحسان محسن وهو فعال لما يشاء.
إنما تمتد الآمال
أيدك الله نحو معادن الكرم وأهل خصوصيات السؤدد وعموميات العوارف. وهذا أعزك الله
يوم احببت أن تكون لي عندك فيه تذكرة أستدعي بها منك زيادة في التقديم والإيثار والمبسط
والإيناس، إذ كنت لا أنبو عن إلقاء مقاليد الأمل، والإتكال بعده لله عز وجل. وأنت
حري بقبول ذلك ممتناً علي، ولي شاكر ومصطنع طائع.
باب ارتجاع الهدية
ممن أملت منه فضلاً فلم تنل ذلك
للبحتري:
فإن لم تنيلوني التي
قد تقدمت ... مواعيدكم فيها وآثاركم عندي
فردوا قوافي التي سار
ذكرها ... بأقطار أرض الله في القرب والبعد
وشرخ شباب قد نضوت
جديده ... كما جرد السيف اليماني من الغمد
وما أنا والتقسيط أن
تلزمونني ... وبكيت قبلي خلة القوم أو بعدي
سبيلي أن أعطي الذي
تسألونني ... وحقي أن يجدي علي ولا أجدي
فردوا القوافي
السائرات بذكركم ... وما حزتموه من ثناءٍ ومن حمد
وقد كان من حقي
وتكلفي الشقة إليك وتجشم هراقة ماء وجهي بمسألتك ما يوجب على مثلك من الرؤساء
والكرماء ألا يخيب معه ذمامي ولا يبطل من جدواك حظي، فأنا الآن أرض من إحسانك
برجوع تحفتي إلي إذ كنت لا أستنكف في تجملي من القول فيها، ولا أخجل عن ذكرها لمن
يسألني عنها من إخواني، لأنها كانت مني على سبيل متاجرة لا مكاثرة، وأن القضاء
والقدر ليحولان بين العباد وبين الإرادات، وليس إليه شيء من المشيات:
سبيل من ضن بما لديه
... أن يعرف الحق الذي عليه
ولا يبيح سب والديه
... لما تحرى قلع ما ضغيه
فإنما المرء بأصغريه
لو كان طول مقامي بباب فلان مما نفعني في رفع شر عني أو اجتلاب خير ما ساءني ما
تكلفت من المشقة، وألزمت نفسي من الكلفة، وأنطقت به لساني من الشبهة والد لسه
والمدح التي ليست بخلسة فالآن إذ عاد أملي بائراً لا ترجى عمارته، وظني مخلفاً لا
يوصل بحقيقته فرد مدحي السائرة وتحفتي المستحقرة المتصغرة أولى وأحق في ذلك على من
هجن نفسه بالبخل وشانها بالمنع.
====
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق