اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الأربعاء، 9 نوفمبر 2022

ج3.وج4.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني سنة الولادة / سنة الوفاة 587.

 

ج3. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587

قَرَأَ الْأُولَى وَسَجَدَ ثُمَّ شَرَعَ في الصَّلَاةِ في غَيْرِ ذلك الْمَكَانِ وَأَعَادَهَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى في الرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ليس بِإِعَادَةٍ وَلَوْ كان إعَادَةً لَمَا لَزِمَهُ أُخْرَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ إعَادَةٌ لِلْأُولَى من حَيْثُ الْأَصْلُ لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِإِعَادَةٍ من حَيْثُ الْوَصْفُ لِأَنَّ وَصْفَ كَوْنِهَا رُكْنًا من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لم يَكُنْ في الْأُولَى وَوُجِدَ في الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ حُكْمًا لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وهو وُجُوبُ السَّجْدَةِ فإذا كانت بَاقِيَةً وَالثَّانِيَةُ من حَيْثُ الْأَصْلُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى فَجُعِلَتْ من حَيْثُ الْأَصْلُ كَأَنَّهَا عَيْنُ الْأُولَى فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ الثابتة ( ( ( الثانية ) ) ) لِلتِّلَاوَةِ الثانية ( ( ( والثانية ) ) ) لِلْأُولَى لِصَيْرُورَةِ الثَّانِيَةِ غير ( ( ( عين ) ) ) الْأَوْلَى فَتَصِيرُ صِفَتُهَا صِفَةَ تِلْكَ فَصَارَتْ هِيَ أَيْضًا مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ
بِخِلَافِ ما إذَا كان سَجَدَ لِلْأُولَى لِأَنَّهَا لم يبق ( ( ( تبق ) ) ) حكمها ( ( ( حكما ) ) ) بَلْ انْقَضَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا فلم يُجْعَلْ وَصْفُ الثَّانِيَةِ وَصْفًا لِلْأُولَى فَبَقِيَتْ الثَّانِيَةُ إعَادَةً من حَيْثُ الْأَصْلُ ابْتِدَاءً من حَيْثُ الْوَصْفُ فَتَجِبُ سَجْدَةٌ أُخْرَى من حَيْثُ الْوَصْفُ وَلَا تَجِبُ من حَيْثُ الْأَصْلُ فلم يُعْتَبَرْ جَانِبُ الْأَصْلِ وَإِنْ كان هو الْمَتْبُوعُ لِمَا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ في بَابِ الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْوُجُوبِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوَصْفِ فَوَجَبَتْ سَجْدَةٌ أُخْرَى على أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْوَصْفِ مُوجِبٌ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَصْلِ ليس بِمَانِعٍ لَكِنَّهُ ليس بِمُوجِبٍ فلم يَقَعْ التَّعَارُضُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ سَجْدَةً في رَكْعَةٍ وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا جاء سَاعَتَئِذٍ فَقَرَأَ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ في حَقِّهِ وهو ابْتِدَاءُ التِّلَاوَةِ ولم يُوجَدْ منه أَدَاءٌ قبل هذا وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوهَا معه لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه فَكُلُّ من كان أَهْلًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عليه إمَّا أَدَاءً أو قَضَاءً فَهُوَ من أَهْلِ وُجُوبِ السَّجْدَةِ عليه وَمَنْ لَا فَلَا لِأَنَّ السَّجْدَةَ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ من الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالطَّهَارَةِ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حتى لَا تَجِبَ على الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قرؤوا ( ( ( قرءوا ) ) ) أو سَمِعُوا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عليهم وَتَجِبُ على الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا وَكَذَا تَجِبُ على السَّامِعِ بِتِلَاوَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمَجْنُونَ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ منهم صَحِيحَةٌ كَتِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْبَالِغِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ وَالْمُتَطَهِّرُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّجْدَةِ بِقَلِيلِ الْقِرَاءَةِ وهو ما دُونَ آيَةٍ فلم يَتَعَلَّقْ بِهِ النَّهْيُ فَيُنْظَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّالِي وَأَهْلِيَّتِهِ بِالتَّمْيِيزِ وقد وُجِدَ فَوُجِدَ سَمَاعُ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ فَتَجِبُ السَّجْدَةُ بِخِلَافِ السَّمَاعِ من الْبَبْغَاءِ وَالصَّدَى فإن ذلك ليس بِتِلَاوَةٍ وَكَذَا إذَا سمع من الْمَجْنُونِ لِأَنَّ ذلك ليس بِتِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِانْعِدَامِ التَّمْيِيزِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَكُلُّ ما هو شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ من طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ وَطَهَارَةِ النَّجِسِ وهو ( ( ( وهي ) ) ) طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَمَكَانِ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ السَّجْدَةِ لِأَنَّهَا جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ ثَمَّةَ مَاءً أو يَكُونَ مَرِيضًا لِأَنَّ شَرْطَ صَيْرُورَةِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ خَشْيَةُ الْفَوْتِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ وُجُوبَهَا على التَّرَاخِي على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ إذَا تَلَاهَا على الْأَرْضِ وَلَا يُجْزِيهِ الْإِيمَاءُ كما في سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ
فَإِنْ اشْتَبَهَتْ عليه الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَسَجَدَ إلَى جِهَةٍ فَأَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّحَرِّي إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ جَائِزَةٌ فَالسَّجْدَةُ أَوْلَى وَلَوْ تَلَاهَا على الرَّاحِلَةِ وهو مُسَافِرٌ أو تَلَاهَا على الْأَرْضِ وهو مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْإِيمَاءُ على الرَّاحِلَةِ وهو قَوْلُ بِشْرٍ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا على الرَّاحِلَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ كَالنَّذْرِ فإن الرَّاكِبَ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لم يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُمَا على الدَّابَّةِ من غَيْرِ عُذْرٍ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ التِّلَاوَةَ أَمْرٌ دَائِمٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ في اشْتِرَاطِ النُّزُولِ حَرَجٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَالنَّذْرِ وما وَجَبَ من السَّجْدَةِ في الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ على الدَّابَّةِ وما وَجَبَ على الدَّابَّةِ يَجُوزُ على الْأَرْضِ لِأَنَّ ما وَجَبَ على الْأَرْضِ وَجَبَ تَامًّا فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِيمَاءِ الذي هو بَعْضُ السُّجُودِ فَأَمَّا ما وَجَبَ على الدَّابَّةِ وَجَبَ بِالْإِيمَاءِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً وهو رَاكِب فَأَوْمَأَ بها إيمَاءً
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سمع سجد ( ( ( سجدة ) ) ) وهو رَاكِبٌ قال فَلْيُومِ
____________________

(1/186)


إيمَاءً وإذا وَجَبَ الْإِيمَاءُ فإذا نَزَلَ وَأَدَّاهَا على الْأَرْضِ فَقَدْ أَدَّاهَا تَامَّةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ كما في الصَّلَاةِ على ما مَرَّ وَلَوْ تَلَاهَا على الدَّابَّةِ فَنَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَدَّاهَا بِالْإِيمَاءِ جَازَ إلَّا على قَوْلِ زُفَرَ هو يقول لَمَّا نَزَلَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا على الْأَرْضِ فَصَارَ كما لو تَلَاهَا على الْأَرْضِ
وَلَنَا أَنَّهُ لو أَدَّاهَا قبل نُزُولِهِ بِالْإِيمَاءِ جَازَ فَكَذَلِكَ بعدما نَزَلَ وَرَكِبَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِالْإِيمَاءِ في الْوَجْهَيْنِ جميعا وقد وَجَبَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كما لو افْتَتَحَ الصَّلَاةَ في وَقْتٍ مَكْرُوهٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ قَضَاهَا في وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ أجزأه ( ( ( وأجزأه ) ) ) لِأَنَّهُ أَدَّاهَا على الْوَصْفِ الذي وَجَبَتْ كَذَا هذا وَكَذَا يُشْتَرَطُ لها سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِمَا قُلْنَا وَيُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَا الْوَقْتُ حتى لو تَلَاهَا أو سَمِعَهَا في وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَأَدَّاهَا في وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا تُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ كَالصَّلَاةِ وَلَوْ تَلَاهَا في وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَسَجَدَهَا فيه أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كما وَجَبَتْ وَإِنْ لم يَسْجُدْهَا في ذلك الْوَقْتِ وَسَجَدَهَا في وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كما وَجَبَتْ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا نَاقِصَةً كما في الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لها التَّحْرِيمَةُ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ولم تُوجَدْ وَكَذَلِكَ كُلُّ ما يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا من الْحَدَثِ وَالْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لها وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كما لو وُجِدَتْ في سَجْدَةِ الصَّلَاةِ
وَقِيلَ هذا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِتَمَامِ الرُّكْنِ وهو الرَّفْعُ ولم يَحْصُلْ بَعْدُ
فَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَقَدْ حَصَلَ الْوَضْعُ قبل هذه الْعَوَارِضِ وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُ لِلْوَضْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُفْسِدَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عليه في الْقَهْقَهَةِ فيها لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَكَذَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فيها لَا تُفْسِدُ عليه السَّجْدَةَ وَإِنْ نَوَى إمَامَتَهَا لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ وهي مَبْنِيَّةٌ على التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ لِهَذِهِ السَّجْدَةِ وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مُفْسِدَةً بِأَمْرِ الشَّرْعِ بِتَأْخِيرِهَا وَالْأَمْرُ وَرَدَ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فلم تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فيها مُفْسِدَةً كما في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ أَدَائِهَا فما تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا في الصَّلَاةِ وكذلك ما تَلَا في الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ ما وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ما وَجَبَ حُكْمًا لِفِعْلٍ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِخُرُوجِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ عن أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فإذا أَدَّاهَا في الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْخَلَ في الصَّلَاةِ ما ليس منها فَهِيَ وَإِنْ لم تَفْسُدْ لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ تَنْتَقِصُ لِإِدْخَالِهِ فيها ما ليس منها لِأَنَّ الزَّائِدَ الدَّاخِلَ فيها لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ نَظْمَهَا وَيَمْنَعَ وَصْلَ فِعْلٍ بِفِعْلٍ وإذا ( ( ( وذا ) ) ) تَرَكَ الْوَاجِبَ فَصَارَ المؤدي مَنْهِيًّا عنه وهو وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ على طريق ( ( ( وجه ) ) ) الْكَمَالِ فَلَا يَسْقُطُ بِأَدَائِهِ على وَجْهٍ يَكُونُ مَنْهِيًّا عنه وَأَمَّا ما تَلَا في الصَّلَاةِ فَقَدْ صَارَ فِعْلًا من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ حُكْمًا لِمَا هو من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وهو الْقِرَاءَةُ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ في الصَّلَاةِ فَلَا يُوجِبُ نَقْصًا فيها وَأَدَاءُ لما هو من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَنْ يُتَصَوَّرَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا في صَلَاةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ ليس من أَفْعَالِ هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس بِحُكْمٍ لِقِرَاءَةِ هذه الصَّلَاةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُ فَسَقَطَ
إذَا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إذَا قَرَأَ الرَّجُلُ آيَةَ السَّجْدَةِ في الصَّلَاةِ وهو إمَامٌ أو مُنْفَرِدٌ فلم يَسْجُدْهَا حتى سَلَّمَ وَخَرَجَ من الصَّلَاةِ سَقَطَتْ عنه لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو سَمِعَهَا في صَلَاتِهِ مِمَّنْ ليس معه في الصَّلَاةِ لم يَسْجُدْهَا في الصَّلَاةِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ سَجَدَهَا فيها كان مُسِيئًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا تَسْقُطُ عنه السَّجْدَةُ لَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أنها تَفْسُدُ لِأَنَّ هذه السَّجْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ في نَفْسِهَا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ فَكَانَ إدْخَالُهَا في الصَّلَاةِ رَفْضًا لها
وَلَنَا أَنَّ هذه زِيَادَةً من جِنْسِ ما هو مَشْرُوعٌ في الصَّلَاةِ وهو دُونَ الرَّكْعَةِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ كما لو سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً في الصَّلَاةِ تَطَوُّعًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ ما إذَا قَرَأَ الْمُقْتَدِي آيَةَ السَّجْدَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَمِعَهَا الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ
فَنَقُولُ أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْمُقْتَدِي أَنْ يَسْجُدَهَا في الصَّلَاةِ وَكَذَا على الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ لِأَنَّهُ لو سَجَدَ بِنَفْسِهِ إذَا خَافَتَ فَقَدْ انْفَرَدَ عن إمَامِهِ فَصَارَ مُخْتَلِفًا عليه
وَلَوْ سَجَدُوا لِسَمَاعِ تِلَاوَتِهِ إذَا جَهَرَ بِهِ لَانْقَلَبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا لِأَنَّ التَّالِيَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لِلسَّامِعِينَ وفي حَقِّ بَقِيَّةِ الْمُقْتَدِينَ تَصِيرُ صَلَاتُهُمْ بِإِمَامَيْنِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا مَقَامَ الْآخَرِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا يَسْجُدُونَ أَيْضًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يَسْجُدُونَ وَلَوْ سَمِعُوا مِمَّنْ ليس في صَلَاتِهِمْ لَا يَسْجُدُونَ في الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ
____________________

(1/187)


بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ سمع من الْمُقْتَدِي من ليس في صَلَاتِهِ يَسْجُدُ وكذا ذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَقِيبَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّبَبَ قد تَحَقَّقَ وهو التِّلَاوَةُ الصَّحِيحَةُ في حَقِّ الْمُؤْتَمِّ وَسَمَاعُهَا في حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَلِهَذَا يَجِبُ على من سمع منه وهو ليس في صَلَاتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ الْأَدَاءُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ لَيْسَتْ من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ من الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عليهم الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ كما إذَا سَمِعُوا مِمَّنْ ليس في صَلَاتِهِمْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ على الْأَدَاءِ وَهُمْ يَعْجِزُونَ عن أَدَائِهَا لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ في الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ لِأَنَّ هذه السَّجْدَةَ من أَفْعَالِ هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ التِّلَاوَةِ وَتِلَاوَةُ الْمُقْتَدِي مَحْسُوبَةٌ من صَلَاتِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْقِرَاءَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ عنه هذه الْقِرَاءَةَ فإذا أَدَّى بِنَفْسِهِ ما يَتَحَمَّلُ عنه غَيْرُهُ وَقَعَ مَوْقِعَهُ فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ مَحْسُوبَةً من هذه الصَّلَاةِ فَصَارَ ما هو حُكْمِ هذه الْقِرَاءَةِ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ من أَفْعَالِ هذه الصَّلَاةِ وإذا صَارَتْ في حَقِّ التَّالِي من أَفْعَالِ هذه الصَّلَاةِ صَارَتْ في حَقِّ الْكُلِّ من أَفْعَالِ هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ على أنها جُعِلَتْ من أُنَاسٍ مُخْتَلِفِينَ عِنْدَ اتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ كَالْمَوْجُودَةِ من شَخْصٍ وَاحِدٍ لِحُصُولِ ثَمَرَاتِ الْقِرَاءَةِ بِالسَّمَاعِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْقِرَاءَةُ الْمَوْجُودَةُ من الْإِمَامِ كَالْقِرَاءَةِ الْمَوْجُودَةِ من الْكُلِّ بِخِلَافِ غَيْرِهَا من الْأَرْكَانِ
وَقِيَاسُ هذه النُّكْتَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ لو لم يَقْرَأْ كانت هذه الْقِرَاءَةُ قِرَاءَةً لِلْكُلِّ في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ ذلك لم يُمْكِنْ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعُ تَبَعًا فَبَقِيَتْ في حَقِّ كَوْنِهَا من الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً في حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ في حَقِّ الْكُلِّ وإذا صَارَتْ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ وَمَنْ سَلَكَ هذه الطَّرِيقَةَ يقول تَجِبُ السجدة على من سمع هذه التِّلَاوَةَ من الْمُقْتَدِي مِمَّنْ لَا يُشَارِكُهُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ في حَقِّهِ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ
وَبِخِلَافِ ما إذَا سمع الْمُصَلِّي مِمَّنْ ليس معه في الصَّلَاةِ حَيْثُ يَسْجُدُ خَارِجَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّجْدَةَ وَجَبَتْ عليه وَلَيْسَتْ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ تِلْكَ التِّلَاوَةِ لَيْسَتْ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّالِي في الصَّلَاةِ وَالْوُجُوبُ عليه بِسَبَبِ سَمَاعِهِ وَالسَّمَاعُ ليس من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وإذا لم يَكُنْ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيُؤَدَّى
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال إنَّ هذه الْقِرَاءَةَ مَنْهِيٌّ عنها فَلَا يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ يُؤْمَرُ بِهِ
بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ حَيْثُ يُوجِبُ السَّجْدَةَ على من سَمِعَهَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ وَبِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِأَنَّهُمَا لم يُنْهِيَا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ دُونَ الْآيَةِ وَهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ عن تِلَاوَةِ ما دُونَ الْآيَةِ أَمَّا الْمُقْتَدِي فَهُوَ مَنْهِيٌّ عن قِرَاءَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مَنْهِيًّا عن قَدْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فلم يَجِبْ أو نَقُولُ أن الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عليه في حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِدَلِيلِ نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عليه وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ لَا يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ وَمَنْ سَلَكَ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ يقول لَا تَجِبُ السَّجْدَةُ على السَّامِعِ الذي لَا يُشَارِكُهُمْ في الصَّلَاةِ أَيْضًا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا فَإِنْ كان تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ يُؤَدِّيهَا على نَعْتِ سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان تَلَا في الصَّلَاةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا على هَيْئَةِ السَّجَدَاتِ أَيْضًا كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ ثُمَّ قام وَقَرَأَ وَرَكَعَ حَصَلَتْ له قُرْبَتَانِ وَلَوْ رَكَعَ تَحْصُلُ له قُرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لأنه ( ( ( ولأنه ) ) ) لو سَجَدَ لَأَدَّى الْوَاجِبَ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَلَوْ رَكَعَ لَأَدَّاهُ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ
ثُمَّ إذَا سَجَدَ وَقَامَ يُكْرَهُ له أَنْ يَرْكَعَ كما رَفَعَ رَأْسَهُ سَوَاءٌ كانت آيَةُ السَّجْدَةِ في وَسَطِ السورة ( ( ( الصورة ) ) ) أو عِنْدَ خَتْمِهَا أو بَقِيَ بَعْدَهَا إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أو ثَلَاثِ آيَاتٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا لِلرُّكُوعِ على السُّجُودِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ ثُمَّ يَرْكَعَ فَيَنْظُرَ إنْ كانت آيَةُ السَّجْدَةِ في وَسَطِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ السُّورَةَ ثُمَّ يَرْكَعَ وَإِنْ كانت عِنْدَ خَتْمِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ آيَاتٍ من سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يَرْكَعَ وَإِنْ كان بَقِيَ منها إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أو ثَلَاثِ آيَاتٍ كما في سُورَةِ { بَنِي إسْرَائِيلَ } وَسُورَةِ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ بَقِيَّةَ السُّورَةِ ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْبَاقِيَ من خَاتِمَةِ السُّورَةِ دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ كيلا يَكُونَ بانيا ( ( ( باقيا ) ) ) لِلرُّكُوعِ على السُّجُودِ فَلَوْ لم يَفْعَلْ ذلك وَلَكِنَّهُ يرفع ( ( ( ركع ) ) ) كما رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ
____________________

(1/188)


أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْقِرَاءَةِ قبل السَّجْدَةِ
وَلَوْ لم يَأْتِ بها على هَيْئَةِ السَّجْدَةِ وَلَكِنَّهُ رَكَعَ بها ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ سَوَاءٌ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ قال وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَإِنَّمَا أَخَذَ أَصْحَابُنَا بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ ما بين الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ما ظَهَرَ من الْمَعَانِي فَهُوَ قِيَاسٌ وما خَفِيَ منها فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَلَا يُرَجَّحُ الْخَفِيُّ لِخَفَائِهِ وَلَا الظَّاهِرُ لِظُهُورِهِ فَيُرْجَعُ في طَلَبِ الرُّجْحَانِ إلَى ما اقْتَرَنَ بِهِمَا من الْمَعَانِي فَمَتَى قَوِيَ الْخَفِيُّ أَخَذُوا بِهِ وَمَتَى قَوِيَ الظَّاهِرُ أَخَذُوا بِهِ وَهَهُنَا قَوِيَ دَلِيلُ الْقِيَاسِ على ما نَذْكُرُ فَأَخَذُوا بِهِ
ثُمَّ إنَّ مَشَايِخَنَا اخْتَلَفُوا في مَحَلِّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنَّ الرُّكُوعَ هو الْقَائِمُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَحِلُّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ هذا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَقُومَ الرُّكُوعُ مقامها ( ( ( مقامهما ) ) ) وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَقُومُ
وقال بَعْضُهُمْ مَحَلُّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا في غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ في الْقِيَاسِ يُجْزِئُهُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِئُهُ وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ بَلْ لَا يُجْزِئُهُ ذلك قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الرُّكُوعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ لم يُجْعَلْ قُرْبَةً فَلَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقُرْبَةِ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الإمام الزاهد صَدْرُ الدِّينِ أبو الْمُعِينِ رحمه الله تعالى وقال رأيت في فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ بِخَطِّ الشَّيْخِ أبي عبد اللَّهِ الْحَدِيدِيِّ عن مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ قال السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ هِيَ التي تَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لَا الرُّكُوعِ فَكَانَ الْقِيَاسُ على قَوْلِهِ أَنْ تَقُومَ الصُّلْبِيَّةُ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقُومُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّحْقِيقَ لِكَوْنِ الْجَوَازِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَعَدَمُ الْجَوَازِ في الِاسْتِحْسَانِ لَنْ يُتَصَوَّرَ إلَّا على هذا فإن الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ السَّجْدَةُ وقد وُجِدَتْ وَسُقُوطُ ما وَجَبَ من السَّجْدَةِ بِالسَّجْدَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ قِيَاسًا وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ السَّجْدَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ نَفْسِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا كَصَوْمِ يَوْمٍ من رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عن نَفْسِهِ وَعَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ آخَرَ عليه فَكَذَا هذا
وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ أَظْهَرُ وَدَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ أخفى ( ( ( أأخفى ) ) ) لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بين الشَّيْئَيْنِ من نَوْعٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لِمَعْنًى من الْمَعَانِي أَمْرٌ خَفِيٌّ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ وَالتَّفْرِقَةَ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَالْعِلْمُ بِذَاتِ ما يُعَايَنُ أَظْهَرُ من الْعِلْمِ بِوَصْفِهِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ بِالْحِسِّ وَبِالْمَعْنَى بِالْعَقْلِ عَقِيبَ التَّأَمُّلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك أَظْهَرُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِكَوْنِ الْجَوَازِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ بِالِاسْتِحْسَانِ مُمْكِنٌ من هذا الْوَجْهِ
وأما لو كان الْكَلَامُ في قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى الْجَوَازَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مع السُّجُودِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا فَلَوْ ثَبَتَ بَيْنَهُمَا مُسَاوَاةٌ لَثَبَتَ من الْمَعْنَى فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ إقَامَةِ أَحَدِهِمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ من تَوَابِعِ الذَّاتِ وَالْعِلْمُ بِهِ ظَاهِرٌ وَجَوَازُ الْقِيَامِ من تَوَابِعِ الْمَعْنَى وَالْعِلْمُ بِهِ خَفِيٌّ فإذا كانت قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقَضِيَّةُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَجُوزَ وَجَوَابُ الْكِتَابِ على الْقَلْبِ من هذا فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ ما ذَكَرْنَا وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ لَا بَلْ الرُّكُوعُ هو الْقَائِمُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في الْكِتَابِ فإنه قال في الْكِتَابِ قُلْت فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا هل يُجْزِئُهُ ذلك قال أَمَّا في الْقِيَاسِ فَالرَّكْعَةُ في ذلك وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ ذلك صَلَاةٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَخَرّ رَاكِعًا } وَتَفْسِيرُهَا خَرَّ سَاجِدًا فَالرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ في الْقِيَاسِ وَأَمَّا في الِاسْتِحْسَانِ يَنْبَغِي له أَنْ يَسْجُدَ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَهَذَا كُلُّهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ما بَيَّنَّا وما قَالَهُ محمد بن سَلَمَةَ خِلَافَ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي وإذا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ في الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ لها وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لها يَعْنِي إنْ شَاءَ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لها ذَكَرَ هذا التَّفْسِيرَ أبو يُوسُفَ في الأمالي ( ( ( الإملاء ) ) ) عن أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرَهُ محمد أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ فَكَانَا في حَقِّ حُصُولِ التَّعْظِيمِ بِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا اقْتِدَاءً بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِمَّا مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عن تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الظَّاهِرُ هو الْجَوَازُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ هو التَّعْظِيمُ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ السُّجُودُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو لم يَرْكَعْ على الْفَوْرِ حتى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ نَوَى بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقَعَ عن السَّجْدَةِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لو تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ وَرَكَعَ ولم يَسْجُدْ لَا يَخْرُجُ عن الْوَاجِبِ كَذَا هَهُنَا
ثُمَّ أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وعبد الله بن عمر رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا
____________________

(1/189)


كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عن السُّجُودِ في الصَّلَاةِ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَكَانَ ذلك بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى ما بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ هو التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وقد وُجِدَ التَّعْظِيمُ وَهَذَا لِأَنَّ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمَ له بِالرُّكُوعِ لَيْسَا بِأَدْوَنَ من الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ له بِالسُّجُودِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى السُّجُودِ لِعَيْنِهِ بَلْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عن تَعْظِيمِهِ أو اقْتِدَاءً بِمَنْ خَضَعَ له وَأَذْعَنَ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَاعْتَرَفَ على نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وقد حَصَلَتْ هذه الْمَعَانِي بِالرُّكُوعِ حَسَبَ حُصُولِهَا بِالسُّجُودِ
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنَّهُ لو رَكَعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَكَانَ السُّجُودِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا غير أَنَّهُ لم يَجُزْ لَا لِمَكَانِ أَنَّ الرُّكُوعَ أَدْوَنُ من السُّجُودِ وَلَكِنْ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لم يُجْعَلْ عِبَادَةً يُتَقَرَّبُ بها إلَى اللَّهِ تَعَالَى إذا انْفَرَدَ عن تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودُ جُعِلَ عِبَادَةً بِدُونِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذلك شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فإذا لم تُوجَدْ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ لم يَكُنْ الرُّكُوعُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ التَّعْظِيمُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ اللَّذَانِ وَجَبَا بِالتِّلَاوَةِ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ وَبِخِلَافِ ما إذَا رَكَعَ مَكَانَ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ عَيْنُ السَّجْدَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا من حَيْثُ الصُّورَةِ مَقَامَهَا
وَبَيَانُ هذا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ اشْتَمَلَتْ على أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ من التَّقَلُّبِ في الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَفَاصِلِ السَّلِيمَةِ وَبِالرُّكُوعِ لَا يَحْصُلُ شُكْرُ حَالَةِ السُّجُودِ فَيَتَعَلَّقُ ذلك بِعَيْنِ السُّجُودِ لَا بِمَا يُوَازِيهِ في كَوْنِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ وَبِخِلَافِ ما إذَا لم يَرْكَعْ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ ولم يَسْجُدْ حتى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى الرُّكُوعَ عن السَّجْدَةِ حَيْثُ لم يَجُزْ لِأَنَّهَا تَجِبُ في الصَّلَاةِ مُضَيَّقًا لِأَنَّهَا لِوُجُوبِهَا بِمَا هو من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا في الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فيها نُقْصَانًا ما فيها وَتَحْصِيلُ ما ليس من الصَّلَاةِ فيها إنْ لم يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبْ نَقْصًا وَلِهَذَا لَا تؤدي بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ لو تَرَكَ أَدَاءَهَا في الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ جزأ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ أداؤهما ( ( ( أداؤها ) ) ) إلا بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ
وَمَبْنَى أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَنْ يؤدي كُلُّ فِعْلٍ منها في مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَكَذَا هذه وإذا لم تُؤَدَّ في مَحَلِّهَا حتى فَاتَ صَارَ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا له لَا بِمَا عليه وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عليه فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَصِرْ دَيْنًا بَعْدُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ وقد وُجِدَ فيكتفي بِذَلِكَ كَدَاخِلِ الْمَسْجِدِ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ نَابَ ذلك مَنَابَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِحُصُولِ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَالْمُعْتَكِفِ في رَمَضَانَ إذَا صَامَ عن رَمَضَانَ وكان أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرَ رَمَضَانَ على نَفْسِهِ كان ذلك كَافِيًا عن صَوْمٍ هو شَرْطُ الِاعْتِكَافِ وَبِمِثْلِهِ لو أَوْجَبَ على نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَعْبَانَ فلم يَعْتَكِفْ حتى دخل رَمَضَانُ فَاعْتَكَفَ لَا يَنُوبُ ذلك عَمَّا وَجَبَ عليه من الصَّوْمِ الذي هو شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ ذلك صَارَ دَيْنًا عليه حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا هو له لِمَنْ هو عليه لَا بِمَا عليه فَكَذَا هذا
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يوم الْجُمُعَةِ فلم يُصَلِّ حتى مَضَى يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُقَالُ أَنَّ الْوُضُوءَ الذي هو شَرْطُ صِحَّةِ هذه الْعِبَادَةِ وَجَبَ عليه بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ بِالْفَوَاتِ عن الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ صَارَ دَيْنًا عليه وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا له لَا بِمَا عليه أو فَاتَتْهُ فَرِيضَةٌ عن وَقْتِهَا فَأَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ لِلتَّبَرُّدِ أو لِلتَّعْلِيمِ جَازَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوُضُوءُ شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَلَيْسَ هو مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فلم يَصِرْ بِفَوَاتِهِ عن مَحَلِّهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ بَقِيَ في نَفْسِهِ عن عِبَادَةٍ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْأَهْلِيَّةِ لِأَدَاءِ ما عليه وقد حَصَلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كان فَأَمَّا السَّجْدَةُ وَالصَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فإذا فَاتَا عن الْمَحَلِّ وَوَجَبَا صَارَا حَقَّيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا بِمَا عليه
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا فَاتَتْ السَّجْدَةُ عن مَحَلِّهَا في الصَّلَاةِ وَصَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ فَرَكَعَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ السَّجْدَةِ الْفَائِتَةِ أَنَّهُ لم يَجُزْ وَإِنْ حَصَلَ الرُّكُوعُ في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وهو فيها مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّه تَعَالَى وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبُ عليه هذا الْقَدْرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لم يُعْرَفْ قُرْبَةً في الشَّرِيعَةِ في غَيْرِ مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فما أَمْكَنَنَا جَعْلُهُ قُرْبَةً فلم يَحْصُلْ بِهِ التَّعْظِيمُ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ فَإِنَّهَا عُرِفَتْ قُرْبَةً في غَيْرِ مَحَلِّهَا الذي تَكُونُ فيه وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بها النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ في الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ السَّهْوِ وَلَا يَنْجَبِرُ
____________________

(1/190)


بِالرُّكُوعِ
ثُمَّ إذَا رَكَعَ قبل أَنْ يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ هل تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِقِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَقِيَاسُ ما ذَكَرْنَا من النُّكْتَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَحْصِيلِ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ في هذه الْحَالَةِ وقد وُجِدَا نَوَى أو لم يَنْوِ كَالْمُعْتَكِفِ في رَمَضَانَ إذَا لم يَنْوِ بِصِيَامِهِ عن الِاعْتِكَافِ وَاَلَّذِي دخل الْمَسْجِدَ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ غير نَاوٍ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال يُحْتَاجُ هَهُنَا إلَى النِّيَّةِ وَيَدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا أَشَارَ إلَيْهِ فإنه قال إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ في الرُّكُوعِ يَخِرُّ سَاجِدًا فَيَسْجُدُ كما نذكر ( ( ( تذكر ) ) ) ثُمَّ يَقُومُ فَيَعُودُ إلَى الرُّكُوعِ ولم يَفْصِلْ بين أَنْ يَكُونَ الرُّكُوعُ الذي تَذَكَّرَ فيه التِّلَاوَةَ كان عَقِيبَ التِّلَاوَةِ بِلَا فَصْلٍ أو تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ
وَلَوْ كان الرُّكُوعُ مِمَّا يَنُوبُ عن السَّجْدَةِ من غَيْرِ نِيَّةٍ لَكَانَ لَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ بَلْ قام نَفْسُ الرُّكُوعِ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ ليس في هذه الْمَسْأَلَةِ كَثِيرُ إشَارَةٍ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَ بين التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ ما يُوجِبُ صَيْرُورَةَ السَّجْدَةِ دَيْنًا لِأَنَّهُ قال تَذَكَّرَ سَجْدَةً وَالتَّذَكُّرُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّسْيَانِ وَالنِّسْيَانُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بين التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ مُمْتَنِعٌ أو نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْبَنِي عليه حُكْمٌ
ثُمَّ يَحْتَاجُ هذا الْقَائِلُ إلَى الْفَرْقِ بين هذا وَبَيْنَ الْمُعْتَكِفِ في رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَ صَوْمِهِ شَرْطًا لِلِاعْتِكَافِ لِحُصُولِ ما هو الْمَقْصُودُ وَكَذَا الذي دخل الْمَسْجِدَ وَأَدَّى الْفَرْضَ كما دخل فَاشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فقال الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ هَهُنَا هو السُّجُودُ إلَّا أَنَّ الرُّكُوعَ أُقِيمَ مَقَامَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَبَيْنَهُمَا من حَيْثُ الصُّورَةُ فَرْقٌ فَلِمُوَافَقَةِ الْمَعْنَى تَتَأَدَّى السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ إذَا نَوَى وَلِمُخَالَفَةِ الصُّورَةِ لَا تَتَأَدَّى إذَا لم يَنْوِ بِخِلَافِ صَوْمِ الشَّهْرِ فإن بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ مُوَافَقَةً من جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَكَذَا في الصَّلَاةِ وَلَكِنَّ هذا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ من حَيْثُ الصُّورَةِ إنْ كان لها عِبْرَةٌ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ وَإِنْ نَوَى فإن من نَوَى إقَامَةَ غَيْرِ ما وَجَبَ عليه مَقَامَ ما وَجَبَ لَا يَقُومُ إذَا كان بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ وَإِنْ لم يَكُنْ لها عِبْرَةٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كما في الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَعُذْرُ الصَّوْمِ ليس بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ بين الصَّوْمَيْنِ مُخَالَفَةً من حَيْثُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
وَلِهَذَا قال هذا الْقَائِلُ أنه لو لم يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ولم يَقُمْ يَحْتَاجُ في السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ إلَى أَنْ يَنْوِيَ أَيْضًا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةً لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْ وُجُوبِهِمَا فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِمُسْتَقِيمٍ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الاسبيجابي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَلَوْ لم يُوجَدْ منه النِّيَّةُ عِنْدَ الرُّكُوعِ لَا يُجْزِئُهُ وَلَوْ نَوَى في الرُّكُوعِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ وَلَوْ نَوَى بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
هذا الذي ذَكَرْنَا في قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ فِيمَا إذَا لم تَطُلْ الْقِرَاءَةُ بين آيَةِ السَّجْدَةِ وَبَيْنَ الرُّكُوعِ فَأَمَّا إذَا طَالَ فَقَدْ فَاتَتْ السَّجْدَةُ وَصَارَتْ دَيْنًا فَلَا يَقُومُ الرُّكُوعُ مَقَامَهَا وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا لم يُقَدِّرُوا في ذلك تَقْدِيرًا فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فَوَّضُوا ذلك إلَى رَأْي الْمُجْتَهِدِ كما فَعَلُوا في كَثِيرٍ من الْمَوَاضِعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا إنْ قَرَأَ آيَةً أو آيَتَيْنِ لم تَطُلْ الْقِرَاءَةُ وَإِنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ طَالَتْ وَصَارَتْ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ
ثُمَّ أنه نَاقَضَ فإنه قال لو لم يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَنَوَى بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ قام وَلَا شَكَّ أَنَّ مُدَّةَ أَدَاءِ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسَ من الرُّكُوعِ وَالِانْحِطَاطِ إلَى السُّجُودِ يَكُونُ مِثْلَ مُدَّةِ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ وَكَذَا إنْ كانت تِلْكَ قِرَاءَةً مُعْتَبَرَةً فَالرُّكُوعُ رُكْنٌ مُعْتَبَرٌ
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُفَوِّضَ ذلك إلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِد أو يَعْتَبِرَ ما يُعَدُّ طَوِيلًا
على أَنْ يجعل ( ( ( جعل ) ) ) ثَلَاثَ آيَاتٍ قَاطِعَةً لِلْفَوْرِ وَإِدْخَالُهَا في حَدِّ الطُّولِ خِلَافُ الرِّوَايَةِ فإن مُحَمَّدًا ذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ
قلت أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وهو في الصَّلَاةِ وَالسَّجْدَةُ في آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِيَتْ من السُّورَةِ بَعْدَ آيَةِ السَّجْدَةِ قال هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَكَعَ بها وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بها
قُلْت فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بها خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ بها وقال ( ( ( قال ) ) ) نعم
قُلْت فإذا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ بها عِنْدَ الْفَرَاغِ من السَّجْدَةِ ثُمَّ يَقُومَ فَيَتْلُوَ ما بَعْدَهَا من السُّورَةِ وهو آيَتَانِ أو ثَلَاثٌ ثُمَّ يَرْكَعَ قال نعم إنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى وَهَذَا نَصٌّ على أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَيْسَتْ بِقَاطِعَةٍ لِلْفَوْرِ وَلَا بِمُدْخِلَةٍ لِلسَّجْدَةِ في حَيِّزِ الْقَضَاءِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فما وَجَبَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا جَمِيعُ الْعُمُرِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا على التَّرَاخِي على ما مَرَّ وَأَمَّا ما وَجَبَ أَدَاؤُهَا في الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا فَوْرُ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ وُجُوبَهَا في الصَّلَاةِ على الْفَوْرِ وهو أَنْ
____________________

(1/191)


لَا تَطُولَ الْمُدَّةُ بين التِّلَاوَةِ وَبَيْنَ السَّجْدَةِ فَأَمَّا إذَا طَالَتْ فَقَدْ دَخَلَتْ في حَيِّزِ الْقَضَاءِ وَصَارَ آثِمًا بِالتَّفْوِيتِ عن الْوَقْتِ ثُمَّ الْأَمْرُ في مِقْدَارِ الطُّولِ على ما ذَكَرْنَا من اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُ السُّجُودِ فَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من السُّجُودِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِلِانْتِقَالِ من الرُّكْنِ ولم يُوجَدْ ذلك عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَوُجِدَ عِنْدَ الرَّفْعِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قال لِلتَّالِي إذَا قَرَأْت سَجْدَةً فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ وإذا رَفَعْت رَأْسَك فَكَبِّرْ وَلَوْ تَرَكَ التَّحْرِيمَةَ يَجُوزُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا رُكْنٌ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ كَالْقِيَامِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
لا ( ( ( ألا ) ) ) تَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَمِيعُ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ من سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَحُرْمَةُ ما وَرَاءَهَا من الْأَفْعَالِ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ السُّجُودِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا شيئا آخَرَ لَزِدْنَا على النَّصِّ وَلِأَنَّ السُّجُودَ وَجَبَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعًا له وَتَرْكُ التَّحْرِيمَةِ ليس بِمُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ وَأَمَّا انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ وَالتَّكَلُّمُ بِمَا هو من كَلَامِ الناس فَيُنَافِي التَّعْظِيمَ وَالْخُشُوعَ وَحُرْمَةُ الْكَلَامِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ مع الْكَلَامِ لِانْعِدَامِ ما هو الْمَقْصُودُ وَلِأَنَّ السُّجُودَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عِبَادَةً وَاحِدَةً وَهَهُنَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيمَةِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ على ما يُعْرَفُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ في هذه السَّجْدَةِ من التَّسْبِيحِ ما يقول في سَجْدَةِ الصَّلَاةِ فيقول سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ
وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يقوله ( ( ( يقول ) ) ) فيها { سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كان وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا } الْآيَةَ
وَاسْتَحَبُّوا أَيْضًا أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ لِأَنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ من الْقِيَامِ وَالْقُرْآنُ وَرَدَ بِهِ وَإِنْ لم يَفْعَلْ لم يَضُرَّهُ
وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَسَمِعُوهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْجُدُوا معه لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ لِأَنَّ التَّالِيَ أمام السَّامِعِينَ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِلتَّالِي كُنْتَ إمَامَنَا لو سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا مَعَكَ وَإِنْ فَعَلُوا أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَسَدَتْ سَجْدَتُهُ بِسَبَبٍ لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِمْ
وَلَا تَشَهُّدَ في هذه السَّجْدَةِ وَكَذَا لَا تَسْلِيمَ فيها لِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمَةَ عِنْدَنَا فَلَا يُعْقَلُ التَّحْلِيلُ وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُسَلِّمُ لِلْخُرُوجِ عن التَّحْرِيمَةِ وَيُكْرَه لِلرَّجُلِ تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ من سُورَةٍ يقرأها ( ( ( يقرؤها ) ) ) لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرٌ لِتَأْلِيفِهِ وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { فإذا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أَيْ تَأْلِيفَهُ فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا وَلِأَنَّهُ في صُورَةِ الْفِرَارِ عن وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْإِعْرَاضِ عن تَحْصِيلِهَا بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَكَذَا فيه صُورَةُ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ من الْقُرْآنِ مَهْجُورًا
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ من بَيْنِ السُّورَةِ لم يَضُرَّهُ ذلك لِأَنَّهَا من الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ ما هو من الْقُرْآنِ طَاعَةٌ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ من بَيْنِ السُّوَرِ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِتَكُونَ أَدَلَّ على مُرَادِ الْآيَةِ وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إيجَابِ السَّجْدَةِ إذْ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إلَى التِّلَاوَةِ لَا إلَى إلْزَامِ السُّجُودِ
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَعِنْدَهُ نَاسٌ فَإِنْ كَانُوا مُتَوَضِّئِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِلسَّجْدَةِ قَرَأَهَا فَإِنْ كَانُوا غير مُتَهَيِّئِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفِضَ قِرَاءَتَهَا لِأَنَّهُ لو جَهَرَ بها لَصَارَ مُوجِبًا عليهم شيئا ربما ( ( ( بما ) ) ) يَتَكَاسَلُونَ عن أَدَائِهِ فَيَقَعُونَ في الْمَعْصِيَةِ
وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْلُوَ آيَةَ السَّجْدَةِ في صَلَاةٍ يُخَافَتُ فيها بِالْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال سَجَدَ بِنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ حتى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ ألم تنزيل السَّجْدَةِ وَلَوْ كان مَكْرُوهًا لَمَا فَعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلَنَا أن هذا لَا يَنْفَكُّ عن أَمْرٍ مَكْرُوهٍ لِأَنَّهُ إذَا تَلَا ولم يَسْجُدْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ وَإِنْ سَجَدَ فَقَدْ لَبَّسَ على الْقَوْمِ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَهَا عن الرُّكُوعِ وَاشْتَغَلَ بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَيُسَبِّحُونَ وَلَا يُتَابِعُونَهُ وَذَا مَكْرُوهٌ وما لَا يَنْفَكُّ عن مَكْرُوهٍ كان مَكْرُوهًا وَفِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَحْمُولٌ على بَيَانِ الْجَوَازِ فلم يَكُنْ مَكْرُوهًا وَإِنْ تَلَاهَا مع ذلك سَجَدَ بها لِتُقَرَّ وَالسَّبَبِ في حَقِّهِ وهو التِّلَاوَةُ وَسَجَدَ الْقَوْمُ معه لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عليهم
أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَجَدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَسَجَدَ الْقَوْمُ معه
وَلَوْ
____________________

(1/192)


تَلَاهَا الْإِمَامُ على الْمِنْبَرِ يوم الْجُمُعَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ معه من سَمِعَهَا
لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً على الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس معه وَفِيهِ دَلِيلٌ على أَنَّ السَّامِعَ يَتْبَعُ التَّالِيَ في السَّجْدَةِ
والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ في الْقُرْآنِ فَنَقُولُ إنَّهَا في أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا من الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ في آخِرِ الْأَعْرَافِ وفي الرَّعْدِ وفي النَّحْلِ وفي بَنِي إسْرَائِيلَ وَعَشْرٌ في النِّصْفِ الْآخَرِ في مَرْيَمَ وفي الْحَجِّ في الْأُولَى وفي الْفُرْقَانِ وفي النَّمْلِ وفي الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وفي ص وفي حم السَّجْدَةِ وفي النَّجْمِ وفي { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وفي { اقْرَأْ } وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ منها أَحَدُهَا أَنَّ في سُورَةِ الْحَجِّ عِنْدَنَا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَتَانِ في قَوْله تَعَالَى { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قال سُئِلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ قال نعم أو قال فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ من لم يَسْجُدْهُمَا لم يَقْرَأْهَا وَهَكَذَا روى عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أُبَيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَدَّ السَّجَدَاتِ التي سَمِعَهَا من رسول صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَدَّ في الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً
وقال عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ في الْحَجِّ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاة وهو تَأْوِيلُ الحديث
وَهَذَا لِأَنَّ السَّجْدَةَ مَتَى قُرِنَتْ بِالرُّكُوعِ كانت عِبَارَةً عن سَجْدَةِ الصَّلَاةِ كما في قَوْله تَعَالَى { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي } وَالثَّانِي أَنَّ في سُورَةِ ص عِنْدَنَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ الشُّكْرِ
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لو تَلَاهَا في الصَّلَاةِ سَجَدَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَسْجُدُهَا
واحتح ( ( ( واحتج ) ) ) بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ في ص وَسَجَدَهَا ثُمَّ قال سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا
وَرُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال قَرَأَ رسول صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمِنْبَرِ سُورَةَ ص فَنَزَلَ وَسَجَدَ الناس معه فلما كان في الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ قَرَأَهَا فَتَشَوَّفَ الناس لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس معه
وقال لم أُرِدْ أَنْ أَسْجُدَهَا فَإِنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ من الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا سَجَدْتُ لِأَنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَوَّفْتُمْ لِلسُّجُودِ
وَلَنَا حَدِيثُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَرَأَ في الصَّلَاةِ سُورَةَ ص وسجد وَسَجَدَ الناس معه وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ وَلَوْ لم تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ إدْخَالُهَا في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من الصَّحَابَةِ قال يا رَسُولَ اللَّهِ رأيت كما يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص فلما انْتَهَيْتُ إلَى مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَتْ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ
فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نَحْنُ أَحَقُّ بها من الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ فَأَمَرَ حتى تُلِيَتْ في مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مع أَصْحَابِهِ
وما تَعَلَّقَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ دَلِيلُنَا فَإِنَّا نَقُولُ نَحْنُ نَسْجُدُ ذلك شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ على دَاوُد بِالْغُفْرَانِ وَالْوَعْدِ بِالزُّلْفَى وَحُسْنِ الْمَآبِ
وَلِهَذَا لَا يُسْجَدُ عِنْدَنَا عَقِيبَ قَوْلِهِ وَأَنَابَ بَلْ عَقِيبَ قَوْلِهِ مَآبٍ
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ في حَقِّنَا فإنه يطعمنا ( ( ( يطمعنا ) ) ) في إقَالَةِ عَثَرَاتِنَا وَغُفْرَانِ خَطَايَانَا وَزَلَّاتِنَا فَكَانَتْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ ما كان سَبَبُهَا التِّلَاوَةَ وَسَبَبُ وُجُوبِ هذه السَّجْدَةِ تِلَاوَةُ هذه الْآيَةِ التي فيهاالإخبار عن هذه النِّعَمِ على دَاوُد عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَطْمَاعُنَا في نَيْلِ مِثْلِهِ
وَكَذَا سَجْدَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْجُمُعَةِ الْأُولَى وَتَرْكُ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِهَا يَدُلُّ على أنها سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ وَتَرْكُهُ في الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ على أنها لَيْسَتْ بِسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ بَلْ كان يُرِيدُ التَّأْخِيرَ وَهِيَ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ على الْفَوْرِ فَكَانَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَسْجُدَهَا على الْفَوْرِ وَالثَّالِثُ أَنَّ في الْمُفَصَّلِ عِنْدَنَا ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا سَجْدَةَ في الْمُفَصَّلِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَسْجُدْ في الْمُفَصَّلِ بَعْدَمَا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ أَنَّهُ قال اقرأني رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً ثَلَاثٌ منها في الْمُفَصَّلِ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال عَزَائِمُ السُّجُودِ في الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وحم السَّجْدَةِ وَالنَّجْمُ و { اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ ومعه ( ( ( معه ) ) ) الناس الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إلَّا شَيْخًا وَضَعَ كَفًّا من براب ( ( ( تراب ) ) ) على جَبْهَتِهِ
وقال هذا يَكْفِينِي فَلَقِيتُهُ قبل ( ( ( قتل ) ) ) كَافِرًا وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَرَأَ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فَسَجَدَ وَسَجَدَ معه أَصْحَابُهُ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ في سُورَةِ النَّجْمِ { اقرأ ( ( ( واقرأ ) ) ) بِاسْمِ رَبِّك } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مَحْمُولٌ على أَنَّهُ كان لَا يَسْجُدُهَا عَقِيبَ التِّلَاوَةِ كما كان يَسْجُدُ من قَبْلُ نَحْمِلُهُ على هذا بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا ثُمَّ في سُورَةِ حم السَّجْدَةِ عندناالسجدة عِنْدَ قَوْلِهِ { وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَوَائِلِ بن حُجْرٍ
____________________

(1/193)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وهو مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
هَكَذَا وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ هَهُنَا فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ
وَلَنَا أَنَّ السُّجُودَ مَرَّةٌ بِالْأَمْرِ وَمَرَّةٌ بِذِكْرِ اسْتِكْبَارِ الْكُفَّارِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ وَمَرَّةٌ عِنْدَ ذِكْرِ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ { وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أخذ ( ( ( أخذا ) ) ) بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن السَّجْدَةَ لو وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ { تَعْبُدُونَ } فَالتَّأْخِيرُ إلَى قَوْلِهِ { لَا يَسْأَمُونَ } لَا يَضُرُّ
وَيَخْرُجُ عن الْوَاجِبِ وَلَوْ وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ { لَا يَسْأَمُونَ } لَكَانَتْ السَّجْدَةُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَهُ حَاصِلَةً قبل وُجُوبِهَا وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَيُوجِبُ نُقْصَانًا في الصَّلَاةِ ولم يُؤَدِّ الثَّانِيَةَ فَيَصِيرُ الْمُصَلِّي تَارِكًا ما هو وَاجِبٌ في الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ النَّقْصُ مُتَمَكِّنًا في الصَّلَاةِ من وَجْهَيْنِ وَلَا نَقْصَ فِيمَا قُلْنَا البتة وَهَذَا هو إمارة التَّبَحُّرِ في الْفِقْهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي هو عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ فَلَفْظُ السَّلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْكَلَامُ في التَّسْلِيمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهِ أَنَّهُ فَرْضٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ قَدْرِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ سُنَنِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا صِفَتُهُ فَإِصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمِنْ الْمَشَايِخِ من أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ عليها وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ
حتى لو تَرَكَهَا عَامِدًا كان مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودٌ لِسَهْوٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمَا لو تَرَكَهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
احْتَجَّا بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ خَصَّ التَّسْلِيمَ بِكَوْنِهِ مُحَلِّلًا فَدَلَّ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالتَّسْلِيمِ على التَّعْيِينِ
فَلَا يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ لها تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَيَكُونُ التَّحْلِيلُ فيها رُكْنًا قِيَاسًا على الطَّوَافِ في الْحَجِّ
وَلَنَا ماروي عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِابْنِ مَسْعُودٍ حين عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ قَضَيْتَ ما عَلَيْكَ إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ
أَحَدِهِمَا أَنَّهُ جَعَلَهُ قَاضِيًا ما عليه عِنْدَ هذا الْفِعْلِ أو الْقَوْلِ وما لِلْعُمُومِ فميا ( ( ( فيما ) ) ) لايعلم فَيَقْضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا جَمِيعَ ما عليه وَلَوْ كان التَّسْلِيمُ فَرْضًا لم يَكُنْ قَاضِيًا جَمِيعَ ما عليه بِدُونِهِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَبْقَى عليه وَالثَّانِي أَنَّهُ خَيَّرَهُ بين الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ من غَيْرِ شَرْطِ لَفْظِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كان فَرْضًا ما خَيَّرَهُ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ ما تَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُرُوجٌ عن الصَّلَاةِ وَتَرْكٌ لها لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَخِطَابٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لها
وأماالحديث فَلَيْسَ فيه نَفْيُ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ التَّسْلِيمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا وَالِاعْتِبَارُ بِالطَّوَافِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الطَّوَافَ ليس بِمُحَلِّلٍ إنماالمحلل هو الْحَلْقُ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ بالاحلال على الطَّوَافِ فإذا طَافَ حَلَّ بِالْحَلْقِ لَا بِالطَّوَافِ وَالْحَلْقُ ليس بِرُكْنٍ فَنُزِّلَ السَّلَامُ في بَابِ الصَّلَاةِ مَنْزِلَةَ الْحَلْقِ في بَابِ الْحَجِّ وَيَنْبَنِي على هذا أَنَّ السَّلَامَ ليس من الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْلِيمَةُ الأ ولى من الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا الْكَلَامُ في قَدْرِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عن يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عن يَسَارِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ
وَقِيلَ هو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وقال بَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عن يَمِينِهِ
وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ يُسَلِّمُ الْمُقْتَدِي تَسْلِيمَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثَالِثَةً يَنْوِي بها رَدَّ السَّلَامِ على الْإِمَامِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ
وَرُوِيَ عن سَهْلِ بن سَعْدٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً عن يَمِينِهِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ شُرِعَ لِلتَّحْلِيلِ وَأَنَّهُ يَقَعُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا مَعْنًى لِلثَّانِيَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ عن أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوَّلُهُمَا أَرْفَعُهُمَا وَلِأَنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ لِلْخُرُوجِ عن الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّسْوِيَةِ بين الْقَوْمِ في التَّحِيَّةِ
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فالأحد ( ( ( فالأخذ ) ) ) بِمَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا من كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَكَانَا يَقُومَانِ بِقُرْبِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كما قال لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أولو ( ( ( أولوا ) ) ) الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى فَكَانَا أَعْرَفَ بِحَالِ
____________________

(1/194)


النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كانت تَقُومُ في حَيِّزِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وهو آخِرُ الصُّفُوفِ وَسَهْلُ بن سَعْدٍ كان من الصِّغَارِ وكان في أُخْرَيَاتِ الصُّفُوفِ وَكَانَا يَسْمَعَانِ التَّسْلِيمَةَ الْأَوْلَى لِرَفْعِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بها صَوْتَهُ وَلَا يَسْمَعَانِ الثَّانِيَةَ لِخَفْضِهِ بها صَوْتَهُ وَقَوْلُهُمْ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِالْأُولَى فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لِلتَّحْلِيلِ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ بين الْقَوْمِ في التَّسْلِيمِ عليهم وَالتَّحِيَّةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بها التَّحْلِيلُ وَلَا التَّسْوِيَةُ بين الْقَوْمِ في ( ( ( والتحية ) ) ) التحية وَرَدُّ السَّلَامِ على الْإِمَامِ يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ إلَيْهِ
أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ حين سَأَلَهُ أبو يُوسُفَ هل يَرُدُّ على الْإِمَامِ السَّلَامَ من خَلْفَهُ فيقول وَعَلَيْكَ قال لَا وَتَسْلِيمُهُمْ رَدٌّ عليه وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّالِثَةَ لو كانت ثَابِتَةً لَفَعَلَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَعَلَّمَهَا الْأُمَّةَ فِعْلًا كما فَعَلُوا التَّسْلِيمَتَيْنِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّسْلِيمِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يقول السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَلَا يَزِيدُ عليه وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ
لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَعُتْبَةَ وَغَيْرِهِمْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يقول هَكَذَا
وَأَمَّا سُنَنُ التَّسْلِيمِ فَنَذْكُرُهَا في بَابِ سُنَنِ هذه الصَّلَوَاتِ
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ من الصَّلَاةِ ثُمَّ الْخُرُوجُ يَتَعَلَّقُ بِإِحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى لِلْخُرُوجِ وَالتَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّحِيَّةِ خَاصَّةً
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَخْرُجُ ما لم يُوجَدْ التَّسْلِيمَتَيْنِ جمعيا ( ( ( جميعا ) ) ) وهو خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَكْلِيمُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لهم فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو وُجِدَ في وَسَطِ الصَّلَاةِ يُخْرِجُهُ عن الصَّلَاةِ فَصْلٌ وأماالذي هو في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ منها فَالتَّكْبِيرُ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ والكلام فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِهِ وفي وُجُوبِهِ وفي وَقْتِهِ وفي مَحَلِّ أَدَائِهِ وَفِيمَنْ يَجِبُ عليه وفي أَنَّهُ هل يقض ( ( ( يقضى ) ) ) بَعْدَ الْفَوَاتِ في الصَّلَاةِ التي دَخَلَتْ في حَدِّ الْقَضَاءِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في تَفْسِيرِ التَّكْبِيرِ
رُوِيَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وكان ابن عُمَرَ يقول اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ اللَّهُ أَكْبَرُ وللهالحمد وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وكان ابن عَبَّاسٍ يقول اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وهو كل شَيْءٍ قَدِيرٍ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهمالأنه الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَارَثُ من الْأُمَّةِ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِاشْتِمَالِهِ على التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَكَانَ أَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وُجُوبِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وقد سَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ فقال تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ نَقَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَجْمَعُوا على الْعَمَلِ بها وَإِطْلَاقُ اسْمِ السُّنَّةِ على الْوَاجِبِ جَائِزٌ لِأَنَّ السُّنَّةَ عِبَارَةٌ عن الطَّرِيقَةِ الْمَرْضِيَّةِ أو السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ وَكُلُّ وَاجِبٍ هذه صِفَتُهُ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ }
وَقَوْلُهُ { وَأَذِّنْ في الناس بِالْحَجِّ } إلَى قَوْلِهِ { في أَيَّامٍ معدودات ( ( ( معلومات ) ) ) } قِيلَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَقِيلَ كِلَاهُمَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَقِيلَ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ لِأَنَّهُ أَمَرَ في الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا
وَذَكَرَ في الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الذِّكْرَ على ما رَزَقَهُمْ من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الذَّبَائِحُ وَأَيَّامُ الذَّبَائِحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما من أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الْأَيَّامِ فَأَكْثِرُوا فيها من التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَائِهِ اتَّفَقَ شُيُوخُ الصَّحَابَةِ نَحْوُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على الْبِدَايَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفُوا في الْخَتْمِ
قال ابن مَسْعُودٍ يُخْتَمُ عِنْدَ الْعَصْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُقْطَعُ وَذَلِكَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَبِهِ أَخَذَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال عَلِيٌّ يَخْتِمُ عِنْدَ الْعَصْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيُكَبِّرُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وفي رِوَايَةٍ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَأَمَّا الشُّبَّانُ من الصَّحَابَةِ منهم ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ ( رضي الله عنهم ) فَقَدْ اتَّفَقُوا على الْبِدَايَةِ بِالظُّهْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ غير أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا في الْخَتْمِ فقال ابن عَبَّاسٍ يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وقال ابن عُمَرَ يَخْتِمُ عِنْدَ الْفَجْرِ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
أَمَّا الْكَلَامُ في الْبِدَايَةِ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { فإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ }
____________________

(1/195)


أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَقَعُ في وَقْتِ الضَّحْوَةِ من يَوْمِ النَّحْرِ فَاقْتَضَى وُجُوبَ التَّكْبِيرِ في الصَّلَاةِ التي تَلِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } وَهِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ في جَمِيعِهَا وَاجِبًا إلَّا أَنَّ ما قبل يَوْمِ عَرَفَةَ خُصَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَا إجْمَاعَ في يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَضْحَى فَوَجَبَ التَّكْبِيرُ فِيهِمَا عَمَلًا بِعُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِتَعْظِيمِ الْوَقْتِ الذي شُرِعَ فيه الْمَنَاسِكُ وَأَوَّلُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ إذْ فيه يُقَامُ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وهو الْوُقُوفُ وَلِهَذَا قال مَكْحُولٌ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ من صَلَاةِ الظُّهْرِ من يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّهَا سَاكِتَةٌ عن الذِّكْرِ قبل قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بها
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْخَتْمِ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ على أَصْلِهِ من الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَحْدَاثِ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِوُقُوفِهِمْ على ما اسْتَقَرَّ من الشَّرَائِعِ دُونَ ما نُسِخَ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لِكَوْنِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً إلَّا في مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَكَانَ التَّكْبِيرُ فيها وَاجِبًا وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ وَأَمْرُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَيَمْتَدُّ التكبير ( ( ( بالتكبير ) ) ) إلَى آخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم اخْتَلَفُوا في هذا وَلَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا ليس عليه أَوْلَى من أَنْ يَتْرُكَ ما عليه بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَيْثُ لم نَأْخُذْ هُنَاكَ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَهُنَاكَ تَرَجَّحَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ أَوْلَى وَهَهُنَا لَا رُجْحَانَ بَلْ اسْتَوَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في الثُّبُوتِ وفي الرِّوَايَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ
لأبي ( ( ( ولأبي ) ) ) حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَالسُّنَّةُ في الْأَذْكَارِ الْمُخَافَتَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ
وَلِذَا هو أَقْرَبُ إلَى التَّضَرُّعِ وَالْأَدَبِ وَأَبْعَدُ عن الرِّيَاءِ فَلَا يُتْرَكُ هذا الْأَصْلُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ جاء الْمُخَصِّصُ لِلتَّكْبِيرِ من يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ وهو قَوْله تَعَالَى { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ } وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَاجِبٌ إلَّا فِيمَا خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِيمَا قبل يَوْمِ عَرَفَةَ
أَنَّهُ ليس بِمُرَادٍ وَلَا إجْمَاعَ في يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ في الْخُصُوصِ
وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ الْعَصْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا تَخْصِيصَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَتَرَدُّدِ التَّكْبِيرِ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في دَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ في التَّرْكِ لَا في الْإِتْيَانِ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى من إتْيَانِ الْبِدْعَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَنَقُولُ رُكْنُ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ في هَذَيْنِ الوقتين ( ( ( اليومين ) ) ) فَأَمَّا الرَّمْيُ فَمِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ فَيُعْتَبَرُ في التَّكْبِيرِ وَقْتُ الرُّكْنِ لَا وَقْتُ التَّوَابِعِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فيها قال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ من الْآيَةِ الذِّكْرُ على الْأَضَاحِيِّ وقال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منها الذِّكْرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى ( في آخر الآية ) { فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عليه وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عليه } وَالتَّعَجُّلُ وَالتَّأْخِيرُ إنَّمَا يَقَعَانِ في رَمْيِ الْجِمَارِ لَا في التَّكْبِيرِ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ فَدُبُرُ الصَّلَاةِ وَإِثْرُهَا وَفَوْرُهَا من غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ ما يَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ حتى لو قَهْقَهَ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أو تَكَلَّمَ عَامِدًا أو سَاهِيًا أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ أو جَاوَزَ الصُّفُوفَ في الصَّحْرَاءِ لَا يُكَبِّرُ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ من خَصَائِصِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَيُرَاعَى لِإِتْيَانِهِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ تَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وَلَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ ولم يَخْرُجْ من الْمَسْجِدِ ولم يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ أو سَبَقَهُ الْحَدَثُ يُكَبِّرُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يبني وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يَقْطَعُ الْبِنَاءَ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وما لَا فَلَا وإذا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ فَكَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ من غَيْرِ تَطْهِيرٍ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ له الطَّهَارَةُ
قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزاهد السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ
____________________

(1/196)


لِلطَّهَارَةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَمَّا لم يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ كان خُرُوجُهُ مع عَدَمِ الْحَاجَةِ قَاطِعًا لِفَوْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذلك فَيُكَبِّرُ لِلْحَالِ جَزْمًا
وَلَوْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ فَلِلْقَوْمِ أَنْ يُكَبِّرُوا وقد اُبْتُلِيَ بِهِ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قال يَعْقُوبَ صَلَّيْتُ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقُمْتُ وَسَهَوْتُ أَنْ كَبَّرَ فَكَبَّرَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فلم يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ ليس لِلْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوا حتى لو قام وَخَرَجَ من الْمَسْجِدِ أو تَكَلَّمَ سَقَطَ عنه وَعَنْهُمْ وَالْفَرْقُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ من الصَّلَاةِ وَالْجَابِرُ يَكُونُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ وَلِهَذَا يؤدى في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ إمَّا لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ أو لِأَنَّهُ عَادَ وَشَيْءٌ من الصَّلَاةِ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ بَعْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ فَلَا يأتي ( ( ( يتأتى ) ) ) بِهِ الْمُقْتَدِي فَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَلَيْسَ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ له التَّحْرِيمَةُ وَيُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَلَا يَجِبُ فيه مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ غير أَنَّهُ إنْ أتى بِهِ الْإِمَامُ يَتْبَعُهُ في ذلك لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ مُتَّصِلًا بها فَيُنْدَبُ إلَى اتِّبَاعِ من كان مَتْبُوعًا في الصَّلَاةِ فإذا لم يَأْتِ بِهِ الْإِمَامُ أتى بِهِ الْقَوْمُ لِانْعِدَامِ الْمُتَابَعَةِ بِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ كَالسَّامِعِ مع التَّالِي أَيْ إنْ سَجَدَ التَّالِي يَسْجُدُ معه السَّامِعُ وَإِنْ لم يَسْجُدْ التَّالِي يَأْتِي بِهِ السَّامِعُ كَذَا هَهُنَا
وَلِهَذَا لَا يَتَّبِعُ الْمُقْتَدِي رأى إمَامِهِ حتى إنَّ الْإِمَامَ لو رَأَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْمُقْتَدِي يَرَى رَأْيَ عَلِيٍّ فَصَلَّى صَلَاةً بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فلم يُكَبِّرْ الْإِمَامُ اتِّبَاعًا لِرَأْيِهِ يُكَبِّرُ الْمُقْتَدِي اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ ليس بِتَابِعٍ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ التي بها صَارَ تَابِعًا له فكذلك ( ( ( فكذا ) ) ) هذا وَعَلَى هذا إذَا كان مُحْرِمًا وقد سَهَا في صَلَاتِهِ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ لَبَّى لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِ في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ في سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ
فَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ ليس بِتَابِعٍ له لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ التي بها صَارَ تَابِعًا له فَكَذَلِكَ هذا
وَعَلَى هذا إذَا كان مُحْرِمًا وقد سَهَا بِهِ في حَالِ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ فَيُقَدِّمُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَإِنْ كان يُؤْتَى بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ من خَصَائِصِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةُ لَيْسَتْ من خَصَائِصِ الصَّلَاةِ بَلْ يُؤْتَى بها عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كُلَّمَا هَبَطَ وَادِيًا أو عَلَا شَرَفًا أو لَقِيَ رَكْبًا وما كان من خَصَائِصِ الشَّيْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ منه فَيُجْعَلُ التَّكْبِيرُ كَأَنَّهُ من الصَّلَاةِ وما لم يَفْرُغْ من الصَّلَاةِ لم يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْحَالِ فَكَذَا ما لم يَفْرُغْ من التَّكْبِيرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم يَتَبَدَّلْ الْحَالُ فَلَا يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ
وَلَوْ سَهَا وَبَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قبل السَّجْدَةِ لَا يُوجِبُ ذلك قَطْعَ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ليس من كَلَامِ الناس وَلَوْ لَبَّى أَوَّلًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَتْ عنه سَجْدَتَا السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرِ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ تُشْبِهُ كَلَامَ الناس لِأَنَّهَا في الْوَضْعِ جَوَابٌ لِكَلَامِ الناس وَغَيْرُهَا من كَلَامِ الناس يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَكَذَا هِيَ وَتَسْقُطُ سَجْدَةُ السَّهْوِ لِأَنَّهَا لم تُشْرَعْ إلَّا في التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ وَيَسْقُطُ التَّكْبِيرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ وقد زَالَ الِاتِّصَالُ وَعَلَى هذا الْمَسْبُوقُ لَا يُكَبِّرُ مع الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَالْمَسْبُوقُ بَعْدُ في خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أنه لَا يَجِبُ إلَّا على الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْمُقِيمِينَ الْأَحْرَارِ من أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُصَلِّينَ الْمَكْتُوبَةَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فَلَا يَجِبُ على النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَالْفَرْضَ وحده
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجِبُ على كل من يُؤَدِّي مَكْتُوبَةً في هذه الْأَيَّامِ على أَيِّ وَصْفٍ كان في أَيِّ مَكَان كان وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ على كل مُصَلٍّ فَرْضًا كانت الصَّلَاةُ أو نَفْلًا لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ فما شُرِعَ في حَقِّ الْفَرَائِضِ يَكُونُ مَشْرُوعًا في حَقِّهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُكَبِّرَانِ عَقِيبَ التَّطَوُّعَاتِ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا في مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وما وَرَدَ النَّصُّ إلَّا عَقِيبَ الْمَكْتُوبَاتِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِمَا نَذْكُرُ وَالنَّوَافِلُ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ الْوِتْرِ عِنْدَنَا أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ نَفْلٌ وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ في هذه الْأَيَّامِ وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كان وَاجِبًا فَلَيْسَ بمكتوبة ( ( ( بمكتوب ) ) ) وَالْجَهْرُ
____________________

(1/197)


بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا في مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ إلَّا في الْمَكْتُوبَاتِ
وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَيُكَبَّرُ عَقِيبَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ كَالظُّهْرِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا فَهُمَا احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } وَقَوْلِهِ { وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } من غَيْرِ تَقْيِيدِ مَكَان أو جِنْسٍ أو حَالٍ وَلِأَنَّهُ من تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ ما يُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ من الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ يُوجِبُ قَطْعَ التَّكْبِيرِ فَكُلُّ من صلى الْمَكْتُوبَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ
وَالْمُرَادُ من التَّشْرِيقِ هو رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ هَكَذَا قال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ وكان من أَرْبَابِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَلِأَنَّ التشريق ( ( ( التصديق ) ) ) في اللُّغَةِ هو الْإِظْهَارُ وَالشُّرُوقَ هو الظُّهُورُ يُقَالُ أشرقت ( ( ( شرقت ) ) ) الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَظَهَرَتْ سُمِّيَ مَوْضِعُ طُلُوعِهَا وَظُهُورِهَا مَشْرِقًا لِهَذَا وَالتَّكْبِيرُ نَفْسُهُ إظْهَارٌ لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وهو إظْهَارُ ما هو من شِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَشْرِيقًا وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ على صَلَاةِ الْعِيدِ لِأَنَّ ذلك مُسْتَفَادٌ بِقَوْلِهِ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى في حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلَا على إلْقَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بِالْمَشْرِقَةِ لِأَنَّ ذلك لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ مُرَادًا بِالتَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وأعلام الدِّينِ وما هذا سَبِيلُهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا في مَوْضِعٍ يَشْتَهِرُ فيه وَيَشِيعُ وَلَيْسَ ذلك إلَّا في الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلِهَذَا اختص ( ( ( يختص ) ) ) بِهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالنِّسْوَانُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاشْتِهَارِ يَخْتَصُّ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ وَلِهَذَا لَا يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَأَمْرُ النِّسْوَانِ مَبْنِيٌّ على السَّتْرِ دُونَ الْإِشْهَارِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فيها وَأَمَّا الْأُولَى فَنَحْمِلُهَا على خُصُوصِ الْمَكَانِ وَالْجِنْسِ وَالْحَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وما ذَكَرُوا من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ مُسَلَّمٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا من الشَّرَائِطِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا نُسَلِّمُ التبعية ( ( ( التبيعة ) ) )
وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ وَجَبَ عليه التَّكْبِيرُ لِأَنَّهُ صَارَ تبعا ( ( ( تابعا ) ) ) لِإِمَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَيُكَبِّرُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ وَكَذَا النِّسَاءُ إذَا اقْتَدَيْنَ بِرَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ على سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ فَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ وَحْدَهُنَّ فَلَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ لِمَا قُلْنَا وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ إذَا صَلَّوْا في الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عليهم التَّكْبِيرَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَكْبِيرَ عليهم لِأَنَّ السَّفَرَ مُغَيِّرٌ لِلْفَرْضِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْبِيرِ ثُمَّ في تَغَيُّرِ الْفَرْضِ لَا فَرْقَ بين أَنْ يُصَلُّوا في الْمِصْرِ أو خَارِجَ الْمِصْرِ فَكَذَا في سُقُوطِ التَّكْبِيرِ وَلِأَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ وَالْمُسَافِرُ ليس من أَهْلِ الْمِصْرِ فَالْتَحَقَ الْمِصْرُ في حَقِّهِ بِالْعَدَمِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيمَا دخل من الصَّلَوَاتِ في حَدِّ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ في غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أو فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا في غَيْرِ هذه الْأَيَّامِ أو فَاتَتْهُ في هذه الأيام فقضاها في العام القابل من هذه الأيام أو فاتته في هذه الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا في هذه الْأَيَّامِ من هذه السَّنَةِ
فَإِنْ فَاتَتْهُ في غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ على حَسْبِ الْأَدَاءِ وقد فَاتَتْهُ بِلَا تَكْبِيرٍ فَيَقْضِيهَا كَذَلِكَ وَإِنْ فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا في غَيْرِ هذه الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبِهَا أَيْضًا وَإِنْ كان الْقَضَاءُ على حَسَبِ الْأَدَاءِ وقد فَاتَتْهُ مع التَّكْبِيرِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ إلَّا حَيْثُ وَرَدَ الشَّرْعُ وَالشَّرْعُ ما وَرَدَ بِهِ في وَقْتِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ بِدْعَةً فَإِنْ فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا في الْعَامِ الْقَابِلِ في هذه الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ أَيْضًا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا في مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِجَعْلِ هذا الْوَقْتِ وَقْتًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ صَلَاةٍ هِيَ من صَلَوَاتِ هذه الْأَيَّامِ ولم يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَعْلِهِ وَقْتًا لِغَيْرِ ذلك فَبَقِيَ بِدْعَةً كَأُضْحِيَّةٍ فَاتَتْ عن وَقْتِهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا في الْعَامِ الْقَابِلِ وَإِنْ عَادَ الْوَقْتُ وَكَذَا رَمْيُ الْجِمَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هذا وَإِنْ فَاتَتْهُ في هذه الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا في هذه الْأَيَّامِ من هذه السَّنَةِ يُكَبِّرُ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةُ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ وقد قَدَرَ على الْقَضَاءِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتًا لِتَكْبِيرَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَاتِ فيها
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُهَا فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا صَلَاةٌ بِنَفْسِهِ وَبَعْضُهَا من لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ أَمَّا الذي هو صلاة بِنَفْسِهِ فَالسُّنَنُ
____________________

(1/198)


الْمَعْهُودَةُ التي يؤدى بَعْضُهَا قبل الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَلَهَا فَصْلٌ متفرد ( ( ( منفرد ) ) ) نَذْكُرُهَا فيه بِعَلَائِقِهَا
وَأَمَّا الذي هو من لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَنَوْعُ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ أَمَّا الذي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ فَسُنَنُ الِافْتِتَاحِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِرَانُ النِّيَّةِ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ ما نَوَاهُ بِقَلْبِهِ ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِ الصَّلَاةِ نَصًّا وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ في كِتَابِ الْحَجِّ فقال وإذا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي فَكَذَا في بَابِ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ صَلَاةَ كَذَا فَيَسِّرْهَا لي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي لِأَنَّ هذا سُؤَالُ التَّوْفِيقِ من اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مَسْنُونًا
وَمِنْهَا حَذْفُ التَّكْبِيرِ لِمَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّه أَنَّهُ قال الْأَذَانُ جَزْمٌ وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْمَدِّ في ابْتِدَاءِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ يَكُونُ لِلشَّكِّ وَالشَّكُّ في كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ وَقَوْلُهُ أَكْبَرُ لَا مَدَّ فيه لِأَنَّهُ على وَزْنِ أَفْعَلُ وَأَفْعَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَدَّ لُغَةً
وَمِنْهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في أَصْلِ الرَّفْعِ وفي وَقْتِهِ وفي كَيْفِيَّتِهِ وفي مَحَلِّهِ أَمَّا أَصْلُ الرَّفْعِ فَلِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَعَنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ كان في عَشْرَةِ رَهْطٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ فقال لهم أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عن صَلَاةِ رسول اللَّهِ فَقَالُوا هَاتِ فقال رَأَيْته إذَا كَبَّرَ عِنْدَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَعَلَى هذا إجْمَاعُ السَّلَفِ
وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُ التَّكْبِيرِ مُقَارِنًا له لِأَنَّهُ سُنَّةٌ التَّكْبِيرُ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ وَلَا يَحْصُلُ هذا الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْقِرَانِ وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ فَمِنْهُمْ من قال أَرَادَ بِالنَّشْرِ تَفْرِيجَ الْأَصَابِعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا مَفْتُوحَتَيْنِ لَا مَضْمُومَتَيْنِ حتى ( ( ( حين ) ) ) تَكُونُ الْأَصَابِعُ نحو الْقِبْلَةِ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُفَرِّجُ كُلَّ التَّفْرِيجِ وَلَا يَضُمُّ كُلَّ الضَّمِّ بَلْ يَتْرُكُهُمَا على ما عليه الْأَصَابِعُ في الْعَادَةِ بين الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ
وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَدْ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في الْمُجَرَّدِ فقال قال أبو حَنِيفَةَ يَرْفَعُ حتى يُحَاذِي بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَكَذَلِكَ في كل مَوْضِعٍ تُرْفَعُ الْأَيْدِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ وقال الشَّافِعِيُّ يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وقال مَالِكٌ حِذَاءَ رَأْسِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي بِإِسْنَادِهِ عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ
وَلِأَنَّ هذا الرَّفْعَ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لم يُرْفَعْ في تَكْبِيرَةٍ هِيَ عِلْمٌ لِلِانْتِقَالِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَاجِبٌ فما رُوِيَ مَحْمُولٌ على حَالَةِ الْعُذْرِ حين كانت عليهم الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ في زَمَنِ الشِّتَاءِ فَكَانَ يَتَعَذَّرُ عليهم الرَّفْعُ إلَى الْأُذُنَيْنِ يَدُلُّ عليه ما رَوَى وَائِلُ بن حُجْرٍ أَنَّهُ قال قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْآذَانِ ثُمَّ قَدِمْتُ عليهم من الْقَابِلِ وَعَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ من شِدَّةِ الْبَرْدِ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَنَاكِبِ
أو نَقُولُ الْمُرَادُ بِمَا رَوَيْنَا رؤوس الْأَصَابِعِ وَبِمَا روى الْأَكُفُّ وَالْأَرْسَاغُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فلم يُذْكَرْ حُكْمُهَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أنها تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ أُذُنَيْهَا كَالرَّجُلِ سَوَاءً لِأَنَّ كَفَّيْهَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ وَرَوَى محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ عن أَصْحَابِنَا أنها تَرْفَعُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا لِأَنَّ ذلك أَسْتَرُ لها وَبِنَاءُ أَمْرِهِنَّ على السَّتْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَعْتَدِلُ في سُجُودِهِ وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ في رُكُوعِهِ وَالْمَرْأَةُ تَفْعَلُ كَأَسْتَرَ ما يَكُونُ لها
ومنها أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْفِي بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُقْتَدِي لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَذْكَارِ هو الْإِخْفَاءُ وَإِنَّمَا الْجَهْرُ في حَقِّ الْإِمَامِ
____________________

(1/199)


لِحَاجَتِهِ إلَى الْإِعْلَامِ فإن الْأَعْمَى لَا يَعْلَمُ بِالشُّرُوعِ إلَّا بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ من الْإِمَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ في حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي
وَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عن أبي حَنِيفَةَ وفي التَّسْلِيمِ عنه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ وفي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ
وقال أبو يُوسُفَ السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ من التَّكْبِيرِ وَإِنْ كَبَّرَ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِهِ فَعَنْ أبي يُوسُفَ فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يَجُوزُ وفي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ مُسِيئًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا تَتَحَقَّقُ في الْقِرَانِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ إذْ بها تَتَحَقَّقُ الشركة ( ( ( المشاركة ) ) ) في جَمِيعِ أَجْزَاءِ العبادة ( ( ( العباد ) ) ) وَبِهَذَا فَارَقَ التَّسْلِيمَ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عنها بِسَلَامِ الْإِمَامِ
ومنها أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قال قد قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُكَبِّرُ حتى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ من الْإِقَامَةِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قال حَيَّ على الْفَلَاحِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ مَعَهُمْ في الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُومُوا في الصَّفِّ
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ يَقُومُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ في الْمَرَّةِ الْأُولَى وَيُكَبِّرُونَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ المنبىء ( ( ( المنبئ ) ) ) عن الْقِيَامِ قَوْلُهُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ لَا قَوْلُهُ حَيَّ على الْفَلَاحِ
وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ حَيَّ على الْفَلَاحِ دُعَاءٌ إلَى ما بِهِ فَلَاحُهُمْ وَأَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ من الْإِجَابَةِ إلَى ذلك وَلَنْ تَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إلَّا بِالْفِعْلِ وهو الْقِيَامُ إلَيْهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومُوا عِنْدَ قَوْلِهِ حَيَّ على الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا غير أَنَّا نَمْنَعُهُمْ عن الْقِيَامِ كيلا يَلْغُوَ قَوْلُهُ حَيَّ على الْفَلَاحِ لِأَنَّ من وُجِدَتْ منه الْمُبَادَرَةُ إلَى شَيْءٍ فَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ إيَّاهُ لغو ( ( ( يلغو ) ) ) من الْكَلَامِ
وأما قَوْلُهُ أن المنبىء ( ( ( المنبئ ) ) ) عن الْقِيَامِ قَوْلُهُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ فَنَقُولُ قَوْلُهُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ ينبىء عن قِيَامِ الصَّلَاةِ لَا عن الْقِيَامِ إلَيْهَا وَقِيَامُهَا وُجُودُهَا وَذَلِكَ بِالتَّحْرِيمَةِ لِيَتَّصِلَ بها جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا تَصْدِيقًا له على ما نَذْكُرُ ثُمَّ إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ إذَا قال الْمُؤَذِّنُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ في إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةً وفي إدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَضِيلَةٌ فَلَا بُدَّ من الْفَرَاغِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ من الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا تَكُونُ جَمِيعُ صَلَاتِهِمْ بِالْإِقَامَةِ وَفِيمَا قالوا بِخِلَافِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رُوِيَ عن سُوَيْد بن غَفَلَةَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كان إذَا انْتَهَى الْمُؤَذِّنُ إلَى قَوْلِهِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ
وَرُوِيَ عن بِلَالٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنْتَ تَسْبِقُنِي بِالتَّكْبِيرِ فَلَا تَسْبِقْنِي بِالتَّأْمِينِ وَلَوْ كَبَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْإِقَامَةِ لَمَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَضْلًا عن التَّأْمِينِ فلم يَكُنْ لِلسُّؤَالِ مَعْنًى وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُؤْتَمَنُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ وُجُودُهَا فَلَا بُدَّ من تَحْصِيلِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِرُكْنٍ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِيُوجَدَ جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا فَيَصِيرُ الْمُخْبِرُ عن قِيَامِهَا صَادِقًا في مَقَالَتِهِ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عن الْمُتَرَكِّبِ من أَجْزَاءٍ لَا بَقَاءَ لها لَنْ يَكُونَ إلَّا عن وُجُودِ جُزْءٍ منها وَإِنْ كان الْجُزْءُ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الْمُتَرَكِّبِ كَمَنْ يقول فُلَانٌ يُصَلِّي في الْحَالِ يَكُونُ صَادِقًا وَإِنْ كان لَا يُوجَدُ في الحالة ( ( ( حالة ) ) ) الْإِخْبَارِ إلَّا جُزْءٌ منها لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهَا في الْوُجُودِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرُوا من الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ رسول اللَّهِ وَفِعْلِ عُمَرَ
ثُمَّ نَقُولُ في تَصْدِيقِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةٌ كما أَنَّ في إجَابَتَهُ فضيلة ( ( ( فضلة ) ) ) بَلْ فَضِيلَةُ التَّصْدِيقِ فَوْقَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ مع أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ فَوَاتَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا إذْ لَا جَوَابَ لِقَوْلِهِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ من حَيْثُ الْقَوْلُ وَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا بَلْ حَصَلَتْ الْإِجَابَةُ بِالْفِعْلِ وهو إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَكَانَ ما قلناه ( ( ( قلنا ) ) ) سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ فَكَانَ أَحَقَّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَا بَأْسَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَكْثَرِ الْإِقَامَةِ وَأَدَاءِ أَكْثَرِهَا بَعْدَ جَمِيعِ الْإِقَامَةِ إذَا كان سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اخْتَارُوا في الْفِعْلِ مَذْهَبَ أبي يُوسُفَ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ النِّيَّةِ عليهم في حَالِ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ بِالْإِقَامَةِ
هذا إذَا كان الْإِمَامُ في الْمَسْجِدِ فَإِنْ كان خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَقُومُونَ ما لم يَحْضُرْ لِقَوْلِ النبي لَا تَقُومُوا في الصَّفِّ ما ( ( ( حتى ) ) ) لم تَرَوْنِي خَرَجْتُ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ دخل الْمَسْجِدَ فَرَأَى الناس قِيَامًا يَنْتَظِرُونَهُ فقال مالي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ ( أَيْ وَاقِفِينَ مُتَحَيِّرِينَ ) وَلِأَنَّ الْقِيَامَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا بِدُونِ الْإِمَامِ فلم يَكُنْ الْقِيَامُ مُفِيدًا
ثُمَّ إنْ دخل الْإِمَامُ من قُدَّامِ الصُّفُوفِ
____________________

(1/200)


فكلما ( ( ( فكما ) ) ) رَأَوْهُ قَامُوا لِأَنَّهُ لما ( ( ( كلما ) ) ) دخل الْمَسْجِدَ قام مَقَامَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ دخل من وَرَاءِ الصُّفُوفِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُلَّمَا جَاوَزَ صَفًّا قام ذلك الصَّفُّ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لو اقْتَدَوْا بِهِ جَازَ فَصَارَ في حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ أخذ ( ( ( أخذه ) ) ) مَكَانَهُ
وَأَمَّا الذي يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الِافْتِتَاحِ فَنَقُولُ إذَا فَرَغَ من تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَضَعُ يَمِينَهُ عن شِمَالِهِ وَالْكَلَامُ فيه في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في أَصْلِ الْوَضْعِ
وَالثَّانِي في وَقْتِ الْوَضْعِ
وَالثَّالِثِ في مَحَلِّ الْوَضْعِ
وَالرَّابِعِ في كَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فقد قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أن السُّنَّةَ هِيَ وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ وقال مَالِكٌ السُّنَّةُ هِيَ الْإِرْسَالُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْإِرْسَالَ أَشَقُّ على الْبَدَنِ وَالْوَضْعُ لِلِاسْتِرَاحَةِ
دَلَّ عليه ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال أنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذلك مَخَافَةَ اجْتِمَاعِ الدَّمِ في رؤوس الْأَصَابِعِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ من سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَأَخْذُ الشِّمَالِ بِالْيَمِينِ في الصَّلَاةِ
وفي رِوَايَةٍ وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ في الصَّلَاةِ
وَأَمَّا وَقْتُ الْوَضْعِ فكما ( ( ( فكلما ) ) ) فَرَغَ من التَّكْبِيرِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا حَالَةَ الثَّنَاءِ فإذا فَرَغَ منه يَضَعُ بِنَاءً على أَنَّ الْوَضْعَ سُنَّةُ الْقِيَامِ الذي له قَرَارٌ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوَضْعُ في الْقِيَامِ الْمُتَخَلِّلِ بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ له وَلَا قِرَاءَةَ فيه وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِهِ إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا على شَمَائِلِنَا في الصَّلَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالٍ وَحَالٍ فَهُوَ على الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمٌ له وَالْوَضْعُ في التَّعْظِيمِ أَبْلَغُ من الْإِرْسَالِ كما في الشَّاهِدِ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الْقِيَامُ الْمُتَخَلِّلُ بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْوَضْعُ أَوْلَى لِأَنَّ له ضَرْبَ قَرَارٍ
وقال بَعْضُهُمْ الْإِرْسَالُ أَوْلَى لِأَنَّهُ كما يَضَعُ يَحْتَاجُ إلَى الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا
وَأَمَّا في حَالِ الْقُنُوتِ فذكر في الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ ثُمَّ يَكُفُّهُمَا قال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ مَعْنَاهُ يَضَعُ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا كما يَضَعُ يَمِينَهُ على يَسَارِهِ في الصَّلَاةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا في حَالَةِ الْقُنُوتِ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
وَاخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَضَعُ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ وَمِنْهُمْ من قال لَا بَلْ يَضَعُ وَمَعْنَى الْإِرْسَالِ أَنْ لَا يَبْسُطَهُمَا كما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْسُطُ يَدَيْهِ بَسْطًا في حَالَةِ الْقُنُوتِ وهو الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الحديث الذي رَوَيْنَا وَلِأَنَّ هذا قِيَامٌ في الصَّلَاةِ له قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ فيه أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَالصَّحِيحُ أَيْضًا أنه يَضَعَ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ صلى على جِنَازَةٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ وَلِأَنَّ الْوَضْعَ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ في قِيَامٍ له قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ أَوْلَى والله أعلم
وَأَمَّا مَحَلُّ الْوَضْعِ فما تَحْتَ السُّرَّةِ في حَقِّ الرِّجْلِ وَالصَّدْرُ في حَقِّ الْمَرْأَةِ وقال الشَّافِعِيُّ مَحَلُّهُ الصَّدْرُ في حَقِّهِمَا جميعا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قَوْلُهُ { وَانْحَرْ } أَيْ ضَعْ الْيَمِينَ على الشِّمَالِ في النَّحْرِ وهو الصَّدْرُ وَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ في تَفْسِيرِ الْآيَةِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ من سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ من جُمْلَتِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ في الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهُ أَيْ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ وهو الصَّحِيحُ من التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَطْفَ الشَّيْءِ على غَيْرِهِ كما هو مُقْتَضَى الْعَطْفِ في الْأَصْلِ وَوَضْعُ الْيَدِ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَبْعَاضِهَا وَلَا مُغَايَرَةَ بين الْبَعْضِ وَبَيْنَ الْكُلِّ أو يُحْتَمَلُ ما قُلْنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَال على أَنَّهُ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا السُّنَّةُ وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فلم يَكُنْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عنه
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتُلِفَ فيها قال بَعْضُهُمْ يَضَعُ باطن كَفَّهُ الْيُمْنَى على ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وقال بَعْضُهُمْ يَضَعُ على ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى وقال بَعْضُهُمْ يَضَعُ على الْمِفْصَلِ وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ اخْتِلَافًا بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فقال على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَقْبِضُ بيده الْيُمْنَى على رُسْغِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضَعُ كَذَلِكَ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قال قَوْلُ أبي يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّ في الْقَبْضِ وَضْعًا وَزِيَادَةً وهو اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَيَأْخُذُ الْمُصَلِّي رُسْغَ يَدِهِ الْيُسْرَى بِوَسَطِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنْصَرَهُ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ على
____________________

(1/201)


مِعْصَمِهِ لِيَصِيرَ جَامِعًا بين الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ ذُكِرَ في بَعْضِهَا الْوَضْعُ وفي بَعْضِهَا الْأَخْذُ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ فَكَانَ أَوْلَى
ثُمَّ يقول سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ سَوَاءٌ كان إمَامًا أو مُقْتَدِيًا أو مُنْفَرِدًا هَكَذَا ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وزاد عليه في كِتَابِ الْحَجِّ وجل ثَنَاؤُكَ وَلَيْسَ ذلك في الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَقْرَأُ إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا قبل التَّكْبِيرِ وَلَا بَعْدَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال في الْإِمْلَاءِ يقول مع التَّسْبِيحِ إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وما أنا من الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ له وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا من الْمُسْلِمِينَ وَلَا يقول وأنا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا قال ذلك قال بَعْضُهُمْ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَذِبَ في الصَّلَاةِ وقال بَعْضُهُمْ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ من الْقُرْآنِ
ثُمَّ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُقَدِّمُ التَّسْبِيحَ عليه وفي رِوَايَةٍ هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وفي قَوْلٍ يَفْتَتِحُ بِقَوْلِهِ وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا بِالتَّسْبِيحِ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبي كان إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قال وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَخْ وقال سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ
وَالشَّافِعِيُّ زَادَ عليه ما رَوَاهُ عن رسول اللَّهِ وهو قَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنت فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً من عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ اللَّهُمَّ أنت الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أنت أنت رَبِّي وأنا عَبْدُك وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لك بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنت وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أنت وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أنت أنا بِكَ وإليك ( ( ( ولك ) ) ) تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حين تَقُومُ } ذَكَرَ الْجَصَّاصُ عن الضَّحَّاكِ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَرَوَى هذا الذِّكْرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن النبي أَنَّهُ كان يقول عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِالْآحَادِ
ثُمَّ تَأْوِيلُ ذلك كُلِّهِ أَنَّهُ كان يقول ذلك في التَّطَوُّعَاتِ وَالْأَمْرُ فيها أَوْسَعُ فَأَمَّا في الْفَرَائِضِ فَلَا يُزَادُ على ما اشْتَهَرَ فيه الْأَثَرُ أو كان في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْآيَةِ أو تَأَيَّدَ ما رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْآيَةِ ثُمَّ لم يُرْوَ عن أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ قبل التَّكْبِيرِ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ قبل التَّكْبِيرِ لِإِحْضَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا لَقَّنُوهُ الْعَوَامَّ
ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ في نَفْسِهِ إذَا كان إمَامًا أو منفردا وَالْكَلَامُ في التَّعَوُّذِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ من يُسَنُّ في حَقِّهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ في الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ليس بِسُنَّةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فإذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قام لِيُصَلِّيَ فقال له النبي تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
وَكَذَا النَّاقِلُونَ صَلَاةَ رسول اللَّهِ نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قبل الْقِرَاءَةِ
وَأَمَّا وَقْتُ التَّعَوُّذِ فما بَعْدَ الْفَرَاغِ من التَّسْبِيحِ قبل الْقِرَاءَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَقْتُهُ ما بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { فإذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } الْآيَةَ أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ
وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رسول اللَّهِ نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قبل الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ التَّعَوُّذَ شُرِعَ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عن وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ قبل الْقِرَاءَةِ لَا بَعْدَهَا وَالْإِرَادَةُ مُضْمَرَةٌ في الْآيَةِ مَعْنَاهُ فإذا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ كَذَا قال أَهْلُ التَّفْسِيرِ كما في قَوْله تَعَالَى { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَيْهَا
وَأَمَّا من يُسَنُّ في حَقِّهِ التَّعَوُّذُ فَهُوَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ دُونَ الْمُقْتَدِي في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هو سُنَّةٌ في حَقِّهِ أَيْضًا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ أو تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ صِيَانَةً لها عن وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ لها وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ له وَعَلَى قَوْلِهِ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ لِأَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وهو من جِنْسِهِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ ما يَتْبَعُهُ
وَيَتَفَرَّعُ عن هذا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا أَنَّهُ لَا تَعَوُّذَ على الْمُقْتَدِي عِنْدَهُمَا
____________________

(1/202)


لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عليه وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ فَيَأْتِي بِمَا هو تَبَعٌ له
وَالثَّانِيَةِ الْمَسْبُوقُ إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَسَبَّحَ لَا يَتَعَوَّذُ للحال وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ إذَا قام إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ ذلك وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ له
وَالثَّالِثَةِ الْإِمَامُ في صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَهُمَا إذَا كان يَرَى رَأْيَ ابْنِ عَبَّاسِ أو رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ ذلك وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ قبل التَّكْبِيرَاتِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا له
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّعَوُّذِ فَالْمُسْتَحَبُّ له أَنْ يَقُولَ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أو أَعُوذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لِأَنَّ أَوْلَى الْأَلْفَاظِ ما وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وقد وَرَدَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ في القرآن ( ( ( كتاب ) ) ) وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عليه إنَّ اللَّهَ هو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ من بَابِ الثَّنَاءِ وما بَعْدَ التَّعَوُّذِ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ لَا مَحَلُّ الثَّنَاءِ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّعَوُّذِ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لم يُنْقَلْ عن النبي وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَذَكَرَ منها التَّعَوُّذَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَذْكَارِ هو الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ
ثُمَّ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ وقال الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهِ
وَالْكَلَامُ في التَّسْمِيَةِ في مَوَاضِعَ
أَحَدِهَا أنها من الْقُرْآنِ أَمْ لَا
وَالثَّانِي أنها من الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا
وَالثَّالِثِ أنها من رَأْسِ كل ( ( ( السورة ) ) ) سورة أَمْ لَا وَيَنْبَنِي على كل فَصْلٍ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْأَحْكَامِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أنها من الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أَنَّ ما كان بين الدَّفَّتَيْنِ مَكْتُوبًا بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَهُوَ من الْقُرْآنِ وَالتَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ فقال قلت لِمُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ آيَةٌ من الْقُرْآنِ أَمْ لَا
فقال ما بين الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ فقلت فما بَالُكَ لَا تَجْهَرُ بها فلم يُجِبْنِي وَكَذَا رَوَى الْجَصَّاصُ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّسْمِيَةُ آيَةٌ من الْقُرْآنِ نزلت ( ( ( أنزلت ) ) ) لِلْفَصْلِ بين السُّورَةِ لِلْبُدَاءَةِ بها تَبَرُّكًا وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ من كل وَاحِدَةٍ منها وَإِلَيْهِ أَشَارَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ فإنه قال ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ }
وَيَنْبَنِي على هذا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بها عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا على قَصْدِ الْقِرَاءَةِ دُونَ الثَّنَاءِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهَا آيَةٌ من الْقُرْآنِ وَكَذَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ أَنَّ من تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ في الْقُرْآنِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وثلاثة ( ( ( وثلاث ) ) ) عشر آيَةً وقال بَعْضُهُمْ لَا يَتَأَدَّى لِأَنَّ في كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً احْتِمَالٌ فإنه رُوِيَ عن الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قال ما أَنْزَلَ اللَّهُ في الْقُرْآنِ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ إلَّا في سُورَةِ النَّمْلِ وَإِنَّهَا في النَّمْلِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَإِنَّمَا الْآيَةُ قَوْلُهُ { إنَّهُ من سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ } فَوَقَعَ الشَّكُّ في كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ
وَكَذَا يَحْرُمُ على الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَتُهَا على قَصْدِ الْقُرْآنِ أَمَّا على قِيَاسِ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ ما دُونَ الْآيَةِ يَحْرُمُ عليهم وَكَذَا على رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِاحْتِمَالِ أنها آيَةٌ تَامَّةٌ فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهَا عليهم احْتِيَاطًا والله أعلم
وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ وَلَا من رَأْسِ كل سُورَةٍ
وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهَا من الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في كَوْنِهَا من رَأْسِ كل سُورَةٍ قَوْلَانِ وقال الْكَرْخِيُّ لَا أَعْرِفُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا عن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا الِاخْتِلَافِ نَصًّا لَكِنَّ أَمْرَهُمْ بِالْإِخْفَاءِ دَلِيلٌ على أنها لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَجْهَرَ بِبَعْضِ السُّورَةِ دُونَ الْبَعْضِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبي أَنَّهُ كان يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعَ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ
فَقَدْ عَدَّ التَّسْمِيَةَ آيَةً من الْفَاتِحَةِ دَلَّ أنها من الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّهَا كُتِبَتْ في الْمَصَاحِفِ على رَأْسِ الْفَاتِحَةِ وَكُلُّ سُورَةٍ بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَكَانَتْ من الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كل سُورَةٍ
وَلَنَا قَوْلُ النبي خَبَرًا عن اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قال قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فإذا قال الْعَبْدُ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يقول اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي وإذا قال { الرحمن الرَّحِيمِ } قال اللَّهُ تَعَالَى مَجَّدَنِي عَبْدِي وإذا قال { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال اللَّهُ تَعَالَى هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما شاء ( ( ( سأل ) ) )
ووجه ( ( ( وجه ) ) ) الِاسْتِدْلَالِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } لَا بِقَوْلِهِ { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ } وَلَوْ كانت من الْفَاتِحَةِ لَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بها لَا بِالْحَمْدِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ نَصَّ على الْمُنَاصَفَةِ وَلَوْ كانت التَّسْمِيَةُ من الْفَاتِحَةِ لم تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ بَلْ يَكُونُ ما لِلَّهِ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ يَكُونُ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْآيَةِ من سُورَةِ كَذَا وَمِنْ مَوْضِعِ كَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الْمُتَوَاتِرِ من النبي
____________________

(1/203)


وقد ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أنها مَكْتُوبَةٌ في الْمَصَاحِفِ وَلَا تَوَاتُرَ على كَوْنِهَا من السُّورَةِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه فَعَدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ من الْفَاتِحَةِ ولم يَعُدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ منها وَذَا دَلِيلُ عَدَمِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ في ذلك فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا من السُّورَةِ مع الشَّكِّ وَلِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ من كل سُورَةٍ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ لَا يُوَافِقُهُ في ذلك أَحَدٌ من سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا على بُطْلَانِ الْمَذْهَبِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي قال سُورَةٌ في الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حتى غُفِرَ له تَبَارَكَ الذي بيده الْمُلْكُ وقد اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ على أنها ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ } وَلَوْ كانت هِيَ منها لَكَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وهو خِلَافُ قَوْلِ النبي وَكَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ من الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَلَوْ كانت التَّسْمِيَةُ منها لَكَانَتْ سُورَةُ الْكَوْثَرِ أَرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ خَمْسَ آيَاتٍ وهو خِلَافُ الْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا ما رُوِيَ من الحديث فَفِيهِ اضْطِرَابٌ فإن بَعْضَهُمْ شَكَّ في ذِكْرِ أبي هُرَيْرَةَ في الْإِسْنَادِ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ على عبد الْحَمِيدِ بن جَعْفَرٍ عن نُوحِ بن أبي بِلَالٍ عن سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ ولم يَرْفَعْهُ وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ وقال لَقِيتُ نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عن سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ ولم يَرْفَعْهُ وَالِاخْتِلَافُ في السَّنَدِ وَالْوَقْفِ وَالرَّفْعِ يُوجِبُ ضَعْفًا فيه وَلِأَنَّهُ في حَدِّ الْآحَادِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَكَوْنُ التَّسْمِيَةِ من الْفَاتِحَةِ لَا يثبت ( ( ( تثبت ) ) ) إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ مع أَنَّهُ عَارَضَهُ ما هو أَقْوَى منه وَأَثْبَتُ وَأَشْهَرُ وهو حَدِيثُ الْقِسْمَةِ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَتِهِ
أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهَا كُتِبَتْ في الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ على رَأْسِ السُّوَرِ فَنَعَمْ لَكِنَّ هذا يَدُلُّ على كَوْنِهَا من الْقُرْآنِ لَا على كَوْنِهَا من السُّوَرِ لِجَوَازِ أنها كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّوَرِ لَا لِأَنَّهَا منها فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا من السُّوَرِ بِالِاحْتِمَالِ وَيَنْبَنِي على هذا أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ في الصَّلَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا نَصَّ في الْجَهْرِ بها وَلَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ حتى يَجْهَرَ بها ضَرُورَةَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ وَعِنْدَهُ يَجْهَرُ بها في الصَّلَوَاتِ التي يَجْهَرُ فيها بِالْقِرَاءَةِ كما يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ لِكَوْنِهَا من الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى تَرَدَّدَتْ بين أَنْ تَكُونَ من الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ تَرَدَّدَ الْجَهْرُ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فلأنها ( ( ( لأنها ) ) ) إذَا لم تَكُنْ منها الْتَحَقَتْ بِالْأَذْكَارِ وَالْجَهْرُ بِالْأَذْكَارِ بِدْعَةٌ وَالْفِعْلُ إذَا تَرَدَّدَ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ تُغَلَّبُ جِهَةُ الْبِدْعَةِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عن الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَلَا فَرْضِيَّةَ في تَحْصِيلِ السُّنَّةِ أو الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِخْفَاءُ بها أَوْلَى
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ التَّسْمِيَةَ وَكَثِيرٌ منهم قال الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ أعرابية وَالْمَنْسُوبُ إلَيْهِمْ بَاطِلٌ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عليهم بِالشَّرَائِعِ
وَرُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ لم يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ لَكِنْ يَأْتِي بها الْإِمَامُ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بها تَبَرُّكًا كما يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَهَلْ يَأْتِي بها في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ في الرَّكَعَاتِ الْأُخَرِ عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّهُ لَا يَأْتِي بها إلَّا في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بها تَبَرُّكًا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى كَالتَّعَوُّذِ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بها في كل رَكْعَةٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ لم تُجْعَلْ من الْفَاتِحَةِ قَطْعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَصَارَتْ من الْفَاتِحَةِ عَمَلًا فَمَتَى لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ احْتِيَاطًا
وَأَمَّا عِنْدَ رَأْسِ كل سُورَةٍ في الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ يَأْتِي بها احْتِيَاطًا كما في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهَا من السُّورَةِ مُنْقَطِعٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ على ما مَرَّ وفي أنها لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ لَا إجْمَاعَ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ هذا الِاحْتِمَالُ في حَقِّ الْجَهْرِ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ أَصْلٌ في الْأَذْكَارِ وَالْجَهْرَ بها بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ فإذا اُحْتُمِلَ أنها ذِكْرٌ في هذه الْحَالَةِ وَاحْتُمِلَ أنها من الْفَاتِحَةِ كانت الْمُخَافَتَةُ أَبْعَدَ عن الْبِدْعَةِ فَكَانَتْ أَحَقَّ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كان يُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بين الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ وإذا كان يَجْهَرُ بها لَا يَأْتِي لِأَنَّهُ لو فَعَلَ لَأَخْفَى فَيَكُونُ
____________________

(1/204)


سَكْتَةً له في وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ثُمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسُّورَةِ
وقد بَيَّنَّا أَصْلَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْرَهَا وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ في بَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمِقْدَارَ الذي يَخْرُجُ بِهِ عن حَدِّ الْكَرَاهَةِ وَالْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَبَّ من الْقِرَاءَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَدْرُ الذي يَخْرُجُ بِهِ عن حَدِّ الْكَرَاهَةِ هو أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً قَصِيرَةً قَدْرَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أو ثَلَاثَ آيَاتٍ من أَيِّ سُورَةٍ كانت حتى لو قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا أو قَرَأَ مَعَهَا آيَةً أو آيَتَيْنِ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا
وَأَقْصُرُ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ ولم يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْجَوَازِ بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ وَأَدَاءُ الْمَفْرُوضِ على وَجْهِ النُّقْصَانِ مَكْرُوهٌ
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ من الْقِرَاءَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فيه عن أبي حَنِيفَةَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَيَقْرَأُ الْإِمَامُ في الْفَجْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا بِأَرْبَعِينَ آيَةً مع فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَرْبَعِينَ خَمْسِينَ سِتِّينَ سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَى الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ ما بين سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ سُورَةَ { ق } حتى أَخَذَ بَعْضُ النِّسْوَانِ منه في صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْهُنَّ أُمُّ هِشَامِ بِنْتُ الحرث ( ( ( الحارث ) ) ) بن النُّعْمَانِ وَعَنْ مورث ( ( ( مورق ) ) ) الْعِجْلِيّ قال تَلَقَّنْتُ سُورَةَ { ق } وَاقْتَرِبْ من في رسول اللَّهِ من كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا في صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي قَرَأَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وفي رِوَايَةٍ { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } { إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ }
وَرَوَى ابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وأبي ( ( ( وأبو ) ) ) هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي كان يَقْرَأُ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى من الْفَجْرِ بألم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وفي الْأُخْرَى بِهَلْ أتى على الْإِنْسَانِ
وَعَنْ أبي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ ما بين سِتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةٍ كَذَا ذَكَرَ وَكِيعٌ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ في الْفَجْرِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فلما فَرَغَ قال له عُمَرُ كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ يا خَلِيفَةَ رسول اللَّهِ فقال رضي اللَّهُ عنه لو طَلَعَتْ لم تَجِدْنَا غَافِلِينَ
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فلما انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ فَرَكَعَ
وَوَفَّقَ بعضهم بين الرِّوَايَاتِ فقال الْمَسَاجِدُ ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) ) مَسْجِدٌ له قَوْمٌ زُهَّادٌ وَعُبَّادٌ يَرْغَبُونَ في الْعِبَادَةِ وَمَسْجِدٌ له قَوْمٌ كُسَالَى غَيْرُ رَاغِبِينَ في الْعِبَادَةِ وَمَسْجِدٌ له قَوْمٌ أَوْسَاطٌ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَ بِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قِرَاءَةً في الْأَوَّلِ وَبِأَدْنَاهَا قِرَاءَةً في الثَّانِي وَبِأَوْسَطِهَا قِرَاءَةً في الثَّالِثِ عَمَلًا بِالرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولًا على هذا
وَيَقْرَأُ في الظُّهْرِ بِنَحْوٍ من ذلك أو دُونِهِ ذكره ( ( ( وذكره ) ) ) في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال حزرنا ( ( ( حررنا ) ) ) قِرَاءَةَ رسول اللَّهِ في صَلَاةِ الظُّهْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِينَ آيَةً
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن أبي قَتَادَةَ عن أبيه أَنَّهُ قال صلى بِنَا رسول اللَّهِ الظُّهْرَ وَقَرَأَ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وفي الْعَصْرِ يَقْرَأُ بِعِشْرِينَ آيَةً مع فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بن سَمُرَةَ أَنَّ النبي كان يَقْرَأُ في الْعَصْرِ بِسُورَةِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وفي الْعِشَاءِ مِثْلُ ذلك
في رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِقَوْلِ النبي لِمُعَاذٍ حين كان قرأ ( ( ( يقرأ ) ) ) الْبَقَرَةَ في صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْنَ أنت من الشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَلِأَنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الصَّلَاةِ على الْقَوْمِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ إيَّاهُمْ
وفي الْمَغْرِبِ بِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ خَمْسِ آيَاتٍ أو سِتِّ آيَاتٍ مع فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ في الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطُوَالِ الْمُفَصَّلِ وفي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وفي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ وفي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ تَأْخِيرُهَا وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْرَأُ في الظُّهْرِ في الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ سَوَاءٌ وَالْمَغْرِبُ دُونَ ذلك
وَرَوَى الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُ في الظُّهْرِ بِعَبَسَ أو إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ في الْأُولَى وفي الثَّانِيَةِ بِلَا أُقْسِمُ أو وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وفي الْعَصْرِ يَقْرَأُ في الْأُولَى وَالضُّحَى وَالْعَادِيَاتِ وفي الثَّانِيَةِ بِأَلْهَاكُمْ أو وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ وفي الْمَغْرِبِ في الْأُولَى مِثْلَ ما في الْعَصْرِ وفي الْعِشَاءِ في الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ ما في الظُّهْرِ فَقَدْ جَعَلَهَا في الْأَصْلِ كَالْعَصْرِ وفي الْمُجَرَّدِ كَالظُّهْرِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
____________________

(1/205)


وقال وَقَدْرُ الْقِرَاءَةِ في الْفَجْرِ لِلْمُقِيمِ قَدْرُ ثَلَاثِينَ آيَةً إلَى سِتِّينَ آيَةً سِوَى فاتحة ( ( ( الفاتحة ) ) ) الكتاب في الرَّكْعَةِ الْأُولَى وفي الثَّانِيَةِ ما بين عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ وفي الظُّهْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى من الْفَجْرِ وفي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وفي الْمَغْرِبِ في الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ من قِصَارِ الْمُفَصَّلِ قال وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحَبُّ الرِّوَايَاتِ التي رَوَاهَا الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الْقِرَاءَةِ في الصَّلَوَاتِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الناس فَوَقْتُ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتُطَوَّلُ فيه الْقِرَاءَةُ كيلا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ وَكَذَا وَقْتُ الظُّهْرِ في الصَّيْفِ لِأَنَّهُمْ يَقِيلُونَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتُ رُجُوعِ الناس إلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَنْقُصُ عَمَّا في الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ وَكَذَا وَقْتُ الْعِشَاءِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ على النَّوْمِ فَكَانَ مِثْلَ وَقْتِ الْعَصْرِ وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ على الْأَكْلِ فَقُصِّرَ فيها الْقِرَاءَةُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِمْ عن الْأَكْلِ خُصُوصًا لِلصَّائِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ وَحَالِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ
والجملة فيه أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ ما يَخِفُّ على الْقَوْمِ وَلَا يَثْقُلُ عليهم بَعْدَ أَنْ يَكُونَ على التَّمَامِ لِمَا رُوِيَ عن عُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قال آخِرُ ما عَهِدَ إلَيَّ رسول اللَّهِ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من أَمَّ قَوْمًا فَلْيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فإن فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ مُعَاذٍ لَمَّا شَكَوْا إلَى رسول اللَّهِ تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ دَعَاهُ فقال أَفَتَّانٌ أنت يا مُعَاذُ قَالَهَا ثَلَاثًا أَيْنَ أنت من وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا
قال الرَّاوِي فما رأيت رَسُولَ اللَّهِ في مواعظه ( ( ( موعظة ) ) ) أَشَدَّ منه في تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ
وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَتَمَّ وَأَخَفَّ مِمَّا صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا فلما فَرَغَ قالوا أَوْجَزْتَ فقال سمعت بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ على أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ
دَلَّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي له أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْقَوْمِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ ذلك مَنْدُوبًا إلَيْهِ هذا الذي ذَكَرْنَا في الْمُقِيمِ
فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ ما يَخِفُّ عليه وَعَلَى الْقَوْمِ بِأَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً من قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قال صلى بِنَا رسول اللَّهِ في السَّفَرِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ
وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَكَانُ الْمَشَقَّةِ فَلَوْ قَرَأَ فيه مِثْلَ ما يَقْرَأُ في الْحَضَرِ لَوَقَعُوا في الْحَرَجِ وَانْقَطَعَ بِهِمْ السَّيْرُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا أُثِرَ في قَصْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤْثَرَ في قَصْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى في الْقِرَاءَةِ على الثَّانِيَةِ في الْفَجْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يُفَضِّلُ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا
وَكَذَا هذا الِاخْتِلَافُ في الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رَوَى أبو قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي كان يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى على غَيْرِهَا في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا
وَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ تَسْبِيبٌ إلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ فَيُفَضِّلُ كما في صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في الْجُمُعَةِ في الركعة الأولى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وفي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ
وَهُمَا في الْآيِ مُسْتَوِيَتَانِ وكان يَقْرَأُ في الْأَوْلَى سُورَةَ الْأَعْلَى وفي الثَّانِيَةِ الْغَاشِيَةَ
وَهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ في اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَلَا تُفَضَّلُ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى إلَّا لِدَاعٍ وقد وُجِدَ الدَّاعِي في الْفَجْرِ وهو الْحَاجَةُ إلَى الْإِعَانَةِ على إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَكَانَ التَّفْضِيلُ من بَابِ النَّظَرِ وَلَا دَاعِيَ له في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ يَقَظَةٍ فَالتَّخَلُّفُ عن الْجَمَاعَةِ يَكُونُ تَقْصِيرًا وَالْمُقَصِّرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ كان يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِالثَّنَاءِ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَا بِالْقِرَاءَةِ والمستحب أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ تَامَّةٍ كَذَا وَرَدَ في الحديث وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً في الرَّكْعَتَيْنِ قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ ما جاء بِهِ الْأَثَرُ وقال عَامَّتُهُمْ لَا يُكْرَهُ وَكَذَا رَوَى عِيسَى بن أَبَانَ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ
وَرَوَى في ذلك حَدِيثًا بِإِسْنَادِهِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ في الْفَجْرِ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَى قَوْلِهِ تعالى { قُلْ اُدْعُوَا اللَّهَ أو اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ } في الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ قام إلَى الثَّانِيَةِ وَخَتَمَ السُّورَةَ
وَلَوْ جَمَعَ بين السُّورَتَيْنِ في رَكْعَةٍ
____________________

(1/206)


لَا يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي أَوْتَرَ بِسَبْعِ سُوَرٍ من الْمُفَصَّلِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَجْمَعَ
وَلَوْ قَرَأَ من وَسَطِ السُّورَةِ أو آخِرِهَا جاز كَذَا رَوَى الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ ما ذَكَرْنَا
فإذا فَرَغَ من الْفَاتِحَةِ يقول آمِينَ إمَامًا كان أو مُقْتَدِيًا أو مُنْفَرِدًا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُ الناس لَا يُؤْتَى بِالتَّأْمِينِ أَصْلًا وقال مَالِكٌ يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فإن الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ
حَثَّنَا على التَّأْمِينِ من غَيْرِ فَصْلٍ
ثُمَّ السُّنَّةُ فيه الْمُخَافَتَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْجَهْرُ في صَلَاةِ الْجَهْرِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّهُ عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ وَلَوْ لم يَكُنْ مَسْمُوعًا لم يَكُنْ مَعْلُومًا فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ وَعَنْ وَائِلِ بن حُجْرٍ أَنَّ النبي قال آمِينَ وَمَدَّ بها صَوْتَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن وَائِلِ بن حُجْرٍ أَنَّ النبي أَخْفَى بالتأمين ( ( ( التأمين ) ) ) وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إذَا قال الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فإن الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلَوْ كان مَسْمُوعًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ فإن الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلِأَنَّهُ من بَابِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَجِبْ أو لِيَكُنْ كَذَلِكَ قال اللَّهُ تَعَالَى { قد أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } وَمُوسَى كان يَدْعُو وَهَارُونُ كان يُؤَمِّنُ وَالسُّنَّةُ في الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ
وَحَدِيثُ وَائِلٍ طَعَنَ فيه النَّخَعِيّ وقال أَشَهِدَ وَائِلٌ وَغَابَ عبد اللَّهِ
على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَهَرَ مَرَّةً لِلتَّعْلِيمِ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث الْآخَرِ لِأَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ وهو ما بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْفَاتِحَةِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا وإذا فَرَغَ من الْقِرَاءَةِ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ وَيُكَبِّرُ مع الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ من الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ فَسُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُكَبِّرُ حَالَ ما رَكَعَ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ حَالَ ما يَرْفَعُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النبي كان يُكَبِّرُ عِنْدَ كل خَفْضٍ وَرَفْعٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ كان يُكَبِّرُ وهو يَهْوِي
وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ سُنَّةٌ في كل رُكْنٍ لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا هو من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ كما هو مُعَظِّمٌ له بِالْفِعْلِ فَيَزْدَادُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالِانْتِقَالِ من رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ بِمَعْنَى الرُّكْنِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ الذِّكْرُ فيه مَسْنُونًا
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ في الْفَرَائِضِ عِنْدَنَا إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وقال الشَّافِعِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ وقال بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كل تَكْبِيرَةٍ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَيْدِي في تَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَوَائِلِ بن حُجْرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّ النبي كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذلك
وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قال صَلَّيْت خَلْفَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ فلم يَرْفَعْ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ فقلت له لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْكَ فقال صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ فلم يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا في التَّكْبِيرَةِ التي تُفْتَتَحُ بها الصَّلَاةُ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لهم رسول اللَّهِ بِالْجَنَّةِ ما كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَخِلَاف هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ قَبِيحٌ
وفي الْمَشَاهِيرِ أَنَّ النبي قال لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وفي الْعِيدَيْنِ وَالْقُنُوتِ في الْوَتْرِ وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ فقال مالي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شُمُسٍ اُسْكُنُوا في الصَّلَاةِ
وفي رِوَايَةٍ قَارُّوا في الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ هذه تَكْبِيرَةٌ يُؤْتَى بها في حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من رَفْعِ الْيَدَيْنِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الذي خَلْفَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِعْلَامِ بِالرَّفْعِ في التَّكْبِيرَاتِ التي يُؤْتَى بها في حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَتَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ في الْعِيدَيْنِ وتكبير ( ( ( وتكبيرات ) ) ) الْقُنُوتِ فَأَمَّا فِيمَا يُؤْتَى بِهِ في حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى
____________________

(1/207)


الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ
وما رَوَاهُ مَنْسُوخٌ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ كان يَرْفَعُ ثُمَّ تَرَكَ ذلك بِدَلِيلِ ما روي عن ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رَفَعَ رسول اللَّهِ فَرَفَعْنَا وَتَرَكَ فَتَرَكْنَا دَلَّ عليه أَنَّ مَدَارَ حديث الرَّفْعِ على عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بن كُلَيْبٍ عن أبيه قال صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
وَمُجَاهِدٌ قال صَلَّيْت خَلْفَ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
فَدَلَّ عَمَلُهُمَا على خِلَافِ ما رَوَيَا على مَعْرِفَتِهِمَا انْتِسَاخَ ذلك
على أَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ الرَّفْعُ لَا تَرْبُو دَرَجَتُهُ على السُّنَّةِ وَلَوْ لم يَثْبُتْ كان بِدْعَةً وَتَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى من إتْيَانِ السُّنَّةِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ مع ثُبُوتِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَالتَّحْصِيلُ مع عَدَمِ الثُّبُوتِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِعَمَلٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بِالْيَدَيْنِ جميعا وهو تَفْسِيرُ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وقد بَيَّنَّا الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ من الرُّكُوعِ في مَوْضِعِهِ
وَأَمَّا سُنَنُ الرُّكُوعِ فَمِنْهَا أَنْ يَبْسُطَ ظَهْرَهُ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي كان إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حتى لو وُضِعَ على ظَهْرِهِ قَدَحٌ من مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُنَكِّسَ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ أَيْ يُسَوِّيَ رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان إذَا رَكَعَ لم يَرْفَعْ رَأْسَهُ ولم يُنَكِّسْهُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ نهى أَنْ يذبح ( ( ( يدبح ) ) ) الْمُصَلِّي تذبيح ( ( ( تدبيح ) ) ) الْحِمَارِ
وهو أَنْ يطأطىء ( ( ( يطأطئ ) ) ) رَأْسَهُ إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أو أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ وَلِأَنَّ بَسْطَ الظَّهْرِ سُنَّةٌ وأنه لَا يَحْصُلُ مع الرَّفْعِ وَالتَّنْكِيسِ
وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم وقال ابن مَسْعُودٍ السُّنَّةُ هِيَ التَّطْبِيقُ وهو أَنْ يَجْمَعَ بين كَفَّيْهِ وَيُرْسِلَهُمَا بين فَخِذَيْهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لِأَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه إذَا رَكَعْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ على رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّجْ بين أَصَابِعِكَ
وفي رِوَايَةٍ وَفَرِّقْ بين أَصَابِعِكَ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سنت ( ( ( ثنيت ) ) ) لَكُمْ الرُّكَبُ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ
وَالتَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ( سَعِيدَ بن الْعَاصِ ) رَأَى ابْنَهُ يُطَبِّقُ في الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عن ذلك فقال رأيت ابْنَ مَسْعُودٍ يُطَبِّقُ في الصَّلَاةِ فقال رُحِمَ الله ابن مَسْعُودٍ كنا نُطَبِّقُ في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُهِينَا عنه
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كان يَفْعَلُهُ لِأَنَّ النَّسْخَ لم يَبْلُغْهُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَرِّقُ بين أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَضْعُ مع الْأَخْذِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَالتَّفْرِيقُ أَمْكَنُ من الْأَخْذِ
وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ سبحانه ( ( ( سبحان ) ) ) رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ وقال مَالِكٌ في قَوْلِ من تَرَكَ التَّسْبِيحَ في الرُّكُوعِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وفي رِوَايَةٍ عنه أَنَّهُ قال لَا نَجِدُ في الرُّكُوعِ دُعَاءً مُؤَقَّتًا
وَرُوِيَ عن أبي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال من نَقَصَ من الثَّلَاثِ في تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لم تُجْزِهِ صَلَاتُهُ
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ التَّسْبِيحِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ مع كَوْنِ التَّسْبِيحِ سُنَّةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً ما رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ قال لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال النبي اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ
ثُمَّ السُّنَّةُ فيه أَنْ يقوله ( ( ( يقول ) ) ) ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وقال الشَّافِعِيُّ يقول مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ مُمْتَثِلًا بِتَحْصِيلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا صلى أحدكم فَلْيَقُلْ في رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وفي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ
وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُحْمَلُ عليه عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْرَهُ لِأَنَّ الحديث جَعَلَ الثَّلَاثَ أَدْنَى التَّمَامِ فما دُونَهُ يَكُونُ نَاقِصًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ زَادَ على الثَّلَاثِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ
وَهَذَا إذَا كان مُنْفَرِدًا فَإِنْ كان مُقْتَدِيًا يُسَبِّحُ إلَى أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ وَأَمَّا إذَا كان إمَامًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَلَا يُطَوِّلُ على الْقَوْمِ لِمَا رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ التَّطْوِيلَ سَبَبُ التَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ
وقال بَعْضُهُمْ يَقُولُهَا أَرْبَعًا حتى يَتَمَكَّنَ الْقَوْمُ من أَنْ يَقُولُوهَا ثَلَاثًا
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقُولُهَا خَمْسًا
وقال الشَّافِعِيُّ يَزِيدُ في الرُّكُوعِ على التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّهُمَّ لك رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ
وَيَقُولُ في السُّجُودِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
كَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وهو عِنْدَنَا مَحْمُولٌ
____________________

(1/208)


على النَّوَافِلِ
ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا كان في الرُّكُوعِ فَسَمِعَ خَفْقَ النَّعْلِ مِمَّنْ دخل الْمَسْجِدَ هل يَنْتَظِرُهُ أَمْ لَا قال أبو يُوسُفَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أبي لَيْلَى عن ذلك فكرها ( ( ( فكرهاه ) ) )
وقال أبو حَنِيفَةَ أَخْشَى عليه أَمْرًا عَظِيمًا يَعْنِي الشِّرْكَ
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذلك وَعَنْ أبي مُطِيعٍ أَنَّهُ كان لَا يَرَى به بَأْسًا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ مِقْدَارَ تَسْبِيحَةٍ أو تَسْبِيحَتَيْنِ وقال بَعْضُهُمْ يُطَوِّلُ التَّسْبِيحَاتِ وَلَا يَزِيدُ على الْعَدَدِ
وقال أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ إنْ كان الرَّجُلُ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ له الِانْتِظَارُ وَإِنْ كان فَقِيرًا يَجُوزُ وقال الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ إنْ كان الْإِمَامُ قد عَرَفَ الْجَائِيَ فإنه لَا يَنْتَظِرُهُ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَيْلَ وَإِنْ لم يَعْرِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ في ذلك إعَانَةً على الطَّاعَةِ والله أعلم
وإذا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ وقال سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ولم يَرْفَعْ يَدَيْهِ فَيُحْتَاجُ فيه إلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وهو الِانْتِقَالُ من الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ وأما رَفْعُ الرَّأْسِ وَعَوْدُهُ إلَى الْقِيَامِ فَهُوَ تَعْدِيلُ الِانْتِقَالِ وأنه ليس بِفَرْضٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَلْ هو وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ على ما مَرَّ
وَأَمَّا سُنَنُ هذا الِانْتِقَالِ فَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فَرْضٌ فَكَانَ الذِّكْرُ فيه مَسْنُونًا وَاخْتَلَفُوا في مَاهِيَّةِ الذِّكْرِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان إمَامًا أو مُقْتَدِيًا أو مُنْفَرِدًا فَإِنْ كان إمَامًا يقول سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَا يقول رَبَّنَا لك الْحَمْدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بين التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان رسول اللَّهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ قال سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لك الْحَمْدُ وَغَالِبُ أَحْوَالِهِ كان هو الْإِمَامُ وَكَذَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْإِمَامَ منفرد في حق نفسه وكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه ولأن الإمام مُنْفَرِدٌ في حَقِّ نَفْسِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بين هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَكَذَا الْإِمَامُ وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ تَحْرِيضٌ على التَّحْمِيدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كيلا يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { أَتَأْمُرُونَ الناس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ }
وَاحْتَجَّ أبو حَنِيفَةَ بِمَا رَوَى أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وأبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي أَنَّهُ قال إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه فإذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وإذا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وإذا قال وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ وإذا رَكَعَ فَارْكَعُوا وإذا قال سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لك الْحَمْدُ
قُسِّمَ التَّحْمِيدُ وَالتَّسْمِيعُ بين الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَجُعِلَ التَّحْمِيدُ لهم وَالتَّسْمِيعُ له وفي الْجَمْعِ بين الذِّكْرَيْنِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ هذه الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينُ أَيْضًا بِقَضِيَّةِ هذا الحديث وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذلك لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَلِأَنَّ إتْيَانَ التَّحْمِيدِ من الْإِمَامِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
بَيَانُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ يُقَارِنُ الِانْتِقَالَ فإذا قال الْإِمَامُ مُقَارِنًا لِلِانْتِقَالِ سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يقول الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا له رَبَّنَا لك الْحَمْدُ
فَلَوْ قال الْإِمَامُ بَعْدَ ذلك لَوَقَعَ قَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِ الْمُقْتَدِي فَيَنْقَلِبُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا وَمُرَاعَاةُ التَّبَعِيَّةِ في جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها مَحْمُولٌ على حَالَةِ الِانْفِرَادِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ
وَقَوْلُهُمْ الْإِمَامُ مُنْفَرِدٌ في حَقِّ نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْمَعُ بين الذِّكْرَيْنِ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ في الْمُنْفَرِدِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَنَقُولُ إذَا أتى بِالتَّسْمِيعِ فَقَدْ صَارَ دَالًّا على التَّحْمِيدِ وَالدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فلم يَكُنْ نَاسِيًا نَفْسَهُ
هذا إذَا كان إمَامًا فَإِنْ كان مُقْتَدِيًا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِالْمُنْفَرِدِ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا أَثَرَ له في إسْقَاطِ الْأَذْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا في الْقِرَاءَةِ
وَلَنَا أَنَّ النبي قَسَّمَ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ بين الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وفي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا من الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ دُعَاءٌ إلَى التَّحْمِيدِ وَحَقُّ من دُعِيَ إلَى شَيْءٍ الْإِجَابَةُ إلَى ما دُعِيَ إلَيْهِ لا إعادة ما دعي إليه وَإِنْ كان مُنْفَرِدًا فإنه يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ دُونَ التَّحْمِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ وَالشَّيْخُ أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ في بَعْضِ النَّوَادِرِ عنه أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غير وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ما يَدُلُّ عليه فإن أَبَا يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ من
____________________

(1/209)


الرُّكُوعِ في الْفَرِيضَةِ أَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي قال يقول رَبَّنَا لك الْحَمْدُ وَيَسْكُتُ وما أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمُرَادُ منه الْمُنْفَرِدَ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ تَرْغِيبٌ في التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ معه من يُرَغِّبُهُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُرَغِّبُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ حَاجَتُهُ إلَى التَّحْمِيدِ لَا غير
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ التَّحْمِيدَ يَقَعُ في حَالَةِ الْقَوْمَةِ وَهِيَ مَسْنُونَةٌ وَسُنَّةُ الذِّكْرِ تَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَالتَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا لم يُشَرَّعْ في القعدة ( ( ( القعدتين ) ) ) بين السَّجْدَتَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في حديث عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَلَا مَحْمَلَ له سِوَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ وَلِهَذَا كان عَمَلُ الْأُمَّةُ على هذا وما كان اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ على ضَلَالَةٍ
وَاخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ في لَفْظِ التَّحْمِيدِ في بعضها ربنا لك الحمد وفي بَعْضِهَا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وفي بَعْضِهَا اللهم رَبَّنَا لك الْحَمْدُ وَالْأَشْهَرُ هو الْأَوَّلُ
وإذا اطْمَأَنَّ قَائِمًا يَنْحَطُّ لِلسُّجُودِ لِأَنَّهُ فَرَغَ من الرُّكُوعِ وَأَتَى بِهِ على وَجْهِ التَّمَامِ فَيَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وهو السُّجُودُ إذْ الِانْتِقَالُ من رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَرْضٌ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ على ما مَرَّ
وَمِنْ سُنَنِ الِانْتِقَالِ أَنْ يُكَبِّرَ مع الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ على الْأَرْضِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي نهى عن بُرُوكِ الْجَمَلِ في الصَّلَاةِ
وهو يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا
وَلَنَا عَيْنُ هذا الحديث لِأَنَّ الْجَمَلَ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ قَوْلِنَا وَهَذَا إذَا كان الرَّجُلُ حَافِيًا يُمْكِنُهُ ذلك فَإِنْ كان ذَا خُفٍّ لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ فإنه يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى على الْيُسْرَى
وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ وقال بَعْضُهُمْ أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَالْكَلَامُ في فَرْضِيَّةِ أَصْلِ السُّجُودِ وَالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ منه وَمَحَلِّ إقَامَةِ الْفَرْضِ قد مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ السُّجُودِ
منها أَنْ يَسْجُدَ على الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَجْمَعَ في السُّجُودِ بين الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ فَيَضَعُهُمَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ من لم يَمَسَّ أَنْفُهُ الْأَرْضَ كما يَمَسُّ جَبْهَتُهُ
وهو عِنْدَنَا مَحْمُولٌ على التَّهْدِيدِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ لِمَا مَرَّ
وَمِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ على الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ من غَيْرِ حَائِلٍ من الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَلَوْ سَجَدَ على كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ جَازَ عِنْدَنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْآثَارِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان يَسْجُدُ على كَوْرِ عِمَامَتِهِ
وَلِأَنَّهُ لو سَجَدَ على عِمَامَتِهِ وَهِيَ مُنْفَصِلَةٌ عنه وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا كانت مُتَّصِلَةً بِهِ
وَلَوْ سَجَدَ على حَشِيشٍ أو قُطْنٍ إنْ تَسَفَّلَ جَبِينُهُ فيه حتى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا إذَا صلى على طُنْفُسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَ إذَا كان مُتَلَبِّدًا وَكَذَا إذَا صلى على الثَّلْجِ إذَا كان مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ زَحَمَهُ الناس فلم يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ على ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ اُسْجُدْ على ظَهْرِ أَخِيكَ فإنه مَسْجِدٌ لك وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ سَجَدَ على ظَهْرِ شَرِيكِهِ في الصَّلَاةِ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ في الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ في السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ
وَمِنْهَا أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نحو الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ منه فَلِيُوَجِّهَ من أَعْضَائِهِ إلَى الْقِبْلَةِ ما اسْتَطَاعَ
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَمِدَ على رَاحَتَيْهِ لِقَوْلِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ إذَا سَجَدْتَ فَاعْتَمِدْ على رَاحَتَيْكَ
وَمِنْهَا أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَيْهِ لِقَوْلِهِ لِابْنِ عُمَرَ وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ
أَيْ أَظْهِرْ الضَّبُعَ وهو وَسَطُ الْعَضُدِ بِلَحْمِهِ وَرَوَى جَابِرٌ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي كان إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عن جَنْبَيْهِ حتى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَدِلَ في سُجُودِهِ وَلَا يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ وَلَا يَفْتَرِشْ أحدكم ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ
وقال مَالِكٌ يَفْتَرِشُ في النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ وهو محجوج ( ( ( فاسد ) ) ) لِمَا رَوَيْنَا من الحديث من غَيْرِ فَصْلٍ
وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهَا وَتَنْخَفِضُ وَلَا تَنْتَصِبَ كَانْتِصَابِ الرَّجُلِ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا لِأَنَّ ذلك أَسْتَرُ لها
وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ في سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ حتى يَطْمَئِنَّ قَاعِدًا وَالرَّفْعُ فَرْضٌ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ فَلَا بُدَّ من الرَّفْعِ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ في الْقَعْدَةِ بين السَّجْدَتَيْنِ لِلِاعْتِدَالِ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ في قَوْلِ
____________________

(1/210)


أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ أو وَاجِبَةٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ على ما مَرَّ
وَأَمَّا مِقْدَارُ الرَّفْعِ بين السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ مِقْدَارَ ما تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ أَنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ ما يُسَمَّى بِهِ رَافِعًا جَازَ وَكَذَا قال محمد بن سَلَمَةَ أنه إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ ما لا يُشْكِلُ على النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ جَازَ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْفَصْلُ بين الرُّكْنَيْنِ وَالِانْتِقَالُ وَهَذَا هو الْمَفْرُوضُ
فَأَمَّا الِاعْتِدَالُ فَمِنْ بَابِ السُّنَّةِ أو الْوَاجِبِ على ما مَرَّ وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يُكَبِّرَ مع الرَّفْعِ لِمَا مَرَّ
ثُمَّ يَنْحَطُّ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مُكَبِّرًا وَيَقُولُ وَيَفْعَلُ فيها مِثْلَ ما فَعَلَ في الْأُولَى ثُمَّ يَنْهَضُ على صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ يَعْنِي إذَا قام من الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ وَمِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ وقال الشَّافِعِيُّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُومُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى مَالِكُ بن الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النبي كان إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا وَاعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ حَالَةَ الْقِيَامِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي كان إذَا قام من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يَنْهَضُ على صُدُورِ قَدَمَيْهِ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أنهم كَانُوا يَنْهَضُونَ على صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ على حَالَةِ الضَّعْفِ حتى كان يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قد بَدُنْتُ
أَيْ كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ فَاخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ
وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ لَا على الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ رُكْبَتَيْهِ قبل يَدَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث مَالِكِ بن الْحُوَيْرِثِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قال من السُّنَّةِ في الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النبي إنَّمَا فَعَلَ ذلك في حَالَةِ الْعُذْرِ ثُمَّ يَفْعَلُ ذلك في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ما فَعَلَ في الْأُولَى وَيَقْعُدُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وقد بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ صِفَةَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ شُرِعَتْ لِلْفَصْلِ بين الشَّفْعَيْنِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَعْدَةِ وَذِكْرَ الْقَعْدَةِ
أَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْتَرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى في الْقَعْدَتَيْنِ جميعا وَيَقْعُدُ عليها وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا
وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ فَأَمَّا في الثَّانِيَةِ فإنه يَتَوَرَّكُ
وقال مَالِكُ يَتَوَرَّكُ فِيهِمَا جميعا وَتَفْسِيرُ التَّوَرُّكِ أَنْ يَضَعَ إليتيه على الْأَرْضِ وَيُخْرِجَ رِجْلَيْهِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيَجْلِسُ على وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قال فِيمَا وَصَفَ صَلَاةَ رسول اللَّهِ كان إذَا جَلَسَ في الْأُولَى فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عليها وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وإذا جَلَسَ في الثَّانِيَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ وَأَخْرَجَهُمَا من تَحْتِ وَرِكِهِ الْيُمْنَى
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي كان إذَا قَعَدَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عليها وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا
وَرَوَى أَنَسُ بن مَالِكٍ رضي الله عنه عن النبي أَنَّهُ نهى عن التَّوَرُّكِ في الصَّلَاةِ
وَحَدِيثُ أبي حُمَيْدٍ مَحْمُولٌ على حَالِ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقْعُدُ كَأَسْتَرِ ما يَكُونُ لها فَتَجْلِسُ مُتَوَرِّكَةً لِأَنَّ مُرَاعَاةَ فَرْضِ السَّتْرِ أَوْلَى من مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقَعْدَةِ
وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نحو الْقِبْلَةِ لِمَا مَرَّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى على فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى على فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ في حَالَةِ الْقَعْدَةِ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان إذَا قَعَدَ وَضَعَ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى على فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ
وَكَذَا الْيُسْرَى على فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ وَلِأَنَّ في هذا تَوْجِيهَ أَصَابِعِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَفِيمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ تَوْجِيهُهَا إلَى الْأَرْضِ والله أعلم
وَأَمَّا ذِكْرُ الْقَعْدَةِ فَالتَّشَهُّدُ وَالْكَلَامُ في التَّشَهُّدِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّشَهُّدِ وفي بَيَانِ قَدْرِ التَّشَهُّدِ وفي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ وفي بَيَانِ سُنَّةِ التَّشَهُّدِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في كَيْفِيَّتِهِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِتَشَهُّدِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَمَالِكٌ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وهو أَنْ يَقُولَ
____________________

(1/211)


التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
وَمِنْ الناس من اخْتَارَ تَشَهُّدَ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وفي هذا حِكَايَةٌ فإنه رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دخل على أبي حَنِيفَةَ فقال أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ فقال بِوَاوَيْنِ فقال الْأَعْرَابِيُّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كما بَارَكَ في لَا وَلَا ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ فَسَأَلُوهُ عن سُؤَالِهِ فقال إنَّ هذا سَأَلَنِي عن التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقُلْت بِوَاوَيْنِ قال بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كما بَارَكَ في شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هذه الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ كَمَالُ فِطْنَةِ أبي حَنِيفَةَ وَنَفَاذُ بَصِيرَتِهِ حَيْثُ كان يَقِفُ على الْمُرَادِ بِحَرْفٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كان من شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا كان يَخْتَارُ ما اسْتَقَرَّ عليه الْأَمْرُ فَأَمَّا ابن مَسْعُودٍ فَهُوَ من الشُّيُوخِ يَنْقُلُ ما كان في الِابْتِدَاءِ كما نُقِلَ عنه التَّطْبِيقُ وَغَيْرُهُ وَلِأَنَّ هذا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تعالى لِأَنَّ فيه وَصْفَ التَّحِيَّةِ بِالْبَرَكَةِ على ما قال اللَّهُ تَعَالَى { تَحِيَّةً من عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وَفِيهِ ذُكِرَ السَّلَامُ مُنَكَّرًا كما في قَوْله تَعَالَى { سَلَامٌ على نُوحٍ في الْعَالَمِينَ } { سَلَامٌ على إبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ على مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ قَوْلًا من رَبٍّ رَحِيمٍ } فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى احتج ( ( ( واحتج ) ) ) مَالِكٌ بِأَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ على مِنْبَرِ رسول اللَّهِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال أَخَذَ رسول اللَّهِ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كما كان يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ من الْقُرْآنِ وقال قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ
إلَى آخِرِهَا وقال إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ
وَأَخْذُ الْيَدِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ وَكَذَا أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ قُلْ وَكَذَا عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بهذا التَّشَهُّدِ فَمَنْ لم يَأْتِ بِهِ لَا تُوصَفُ صَلَاتُهُ بِالتَّمَامِ وَلِأَنَّ هذا التَّشَهُّدَ هو الْمُسْتَفِيضُ في الْأُمَّةِ الشَّائِعُ في الصَّحَابَةِ فإنه رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ على مِنْبَرِ رسول اللَّهِ هَكَذَا ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا وَكَذَا رَوَى ابن عُمَرَ عن الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يُعَلِّمُ الناس التَّشَهُّدَ كما يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ في الْكُتَّابِ وَذَكَرَ مِثْلَ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا رُوِيَ عن مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ على الْمِنْبَرِ على نَحْوِ ما نَقَلَهُ ابن مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ وَذَكَرَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَقَالَتْ هَكَذَا تَشَهَّدَ رسول اللَّهِ
وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَبْلَغُ في الثَّنَاءِ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عَطْفَ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ على الْبَعْضِ فَكَانَ كُلُّ لَفْظٍ ثَنَاءً على حِدَةٍ ومما ( ( ( وفيما ) ) ) ذَكَرَهُ ابن عَبَّاسٍ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا كما في الْيَمِينِ فإن قَوْلَهُ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ وَقَوْلَهُ وَاَللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ يَمِينٌ وَاحِدٌ وَكَذَا السَّلَامُ في هذا التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وفي ذلك التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ على طَرِيقِ التَّنْكِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّامَ أَبْلَغُ لِأَنَّ اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مع أَنَّ هذا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ أَيْضًا قال اللَّهُ تَعَالَى { وَالسَّلَامُ على من اتَّبَعَ الْهُدَى } { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يوم وُلِدْتُ }
وما ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ من التَّرْجِيحِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ على رِوَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وأحد لَا يقول بِهِ وما ذَكَرَهُ مَالِكٌ ضَعِيفٌ فإن أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ على مِنْبَرِ رسول اللَّهِ كما هو تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى والله أعلم
وَأَمَّا مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ فَمِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ في التَّشَهُّدِ حَرْفًا أو يبتدىء بِحَرْفٍ قَبْلَهُ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ يَأْخُذُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدَ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ
فَهَذَا نَصٌّ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عليه وما نُقِلَ في أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أو بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ وفي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فَشَاذٌّ لم يَشْتَهِرْ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا لَا يَزِيدُ على هذا الْمِقْدَارِ من الصَّلَوَاتِ وَالدَّعَوَاتِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَزِيدُ عليه ( ( ( عليهم ) ) ) اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النبي وفي كل رَكْعَتَيْنِ فَتَشَهَّدْ وَسَلِّمْ على الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى من تَبِعَهُمْ من عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ كان لَا يَزِيدُ في الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ على التَّشَهُّدِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ كان يُسْرِعُ النُّهُوضَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَلَا يَزِيدُ على التَّشَهُّدِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ على التَّشَهُّدِ
____________________

(1/212)


مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ فإن الطَّحَاوِيَّ قال من زَادَ على هذا فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وهو كان أَعْلَمَ الناس بمذاهب ( ( ( بمذهب ) ) ) السَّلَفِ وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَسَادًا في الْمَذْهَبِ وَلِأَنَّ هذا دُعَاءٌ وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ آخِرُ الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ من الحديث سَلَامُ التَّشَهُّدِ أو نَحْمِلُهُ على التَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَلَوْ زَادَ على التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ سَاهِيًا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَذُكِرَ في أَمَالِي الْحَسَنِ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
وَأَمَّا في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } جاء في التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ منه الدُّعَاءُ في آخِرِ الصَّلَاةِ أي فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ وقال لِابْنِ مَسْعُودٍ إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ ثُمَّ اخْتَرْ من الدَّعَوَاتِ ما شِئْت
وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الناس حتى يَكُونَ خُرُوجُهُ من الصَّلَاةِ على وَجْهِ السُّنَّةِ وهو إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ وَفَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا ما يُشْبِهُ كَلَامَ الناس هو ما لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ من غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أَعْطِنِي كَذَا أو زَوِّجْنِي امْرَأَةً وما لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الناس هو ما يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ من غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ لم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ على النبي
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي على النبي ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ إنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ على النبي على الدُّعَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا صلى أحدكم فَلْيَبْدَأْ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ على اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ثُمَّ بِالدُّعَاءِ
وَالصَّلَاةِ على النبي ما هو الْمَعْرُوفُ الْمُتَدَاوَلُ على أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ وَلَا يُكْرَهَ أَنْ يَقُولَ فيها وَارْحَمْ مُحَمَّدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَبَعْضُهُمْ كَرِهُوا ذلك وَزَعَمُوا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّقْصِيرَ منه في الطَّاعَةِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ من الْعِبَادِ لَا يَسْتَغْنِي عن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ قِيلَ وَلَا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ فقال وَلَا أنا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ
دَلَّ عليه أَنَّهُ جَازَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَالصَّلَاةُ من اللَّهِ رَحْمَةٌ ثُمَّ الصَّلَاةُ على النبي في الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا وَهِيَ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَلَهُ في فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ في الْأُولَى قَوْلَانِ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عليه } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ وقال لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يُصَلِّ عَلَيَّ في صَلَاتِهِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّ النبي حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ
من غَيْرِ شَرْطِ الصَّلَاةِ على النبي وَلَا حُجَّةَ في الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ منها النَّدْبُ بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا الصَّلَاةُ على النبي سَنَةٌ في الصَّلَاةِ
على أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً
وقد قال الْكَرْخِيُّ من أَصْحَابِنَا أن الصَّلَاةَ على النبي فَرْضُ الْعُمُرِ كَالْحَجِّ وَلَيْسَ في الْآيَةِ تَعْيِينُ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَبِهِ نَقُولُ
وَأَمَّا الصَّلَاةُ على النبي في غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ فَقَدْ كان الْكَرْخِيُّ يقول أنها فَرِيضَةٌ على كل بَالِغٍ عَاقِلٍ في الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وقال الطَّحَاوِيُّ كُلَّمَا ذَكَرَهُ أو سمع اسْمَهُ تَجِبُ
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فإذا امْتَثَلَ مَرَّةً في الصَّلَاةِ أو في غَيْرِهَا سَقَطَ الْفَرْضُ عنه كما يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هو الذِّكْرُ أو السَّمَاعُ وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ كما يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا من الْعِبَادَاتِ بِتَكَرُّرِ أَسْبَابِهَا
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ فَأَمَّا التَّشَهُّدُ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَوَاجِبٌ اسْتِحْسَانًا وقال الْقَاضِي أبو جَعْفَرٍ الاستروشني ( ( ( الأسروشني ) ) ) أنها ( ( ( إنه ) ) ) سَنَةٌ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ لا ذِكْرَ التَّشَهُّدِ أَدْنَى رُتْبَةً من الْقَعْدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ لَمَّا كانت فَرْضًا كانت الْقِرَاءَةُ فيها وَاجِبَةً فَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمَّا كانت وَاجِبَةً يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فيها سُنَّةً لِيَظْهَرَ انْحِطَاطُ رُتْبَتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فإن مُحَمَّدًا أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا
____________________

(1/213)


بِتَرْكِ الْوَاجِبِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَنَا حتى لو تَرَكَهُ عَمْدًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حتى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا سُنَّةُ التَّشَهُّدِ فَهِيَ الْإِخْفَاءُ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَعَدَّ منها التَّشَهُّدَ وَلِأَنَّهُ من بَابِ الثَّنَاءِ وَالْأَصْلُ في الْأَثْنِيَةِ وَالْأَدْعِيَةِ هو الْإِخْفَاءُ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُشِيرُ لِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ وقال بَعْضُهُمْ يُشِيرُ فإن مُحَمَّدًا قال في كِتَابِ الْمُسَبِّحَةِ حُدِّثْنَا عن النبي أَنَّهُ كان يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ما فَعَلَ النبي وَيَصْنَعُ ما صَنَعَهُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ
قال أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَعْقِدُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَيُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مع الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ وقال إنَّ النبي هَكَذَا كان يَفْعَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ وهو التَّسْلِيمُ فَالْكَلَامُ في صِفَةِ التَّسْلِيمِ وَقَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ قد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ التَّسْلِيمِ فَمِنْهَا أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّسْلِيمِ عن الْيَمِينِ لِمَا رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على الشِّمَالِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بها أَوْلَى وَلَوْ سَلَّمَ أَوَّلًا عن يَسَارِهِ أو سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ عن يَسَارِهِ يُسَلِّمُ عن يَمِينِهِ وَلَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ على يَسَارِهِ وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ سَلَّمَ بَعْدَ ذلك عن يَسَارِهِ وَمِنْهَا أَنْ يُبَالِغَ في تَحْوِيلِ الْوَجْهِ في التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ عن يَمِينِهِ حتى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حتى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُحَوِّلُ وَجْهَهُ في التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى حتى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أو قال خَدِّهِ الْأَيْسَرِ
وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الِالْتِفَاتِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْلِيمِ إنْ كان إمَامًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ من الْإِعْلَامِ وَمِنْهَا أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ إنْ كان مُقْتَدِيًا في رِوَايَةٍ عن أبي حَنِيفَةَ كما في التَّكْبِيرِ وفي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كما قَالَا في التَّكْبِيرِ وقد مَرَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ من يُخَاطِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ خِطَابَ من لَا يَنْوِي خِطَابَهُ لَغْوٌ وَسَفَهٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا فَإِنْ كان إمَامًا يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى من على يَمِينِهِ من الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ من على يَسَارِهِ منهم كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْحَفَظَةِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
فَمِنْ مَشَايِخِنَا من ظَنَّ أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ يُقَدِّمُ الْحَفَظَةَ في النِّيَّةِ لِأَنَّ السَّلَامَ خِطَابٌ فَيَبْدَأُ بِالنِّيَّةِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُمْ الْحَفَظَةُ ثُمَّ الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ وفي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَدِّمُ الْبَشَرَ في النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِالسَّلَامِ في التَّشَهُّدِ وهو قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَشَرِ على الْمَلَائِكَةِ إذْ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ الْمَلَائِكَةُ فَكَذَا في السَّلَامِ في آخِرِ الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ من قال إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كان يَرَى تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ على الْبَشَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى تَفْضِيلَ الْبَشَرِ على الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ على بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ من عَمَلِ الْقَلْبِ فهي ( ( ( وهي ) ) ) تَنْتَظِمُ الْكُلَّ جُمْلَةً بِلَا تَرْتِيبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ من سلم ( ( ( يسلم ) ) ) على جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتِّبَ في النِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ على الصِّبْيَانِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْحَفَظَةِ قال بَعْضُهُمْ يَنْوِي الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ وَاحِدًا عن يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عن يَسَارِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ عن يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَلَا يَنْوِي عَدَدًا لِأَنَّ ذلك لَا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْإِحَاطَةِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قال بَعْضُهُمْ يَنْوِي من كان معه في الصَّلَاةِ من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا غَيْرُ وكان الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يقول يَنْوِي جَمِيعَ رِجَالِ الْعَالَمِ وَنِسَائِهِمْ من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ وَخِطَابُ الْغَائِبِ مِمَّنْ لَا يَبْقَى خِطَابُهُ وَلَيْسَ بِخَيْرٍ من خِطَابِ من يَبْقَى خِطَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كان مُنْفَرِدًا فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ يَنْوِي الْحِفْظَةَ لَا غير وَعَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ يَنْوِي الْحِفْظَةَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ من أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَيَنْوِي ما يَنْوِي الْإِمَامُ وَيَنْوِي الإمام أَيْضًا إنْ كان على يَمِينِ الْإِمَامِ يَنْوِيهِ في يَسَارِهِ وَإِنْ كان على يَسَارِهِ يَنْوِيهِ في يَمِينِهِ وَإِنْ كان بِحِذَائِهِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْوِيهِ في يَمِينِهِ وَهَكَذَا ذُكِرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على
____________________

(1/214)


الْيَسَارِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْوِيهِ في الْجَانِبَيْنِ جميعا وَهَكَذَا ذُكِرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ يَمِينَ الْإِمَامِ عن يَمِينِ الْمُقْتَدِي وَيَسَارَهُ عن يَسَارِهِ فَكَانَ له حَظٌّ في الْجَانِبَيْنِ فَيَنْوِيهِ في التَّسْلِيمَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ فيها وما يُكْرَهُ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ في صَلَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْخَاشِعِينَ في الصَّلَاةِ وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُصَلِّي خَاشِعًا شَاخِصًا بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فلما نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قد أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } رَمَى بِبَصَرِهِ نحو مَسْجِدِهِ أَيْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ
وَلِأَنَّ هذا أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ فقال يَرْمِي بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ في حَالَةِ الْقِيَامِ وفي حَالَةِ الرُّكُوعِ إلَى رؤوس أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ وفي حَالَةِ السُّجُودِ إلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ وفي حَالَةِ الْقَعْدَةِ إلَى حِجْرِهِ لِأَنَّ هذا كُلَّهُ تَعْظِيمٌ وَخُشُوعٌ وَرُوِيَ في بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حين أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالصَّلَاةِ أَمَرَهُمْ كَذَلِكَ وزاد بَعْضُهُمْ عِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى على كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ على كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُطَأْطِئُهُ لِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةَ الْعَيْنِ وَهِيَ النَّظَرُ إلَى الْمَسْجِدِ فَيُخِلُّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى أَنْ يُدَبِّحَ الرَّجُلُ تَدْبِيحَ الْحِمَارِ
أَيْ يطأطىء ( ( ( يطأطئ ) ) ) رَأْسَهُ وَلَا يَتَشَاغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَلَاتِهِ من عَبَثٍ بِثِيَابِهِ أو بِلِحْيَتِهِ لِأَنَّ فيه تَرْكَ الْخُشُوعِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ في الصَّلَاةِ فقال أَمَّا هذا لو خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ
وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه إنِّي أُحِبُّ لَك ما أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي
وَلِأَنَّ فيه تَرْكَ الْخُشُوعِ وَلَا يُشَبِّكُ بين أَصَابِعِهِ لِمَا فيه من تَرْكِ سُنَّةِ الْوَضْعِ وَلَا يَجْعَلُ يَدَيْهِ على خَاصِرَتِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى عن الِاخْتِصَارِ في الصَّلَاةِ
وَقِيلَ إنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ إنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أُهْبِطَ أُهْبِطَ مُخْتَصِرًا وَالتَّشَبُّهُ بِالْكَفَرَةِ وَبِإِبْلِيسَ مَكْرُوهٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ وقد نُهِينَا عن التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ
وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى إلَّا أَنْ يُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِسُجُودِهِ لِمَا رُوِيَ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال سَأَلْتُ خَلِيلِي عن كل شَيْءٍ حتى سَأَلْتُهُ عن تَسْوِيَةِ الْحَصَى في الصَّلَاةِ فقال يا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أو ذَرْ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَأَنْ يُمْسِكْ أحدكم عن الْحَصَى خَيْرٌ له من مِائَةِ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقَةِ
إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا كانت الْحَصَى لَا تمكنه ( ( ( يمكنه ) ) ) من السُّجُودِ لِحَاجَتِهِ إلَى السُّجُودِ الْمَسْنُونِ وهو وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَتَرْكُهُ أَوْلَى لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ
وَلَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً ويسرة لِقَوْلِ النبي لو عَلِمَ الْمُصَلِّي من يُنَاجِي ما الْتَفَتَ
وَسُئِلَ رسول اللَّهِ عن الِالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ فقال تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ من صَلَاةِ أَحَدِكُمْ
وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ
فأما النَّظَرُ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ يَمْنَةً أو يَسْرَةً من غَيْرِ تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ بِمُؤْخِرِ عَيْنَيْهِ
وَلِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه
وَلَا يُقْعِي لِمَا رُوِيَ عن أبي ذَرٍّ أَنَّهُ قال نَهَانِي خَلِيلِي عن ثَلَاثٍ أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ وَأَنْ أقعي إقْعَاءَ الْكَلْبِ وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ
وَاخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ قال الْكَرْخِيُّ هو نَصْبُ الْقَدَمَيْنِ وَالْجُلُوسُ على الْعَقِبَيْنِ وهو عَقِبُ الشَّيْطَانِ الذي نهى عنه في الحديث
وقال الطَّحَاوِيُّ هو الْجُلُوسُ على الإليتين وَنَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ وَوَضْعُ الْفَخِذَيْنِ على الْبَطْنِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِإِقْعَاءِ الْكَلْبِ وَلِأَنَّ في ذلك تَرْكُ الْجِلْسَةِ الْمَسْنُونَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا يَتَرَبَّعُ من غَيْرِ عُذْرٍ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ أنه رَأَى عبدالله ( ( ( ابنه ) ) ) تربع ( ( ( يتربع ) ) ) في صَلَاتِهِ فَنَهَاهُ عن ذلك فقال رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يا أَبَتِ فقال إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ على الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ فَكَانَ أَوْلَى وَلَا يُكْرَهُ في حَالَةِ الْعُذْرِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ من قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَلَا يَتَمَطَّى وَلَا يَتَثَاءَبُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ اسْتِرَاحَةٌ في الصَّلَاةِ فَتُكْرَهُ كالإتكاء على شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ فإذا عَرَضَ له شَيْءٌ من ذلك كَظَمَ ما اسْتَطَاعَ فَإِنْ غَلَبَ عليه التَّثَاؤُبُ جَعَلَ يَدَهُ على فيه لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا تَثَاءَبَ أحدكم فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيَضَعْ
____________________

(1/215)


يَدَهُ على فيه
وَيُكْرَهُ أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ النبي نهى عن ذلك وَلِأَنَّ في التَّغْطِيَةِ مَنْعًا من الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ وَلِأَنَّهُ لو غَطَّى بيده فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ الْيَدِ وقد قال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ في الصَّلَاةِ
وَلَوْ غَطَّاهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ يَتَلَثَّمُونَ في عِبَادَتِهِمْ النَّارَ وَالنَّبِيُّ نهى عن التَّلَثُّمِ في الصَّلَاةِ إلَّا إذَا كانت التَّغْطِيَةُ لِدَفْعِ التَّثَاؤُبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا مَرَّ
وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُفَّ ثَوْبَهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا أَكْفِتَ شَعْرًا
وَلِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَاقِصًا شَعْرَهُ لِمَا رُوِيَ عن رِفَاعَةَ بن رَافِعٍ أَنَّهُ رَأَى الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما يُصَلِّي عَاقِصًا شَعْرَهُ فَحَلَّ الْعُقْدَةَ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْحَسَنُ مُغْضَبًا فقال يا ابْنَ بِنْتِ رسول اللَّهِ أَقْبِلْ على صَلَاتِكَ وَلَا تَغْضَبْ فَإِنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ نهى عن ذلك وقال ذَاكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ
وفي رِوَايَةٍ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ من صَلَاةِ الْعَبْدِ
وَالْعَقْصُ أَنْ يَشُدَّ الشَّعْرَ ضَفِيرَةً حَوْلَ رَأْسِهِ كما تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أو يَجْمَعَ شَعْرَهُ فَيَعْقِدَهُ في مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُعْتَجِرًا لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى عن الِاعْتِجَارِ
وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الِاعْتِجَارِ وقيل ( ( ( قيل ) ) ) هو أَنْ يَشُدَّ حَوَالَيْ رَأْسِهِ بِالْمِنْدِيلِ وَيَتْرُكَهَا منه وهو تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ هو أَنْ يَلُفَّ شَعْرَهُ على رَأْسِهِ بِمِنْدِيلٍ فَيَصِيرُ كَالْعَاقِصِ شَعْرَهُ وَالْعَقْصُ مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا يَكُونُ الِاعْتِجَارُ إلَّا مع تَنَقُّبٍ وهو أَنْ يَلُفَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ على رَأْسِهِ وَيَجْعَلَ طَرَفًا منها على وَجْهِهِ كَمُعْتَجَرِ النِّسَاءِ إمَّا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ أو لِلتَّكَبُّرِ
وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ في الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى عن تَغْمِيضِ الْعَيْنِ في الصَّلَاةِ
وَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وفي التَّغْمِيضِ تَرْكُ هذه السُّنَّةِ وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ ذُو حَظٍّ من هذه الْعِبَادَةِ فَكَذَا الْعَيْنُ وَلَا يُرَوِّحُ في الصَّلَاةِ لِمَا فيه من تَرْكِ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ وِتْرِكِ الْخُشُوعِ
وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْزُقَ على حِيطَانِ الْمَسْجِدِ أو بين يَدَيْهِ على الْحَصَى أو يمتخط ( ( ( يتمخط ) ) ) لِقَوْلِ النبي إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي من النُّخَامَةِ كما تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ في النَّارِ
وَلِأَنَّ ذلك سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ الناس عن الصَّلَاةِ في الْمَسْجِدِ وَلِأَنَّ النُّخَامَةَ وَالْمُخَاطَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ طَبْعًا
وإذا عَرَضَ له ذلك يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَإِنْ أَلْقَاهُ في الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَوْ دَفَنَهُ في الْمَسْجِدِ تَحْتَ الْحَصِيرِ يُرَخَّصُ له ذلك وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي رَخَّصَ في دَفْنِ النُّخَامَةِ في الْمَسْجِدِ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ في نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فإذا دُفِنَ لَا يُسْتَقْذَرُ وَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنْفِيرِ وَالرَّفْعُ أَوْلَى تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ عَمَّا يَنْزَوِي عنه
وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحِ في الصَّلَاةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ في الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كُرِهَ في الْفَرْضِ وَرُخِّصَ في التَّطَوُّعِ وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ العبد ( ( ( العد ) ) ) مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ السُّنَّةِ في قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَعَدَدِ التَّسْبِيحِ خُصُوصًا في صَلَاةِ التَّسْبِيحِ التي تَوَارَثَتْهَا الْأُمَّةُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ في الْعَدِّ بِالْيَدِ ترك ( ( ( تركا ) ) ) لِسُنَّةِ الْيَدِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَالْقَلِيلُ منه إنْ لم يُفْسِدْ الصَّلَاةَ فَلَا أَقَلَّ من أَنْ يُوجِبَ الْكَرَاهَةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَدِّ بِالْيَدِ في الصَّلَاةِ فإنه يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ ما يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ وَيُعَيِّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ ذلك الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ أو يَعُدُّ بِقَلْبِهِ
وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ على دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْإِمَامُ على الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه أو كان الْقَوْمُ على الدُّكَّانِ وَالْإِمَامُ أَسْفَلَ منهم وَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْإِمَامُ وَحْدَهُ أو كان بَعْضُ الْقَوْمِ معه وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن كان في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أو في حَالَةِ الْعُذْرِ أَمَّا في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ وَحْدَهُ على الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه يُكْرَهُ سَوَاءٌ كان الْمَكَانُ قَدْرَ قَامَةِ الرَّجُلِ أو دُونَ ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ما لم يُجَاوِزْ الْقَامَةَ لِأَنَّ في الْأَرْضِ هُبُوطًا وَصُعُودًا وَقَلِيلُ الِارْتِفَاعِ عَفْوٌ وَالْكَثِيرُ ليس بِعَفْوٍ فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ ما يُجَاوِزُ الْقَامَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا كان دُونَ الْقَامَةِ لَا يُكْرَهُ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ قام بِالْمَدَائِنِ لِيُصْلِيَ بِالنَّاسِ على دُكَّانٍ فَجَذَبَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ثُمَّ قال ما الذي أَصَابَكَ أَطَالَ الْعَهْدُ أَمْ نَسِيتَ أَمَا سَمِعْت رسول اللَّهِ يقول لَا يَقُومُ الْإِمَامُ على مَكَان أَنْشَزَ مِمَّا عليه أَصْحَابُهُ
وفي رِوَايَةٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَصْحَابَكَ يَكْرَهُونَ فقال
____________________

(1/216)


تَذَكَّرْتُ حين جَذَبْتَنِي وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَكَانَ الذي يُمْكِنُ الْجَذْبُ عنه ما دُونَ الْقَامَةِ وَكَذَا الدُّكَّانُ الْمَذْكُورُ يَقَعُ على الْمُتَعَارَفِ وهو ما دُونَ الْقَامَةِ وَلِأَنَّ كَثِيرَ الْمُخَالَفَةِ بين الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ فَقَلِيلُهَا يُورِثُ الْكَرَاهَةَ وَلِأَنَّ هذا صَنِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كان الْإِمَامُ أَسْفَلَ من الْقَوْمِ يُكْرَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ في صَنِيعِهِمْ وَلَا تَشَبُّهَ هَهُنَا لِأَنَّ مَكَانَ إمَامِهِمْ لَا يَكُونُ أَسْفَلَ من مَكَانِ الْقَوْمِ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ لِأَنَّ كَرَاهَةَ كَوْنِ الْمَكَانِ أَرْفَعَ كان مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَوُجُودِ بَعْضِ الْمُفْسِدِ وهو اخْتِلَافُ الْمَكَانِ وَهَهُنَا وُجِدَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَهِيَ وُجُودُ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ هذا إذَا كان الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَإِنْ كان بَعْضُ الْقَوْمِ معه اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه فَمَنْ اعْتَبَرَ مَعْنَى التَّشَبُّهِ قال لَا يُكْرَهُ وهو قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِزَوَالِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُشَارِكُونَ الْإِمَامَ في الْمَكَانِ وَمَنْ اعْتَبَرَ وُجُودَ بَعْضِ الْمُفْسِدِ قال يُكْرَهُ وهو قِيَاسُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ
وَأَمَّا في حَالَةِ الْعُذْرِ كما في الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لَا يُكْرَهُ كَيْفَمَا كان لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُرَاعَاةِ وَيُكْرَهُ لِلْمَارِّ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْ الْمُصَلِّي لِقَوْلِ النبي لو يعلم ( ( ( علم ) ) ) الْمَارُّ بين يَدَيْ الْمُصَلِّي ما عليه من الْوِزْرِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا له من أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ
ولم يُوَقِّتُ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً ولم يذكر في الْكِتَابِ قَدْرَ الْمُرُورِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ قَدْرُ مَوْضِعِ السُّجُودِ وقال بَعْضُهُمْ مِقْدَارُ الصَّفَّيْنِ وقال بَعْضُهُمْ قَدْرُ ما يَقَعُ بَصَرُهُ على الْمَارِّ لو صلى بِخُشُوعٍ وَفِيمَا وَرَاءَ ذلك لَا يُكْرَهُ وهو الْأَصَحُّ وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ الْمَارَّ أَيْ يَدْفَعَهُ حتى لَا يَمُرَّ حتى لَا يَشْغَلَهُ عن صَلَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه قال قال النبي لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ فادرؤا ( ( ( فادرءوا ) ) ) ما اسْتَطَعْتُمْ
وَلَوْ مَرَّ لَا تُقْطَعُ صلاته سَوَاءٌ كان الْمَارُّ رَجُلًا أو امْرَأَةً لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ بِالتَّسْبِيحِ أو بِالْإِشَارَةِ أو الْأَخْذِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ من غَيْرِ مَشْيٍ وَمُعَالَجَةٍ شَدِيدَةٍ حتى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ
وَمِنْ الناس من قال إنْ لم يَقِفْ بِإِشَارَتِهِ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقِتَالِ لِحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ كان يُصَلِّي فَأَرَادَ ابن مَرْوَانَ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ فلم يَقِفْ فلما حَاذَاهُ ضَرَبَهُ في صَدْرِهِ ضَرْبَةً أَقْعَدَهُ على إسته فَجَاءَ إلَى أبيه يَشْكُو أَبَا سَعِيدٍ فقال لِمَ ضَرَبْتَ ابْنِي فقال ما ضَرَبْتُ ابْنَكَ إنَّمَا ضَرَبْتُ شَيْطَانًا فقال لِمَ تُسَمِّي ابْنِي شَيْطَانًا فقال لِأَنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول إذَا صلى أحدكم فَأَرَادَ مَارٌّ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فإنما ( ( ( فإنه ) ) ) هو شَيْطَانٌ
وَلَنَا قَوْلُ النبي إنَّ في الصَّلَاةِ لَشُغْلًا
يَعْنِي أَعْمَالَ الصَّلَاةِ وَالْقِتَالُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ
وَحَدِيثُ أبي سَعِيدٍ كان في وَقْتٍ كان الْعَمَلُ في الصَّلَاة مُبَاحًا وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال إنَّ الدَّرْءَ رُخْصَةٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَدْرَأَ لِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَكَذَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُتْرَكَ الدَّرْءُ وَالْأَمْرُ بِالدَّرْءِ في الحديث لِبَيَانِ الرُّخْصَةِ كَالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ والله أعلم هذا إذَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ كَالْأُسْطُوَانَةِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا إنْ كان بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرُورِ فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِلِ وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُصَلِّي في الصَّحْرَاءِ أَنْ يَنْصِبَ بين يَدَيْهِ عُودًا أو يَضَعَ شيئا أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ كَيْ لَا يَحْتَاجَ إلَى الدَّرْءِ لِقَوْلِ النبي إذَا صلى أحدكم في الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةً
وَرُوِيَ أَنَّ الْعَنَزَةَ كانت تُحْمَلُ مع رسول اللَّهِ لِتُرْكَزَ في الصَّحْرَاءِ بين يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا حتى قال عَوْنُ بن أبي جُحَيْفَةَ عن أبيه رأيت رَسُولَ اللَّهِ بِالْبَطْحَاءِ في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ من أَدَمٍ فَأَخْرَجَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ وَخَرَجَ رسول اللَّهِ فَصَلَّى إلَيْهَا وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ من وَرَائِهَا وَإِنَّمَا قدرناه ( ( ( قدر ) ) ) بِذِرَاعٍ طُولًا دُونَ اعْتِبَارِ الْعَرْضِ وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في غِلَظِ أُصْبُعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يجزىء من السُّتْرَةِ السَّهْمُ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ منه الْمَنْعُ من الْمُرُورِ وما دُونَ ذلك لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ من بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وَيَدْنُو من السُّتْرَةِ لِقَوْلِهِ من صلى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ منها
فَإِنْ لم يَجِدْ سُتْرَةً هل يَخُطُّ بين يَدَيْهِ خَطًّا
حَكَى أبو عِصْمَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال لَا يَخُطُّ بين يَدَيْهِ فإن الْخَطَّ وَتَرْكَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ من بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ
وَمِنْ الناس من قال يَخُطُّ بين يَدَيْهِ خَطًّا إمَّا طُولًا شِبْهَ ظِلِّ السُّتْرَةِ أو عَرْضًا شِبْهَ الْمِحْرَابِ لِقَوْلِهِ إذَا صلى أحدكم في الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةً فَإِنْ لم
____________________

(1/217)


يَجِدْ فَلْيَخُطَّ بين يَدَيْهِ خَطًّا
وَلَكِنَّ الحديث غَرِيبٌ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا نَأْخُذُ بِهِ
وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ أو الْحَيَّةِ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَذَلِكَ أَعْظَمُ من قَتْلِهِ
وقال النبي اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ في الصَّلَاةِ وَهُمَا الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ
وَهَذَا تَرْخِيصٌ وإباحة وَإِنْ كانت صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِأَنَّ قَتْلَهُمَا ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ حتى لو عَالَجَ مُعَالَجَةً كَثِيرَةً في قَتْلِهِمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ على ما نَذْكُرُ
وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْبِقَ الْإِمَامَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قد بَدُنْتُ
وَلَوْ سَبَقَهُ يَنْظُرُ إنْ لم يُشَارِكْهُ الْإِمَامُ في الرُّكْنِ الذي سَبَقَهُ أَصْلًا لَا يُجْزِئُهُ ذلك حتى لو لم يُعِدْ الرُّكْنَ وسلم تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عن الْمُشَارَكَةِ وَالْمُتَابَعَةِ ولم تُوجَدْ في الرُّكْنِ وَإِنْ شَارَكَهُ الْإِمَامُ في ذلك الرُّكْنِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بَاطِلًا وَالْبَاقِي بِنَاءً عليه فَأَخَذَ حُكْمَهُ
وَلَنَا أَنَّ الْقَدْرَ الذي وَقَعَتْ فيه الْمُشَارَكَةُ رُكُوعٌ تَامٌّ فَيُكْتَفَى بِهِ وَانْعِدَامُ الْمُشَارَكَةِ فِيمَا قَبْلَهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قبل الْإِمَامِ لِقَوْلِهِ إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه
وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ في غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ نهى عن الْقِرَاءَةِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وقال أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ جل جلاله وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فيه من الدُّعَاءِ فإنه ( أجدر ( ( ( قمن ) ) ) من ) أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ
وَيُكْرَهُ النَّفْخُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ
وَلَا ضَرُورَةَ فيه بِخِلَافِ التَّنَفُّسِ فإن فيه ضَرُورَةً
وَهَلْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِالنَّفْخِ
فَإِنْ لم يَكُنْ مَسْمُوعًا لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كان مَسْمُوعًا تَفْسُدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في بَيَانِ ما يُفْسِدُ الصَّلَاةَ
وَيُكْرَهُ لِمَنْ أتى الْإِمَامَ وهو رَاكِعٌ أَنْ يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ
وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ لِمَا رُوِيَ عن أبي بَكْرَةَ أَنَّهُ دخل الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النبي راكعا فَكَبَّرَ لما ( ( ( كما ) ) ) دخل الْمَسْجِدَ
وَدَبَّ رَاكِعًا حتى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ
فلما فَرَغَ النبي من صلاته قال له زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ
ولأنه لَا يَخْلُو عن إحْدَى الْكَرَاهَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِالصُّفُوفِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ في الصَّلَاةِ وَإِنَّهُ فِعْلٌ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ في الْأَصْلِ حتى قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنْ مَشَى خُطْوَةً خُطْوَةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ خُطْوَتَيْنِ تَفْسُدُ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تَفْسُدُ كَيْفَمَا كان لِأَنَّ الْمَسْجِدَ في حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ
لَكِنْ لَا أَقَلَّ من الْكَرَاهَةِ
وَإِمَّا أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ في الْمَوْضِعِ الذي رَكَعَ فيه فَيَكُونُ مُصَلِّيًا خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ وأنه مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَلَاةَ لِمُنْتَبِذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ
وَأَدْنَى أَحْوَالِ النَّفْيِ هو نَفْيُ الْكَمَالِ
ثُمَّ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا وَجَدَ فُرْجَةً في الصَّفِّ فَأَمَّا إذَا لم يَجِدْ فَلَا تُكْرَهُ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْعُذْرِ وَإِنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ أَلَا تَرَى أنها لو كانت امْرَأَةً يَجِبُ عليها أَنْ تَقُومَ خَلْفَ الصَّفِّ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا الرَّجُلَ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ فَوَجَبَ الِانْفِرَادُ لِلضَّرُورَةِ وَيَنْبَغِي إذَا لم يَجِدْ فُرْجَةً أَنْ يَنْتَظِرَ من يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ معه خَلْفَ الصَّفِّ فَإِنْ لم يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ من الصَّفِّ إلَى نَفْسِهِ من يَعْرِفُ منه عِلْمًا وَحُسْنَ الْخُلُقِ لكيلا ( ( ( لكي ) ) ) يَغْضَبَ عليه فَإِنْ لم يَجِدْ يَقِفْ حِينَئِذٍ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ
قال مُحَمَّدٌ وَيُؤْمَرُ من أَدْرَكَ الْقَوْمَ رُكُوعًا أَنْ يَأْتِيَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا يُعَجِّلَ في الصَّلَاةِ حتى يُصَلِّ إلَى الصَّفِّ فما أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ صلى بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وما فَاتَهُ قَضَى وَأَصْلُهُ قَوْلُ النبي إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا
وَيُكْرَهُ لِمُصَلِّي الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ على شَيْءٍ إلَّا من عُذْرٍ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ يُخِلُّ بِالْقِيَامِ وَتَرْكُ الْقِيَامِ في الْفَرِيضَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا من عُذْرٍ فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا إلَّا من عُذْرٍ وَلَوْ فَعَلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقِيَامِ وَهَلْ يُكْرَهُ ذلك لِمُصَلِّي التَّطَوُّعِ
لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ في التَّطَوُّعِ جَائِزٌ من غَيْرِ عُذْرٍ فَالْإِخْلَالُ بِهِ أَوْلَى
وقال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى حَبْلًا مَمْدُودًا في الْمَسْجِدِ فقال لِمَنْ هذا فَقِيلَ لِفُلَانَةَ تُصَلِّي بِاللَّيْلِ فإذا أَعْيَتْ اتَّكَأَتْ فقال لتصل فُلَانَةُ بِاللَّيْلِ فإذا أَعْيَتْ فَلْتَنَمْ
وَلِأَنَّ في الِاعْتِمَادِ بَعْضُ التَّنَعُّمِ وَالتَّحَبُّرِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَ شيئا من ذلك من غَيْرِ عُذْرٍ
وَيُكْرَهُ السَّدْلُ في الصَّلَاةِ وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سَدْلَ الثَّوْبِ هو أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ على رَأْسِهِ أو على
____________________

(1/218)


كَتِفَيْهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ من جَوَانِبِهِ إذَا لم يَكُنْ عليه سَرَاوِيلُ
وَرُوِيَ عن الْأَسْوَدِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمَا قَالَا السَّدْلُ يُكْرَهُ سَوَاءٌ كان عليه قَمِيصٌ أو لم يَكُنْ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّدْلُ على الْقَمِيصِ وَعَلَى الْإِزَارِ وقال لِأَنَّهُ صُنْعُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ كان السَّدْلُ بِدُونِ السَّرَاوِيلِ فَكَرَاهَتُهُ لِاحْتِمَالِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَإِنْ كان مع الْإِزَارِ فَكَرَاهَتُهُ لِأَجْلِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وقال مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِهِ كَيْفَمَا كان
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان من الْخُيَلَاءِ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى عن السَّدْلِ من غَيْرِ فَصْلٍ
وَيُكْرَهُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ
وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هو أَنْ يَجْمَعَ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ وَيُخْرِجَهُمَا تَحْتَ إحْدَى يَدَيْهِ على إحْدَى كَتِفَيْهِ إذَا لم يَكُنْ عليه سَرَاوِيلُ وَإِنَّمَا كُرِهَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فَصَلَ بين الِاضْطِبَاعِ وَلُبْسَةِ الصَّمَّاءِ
فقال إنَّمَا تَكُونُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ إذَا لم يَكُنْ عليه إزَارٌ
فَإِنْ كان عليه إزَارٌ فَهُوَ اضْطِبَاعٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ تَحْتَ إحْدَى ضَبْعَيْهِ وهو مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لُبْسُ أَهْلَ الْكِبْرِ
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ لُبْسَةَ الصَّمَّاءِ أَنْ يَلُفَّ الثَّوْبَ على جَمِيعِ بَدَنِهِ من الْعُنُقِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ وإنه مَكْرُوهٌ
لما فيه تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أو في قَمِيصٍ وَاحِدٍ
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ اللُّبْسَ في الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ لُبْسٌ مُسْتَحَبٌّ
وَلُبْسٌ جَائِزٌ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ
وَلُبْسٌ مَكْرُوهٌ
أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ
قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَعِمَامَةٍ
كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ في غَرِيبِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا
وقال مُحَمَّدٌ إنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَوْبَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالزِّينَةُ جميعا
وَأَمَّا اللُّبْسُ الْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أو قَمِيصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَأَصْلُ الزِّينَةِ إلَّا أَنَّهُ لم تَتِمَّ الزِّينَةُ وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فقال أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ
أَشَارَ إلَى الْجَوَازِ وَنَبَّهَ على الْحِكْمَةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ ثَوْبَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كان الثَّوْبُ صَفِيقًا لَا يَصِفُ ما تَحْتَهُ فَإِنْ كان رَقِيقًا يَصِفُ ما تَحْتَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ مَكْشُوفَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى
قال النبي لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ
ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَمِيصَ الْوَاحِدَ إذَا كان مَحْلُولَ الْجَيْبِ وَالزِّرِّ هل تَجُوزُ الصَّلَاةُ فيه ذَكَرَ ابن شُجَاعٍ فِيمَنْ صلى مَحْلُولَ الأزرار ( ( ( الإزار ) ) ) وَلَيْسَ عليه إزَارٌ أَنَّهُ إنْ كان بِحَيْثُ لو نَظَرَ رَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ من زِيقِهِ لم تَجُزْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان بِحَيْثُ لو نَظَرَ لم يَرَ عَوْرَتَهُ جَازَتْ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إنْ كان بِحَالٍ لو نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ يَقَعُ نظره ( ( ( بصره ) ) ) عليه من غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان بِحَالٍ لو نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ على عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ في حَقِّ غَيْرِهِ لَا في حَقِّ نَفْسِهِ
وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ أَنَّهُ قال إنْ كان الرَّجُلُ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَصَرُهُ على عَوْرَتِهِ إذَا نَظَرَ من غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَيَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ عن نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ شَرْطُ الْجَوَازِ وَإِنْ كان كَثَّ اللِّحْيَةِ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ على عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ
وَأَمَّا اللُّبْسُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ في إزَارٍ وَاحِدٍ أو ( ( ( وسراويل ) ) ) سراويل وَاحِدٍ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ ليس على عَاتِقِهِ منه شَيْءٌ
وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ إنْ حَصَلَ فلم تَحْصُلْ الزِّينَةُ
وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِدٍ } وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابن عُمَرَ عن الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ وقال أَرَأَيْتَ لو أَرْسَلْتُكَ في حَاجَةٍ أَكُنْتَ مُنْطَلِقًا في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فقال لَا
فقال اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ له
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ في إزَارٍ وَاحِدٍ فِعْلُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وفي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَبْعَدُ من الْجَفَاءِ وفي إزَارٍ وَرِدَاءٍ من أَخْلَاقِ الْكِرَامِ
هذا الذي ذَكَرْنَا في حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ لها ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ في الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا دِرْعٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ فَإِنْ صَلَّتْ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحَةً بِهِ يُجْزِئُهَا إذَا سَتَرَتْ بِهِ رَأْسَهَا وَسَائِرَ جَسَدِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنْ كان شَيْءٌ مِمَّا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ منها مَكْشُوفًا فَإِنْ كان قَلِيلًا جَازَ وَإِنْ كان كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَهَذَا في حَقِّ الْحُرَّةِ فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ يَجُوزُ لِأَنَّ رَأْسَهَا ليس بِعَوْرَةٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ من التُّرَابِ بعدما فَرَغَ من صَلَاتِهِ قبل أَنْ يُسَلِّمَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لو قَطَعَ الصَّلَاةَ في هذه الْحَالَةِ لَا يُكْرَهُ فَلَأَنْ
____________________

(1/219)


لَا يُكْرَهَ إدْخَالُ فِعْلٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وَأَمَّا قبل الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ فَقَدْ ذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ فقال قلت فَإِنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قبل أَنْ يَفْرُغَ قال لَا أَكْرَهُهُ من مَشَايِخِنَا من فَهِمَ من هذه اللَّفْظَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ
وَجَعَلَ كَلِمَةَ ( لَا ) دَاخِلَةً في قَوْلِهِ أَكْرَهُ وَكَذَا ذُكِرَ في آثَارِ أبي حَنِيفَةَ وفي اخْتِلَافِ أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ أبي لَيْلَى
وَوَجْهُهُ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي كان يَمْسَحُ الْعَرَقَ عن جَبِينِهِ في الصَّلَاةِ
وَإِنَّمَا كان يَفْعَلُ ذلك لِأَنَّهُ كان يُؤْذِيهِ فَكَذَا هذا
وَمِنْهُمْ من قال كَلِمَةُ لَا مَقْطُوعَةٌ عن قَوْلِهِ أَكْرَهُ فَكَأَنَّهُ قال هل يَمْسَحُ فقال لَا نَفْيًا له ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ وقال أَكْرَهُ له ذلك وهو رِوَايَةُ هِشَامٍ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ فَعَلَى هذا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَسْحِ قبل الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ منها قبل السَّلَامِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْحَ قبل الْفَرَاغِ لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْجُدَ ثَانِيًا فَيَلْتَزِقُ التُّرَابُ بِجَبْهَتِهِ ثَانِيًا وَالْمَسْحُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ مُفِيدٌ وَلِأَنَّ هذا فِعْلٌ ليس من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ تَحْصِيلُهُ في وَقْتٍ لَا يُبَاحُ فيه الْخُرُوجُ عن الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَرْبَعٌ من الْجَفَاءِ وَعَدَّ منها مَسْحَ الْجَبْهَةِ في الصَّلَاةِ
وَمِنْهُمْ من وافق ( ( ( وفق ) ) ) فقال جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كان تَرَكَهُ لَا يُؤْذِيهِ
وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ في هذه الْحَالَةِ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على هذه الْحَالَةِ أو على الْمَسْحِ بِالْيَدَيْنِ وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كان تَرْكُ الْمَسْحِ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ عن أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَمُحَمَّدٌ يُسَاعِدُهُ في هذه الْحَالَةِ
وَلِهَذَا كان النبي يَمْسَحُ الْعَرَقَ عن جَبِينِهِ
لِأَنَّ التَّرْكَ كان يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ
وقد بَيَّنَّا ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وما يُكْرَه له في فَصْلِ الْإِمَامَةِ وَاَللَّهُ الموفق ( ( ( أعلم ) ) )
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَالْمُفْسِدُ لها أَنْوَاعٌ
منها الْحَدَثُ الْعَمْدُ قبل تَمَامِ أَرْكَانِهَا بِلَا خِلَافٍ حتى يَمْتَنِعَ عليه الْبِنَاءُ
وَاخْتُلِفَ في الْحَدَثِ السَّابِقِ وهو الذي سَبَقَهُ من غَيْرِ قَصْدٍ
وهو ما يَخْرُجُ من بَدَنِهِ من بَوْلٍ أو غَائِطٍ أو رِيحٍ أو رُعَافٍ أو دَمٍ سَائِلٍ من جُرْحٍ أو دُمَّلٍ بِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ
قال أَصْحَابُنَا لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ اسْتِحْسَانًا
وقال الشَّافِعِيُّ يُفْسِدُهَا فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قِيَاسًا
وَالْكَلَامُ في الْبِنَاءِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ لو كان جَائِزًا وفي بَيَانِ مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فالقياس ( ( ( القياس ) ) ) أَنْ لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَبْقَى مع الْحَدَثِ كما لَا تَنْعَقِدُ مع ( ( ( معه ) ) ) الحدث لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ في الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا إذْ الشَّيْءُ كما لَا يَنْعَقِدُ من غَيْرِ أهلية ( ( ( أهليته ) ) ) لَا يَبْقَى مع عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ
لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى مع الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَلِأَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عن الْقِبْلَةِ وَالْمَشْيَ في الصَّلَاةِ مُنَافٍ لها وَبَقَاءُ الشَّيْءِ مع ما يُنَافِيهِ مُحَالٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ النَّصُّ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ
أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من قَاءَ أو رَعَفَ في صَلَاتِهِ انْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى على صَلَاتِهِ ما لم يَتَكَلَّمْ
وَكَذَا رَوَى ابن عَبَّاسٍ وأبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فإن الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةَ الثَّلَاثَةَ وَأَنَسَ بن مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قالوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رضي اللَّهُ عنه سَبَقَهُ الْحَدَثُ في الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى وَعُمَرُ رضي اللَّهُ عنه سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى على صَلَاتِهِ
وَعَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه كان يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى على صَلَاتِهِ فَثَبَتَ الْبِنَاءُ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فَمِنْهَا الْحَدَثُ السَّابِقُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ في الْحَدَثِ الْعَمْدِ لِأَنَّ جَوَازَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكُلُّ ما كان في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عليه يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ ليس في مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ لِوَجْهَيْنِ
أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا من الْبِنَاءِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ في الْحَدَثِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ
وَالثَّانِي أن الْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ في الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا وَكَذَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِ الْقَوْمِ خُصُوصًا من كان بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَوْ لم يَجُزْ الْبِنَاءُ وَرُبَّمَا فَرَغَ الْإِمَامُ من الصَّلَاةِ قبل فَرَاغِهِ من الْوُضُوءِ لَفَاتَ عليه فَضِيلَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْأَفْضَلِ على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ
____________________

(1/220)


التَّلَاقِي فَالشَّرْعُ نَظَرَ له بِجَوَازِ الْبِنَاءِ صِيَانَةً لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ عليه من الْفَوْتِ وهو مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ لِحُصُولِ الْحَدَثِ من غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ لِأَنَّ مُتَعَمِّدَ الْحَدَثِ في الصَّلَاةِ جَانٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا كان بِهِ دُمَّلٌ فَعَصَرَهُ حتى سَالَ أو كان في مَوْضِعِ رُكْبَتِهِ فانفتح ( ( ( فانتفخ ) ) ) من اعْتِمَادِهِ على رُكْبَتِهِ في سُجُودِهِ لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ لِأَنَّ هذا بِمَنْزِلَةِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ
وَكَذَا إذَا تَكَلَّمَ في الصَّلَاةِ عَامِدًا أو نَاسِيًا أو عَمِلَ فيها ما ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وهو كَثِيرٌ لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ
لِأَنَّ كُلَّ ذلك نَادِرٌ في الصَّلَاةِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عليه وَكَذَا إذَا جُنَّ في الصَّلَاةِ أو أُغْمِيَ عليه ثُمَّ أَفَاقَ لَا يَبْنِي وَإِنْ كان ذلك في مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له فِيهِمَا لِأَنَّ اعْتِرَاضَهُمَا في الصَّلَاةِ نَادِرٌ فلم يَكُونَا في مَعْنَى ما وَرَدَ فيه النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ
وَكَذَا لو انْتَضَحَ الْبَوْلُ على بَدَنِ الْمُصَلِّي أو ثَوْبِهِ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ من مَوْضِعٍ فَانْفَتَلَ فَغَسَلَهُ لَا يَبْنِي على صَلَاتِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَبْنِي وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ وَصَلَتْ إلَى بَدَنِهِ من غَيْرِ قَصْدٍ فَكَانَ في مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّ هذا بَعْضُ ما وَرَدَ فيه الْخَبَرُ لِأَنَّهُ لو رَعَفَ فَأَصَابَ بَدَنَهُ أو ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فإنه يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ تِلْكَ النَّجَاسَةَ
وَهَهُنَا لَا يُحْتَاجُ إلا إلَى غَسْلِ النَّجَاسَةِ لَا غير فلما جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هُنَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هذا النَّوْعَ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ له بُدًّا من غَسْلِ النَّجَاسَةِ عن الثَّوْبِ في الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَكُونَ عليه ثَوْبَانِ فَيُلْقِي ما تَنَجَّسَ من سَاعَتِهِ وَيُصَلِّي في الْآخَرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فإنه أَمْرٌ لَا بُدَّ منه وَلَوْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ على ثَوْبِ الْمُصَلِّي فَإِنْ كان أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ من مَوْضِعٍ
فَإِنْ كان عليه ثَوْبَانِ أَلْقَى النَّجِسَ من سَاعَتِهِ وَمَضَى على صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ لِوُجُودِ شَيْءٍ من الصَّلَاةِ مع النَّجَاسَةِ لَكِنَّا نَقُولُ إنَّ هذا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَيُجْعَلُ عَفْوًا وَإِنْ أَدَّى رُكْنًا أو مَكَثَ بِقَدْرِ ما يَتَمَكَّنُ من أَدَاءِ رُكْنٍ يَسْتَقْبِلُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَإِنْ لم يَكُنْ عليه إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَانْصَرَفَ وَغَسَلَهُ لَا يَبْنِي في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَوْ أصابه ( ( ( أصابته ) ) ) بُنْدُقَةٌ فَشَجَّتْهُ أو رَمَاهُ إنْسَانٌ بِحَجَرٍ فَشَجَّهُ أو مَسَّ رَجُلٌ قَرْحَهُ فَأَدْمَاهُ أو عَصَرَهُ فَانْفَلَتَ منه رِيحٌ أو حَدَثٌ آخَرُ لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ يَبْنِي وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا طُعِنَ في الْمِحْرَابِ اسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ عنه وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ ولم يَسْتَخْلِفْ ولأن هذا حَدَثٌ حَصَلَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَكَانَ كَالْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ وَلِأَنَّ الشَّاجَّ لم يُوجَدْ منه إلَّا فَتْحُ بَابِ الدَّمِ فَبَعْدَ ذلك خُرُوجُ الدَّمِ بِنَفْسِهِ لَا بِتَسْيِيلِ أَحَدٍ فَأَشْبَهَ الرُّعَافَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا الْحَدَثَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ وَكَذَا هذا النَّوْعُ من الْحَدَثِ في الصَّلَاةِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ لِأَنَّ الرَّامِيَ مَنْهِيٌّ عن الرَّمْيِ فَلَا يَقْصِدُهُ غَالِبًا وَالْإِصَابَةُ خَطَأٌ نَادِرٌ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّزُ خَوْفًا من الضَّمَانِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيُعْمَلُ فيه بِالْقِيَاسِ الْمَحْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ من عَجَزَ عن الْقِيَامِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ جَازَ له أَدَاءُ الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَلَوْ عَجَزَ عن الْقِيَامِ بِفِعْلِ الْبَشَرِ بِأَنْ قَيَّدَهُ إنْسَانٌ لم يَجُزْ لِغَلَبَةِ الْأَوَّلِ وَنُدْرَةِ الثَّانِي كَذَا هذا وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ هذا فَتَحَ بَابَ الدَّمِ فَنَقُولُ نعم لكن ( ( ( ولكن ) ) ) من فَتَحَ بَابَ الْمَائِعِ حتى سَالَ الْمَائِعُ جُعِلَ ذلك مُضَافًا إلَى الْفَاتِحِ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِ السَّائِلِ في سَيَلَانِهِ وَلِهَذَا يَجِبُ ضَمَانُ الدُّهْنِ على شَاقِّ الزِّقِّ إذَا سَالَ الدُّهْنُ وَاَللَّهُ الموفق ( ( ( أعلم ) ) )
وَلَوْ سَقَطَ الْمَدَرُ من السَّقْفِ من غَيْرِ مَشْيِ أَحَدٍ على السَّطْحِ على الْمُصَلِّي أو سَقَطَ الثَّمَرُ من الشَّجَرِ على الْمُصَلِّي أو أَصَابَهُ حَشِيشُ الْمَسْجِدِ فَأَدْمَاهُ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه منهم من جَوَّزَ له الْبِنَاءَ بِالْإِجْمَاعِ لِانْقِطَاعِ ذلك عن فِعْلِ الْعِبَادِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ على الْخِلَافِ لِوُقُوعِ ذلك في حَدِّ الْقِلَّةِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ قِيلَ كان الِاسْتِخْلَافُ قبل افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَاسْتَخْلَفَهُ لِيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قال آهٍ قَتَلَنِي الْكَلْبُ من يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ قال تَقَدَّمْ يا عَبْدَ الرحمن وَمَعْلُومٌ أَنَّ هذا كَلَامٌ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ على الصَّلَاةِ والله أعلم
وَمِنْهَا حَقِيقَةُ الْحَدَثِ لَا وَهْمُ الْحَدَثِ وَلَا ما جُعِلَ حَدَثًا حُكْمًا حتى لو عَلِمَ أَنَّهُ لم يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ لَكِنَّهُ خَافَ أَنْ يَبْتَدِرَهُ فَانْصَرَفَ قبل أَنْ يَسْبِقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ سَبَقَهُ لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ عَجَزَ عن الْمُضِيِّ فَصَارَ كما لو سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ انْصَرَفَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَكَذَا إذَا جُنَّ في الصَّلَاةِ أو أُغْمِيَ عليه أو نَامَ مُضْطَجِعًا
____________________

(1/221)


لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ لِأَنَّ هذه الْعَوَارِضَ يَنْدُرُ وُقُوعُهَا في الصَّلَاةِ فلم تَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ في خِلَالِ الصَّلَاةِ وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ إذَا جُرِحَ وَقْتَ صَلَاتِهِ
وَالْمَاسِحُ على الْخُفِّ انْقَضَتْ مُدَّةُ مَسْحِهِ وَنَحْوُ ذلك لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ
لِأَنَّ في هذه الْمَوَاضِعِ يَظْهَرُ أَنَّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ لم يَصِحَّ على ما ذَكَرْنَا
وَلِأَنَّهُ ليس في مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ في كَثْرَةِ الْوُقُوعِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ
وَكَذَا لو اعْتَرَضَتْ هذه الْأَشْيَاءُ بَعْدَ ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَيُمْنَعُ الْبِنَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا على ما ذَكَرْنَا في الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَمِنْهَا الْحَدَثُ الصَّغِيرُ حتى لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ في الْحَدَثِ الْكَبِيرِ وهو الْجَنَابَةُ بِأَنْ نَامَ في الصَّلَاةِ فَاحْتَلَمَ أو نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ أو تَفَكُّرٍ فَأَنْزَلَ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ يَسِيرٌ وَالِاغْتِسَالُ عَمَلٌ كَثِيرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ في مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَلِأَنَّ الِاغْتِسَالَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَذَلِكَ من قَوَاطِعِ الصَّلَاةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أن يَجُوزُ يُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ على الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَفْعَلَ بَعْدَ الْحَدَثِ فِعْلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ لو لم يَكُنْ أَحْدَثَ إلَّا ما لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ منه أو كان من ضَرُورَاتِ ما لَا بُدَّ منه أو من تَوَابِعِهِ وَتَتِمَّاتِهِ وَبَيَانُ ذلك إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أو ضَحِكَ أو قَهْقَهَ أو أَكَلَ أو شَرِبَ أو نَحْوُ ذلك لَا يَجُوزُ له الْبِنَاءُ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ في الْأَصْلِ لِمَا نَذْكُرُ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ للبناء ( ( ( البناء ) ) ) منها بَدَا وَكَذَا إذَا جُنَّ أو أُغْمِيَ عليه أو أَجْنَبَ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَانَ لِلْبِنَاءِ منه بُدٌّ وَكَذَا لو أَدَّى رُكْنًا من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مع الْحَدَثِ أو مَكَثَ بِقَدْرِ ما يَتَمَكَّنُ فيه من أَدَاءِ رُكْنٍ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ ليس ( ( ( وليس ) ) ) من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَهُ منه بُدٌّ
وَكَذَا لو اسْتَقَى من الْبِئْرِ وهو لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إلَى الْوُضُوءِ فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ من الْإِنَاءِ أو اسْتَقَى من الْبِئْرِ وهو مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ له الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَمْرٌ لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ منه وَالْمَشْيُ وَالِاغْتِرَافُ وَالِاسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ من ضَرُورَاتِ الْوُضُوءِ
وَلَوْ اسْتَنْجَى فَإِنْ كان مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ بَطَلَ الْبِنَاءُ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ وَلِلْبِنَاءِ منه بُدٌّ في الْجُمْلَةِ فَإِنْ اسْتَنْجَى تَحْتَ ثِيَابِهِ بِحَيْثُ لَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ جَازَ له الْبِنَاءُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ على هذا الْوَجْهِ من سُنَنِ الْوُضُوءِ فَكَانَ من تَتِمَّاتِهِ وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما يَدُلُّ على الْجَوَازِ فإنه قال إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي من غَيْرِ فَصْلٍ
وَحُكِيَ عن أبي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ إدْخَالَ عَمَلٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ في الصَّلَاةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ من بَابِ إكْمَالِ الْوُضُوءِ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ على وَصْفِ الْكَمَالِ
وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْوُضُوءِ على وَجْهِ الْكَمَالِ
فَتُتَحَمَّلُ الزِّيَادَةُ كما يُتَحَمَّلُ الْأَصْلُ
وَهَذَا جَوَابُ أبي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ
فإن عِنْدَهُ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى هِيَ الْفَرْضُ
وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ نَفْلٌ
فَأَمَّا عِنْدَ أبي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ فَالثَّلَاثَةُ كُلُّهَا فَرْضٌ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ لَمَّا الْتَحَقَتَا بِالْأُولَى صَارَ الْكُلُّ وُضُوءًا وَاحِدًا
فَيَصِيرُ الْكُلُّ فَرْضًا كَالْقِيَامِ إذَا طَالَ وَالْقِرَاءَةِ أو الرُّكُوعِ أو السُّجُودِ
وَعَلَى هذا إذَا اسْتَوْعَبَ الْمَسْحَ وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ
وَأَتَى بِسَائِرِ سُنَنِ الْوُضُوءِ جَازَ له الْبِنَاءُ
لِأَنَّ ذلك من بَابِ إكْمَالِ الْوُضُوءِ فَكَانَ من تَوَابِعِهِ فَيُتَحَمَّلُ كما يُتَحَمَّلُ الْأَصْلُ
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فلم يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى
فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ ما عَادَ إلَى مَقَامِهِ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ وَجَدَهُ في الطَّرِيقِ قبل أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ
وَقِيلَ الْقِيَاسُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُتَيَمِّمٌ وَجَدَ الْمَاءَ في صَلَاتِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
كما إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ
وَهَذَا لِأَنَّ قَدْرَ ما مَشَى مُتَيَمِّمًا حَصَّلَ فِعْلًا غير مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَلَا يُعْفَى وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لم يُؤَدِّ شيئا من الصَّلَاةِ مع الْحَدَثِ ولم يَدْخُلْ فِعْلًا في الصَّلَاةِ هو مُضَادٌّ لها فَلَا يُفْسِدُهَا وما مَشَى كُلَّ ذلك كان مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِتَحْصِيلِ التَّطْهِيرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ ما إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ ثُمَّ وَجَدَ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ وُجِدَ أَدَاءُ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ
وَإِنْ قَلَّ مع التَّيَمُّمِ فَظَهَرَ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَنَّهُ كان مُحْدِثًا من وَقْتِ الْحَدَثِ السَّابِقِ
وأن التَّيَمُّمَ ما كان طَهَارَتُهُ
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَدَّى شيئا من الصَّلَاةِ مع الْحَدَثِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من جَوَازِ الْبِنَاءِ لَا يَخْتَلِفُ سِيَّمَا إذَا كان الْحَدَثُ في وَسَطِ الصَّلَاةِ أو في آخِرِهَا حتى لو سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عِنْدَنَا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِلَفْظَةِ السَّلَامِ التي هِيَ وَاجِبَةٌ أو سُنَّةٌ عِنْدَنَا فَلَا بُدَّ له من الطَّهَارَةِ
وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُ
____________________

(1/222)


الْجَوَابُ في جَوَازِ الْبِنَاءِ
ولا سِيَّمَا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ على عِلْمٍ بِالْحَدَثِ أو على ظَنٍّ بِهِ بَعْدَ أَنْ كان في الْمَسْجِدِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى أنه لو صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ على ظَنِّ أَنَّهُ أَحْدَثَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لم يُحْدِثْ وهو في الْمَسْجِدِ رَجَعَ وَبَنَى فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ من الْمَسْجِدِ لَا يَبْنِي
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَبْنِي في الْوَجْهَيْنِ جميعا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كما إذَا عَلِمَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَمَا إذَا انْصَرَفَ على ظَنِّ أَنَّهُ على غَيْرِ وُضُوءٍ أو على ظَنِّ أَنَّهُ على ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أو كان مُتَيَمِّمًا فَرَأَى سَرَابًا فَظَنَّهُ مَاءً فَانْصَرَفَ فإنه لَا يَبْنِي سَوَاءٌ كان في الْمَسْجِدِ أو خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حُكْمَ الْمَكَانِ لم يَتَبَدَّلْ ما دَامَ في الْمَسْجِدِ وَالِانْصِرَافُ لم يَكُنْ على قَصْدِ الْخُرُوجِ عن الصَّلَاةِ وَعَزْمِ الرَّفْضِ بَلْ لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَحَقَّقَ ما تَوَهَّمَ تَوَضَّأَ وَبَنَى على صَلَاتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ هذا الِانْصِرَافِ فَكَأَنَّهُ لم يَنْصَرِفْ
بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ من الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَلِمَ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَكَانِ قد تَبَدَّلَ وَبِخِلَافِ تِلْكَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْصِرَافَ ليس لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِ بَلْ لِقَصْدِ الْخُرُوجِ عن الصَّلَاةِ وَعَزْمِ الرَّفْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَحَقَّقَ ما تَوَهَّمَ لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْكَلَامَ وَالْحَدَثَ الْعَمْدَ وَالْقَهْقَهَةَ
وَعَلَى هذا إذَا سَلَّمَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ سَاهِيًا على ظَنِّ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الذي ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ سَوَاءٌ على التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَذُكِرَ في الْعُيُونِ أَنَّهُ إذَا صلى الْعِشَاءَ فَظَنَّ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ أنها تَرْوِيحَةٌ فَسَلَّمَ أو صلى الظُّهْرَ وهو يَظُنُّ أَنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ أو يَظُنُّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَسَلَّمَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْعِشَاءَ وَالظُّهْرَ وقد مَرَّ الْفَرْقُ هذا إذَا كان يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إذَا كان يُصَلِّي في الصَّحْرَاءِ فَإِنْ كان يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ يُعْطَى لِمَا انْتَهَى إلَيْهِ الصُّفُوفُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ إنْ مَشَى يَمْنَةً أو يَسْرَةً أو خَلْفًا وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ وَلَيْسَ بين يَدَيْهِ بِنَاءٌ وَلَا سُتْرَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ
وَالصَّحِيحُ هو التَّقْدِيرُ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ
وَإِنْ كان بين يَدَيْهِ بِنَاءٌ أو سُتْرَةٌ فإنه يَبْنِي ما لم يُجَاوِزْهُ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَجْعَلُ لِمَا دُونَهَا حُكْمَ الْمَسْجِدِ حتى لَا يُبَاحُ الْمُرُورُ دَاخِلَ السُّتْرَةِ وَيُبَاحُ خَارِجُهَا وَإِنْ كان يُصَلِّي وَحْدَهُ فَمَسْجِدُهُ قَدْرُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ من الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ إلَّا إذَا مَشَى أَمَامَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَيُعْطَى لِدَاخِلِ السُّتْرَةِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ ثم المستحب لِمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِيَخْرُجَ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ
فَصْلٌ وأما الْكَلَامُ في مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا أو إمَامًا فَإِنْ كان مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ في الْمَوْضِعِ الذي تَوَضَّأَ فيه وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى الْمَوْضِعِ الذي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فيه لِأَنَّهُ إذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هو فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عن الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صلى صَلَاةً وَاحِدَةً في مَكَانَيْنِ
وَإِنْ عَادَ إلَى مُصَلَّاهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ في مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ مع زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُصَلِّي في الْمَوْضِعِ الذي تَوَضَّأَ من غَيْرِ خِيَارٍ وَلَوْ أتى الْمَسْجِدَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشْيٍ من غَيْرِ حَاجَةٍ
وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْمَشْيَ إلَى الْمَاءِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا في الْجُمْلَةِ
وَإِنْ كان مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لم يَفْرُغْ إمَامُهُ من الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ وَلَوْ لم يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ إنْ صلى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لَا يَصِحُّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ وهو اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ إلَّا إذَا كان بَيْتُهُ قَرِيبًا من الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَإِنْ صلى مُنْفَرِدًا في بَيْتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ في حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ لِأَنَّ بين الصَّلَاتَيْنِ تغايرا ( ( ( تغيرا ) ) ) وقد تَرَكَ ما كان عليه وهو الصَّلَاةُ مُقْتَدِيًا وما أَدَّى وهو الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا لم يُوجَدْ له ابْتِدَاءُ تَحْرِيمَةٍ وهو بَعْضُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلًا عَمَّا كان فيه إلَى هذا فَيَبْطُلُ ذلك وما حَصَلَ فيه بَعْضُ الصَّلَاةِ
فَلَا يَخْرُجُ عن كل الصَّلَاةِ بِأَدَاءِ هذا الْقَدْرِ
ثُمَّ إذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلًا بِقَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ في حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ من غَيْرِ قِرَاءَةٍ وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَلَا يَضُرُّهُ إنْ زَادَ أو نَقَصَ وَلَوْ تَابَعَ إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً أَنَّ على التَّرْتِيبَ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ وَإِنْ كان قد فَرَغَ إمَامُهُ من الصَّلَاةِ يُخَيَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُنْفَرِدِ ولو تَوَضَّأَ وقد فَرَغَ
____________________

(1/223)


الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ ولم يَقْعُدْ في الثَّانِيَةِ لَا يَقْعُدُ هذا الْمُقْتَدِي في الثَّانِيَةِ
وَرُوِيَ عن زُفَرَ أَنَّهُ يَقْعُدُ ذِكْرُ المسألتين ( ( ( المسألة ) ) ) في النَّوَادِرِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَوْلَى وَاجِبَةٌ في الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إلَّا لِأَمْرٍ فَوْقَهُ كما إذَا كان خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَرَكَ الْإِمَامُ الْقَعْدَةَ وَقَامَ يتركها ( ( ( بتركها ) ) ) الْمُقْتَدِي مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ فِيمَا هو أَعْلَى منه وهو الْقِيَامُ لِكَوْنِهِ فَرْضًا ولم يُوجَدْ هذا الْمَعْنَى في اللَّاحِقِ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لَا تَتَحَقَّقُ فَيَجِبُ عليه الْإِتْيَانُ بِالْقَعْدَةِ
وَلَنَا أَنَّ اللَّاحِقَ خَلْفَ الْإِمَامِ تَقْدِيرًا حتى يَسْجُدَ لِسَهْوِ الْإِمَام وَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِ نَفْسِهِ وَلَا يَقْرَأُ في الْقَضَاءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَوْ كان خَلْفَهُ حَقِيقَةً يَتْرُكُ الْقَعْدَةَ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ فَكَذَا إذَا كان خَلْفَهُ تَقْدِيرًا والله أعلم
وَإِنْ كان إمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي على صَلَاتِهِ وَالْأَمْرُ في مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْمُقْتَدِي لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هو كَوَاحِدٍ من الْمُقْتَدِينَ بِهِ
فَصْلٌ في ( ( ( ثم ) ) ) الْكَلَامُ في الِاسْتِخْلَافِ في مَوَاضِعَ أَحَدِهَا في جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ في الْجُمْلَةِ وَالثَّانِي في شَرَائِطِ جَوَازِهِ وَالثَّالِثِ في بَيَانِ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه
قال عُلَمَاؤُنَا يَجُوزُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ وَيُصَلِّي الْقَوْمُ وُحْدَانًا بِلَا إمَامٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْإِمَامِ إذْ هو في نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ فَلَا يَمْلِكُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ
وَكَذَا الْقَوْمُ لَا يَمْلِكُونَ النَّقْلَ
وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْإِمَامَةُ لَا بِتَفْوِيضٍ منهم بَلْ بِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ ولم يُوجَدْ الِاقْتِدَاءُ بِالثَّانِي
لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالتَّكْبِيرَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ في حَقِّ الثَّانِي
بِخِلَافِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى
لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عن وِلَايَاتٍ تَثْبُتُ له شَرْعًا بِالتَّفْوِيضِ وَالْبَيْعَةِ كما يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ وَالْقَاضِي فَيَقْبَلُ التَّمْلِيكَ وَالْعَزْلَ
ولنا ( ( ( لنا ) ) ) ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا صلى أحدكم فَقَاءَ أو رَعَفَ في صَلَاتِهِ فَلْيَضَعْ يَدَهُ على فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ من لم يُسْبَقْ بِشَيْءٍ من صَلَاتِهِ وَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ على صَلَاتِهِ ما لم يَتَكَلَّمْ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَجَدَ في نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يهادي بين اثْنَيْنِ وقد افْتَتَحَ أبو بَكْرٍ الصَّلَاةَ فلما سمع حِسَّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَافْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ من الْمَوْضِعِ الذي انْتَهَى إلَيْهِ أبو بَكْرٍ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ لِأَنَّهُ عَجَزَ عن الْمُضِيِّ لِكَوْنِ الْمُضِيِّ من بَابِ التَّقَدُّمِ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وقال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بين يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَصَارَ هذا أَصْلًا في حَقِّ كل إمَامٍ عَجَزَ عن الْإِتْمَامِ أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَتَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُهُ
وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إلَى إتمام ( ( ( تمام ) ) ) صَلَاتِهِمْ بِالْإِمَامِ وقد الْتَزَمَ الْإِمَامُ ذلك فإذا عَجَزَ عن الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ بِنَفْسِهِ يَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عليه نَظَرًا لهم
كيلا تَبْطُلَ عليهم الصَّلَاةُ بِالْمُنَازَعَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْإِمَامَ لَا وِلَايَةَ له فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ له وِلَايَةُ الْمَتْبُوعِيَّةِ في هذه الصَّلَاةِ
وَأَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ إلَّا بِنَاءً على صَلَاتِهِ
وَأَنْ يَقْرَأَ فَتَصِيرَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لهم فإذا عَجَزَ عن الْإِمَامَةِ بِنَفْسِهِ مَلَكَ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى على أَنَّ هذا من بَابِ الْخِلَافَةِ لَا من بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّمْلِيكِ
فإن الثَّانِيَ يَخْلُفُ الْأَوَّلَ في بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ كَالْوَارِثِ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ فِيمَا بَقِيَ من أَمْوَالِهِ وَالْخِلَافَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْوِلَايَةِ وَالْأَمْرِ بَلْ شَرْطُهَا الْعَجْزُ
وَإِنَّمَا التَّقْدِيمُ من الْإِمَامِ لِلتَّعْيِينِ
كيلا تَبْطُلَ بِالْمُنَازَعَةِ حتى أنه لو لم يَبْقَ خَلْفَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يَصِيرُ إمَامًا وَإِنْ لم يُعَيِّنْهُ وَلَا فَوَّضَ إلَيْهِ
وَكَذَا التَّقْدِيمُ من الْقَوْمِ لِلتَّعْيِينِ دُونَ التَّفْوِيضِ
فَصَارَ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى
فإن الْبَيْعَةَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلتَّمْلِيكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يَمْلِكُ أُمُورًا لَا تَمْلِكُهَا الرَّعِيَّةُ وَهِيَ إقَامَةُ حدود ( ( ( الحدود ) ) ) الله تعالى فَكَذَا هذا فَإِنْ لم يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ الْقَوْمُ رَجُلًا جَازَ ما دَامَ الْإِمَامُ في الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْإِمَامَ لو اسْتَخْلَفَ كان سَعْيُهُ لِلْقَوْمِ نَظَرًا لهم كيلا تَبْطُلَ عليهم الصَّلَاةُ فإذا فَعَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ جَازَ كما في الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى لو لم يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ غَيْرَهُ وَمَاتَ وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَنَصَّبُوا من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ جَازَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لو فَعَلَ فَعَلَ لهم فَجَازَ لهم أَنْ يَفْعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذلك
فكذا هذا
وَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ من الْقَوْمِ من غَيْرِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ وَتَقْدِيمِ الْقَوْمِ وَالْإِمَامُ في الْمَسْجِدِ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّ بِهِ حَاجَةً إلَى صِيَانَةِ صَلَاتِهِ وَلَا طَرِيقَ لها عِنْدَ امْتِنَاعِ الْإِمَامِ عن الِاسْتِخْلَافِ وَالْقَوْمِ عن التَّقْدِيمِ إلَّا ذلك وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ائْتَمُّوا بِهِ فَقَدْ رَضُوا بِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُمْ قَدَّمُوهُ وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ أو الْقَوْمُ رَجُلَيْنِ فَإِنْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا
____________________

(1/224)


إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ قبل الْآخَرِ تَعَيَّنَ هو لِلْإِمَامَةِ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ من اقْتَدَى بِهِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الثَّانِي وَصَلَاةُ من اقْتَدَى بِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا تَقَدَّمَ بِتَقْدِيمِ من له وِلَايَةٌ التقديم ( ( ( لتقديم ) ) ) قام مَقَامَ الْأَوَّلِ وَصَارَ إمَامًا لِلْكُلِّ كَالْأَوَّلِ فَصَارَ الْإِمَامُ الثَّانِي وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ مُنْفَرِدِينَ عَمَّنْ صَارَ إمَامًا لهم فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لِمَا مَرَّ من الْفِقْهِ وَإِنْ وَصَلَا مَعًا فَإِنْ اقْتَدَى الْقَوْمُ بِأَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ هو لِلْإِمَامَةِ وَإِنْ اقْتَدَوْا بِهِمَا جميعا بَعْضُهُمْ بهذا وَبَعْضُهُمْ بِذَاكَ فَإِنْ اسْتَوَتْ الطَّائِفَتَانِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جميعا لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ لم يَصِحَّ اسْتِخْلَافُ كل وَاحِدٍ من الْفَرِيقَيْنِ لِمَكَانِ التَّعَارُضِ فَبَطَلَتْ إمَامَتُهُمَا وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ لِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ عن الْمَسْجِدِ من غَيْرِ خَلِيفَةٍ لِلْقَوْمِ وَلِأَدَائِهِمْ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدِينَ في حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ صَحَّ تَقْدِيمُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ تَرْجِيحِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ عليه فَجُعِلَ في حَقِّ كل فَرِيقٍ كان ليس منهم ( ( ( معهم ) ) ) غَيْرُهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ إمَامُ كل طَائِفَةٍ إمَامًا لِلْكُلِّ كَإِمَامِ أَكْثَرِ الطَّائِفَتَيْنِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ وَعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ على إمَامِ كل طَائِفَةٍ وَمَنْ تَابَعَهُ الِاقْتِدَاءُ بها ( ( ( بالآخر ) ) ) فَإِنْ لم يَقْتَدُوا جُعِلُوا مُنْفَرِدِينَ أوان وُجُوبَ الِاقْتِدَاءِ وَإِنْ اقْتَدَوْا أَدَّوْا صَلَاةً وَاحِدَةً في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِمَامَيْنِ
وَذَلِكَ مِمَّا لم يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فلم يَجُزْ وَلَوْ كانت الطَّائِفَتَانِ على التَّفَاوُتِ فَإِنْ اقْتَدَى جَمَاعَةُ الْقَوْمِ بِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ إلَّا رَجُلٌ أو رَجُلَانِ اقْتَدَيَا بِالثَّانِي فَصَلَاةُ من اقْتَدَى بِهِ الْجَمَاعَةُ صَحِيحَةٌ وَصَلَاةُ الْآخَرِ وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُمَا لَمَّا وَصَلَا مَعًا وقد تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَا إمَامَيْنِ فَلَا بُدَّ من التَّرْجِيحِ وَأَمْكَنَ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ نَصًّا وَاعْتِبَارًا
أَمَّا النَّصُّ فقوله ( ( ( فقول ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم يَدُ اللَّهِ مع الْجَمَاعَةِ
وَقَوْلُهُ من شَذَّ شَذَّ في النَّارِ
وَقَوْلُهُ كَدَرُ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ من صَفْوِ الْفِرْقَةِ
وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى حتى قال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه في الشُّورَى إنْ اتَّفَقُوا على شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ فَاقْتُلُوهُ وَإِنْ اقْتَدَى بِكُلِّ إمَامٍ جَمَاعَةٌ لَكِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَكْثَرُ عَدَدًا من الْآخَرِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ جميعا وَإِلَيْهِ مَالَ الشيخ الْإِمَامُ الزاهد السَّرَخْسِيُّ فقال إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ تَامٌّ يَتِمُّ بِهِ نِصَابُ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ الْأَقَلُّ مُسَاوِيًا لِلْأَكْثَرِ حُكْمًا كَالْمُدَّعِيَيْنِ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ عشرة ( ( ( أربعة ) ) ) وقال بَعْضُهُمْ جَازَتْ صَلَاةُ الْأَكْثَرِينَ وَتَعَيَّنَ الْفَسَادُ في الْآخَرِينَ كما في الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّيْخُ الإمام الزاهد صَدْرُ الدِّينِ أبو الْمُعِينِ وَاسْتَدَلَّ بِوَضْعِ مُحَمَّدٍ فإن مُحَمَّدًا قال إذَا قَدَّمَ الْقَوْمُ أو الْإِمَامُ رَجُلَيْنِ فَأَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً جَازَتْ صَلَاةُ أَكْثَرِ الطَّائِفَتَيْنِ
فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ لو كانت جَمَاعَةً تَرْجَحُ أَيْضًا بِالْكَثْرَةِ لِأَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ في اللُّغَةِ يَقَعُ على الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وعلى ( ( ( والثلاثة ) ) ) الثلاثة وما زَادَ على ذلك قال اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا }
وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لو كان أَكْثَرَ من الثَّلَاثِ لَدَخَلَ تَحْتَ هذه الْآيَةِ وقال تَعَالَى { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ من بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قد أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ }
وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ كان جَمَاعَةً كَثِيرَةً وَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ أَمِيرَ عَسْكَرٍ في دَارِ الْحَرْبِ قال من جاء مِنْكُمْ بِشَيْءٍ فَلَهُ طَائِفَةٌ منه فَجَاءَ رَجُلٌ برؤوس ( ( ( برءوس ) ) ) فإن الْإِمَامَ يَنْفُلُ له من ذلك على قَدْرِ ما يَرَى حتى أنه لو أعطى نِصْفَ ما أتى بِهِ أو أَكْثَرَ بِأَنْ كانت الرؤوس عَشْرَةً فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُعْطِيَ تِسْعَةً من ذلك لِهَذَا الرَّجُلِ كان له ذلك فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ يَقَعُ على الْجَمَاعَةِ فَيُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان خَلْفَ الْإِمَامِ الذي سَبَقَهُ الْحَدَثُ اثْنَانِ أو أَكْثَرُ فَأَمَّا إذَا كان خَلْفَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ صَارَ إمَامًا نَوَى الْإِمَامَةَ أو لم يَنْوِ قام في مَكَانِ الْإِمَامِ أو لم يَقُمْ قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أو لم يُقَدِّمْهُ
لِأَنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ وَاحِدٍ من الْقَوْمِ لِلْإِمَامَةِ ما لم يُقَدِّمْهُ أو يَتَقَدَّمْ حتى بَقِيَتْ الْإِمَامَةُ لِلْأَوَّلِ كان بِحُكْمِ التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَهَهُنَا لَا تَعَارُضَ فَتَعَيَّنَ هو لِحَاجَتِهِ إلَى إبْقَاءِ صَلَاتِهِ على الصِّحَّةِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ حتى أن الْإِمَامَ الْأَوَّلَ لو أَفْسَدَ صَلَاتَهُ على نَفْسِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ هذا الثَّانِي وَالثَّانِي لو أَفْسَدَ صَلَاتَهُ على نَفْسِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ في حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِالثَّانِي وَفَسَادُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي لَا تُؤَثِّرُ في فَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَثَرٌ في فَسَادِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي وَدَخَلَ في صَلَاةِ الثَّانِي لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ على ما ذَكَرْنَا وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ ولم يَكُنْ معه إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَوَجَدَ الْمَاءَ في الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ قال يُتِمُّ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِمَامَةِ فَبِنَفْسِ انْصِرَافِهِ تَتَحَوَّلُ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ وَإِنْ كان معه جَمَاعَةٌ فَتَوَضَّأَ في الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ
____________________

(1/225)


وَصَلَّى بِهِمْ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَتَحَوَّلُ منه إلَى غَيْرِهِ في هذه الْحَالَةِ إلَّا بِالِاسْتِخْلَافِ ولم يُوجَدْ فَإِنْ جاء رَجُلٌ وَاقْتَدَى بهذا الثَّانِي ثُمَّ أَحْدَثَ الثَّانِي صَارَ الثَّالِثُ إمَامًا لِتَعَيُّنِهِ لِذَلِكَ فَإِنْ أَحْدَثَ الثَّالِثُ وَخَرَجَ قبل رُجُوعِهِمَا أو رُجُوعِ أَحَدِهِمَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمَّا صَارَ إمَامًا صَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُقْتَدِيَيْنِ بِهِ فإذا خَرَجَ هو لم تَفْسُدْ صَلَاتُهُ على الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهُ في حَقِّ نَفْسِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّ إمَامَهُمَا خَرَجَ عن الْمَسْجِدِ فَتَحَقَّقَ تَبَايُنُ الْمَكَانِ فَفَسَدَ الِاقْتِدَاءُ لِفَوْتِ شَرْطِهِ وهو اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ
وَإِنْ كان تَبَايُنُ الْمَكَانِ مَوْجُودًا حَالَ بَقَائِهِ في الْمَسْجِدِ لِأَنَّ ذلك سَقَطَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا لِحَاجَةِ الْمُقْتَدِي إلَى صِيَانَةِ صَلَاتِهِ على ما نَذْكُرُ وَهَهُنَا لَا حَاجَةَ لِكَوْنِ ذلك في حَدِّ النُّدْرَةِ وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ خَرَجَ الثَّالِثُ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ لِأَنَّ الرَّاجِعَ صَارَ إمَامًا لهم لِتَعَيُّنِهِ وَلَوْ رَجَعَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَإِنْ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا صَارَ هو الْإِمَامُ وَإِنْ لم يُقَدَّمْ حتى خَرَجَ الثَّالِثُ من الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لم يَصِرْ إمَامًا لِلتَّعَارُضِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ فَبَقِيَ الثَّالِثُ إمَامًا فإذا خَرَجَ من الْمَسْجِدِ فات شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وهو اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ فَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ ما هو شَرْطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ حتى لَا يَجُوزَ مع الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَسَائِرِ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ كما لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ مع هذه الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَكُونُ لِلْقَائِمِ وَلَا قِيَامَ لِلصَّلَاةِ مع هذه الْأَشْيَاءِ بَلْ تَفْسُدُ
وَلَوْ حُصِرَ الْإِمَامُ عن الْقِرَاءَةِ فَاسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ حُكْمٌ ثَبَتَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَرَدَ في الحديث السَّابِقِ الذي هو غَالِبُ الْوُقُوعِ وَالْحَصْرُ في الْقِرَاءَةِ ليس نَظِيرَهُ فَالنَّصُّ الْوَارِدُ ثَمَّةَ لَا يَكُونُ وَارِدًا هُنَا وَصَارَ كَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالِاحْتِلَامِ في الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِخْلَافَ كَذَا هذا
( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ هَهُنَا بِالنَّصِّ الْخَاصِّ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ ) وهو حَدِيثُ أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِجَمَاعَةٍ بِأَمْرِ رسول اللَّهِ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه فَوَجَدَ خِفَّةً فَحَضَرَ الْمَسْجِدَ فلما أَحَسَّ الصِّدِّيقُ بِرَسُولِ اللَّهِ حصر في الْقِرَاءَةِ فَتَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النبي وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ وَلَوْ لم يَكُنْ جَائِزًا لَمَا فَعَلَ ذلك رسول اللَّهِ وما جَازَ له يَكُونُ جَائِزًا لِأُمَّتِهِ هو الْأَصْلُ لِكَوْنِهِ قُدْوَةً
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ قبل خُرُوجِ الْإِمَامِ من الْمَسْجِدِ حتى أنه لو خَرَجَ عن الْمَسْجِدِ قبل أَنْ يُقَدِّمَ هو أو يُقَدِّمَ الْقَوْمُ إنْسَانًا أو يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ فَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ اخْتَلَفَ مَكَانُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَبَطَلَ الِاقْتِدَاءُ لِفَوْتِ شَرْطِهِ وهو اتِّحَادُ البقعة ( ( ( المكان ) ) ) وَهَذَا لِأَنَّ غَيْرَهُ إذَا لم يَتَقَدَّمْ بَقِيَ هو إمَامًا في نَفْسِهِ كما كان لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ عن الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِ الْإِمَامَةِ إلَيْهِ ولم يُوجَدْ وَالْمَكَانُ قد اخْتَلَفَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا تُشْكِلُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ من كان خَارِجَ الْمَسْجِدِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ وَلَيْسَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ ما إذَا كان بَعُدَ في الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ حُكْمًا وَلِهَذَا حُكِمَ بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ في الْمَسْجِدِ وَإِنْ لم تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ كَذَلِكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَخَرَجَ من الْمَسْجِدِ حَيْثُ لم تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وهو اتِّحَادُ الْمَكَانِ فإن هُنَاكَ ضَرُورَةً لِأَنَّ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ لَنْ تَحْصُلَ إلَّا بهذا الطَّرِيقِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْإِمَامُ هو الذي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فإن صِيَانَةَ صَلَاةِ الْقَوْمِ تُمْكِنُهُ بِأَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ أو يُقَدِّمَ الْقَوْمُ رَجُلًا أو يَتَقَدَّمَ وَاحِدٌ منهم فإذا لم يَفْعَلُوا فَقَدْ فرطوا ( ( ( فرضوا ) ) ) وما سَعَوْا في صِيَانَةِ صَلَاتِهِمْ فَتَفْسُدُ عليهم
وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَلَيْسَ شَيْءٌ منها في وُسْعِهِ فَبَقِيَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً لِيَتَمَكَّنَ من الْإِتْمَامِ وَأَمَّا حَالُ صَلَاةِ الْإِمَامِ فلم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ أَيْضًا لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِخْلَافِهِ لَمَّا أَثَّرَ في فَسَادِ صَلَاةِ الْقَوْمِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ في فَسَادِ صَلَاتِهِ أَوْلَى
وَذَكَرَ أبو عِصْمَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَالْمُنْفَرِدُ الذي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً كَذَا هذا وَلَوْ كان خَارِجَ الْمَسْجِدِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ فَخَرَجَ الْإِمَامُ من الْمَسْجِدِ ولم يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَفْسُدُ حتى لو اسْتَخْلَفَ
____________________

(1/226)


الْإِمَامُ رَجُلًا من الصُّفُوفِ الْخَارِجَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن مَوَاضِعَ الصُّفُوفِ لها حُكْمُ الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو صلى في الصَّحْرَاءِ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ ما لم يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ فَجَعَلَ الْكُلَّ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَهُمَا أَنَّ الْبُقْعَةَ مُخْتَلِفَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لها حُكْمَ الِاتِّحَادِ إذَا كانت الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً بِالْمَسْجِدِ في حَقِّ الْخَارِجِ عن الْمَسْجِدِ خَاصَّةً لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ فَلَا يَظْهَرُ الِاتِّحَادُ في حَقِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ إذا كَبَّرَ يوم الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ في الْمَسْجِدِ وَكَبَّرَ الْقَوْمُ بِتَكْبِيرِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لم تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ وإذا ظَهَرَ حُكْمُ اخْتِلَافِ الْبُقْعَةِ في حَقِّ الْمُسْتَخْلِفِ لم يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ
هذا إذَا كان يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ فَإِنْ كان يُصَلِّي في الصَّحْرَاءِ فَمُجَاوَزَةُ الصُّفُوفِ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ من الْمَسْجِدِ إنْ مَشَى على يَمِينِهِ أو على يَسَارِهِ أو خَلْفَهُ فَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ وَلَيْسَ بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ جَاوَزَ مِقْدَارَ الصُّفُوفِ التي خَلْفَهُ أُعْطِيَ له حُكْمَ الْخُرُوجِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ وَإِنْ كان بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ يُعْطَى لِدَاخِلِ السُّتْرَةِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ لِمَا مَرَّ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقَدِّمُ صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ حتى لو اسْتَخْلَفَ مُحْدِثًا أو جُنُبًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كَذَا ذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ في بَابِ الْحَدَثِ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً فَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ من لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَمَلًا كَثِيرًا ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَكَانَ إعْرَاضًا عن الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ فَقَدْ اقْتَدَى بِهِ وَمَتَى صَارَ هو مُقْتَدِيًا بِهِ صَارَ الْقَوْمُ أَيْضًا مُقْتَدِينَ بِهِ والإقتداء بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ لَا يَصِحُّ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جميعا
وَهَذَا عِنْدَنَا لِأَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا فَكَذَا في حَالِ الِاسْتِخْلَافِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى إذَا اقْتَدَوْا بِهِ مع الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا لَا يَصِحُّ الإقتداء وإذا لم يَعْلَمُوا بِهِ ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ فَكَذَا في حَالِ الِاسْتِخْلَافِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ ما يَدُلُّ على أَنَّ اسْتِخْلَافَ الْمُحْدِثِ صَحِيحٌ حتى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ فإنه قال إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ رَجُلًا وَالْمُقَدَّمُ على غَيْرِ وُضُوءٍ فلم يَقُمْ مَقَامَهُ يَنْوِي أَنْ يَؤُمَّ الناس حتى قَدَّمَ غَيْرَهُ صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَلَوْ لم يَكُنْ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ لَمَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ غَيْرَهُ وَلَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِاسْتِخْلَافِهِ من لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ اسْتِخْلَافُ الْمُقَدَّمِ غَيْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقَدَّمَ من أَهْلِ الْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا التَّعَذُّرُ لِمَكَانِ الْحَدَثِ فَصَارَ أَمْرُهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْإِمَامِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ لو قَدَّمَ صَبِيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِلْإِمَامِ في الْفَرْضِ كما لَا يَصْلُحُ أَصِيلًا في الْإِمَامَةِ في الْفَرَائِضِ
وَهَذَا على أَصْلِنَا أَيْضًا فإنه لا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ في الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ امْرَأَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جميعا من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِمَامِ وَالْمُقَدَّمِ وقال زُفَرُ صَلَاةُ الْمُقَدَّمِ وَالنِّسَاءِ جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرِّجَالِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ في الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ كما في الِابْتِدَاءِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ قال أَخِّرُوهُنَّ من حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ
فَصَارَ بِاسْتِخْلَافِهِ إيَّاهَا مُعْرِضًا عن الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لم تَتَحَوَّلْ منه إلَى غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لو قَدَّمَ الْأُمِّيَّ أو الْعَارِيَ أو الْمُومِيَ
وقال زُفَرُ إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَرَأَ في الْأُولَيَيْنِ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا في الْأُخْرَيَيْنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ لِاسْتِوَاءِ حَالِ القارىء وَالْأُمِّيِّ في الْأُخْرَيَيْنِ لِتَأَدِّي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ في الْأُولَيَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ من لَا يَصْلُحُ إمَامًا له عَمَلٌ كَثِيرٌ منه ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَخْلَفَهُ بعدما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ من الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الصُّنْعِ منه هَهُنَا وهو الِاسْتِخْلَافُ إلَّا أَنَّ بِنَاءَ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ في هذه الْمَسَائِلِ على هذا الْأَصْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّهَارَةِ في فَصْلِ التَّيَمُّمِ وَالْأَصْلُ في بَابِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ كُلَّ من يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْإِمَامِ بِهِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً له وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كان الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا فَأَحْدَثَ فَقَدَّمَ مُتَوَضِّئًا جَازَ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَيَمِّمِ بالمتوضىء ( ( ( بالمتوضئ ) ) ) صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ قَدَّمَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ منه إلَى الثَّانِي وَصَارَ هو كَوَاحِدٍ من الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ
____________________

(1/227)


لَا يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ وَإِنْ كان الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمًا فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالْقَوْمِ جميعا لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ من الْمُقْتَدِينَ بِهِ وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ الْقَوْمِ وَلَوْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا جَازَ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا لِأَنَّهُ أَقْدَرُ على إتْمَامِ الصَّلَاةِ وقد قال من قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وفي رَعِيَّتِهِ من هو أَوْلَى منه فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَعَ هذا لو قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ جَازَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي له أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن الْقِيَامِ بِجَمِيعِ ما بَقِيَ من الْأَفْعَالِ وَلَوْ تَقَدَّمَ مع هذا جَازَ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ وهو قَادِرٌ على أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وهي المقصودة ( ( ( المقصود ) ) ) من الصَّلَاةِ فإذا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ من الْمَوْضِعِ الذي وَصَلَ إلَيْهِ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فإذا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يَسْتَخْلِفُ هذا الثَّانِي رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن السَّلَامِ لِبَقَاءِ ما سَبَقَ بِهِ عليه فَصَارَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عن إتْمَامِ الصَّلَاةِ كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَثَبَتَتْ له وِلَايَةُ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ فَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومُ هو إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بالإمام ( ( ( بالثاني ) ) ) الثاني لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ إمَامًا فَيُخْرِجُ الْأَوَّلَ من الْإِمَامَةِ ضَرُورَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَكُونُ لها إمَامَانِ وإذا لم يَبْقَ إمَامًا وقد بَقِيَ هو في الصَّلَاةِ التي كانت مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ صَارَ مُقْتَدِيًا ضَرُورَةً فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى في بَيْتِهِ ما بَقِيَ من صَلَاتِهِ فَإِنْ كان قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي من بَقِيَّةِ صَلَاةِ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان بَعْدَ فَرَاغِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ على ما مَرَّ
وَلَوْ قَعَدَ الْإِمَامُ الثَّانِي في الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ ضحك قهقة انْتَقَضَ وضوؤه وَصَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أو تَكَلَّمَ أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الذي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ من صَلَاتِهِ قد فَسَدَ وقد بَقِيَ عليه أَرْكَانٌ وَمَنْ بَاشَرَ الْمُفْسِدَ قبل ( ( ( قل ) ) ) أَدَاءُ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَسْبُوقِينَ تَامَّةٌ
لِأَنَّ جُزْءًا من صَلَاتِهِمْ وَإِنْ فَسَدَ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ لم يَبْقَ عليهم شَيْءٌ من الْأَفْعَالِ وَصَلَاتُهُمْ بِدُونِ هذا الْجُزْءِ جَائِزَةٌ فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا
وَأَمَّا الْمَسْبُوقُونَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هذا الْجُزْءَ من صَلَاتِهِمْ قد فَسَدَ وَعَلَيْهِمْ أَرْكَانٌ لم تُؤَدَّ بَعْدُ كما في حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي
فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كان قد فَرَغَ من صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي مع الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ من الْمُدْرِكِينَ وَإِنْ كان في بَيْتِهِ لم يَدْخُلْ مع الْإِمَامِ الثَّانِي في الصَّلَاةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ
وَذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أن صلاته لَا تَفْسُدُ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ قَهْقَهَةَ الْإِمَامِ كَقَهْقَهَةِ الْمُقْتَدِي في إفْسَادِ الصَّلَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ
وَلَوْ قَهْقَهَ الْمُقْتَدِي في هذه الْحَالَةِ بنفسه لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِبَقَاءِ الْأَرْكَانِ عليه فَكَذَا هذا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْمَسْبُوقِينَ إنَّمَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الذي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ وَأَفْسَدَتْهُ من وَسَطِ صَلَاتِهِمْ فإذا فَسَدَ الْجُزْءُ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ
فَأَمَّا هذا الْجُزْءُ في حَقِّ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وهو مُدْرِكٌ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَمِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا تَرَكَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُ مع الْإِمَامِ وَإِلَّا فَيَأْتِي بِهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ فَسَادُ هذا الْجُزْءِ مُوجِبًا فَسَادَ صَلَاتِهِ كما لو كان أتى وَصَلَّى ما تَرَكَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ وَصَلَّى بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ مع الْإِمَامِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْإِمَامُ الثَّانِي لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان الَّذِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ كُلَّهُمْ مسبوقون ( ( ( مسبوقين ) ) ) يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ على الْإِمَامِ شَيْءٌ من الصَّلَاةِ فإنه يَسْتَخْلِفُ وَاحِدًا منهم لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِمَا بَيَّنَّا فَيُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ من غَيْرِ تَسْلِيمٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عليه
وَكَذَا الْقَوْمُ يَقُومُونَ من غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا
وَإِنْ لم يَبْقَ على الْإِمَامِ شَيْءٌ من صَلَاتِهِ قَامُوا من غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا لِوُجُوبِ الِانْفِرَادِ عليهم في هذه الْحَالَةِ
وَلَوْ صلى الْإِمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا نَامَ عن هذه الرَّكْعَةِ وقد أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أو كان ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ
لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ
وَلَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ
وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ هو غَيْرَهُ
لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فإنه يَحْتَاجُ إلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ
فَإِنْ لم يَفْعَلْ وَتَقَدَّمَ جَازَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الْإِتْمَامِ في الْجُمْلَةِ
وإذا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِيُصَلِّيَ ما فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أو ذَهَابِهِ للتوضأ ( ( ( للتوضؤ ) ) ) ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا وسلم بِهِمْ ثُمَّ قام فَقَضَى ما فَاتَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا
وقال زُفَرُ لَا يجزئه ( ( ( يجزيه ) ) )
وَجْهُ قَوْلِهِ إنه مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ
____________________

(1/228)


الْمَأْمُورَ بِهِ ( فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ قبل أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ معه )
وَلَنَا أَنَّهُ أتى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ في أَفْعَالِهَا وَالتَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لو ثَبَتَ افْتِرَاضُهُ لَكَانَتْ فيه زِيَادَةٌ على الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ وَذَا جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ وَلَا يَثْبُتُ نَسْخُ ما ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْتِيبَ فَرْضًا يُسَاوِي دَلِيلَ افْتِرَاضِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو تَرَكَ سَجْدَةً من الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لم تَفْسُدْ صَلَاتُهُ
وَلَوْ كان التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا لَفَسَدَتْ وَكَذَا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ في السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فيه فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّ الْفَسَادَ هُنَاكَ ليس لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ بَلْ لِلْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ أو لِلِانْفِرَادِ عِنْدَ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا
وَكَذَلِكَ لو صلى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يومىء إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ حتى يَقْضِيَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ كما في الِابْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ لم يَفْعَلْ وَتَأَخَّرَ حين تَذَكَّرَ ذلك وَقَدَّمَ رَجُلًا منهم لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ أَيْضًا كما في الِابْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ لم يَفْعَلْ وَأَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وهو ذَاكِرٌ لِرَكْعَتِهِ ثُمَّ تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ من يُسَلِّمُ بِهِمْ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا ( والله أعلم )
وَلَوْ كان الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ مُسَافِرًا وَخَلْفَهُ مُقِيمُونَ وَمُسَافِرُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا جَازَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُقَدِّمَ مُقِيمًا وَلَوْ قَدَّمَهُ فَالْمُسْتَحَبُّ له أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فإنه لَا يَقْدِرُ على التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْقُعُودِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ غير أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ مع هذا جَازَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على إتْمَامِ أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا يَعْجِزُ عن الْخُرُوجِ وهو ليس بِرُكْنٍ فإذا أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ تَأَخَّرَ هو وَقَدَّمَ مسافر ( ( ( مسافرا ) ) ) لِأَنَّهُ ( غَيْرُ ) عَاجِزٍ عن الْخُرُوجِ فَيَسْتَخْلِفُ مُسَافِرًا حتى يُسَلِّمَ بهم فإذا سَلَّمَ قام هو وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا كما لو لم يَكُنْ الْأَوَّلُ أَحْدَثَ على ما ذَكَرْنَا قبل هذا
وَلَوْ مَضَى الْإِمَامُ الثَّانِي في صَلَاتِهِ مع الْقَوْمِ حتى أَتَمَّهَا يَعْنِي صَلَاةَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ كان قَعَدَ في الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ تَامَّةٌ أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّ ما الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ انْعَقَدَتْ على أَنْ يُؤَدِّيَ رَكْعَتَيْنِ مع الْإِمَامِ وَرَكْعَتَيْنِ على سَبِيلِ الِانْفِرَادِ وقد فَعَلَ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَلِأَنَّهُمْ انْتَقَلُوا إلَى النَّفْلِ بَعْدَ إكْمَالِ الفروض ( ( ( الفرض ) ) ) وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَفَاسِدَةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَعَدُوا قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ اقْتِدَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ أَنْ يُصَلُّوا الْأُولَيَيْنِ مُقْتَدِينَ بِهِ وَالْأُخْرَيَيْنِ على سَبِيلِ الِانْفِرَادِ فإذا اقْتَدَوْا فِيهِمَا فَقَدْ اقْتَدَوْا في حَالِ وُجُوبِ الِانْفِرَادِ ونيتهما ( ( ( وبينهما ) ) ) متغايرة ( ( ( مغايرة ) ) ) على ما ذَكَرْنَا فَبِالِاقْتِدَاءِ خَرَجُوا عَمَّا كَانُوا دَخَلُوا فيه وهو الْفَرْضُ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ الْمَفْرُوضَةُ وما دَخَلُوا فيه دَخَلُوا بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا شُرُوعَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَإِنْ لم يَقْعُدْ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كلهم ( ( ( كلها ) ) ) لِأَنَّ الْقَعْدَةَ صَارَتْ فَرْضًا في حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ فإذا تَرَكَ الْقَعْدَةَ فَقَدْ تَرَكَ ما هو فَرْضٌ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ لِتَرْكِهِمْ الْقَعْدَةَ الْمَفْرُوضَةَ أَيْضًا وَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ بِفَسَادِ صَلَاةِ إمَامِهِمْ بِتَرْكِهِ الْقَعْدَةَ الْمَفْرُوضَةَ
وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا دخل في صَلَاتِهِ سَاعَتَئِذٍ وهو مُسَافِرٌ جَازَ لِمَا مَرَّ وَلَا يَنْبَغِي له أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِمَا مَرَّ أَيْضًا أَنَّ غير الْمَسْبُوقِ أَقْدَرُ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَوْ قَدَّمَهُ مع هذا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَإِنْ سَهَا عن الثَّانِيَةِ وَصَلَّى رَكْعَةً وَسَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جاء سَاعَتئِذٍ سَجَدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ يَتْبَعُهُ في السَّجْدَةِ الْأُولَى وَلَا يَتْبَعُهُ في الثَّانِيَةِ إلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ ما يَقْضِي وَالْإِمَامُ الثَّانِي لَا يَتْبَعُهُ في الْأُولَى وَيَتْبَعُهُ في الثَّانِيَةِ
وإذا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَدَّمَ من أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومُ هو فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ إنْ كان مُسَافِرًا وَإِنْ كَانُوا أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ اتَّبَعَهُ كُلُّ إمَامٍ في السَّجْدَةِ الْأُولَى وَيَتْبَعُهُ الْإِمَامُ وَمَنْ بَعْدَهُ في السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْمُدْرِكَ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ بَلْ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فالأول وَالْمَسْبُوقُ يُتَابِعُ إمَامَهُ فِيمَا أَدْرَكَ ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ
وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْإِمَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَيُتِمَّانِ صَلَاتَهُ
إذَا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ لَمَّا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَدَّمَ هذا الثَّانِيَ يَنْبَغِي له أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ( الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ قَائِمٌ ( مقام ( ( ( مقامه ) ) ) الأول ) وَالْأَوَّلُ
____________________

(1/229)


لو لم يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ لَسَجَدَ هذه السَّجْدَةَ فكذا الثَّانِي فَلَوْ أَنَّهُ سَهَا عن هذه السَّجْدَةِ وَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فلما سَجَدَ سَجْدَةً سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ رَجُلًا جاء سَاعَتَئِذٍ وَتَقَدَّمَ هذا الثَّالِثُ يَنْبَغِي لِهَذَا الْإِمَامِ الثَّالِثِ أَنْ يَسْجُدَ السَّجْدَتَيْنِ أَوَّلًا لِأَنَّ هذا الثَّالِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ كان يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ
فَكَذَا هذا
وإذا سَجَدَ الثَّالِثُ السَّجْدَةَ الْأُولَى وكان جاء الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فإن الْأَوَّلَ يُتَابِعُهُ في السَّجْدَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ وانتهى ( ( ( وانتهت ) ) ) صَلَاتُهُ إلَى هذه السَّجْدَةِ فَيَأْتِي بها وَكَذَا الْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ فيها لِأَنَّهُمْ قد صَلَّوْا تِلْكَ الرَّكْعَةَ أَيْضًا وَإِنَّمَا بَقِيَ عليهم منها تِلْكَ السَّجْدَةُ
وَأَمَّا الْإِمَامُ الثَّانِي فَلَا يُتَابِعُهُ في السَّجْدَةِ الْأُولَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ يُتَابِعُهُ فيها
وَوَجْهُهُ أَنَّ الثَّالِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَلَوْ كان الْأَوَّلُ يَأْتِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ كان يُتَابِعُهُ الثَّانِي بِأَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ في السَّجْدَةِ
وَإِنْ كانت السَّجْدَةُ غير مَحْسُوبَةٍ من صَلَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُهُ الْإِمَامُ فَكَذَا إذَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ الثَّالِثُ وَيَأْتِي بها الثَّانِي بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْأُولَى غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ من صَلَاةِ الْإِمَامِ الثَّالِثِ فَلَا يَجِبُ على الثَّانِي مُتَابَعَتُهُ فيها بَلْ هِيَ في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ سَجْدَةٍ زَائِدَةٍ وَالْإِمَامُ إذَا كان يَأْتِي بِسَجْدَةٍ زَائِدَةٍ لَا يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فيها بِخِلَافِ ما لو أَدْرَكَ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ في السَّجْدَةِ حَيْثُ يُتَابِعُهُ فيها لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ من صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيَجِبُ عليه مُتَابَعَتُهُ
وَأَمَّا في السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إلَّا إذَا كان صلى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ سَجْدَةً وَانْتَهَى إلَى هذه وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي فيها لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ هذه الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ هِيَ إلَى هذه السَّجْدَةِ فَيُتَابِعُهُ فيها وَإِنْ لم تَكُنْ مَحْسُوبَةً لِلْإِمَامِ الثَّالِثِ لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ لِلْإِمَامِ الثَّانِي وَكَذَا الْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ فيها لِأَنَّهُمْ قد صَلَّوْا هذه الرَّكْعَةَ أَيْضًا وَانْتَهَتْ إلَى هذه السَّجْدَةِ
ثُمَّ إذَا سَجَدَ الْإِمَامُ الثَّالِثُ السَّجْدَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ يُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِعَجْزِهِ عن ذلك بِنَفْسِهِ وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ الرَّابِعُ لِلسَّهْوِ لينجبر ( ( ( ليجبر ) ) ) بها النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ في هذه الصَّلَاةِ بِتَأْخِيرِ السَّجْدَةِ الْأُولَى عن مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَيَسْجُدُونَ معه ثُمَّ يَقُومُ الثَّالِثُ فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ يَقُومُ الثَّانِي فَيَقْضِي الرَّكْعَةَ التي سُبِقَ بها بِقِرَاءَةٍ وَيُتِمُّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ
وَأَمَّا إذَا كَانُوا كلهم مُدْرِكِينَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فإن الْإِمَامَ الْأَوَّلَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ الثَّالِثَ في السَّجْدَةِ الْأُولَى لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ انْتَهَتْ إلَى هذه السَّجْدَةِ فَيُتَابِعُهُ فيها لَا مَحَالَةَ فَكَذَا الْإِمَامُ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَهَذِهِ السَّجْدَةُ منها وقد فَاتَتْهُ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْتِي بها
وَأَمَّا في السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وهو ما أتى بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَنْبَغِي له أَنْ يَأْتِيَ بها أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ في آخِرِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَيُتَابِعُهُ الْإِمَامُ الثَّانِي لِأَنَّ صَلَاتَهُ انْتَهَتْ إلَى هذه السَّجْدَةِ فإنه صلى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَتَرَكَ هذه السَّجْدَةَ فَيَأْتِي بها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَأَمَّا إذَا كان مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَصَلَّى الْأَئِمَّةُ الأربع ( ( ( الأربعة ) ) ) كُلُّ وَاحِدٍ منهم رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا فَإِنْ كانت الْأَئِمَّةُ الأربع ( ( ( الأربعة ) ) ) مَسْبُوقِينَ بِأَنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ جاء سَاعَتَئِذٍ فَأَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ رَجُلًا جاء سَاعَتَئِذٍ وَتَوَضَّأَ الْأَئِمَّةُ وجاؤوا ( ( ( وجاءوا ) ) ) يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ الْخَامِسُ السَّجَدَاتِ الْأَرْبَعَ فَيَسْجُدُ الْأُولَى فَيُتَابِعُهُ فيها الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ انْتَهَتْ إلَيْهَا وَلَا يُتَابِعُهُ فيها الْإِمَامُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ من صَلَاةِ الْإِمَامِ الْخَامِسِ فَلَا تَجِبُ عليهم مُتَابَعَتُهُ فيها
وفي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَسْجُدُونَهَا معه بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ وَيُتَابِعُهُ فيها الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّانِي لِأَنَّهُ صلى تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هذه وَلَا يُتَابِعُهُ فيها الْإِمَامُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وهو ما صلى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ حتى لو كان صَلَّاهَا وَانْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ سَجَدَ الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ وَكَذَا لَا يُتَابِعُهُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا على رِوَايَةِ النَّوَادِرِ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيُتَابِعُهُ فيها الْقَوْمُ
( وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ فَقَطْ ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيُتَابِعُهُ فيها الْقَوْمُ ) وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ فَقَطْ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ إمَامٍ يُتَابِعُهُ في سَجْدَةِ رَكْعَتِهِ التي صَلَّاهَا لِأَنَّهُ انْتَهَى إلَيْهَا وَلَا يُتَابِعُهُ في سَجْدَةِ الرَّكْعَةِ التي هِيَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ التي أَدْرَكَهَا لِأَنَّهُ في حَقِّ تِلْكَ الرَّكْعَةِ مُدْرِكٌ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إلَّا إذَا انْتَهَتْ صَلَاتُهُ إلَيْهَا وَهَلْ يُتَابِعُهُ في سَجْدَةِ الرَّكْعَةِ التي فَاتَتْهُ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا
وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ نعم ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَتَأَخَّرُ فَيُقَدِّمُ سَادِسًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِعَجْزِهِ عن التَّسْلِيمِ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لِمَا مَرَّ ثُمَّ يَقُومُ الْخَامِسُ فَيُصَلِّي
____________________

(1/230)


أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فيها يَقْرَأُ في الْأُولَيَيْنِ وفي الْأُخْرَيَيْنِ هو بِالْخِيَارِ على ما عُرِفَ
وَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ وَالْإِمَامُ الثَّانِي يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ لاحق فِيهِمَا ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فيها وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ يَقْضِي الرَّابِعَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ لاحق فيها ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهِمَا وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ يَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ في رَكْعَتَيْنِ منها وفي الثَّالِثَةِ هو بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فيها
هذا إذَا كانت الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مَسْبُوقِينَ فَأَمَّا إذَا كَانُوا مُدْرِكِينَ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ منهم رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا وَجَاءَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فإنه يَنْبَغِي لِلْخَامِسِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى وَيُتَابِعُهُ فيها الْأَئِمَّةُ وَالْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هذه الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هذه السَّجْدَةِ ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ وَيُتَابِعُهُ فيها الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْقَوْمُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وهو ما أَدَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ إلَّا إذَا كان عَجَزَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ في السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَحِينَئِذٍ يُتَابِعُهُ فيها ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيُتَابِعُهُ فيها الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ والقوم لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِأَنَّهُمَا لم يُصَلِّيَا الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدُ ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيُتَابِعُهُ فيها الرَّابِعُ والقوم لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هذه الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هذه السَّجْدَةِ وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لِأَنَّهُمْ ما صَلَّوْا هذه الرَّكْعَةَ بَعْدُ ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَالْإِمَامُ الثَّانِي رَكْعَتَيْنِ وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ الرَّكْعَةَ الرَّابِعَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ مُدْرِكُونَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ الْخَامِسُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالْقَوْمُ معه لِمَا مَرَّ
وَكُلُّ إمَامٍ فَرَغَ من إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَأَدْرَكَهُ تَابَعَهُ في سُجُودِ السَّهْوِ وَمَنْ لم يُدْرِكْهُ أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ على ما ذَكَرْنَا قبل هذا
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْسِدُ صَلَاتَهُمْ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ من لَا يَصْلُحُ إماما له عَمَلٌ كَثِيرٌ منه ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةِ وَهِيَ من الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الصُّنْعِ من هذا وهو الِاسْتِخْلَافُ إلَّا أَنَّ بِنَاءَ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ في هذه الْمَسَائِلِ على هذا الْأَصْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّهَارَةِ في فَصْلِ التَّيَمُّمِ وَالْأَصْلُ في بَابِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ كُلَّ من صَحَّ اقْتِدَاءُ الْإِمَامِ بِهِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً له وَإِلَّا فَلَا
وَلَوْ كان الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا وَأَحْدَثَ وَقَدَّمَ متوضأ ( ( ( متوضئا ) ) ) جَازَ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَيَمِّمِ بالمتوضىء ( ( ( بالمتوضئ ) ) ) صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ قَدَّمَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ منه إلَى الثَّانِي وَصَارَ هو كَوَاحِدٍ من الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كان الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمٌ فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاة الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ جميعا لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ من الْمُقْتَدِينَ بِهِ وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ الْقَوْمِ وَلَوْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا جَازَ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا لِأَنَّهُ أَقْدَرُ على إتْمَامِ الصَّلَاةِ
وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وفي رَعِيَّتِهِ من هو أَوْلَى منه فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَعَ هذا لو قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ جَازَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن الْقِيَامِ بِجَمِيعِ ما بَقِيَ من الْأَعْمَالِ وَلَوْ تَقَدَّمَ مع هذا جَازَ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ وهو قَادِرٌ على أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ من الصَّلَاةِ فإذا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ من الْمَوْضِعِ الذي وَصَلَ إلَيْهِ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فإذا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يَسْتَخْلِفُ هذا الثَّانِي رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن السَّلَامِ لِبَقَاءِ ما سُبِقَ بِهِ عليه فَصَارَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عن إتْمَامِ الصَّلَاةِ كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَيَثْبُتُ له وِلَايَةُ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ فَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ وَيَقُومُ هو لِقَضَائِهِ ما سُبِقَ بِهِ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ الثَّانِي لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ إمَامًا فَيُخْرِجُ الْأَوَّلُ من الْإِمَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَكُونُ لها إمَامَانِ وإذا لم يَبْقَ إمَامًا وقد بَقِيَ هو في الصَّلَاةِ التي كانت مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ صَارَ مُقْتَدِيًا ضَرُورَةً فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى في بَيْتِهِ ما بَقِيَ من صَلَاتِهِ فَإِنْ كان قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي من صَلَاةِ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان بَعْدَ فَرَاغِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ على ما مَرَّ
وَلَوْ قَعَدَ الثَّانِي في الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ قَهْقَهَ انْتَقَضَ وضوؤه وَصَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أو تَكَلَّمَ أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الذي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ من صَلَاتِهِ قد فَسَدَ وقد بَقِيَ عليه أَرْكَانٌ وَمَنْ بَاشَرَ الْمُفْسِدَ قبل أَدَاءِ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَسْبُوقِينَ تَامَّةٌ لِأَنَّ جُزْءًا من صَلَاتِهِمْ وَإِنْ فَسَدَ بِفَسَادِ
____________________

(1/231)


صَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ لم يَبْقَ عليهم شَيْءٌ من الْأَفْعَالِ فَصَلَاتُهُمْ بِدُونِ هذا الْجُزْءِ جَائِزَةٌ فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا
فَأَمَّا الْمَسْبُوقُونَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هذا الْجُزْءَ من صَلَاتِهِمْ قد فَسَدَ وَعَلَيْهِمْ أَرْكَانٌ لم تُؤَدَّ بَعْدَ كَمَالِ حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كان قد فَرَغَ من صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ من الْمُدْرِكِينَ وَإِنْ كان في بَيْتِهِ ولم يَدْخُلْ مع الْإِمَامِ الثَّانِي في الصَّلَاةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ
وَذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ أَنَّ قَهْقَهَةَ الْإِمَامِ كَقَهْقَهَةِ الْمُقْتَدِي في إفْسَادِ الصَّلَاةِ
أَلَا يُرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ
وَلَوْ قَهْقَهَ الْمُقْتَدِي نَفْسُهُ في هذه الْحَالَةِ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِبَقَاءِ الْأَرْكَانِ عليه فَكَذَا هذا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْمَسْبُوقِ إنَّمَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الذي لَابَسَتْهُ الْقَهْقَهَةُ أَفْسَدَتْهُ من وَسَطِ صَلَاتِهِمْ فإذا فَسَدَ الْجُزْءُ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ
فَأَمَّا هذا الْجُزْءُ في حَقِّ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وهو مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ
فَمِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُ مع الْإِمَامِ وَإِلَّا فَيَأْتِي بِهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ فَسَادُ هذا الْجُزْءِ مُوجِبًا فَسَادَ صَلَاتِهِ كما لو كان أتى وَصَلَّى ما تَرَكَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ وَصَلَّى بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ مع الْإِمَامِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْإِمَامُ الثَّانِي لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان من خَلْفَ الْمُحْدِثِ كلهم مَسْبُوقِينَ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ على الْإِمَامِ شَيْءٌ من الصَّلَاةِ فإنه يَسْتَخْلِفُ وَاحِدًا منهم لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِمَا بَيَّنَّا فَيُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ من غَيْرِ تَسْلِيمٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عليه وَكَذَا الْقَوْمُ يَقُومُونَ من غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَإِنْ لم يَبْقَ على الْإِمَامِ شَيْءٌ من صَلَاتِهِ قَامُوا من غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا لِوُجُوبِ الِانْفِرَادِ عليهم في هذه الْحَالَةِ وَلَوْ صلى الْإِمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا نَامَ من هذه الرَّكْعَةِ وقد أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أو كان ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ هو غَيْرَهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ فَإِنْ لم يَفْعَلْ وَتَقَدَّمَ جَازَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الْإِتْمَامِ في الْجُمْلَةِ وإذا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ ما فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أو ذَهَابِهِ لِلتَّوَضُّؤِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَإِنْ لم يَفْعَلْ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا فَسَلَّمَ بِهِمْ ثُمَّ قام فَيَقْضِي ما فَاتَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ قبل أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَهُ معه
وَلَنَا أَنَّهُ أتى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ في أَفْعَالِهَا وَالتَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لو ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ لَكَانَ فيه زِيَادَةٌ على الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ وَذَا جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ وَلَا يَثْبُتُ نَسْخُ ما ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْتِيبَ فَرْضًا لِيُسَاوِيَ دَلِيلَ افْتِرَاضِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو تَرَكَ سَجْدَةً من الرَّكْعَةِ الْأُولَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لم تفسد ( ( ( تسقط ) ) ) صَلَاتُهُ وَلَوْ كان التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا لَفَسَدَتْ
وَكَذَا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ في السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فيه فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ فَحُكْمُهُ صَيْرُورَةُ الثَّانِي إمَامًا وَخُرُوجُ الْأَوَّلِ عن الْإِمَامَةِ وَصَيْرُورَتُهُ في حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِالثَّانِي ثُمَّ إنَّمَا يَصِيرُ الثَّانِي إمَامًا وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ عن الْإِمَامَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا بِقِيَامِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ يَنْوِي صَلَاتَهُ أو بِخُرُوجِ الْأَوَّلِ عن الْمَسْجِدِ حتى لو اسْتَخْلَفَ رَجُلًا وهو في الْمَسْجِدِ بَعْدُ ولم يَقُمْ الْخَلِيفَةُ مَقَامَهُ فَهُوَ على إمَامَتِهِ حتى لو جاء رَجُلٌ فَاقْتَدَى بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ وَلَوْ أَفْسَدَ الْأَوَّلُ صَلَاتَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جميعا لِأَنَّ الْأَوَّلَ كان إمَامًا وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عن الْإِمَامَةِ بِانْتِقَالِهَا إلَى غَيْرِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَجْتَمِعُ عليها إمَامَانِ أو بِخُرُوجِهِ عن الْمَسْجِدِ لِفَوْتِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وهو اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ فإذا لم يَتَقَدَّمْ غَيْرُهُ ولم يَخْرُجْ من الْمَسْجِدِ لم يَنْتَقِلْ وَالْبُقْعَةُ مُتَّحِدَةٌ فَبَقِيَ إمَامًا في نَفْسِهِ كما كان
وَقَوْلُنَا يَنْوِي صَلَاةَ الْإِمَامِ حتى لو اسْتَخْلَفَ رَجُلًا جاء سَاعَتئِذٍ قبل أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَتَقَدَّمَ وَكَبَّرَ فَإِنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ وَأَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ وَجَازَتْ صَلَاتُهُمْ
وقال بِشْرٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ بِنَاءً على أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ الْمُحْدِثِ عِنْدَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ابْتِدَاءً لِأَنَّ بَقَاءَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ بَعْدَ الْحَدَثِ أَمْرٌ عُرِفَ
____________________

(1/232)


بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالِابْتِدَاءُ ليس في مَعْنَى الْبَقَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ يَمْنَعُ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ فيها فَيُمْنَعُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ أَيْضًا ابْتِدَاءً
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا كَبَّرَ وَنَوَى الدُّخُولَ في صَلَاةِ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ بَعْدُ في الْمَسْجِدِ وَحُرْمَةُ صَلَاتِهِ بَاقِيَةٌ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَبَقِيَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ على الِاسْتِخْلَافِ أَيْ صَارَ الثَّانِي بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِهِ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ بِالِاسْتِخْلَافِ السَّابِقِ فَصَارَ مُسْتَخْلِفًا من كان مُقْتَدِيًا بِهِ فَيَجُوزُ وَإِنْ كان مَسْبُوقًا لِمَا مَرَّ وَإِنْ كَبَّرَ وَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً ( ولم ينو الاقتداء بالأول لم يصح استخلافه لأنه نوى الصلاة المستقلة ) لم يَصِرْ مُقْتَدِيًا بالأول ( ( ( بالإمام ) ) ) الْأَوَّلِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ اسْتَخْلَفَ من ليس بِمُقْتَدٍ بِهِ فلم يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ
وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ أَمْرٌ جُوِّزَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى عَيْنُ ما وَرَدَ فيه النَّصُّ
وَالنَّصُّ وَرَدَ في اسْتِخْلَافِ من هو مُقْتَدٍ بِهِ فَبَقِيَ غَيْرُ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَلَاةُ هذا الثَّانِي صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا بها
وَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ
لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَصِحَّ اسْتِخْلَافُ الثَّانِي بَقِيَ الْأَوَّلُ إمَامًا لهم
وقد خَرَجَ من الْمَسْجِدِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي صَلَّوْا خَلْفَ من ليس بِإِمَامٍ لهم
وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ خَلْفَ من هو إمَامُهُمْ
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إتْمَامُهَا مُقْتَدِينَ بِالثَّانِي
لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُؤَدَّى بِإِمَامَيْنِ بِخِلَافِ خَلِيفَةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ قام مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ هو بِعَيْنِهِ
فَكَانَ الْإِمَامُ وَاحِدًا مَعْنًى
وَإِنْ كان مُثَنًّى صُورَةً وَهَهُنَا الثَّانِي ليس بِخَلِيفَةٍ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لم يَقْتَدِ بِهِ قَطُّ
فَكَانَ هذا أَدَاءُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ خَلْفَ إمَامَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فلم يَتَعَرَّضْ لها في الْكِتَابِ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فيها قال بَعْضُهُمْ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ اقْتَدَى بِهِ
وَالِاقْتِدَاءُ بِمَنْ ليس معه في الصَّلَاةِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ خَرَجَ من الْمَسْجِدِ من غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وقد ذُكِرَ في الْعُيُونِ لو أَنَّ إمَامًا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا من آخِرِ الصُّفُوفِ ثُمَّ خَرَجَ من الْمَسْجِدِ فَإِنْ نَوَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ إمَامًا من سَاعَتِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ من الْقَوْمِ
وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمَامًا إذَا قام مَقَامَ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا خَرَجَ الْأَوَّلُ قبل أَنْ يَصِلَ الثَّانِي إلَى مَقَامِهِ
وَلَوْ قام الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ قبل خُرُوجِهِ من الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا أَيْ من مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ الْكَلَامُ عَمْدًا أو سَهْوًا
وقال الشَّافِعِيُّ كَلَامُ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا كان قَلِيلًا
وَلَهُ في الْكَثِيرِ قَوْلَانِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال صلى بِنَا رسول اللَّهِ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ
إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ
فَسَلَّمَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ
فَخَرَجَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ
فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ له ذُو الْيَدَيْنِ
فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نسيتها ( ( ( نسيت ) ) ) فقال كُلُّ ذلك لم يَكُنْ فقال وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لقد كان بَعْضُ ذلك ثُمَّ أَقْبَلَ على الْقَوْمِ وَفِيهِمْ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي اللَّهُ عنهما فقال أصدق ما يقول ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نعم صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ
فَقَامَ وَصَلَّى الْبَاقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ
فَالنَّبِيُّ تَكَلَّمَ نَاسِيًا فإن عِنْدَهُ أَنَّهُ كان أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَذُو الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ نَاسِيًا فإنه زَعَمَ أَنَّ الصَّلَاةَ قد قَصُرَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ لم يَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ ولم يَأْمُرْ ذَا الْيَدَيْنِ وَلَا أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه
وَلِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِي بِمَنْزِلَةِ سَلَامِ النَّاسِي وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان كَلَامًا لِأَنَّهُ خِطَابُ الْآدَمِيِّينَ وَلِهَذَا يُخْرِجُ عَمْدُهُ من الصَّلَاةِ كذا هذا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث الْبِنَاءِ وهو قَوْلُهُ وَلْيَبْنِ على صَلَاتِهِ ما لم يَتَكَلَّمْ
جَوَّزَ الْبِنَاءَ إلَى غَايَةِ التَّكَلُّمِ فَيَقْضِي انْتِهَاءُ الْجَوَازِ بِالتَّكَلُّمِ وَرُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال خَرَجْنَا إلَى الْحَبَشَةِ وَبَعْضُنَا يُسَلِّمُ على بَعْضٍ في صَلَاتِهِ فلما قَدِمْتُ رأيت رَسُولَ اللَّهِ في الصَّلَاةِ فَسَلَّمْتُ عليه فلم يَرُدَّ عَلَيَّ فَأَخَذَنِي ما قَدُمَ وما حَدَثَ فلما سَلَّمَ قال يا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ من أَمْرِهِ ما يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ عن مُعَاوِيَةَ بن الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ فقلت يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي بَعْضُ الْقَوْمِ بِأَبْصَارِهِمْ فقلت وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مالي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ شَزْرًا فَضَرَبُوا أَيْدِيَهُمْ على أَفْخَاذِهِمْ فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُسْكِتُونَنِي فلما فَرَغَ النبي دَعَانِي فَوَاَللَّهِ ما رأيت مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا منه ما نَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قال إنَّ صَلَاتَنَا هذه لَا يَصْلُحُ فيها شَيْءٌ من كَلَامِ الناس
____________________

(1/233)


إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
وما لَا يَصْلُحُ في الصَّلَاةِ فَمُبَاشَرَتُهُ مفسد ( ( ( مفسدة ) ) ) لِلصَّلَاةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذلك
وَلِهَذَا لو كَثُرَ كان مُفْسِدًا وَلَوْ كان النِّسْيَانُ فيها عُذْرًا لَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْأَكْلِ في بَابِ الصَّوْمِ وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْمُولٌ على الْحَالَةِ التي كان يُبَاحُ فيها التَّكَلُّمُ في الصَّلَاةِ وَهِيَ ابْتِدَاءُ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَكَلَّمُوا في الصَّلَاةِ عَامِدِينَ ولم يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِقْبَالِ مع أَنَّ الْكَلَامَ الْعَمْدَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ وَالرَّفْعُ الْمَذْكُورُ في الحديث مَحْمُولٌ على رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِسَلَامِ النَّاسِي غَيْرُ سَدِيدٍ فإن الصَّلَاةَ تَبْقَى مع سَلَامِ الْعَمْدِ في الْجُمْلَةِ وهو قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالنِّسْيَانُ دُونَ الْعَمْدِ فَجَازَ أَنْ تَبْقَى مع النِّسْيَانِ في كل الْأَحْوَالِ وَفِقْهُهُ أَنَّ السَّلَامَ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلصَّلَاةِ لِمَا فيه من مَعْنَى الدُّعَاءِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الْخُرُوجُ في أَوَانِ الْخُرُوجِ جُعِلَ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ شَرْعًا فإذا كان نَاسِيًا وَبَقِيَ عليه شَيْءٌ من الصَّلَاةِ لم يَكُنْ السَّلَامُ مَوْجُودًا في أَوَانِهِ فلم يُجْعَلْ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ لأنه ( ( ( فإنه ) ) ) مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ في أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ حَكَمْنَا بِخُرُوجِهِ عن الصَّلَاةِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ نَاسِيًا فَلَوْ جَعَلْنَاهُ قَاطِعًا للصلاة لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالنَّفْخُ الْمَسْمُوعُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ النَّفْخَ على ضَرْبَيْنِ مَسْمُوعٍ وَغَيْرِ مَسْمُوعٍ وَغَيْرُ الْمَسْمُوعِ منه لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ليس بِكَلَامٍ مَعْهُودٍ وهو الصَّوْتُ الْمَنْظُومُ الْمَسْمُوعُ وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا مَرَّ أَنْ إدْخَالَ ما ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ في الصَّلَاةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كان قَلِيلًا فَأَمَّا الْمَسْمُوعُ منه فإنه يُفْسِدُ الصَّلَاةَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ أو لم يُرِدْ وكان أبو يُوسُفَ يقول أَوَّلًا إنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ بِأَنْ قال أوف ( ( ( أف ) ) ) أو تُفٍّ على وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ وَتَبْعِيدُهُ يُفْسِدُ وَإِنْ لم يُرِدْ بِهِ التَّأْفِيفَ لَا يُفْسِدُ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يُفْسِدُ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ أو لم يُرِدْ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ كان من كَلَامِ الناس لِدَلَالَتِهِ على الضَّمِيرِ فَيُفْسِدُ وإذا لم يُرِدْ بِهِ التَّأْفِيفَ لم يَكُنْ من كَلَامِ الناس لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ على الضَّمِيرِ فَلَا يُفْسِدُ كَالتَّنَحْنُحِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ ليس من كَلَامِ الناس في الْوَضْعِ فَلَا يَصِيرُ من كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ هَهُنَا من الزَّوَائِدِ التي يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ وَالْحَرْفُ الزَّائِدِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ يبقى ( ( ( بقي ) ) ) حَرْفٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ ليس بِكَلَامٍ حتى لو كانت ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ أَصْلِيَّةٍ أو زَائِدَةٍ أو كَانَا حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَلَامَ في الْعُرْفِ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ الْمَسْمُوعَةِ وَأَدْنَى ما يَحْصُلُ بِهِ انْتِظَامُ الْحُرُوفِ حَرْفَانِ وقد وُجِدَ في التَّأْفِيفِ وَلَيْسَ من شَرْطِ كَوْنِ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ كَلَامًا في الْعُرْفِ أَنْ تَكُونَ مَفْهُومَةَ الْمَعْنَى
فإن الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ نَوْعَانِ مُهْمَلٌ وَمُسْتَعْمَلٌ وَلِهَذَا لو تَكَلَّمَ بِالْمُهْمَلَاتِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مع ما أَنَّ التَّأْفِيفَ مَفْهُومُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ وُضِعَ في اللُّغَةِ لِلتَّبْعِيدِ على طَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ حتى حُرِّمَ اسْتِعْمَالُ هذا اللَّفْظِ في حَقِّ الْأَبَوَيْنِ احْتِرَامًا لَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَهَذَا النَّصُّ من أَقْوَى الْحُجَجِ لَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى التَّأْفِيفَ قَوْلًا فَدَلَّ أَنَّهُ كَلَامٌ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ النَّفْخَ كَلَامٌ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لِغُلَامٍ يُقَالُ له رَبَاحٌ حين مَرَّ بِهِ وهو يَنْفُخُ التُّرَابَ من مَوْضِعِ سُجُودِهِ في صَلَاتِهِ لَا تَنْفُخْ فإن النَّفْخَ كَلَامٌ
وفي رِوَايَةٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ من نَفَخَ في صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا التَّنَحْنُحُ عن عُذْرٍ فإنه لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا من غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه على قَوْلِهِمَا قال بَعْضُهُمْ يُفْسِدُ لِوُجُودِ الْحَرْفَيْنِ من حُرُوفِ الهجاء ( ( ( الهاء ) ) ) وقال بَعْضُهُمْ إنْ تَنَحْنَحَ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ لَا يُفْسِدُ لِأَنَّ ذلك سَعْيٌ في أَدَاءِ الرُّكْنِ وهو الْقِرَاءَةُ على وَصْفِ الْكَمَالِ
وَرَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ عن الشَّيْخِ أبي بَكْرٍ الْجُوزَجَانِيِّ صَاحِبِ أبي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قال إذَا قال أَخَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ له هِجَاءً وَيُسْمَعُ فَهُوَ كَالنَّفْخِ الْمَسْمُوعِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرَهُ أبو يُوسُفَ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ قَوْلًا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ الْمَسْمُوعَةَ كَافِيَةٌ لِلْفَسَادِ وَإِنْ لم يَكُنْ لها مَعْنًى مَفْهُومًا كما لو تَكَلَّمَ بِمُهْمَلٍ كَثُرَتْ حُرُوفُهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إن أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ من الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ فَنَعَمْ هو من جِنْسِ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ لَكِنَّهُ من هذه الْكَلِمَةِ ليس هو بِزَائِدٍ وَإِلْحَاقُ ما هو من جِنْسِ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ من كَلِمَةٍ ليس هو فيها زَائِدًا بِالزَّوَائِدِ مُحَالٌ وَكَذَا قَوْلُهُ بِامْتِنَاعِ
____________________

(1/234)


التَّغَيُّرِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّ من قال لَا يَبْعَثُ اللَّهُ من يَمُوتُ وَأَرَادَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يُثَابُ عليه وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْإِنْكَارَ لِلْبَعْثِ يَكْفُرُ فَدَلَّ أَنَّ ما ليس من كَلَامِ الناس في الْوَضْعِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ من كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَلَوْ أَنَّ في صَلَاتِهِ أو بَكَى فارتفع ( ( ( وارتفع ) ) ) بُكَاؤُهُ فَإِنْ كان ذلك من ذِكْرِ الْجَنَّةِ أو النَّارِ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كان من وَجَعٍ أو مُصِيبَةٍ يُفْسِدُهَا لِأَنَّ الْأَنِينَ أو الْبُكَاءَ من ذِكْرِ الْجَنَّةِ أو ( ( ( والنار ) ) ) النار يَكُونُ لِخَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ فَيَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى خَلِيلَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّأَوُّهِ فقال { إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }
وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ { إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } لِأَنَّهُ كان كَثِيرَ التَّأَوُّهِ في الصَّلَاةِ وكان لِجَوْفِ رسول اللَّهِ أزيز كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ في الصَّلَاةِ وإذا كان كَذَلِكَ فَالصَّوْتُ الْمُنْبَعِثُ عن مِثْلِ هذا الْأَنِينِ لَا يَكُونُ من كَلَامِ الناس فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا وَلِأَنَّ التَّأَوُّهَ وَالْبُكَاءَ من ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِمَسْأَلَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ من النَّارِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا هذا
وإذا كان ذلك من وَجَعٍ أو مُصِيبَةٍ كان من كَلَامِ الناس وهو ( ( ( وكلام ) ) ) مُفْسِدٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال آهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان من وَجَعٍ أو مُصِيبَةٍ وإذا قال أَوْهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ليس من قَبِيلِ الْكَلَامِ بَلْ هو بسبب ( ( ( شبيه ) ) ) بِالتَّنَحْنُحِ وَالتَّنَفُّسِ وَالثَّانِيَ من قَبِيلِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا وَلَوْ عَطَسَ رَجُلٌ فقال له رَجُلٌ في الصَّلَاةِ يَرْحَمُك اللَّهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ من كَلَامِ الناس
لِمَا رَوَيْنَا من حديث مُعَاوِيَةَ بن الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَاطِسِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ وَكَلَامُ الناس مُفْسِدٌ بِالنَّصِّ وَإِنْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ أو أُخْبِرَ بِمَا يَتَعَجَّبُ منه فقال سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنْ لم يُرِدْ جَوَابَ الْمُخْبِرِ لم تُقْطَعْ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ قَطَعَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفَسَادَ لو فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِالصِّيغَةِ أو بِالنِّيَّةِ
لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ الْأَذْكَارِ
وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ
وَلَهُمَا أَنَّ هذا اللَّفْظَ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ في مَحَلِّ الْجَوَابِ
وَفُهِمَ منه ذلك صَارَ من هذا الْوَجْهِ من كَلَامِ الناس وَإِنْ لم يَصِرْ من حَيْثُ الصِّيغَةُ وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ كَمَنَ قال لِرَجُلٍ اسْمِهِ يحيى وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ مَوْضُوعٌ { يا يحيى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } وَأَرَادَ بِهِ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا لَا قَارِئًا وَكَذَا إذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي بِأَيِّ مَوْضِعٍ مَرَرْتَ فقال { وبئر ( ( ( بئر ) ) ) مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } وَأَرَادَ بِهِ جَوَابَ الْخِطَابِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا وَكَذَلِكَ إذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يسوؤه ( ( ( يسوءه ) ) ) فَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ فَإِنْ لم يُرِدْ بِهِ جَوَابَهُ لم يَقْطَعْ صَلَاتَهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ قَطَعَ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَوَابِ في اسْتِرْجَاعِهِ أَعِينُونِي فَإِنِّي مُصَابٌ ولم يُذْكَرْ خِلَافُ أبي يُوسُفَ في مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ في الْأَصْلِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ وَمَنْ سَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال الِاسْتِرْجَاعُ إظْهَارُ الْمُصِيبَةِ وما شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ وَلَوْ مَرَّ الْمُصَلِّي بِآيَةٍ فيها ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ أو بِآيَةٍ فيها ذِكْرُ النَّارِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ من النَّارِ فَإِنْ كان في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَهُوَ حَسَنٌ إذَا كان وَحْدَهُ
لِمَا رُوِيَ عن حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ في صَلَاةِ اللَّيْلِ فما مَرَّ بِآيَةٍ فيها ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وما مَرَّ بِآيَةٍ فيها ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ وما مَرَّ بِآيَةٍ فيها مَثَلٌ إلَّا وَقَفَ وَتَفَكَّرَ
وَأَمَّا الْإِمَامُ في الْفَرَائِضِ فَيُكْرَهُ له ذلك لِأَنَّ النبي لم يَفْعَلْهُ في الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَا الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هذا فَكَانَ من الْمُحْدَثَاتِ وَلِأَنَّهُ يَثْقُلُ على الْقَوْمِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ يَزِيدُ في خُشُوعِهِ وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ وَكَذَا الْمَأْمُومُ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَلَوْ اسْتَأْذَنَ على الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَسَبَّحَ وَأَرَادَ بِهِ إعْلَامَهُ أَنَّهُ في الصَّلَاةِ لم يَقْطَعْ صَلَاتَهُ
لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان لي من رسول اللَّهِ مَدْخَلَانِ في كل يَوْمٍ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ دَخَلْتُ فَكُنْتُ إذَا أُتِيتُ الْبَابَ فَإِنْ لم يَكُنْ في الصَّلَاةِ فَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ وَإِنْ كان في الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَانْصَرَفْتُ وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ لو لم يَفْعَلْ رُبَّمَا يُلِحُّ الْمُسْتَأْذِنُ حتى يبتلي هو بِالْغَلَطِ في الْقِرَاءَةِ فَكَانَ الْقَصْدُ بِهِ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ فلم تَفْسُدْ
وَكَذَا إذَا عَرَضَ لِلْإِمَامِ شَيْءٌ فَسَبَّحَ الْمَأْمُومُ لا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إصْلَاحُ الصَّلَاةِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْكَلَامِ عنه لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِصْلَاحِ وَلَا يُسَبِّحُ الْإِمَامُ إذَا قام إلَى الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ له
____________________

(1/235)


الرُّجُوعُ إذَا كان إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبُ فلم يَكُنْ التَّسْبِيحُ مُفِيدًا
وَلَوْ فَتَحَ على الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان الْفَاتِحُ هو الْمُقْتَدِيَ بِهِ أو غَيْرَهُ
فَإِنْ كان غَيْرَهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُصَلِّي
سَوَاءٌ كان الْفَاتِحُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أو في صَلَاةٍ أُخْرَى غَيْرِ صَلَاةِ الْمُصَلِّي
وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ أَيْضًا إنْ كان هو في الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذلك تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ
فإن القارىء إذَا اسْتَفْتَحَ غَيْرَهُ فَكَأَنَّهُ يقول مَاذَا بَعْدَ ما قَرَأْتَ فَذَكِّرْنِي
وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ كَأَنَّهُ يقول بعدما قَرَأْتَ كَذَا فَخُذْ مِنِّي
وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا يُشْكِلُ في فَسَادِ الصَّلَاةِ فَكَذَا هذا
وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا فَتَحَ على غَيْرِ الْمُصَلِّي فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ التَّعْلِيمِ في الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ فَتْحَهُ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِهِ جَوَابٌ
وهو من كَلَامِ الناس فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
وَإِنْ كان مَرَّةً وَاحِدَةً
هذا إذَا فَتَحَ على الْمُصَلِّي عن اسْتِفْتَاحٍ
فَأَمَّا إذَا فَتَحَ عليه من غَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةِ
وَإِنَّمَا تَفْسُدُ عِنْدَ التَّكْرَارِ
لِأَنَّهُ عَمَلٌ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ
وَلَيْسَ بِخِطَابٍ لِأَحَدٍ فَقَلِيلُهُ يُورِثُ الْكَرَاهَةَ وَكَثِيرُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ
وَإِنْ كان الْفَاتِحُ هو الْمُقْتَدِيَ بِهِ فَالْقِيَاسُ هو فَسَادُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ فَتَرَكَ حَرْفًا
فلما فَرَغَ قال أَلَم يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ قال نعم يا رَسُولَ اللَّه قال هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ فقال ظَنَنْتُ أنها نُسِخَتْ فقال لو نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ في صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فلم يَتَذَكَّرْ سُورَةً
فقال نَافِعٌ { إذَا زُلْزِلَتْ } فَقَرَأَهَا وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ مُضْطَرٌّ إلَى ذلك لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ عن الْفَسَادِ عِنْدَ تَرْكِ الْإِمَامِ الْمُجَاوَزَةَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى أو الِانْتِقَالِ إلَى الرُّكُوعِ حتى أنه لو فَتَحَ على الْإِمَامِ بَعْدَ ما انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ إنْ أَخَذَهُ الْإِمَامُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَإِنْ لم يَأْخُذْهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ خَاصَّةً لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَحُوجَهُمْ إلَى ذلك بَلْ يَرْكَعُ أو يَتَجَاوَزُ إلَى آيَةٍ أو سُورَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لم يَفْعَلْ الْإِمَامُ ذلك وَخَافَ الْمُقْتَدِي أَنْ يُجْرِيَ على لِسَانِهِ ما يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَحِينَئِذٍ يَفْتَحُ عليه لِقَوْلِ عَلِيٍّ إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وهو مُلِيمٌ أَيْ مُسْتَحِقُّ الْمَلَامَةِ لِأَنَّهُ أَحْوَجَ الْمُقْتَدِي وَاضْطَرَّهُ إلَى ذلك
وقد قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَنْوِيَ بِالْفَتْحِ على إمَامِهِ التِّلَاوَةَ وهو غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عنها عِنْدَنَا وَالْفَتْحُ على الْإِمَامِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عنه فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ ما رُخِّصَ له فيه بِنِيَّةِ ما هو مَنْهِيٌّ عنه وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هذا فيما إذَا أراد الْفَتْحُ على غَيْرِ إمَامِهِ فَعِنْدَ ذلك يَنْبَغِي له أَنْ يَنْوِيَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّعْلِيمِ وَلَا يَضُرُّهُ ذلك
وَلَوْ قَرَأَ الْمُصَلِّي من الْمُصْحَفِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَامَّةٌ وَيُكْرَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُكْرَهُ
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَوْلًى لِعَائِشَةَ يُقَالُ له ذَكْوَانُ كان يَؤُمُّ الناس في رَمَضَانَ وكان يَقْرَأُ من الْمُصْحَفِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ في الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ وَالْقِرَاءَةُ عِبَادَةٌ وَانْضِمَامُ الْعِبَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ
وَالشَّافِعِيُّ يقول ما نُهِينَا عن التَّشَبُّهِ بِهِمْ في كل شَيْءٍ فَإِنَّا نَأْكُلُ ما يَأْكُلُونَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ إحدهما ( ( ( إحداهما ) ) ) أَنَّ ما يُوجَدُ من حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ وَالنَّظَرِ فيه أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا في الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَقِيَاسُ هذه الطَّرِيقَةِ أن لو كان الْمُصْحَفُ مَوْضُوعًا بين يَدَيْهِ وَيَقْرَأُ منه من غَيْرِ حَمْلٍ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ أو قَرَأَ ما هو مَكْتُوبٌ على الْمِحْرَابِ من الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الْمُفْسِدِ وهو الْعَمَلُ الْكَثِيرُ
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ هذا يُلَقَّنُ من الْمُصْحَفِ فَيَكُونُ تَعَلُّمًا منه أَلَا تَرَى أَنَّ من يَأْخُذُ من الْمُصْحَفِ يُسَمَّى مُتَعَلِّمًا فَصَارَ كما لو تَعَلَّمَ من مُعَلِّمٍ وَذَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ كذا هذا وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بين ما إذَا كان حَامِلًا لِلْمُصْحَفِ مُقَلِّبًا لِلْأَوْرَاقِ وَبَيْنَ ما إذَا كان مَوْضُوعًا بين يَدَيْهِ وَلَا يُقَلِّبُ الْأَوْرَاقَ
وَأَمَّا حَدِيثُ ذَكْوَانَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَائِشَةَ وَمَنْ كان من أَهْلِ الْفَتْوَى من الصَّحَابَةِ لم يَعْلَمُوا بِذَلِكَ وَهَذَا هو الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ أَنَّ هذا الصَّنِيعَ مَكْرُوهٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ عَلِمُوا به ( ( ( بذلك ) ) ) لَمَا مَكَّنُوهُ من عَمَلِ الْمَكْرُوهِ في جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ من غَيْرِ حَاجَةٍ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الرَّاوِي كان يَؤُمُّ الناس في رَمَضَانَ وكان يَقْرَأُ من الْمُصْحَفِ إخْبَارًا عن حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَيْ كان يَؤُمُّ الناس في رَمَضَانَ وكان يَقْرَأُ من الْمُصْحَفِ في غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ إشْعَارًا منه أَنَّهُ لم يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ فَكَانَ يَؤُمُّ بِبَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يَخْتِمَ أو كان يَسْتَظْهِرُ كُلَّ يَوْمٍ وِرْدَ كل لَيْلَةٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ في قِيَامِ رَمَضَانَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَوْ دَعَا في
____________________

(1/236)


صَلَاتِهِ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شيئا فَإِنْ دَعَا بِمَا في الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ ليس من كَلَامِ الناس وَكَذَا لو دَعَا بِمَا يُشْبِهُ ما في الْقُرْآنِ وهو كُلُّ دُعَاءٍ يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ من الناس لِمَا قُلْنَا وَلَوْ دَعَا بِمَا لَا يستحيل ( ( ( يمتنع ) ) ) سُؤَالُهُ من الناس تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا نَحْوِ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دِرْهَمًا وَزَوِّجْنِي فُلَانَةَ وَأَلْبِسْنِي ثَوْبًا وَأَشْبَاهِ ذلك
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا دَعَا في صَلَاةٍ بِمَا يُبَاحُ له أَنْ يَدْعُوَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْأَلُوا اللَّهَ من فَضْلِهِ } وَقَوْلِهِ سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حتى الشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ وَالْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ يَدْعُو على من نَاوَأَهُ أَيْ عَادَاهُ
وَلَنَا أَنَّ ما يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ الْعَبْدُ فَهُوَ من كَلَامِ الناس وَضْعًا ولم يَخْلُصْ دُعَاءً وقد جَرَى الْخِطَابُ فِيمَا بين الْعِبَادِ بِمَا ذَكَرْنَا
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْأَلُ بَعْضًا ذلك فيقول أَعْطِنِي دِرْهَمًا أو زَوِّجْنِي امْرَأَةً وَكَلَامُ الناس مُفْسِدٌ وَلِهَذَا عَدَّ النبي تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ ( كَلَامًا ) مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ في ذلك الحديث لَمَّا خَاطَبَ الْآدَمِيَّ بِهِ وَقَصَدَ قَضَاءَ حَقِّهِ وَإِنْ كان دُعَاءً صِيغَةً وَهَذَا صِيغَتُهُ من كَلَامِ الناس وَإِنْ خَاطَبَ اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ مُفْسِدًا بِصِيغَتِهِ وَالْكِتَابُ وَالسَّنَةُ مَحْمُولَانِ على دُعَاءٍ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الناس أو على خَارِجِ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فلم يُسَوِّغُوا له ذلك الِاجْتِهَادَ حتى كَتَبَ إلَيْهِ أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمَّا بَعْدُ فإذا أَتَاكَ كِتَابِي ( هذا ) فَأَعِدْ صَلَاتَكَ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ لو أَنْشَدَ شِعْرًا أَمَا كان مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ وَمِنْ الشِّعْرِ ما هو ذكرا لله تَعَالَى كما قال الشَّاعِرُ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُسَلِّمَ على الْمُصَلِّي وَلَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرُدَّ سَلَامَهُ بِإِشَارَةٍ وَلَا غير ذلك
أَمَّا السَّلَامُ فَلِأَنَّهُ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي عن صَلَاتِهِ فَيَصِيرُ مَانِعًا له عن الْخَيْرِ وَإِنَّهُ مَذْمُومٌ وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ فَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ من جُمْلَةِ كَلَامِ الناس
لِمَا رَوَيْنَا من حديث عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قال فَسَلَّمْتُ عليه فلم يَرُدَّ عَلَيَّ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الرَّدِّ وَلِأَنَّ في الْإِشَارَةِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْكَفُّ لِقَوْلِهِ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ في الصَّلَاةِ
غير أَنَّهُ إذَا رَدَّ بِالْقَوْلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَلَوْ رَدَّ بِالْإِشَارَةِ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَكِنْ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ
وَمِنْهَا السَّلَامُ مُتَعَمِّدًا وهو سَلَامُ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْخُرُوجَ من الصَّلَاةِ صَارَ من كَلَامِ الناس لِأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِهِ وَكَلَامُ الناس مُفْسِدٌ
وَمِنْهَا الْقَهْقَهَةُ عَامِدًا كان أو نَاسِيًا لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ في الصَّلَاةِ أَفْحَشُ من الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أنها تنقض ( ( ( تنتقض ) ) ) الْوُضُوءَ وَالْكَلَامُ لَا يَنْقُضُ ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ الْكَلَامُ قَاطِعًا لِلصَّلَاةِ ولم يَفْصِلْ فيه بين الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ فَالْقَهْقَهَةُ أَوْلَى
وَمِنْهَا الْخُرُوجُ عن الْمَسْجِدِ من غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ حالة ( ( ( حال ) ) ) الِاخْتِيَارِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ هذا كُلُّهُ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامُ وَالسَّلَامُ وَالْقَهْقَهَةُ وَالْخُرُوجُ من الْمَسْجِدِ إذَا فَعَلَ شيئا من ذلك قبل أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وأما إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ فَعَلَ شيئا من ذلك فَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا على أَنَّهُ لو تَكَلَّمَ أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كان مُنْفَرِدًا أو إمَامًا خَلْفَهُ لَاحِقُونَ أو مَسْبُوقُونَ وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ اللَّاحِقُونَ الْإِمَامَ في صلاتهم ( ( ( صلاته ) ) ) وَصَلَّوْا معه أو لم يُدْرِكُوا
وَكَذَلِكَ لو ( ضحك قهقة ) أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا وهو مُنْفَرِدٌ
وَإِنْ كان إمَامًا خَلْفَهُ لَاحِقُونَ وَمَسْبُوقُونَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ تَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَصَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَامَّةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ لم يفسدان ( ( ( يفسدا ) ) ) صَلَاةَ الْإِمَامِ فَلَا يُفْسِدَانِ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي وَإِنْ كان مَسْبُوقًا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي لو فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِإِفْسَادِ الْإِمَامِ صَلَاتَهُ لَا بِإِفْسَادِ الْمُقْتَدِي لِانْعِدَامِ الْمُفْسِدِ من الْمُقْتَدِي
فلما لم تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ مع وُجُودِ الْمُفْسِدِ من جِهَتِهِ فَلَأَنْ لَا تَفْسُدَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي أَوْلَى وَصَارَ كما لو تَكَلَّمَ أو خَرَجَ من الْمَسْجِدِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَالْخُرُوجِ من الْمَسْجِدِ وَالْفَرْقُ أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إفْسَادٌ لِلْجُزْءِ الذي لَاقَاهُ من صَلَاتِهِ فَيَفْسُدُ ذلك الْجُزْءُ من صَلَاتِهِ وَيَفْسُدُ من صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لم يَبْقَ عليه فَرْضٌ فَيُقْتَصَرُ الْفَسَادُ في حَقِّهِ على الْجُزْءِ
وقد بَقِيَ لِلْمَسْبُوقِ فُرُوضٌ فَتَمْنَعُهُ من الْبِنَاءِ
فَأَمَّا الْكَلَامُ فيقطع ( ( ( فقطع ) ) ) الصلاة ( ( ( للصلاة ) ) ) وَمُضَادٌّ لها ( كما ذَكَرْنَا ) فَيَمْنَعُ من الْوُجُودِ وَلَا تَفْسُدُ
وَشَرْحُ هذا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ الْعَمْدَ لَيْسَا بِمُضَادَّيْنِ لِلصَّلَاةِ بَلْ هُمَا مُضَادَّانِ لِلطَّهَارَةِ
وَالطَّهَارَةُ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ
فَصَارَ الْحَدَثُ مُضَادًّا لِلْأَهْلِيَّةِ بِوَاسِطَةِ مُضَادَّتِهِ شَرْطَهَا
وَالشَّيْءُ لَا يَنْعَدِمُ بِمَا لَا يُضَادُّهُ فلم تَنْعَدِمْ الصَّلَاةُ
____________________

(1/237)


بِوُجُودِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ لَا مُضَادَّةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ فَيُوجَدُ جُزْءٌ من الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ ما يُضَادُّهُ
وَيَفْسُدُ هذا الْجُزْءُ لِحُصُولِهِ مِمَّنْ هو ليس بِأَهْلٍ وَلَا صِحَّةَ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ من غَيْرِ الْأَهْلِ
وإذا فَسَدَ هذا الْجُزْءُ من صَلَاةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي
لِأَنَّ صَلَاتَهُ مَبْنِيَّةٌ على صَلَاةِ الْإِمَامِ فَتَتَعَلَّقُ بها صِحَّةً وَفَسَادًا لِأَنَّ الْجُزْءَ لَمَّا فَسَدَ من صَلَاةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ التَّحْرِيمَةُ الْمُقَارِنَةُ لِهَذَا الْفِعْلِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ الْأَفْعَالِ فَتَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ الْأَفْعَالُ صِحَّةً وَفَسَادًا
فإذا فَسَدَتْ هِيَ فَسَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْمُقْتَدِي فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَمَنْ تَابَعَهُ من الْمُدْرِكِينَ اتَّصَفَتْ بِالتَّمَامِ بِدُونِ الْجُزْءِ الْفَاسِدِ
فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ فَسَدَ جُزْءٌ من صَلَاتِهِ وَفَسَدَتْ التَّحْرِيمَةُ الْمُقَارِنَةُ لِذَلِكَ الْجُزْءِ فَبَعْدَ ذلك لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّحْرِيمَةِ ولم يُوجَدْ فلم يُتَصَوَّرْ حُصُولُ ما بَقِيَ من الْأَرْكَانِ في حَقِّ الْمَسْبُوقِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فإنه ليس بِمُضَادٍّ لِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بَلْ هو مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ نَفْسِهَا وَوُجُودُ الضِّدِّ لَا يُفْسِدُ الضِّدَّ الْآخَرَ بَلْ يَمْنَعُهُ من الْوُجُودِ فإن أَفْعَالَ الصَّلَاةِ كانت تُوجَدُ على التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرَارِ فإذا انْعَدَمَ فِعْلٌ يَعْقُبُهُ غَيْرُهُ من جِنْسِهِ فإذا تَعَقَّبَهُ ما هو مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ جُزْءٍ منها مُقَارِنًا لِلضِّدِّ بَلْ يَبْقَى على الْعَدَمِ على ما هو الْأَصْلُ عِنْدَنَا في الْمُتَضَادَّاتِ انتهت ( ( ( وانتهت ) ) ) أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فلم تَتَجَدَّدْ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّ تَجَدُّدَهَا كان لِتَجَدُّدِ الْأَفْعَالِ وقد انْتَهَتْ فَانْتَهَتْ هِيَ أَيْضًا وما فَسَدَتْ وَبِانْتِهَاءِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ لَا تَنْتَهِي تَحْرِيمَةُ الْمَسْبُوقِ كما لو سَلَّمَ فإن تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مُنْتَهِيَةٌ وَتَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ غَيْرُ مُنْتَهِيَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فلم تَفْسُدْ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه
وَأَمَّا اللَّاحِقُونَ فإنه يُنْظَرُ إنْ أَدْرَكُوا الْإِمَامَ في صَلَاتِهِ وَصَلَّوْا معه فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ وَإِنْ لم يُدْرِكُوا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ تَفْسُدُ وفي رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ لَا تَفْسُدُ
هذا إذَا كان الْعَارِضُ في هذه الْحَالَةِ فعل ( ( ( فعلى ) ) ) الْمُصَلِّي فإذا لم يَكُنْ فِعْلَهُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ مَاءً بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ أو بَعْدَ ما سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَهَذِهِ من الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وقد ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا الْحُجَجَ في كِتَابِ الطَّهَارَةِ في فَصْلِ التَّيَمُّمِ
أُمِّيٌّ صلى بَعْضَ صَلَاتِهِ ثُمَّ تَعَلَّمَ سُورَةً فَقَرَأَهَا فِيمَا بَقِيَ من صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مَثَلُ الْأَخْرَسِ يَزُولُ خَرَسُهُ في خِلَالِ الصَّلَاةِ
وَكَذَلِكَ لو كان قَارِئًا في الِابْتِدَاءِ فَصَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فَصَارَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال زُفَرُ لَا تَفْسُدُ في الْوَجْهَيْنِ جميعا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَفْسُدُ في الْأَوَّلَ وَلَا تَفْسُدُ في الثَّانِي اسْتِحْسَانًا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ فَقَطْ أَلَا تَرَى أَنَّ القارىء لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ أَجْزَأَهُ فإذا كان قَارِئًا في الِابْتِدَاءِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الْأُولَيَيْنِ فَعَجْزُهُ عنها بَعْدَ ذلك لَا يضر ( ( ( يضره ) ) ) كما لو تَرَكَ مع الْقُدْرَةِ
وإذا تَعَلَّمَ وَقَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَضُرُّهُ عَجْزُهُ عنها في الِابْتِدَاءِ كما لَا يضر ( ( ( يضره ) ) ) تَرَكَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لو اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ في الْأَوَّلِ لَحَصَلَ الْأَدَاءُ على الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فَأُمِرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَلَوْ اسْتَقْبَلَهَا في الثَّانِي لَأَدَّى كُلَّ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَكَانَ الْبِنَاءُ أَوْلَى لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا الْبَعْضَ بِقِرَاءَةٍ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِشَرْطِ الْعَجْزِ عنها في كل الصَّلَاةِ فإذا قَدَرَ على الْقِرَاءَةِ في بَعْضِهَا فَاتَ الشَّرْطُ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى لم يَقَعْ صَلَاةً وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأُمِّيِّ لم تَنْعَقِدْ لِلْقِرَاءَةِ بَلْ انْعَقَدَتْ لِأَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا غيرها فإذا قَدَرَ صَارَتْ الْقِرَاءَةُ من أَرْكَانِ صَلَاتِهِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةٍ كَأَدَاءِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَالصَّلَاةُ لَا تُوجَدُ بِدُونِ أَرْكَانِهَا فَفَسَدَتْ وَلِأَنَّ الْأَسَاسَ الضَّعِيفَ لَا يَحْتَمِلُ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عليه وَالصَّلَاةُ بِقِرَاءَةٍ أَقْوَى فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا على الضَّعِيفِ كَالْعَارِي إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ في خِلَالِ صَلَاتِهِ وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ
وإذا كان قَارِئًا في الِابْتِدَاءِ فَقَدْ عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لِأَدَاءِ كل الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وقد عَجَزَ عن الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ
وَلَوْ اقْتَدَى الْأُمِّيُّ بقارىء ( ( ( بقارئ ) ) ) بَعْدَ ما صلى رَكْعَةً فلما فَرَغَ الْإِمَامُ قام الْأُمِّيُّ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ في الْقِيَاسِ
وَقِيلَ هو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وهو قَوْلُهُمَا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بالقارىء ( ( ( بالقارئ ) ) ) الْتَزَمَ أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وقد عَجَزَ عن ذلك حين قام لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً له فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ الْقِرَاءَةَ ضِمْنًا لِلِاقْتِدَاءِ وهو مُقْتَدٍ فِيمَا بَقِيَ على الْإِمَامِ لَا فِيمَا سَبَقَهُ بِهِ وَلِأَنَّهُ لو بَنَى كان مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ اسْتَقْبَلَ كان مُؤَدَّيَا جَمِيعَهَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى
وَمِنْهَا انْكِشَافُ
____________________

(1/238)


الْعَوْرَةِ في خِلَالِ الصَّلَاةِ إذَا كان كَثِيرًا لِأَنَّ اسْتِتَارَهَا للمن شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَكَانَ انْكِشَافُهَا في الصَّلَاةِ مُفْسِدًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هذا الشَّرْطِ في الْقَلِيلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِلضَّرُورَةِ كما في قَلِيلِ النَّجَاسَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عنه على ما بينا ( ( ( بيناه ) ) ) فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ إذَا سَقَطَ قِنَاعُهَا في خِلَالِ الصَّلَاةِ فَرَفَعَتْهُ وَغَطَّتْ رَأْسَهَا بِعَمَلٍ قَلِيلٍ قبل أَنْ تُؤَدِّي رُكْنًا من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أو قبل أَنْ تَمْكُثَ ذلك الْقَدْرَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قد تُبْتَلَى بِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ عنه
فَأَمَّا إذَا بَقِيَتْ كَذَلِكَ حتى أَدَّتْ رُكْنًا أو مَكَثَتْ ذلك الْقَدْرَ أو غَطَّتْ من سَاعَتِهَا لَكِنْ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ
وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا عتقت ( ( ( أعتقت ) ) ) في خِلَالِ صَلَاتِهَا وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ فَأَخَذَتْ قِنَاعَهَا فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا في الْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِأَنَّ رؤوس هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ على ما يُعْرَفُ في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فإذا أُعْتِقْنَ أَخَذْنَ الْقِنَاعَ لِلْحَالِ لِأَنَّ خِطَابَ السَّتْرِ تَوَجَّهَ لِلْحَالِ إلَّا إنْ تَبَيَّنَ أَنَّ عليها السَّتْرَ من الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ رَأْسَهَا إنَّمَا صَارَ عَوْرَةً بِالتَّحْرِيرِ وهو مَقْصُورٌ على الْحَالِ فَكَذَا صَيْرُورَةُ الرَّأْسِ عَوْرَةً بِخِلَافِ الْعَارِي إذَا وَجَدَ كِسْوَةً في خِلَالِ الصَّلَاةِ حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ ما صَارَتْ عَوْرَةً لِلْحَالِ بَلْ كانت عِنْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ السَّتْرَ كان قد سَقَطَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فإذا زَالَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوُجُوبَ كان ثَابِتًا من ذلك الْوَقْتِ وَعَلَى هذا إذَا كان الرَّجُلُ يُصَلِّي في إزَارٍ وَاحِدٍ فَسَقَطَ عنه في خِلَالِ الصَّلَاةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وهو جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ
وَالْقِيَاسِ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ في جَمِيعِ ذلك وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ
لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِتَارُ يَفُوتُ بِالِانْكِشَافِ وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ وَجَعَلْنَا ما لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ
وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وهو عُرْيَانُ لَا يَجِدُ ثَوْبًا جَازَتْ صَلَاتُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
وَلَوْ كان معه ثَوْبٌ نَجِسٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ الْجَوَابِ فيه أَنَّهُ إنْ كان رُبُعٌ منه طَاهِرًا لَا يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَلَكِنْ يَجِبُ عليه أَنْ يُصَلِّيَ في ذلك الثَّوْبِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان كُلُّهُ نَجِسًا فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ في كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ يَشْتَرِكَانِ فيها فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ الْمُحَاذَاةُ مُفْسِدَةَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حتى لو قَامَتْ امْرَأَةٌ خَلْفَ الْإِمَامِ وَنَوَتْ صَلَاتَهُ وقد نَوَى الْإِمَامُ إمَامَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ حَاذَتْهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِخَسَاسَتِهَا أو لِاشْتِغَالِ قَلْبِ الرَّجُلِ وَالْوُقُوعِ في الشَّهْوَةِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ أنجس ( ( ( أخس ) ) ) من الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمُحَاذَاتُهُمَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ وَلِأَنَّ هذا الْمَعْنَى يُوجَدُ في الْمُحَاذَاةِ في صَلَاةٍ لَا يَشْتَرِكَانِ فيها وَالْمُحَاذَاةُ فيها غَيْرُ مُفْسِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِهَذَا أَيْضًا وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الرَّجُلَ في هذا الْمَعْنَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهَا أَيْضًا وَلَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمُحَاذَاةَ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فَكَذَا في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَخِّرُوهُنَّ من حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا
وَالِاسْتِدْلَالُ بالحديث ( ( ( بهذا ) ) ) من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالتَّأْخِيرِ صَارَ التَّأْخِيرُ فَرْضًا من فَرَائِضِ الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ بِتَرْكِهِ التَّأْخِيرَ تَارِكًا فَرْضًا من فَرَائِضِهَا فَتَفْسُدُ
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ أَمْرٌ بِالتَّقَدُّمِ عليها ضَرُورَةً فإذا لم تُؤَخَّرْ ولم يَتَقَدَّمْ فَقَدْ قام مَقَامًا ليس بِمَقَامٍ له فَتَفْسُدُ كما إذَا تَقَدَّمَ على الْإِمَامِ وَالْحَدِيثُ وَرَدَ في صَلَاةِ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَبَقِيَ غَيْرُهَا على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا لِأَنَّ خِطَابَ التَّأْخِيرِ يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ وَيُمْكِنُهُ تَأْخِيرُهَا من غَيْرِ أَنْ تَتَأَخَّرَ هِيَ بِنَفْسِهَا وَيَتَقَدَّمَ عليها فلم يَكُنْ التَّأْخِيرُ فَرْضًا عليها فَتَرْكُهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بين مُحَاذَاةِ الْبَالِغَةِ وَبَيْنَ مُحَاذَاةِ الْمُرَاهِقَةِ التي تَعْقِلُ الصَّلَاةَ في حَقِّ فَسَادِ الرَّجُلِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُفْسِدَ مُحَاذَاةُ غَيْرِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّ صَلَاتَهَا تَخَلُّقٌ وَاعْتِيَادٌ لَا حَقِيقَةُ صَلَاةٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أنها مَأْمُورَةٌ بِالصَّلَاةِ مَضْرُوبَةٌ عليها كما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ
فَجُعِلَتْ الْمُشَارَكَةُ في أَصْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُشَارَكَةُ في أَصْلِ الصَّلَاةِ تَكْفِي لِلْفَسَادِ إذَا وُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ مُفْسِدَةٌ فَنَقُولُ إذَا قَامَتْ في الصَّفِّ امْرَأَةٌ فَسَدَتْ صَلَاةُ رَجُلٍ عن يَمِينِهَا وَرَجُلٍ عن يَسَارِهَا وَرَجُلٍ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُحَاذِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ
____________________

(1/239)


صَارُوا حَائِلِينَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ القوم ( ( ( غيرهم ) ) ) بِمَنْزِلَةِ أُسْطُوَانَةٍ أو كَارَّةٍ من الثِّيَابِ فلم تَتَحَقَّقْ الْمُحَاذَاةُ
وَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أو ثَلَاثًا فَالْمَرْوِيُّ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ من على يَمِينِهِمَا وَمَنْ على يَسَارِهِمَا وَمَنْ خَلْفَهُمَا بِحِذَائِهِمَا وَالثَّلَاثُ مِنْهُنَّ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ من على يَمِينِهِنَّ وَمَنْ على يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ ثلاثة خَلْفَهُنَّ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال الثِّنْتَانِ يُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ من على يَمِينِهِمَا وَمَنْ على يَسَارِهِمَا وإثنان من خَلْفِهِمَا بِحِذَائِهِمَا
وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ من كان على يَمِينِهِنَّ وَمَنْ كان على شِمَالِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ بِحِذَائِهِنَّ
وفي رِوَايَةٍ الثنتان ( ( ( اثنتان ) ) ) تُفْسِدَانِ صَلَاةَ رَجُلَيْنِ عن يَمِينِهِمَا وَيَسَارِهِمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ رَجُلٍ عن يَمِينِهِنَّ وَرَجُلٍ عن يَسَارِهِنَّ وَصَلَاةَ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ صَفًّا تَامًّا فَسَدَتْ صَلَاةُ الصُّفُوفِ التي خَلْفَهُنَّ وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ صَفًّا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ ليس لِمَكَانِ الْحَيْلُولَةِ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ إنَّمَا تَقَعُ بِالصَّفِّ التَّامِّ من النِّسَاءِ بِالْحَدِيثِ ولم تُوجَدْ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالْمُحَاذَاةِ ولم تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ إلَّا بهذا الْقَدْرِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ لِلْمُثَنَّى حُكْمَ الثَّلَاثِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ الِاثْنَيْنِ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ كَالثَّلَاثَةِ ثُمَّ حُكْمُ الثَّلَاثَةِ هذا فَكَذَا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ وَجْهُ الْمَرْوِيِّ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ لَا تُحَاذِيَانِ إلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ فَلَا تُفْسِدَانِ صَلَاةَ غَيْرِهِمْ وفي الصَّفِّ التَّامِّ
الْقِيَاسُ هَكَذَا أَنْ تَفْسُدَ صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ خَلْفَهُنَّ لَا غير لِانْعِدَامِ مُحَاذَاتِهِنَّ لِمَنْ وَرَاءَ هذا الصَّفِّ الْوَاحِدِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فَحَكَمْنَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الصُّفُوفِ أَجْمَعَ لِحَدِيثِ ابن عُمَرَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أو طَرِيقٌ أو صَفٌّ من النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ له جَعَلَ صَفَّ النِّسَاءِ حَائِلًا كَالنَّهْرِ وَالطَّرِيقِ فَفِي حَقِّ الصَّفِّ الذي يَلِيهِنَّ من خَلْفِهِنَّ وُجِدَ تَرْكُ التَّأْخِيرِ منهم وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ بِهِنَّ وفي حَقِّ الصُّفُوفِ الْأُخَرِ وُجِدَتْ الْحَيْلُولَةُ لَا غَيْرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْمَعْنَيَيْنِ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةٌ كَامِلَةٌ لِلْفَسَادِ ثُمَّ الثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِجَمْعٍ حَقِيقَةً فَلَا يُلْحَقَانِ بِالصَّفِّ من النِّسَاءِ التي هِيَ اسْمُ جَمْعٍ فَانْعَدَمَتْ الْحَيْلُولَةُ فَيَتَعَلَّقُ الْفَسَادُ بِالْمُحَاذَاةِ لَا غير وَالْمُحَاذَاةُ لم تُوجَدْ إلَّا بهذا الْقَدْرِ فَأَمَّا الثَّلَاثُ مِنْهُنَّ فَجَمْعٌ حَقِيقَةً فَأُلْحِقْنَ بِصَفٍّ كَامِلٍ في حَقِّ من صِرْنَ حَائِلَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ وَاحِدٍ عن يَمِينِهِنَّ وَوَاحِدٍ عن يَسَارِهِنَّ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَسَادَ بِالْمُحَاذَاةِ لَا بِالْحَيْلُولَةِ ولم تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ إلَّا بهذا الْقَدْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ وَقَفَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ فَأَتَمَّتْ بِهِ وقد نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَلِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ في صلاة مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً وَأَمَّا صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وكان محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يقول لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ قَارَنَتْ شُرُوعَهَا في الصَّلَاةِ وَلَوْ طَرَأَتْ كانت مُفْسِدَةً فإذا اقْتَرَنَتْ مَنَعَتْ من صِحَّةِ اقْتِدَائِهَا بِهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ في فَسَادِ صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَا تَقَعُ الشَّرِكَةُ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهَا في صَلَاةِ الْإِمَامِ فلم يَكُنْ الْمُفْسِدُ مُقَارِنًا لِلشُّرُوعِ فَلَا يَمْنَعُ من الشُّرُوعِ
وَإِنْ كانت بِحِذَاءِ الْإِمَامِ ولم تَأْتَمَّ بِهِ لم تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِانْعِدَامِ الْمُشَارَكَةِ وَكَذَا إذَا قَامَتْ أَمَامَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّتْ بِهِ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهَا لم يَصِحَّ فلم تَقَعْ الْمُشَارَكَةُ وَكَذَا إذَا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ وَنَوَتْ فَرْضًا آخَرَ بِأَنْ كان الْإِمَامُ في الظُّهْرِ وَنَوَتْ هِيَ الْعَصْرَ فَأَتَمَّتْ بِهِ ثُمَّ حَاذَتْهُ لم تُفْسِدْ على الْإِمَامِ صَلَاتَهُ
وَهَذَا على رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ لِأَنَّهَا لم تَصِرْ شَارِعَةً في الصَّلَاةِ أَصْلًا فلم تَتَحَقَّقْ الْمُشَارَكَةُ
فَأَمَّا على رِوَايَةِ بَابِ الأذان تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهَا صَارَتْ شَارِعَةً في أَصْلِ الصَّلَاةِ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ في صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَفَسَدَتْ صَلَاتُهَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ لِحُصُولِ الْفَسَادِ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهَا كما إذَا كان الْإِمَامُ في الظُّهْرِ وقد نَوَى إمَامَتَهَا فَأَتَمَّتْ بِهِ تَنْوِي التَّطَوُّعَ ثُمَّ قَامَتْ بِجَنْبِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ فَكَذَا هذا وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ من قَبْلُ
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا الْجَوَابُ ما ذُكِرَ في بَابِ الأذان
وَتَأْوِيلُ ما ذُكِرَ في بَابِ الْحَدَثِ أَنَّ الرَّجُلَ لم يَنْوِ إمَامَتَهَا في صَلَاةِ الْعَصْرِ فَتُجْعَلُ هِيَ في الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ بِمَنْزِلَةِ ما لم يَنْوِ إمَامَتَهَا أَصْلًا فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً في صَلَاتِهِ تَطَوُّعًا
وَلَوْ قام رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ يَقْضِيَانِ ما سَبَقَهُمَا الْإِمَامُ لم تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كَانَا أَدْرَكَا أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَكَانَا نَامَا أو أَحْدَثَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَيْنِ فِيمَا يَقْضِيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ على الْمَسْبُوقِ وَلَوْ سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فلم
____________________

(1/240)


يَشْتَرِكَا في صَلَاةٍ فَلَا تَكُونُ الْمُحَاذَاةُ مُفْسِدَةَ صَلَاتِهِ فَأَمَّا الْمُدْرِكَانِ فَهُمَا كَأَنَّهُمَا خَلْفَ الْإِمَامِ بَعْدُ بِدَلِيلِ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عنهما وَانْعِدَامِ وُجُوبِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ عِنْدَ وُجُودِ السَّهْوِ كَأَنَّهُمَا خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً فَوَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ في صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَتُوجِبُ فَسَادَ صَلَاتِهِ وَمُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ بين يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَقْطَعُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أبو ذَرٍّ عن النبي أَنَّهُ قال يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ فَقِيلَ لِأَبِي ذَرٍّ وما بَالُ الْأَسْوَدِ من غَيْرِهِ فقال أَشْكَلَ عَلَيَّ ما أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عن ذلك فقال الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي قال لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وادرؤا ( ( ( وادرءوا ) ) ) ما اسْتَطَعْتُمْ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الذي رَوَوْا فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها فَإِنَّهَا قالت لِعُرْوَةِ يا عُرْوَةُ ما يقول أَهْلُ الْعِرَاقِ قال يَقُولُونَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ فقالت يا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ بِئْسَمَا قَرَنْتُمُونَا بِالْكِلَابِ وَالْحُمُرِ كان رسول اللَّهِ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وأنا نَائِمَةٌ بين يَدَيْهِ مُعْتَرِضَةٌ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ وقد وَرَدَ في الْمَرْأَةِ نَصٌّ خَاصٌّ وَكَذَا في الْحِمَارِ وَالْكَلْبِ
رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ كان يُصَلِّي في بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَأَرَادَ ابْنُهَا عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ فَأَشَارَ عليه أَنْ قِفْ فَوَقَفَ ثُمَّ أَرَادَتْ زَيْنَبُ بِنْتُهَا أَنْ تَمُرَّ بين يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهَا أَنْ قِفِي فلم تَقِفْ
فلما فَرَغَ رسول اللَّهِ من صَلَاتِهِ قال إنَّهُنَّ أَغْلَبُ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال زُرْتُ رَسُولَ اللَّهِ مع أَخِي الْفَضْلِ على حِمَارٍ في بَادِيَةٍ فَنَزَلْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي فَصَلَّيْنَا معه وَالْحِمَارُ يَرْتَعُ بين يَدَيْهِ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ يَمُرَّانِ بين يَدَيْهِ وَلَوْ دَفَعَ الْمَارَّ بِالتَّسْبِيحِ أو بِالْإِشَارَةِ أو أَخَذَ طَرَفَ ثَوْبِهِ من غَيْرِ مَشْيٍ وَلَا عِلَاجٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ فادرؤا ما اسْتَطَعْتُمْ
وَقَوْلِهِ إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ في الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ فإن التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ
وَذُكِرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا مَرَّتْ الْجَارِيَةُ بين يَدَيْ الْمُصَلِّي فقال سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَوْمَأَ بيده لِيَصْرِفَهَا لم تُقْطَعْ صَلَاتُهُ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ
منهم من قال مَعْنَاهُ أَيْ لَا يَجْمَعُ بين التَّسْبِيحِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ لِأَنَّ بإحداهما ( ( ( بإحداها ) ) ) كِفَايَةً
وَمِنْهُمْ من قال أَيْ لَا يَفْعَلُ شيئا من ذلك
وَتَأْوِيلُ قَوْلِ النبي أَنَّهُ كان في وَقْتٍ كان الْعَمَلُ في الصَّلَاةِ مُبَاحًا
وَمِنْهَا الْمَوْتُ في الصَّلَاةِ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فيها
أَمَّا الْمَوْتُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عن الْمُضِيِّ فيها وَأَمَّا الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُمَا يَنْقُضَانِ الطَّهَارَةَ
وَيَمْنَعَانِ الْبِنَاءَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اعْتِرَاضَهُمَا في الصَّلَاةِ نَادِرٌ فَلَا يَلْحَقَانِ بِمَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ في جَوَازِ الْبِنَاءِ وهو الْحَدَثُ السَّابِقُ وَسَوَاءٌ كان مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا أو إمَامًا حتى يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقُومُ الْقَوْمُ فَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا كما إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ
وَمِنْهَا الْعَمَلُ الْكَثِيرُ الذي ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ في الصَّلَاةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمَّا الْقَلِيلُ فَغَيْرُ مُفْسِدِ وَاخْتُلِفَ في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
قال بَعْضُهُمْ الْكَثِيرُ ما يُحْتَاجُ فيه إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ وَالْقَلِيلُ ما لَا يُحْتَاجُ فيه إلَى ذلك حتى قالوا إذَا زَرَّ قَمِيصَهُ في الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وإذا حَلَّ أزراره ( ( ( إزاره ) ) ) لَا تَفْسُدُ
وقال بَعْضُهُمْ كُلُّ عَمَلٍ لو نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ من بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ في غَيْرِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَثِيرٌ وَكُلُّ عَمَلٍ لو نَظَرَ إلَيْهِ نَاظِرٌ رُبَّمَا يشتبه ( ( ( يشبه ) ) ) عليه أَنَّهُ في الصَّلَاةِ فَهُوَ قَلِيلٌ وهو الْأَصَحُّ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ ما إذَا قَاتَلَ في صَلَاتِهِ في غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا
وَكَذَا إذَا أَخَذَ قَوْسًا وَرَمَى بها فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
لِأَنَّ أَخْذَ الْقَوْسِ وَتَثْقِيفَ السَّهْمِ عليه وَمَدِّهِ حتى يرمى عَمَلٌ كَثِيرٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ فيه إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ وَكَذَا النَّاظِرُ إلَيْهِ من بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ في غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَابُوا على مُحَمَّدٍ في هذا اللَّفْظِ وهو قَوْلُهُ وَرَمَى بها فَقَالُوا الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ إلْقَاؤُهَا من يَدِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ في الرَّمْي بِالسَّهْمِ رَمَى عنها لَا رَمَى بها
وَالْجَوَابُ عن هذا أَنَّ غَرَضَ مُحَمَّدٍ تَعْلِيمُ الْعَامَّةِ وقد وَجَدَ هذا اللَّفْظَ مَعْرُوفًا في لِسَانِهِمْ فَاسْتَعْمَلَهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ والله أعلم
وَكَذَا لو ادَّهَنَ أو سَرَّحَ رَأْسَهُ أو حَمَلَتْ امْرَأَةٌ صَبِيَّهَا وَأَرْضَعَتْهُ لِوُجُودِ حَدِّ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ على الْعِبَارَتَيْنِ فَأَمَّا حَمْلُ الصَّبِيِّ بِدُونِ الْإِرْضَاعِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان يُصَلِّي في بَيْتِهِ وقد حَمَلَ أُمَامَةَ بِنْتَ
____________________

(1/241)


أبي الْعَاصِ على عَاتِقِهِ فَكَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وإذا قام رَفَعَهَا ثُمَّ هذا الصَّنِيعُ لم يُكْرَهْ منه لِأَنَّهُ كان مُحْتَاجًا إلَى ذلك لِعَدَمِ من يَحْفَظُهَا أو لِبَيَانِهِ الشَّرْعَ بِالْفِعْلِ أن هذا غَيْرُ مُوجِبٍ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَمِثْلُ هذا في زَمَانِنَا أَيْضًا لَا يُكْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَّا لو فَعَلَ ذلك عِنْدَ الْحَاجَةِ أَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ فَمَكْرُوهٌ
وَلَوْ صلى وفي فيه شَيْءٌ يُمْسِكُهُ إنْ كان لَا يَمْنَعُهُ من الْقِرَاءَةِ وَلَكِنْ يُخِلُّ بها كَدِرْهَمٍ أو دِينَارٍ أو لُؤْلُؤَةٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ من الرُّكْنِ وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِالرُّكْنِ حتى لو كان لَا يُخِلُّ بِهِ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كان يَمْنَعُهُ من الْقِرَاءَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الرُّكْنُ وَإِنْ كان في فيه سُكَّرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَكْلٌ
وَكَذَلِكَ إنْ كان في كَفِّهِ مَتَاعٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ غير أَنَّهُ إنْ كان يَمْنَعُهُ عن الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ في الرُّكُوعِ والاعتماد على الرَّاحَتَيْنِ عِنْدَ السُّجُودِ يُكْرَهُ لِمَنْعِهِ عن تَحْصِيلِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَلَا
وَلَوْ رَمَى طَائِرًا بِحَجَرٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَيُكْرَهُ لِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَكَلَ أو شَرِبَ في الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَسَوَاءٌ كان عَامِدًا أو سَاهِيًا فَرْقٌ بين الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَيْثُ كان الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ في الصَّوْمِ نَاسِيًا غير مُفْسِدٍ إيَّاهُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْصَلَ في بَابِ الصَّوْمِ بين الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ أَيْضًا لِوُجُودِ ضِدِّ الصَّوْمِ في الْحَالَيْنِ وهو تَرْكُ الْكَفِّ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِالنَّصِّ وَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ في مَعْنَاهُ لِأَنَّ الصَّائِمَ كَثِيرًا ما يُبْتَلَى بِهِ في حَالَةِ الصَّوْمِ فَلَوْ حَكَمْنَا بِالْفَسَادِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ في الصَّلَاةِ سَاهِيًا نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَيُعْمَلُ فيها بِالْقِيَاسِ الْمَحْضِ وهو أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ في غَيْرِ الصَّلَاةِ وَلَوْ مَضَغَ الْعِلْكَ في الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ النَّاظِرَ إلَيْهِ من بَعْدُ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ في غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ من التَّحْدِيدِ هو الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ حَيْثُ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّلَاةِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدِ رَأْسًا فَضْلًا عن اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ وَلَوْ بَقِيَ بين أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ إنْ كان دُونَ الْحِمَّصَةِ لم يَضُرَّهُ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ في حُكْمِ التَّبَعِ لِرِيقِهِ لِقِلَّتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه لِأَنَّهُ يَبْقَى بين الْأَسْنَانِ عَادَةً فَلَوْ جُعِلَ مُفْسِدًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهِ وَإِنْ كان قَدْرَ الْحِمَّصَةِ فَصَاعِدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ قَلَسَ أَقَلَّ من ملىء ( ( ( ملء ) ) ) فيه ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ جَوْفَهُ وهو لَا يَمْلِكُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ ذلك بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ وضوؤه وَكَذَا الْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ قد يُبْتَلَى بِهِ خُصُوصًا في لَيَالِي رَمَضَانَ عِنْدَ امْتِلَاءِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْفِطْرِ فَلَوْ جُعِلَ مُفْسِدًا لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَقَتْلُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ في الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا لِقَوْلِ النبي اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنْ عَقْرَبًا لَدَغَ رَسُولَ اللَّهِ في الصَّلَاةِ فَوَضَعَ عليه نَعْلَهُ وَغَمَزَهُ حتى قَتَلَهُ فلما فَرَغَ من صَلَاتِهِ قال لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تُبَالِي نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ أو قال مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ ما كان لِيَفْعَلَ الْمَكْرُوهَ خُصُوصًا في الصَّلَاةِ لأنه ( ( ( ولأنه ) ) ) يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْأَذَى فَكَانَ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ هذا إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُ الْحَيَّةِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كما فَعَلَ رسول اللَّهِ في الْعَقْرَبِ
وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى مُعَالَجَةٍ وَضَرَبَاتٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كما إذَا قَاتَلَ في صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ
وَذَكَرَ الشيخ ( ( ( شيخ ) ) ) الإمام ( ( ( الإسلام ) ) ) الزاهد السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ هذا عَمَلٌ رُخِّصَ فيه لِلْمُصَلِّي فَأَشْبَهَ الْمَشْيَ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءَ من الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤَ هذا الذي ذَكَرْنَا من الْعَمَلِ الْكَثِيرِ الذي ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ إذَا عَمِلَهَا الْمُصَلِّي في الصَّلَاةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمَّا في حَالَةِ الضَّرُورَةِ فإنه لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ كما في حَالَةِ الْخَوْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وأما ( ( ( والكلام ) ) ) الكلام في صَلَاةِ الْخَوْفِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا بَعْدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا وفي بَيَانِ رائط ( ( ( شرائط ) ) ) جَوَازِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَصَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لَا تَجُوزُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لهم الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منهم مَعَكَ } الْآيَةَ جَوَّزَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِشَرْطِ كَوْنِ الرَّسُولِ فِيهِمْ فإذا خَرَجَ من الدُّنْيَا انْعَدَمَتْ الشَّرْطِيَّةُ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ حَالَ حَيَاتِهِ ثَبَتَ مع الْمُنَافِي لِمَا فيها من أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ من الصَّلَاةِ وَهِيَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مع ما يُنَافِيهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي
____________________

(1/242)


حَالَ حَيَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِحَاجَةِ الناس إلَى اسْتِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ في زَمَانِنَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي فَيُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ على حِدَةٍ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على جَوَازِهَا فإنه رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ
وَرُوِيَ عن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْبَهَانَ وَسَعِيدُ بن الْعَاصِ كان يُحَارَبُ الْمَجُوسَ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ منهم الْحَسَنُ وَحُذَيْفَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فقال أَيُّكُمْ شَهِدَ صَلَاةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال حُذَيْفَةُ أنا
فَقَامَ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ على نَحْوِ ما يقول ( ( ( يقوله ) ) ) فَانْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ على الْجَوَازِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرَا من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِخُرُوجِهِ عن مُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ مع أَنَّ ذلك تَرْكُ الْوَاجِبِ وهو تَرْكُ الْمَشْيِ في الصَّلَاةِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا لَا يَجُوزُ على أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ قَائِمَةٌ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ يَحْتَاجُونَ إلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِهِمْ وَإِلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ عَامًا في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا إلَّا إذَا قام دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَإِحْرَازُ الْفَضِيلَةِ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فيها أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ الرَّسُولُ فِيهِمْ لَا تَجُوزُ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ أو كانت الصَّلَاةُ من ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ كَالْفَجْرِ وَإِنْ كَانُوا مُقِيمِينَ وَالصَّلَاةُ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أو الثَّلَاثِ صلى بِهِمْ أَرْبَعًا أو ثَلَاثًا وَلَا يَنْتَقِضُ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عِنْدَنَا وهو قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وكان ابن عَبَّاسٍ يقول صَلَاةُ الْمُقِيمِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ واحتجوا ( ( ( واحتج ) ) ) بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً فَكَانَتْ له رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ
وَلَنَا ما رَوَى ابن مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَاةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على نَحْوِ ما قُلْنَا وَهَكَذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم وما نُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأْوِيلُهُ أنها رَكْعَةٌ مع الْإِمَامِ وَعِنْدَنَا يُصَلِّي الْإِمَامُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً وَاحِدَةً إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ وهو تَأْوِيلُ الحديث
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيها اخْتِلَافًا فَاحِشًا لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ في الْبَابِ قال عُلَمَاؤُنَا يَجْعَلُ الْإِمَامُ الناس طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِطَائِفَةٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً إنْ كان مُسَافِرًا أو كانت الصَّلَاةُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْنِ إنْ كان مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ فَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ ( بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَجِيءُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ )
وقال مَالِكٌ يَجْعَلُ الناس طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِطَائِفَةٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ وَيَمْكُثُ قَائِمًا فَتَتِمُّ هذه الطَّائِفَةُ صَلَاتَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَيُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ بَلْ يَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّهُ يقول لَا يُسَلِّمُ الْإِمَامُ حتى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاتَهُمْ ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَيُسَلِّمُونَ معه
وَرَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا صلى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً انْتَظَرَهُمْ حتى أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَذَهَبُوا إلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فبدؤوا ( ( ( فبدءوا ) ) ) بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْتَظِرهُمْ ثُمَّ صلى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ولم يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ
وَرُوِيَ شَاذًّا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ له أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى سَهْلُ بن أبي خَيْثَمَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ على نَحْوِ ما قُلْنَا
وَلَنَا ما رَوَى ابن مَسْعُودٍ وابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَّاهَا على نَحْوِ ما قُلْنَا وَرَوَيْنَا عن حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَقَامَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَبَرِسْتَانَ بِجَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ على نَحْوِ ما قُلْنَا ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِمَا رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَوْلَى وَلِأَنَّ الرِّوَايَةَ عن هَؤُلَاءِ لم تَتَعَارَضْ
وَالرِّوَايَةُ عن سَهْلِ بن أبي خَيْثَمَةَ مُتَعَارِضَةٌ فإن بَعْضَهُمْ روى عنه مِثْلَ
____________________

(1/243)


مَذْهَبِنَا فَكَانَ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِمْ أَوْلَى مع أَنَّ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ما يَدُلُّ على كَوْنِهِ مَنْسُوخًا لِأَنَّ فيه أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ يَقْضُونَ ما سُبِقُوا بِهِ قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ ثُمَّ يُسَلِّمُونَ معه وَهَذَا كان في الِابْتِدَاءِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ ثُمَّ نُسِخَ وَلِهَذَا لم يَأْخُذْ أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ بِرِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ وما رُوِيَ في الشَّاذِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّ في حَقِّ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفَّلِ وَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَوَّلًا وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كان مُقِيمًا فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وهو الْمَذْهَبُ وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ والله أعلم
هذا إذَا لم يَكُنْ الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كان الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ الناس طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ على النَّحْوِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنْ صلى بِهِمْ جُمْلَةً جَازَ وهو أَنْ يَجْعَلَ الناس صَفَّيْنِ وَيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِهِمْ جميعا فإذا رَكَعَ الْإِمَامُ رَكَعَ الْكُلُّ معه وإذا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ رَفَعُوا جميعا وإذا سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ معه الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ فإذا رَفَعُوا رؤوسهم سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ فإذا رَفَعُوا رؤوسهم سَجَدَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ معه الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ فإذا رَفَعُوا رؤوسهم تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا فإذا قَعَدَ وَسَلِّمْ سَلَّمُوا معه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ أبي لَيْلَى لَا تَجُوزُ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ هَكَذَا بِعُسْفَانَ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْعَدُوِّ الْقِبْلَةَ وَلِأَنَّهُ ليس في هذه الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ذَهَابًا وَمَجِيئًا وَاسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ في الْأَصْلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ ذلك جَائِزٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ على نَحْو ما يُصَلِّي أَنْ لو كان الْعَدُوُّ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منهم مَعَكَ } وقال { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } أَمَرَ بِجَعْلِ الناس طَائِفَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْحِرَاسَةَ بهذا الْوَجْهِ أَبْلَغُ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ لم يَكُونُوا يُشَارِكُونَهُمْ في الصَّلَاةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَكَانُوا أَقْدَرَ على الْحِرَاسَةِ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَا يُخَالِفُ كُلُّ صَفٍّ إمَامَهُمْ في سَجْدَةٍ وَمُخَالَفَةُ الْإِمَامِ مَنْهِيَّةٌ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ من الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فإن ذلك جَائِزٌ بِحَالٍ فإن من سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَمْشِي عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُتَطَوِّعُ على الدَّابَّةِ يُصَلِّي أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ الدَّابَّةُ والله أعلم
ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَا يقرؤون ( ( ( يقرءون ) ) ) في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَعَجَزُوا عن الْإِتْمَامِ لِمَعْنًى من الْمَعَانِي فَصَارَ كَالنَّائِمِ
وَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَجَاءَ
وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ يقرؤون ( ( ( يقرءون ) ) ) لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ فَيَقْضُونَ بِقِرَاءَةِ هذا الذي ذَكَرْنَا في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أو ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ
وَأَمَّا في الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ هو بِالْخِيَارِ
وَجْهُ قَوْلِ سُفْيَانَ أن فَرَضَ الْقِرَاءَةَ في الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ في ذلك حَظًّا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَالشَّافِعِيُّ يقول مُرَاعَاةُ التَّنْصِيفِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنْ شَاءَ صلى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ صلى بِأُولَئِكَ
وَلَنَا أَنَّ التَّنْصِيفَ وَاجِبٌ وقد تَعَذَّرَ هَهُنَا وكان تَفْوِيتُ التَّنْصِيفِ على الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا تَفْوِيتَ قَصْدًا بَلْ حُكْمًا لِإِيفَاءِ حَقِّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ يَجِبُ على الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً وَنِصْفًا لِتَتَحَقَّقَ الْمُعَادِلَةُ في الْقِسْمَةِ فَشُرِعَ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَضَاءً لِحَقِّهِمْ إلَّا أنها لَا تَتَجَزَّأُ فَيَجِبُ عليه إتْمَامُهَا فَأَمَّا لو صلى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ فَوَّتَ التَّنْصِيفَ على الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَصْدًا لَا حُكْمًا لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ لِأَنَّهُ لم يَشْتَغِلْ بَعْدُ بِإِيفَاءِ حَقِّ الثَّانِيَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَفْوِيتَ الْحَقِّ حُكْمًا دُونَ تَفْوِيتِهِ قَصْدًا لِذَلِكَ كان الْأَمْرُ على ما وَصَفْنَا وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
ثُمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى تَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَقْعُدُونَ بَيْنَهُمَا وَبَعْدَهُمَا كما يَفْعَلُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَتَيْنِ في الْمَغْرِبِ والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَمِنْهَا أَنْ لَا يُقَاتِلَ في الصَّلَاةِ فَإِنْ قَاتَلَ في صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا
وقال مَالِكٌ لَا تَفْسُدُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ } أَبَاحَ لهم أَخْذَ السِّلَاحِ فَيُبَاحُ الْقِتَالُ وَلِأَنَّ أَخْذَ السِّلَاحِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَشْيِ في الصَّلَاةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقِتَالِ
وَلَنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم شُغِلَ عن أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يوم الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ من اللَّيْلِ وقال شَغَلُونَا عن الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ
____________________

(1/244)


اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا فَلَوْ جَازَتْ الصَّلَاةُ مع الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّ إدْخَالَ عَمَلٍ كَثِيرٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ في الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ في الْأَصْلِ فَلَا يُتْرَكُ هذا الْأَصْلُ إلَّا في مَوْرِدِ النَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في الْمَشْيِ لَا في الْقِتَالِ مع أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ بَقَاءُ الصَّلَاةِ مع الْمَشْيِ لَا الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ فَوْقَ الْبَقَاءِ فَأَنَّى يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِخِلَافِ أَخْذِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْجَوَازِ معه والله أعلم
وَمِنْهَا أَنْ يَنْصَرِفَ مَاشِيًا وَلَا يَرْكَبُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَلَوْ رَكِبَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كان انْصِرَافُهُ من الْقِبْلَةِ إلَى الْعَدُوِّ أو من الْعَدُوِّ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ وهو مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فإنه أَمْرٌ لَا بُدَّ منه حتى يَصْطَفُّوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ
وَكَذَا أَخْذُ السِّلَاحِ أَمْرٌ لَا بُدَّ منه لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلدَّفْعِ وَلِأَنَّهُمْ لو غَفَلُوا عن أَسْلِحَتِهِمْ يَمِيلُونَ عليهم على ما نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فيها لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الضَّرُورَة وَلَوْ كان الْخَوْفُ أَشَدَّ وَلَا يُمْكِنُهُمْ النُّزُولُ عن دَوَابِّهِمْ صَلَّوْا رُكْبَانًا بِالْإِيمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أو رُكْبَانًا } ثُمَّ إنْ قَدَرُوا على اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِقْبَالُ وَإِلَّا فَلَا
بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ إذَا صَلَّاهَا على الدَّابَّةِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنْ قَدَرَ عليه لِأَنَّ حَالَةَ الْفَرْضِ أَضْيَقُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِيمَاءُ في التَّطَوُّعِ مع الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ وَلَا يَجُوزُ ذلك في الْفَرْضِ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَلَا يُصَلُّونَ جَمَاعَةً رُكْبَانًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وقد رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَوَّزَ لهم في الْخَوْفِ أَنْ يُصَلُّوا رُكْبَانًا بِجَمَاعَةٍ وقال أَسْتَحْسِنُ ذلك لِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وقد جَوَّزْنَا لهم ما هو أَعْظَمُ من ذلك وهو الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ طريق ( ( ( طريقا ) ) ) فَيَمْنَعُ ذلك صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مع الْإِمَامِ على دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَشْيِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ ذلك أَمْرٌ لَا بُدَّ منه فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا
وَلَوْ صلى رَاكِبًا وَالدَّابَّةُ سَائِرَةٌ فَإِنْ كان مَطْلُوبًا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ السَّيْرَ فِعْلُ الدَّابَّةِ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِتَسْيِيرِهِ فإذا جاء الْعُذْرُ انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِخِلَافِ ما إذَا صلى مَاشِيًا أو سَابِحًا حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذلك فِعْلُهُ حَقِيقَةً فَلَا يُتَحَمَّلُ إلَّا إذَا كان في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلَيْسَ ذلك في مَعْنَاهُ على ما مَرَّ وَإِنْ كان الرَّاكِبُ طَالِبًا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ في حَقِّهِ فَيُمْكِنُهُ النُّزُولُ وَكَذَلِكَ الرَّاجِلُ إذَا لم يَقْدِرْ على الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يومىء إيمَاءً لِمَكَانِ الْعُذْرِ كَالْمَرِيضِ والله أعلم
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في حَالِ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ حتى لو صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ولم يُعَايِنُوا الْعَدُوَّ جَازَ لِلْإِمَامِ ولم يَجُزْ لِلْقَوْمِ إذَا صَلَّوْا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَكَذَا لو رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا فإذا هو إبِلٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ صَلَاةُ الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ شُرِعَتْ عِنْدَ الْخَوْفِ وقد صَلَّوْا عِنْدَ الْخَوْفِ فَتُجْزِئُهُمْ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ الْخَوْفُ من الْعَدُوِّ قال اللَّهُ تَعَالَى { إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } ولم يُوجَدْ الشَّرْطُ إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ مَقْضِيَّةٌ بِالْجَوَازِ لِانْعِدَامِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ منه بِخِلَافِ الْقَوْمِ فَلَا يُتَحَمَّلُ ذلك إلَّا لِضَرُورَةِ الْخَوْفِ من الْعَدُوِّ ولم تَتَحَقَّقْ ثُمَّ الْخَوْفُ من سَبُعٍ يُعَايِنُوهُ كَالْخَوْفِ من الْعَدُوِّ لأن الْجَوَازَ بِحُكْمِ الْعُذْرِ وقد تَحَقَّقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ هذه الصَّلَوَاتِ إذَا فَسَدَتْ أو فَاتَتْ عن أَوْقَاتِهَا أو فَاتَ شَيْءٌ من هذه الصَّلَوَاتِ عن الْجَمَاعَةِ أو عن مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ في آخِرِ تِلْكَ الصَّلَاةِ أَمَّا إذَا فَسَدَتْ يَجِبُ إعَادَتُهَا ما دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا لِأَنَّهَا إذَا فَسَدَتْ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ في الذِّمَّةِ فَيَجِبُ تَفْرِيقُهَا عنه بِالْأَدَاءِ
وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ صَلَاةٌ منها عن وَقْتِهَا بِأَنْ نَامَ عنها أو نَسِيَهَا ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أو اشْتَغَلَ عنها حتى خَرَجَ الْوَقْتُ يَجِبُ عليه قَضَاؤُهَا
وَالْكَلَامُ في الْقَضَاءِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ
وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ
وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُ النبي من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أو اسْتَيْقَظَ فإن ذلك وَقْتُهَا وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا وَقْتَ لها إلَّا ذلك وَقَوْلُهُ ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا أنها تُقْضَى إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَأَمْكَنَ قَضَاؤُهَا لِأَنَّ وُجُوبَهَا في الْوَقْتِ لِمَعَانٍ هِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَهِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى
____________________

(1/245)


وَتَعْظِيمُهُ وَقَضَاءُ حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَتَكْفِيرُ الزَّلَلِ وَالْخَطَايَا التي تَجْرِي على يَدِ الْعَبْدِ بين الْوَقْتَيْنِ وَأَمْكَنَ قَضَاؤُهَا لِأَنَّ من جِنْسِهَا مَشْرُوعٌ خَارِجَ الْوَقْتِ من حَيْثُ الْأَصْلُ حَقًّا له فَيَقْضِي بِهِ ما عليه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ إذْ الْإِيجَابُ على غَيْرِ الْأَهْلِ تَكْلِيفُ ما ليس في الْوُسْعِ
وَمِنْهَا فَوَاتُ الصَّلَاةِ عن وَقْتِهَا لِأَنَّ قَضَاءَ الْفَائِتِ وَلَا فَائِتَ مُحَالٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ من جِنْسِهَا مَشْرُوعًا له في وَقْتِ الْقَضَاءِ إذ الْقَضَاءُ صَرَفَ ما له إلَى ما عليه لِأَنَّ ما عليه يَقَعُ عن نَفْسِهِ فَلَا يَقَعُ عن غَيْرِهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْقَضَاءِ حَرَجٌ إذْ الْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا
فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ في الْوَقْتِ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وهو الصَّحِيحُ
لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ اسْتِدْرَاكًا لِلْمُصْلِحَةِ الْفَائِتَةِ في الْوَقْتِ وهو الثَّوَابُ وَفَوَاتُ هذه الْمَصْلَحَةِ لَا يَقِف على الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا قَضَاءَ على الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ في زَمَانِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَلَا على كافر ( ( ( الكافر ) ) ) لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ إذْ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ عليهم بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ وَالْإِسْلَامِ أَيْضًا لِأَنَّ في الْإِيجَابِ عليهم حَرَجًا لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ وَالْجُنُونُ إذَا اسْتَحْكَمَ وهو الطَّوِيلُ منه قَلَّمَا يَزُولُ وَالْإِسْلَامُ من الْكَافِرِ الْمُقَلِّدِ لِآبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ نَادِرٌ فَكَانَ في الْإِيجَابِ عليهم حَرَجٌ
وَأَمَّا الْمُغْمَى عليه فَإِنْ أُغْمِيَ عليه يَوْمًا وَلَيْلَةً أو أَقَلَّ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ وَإِنْ زَادَ على يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّهُ يُحْرَجُ في الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ في حَدِّ التَّكْرَارِ
وَكَذَا الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عن الْإِيمَاءِ إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرَأَ فَإِنْ كان أَقَلَّ من يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أو يَوْمًا وَلَيْلَةً قَضَاهُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عليه لِمَا قُلْنَا في الْمُغْمَى عليه
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال في الْمَرِيضِ إنَّهُ يَقْضِي وَإِنْ امْتَدَّ وَطَالَ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُعْجِزُهُ عن فَهْمِ الْخِطَابِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ عن الْمُغْمَى عليه ليس لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ على الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَإِنْ كَانَتَا تَفْهَمَانِ الْخِطَابَ بَلْ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وقد وُجِدَ في الْمَرِيضِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُونَ الْقَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ وَدَلَّتْ هذه الْمَسَائِلُ على أَنَّ سَابِقِيَّةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الصَّلَوَاتُ الْفَائِتَةُ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إذَا قَضَاهَا في غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إنه يَقْضِيهَا بِلَا تَكْبِيرٍ لِأَنَّ في وَقْتِ الْقَضَاءِ صَلَاةً مَشْرُوعَةً من جِنْسِ الْفَائِتَةِ وَلَيْسَ فيه تَكْبِيرٌ مَشْرُوعٌ من جِنْسِهِ ( وهو الذي يَجْهَرُ بِهِ )
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَجَمِيعُ ما ذَكَرْنَا إنه شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ إلَّا الْوَقْتَ فإنه ليس لِلْقَضَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ بَلْ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ له إلَّا ثَلَاثَةً وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الزَّوَالِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ فإنه لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ في هذه الْأَوْقَاتِ لِمَا مَرَّ أَنَّ من شَأْنِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفَائِتِ وَالصَّلَاةُ في هذه الْأَوْقَاتِ تَقَعُ نَاقِصَةً وَالْوَاجِبُ في ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عنه وَهَذَا عِنْدَنَا
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَقَضَاءُ الْفَرَائِضِ في هذه الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ كما قال بِجَوَازِ أَدَاءِ الْفَجْرِ مع طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَمَا يَجُوزُ أَدَاءُ عَصْرِ يَوْمِهِ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فإن ذلك وَقْتُهَا لَا وَقْتَ لها غَيْرُهُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين وَقْتٍ وَوَقْتٍ
وَالدَّلِيلُ عليه إنه يَجُوزُ عَصْرُ يَوْمِهِ أَدَاءٌ فَكَذَا قَضَاءٌ
وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ بِصِيغَتِهِ وَبِمَعْنَاهُ على ما نَذْكُرُ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وما رَوَاهُ عَامٌّ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وما نَرْوِيهِ خَاصٌّ في الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيُخَصِّصُهَا عن عُمُومِ الْأَوْقَاتِ مع ما أَنَّ عِنْدَ التَّعَارُضِ الرُّجْحَانُ لِلْحُرْمَةِ على الْحِلِّ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ فإن الِاسْتِثْنَاءَ بِعَصْرِ يَوْمِهِ ثَبَتَ في الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا فَجَوَّزْنَاهَا وَلِأَنَّا لو لم نُجَوِّزْ لَأَمَرْنَا بِالتَّفْوِيتِ وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ عن وَقْتِهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ
وَلَوْ جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ كان الْأَدَاءُ طَاعَةً من وَجْهٍ من حَيْثُ تَحْصِيلُ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان مَعْصِيَةً من حَيْثُ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا أَوْلَى وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ يَتَضَيَّقُ وُجُوبُهَا بِآخِرِ الوقت وفي عصر يومه يتضيق الوجوب في هذا الْوَقْتِ
أَلَا تَرَى أَنَّ كَافِرًا لو أَسْلَمَ في هذا الْوَقْتِ أو صَبِيًّا احْتَلَمَ تَلْزَمُهُ هذه الصَّلَاةُ وَالصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عنها في هذا الْوَقْتِ وقد وَجَبَتْ عليه نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كما وَجَبَتْ بِخِلَافِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ فيها الشَّمْسُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَضَيَّقُ بِآخِرِ وَقْتِهَا وَلَا نَهْيَ في آخِرِ وَقْتِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَوَجَّهُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عليه
____________________

(1/246)


الصَّلَاةُ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ هذه الصَّلَوَاتِ فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ ثَبَتَ وُجُوبُهَا في الْوَقْتِ وَفَاتَتْ عن وَقْتِهَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في كَيْفِيَّةِ قَضَائِهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ وَتُقْضَى على الصِّفَةِ التي فَاتَتْ عن وَقْتِهَا لِأَنَّ قَضَاءَهَا بَعْدَ سَابِقِيَّةِ الْوُجُوبِ وَالْفَوْتُ يَكُونُ تَسْلِيمَ مِثْلِ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ على صِفَةِ الْفَائِتِ لِتَكُونَ مثله إلَّا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَدَاءِ يَسْقُطُ بِعُذْرٍ فَلَأَنْ يَسْقُطَ وَصْفُهُ لِعُذْرٍ أَوْلَى وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَاتَتْ عن وَقْتِهَا من غَيْرِ تَقْدِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِعُذْرٍ مَانِعٍ من الْوُجُوبِ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ يُعْتَبَرُ في قَضَائِهَا الْحَالُ وَهِيَ حَالُ الْقَضَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لم يَثْبُتْ فيقضي على الصِّفَةِ التي هو عليها لِلْحَالِ لِأَنَّ الْفَائِتَ ليس بِأَصْلٍ بَلْ أُقِيمَ مَقَامَ صِفَةِ الْأَصْلِ خَلَفًا عنه لِلضَّرُورَةِ وقد قَدَرَ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَيُرَاعَى صِفَةُ الْأَصْلِ لَا صِفَةُ الْفَائِتِ كَمَنَ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ بِالتَّيَمُّمِ إنه يَقْضِيهَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ إذَا كان قَادِرًا على الْمَاءِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْمُسَافِرُ إذَا كان عليه فَوَائِتُ في الْإِقَامَةِ إنه يَقْضِيهَا أَرْبَعًا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ في الْوَقْتِ كَذَلِكَ وَفَاتَتْهُ كَذَلِكَ فيراعي وَقْتُ الْوُجُوبِ لَا وَقْتُ الْقَضَاءِ وَكَذَا الْمُقِيمُ إذَا كان عليه فَوَائِتُ السَّفَرِ يَقْضِيهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهَا فَاتَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا قَضَى فَوَائِتَ الصِّحَّةِ قَضَاهَا على حَسَبِ ما يَقْدِرُ عليه لِعَجْزِهِ عن الْقَضَاءِ على حَسَبِ الْفَوَاتِ وَأَصْلُ الْأَدَاءِ يَسْقُطُ عنه بِالْعَجْزِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ وَصْفُهُ أَوْلَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كان عليه فَوَائِتُ الْمَرَضِ يَقْضِيهَا على اعْتِبَارِ حَالِ الصِّحَّةِ لَا على اعْتِبَارِ حَالِ الْفَوَاتِ حتى لو قَضَاهَا كما فَاتَتْهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ فَقَضَاهَا في حَالِ الصِّحَّةِ بِالْإِيمَاءِ لم تَجُزْ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ ليس بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فيه وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الصَّلَاةِ خَلَفًا عنها لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ على تَقْدِيرِ الْأَدَاءِ بِالْإِيمَاءِ فإذا لم يُؤَدِّ بِالْإِيمَاءِ لم يَقُمْ مَقَامَهَا فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَاجِبًا عليه فَيُؤَدِّيهِ كما وَجَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا إذَا فَاتَ شَيْءٌ من هذه الصَّلَوَاتِ عن الْجَمَاعَةِ وَأَدْرَكَ الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ وهو الذي لم يُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ أو اللَّاحِقِ وهو الذي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ أو سَبَقَهُ الْحَدَثُ حتى صلى الْإِمَامُ بَعْضَ صَلَاتِهِ ثُمَّ انْتَبَهَ أو رَجَعَ من الْوُضُوءِ فَكَيْفَ يَقْضِي ما سُبِقَ بِهِ
أَمَّا الْمَسْبُوقُ فإنه يَجِبُ عليه أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ وَلَا يُتَابِعُهُ في التَّسْلِيمِ فإذا سَلَّمَ الْإِمَامُ يَقُومُ هو إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ بِهِ لِقَوْلِهِ ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَلَوْ بَدَأَ بِمَا سُبِقَ بِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ في مَوْضِعٍ وَجَبَ عليه الِاقْتِدَاءُ لِوُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِالنَّصِّ وَالِانْفِرَادُ عِنْدَ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ ذلك حَدِيثٌ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه حَيْثُ قال رسول اللَّهِ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بها أَمَرَ بِالِاسْتِنَانِ بِسُنَّتِهِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ عَقِيبَ الْإِدْرَاكِ بِلَا فَصْلٍ فَصَارَ نَاسِخًا لِمَا كان قَبْلَهُ
وَأَمَّا اللَّاحِقُ فإنه يَأْتِي بِمَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ في الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِالْتِزَامِهِ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ في جَمِيعِ صَلَاتِهِ وَإِتْمَامِهِ الصَّلَاةَ مع الْإِمَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلِهَذَا لَا قِرَاءَةَ عليه ولا سَهْوٍ عليه كما لو كان خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فإنه مُنْفَرِدٌ لِأَنَّهُ ما الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ إلَّا في قَدْرِ ما أَدْرَكَ أَلَا تَرَى إنه يَقْرَأُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ بِخِلَافِ اللَّاحِقِ وَلَوْ لم يَشْتَغِلْ بِمَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنَّهُ تَابَعَ الْإِمَامَ في بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ بِنَاءً على أَنَّ التَّرْتِيبَ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
ثُمَّ ما أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مع الْإِمَامِ هل هو أَوَّلُ صَلَاتِهِ أو آخِرُ صَلَاتِهِ وَكَذَا ما يَقْضِيهِ اُخْتُلِفَ فِيهِمَا
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ ما أَدْرَكَهُ مع الْإِمَامِ آخَرَ صَلَاتَهُ حُكْمًا وَإِنْ كان أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وما يَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا
وَإِنْ كان آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً
وقال بِشْرُ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وأبو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ إن ما يُصَلِّي مع الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا كما هو أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وما يقضي آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمًا كما هو آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ
روى عن عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ قَوْلِهِمْ
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الشيخ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وقال وَجَدْتُ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال ما أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ مع الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وما يَقْضِي آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كما قال أُولَئِكَ إلَّا في حَقّ ما يَتَحَمَّلُ
____________________

(1/247)


الْإِمَامُ عنه وهو الْقِرَاءَةُ فإنه يُعْتَبَرُ آخِرُ صَلَاتِهِ
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ في حَقِّ الْقُنُوتِ وَالِاسْتِفْتَاحِ فَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ يَأْتِي بِالِاسْتِفْتَاحِ عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَا فِيمَا يَقْضِي لِأَنَّ ذلك أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يَتَحَمَّلُ عنه الْإِمَامُ فَكَانَتْ الرَّكْعَةُ الْمُدْرَكَةُ مع الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ في حَقِّ الِاسْتِفْتَاحِ فَيَأْتِي بِهِ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَيَأْتِي بِهِ ثَانِيًا في آخِرِ ما يَقْضِي في قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وما أتى بِهِ مع الْإِمَامِ أتى بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ كان في غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ ذلك في مَحَلِّهِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا في آخِرِ ما يَقْضِي كما هو قَوْلُ أُولَئِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَحَمَّلُ الْقُنُوتَ عن الْقَوْمِ وَمَعَ ذلك روى عنه أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا لِأَنَّ في الْقُنُوتِ عنه رِوَايَتَانِ
في رِوَايَةٍ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ لِشَبَهِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُدْرَكَ مع الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ
وفي رِوَايَةٍ عنه لَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ الْقُنُوتَ وَمَعَ هذا قال لَا يَأْتِي بِهِ الْمَسْبُوقُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ أتى بِهِ مَرَّةً مع الْإِمَامِ وَلَوْ أتى بِهِ في غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ وهو غَيْرُ مَشْرُوعٍ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ حَيْثُ يَأْتِي بِهِ إذَا قَضَى رَكْعَةً وَإِنْ كان أتى بِهِ مع الْإِمَامِ في غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَدَّى إلَى التَّكْرَارِ لَكِنَّ التَّكْرَارَ في التَّشَهُّدِ مَشْرُوعٌ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَأْتِي بِالِاسْتِفْتَاحِ فِيمَا أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ بَلْ فِيمَا يَقْضِي لِأَنَّ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حُكْمًا هذا وهو ما يَقْضِي لَا ذَاكَ وَلَا يَأْتِي بِالْقُنُوتِ فِيمَا يَقْضِي لِأَنَّهُ أتى بِهِ مع الْإِمَامِ في مَحَلِّهِ لِأَنَّ ذَاكَ آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وما يَقْضِي أَوَّلُ صَلَاتِهِ وَمَحَلُّ الْقُنُوتِ آخِرُ الصَّلَاةِ لَا أَوَّلُهَا فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ بين أَصْحَابِنَا في الِاسْتِفْتَاحِ لَا في الْقُنُوتِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عن مُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الثلجي ( ( ( البلخي ) ) ) أَنَّ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ بين أَصْحَابِنَا تَظْهَرُ في حَقِّ الِاسْتِفْتَاحِ
احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ لِأَصْحَابِنَا بِمَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبي أَنَّهُ قال ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِتْمَامِ على الأداء ( ( ( أداء ) ) ) ما سُبِقَ بِهِ وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ بِآخِرِهِ فَدَلَّ أَنَّ الذي يَقْضِي آخِرَ صَلَاتِهِ وَالدَّلِيلُ عليه وُجُوبُ الْقَعْدَةِ على من سُبِقَ بِرَكْعَتَيْنِ من الْمَغْرِبِ إذَا قَضَى رَكْعَةً وَلَوْ كان ما يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَمَا وَجَبَتْ الْقَعْدَةُ ( عقيب الركعة ) الْوَاحِدَةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا ( على ) عَقِيبَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَا إذَا قَضَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ تُفْتَرَضُ عليه الْقَعْدَةُ وَالْقَعْدَةُ لَا تُفْتَرَضُ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ
وَكَذَا لو كان ما أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ كان ما قَعَدَ مع الْإِمَامِ في مَحَلِّهِ فَيَكُونُ فَرْضًا له كما لِلْإِمَامِ فَلَا يُفْتَرَضُ ثَانِيًا فِيمَا يَقْضِي كما لَا يَأْتِي بِالْقُنُوتِ عِنْدَكُمْ ثَانِيًا لِحُصُولِ ما أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ في مَحَلِّهِ وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا سُبِقَ بِرَكْعَتَيْنِ من الْمَغْرِبِ حَيْثُ يَقْضِيهِمَا مع قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جميعا وَلَوْ كان ما يَقْضِي آخِرَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكَانَ لَا تَجِبُ عليه الْقِرَاءَةُ في الثَّانِيَةِ من الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَقْضِيهِمَا لِأَنَّهَا ثَالِثَةٌ وَلَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ في الثَّالِثَةِ
لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ كان لم يَقْرَأْ في الثَّالِثَةِ فَلَا بُدَّ لِلْمَسْبُوقِ من الْقِرَاءَةِ فيها قَضَاءً عن الْأُولَى كما في حَقِّ الْإِمَامِ إذَا لم يَقْرَأْ في الْأُولَى يَقْضِي في الثَّالِثَةِ وَإِنْ كان قَرَأَ فَقِرَاءَتُهُ التي وُجِدَتْ في ثَالِثَتِهِ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ إنَّمَا تَنُوبُ عن قِرَاءَةِ الْمُقْتَدِي التي هِيَ فَرْضٌ على الْمُقْتَدِي إذَا كانت فَرْضًا في حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقِرَاءَةُ في الثَّالِثَةِ ليس ( ( ( ليست ) ) ) بِفَرْضٍ في حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا تَنُوبُ عن الْمُقْتَدِي فَيَجِبُ عليه الْقِرَاءَةُ في الثَّالِثَةِ لِهَذَا لَا لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ المؤدي مع الْإِمَامِ أَوَّلُ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً وما يقضي آخِرَهَا حَقِيقَةٌ وَكُلُّ حَقِيقَةٍ يَجِبُ تَقْرِيرُهَا إلَّا إذَا قام الدَّلِيلُ على التَّغْيِيرِ وما أَدْرَكَ في حَقِّ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ فَتَصِيرُ آخِرَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ إلَّا أَنَّ التَّبَعِيَّةَ تَظْهَرُ في حَقِّ ما يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ عن الْمُقْتَدِي لَا في حَقِّ ما لَا يَتَحَمَّلُ فَلَا يَظْهَرُ فيه حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فَانْعَدَمَ الدَّلِيلُ الْمُعْتَبَرُ فَبَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ على وُجُوبِ اعْتِبَارِهَا وَتَقْرِيرِهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبي أَنَّهُ قال ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَالْقَضَاءُ اسْمٌ لِمَا يُؤَدَّى من الْفَائِتِ وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ فَكَانَ ما يُؤَدِّيهِ الْمَسْبُوقُ قَضَاءً لِمَا فَاتَهُ وهو أَوَّلُ الصَّلَاةِ وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُدْرَكَ لَمَّا كان آخِرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي إذْ لو كان أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَفَاتَ الِاتِّفَاقُ بين الْفَرْضَيْنِ وأنه مَانِعُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ فَيَقْضِي الِاتِّفَاقُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّابِعِ ما لِلْمَتْبُوعِ وَإِلَّا فَاتَتْ التَّبَعِيَّةُ وَالدَّلِيلُ على انْعِدَامِ الِاتِّفَاقِ بين أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ في حُكْمِ الْقِرَاءَةِ فإن الْقِرَاءَةَ لَا تُوجَدُ في الْأُولَيَيْنِ
____________________

(1/248)


إلَّا فَرْضًا وَتُوجَدُ في الْأُخْرَيَيْنِ غير فَرْضٍ
وَكَذَا تَجِبُ في الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ ولا تَجِبُ في الْأُخْرَيَيْنِ وَكَذَا الشَّفْعُ الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ على الْأَصَالَةِ وَالشَّفْعُ الثَّانِي مَشْرُوعٌ زِيَادَةً على الْأَوَّلِ فإن الصَّلَاةَ فُرِضَتْ في الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ في السَّفْرِ وَزِيدَتْ في الْحَضَرِ على ما روى في الْخَبَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ وَمَعَ هذا صَحَّ فَدَلَّ على ثُبُوتِ الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ في حَقِّ الْإِمَامِ آخِرَ الصَّلَاةِ فَكَذَا في حَقِّ الْمُقْتَدِي وَلَا حُجَّةَ لهم في الحديث لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ بِآخِرِهِ لَا مَحَالَةَ فإن حَدَّ التَّمَامِ ما إذَا حَرَّرْنَاهُ لم يُحْتَجْ معه إلَى غَيْرِهِ وَذَا لَا يَخْتَصُّ بِأَوَّلٍ وَلَا بِآخِرٍ فإن من كَتَبَ آخِرَ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ كَتَبَ أَوَّلَهُ يَصِيرُ مُتَمِّمًا بِالْأَوَّلِ لَا بِالْآخِرِ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْكِتَابِ بِأَنْ قَرَأَ أَوَّلًا نِصْفَهُ الْأَخِيرِ ثُمَّ الْأَوَّلَ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَعْدَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْأُولَيَيْنِ من الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُبِقَ بِهِمَا فَنَقُولُ الْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ وهو ما روى أَنَّ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا اُبْتُلِيَا بهذا فَصَلَّى جُنْدُبُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ وَصَلَّى مَسْرُوقٌ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ ثُمَّ صلى رَكْعَةً أُخْرَى فَسَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن ذلك فقال كِلَاكُمَا أَصَابَ وَلَوْ كنت أنا لَصَنَعْتُ كما صَنَعَ مَسْرُوقٌ وَإِنَّمَا حَكَمَ بِتَصْوِيبِهِمَا لِمَا أَنَّ ذلك من بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ كما في قَوْله تَعَالَى في قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كل مُجْتَهِدٍ وَيُحْمَلُ على التَّصْوِيبِ في نَفْسِ الِاجْتِهَادِ لَا فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ على ما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ثُمَّ الْعُذْرُ عنه أَنَّ الْمُدْرَكَ مع الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَفِعْلًا لَكِنَّا جَعَلْنَا آخِرَ صَلَاتِهِ حُكْمًا لِلتَّبَعِيَّةِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ فَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً فَكَانَتْ هذه الرَّكْعَةُ ثَانِيَةَ هذا الْمَسْبُوقِ وَالْقَعْدَةُ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ في الْمَغْرِبِ وَاجِبَةٌ إنْ لم تَكُنْ فَرْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ وَكَذَا الْقَعْدَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ اُفْتُرِضَتْ لِأَنَّهَا من حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وُجِدَتْ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ وَاجِبَةَ الِاعْتِبَارِ
وَقَوْلُهُمْ أنها وَقَعَتْ في مَحَلِّهَا فَلَا يُؤْتَى بها ثَانِيًا
قُلْنَا هِيَ وَإِنْ وَقَعَتْ في آخِرِ الصَّلَاةِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي كما وَقَعَتْ في حَقِّ الْإِمَامِ غير أنها ما وَقَعَتْ فَرْضًا في حَقِّ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا ما كانت لِوُقُوعِهَا في آخِرِ الصَّلَاةِ بَلْ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بها حتى إن الْمُتَطَوِّعَ إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ انْقَلَبَتْ قَعْدَتُهُ وَاجِبَةً عِنْدَنَا ولم تَبْقَ فَرْضًا لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ فَكَذَا هذه الْقَعْدَةُ عِنْدَنَا جُعِلَتْ فِعْلًا في حَقِّ الْمَسْبُوقِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِمَّا سَبَقَ جاء أَوَانُ التَّحَلُّلِ فَافْتُرِضَتْ الْقَعْدَةُ
وَأَمَّا حُكْمُ الْقِرَاءَةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَنَقُول إذَا أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ رَكْعَةً من الْمَغْرِبِ ثُمَّ قام إلَى الْقَضَاءِ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ
وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ في الْأُولَيَيْنِ فَرْضٌ فَتَرْكُهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا على قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ فَلِعِلَّةٍ أُخْرَى على ما ذَكَرْنَا
وكذلك إذَا أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ منها قَضَى رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ
وَلَوْ أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ رَكْعَةً في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَقَامَ إلَى الْقَضَاءِ قَضَى رَكْعَةً يَقْرَأُ فيها بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَيَتَشَهَّدُ
ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْضِي رَكْعَةً أُخْرَى يَقْرَأُ فيها بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَاهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا قُلْنَا
وفي الثَّالِثَةِ هو بِالْخِيَارِ
وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ على ما عُرِفَ
وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ منها قَضَى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بين ما إذَا قَرَأَ إمَامُهُ في الْأُولَيَيْنِ وَبَيْنَ ما إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا وَقَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ وَأَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ في الْأُخْرَيَيْنِ تَلْتَحِقُ بِالْأُولَيَيْنِ فَتَخْلُو الْأُخْرَيَانِ عن الْقِرَاءَةِ فَكَأَنَّهُ لم يَقْرَأْ فِيهِمَا والله أعلم
وَأَمَّا إذَا فَاتَ شَيْءٌ عن مَحَلِّهِ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ في آخِرِ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَرَكَ شيئا من سَجَدَاتِ صَلَاتِهِ سَاهِيًا
ثُمَّ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَضَاهُ
سَوَاءٌ كان الْمَتْرُوكُ سَجْدَةً وَاحِدَةً أو أَكْثَرَ
وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ من أَيَّةِ رَكْعَةٍ تَرَكَهُ أو لم يَعْلَمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ في كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْمَعْرُوفَةُ بِالسَّجَدَاتِ
فَصْلٌ وأما ( ( ( والكلام ) ) ) الكلام في مَسَائِلِ السَّجَدَاتِ يَدُورُ على أُصُولٍ منها أَنَّ السَّجْدَةَ الْأَخِيرَةَ إذَا فَاتَتْ عن مَحَلِّهَا وَقُضِيَتْ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا على ما هو الْأَصْلُ في الْقَضَاءِ
وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ إذَا تَرَدَّدَتْ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ أَوْلَى
وَإِنْ كان لِلْجَوَازِ وُجُوهٌ وَلِلْفَسَادِ وَجْهٌ وَاحِدٌ
لِأَنَّ الْوُجُوبَ كان ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ
وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيمَا
____________________

(1/249)


قُلْنَا
لِأَنَّ إعَادَةَ ما ليس عليه أَوْلَى من تَرْكِ ما عليه
وَمِنْهَا أَنَّ السَّجْدَةَ الْمُؤَدَّاةَ في وَقْتِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَاَلَّتِي صَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ لها من النِّيَّةِ لِأَنَّهَا إذَا أُدِّيَتْ في مَحَلِّهَا تَنَاوَلَتْهَا نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ
فَإِنَّهَا جُعِلَتْ مُتَنَاوِلَةً كُلَّ فِعْلٍ في مَحَلِّهِ الْمُتَعَيِّنِ له شَرْعًا
فَأَمَّا ما وُجِدَ في غَيْرِ مَحَلِّهِ فلم تَتَنَاوَلْهُ النِّيَّةُ الْحَاصِلَةُ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ كان تَرْكُ الْبِدْعَةِ وَاجِبًا وَتَحْصِيلُ الْوَاجِبِ أَوْلَى من تَحْصِيلِ السُّنَّةِ وَمَتَى دَار بين الْبِدْعَةِ وَالْفَرِيضَةِ كان التَّحْصِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ وَاجِبٌ وَالْفَرْضُ أَهَمُّ من الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْفَرْضِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَتَحْصِيلَ الْبِدْعَةِ لَا يُفْسِدُهَا فَكَانَ تَحْصِيلُ الْفَرْضِ أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَتْرُوكَ مَتَى دَارَ بين سَجْدَةٍ وَرَكْعَةٍ يَأْتِي بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَأْتِي بِالرَّكْعَةِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كان سَجْدَةً فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَيَتَشَهَّدُ وَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ رَكْعَةً لَا يَضُرُّهُ تَحْصِيلُ زِيَادَةِ السَّجْدَةِ وَإِنَّمَا لَا يَبْدَأُ بِالرَّكْعَةِ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لو كان هو الرَّكْعَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كان هو السَّجْدَةَ فإذا أتى بِالرَّكْعَةِ فَقَدْ زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً في خِلَالِ صَلَاتِهِ قبل تَمَامِ الصَّلَاةِ فَانْعَقَدَتْ الرَّكْعَةُ تَطَوُّعًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا من الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قبل تَمَامِ الْفَرْضِ فَيَفْسُدُ فَرْضُهُ وإذا سَجَدَ قَعَدَ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لو كان سَجْدَةً تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَافْتُرِضَتْ الْقَعْدَةُ
وَلَوْ صلى رَكْعَةً قبل التَّشَهُّدِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُنْتَقِلًا من الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قبل تَمَامِ الْفَرْضِ
وَلَوْ كان الْمَتْرُوكُ هو الرَّكْعَةَ لَا يَضُرُّهُ تَحْصِيلُ السَّجْدَةِ وَالْقَعْدَةِ وقد دَارَتْ بين الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ فَكَانَ التَّحْصِيلُ أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنَّ زِيَادَةَ ما دُونَ الرَّكْعَةِ قبل إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرِيضَةِ بِأَنْ زَادَ رُكُوعًا أو سُجُودًا أو قِيَامًا أو قُعُودًا إلَّا على رِوَايَةٍ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ زِيَادَةَ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ مُفْسِدَةٌ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ قبل إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ يُفْسِدُهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لِمَا مَرَّ من الْفِقْهِ
وَمِنْهَا أَنَّ التَّرْتِيبَ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَكُونُ رُكْنًا وَتَرْكُهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا كان أو سَهْوًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أو الثَّلَاثِ من الْمَكْتُوبَاتِ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرِيضَةٌ لِمَا مَرَّ أَيْضًا
وَمِنْهَا أَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَجِبُ بِتَأْخِيرِ رُكْنٍ عن مَحَلِّهِ وَتُؤَدَّى بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا وقد مَرَّ هذا أَيْضًا
وَمِنْهَا أَنْ يُنْظَرَ في تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ إلَى الْمُؤَدَّيَاتِ من السَّجَدَاتِ وَإِلَى الْمَتْرُوكَاتِ فَتُخَرَّجُ على الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَعِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا يُخَيَّرُ لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وإذا عَرَفْتَ الْأُصُولَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ إذَا تَرَكَ سَجْدَةً من هذه الصَّلَوَاتِ فَالْمَتْرُوكُ منه إمَّا إن كان صَلَاةَ الْفَجْرِ وَإِمَّا إن كان صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ وأما إن كان صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ على رَكَعَاتِ هذه الصَّلَوَاتِ أو لم يَزِدْ فَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ منه صَلَاةَ الْغَدَاةِ ولم يَزِدْ على رَكْعَتَيْهَا فَتَرَكَ منها سَجْدَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قبل أَنْ يُسَلِّمَ أو بعد ما سَلَّمَ قبل أَنْ يَتَكَلَّمَ سَجَدَهَا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا من الرَّكْعَةِ الْأُولَى أو من الثَّانِيَةِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّهَا فَاتَتْ عن مَحَلِّهَا ولم تَفْسُدْ الصَّلَاةُ بِفَوَاتِهَا فَلَا بُدَّ من قَضَائِهَا لِأَنَّهَا رُكْنٌ
وَلَوْ لم يَقْضِ حتى خَرَجَ عن الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَالْقِرَاءَةِ في الْأُولَيَيْنِ إذَا فَاتَتْ عنهما تُقْضَى في الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّهَا رُكْنٌ لو لم تُقْضَ حتى خَرَجَ عن الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَلَا بُدَّ من الْقَضَاءِ وَإِنْ فَاتَتْ عن مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ لِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِقِيَامِ التَّحْرِيمَةِ كَذَا هذا وَيَنْوِي الْقَضَاءَ عِنْدَ تَحْصِيلِ هذه السَّجْدَةِ لِأَنَّهَا إنْ كانت من الرَّكْعَةِ الْأُولَى تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ الْقَضَاءِ وَإِنْ كانت من الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَحْتَاجُ لِأَنَّ نِيَّةَ أَصْلِ الصَّلَاةِ تَنَاوَلَتْهُ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَأْتِي بِالنِّيَّةِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ يَنْوِي ما عليه من السَّجْدَةِ في هذه الصَّلَاةِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ سَجْدَةٍ مَتْرُوكَةٍ يَسْجُدُهَا في هذا الْكِتَابِ وَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ السَّجْدَةِ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ في غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ من التَّشَهُّدِ وَلَوْ تَرَكَهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِمَا مَرَّ وَإِنْ تَرَكَ منها سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا من رَكْعَتَيْنِ أو من الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فإنه يَسْجُدُهُمَا وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمَا من رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تُقَيَّدُ كُلُّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ وَتَوَقَّفَ تَمَامُهَا على سَجْدَةِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ
وإذا تَرَكَهُمَا من الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيُتِمُّهَا بِسَجْدَتَيْنِ على وَجْهِ الْأَدَاءِ لِوُجُودِهِمَا في مَحَلِّهِمَا
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا من الرَّكْعَةِ الْأُولَى صلى رَكْعَةً
____________________

(1/250)


وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَمَّا رَكَعَ ولم يَسْجُدْ حتى رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ صَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلْغُوَ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ ما وُجِدَ من السَّجْدَتَيْنِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَلْتَحِقَانِ بِأَحَدِ الرُّكُوعَيْنِ لَكِنَّهُمَا يَلْتَحِقَانِ بِالْأَوَّلِ أو بِالْآخِرِ يُنْظَرُ في ذلك إنْ كان الرُّكُوعُ ( الأول ) قبل الْقِرَاءَةِ يَلْتَحِقَانِ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي وَيَلْغُو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ وَقَعَ قبل أَوَانِهِ إذْ أَوَانُهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ ولم تُوجَدْ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَالرُّكُوعُ الثَّانِي وَقَعَ في أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا حتى أَنَّ من أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ كان مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ كُلِّهَا
وَلَوْ أَدْرَكَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ كان الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَالثَّانِي كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ
وفي رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ الْمُعْتَبَرِ هو الْأَوَّلُ وَيُضَمُّ السَّجْدَتَانِ لِلسَّهْوِ وَيَلْغُو الثَّانِي وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ لم يَكُنْ مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ صلى رَكْعَةً كَامِلَةً لِأَنَّهُ إنْ كان تَرَكَ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ من الْأُولَى وَالْأُخْرَى من الثَّانِيَةِ فإن صَلَاتَهُ تَتِمُّ بِسَجْدَتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقَيَّدَتْ بِالسَّجْدَةِ فَيَلْتَحِقُ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةٌ فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ وَتَكُونُ السَّجْدَتَانِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ لِفَوَاتِهِمَا عن مَحَلِّهِمَا
وَإِنْ كان تَرَكَهُمَا من الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَلَيْسَ عليه إلَّا السَّجْدَتَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَقَدْ حَصَلَتْ السَّجْدَتَانِ على وَجْهِ الْأَدَاءِ لِحُصُولِهِمَا بَعْدَهُمَا عَقِيبَ هذه الرَّكْعَةِ فَيُحْكَمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَا رَكْعَةَ عليه في هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
وَإِنْ كان تَرَكَهُمَا من الرَّكْعَةِ الْأُولَى صلى رَكْعَةً ثُمَّ ما وُجِدَ من السَّجْدَتَيْنِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَلْتَحِقَانِ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ إنْ كان الرُّكُوعُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ على رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ وَحَصَلَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ مُكَرَّرًا فلم يَكُنْ بِهِمَا عِبْرَةٌ فَتَحْصُلُ له رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْوَاجِبُ عليه قَضَاءُ رَكْعَةٍ وَعَلَى رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ تَنْصَرِفُ السَّجْدَتَانِ إلَى الرُّكُوعِ الثَّانِي لِقُرْبِهِمَا منه فِعْلًا على ما مَرَّ وَيَرْتَفِضُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ وَالْقِيَامُ قَبْلَهُ وَيَلْغُوَانِ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جميعا في هذه الْحَالَةِ تَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ فَفِي حَالَتَيْنِ يَجِبُ سَجْدَتَانِ وفي حَالَةٍ رَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ وَيَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كان سَجْدَتَيْنِ تَتِمُّ صَلَاتُهُ بِهِمَا وَبِالتَّشَهُّدِ بَعْدَهُمَا فَالرَّكْعَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْفَرْضِ لَا تَضُرُّ وَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ رَكْعَةً فَزِيَادَةُ السَّجْدَتَيْنِ وَقَعْدَةٍ لَا تَضُرُّ أَيْضًا
وَلَوْ بَدَأَ بِالرَّكْعَةِ قبل السَّجْدَتَيْنِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كان رَكْعَةٌ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِهِمَا وَإِنْ كان سَجْدَتَانِ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ قبل إكْمَالِ الْفَرْضِ تُفْسِدُ الفرض لِمَا مَرَّ ( وَيَقْعُدُ بين السَّجْدَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك آخِرُ صَلَاتِهِ على بَعْضِ الْوُجُوهِ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَتَيْنِ الْقَضَاءَ وَإِنْ كان ذلك مُتَرَدِّدًا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ على شَيْءٍ يَعْمَلُ بِهِ وَإِنْ لم يَقَعْ تَحَرِّيهِ على شَيْءٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِأَنَّ الْمُؤَدَّى أَقَلُّ فَيُعْتَبَرُ ذلك فَنَقُولُ لَا يَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْمِيلًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَلَا يَتَشَهَّدُ هَهُنَا لِأَنَّ بِتَحْصِيلِ رَكْعَةٍ لَا يَتَوَهَّمُ تَمَامَ الصَّلَاةِ لِيَتَشَهَّدَ بَلْ عليه أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَةِ قَضَاءَ الْمَتْرُوكَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ إنَّمَا أتى بِسَجْدَةٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فإذا لم يَنْوِ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ الْقَضَاءَ تَتَقَيَّدُ بها الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ فإذا قام بَعْدَهَا وَصَلَّى رَكْعَةً كان مُتَنَفِّلًا بها قبل إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وإذا نَوَى بها الْقَضَاءَ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا وَانْتَقَضَ الرُّكُوعُ الْمُؤَدَّى بَعْدَهَا لِأَنَّ ما دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَلِهَذَا يَنْوِي بها الْقَضَاءَ
ولم يذكر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لو تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مَاذَا يَفْعَلُ
وَقِيلَ إنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً من غَيْرِ تَشَهُّدٍ بين السَّجْدَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ لِأَنَّهُ في الْحَقِيقَةِ قام وَرَكَعَ مَرَّتَيْنِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِيَلْتَحِقَ ( بِأَحَدِ الرُّكُوعَيْنِ ) على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَلْغُو الرُّكُوعُ الْآخَرُ وَقِيَامُهُ وَيَحْصُلُ له رَكْعَةٌ فبعد ( ( ( وبعد ) ) ) ذلك إنْ صلى رَكْعَةً تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ تَرَكَ من الظُّهْرِ أو من الْعَصْرِ أو من الْعِشَاءِ سَجْدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً وَيَتَشَهَّدُ على ما ذَكَرْنَا في الْفَجْرِ
وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُمَا من رَكْعَتَيْنِ أَيَّتُهُمَا كَانَتَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَكَذَا لو تَرَكَهُمَا من الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ
وإن تَرَكَهُمَا من إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ لِأَنَّ قِيَامًا وَرُكُوعًا ارْتَفَضَا على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ
فإذا كان يَجِبُ في حَالٍ رَكْعَةٌ وفي حَالٍ سَجْدَتَانِ يُجْمَعُ بين الْكُلِّ احْتِيَاطًا
وإذا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يَقْعُدُ لِجَوَازِ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرْضٌ وَيَنْوِي بِالسَّجْدَتَيْنِ ما عليه لِجَوَازِ إن تَرْكَهُمَا من ثِنْتَيْنِ قبل الْأَخِيرَةِ أو من رَكْعَةٍ قَبْلَهَا وَيَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ احْتِيَاطًا لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ
____________________

(1/251)


وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ من الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَيُقَيِّدُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً من إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ من الرَّابِعَةِ فَيُتِمُّ الرَّابِعَةَ بِسَجْدَتَيْنِ وَيَلْتَحِقُ سَجْدَةٌ بِمَحَلِّهَا وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ من رَكْعَةٍ من الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَةً من رَكْعَةٍ فَيَلْغُو قِيَامٌ وَرُكُوعٌ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ لِتَنْضَمَّ إلَى تِلْكَ الرَّكْعَةِ التي سَجَدَ فيها سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ في حَالَتَيْنِ وَرَكْعَةٌ في حَالٍ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ على الرَّكْعَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَنْوِي بِالسَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ ما عليه لِمَا مَرَّ وَيَجْلِسُ بين السَّجَدَاتِ وَالرَّكْعَةِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لو تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ من أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ من رَكْعَتَيْنِ من الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ من الرَّابِعَةِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ وَلَوْ تَرَكَ الْأَرْبَعَ كُلَّهَا من الرَّكْعَتَيْنِ من الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ في رَكْعَةٍ منها وَسَجْدَتَيْنِ في الرَّابِعَةِ فَقَدْ لَغَا قِيَامَانِ وَرُكُوعَانِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عليه رَكْعَتَانِ
وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ من رَكْعَةٍ من إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ من رَكْعَتَيْنِ من الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ وَسَجْدَتَانِ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ على الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّ تَقْدِيمَهَا لَا يَضُرُّ وَتَقْدِيمُ الرَّكْعَتَيْنِ يُفْسِدُ الْفَرْضَ على بَعْضِ الْوُجُوهِ لِمَا بَيَّنَّا وَالصَّلَاةُ إذَا فَسَدَتْ من وَجْهٍ يُحْكَمُ بِفَسَادِهَا احْتِيَاطًا لِمَا مَرَّ وَيَنْوِي في ثَلَاثِ سَجَدَاتٍ ما عليه لِأَنَّ ثِنْتَيْنِ فيها قَضَاءٌ لَا مَحَالَةَ وَالرَّابِعَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهَا إمَّا إن كانت زَائِدَةً أو من الرَّابِعَةِ فَلَا يَنْوِي فيها وَالثَّالِثَةُ مُحْتَمَلَةٌ يُحْتَمَلُ إنها من الرَّابِعَةِ وَيُحْتَمَلُ إنها من إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَيَنْوِي احْتِيَاطًا
وإذا سَجَدَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَتَشَهَّدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذلك آخِرُ صَلَاتِهِ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرِيضَةٌ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَتَشَهَّدُ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ عليه رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَيَكُونُ ما بَعْدَ الرَّكْعَةِ آخِرَ صَلَاتِهِ فَلَا بُدَّ من الْقَعْدَةِ فَيَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى وَيَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَيَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ
وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهَهُنَا يُعْتَبَرُ الْمُؤَدَّى لِأَنَّهُ أَقَلُّ
فَهَذَا رَجُلٌ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنْ سَجَدَهَا في ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَقَيَّدَتْ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ في رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً في رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَتَانِ فَفِي حَالٍ عليه ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ وفي حَالٍ رَكْعَتَانِ وَسَجْدَةٌ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ على الرَّكْعَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا
وإذا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَهَلْ يَقْعُدُ قبل أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَا يَقْعُدُ لِأَنَّهُ لو كان سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ في ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فإذا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ الْتَحَقَتْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةٌ فَتَمَّتْ الثَّلَاثُ وَالْقَعْدَةُ على رَأْسِ الثَّالِثَةِ بِدْعَةٌ
وَلَوْ كان سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ في رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً في رَكْعَةٍ فإذا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ تَمَّتْ له رَكْعَتَانِ وَسَجْدَتَانِ إلَّا أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ لَغَتَا وَالْقَعْدَةُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا سُنَّةٌ فَدَارَتْ الْقَعْدَةُ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَكَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِنْ كانت وَاجِبَةً لَكِنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وهو أَهَمُّ من الْوَاجِبِ فَكَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى
وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَقْعُدُ بَعْدَ السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ لَمَّا دَارَتْ بين الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ كان تَحْصِيلُ الْوَاجِبِ مُسْتَحَبًّا فَقَالُوا يَقْعُدُ هَهُنَا قَعْدَةً مُسْتَحَبَّةً لَا مُسْتَحَقَّةً
لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بالفرائض ( ( ( بالفرض ) ) ) في حَقِّ الْعَمَلِ
ثُمَّ بَعْدَ ذلك يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ لِأَنَّ هذه رَابِعَتُهُ من وَجْهٍ بِأَنْ كان أَدَّى السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ في ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
فإذا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ تَمَّتْ له ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ
وإذا صلى رَكْعَةً فَهَذِهِ رَابِعَتُهُ وَالْقَعْدَةُ بَعْدَهَا فَرْضٌ وَهِيَ ثَالِثَتُهُ من وَجْهٍ بِأَنْ أَدَّى السَّجْدَتَيْنِ من رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً من رَكْعَةٍ
فإذا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ الْتَحَقَتْ سَجْدَةٌ بِالرَّكْعَةِ التي سَجَدَ فيها سَجْدَةً وَتَمَّتْ له رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ هذه ثَالِثَتَهُ
وَالْقَعْدَةُ بَعْدَهَا بِدْعَةٌ فَدَارَتْ بين الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ فَيُغَلَّبُ الْفَرْضُ
لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ وَإِنْ كان فَرْضًا وَاسْتَوَيَا من هذا الْوَجْهِ لَكِنْ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْفَرْضِ لِمَا في تَرْكِ الْفَرْضِ من ضَرَرِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ثُمَّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ويسلم ( ( ( ثم ) ) ) وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لِأَنَّهُ ما سَجَدَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ سَجَدَهُمَا في رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَإِنْ سَجَدَهُمَا في رَكْعَتَيْنِ
____________________

(1/252)


فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَتِمَّ الرَّكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ أُخْرَاوَانِ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيُقَدِّمُ السَّجْدَتَيْنِ لِمَا قُلْنَا وَبَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ هل يجلس ( ( ( يسجد ) ) ) أَمْ لَا
على ما ذَكَرْنَا من اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ دَائِرَةٌ بين أنها بَعْدَ رَكْعَةٍ أَمْ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ إنْ كان سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ في رَكْعَةٍ كانت الْقَعْدَةُ بَعْدَ رَكْعَةٍ
وَإِنْ كان سَجَدَهُمَا في رَكْعَتَيْنِ كانت الْقَعْدَةُ بين الرَّكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ رَكْعَةٍ بِدْعَةً وَبَعْدَهُمَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبَةٌ
وَكَذَا هذا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا صلى بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِكَوْنِ الرَّكْعَةِ دَائِرَةً بين كَوْنِهَا ثَانِيَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثَالِثَةً لِأَنَّهُ إنْ كان سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ في رَكْعَةٍ كانت هذه الرَّكْعَةُ ثَانِيَةً وَإِنْ كان سَجَدَهُمَا في رَكْعَتَيْنِ كانت هذه الرَّكْعَةُ ثَالِثَةً وإذا صلى رَكْعَةً أُخْرَى يَجْلِسُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهَا دَائِرَةً بين كَوْنِهَا رَابِعَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثَالِثَةً فَافْهَمْ وَلَوْ تَرَكَ سَبْعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لِأَنَّهُ ما سَجَدَ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً فلم تَتَقَيَّدْ إلَّا رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ سَجْدَةُ لِتَتِمَّ هذه الرَّكْعَةُ وَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِتَتِمَّ الْأَرْبَعُ
وَلَوْ تَرَكَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ
لِأَنَّهُ أتى بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ
فإذا أتى بِسَجْدَتَيْنِ يَلْتَحِقَانِ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ
وَيَرْتَفِضُ الْبَاقِي على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ
فَيَصِيرُ مُصَلِّيًا رَكْعَةً فَيَكُونُ عليه ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِتَتِمَّ الْأَرْبَعُ
وَلَوْ تَرَكَ من الْمَغْرِبِ سَجْدَةً سَجَدَهَا لَا غَيْرُ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ
وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِمَا بَيَّنَّا وَيَقْعُدُ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنَّ فَرْضَهُ تَمَّ بِأَنْ تَرَكَهَا من رَكْعَتَيْنِ
وَالرَّكْعَةُ تَكُونُ تَطَوُّعًا
فَلَا بُدَّ من الْقُعُودِ وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَةً
لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ من ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
فإذا سَجَدَهَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَيَتَشَهَّدُ
وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً من إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ من الثَّالِثَةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ
وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ من إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالْعِبْرَةُ في هذا لِلْمُؤَدَّاةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ فَهَذَا رَجُلٌ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ سَجَدَهُمَا في رَكْعَةٍ فَقَدْ صلى رَكْعَةً فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ وَإِنْ سَجَدَهُمَا في رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تَقَيَّدَ بِكُلِّ سَجْدَةٍ رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِيَتِمَّا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً
فَفِي حَالٍ عليه رَكْعَتَانِ وفي حَالٍ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ الْجِلْسَةُ مُخْتَلَفٌ فيها وَأَكْثَرُهُمْ على أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ على ما مَرَّ وَبَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ يَجْلِسُ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أنها ثَالِثَةٌ
وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عن الرَّكْعَةِ التي قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّهُ لو لم يَنْوِ وقد كان قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسَّجْدَةِ لَالْتَحَقَتْ هذه السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي أو الثَّالِثِ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ
فَيَتَقَيَّدُ له رَكْعَتَانِ يَتَوَقَّفَانِ على سَجْدَتَيْنِ فإذا صلى رَكْعَتَيْنِ قبل أَدَائِهَا بين السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتِمُّ بِهِمَا الرَّكْعَتَانِ الْمُقَيَّدَتَانِ فَسَدَتْ فَرْضِيَّةُ صَلَاتِهِ فإذا نَوَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عن الرَّكْعَةِ التي تَقَيَّدَتْ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ تَمَّتْ بِهِ فَبَعْدَ ذلك يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْعُدُ بين الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّ هذه ثَانِيَتُهُ بِيَقِينٍ فلم يَكُنْ في الْقَعْدَةِ شُبْهَةُ الْبِدْعَةِ
وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ أتى بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِتَلْتَحِقَا بِرُكُوعٍ منها على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَتَتِمُّ له رَكْعَةٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ لِعَدَمِ شُبْهَةِ الْبِدْعَةِ ثُمَّ أُخْرَى وَيَقْعُد فَرْضًا
هذا إذَا كان لم يَزِدْ على عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ فَأَمَّا إذَا زَادَ بِأَنْ صلى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَإِنْ تَرَكَ منها سَجْدَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعًا لم تَفْسُدْ وَالْأَصْلُ في هذه الْمَسَائِلِ إن الصَّلَاةَ مَتَى دَارَتْ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ نَحْكُمُ بِفَسَادِهَا احْتِيَاطًا
وَإِنَّ من انْتَقَلَ من الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ وَقَيَّدَ النَّفَلَ بِالسَّجْدَةِ قبل تمام ( ( ( إتمام ) ) ) الْفَرْضِ بِأَنْ بَقِيَ عليه الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ أو بَقِيَ عليه سَجْدَةٌ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ من ضَرُورَةِ دُخُولِهِ في النَّفْلِ خُرُوجُهُ عن الْفَرْضِ وقد بَقِيَ عليه رُكْنٌ فَيَفْسُدُ فَرْضُهُ كما لو اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ قبل تَمَامِ الْفَرْضِ
وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّهُ إذَا زَادَ على رَكَعَاتِ الْفَرْضِ رَكْعَةً يَضُمُّ الرَّكْعَةَ الزَّائِدَةَ إلَى الرَّكَعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَيَنْظُرُ إلَى عَدَدِهَا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى سَجَدَاتِ عَدَدِهَا فَتَكُونُ سَجَدَاتُ الْفَجْرِ بِالْمَزِيدِ سِتًّا لِأَنَّهَا مع الرَّكْعَةِ الزَّائِدَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَانِ وَسَجَدَاتُ الظُّهْرِ بِالْمَزِيدِ عَشْرًا وَسَجَدَاتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَزِيدِ ثَمَانِيًا
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ من النِّصْفِ أو النِّصْفَ يُحْكَمُ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ أتى في كل رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ فَتَتَقَيَّدُ رَكَعَاتُ الْفَرْضِ كُلُّهَا ثُمَّ انْتَقَلَ منها إلَى الرَّكْعَةِ الزَّائِدَةِ
____________________

(1/253)


وَهِيَ تَطَوُّعٌ قبل أَدَاءِ تِلْكَ السَّجَدَاتِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ من النِّصْفِ يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمَفْرُوضَ مع الزَّائِدِ لم يَتَقَيَّدْ الْكُلُّ فإن الْفَجْرَ مع الزَّائِدِ لم يَتَقَيَّدْ بِسَجْدَتَيْنِ بَلْ لو تَقَيَّدَ تَقَيَّدَ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِسَجْدَتَيْنِ فلم يُوجَدْ الِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ بَعْدُ وَكَذَا خَمْسُ رَكَعَاتٍ في الظُّهْرِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَلَا الْمَغْرِبُ مع الزِّيَادَةِ بِثَلَاثِ سَجَدَاتٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ ثُمَّ في كل مَوْضِعٍ لم تَفْسُدْ فَتَكُونُ الْمُؤَدَّيَاتُ أَقَلَّ لَا مَحَالَةَ فَيَنْظُرُ إلَى الْمُؤَدَّيَاتِ في ذلك الْفَرْضِ ثُمَّ يتم ( ( ( يتمم ) ) ) الْفَرْضَ على ما بَيَّنَّا
وإذا عَرَفْتِ هذه الْأُصُولَ فَنَقُولُ إذَا صلى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ منها سَجْدَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا من الْأُولَى أو من الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِسَجْدَةٍ فَقَدْ انْعَقَدَتْ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا من الْفَرْضِ ضَرُورَةَ دُخُولِهِ في النَّفْلِ فَخَرَجَ من الْفَرْضِ وقد بَقِيَ عليه منه سَجْدَةٌ فَفَسَدَ فَرْضُهُ كما لو صلى الفرض ( ( ( الفجر ) ) ) رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ منها سَجْدَةً فلم يَسْجُدْهَا حتى قام وَذَهَبَ
وَإِنْ تَرَكَهَا من الثَّالِثَةِ لَا تَفْسُدُ فَدَارَتْ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَنَحْكُمُ بِالْفَسَادِ فَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ فكذلك لأنه إنْ تَرَكَ سَجْدَةً من الْأُولَى وَسَجْدَةً من الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَقَيُّدِ كل وَاحِدَةٍ من رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ بِسَجْدَةٍ ثُمَّ دخل في النَّفْلِ قبل الْفَرَاغِ من الْفَرْضِ
وكذلك إنْ تَرَكَ سَجْدَةً من إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَسَجْدَةً من الثَّالِثَةِ لِأَنَّ تَرْكَ سَجْدَةٍ من الْأُولَيَيْنِ يَكْفِي لِفَسَادِ الْفَرْضِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ تَرَكَهُمَا من الثَّالِثَةِ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ لِأَنَّهُ قد صلى رَكْعَتَيْنِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْنِ فَإِذًا في حَالَيْنِ تَفْسُدُ وفي حَالٍ تَجُوزُ وَلَوْ كانت تَجُوزُ في حَالَيْنِ وَتَفْسُدُ في حَالٍ لَلَزِمَ الْفَسَادُ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْقَوْلَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْتَمِلُ أَحَدُهُمَا الْجَوَازَ وَالْآخَرُ الْفَسَادَ على ما بَيَّنَّا فَنَحْكُمُ بِالْفَسَادِ وَمِنْ الْمَشَايِخِ من حَقَّقَ الْقَوْلَيْنِ فقال في قَوْلٍ تَفْسُدُ لِمَا قُلْنَا وفي قَوْلٍ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ على أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ الْمَتْرُوكَتَيْنِ من الثَّالِثَةِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ على أَنَّهُ تَرَكَهَا من الثَّالِثَةِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ
وَكَذَلِكَ لو تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ تَفْسُدُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ من النِّصْفِ فَهَذَا الرَّجُلُ ما سَجَدَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ سَوَاءٌ سَجَدَهُمَا في رَكْعَتَيْنِ أو في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فلم يَصِرْ بِذَلِكَ خَارِجًا من الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ لِأَنَّ الزَّائِدَ على الرَّكْعَتَيْنِ أَقَلُّ من رَكْعَةٍ فلم يَصِرْ مُنْتَقِلًا إلَى النَّفْلِ بَعْدُ فَلَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ وَيَتَشَهَّدَ وَلَا يُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَةً كَامِلَةً لِأَنَّهُ قد أتى بِسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ كان أتى بِهِمَا في رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان أتى بِهِمَا في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ فَيَجْمَعُ بين الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ أَوَّلًا وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَصَارَ هذا كما ( إذا ) لو صلى الْغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ منها سَجْدَتَيْنِ وَجَوَابُهُ ما ذَكَرْنَا
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ هذا الرَّجُلَ ما صلى إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى لِتَتِمَّ الرَّكْعَةُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى كما إذَا صلى الْغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ منها ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَالْجَوَابُ فيه ما ذَكَرْنَا فَكَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ لِأَنَّهُ لم يَسْجُدْ شيئا وَإِنَّمَا رَكَعَ ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ فَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْنِ حتى يَصِيرَ له رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى كما إذَا صلى الْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَك منها أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ
وَعَلَى هذا إذَا صلى الظُّهْرَ أو الْعَصْرَ أو الْعِشَاءَ خَمْسًا وَتَرَكَ منها سَجْدَةً ثُمَّ قام وَذَهَبَ
وَلَوْ تَرَكَ منها سَجْدَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إنْ تَرَكَهَا من الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ
وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ ثَلَاثًا أو أَرْبَعًا أو خَمْسًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَ من كل رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَتَرَكَ ثَلَاثًا من ثَلَاثٍ وَأَرْبَعًا من الْأَرْبَعِ وَخَمْسًا من خَمْسٍ وَذَلِكَ جِهَةُ الْفَسَادِ
وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هَهُنَا أَكْثَرُ لِأَنَّهُ ما سَجَدَ إلَّا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ أُخَرَ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَكُونُ كما إذَا صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ منها أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَالْجَوَابُ وَالْمَعْنَى فيه ما ذَكَرْنَا هُنَالِكَ كَذَا هَهُنَا
وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ منها سَبْعًا أو ثَمَانِيًا أو تِسْعًا أو عَشْرًا فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا صلى أَرْبَعًا وَتَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أو سَجْدَتَيْنِ أو سَجْدَةً أو لم يَسْجُدْ رَأْسًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ وَلَا الْمَعْنَى وقد مَرَّ ذلك كُلُّهُ
وَكَذَلِكَ لو صلى الْمَغْرِبَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ منها سَجْدَةً أو سَجْدَتَيْنِ أو ثَلَاثًا أو أَرْبَعًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إذَا صَلَّاهَا خَمْسًا وَتَرَكَ منها خَمْسَ سَجَدَاتٍ أو أَقَلَّ ولو تَرَكَ منها
____________________

(1/254)


خَمْسَ سَجَدَاتٍ أو سِتًّا أو سَبْعًا لَا تَفْسُدُ وَيُنْظَرُ إلَى الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ ما إذَا صلى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ منها ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أو أَرْبَعًا أو خَمْسًا وَهُنَاكَ يُنْظَرُ إلَى الْمُؤَدَّى من السَّجَدَاتِ فَيَضُمُّ إلَى كل سَجْدَةٍ أَدَّاهَا سَجْدَةً ثُمَّ يُتِمُّ صَلَاتَهُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا هُنَاكَ كذا هَهُنَا
وَلَوْ كَبَّرَ رَجُلٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ فَصَلَّى إمَامُهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ من كل رَكْعَةٍ سَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ النَّائِمَ بَعْدَ ما انْتَبَهَ فإنه يُشِيرُ إلَيْهِمْ حتى لَا يَتْبَعُوهُ فَيُصَلِّيَ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ يَسْجُدُ فَيَتْبَعُهُ الْقَوْمُ في السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَكَذَا يُصَلِّي الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ وَالْإِمَامُ مُسِيءٌ بِتَقْدِيمِهِ النَّائِمَ يَنْبَغِي له أَنْ يُقَدِّمَ من أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَكَذَا لو لم يَنَمْ وَلَكِنَّهُ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جاء فَقَدَّمَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ مُسَافِرًا كان أو مُقِيمًا لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا له أَنْ يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على إتْمَامِ الصَّلَاةِ على الْوَجْهِ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ السَّجَدَاتِ كما وَجَبَ على الْإِمَامِ الْأَوَّلِ لَصَارَ مُرْتَكِبًا أَمْرًا مَكْرُوهًا لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ وَالْمُدْرِكُ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَإِنْ ابْتَدَأَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَقَدْ أَلْجَأَ الْقَوْمَ إلَى زِيَادَةِ مُكْثٍ في الصَّلَاةِ فإنه يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشِيرَ لِئَلَّا يَتْبَعُوهُ في كل رَكْعَةٍ مع سَجْدَةٍ فإذا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ يُتَابِعُونَهُ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا الرَّكَعَاتِ فَلَيْسَ لهم أَنْ يُصَلُّوا ثَانِيًا فلما كان تَقَدُّمُهُ يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا أَنْ يَتَقَدَّمَ هو وَلَوْ تَقَدَّمَ مع هذا وَاشْتَغَلَ بِالْمَتْرُوكَاتِ أَوَّلًا وَتَابَعَهُ الْقَوْمُ جَازَ لِكَوْنِهِ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ وَإِنْ كانت هذه السَّجَدَاتُ لَا تُحْتَسَبُ من صَلَاتِهِ لَا يَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لِأَنَّ هذا لَا يُعَدُّ منه نَفْلًا بَلْ هو في أَدَاءِ هذه الْأَفْعَالِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ يُؤَدِّي الْفَرْضَ نظيره ( ( ( نظير ) ) ) ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ إمَامًا لو رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ رَجُلًا جاء سَاعَتَئِذٍ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ
وَإِنْ كانت السَّجْدَتَانِ غير مَحْسُوبَتَيْنِ في حَقِّهِ فإن الْوَاجِبَ عليه أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَةَ التي سُبِقَ بها بِسَجْدَتَيْهَا وَمَعَ ذلك جَازَتْ إمَامَتُهُ لِأَنَّ السَّجْدَتَيْنِ فَرْضَانِ على الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وهو قَائِمٌ مَقَامَهُ
وَلَوْ بَدَأَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيُشِيرُ إلَى الْقَوْمِ لِئَلَّا يَتْبَعُوهُ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هذه الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ فإذا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ تَابَعَهُ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لم يَسْجُدُوا هذه السَّجْدَةَ هَكَذَا في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا وإذا فَعَلَ هَكَذَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْكُلِّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قال في الْكِتَابِ
بَعْدَ ما حَكَى جَوَابَ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَالْقَوْمُ لَا يُتَابِعُونَهُ في كل رَكْعَةٍ فإذا انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ تَابَعُوهُ
حَكَى مُحَمَّدٌ رحمه ( ( ( رضي ) ) ) اللَّهُ هذا ثُمَّ قال قلت أَمَا تَفْسُدُ عليه
قال فَلِمَاذَا
قلت إنَّ الْإِمَامَ مَرَّةً يَصِيرُ إمَامًا لِلْقَوْمِ وَغَيْرَ إمَامٍ مَرَّةً وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَوْ كان هذا رَكْعَةً اُسْتُحْسِنَتْ في رَكْعَةٍ
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ سُؤَالَهُ هذا ولم يذكر جَوَابَ أبي حَنِيفَةَ فَمِنْ مَشَايِخِنَا من جَعَلَ حِكَايَةَ هذا السُّؤَالِ مع تَرْكِ الْجَوَابِ إخْبَارًا عن الرُّجُوعِ وقال تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
وَاعْتَمَدَ على ما احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ الْمُؤْتَمَّ يَصِيرُ إمَامًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُؤْتَمًّا تَابِعًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ إمَامًا مَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ وَالصَّلَاةُ في نَفْسِهَا لَا تَتَجَزَّأُ حُكْمًا فَمَنْ كان في بَعْضٍ تَابِعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَتْبُوعًا في شَيْءٍ منها لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ تَابِعًا في شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَيْرُورَتِهِ تَابِعًا في الْكُلِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التجزىء ( ( ( التجزيء ) ) )
وَكَذَا صَيْرُورَتُهُ مَتْبُوعًا في بَعْضٍ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ صَيْرُورَتِهِ مَتْبُوعًا في الْكُلِّ لِعَدَمِ التجزىء ( ( ( التجزيء ) ) ) فإذا كان في بَعْضِهَا حِسًّا تَابِعًا وفي بَعْضِهَا مَتْبُوعًا كَأَنَّهُ في الْكُلِّ تَابِعٌ وفي الْكُلِّ مَتْبُوعٌ حُكْمًا لِعَدَمِ التجزىء ( ( ( التجزيء ) ) ) حُكْمًا وَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ بِالنَّصِّ فَيَتَقَدَّرُ الْجَوَازُ بِقَدْرِ ما وَرَدَ فيه النَّصُّ وَالنَّصُّ ما وَرَدَ فِيمَا يَصِيرُ إِمَامًا مِرَارًا ثُمَّ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا وَهَذَا في كل رَكْعَةٍ يُؤَدِّيهَا مُؤْتَمًّا فإذا انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الْمَتْرُوكَةِ من كل رَكْعَةٍ يَصِيرُ إمَامًا فَبَقِيَ على أَصْلِ ما يَقْتَضِيهِ الدَّلَائِلُ
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ اسْتَحْسَنْتُ هذا في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ لو تَرَكَ سَجْدَةً لَا غَيْرُ من رَكْعَةٍ فَاسْتَخْلَفَ هذا النَّائِمَ وَابْتَدَأَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَالْقَوْمُ يَتَرَبَّصُونَ بُلُوغَهُ تِلْكَ السَّجْدَةَ فإذا سَجَدَهَا سَجَدُوا معه ثُمَّ بَعْدَهُ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا فَفِي هذا الْقِيَاسِ أَنْ تَفْسُدَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إمَامًا مَرَّةً وَمُؤْتَمًّا مَرَّتَيْنِ
إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا في الْجُمْلَةِ جَائِزٌ فإن الْإِمَامَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ مَسْبُوقًا يَجُوزُ وَقَبْلَ الِاسْتِخْلَافِ كان مُؤْتَمًّا وَبَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ إلَى تَمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ كان إمَامًا ثُمَّ إذَا تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ حتى سَلَّمَ وَقَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ ما سَبَقَ عَادَ مُؤْتَمًّا من وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو اقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ لم يَجُزْ أَمَّا في مَسْأَلَتِنَا فَيَصِيرُ مُؤْتَمًّا وَإِمَامًا مِرَارًا
إلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِنَا جَوَّزُوا وَقَالُوا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يُجْعَلُ هذا رُجُوعًا
____________________

(1/255)


من أبي حَنِيفَةَ مع عَدَمِ النَّصِّ على الرُّجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَابَ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لم يذكر الْجَوَابَ
وَوَجْهُ ذلك أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ ثَبَتَ نَصًّا لِكَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وهو الْحَاجَةُ إلَى إصْلَاحِ الصَّلَاةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ فَيَجُوزُ
وَقَوْلُهُ إنَّ بين كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ
قُلْنَا في شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسَلَّمٌ أَمَّا في شَيْئَيْنِ فَلَا وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَابِعًا في بَعْضِهَا وَمَتْبُوعًا في بَعْضٍ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَجَزِّئَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ إلَّا في حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَهَذَا لِأَنَّ التبعيض ( ( ( البعض ) ) ) مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَارْتِفَاعُهُ يَكُونُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ وفي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ قام الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَغَيَّرَهَا فلم تَبْقَ مُتَبَعِّضَةً مُتَجَزِّئَةً في حَقِّهِمَا فَأَمَّا في حَقِّ التَّبَعِيَّةِ وَالْمَتْبُوعِيَّةِ في غَيْرِ أَوَانِ الْحَاجَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وفي أَوَانِ الْحَاجَةِ لَا إجْمَاعَ وَالْحَقَائِقُ تَتَبَدَّلُ بِقَدْرِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَلَا دَلِيلَ في هذه الْحَالَةِ بَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِ هذه الْحَقِيقَةِ حَيْثُ جَوَّزَ الِاسْتِخْلَافَ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَرَّةً تَابِعًا وَمَرَّةً مَتْبُوعًا غَيْرُ مَانِعٍ وَيُنْظَرُ إلَى الْحَاجَةِ لَا إلَى وُرُودِ الشَّرْعِ في كل حَالَةٍ من أَحْوَالِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ في الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ التي اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ لم يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ وما اسْتَدَلَّ بِهِ من مَسْأَلَةِ الْمَسْبُوقِ لم يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ فيه وَإِنَّمَا جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا من اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ في مَوْضِعٍ لم يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَغْيِيرِهَا
وَمَنْ جَعَلَ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ لِذِي الْحَاجَةِ وُرُودًا في كل مَحِلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِالْأَئِمَّةِ الْخَمْسَةِ وَمَعَ ذلك جَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَكَذَا الْوَاحِدُ إذَا ائْتَمَّ فَسَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ تَعَيَّنَ هذا الْوَاحِدُ لِلْإِمَامَةِ فإذا جاء الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ ثُمَّ لو سَبَقَ الثَّانِيَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْإِمَامَةِ ثُمَّ إذَا جاء هذا الثَّانِي وَسَبَقَ الْأَوَّلَ الحدث ( ( ( حدث ) ) ) تَعَيَّنَ هذا الثَّانِي لِلْإِمَامَةِ
هَكَذَا مِرَارًا لَكِنْ لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ جُوِّزَ وَجُعِلَ النَّصُّ الْوَارِدُ بالاستخلاف وَارِدًا في كل مَحَلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ فيه فَكَذَا هذا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرِيضَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهَا وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو خَرَجَ وَقْتُهَا وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وما يُكْرَهُ فيه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجُمُعَةُ فَرْضٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا وَيُكَفَّرُ جَاحِدُهَا
وَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ هو صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ هو الْخُطْبَةُ وَكُلُّ ذلك حُجَّةٌ لِأَنَّ السَّعْيَ إلَى الْخُطْبَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ من سَقَطَتْ عنه الصَّلَاةُ لم يَجِبُ عليه السَّعْيُ إلَى الْخُطْبَةِ فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَيَتَنَاوَلُ الْخُطْبَةَ من حَيْثُ أن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ لله تَعَالَى
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ عز وجل فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ في مَقَامِي هذا في يَوْمِي هذا في شَهْرِي هذا في سَنَتِي هذه فَمَنْ تَرَكَهَا في حَيَاتِي أو بَعْدَ مَمَاتِي اسْتِخْفَافًا بها وَجُحُودًا عليها وَتَهَاوُنًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أو جَائِرٌ فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ له في أَمْرِهِ أَلَا لَا صَلَاةَ له أَلَا لَا زَكَاةَ له أَلَا لَا حَجَّ له أَلَا لَا صَوْمَ له إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عليه
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ على قَلْبِهِ وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ إنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هو الظُّهْرُ في حَقِّ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ ولكن ( ( ( لكن ) ) ) غير الْمَعْذُورِ وهو الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الْحُرُّ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ حَتْمًا وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ على سَبِيلِ الرُّخْصَةِ حتى لو أَدَّى الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ عنه الظُّهْرُ وَتَقَعُ الْجُمُعَةُ فَرْضًا وَإِنْ تَرَكَ التَّرَخُّصَ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْعَزِيمَةِ وَيَكُونُ الْفَرْضُ هو الظُّهْر لَا غَيْرُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَوْلَانِ
في قَوْلٍ قال فَرْضُ الْوَقْتِ هو الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ له أَنْ يُسْقِطَهُ بِالظُّهْرِ رُخْصَةً
وفي قَوْلٍ قال الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذلك بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا فَأَيَّهُمَا فَعَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هو الْفَرْضَ
وقال زُفَرُ وَقْتُ الْفَرْضِ هو الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عنها وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْجُمُعَةُ ظُهْرُ قَاصِرٍ
وَعِنْدَنَا هِيَ صَلَاةٌ مُبْتَدَأَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ في بِنَاءِ الظُّهْرِ على تَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنْ خَرَجَ
____________________

(1/256)


وَقْتُ الظُّهْرِ
وهو في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ وَعِنْدَهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فإنه احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَلِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْوَقْتُ مَتَى جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةٍ كان سَبَبًا لِوُجُوبِهَا في كل يَوْمٍ كَسَائِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ
ثُمَّ إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْقَصْرِ تُقْصَرُ كما تُقْصَرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ
وَهَهُنَا وُجِدَ سَبَبُ الْقَصْرِ وهو الْخُطْبَةُ وَمَشَقَّةُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ إلَى الْجَامِعِ
وَلَنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مع الظُّهْرِ صَلَاتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ شُرُوطًا لِمَا نَذْكُرُ اخْتِصَاصَ الْجُمُعَةِ بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ لِلظُّهْرِ والفرض ( ( ( والفرص ) ) ) الْوَاحِدُ لَا تَخْتَلِفُ شُرُوطُهُ بِالْقَصْرِ فَكَانَا غَيْرَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ كَبِنَاءِ الْعَصْرِ على الظُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما فَفِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ الْقَصْرِ أَمَا ليس فيه أَنَّ الْمَقْصُورَ ظُهْرٌ
وما ذَكَرَهُ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْوَقْتَ قد يَخْلُو عن فَرْضِهِ أَدَاءً لِعُذْرٍ من الْأَعْذَارِ كَوَقْتِ الْعَصْرِ عن الْعَصْرِ يوم عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عن الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَكَذَا هَهُنَا جَازَ أَنْ يَخْلُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ عن الظُّهْرِ أَدَاءً إنْ كان لَا يَخْلُو عنه وُجُوبًا لَكِنَّهُ يَسْقُطُ عنه بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ على ما نَذْكُرُ
وَأَمَّا الْخِلَافُ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَبِنَاءً على الْخِلَافِ في كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَعَارِضَةِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فإنه رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حين تَزُولُ الشَّمْسُ وَنَحْوُ ذلك من الْأَحَادِيثِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ( يوم ) الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ
وقد وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ في فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ في هذا الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ على ما ذَكَرْنَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِلَا خِلَافٍ بين الْأَئِمَّةِ
فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ على أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَمِلَ بِطَرِيقِ التَّنَاسُخِ فَجَعَلَ الْآخَرَ وهو حَدِيثُ الْجُمُعَةِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ على ما هو الْأَصْلُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ له أَنْ يُسْقِطَ الْجُمُعَةَ بِالظُّهْرِ
وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ قال إنَّهُ قام دَلِيلُ فَرْضِيَّةِ كل وَاحِدَةٍ من الصَّلَاتَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِفَرْضِيَّتِهِمَا على الْجَمْعِ وَلِهَذَا لو فَعَلَ إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا كانت سَقَطَ الْفَرْضُ عنه فَكَانَ الْفَرْضُ إحْدَاهُمَا غير عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ وأبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ عَمِلَا بِالْأَحَادِيثِ بِطَرِيقِ التَّوْفِيقِ إذْ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى من نَسْخِ أَحَدِهِمَا فَقَالَا إنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هو الظُّهْرُ لَكِنْ أَمَرَ ( بترك ( ( ( بإسقاط ) ) ) ) الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا يَجِبُ قَضَاءُ الظُّهْرِ بَعْدَ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَخُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْقَضَاءُ خَلَفٌ عن الْأَدَاءِ دَلَّ أَنَّ الظُّهْرَ هو الْأَصْلُ إذْ الْأَرْبَعُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ خَلَفًا عن رَكْعَتَيْنِ وَزُفَرُ يقول لَمَّا اُنْتُسِخَ الظُّهْرُ بِالْجُمُعَةِ دَلَّ أَنَّ الْجُمُعَةَ أَصْلٌ
وَلَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ دَلَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عن الْجُمُعَةِ
إذَا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ نخرج ( ( ( تخرج ) ) ) عليه الْمَسَائِلُ فَنَقُولُ من صلى ( ( ( يصلي ) ) ) الظُّهْرَ يوم الْجُمُعَةِ وهو غَيْرُ مَعْذُورٍ قبل صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ولم يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذلك ولم يُؤَدِّهَا يَقَعُ فَرْضًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ حتى لَا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هو الظُّهْرُ عِنْدَهُمَا وَلَكِنَّهُ أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فإذا لم يُؤَدِّ الْجُمُعَةَ بَقِيَ الْفَرْضُ ذلك فإذا أَدَّاهُ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ فإذا صلى الظُّهْرَ تَعَيَّنَ فَرْضًا من الْأَصْلِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَرْضُ الْوَقْتِ وَإِنْ كان هو الْجُمُعَةُ وَهِيَ الْعَزِيمَةُ لَكِنْ له أَنْ يُسْقِطَهَا بِالظُّهْرِ رُخْصَةً وقد تُرَخَّصُ بِالظُّهْرِ
وفي قَوْلِ زُفَرَ لَمَّا كان الظُّهْرُ بَدَلًا عن الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عن الْأَصْلِ كما في التُّرَابِ مع الْمَاءِ وَهَهُنَا هو قَادِرٌ على الْأَصْلِ فَلَا يُجْزِيهِ الْبَدَلُ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْمَعْذُورُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا صلى الظُّهْرَ في بَيْتِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا جميعا على اخْتِلَافِ طُرُقِهِمْ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هو الظُّهْرُ إلَّا أَنَّ غير الْمَعْذُورِ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ على طَرِيقِ الْحَتْمِ وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ولم يَتَرَخَّصْ فَبَقِيَتْ الْعَزِيمَةُ وَهِيَ الظُّهْرُ وقد أَدَّاهَا فَتَقَعُ فَرْضًا
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ عليه على طَرِيقِ الْعَزِيمَةِ لَكِنْ مع رُخْصَةِ التَّرْكِ وقد تُرُخِّصَ بِتَرْكِهَا بِالظُّهْرِ
وَأَمَّا على قَوْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عليه الظُّهْرُ بَدَلًا عن الْجُمُعَةِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْمَعْذُورُ إذَا صلى الظُّهْرَ في بَيْتِهِ ثُمَّ شَهِدَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّاهَا مع الْإِمَامِ أَنَّهُ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ وَيَصِيرُ تَطَوُّعًا وَفَرْضُهُ الْجُمُعَةُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْقَادِرَ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ
____________________

(1/257)


وقد قَدَرَ فإذا أَدَّى انْعَقَدَتْ جُمُعَتُهُ فَرْضًا وَلَا تَنْعَقِدْ فَرْضًا إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ فرضى الْوَقْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ لِأَنَّ الظُّهْرَ عِنْدَهُ خَلَفٌ عن الْجُمُعَةِ فَكَانَ شَرْطُهُ الْعَجْزَ عن الْأَصْلِ وقد تَحَقَّقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَصَحَّ الْخَلَفُ فَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ بَعْدَ ذلك لَا تُبْطِلُهُ
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ إذَا صلى الظُّهْرَ في بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ فَهَذَا على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدِهَا إذَا خَرَجَ من بَيْتِهِ وكان الْإِمَامُ قد فَرَغَ من الْجُمُعَةِ حين خَرَجَ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَالثَّانِي إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وَشَرَعَ في الْجُمُعَةِ وَأَتَمَّهَا مع الْإِمَامِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَلَا يَقَعُ ظُهْرُهُ فَرْضًا أَصْلًا لِأَنَّهُ خَلَفٌ فَيُشْتَرَطُ له الْعَجْزُ عن الْأَصْلِ ولم يُوجَدْ
وَالثَّالِثِ إذَا شُرِعَ في الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ قبل إتْمَامِ الْجُمُعَةِ مع الْإِمَامِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَرْتَفِضُ
كَذَا ذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ الِاخْتِلَافَ في كِتَابِ صَلَاتِهِ
وَالرَّابِعِ إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وقد كان فَرَغَ الْإِمَامُ من الْجُمُعَةِ وَحِينَ خَرَجَ من الْبَيْتِ كان لم يَفْرُغْ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الْجُمُعَةِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ وَكَذَا بِوُجُودِ ما هو من خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ وهو السَّعْيُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَرْتَفِضُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ ارْتِفَاضَ الظُّهْرِ لِضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا لِأَنَّ اجْتِمَاعَ فَرْضَيْ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ ولم يُوجَدْ فلم يَرْتَفِضُ الظُّهْرُ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ ما صَحَّ وَفَرَغَ عنه من حَيْثُ الظَّاهِرُ لَا يَكُونُ إلَّا عن ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ قبل تَمَامِ الْجُمُعَةِ وَوُقُوعِهَا فَرْضًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ما أَدَّى من الْبَعْضِ انْعَقَدَ فَرْضًا ولم يَنْعَقِدْ الْفِعْلُ من الْجُمُعَةِ مع بَقَاءِ الظُّهْرِ فَرْضًا فَكَانَ من ضَرُورَةِ انْعِقَادِ هذا الْجُزْءِ من الْجُمُعَةِ فَرْضًا ارْتِفَاضُ الظُّهْرِ
وَكَذَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ من خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بها وَلَنْ يَنْعَقِدَ فَرْضًا مع بَقَاءِ الظُّهْرِ فَرْضًا وكان من ضَرُورَةِ وُقُوعِهِ فَرْضًا ارْتِفَاضُ الظُّهْرِ
بِهِ عَلَّلَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ
وَعَلَى هذا إذَا شَرَعَ الرَّجُلُ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ عليه الْفَجْرَ فَهَذَا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كان بِحَالٍ لو اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ لَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُمُعَةَ وَيَبْدَأَ بِالْفَجْرِ ثُمَّ بِالْجُمُعَةِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فإنه وَاجِبٌ عِنْدَنَا
وَإِنْ كان بِحَالٍ لو اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ عن الْوَقْتِ يَمْضِي فيها وَلَا يَقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ سَاقِطٌ عنه لِضِيقِ الْوَقْتِ وَإِنْ كان بِحَالٍ لو اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ لَا يدركه ( ( ( يفوته ) ) ) الظُّهْرُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَلَا تُجْزِئُهُ الْجُمُعَةُ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي في الْجُمُعَةِ وَلَا يَقْطَعُ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَرْضَ الْوَقْتِ هو الْجُمُعَةُ وهو يُخَافُ فَوْتَهَا لو اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَيَسْقُطُ عنه التَّرْتِيبُ كما لو تَذَكَّرَ الْعِشَاءَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وهو يخاف ( ( ( يخالف ) ) ) طُلُوعَ الشَّمْسِ لو اشْتَغَلَ بِالْعِشَاءِ وَعِنْدَهُمَا فَرْضُ الْوَقْتِ هو الظُّهْرُ وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْفَائِتَةِ فَلَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ فَلِلْجُمُعَةِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي فَسِتَّةٌ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالْإِقَامَةُ وَصِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ على الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ إلَّا بِإِذْنِ مَوَالِيهمْ وَالْمُسَافِرِينَ وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى
أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ اخْتَصَّتْ بِشَرَائِطَ لم تُشْتَرَطْ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ لَمَّا كَانَا شَرْطًا لِوُجُوبِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَا شَرْطًا لِوُجُوبِ هذه الصَّلَاةِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِمَوْلَاهُ إلَّا فِيمَا استثنى وهو أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ على طَرِيقِ الِانْفِرَادِ دُونَ الْجَمَاعَةِ لِمَا في الْحُضُورِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ من تَعْطِيلِ كَثِيرٍ من الْمَنَافِعِ على الْمَوْلَى وهذا ( ( ( ولهذا ) ) ) لَا يَجِبُ عليه الْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَسَقَطَتْ عنه الْجُمُعَةُ
وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْمِصْرِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَيَتَخَلَّفُ عن الْقَافِلَةِ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن الْحُضُورِ أو يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ في الْحُضُورِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عن الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ لِكَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ وَلِهَذَا لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِنَّ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ على هَؤُلَاءِ ما رُوِيَ عن جَابِرٍ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إلَّا
____________________

(1/258)


مُسَافِرًا أو مَمْلُوكًا أو صَبِيًّا أو امْرَأَةً أو مَرِيضًا فَمَنْ اسْتَغْنَى عنها بِلَهْوٍ أو تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عنه وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَهَلْ تَجِبُ عليه أَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عليه كما لَا تَجِبُ على الزَّمِنِ وَإِنْ وَجَدَ من يَحْمِلُهُ
وَأَمَّا إذَا وَجَدَ قَائِدًا إمَّا بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ أو كان له مَالٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ وهو على الِاخْتِلَافِ في الْحَجِّ إذَا كان له زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَائِدًا أو وَعَدَ له إنْسَانٌ أَنْ يَقُودَهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وآتيا ( ( ( وجائيا ) ) ) لَا يَجِبُ عليه الْحَجُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا في كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عليهم إذَا حَضَرُوا الْجَامِعَ وَأَدَّوْا الْجُمُعَةَ فَمَنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ الْوُجُوبِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَصَلَاةُ الصَّبِيِّ تَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا صَلَاةَ لِلْمَجْنُونِ رَأْسًا وَمَنْ هو من أَهْلِ الْوُجُوبِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ تُجْزِيهِمْ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الظُّهْرُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ عليهم لِمَا ذَكَرْنَا من الْأَعْذَارِ وقد زَالَتْ وَصَارَ الْإِذْنُ من الْمَوْلَى مَوْجُودًا دَلَالَةً
وقد رُوِيَ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قال كُنَّ النِّسَاءُ يَجْمَعْنَ مع رسول اللَّهِ وَيُقَالُ لَهُنَّ لَا تَخْرُجْنَ إلَّا تَفِلَاتٍ غير مُتَطَيِّبَاتٍ وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْحَجِّ في الْعَبْدِ فإنه لو أَدَّى الْحَجَّ مع مَوْلَاهُ لَا يُحْكَمُ بِجَوَازِهِ حتى يُؤَاخَذَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْعَ من الْجُمُعَةِ كان نَظَرًا لِلْمَوْلَى وَالنَّظَرُ هَهُنَا في الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ لِأَنَّا لو لم نُجَوِّزْ وقد تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ على الْمَوْلَى لَوَجَبَ عليه الظُّهْرُ فَتَتَعَطَّلُ عليه مَنَافِعُهُ ثَانِيًا فَيَنْقَلِبُ النَّظَرُ ضَرَرًا وَذَا ليس بِحِكْمَةٍ فَتَبَيَّنَ في الْآخِرَةِ أَنَّ النَّظَرَ في الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ فَصَارَ مَأْذُونًا دَلَالَةً كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عليه إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ يَجُوزُ وَيَجِبُ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ الْحَجِّ فإن هُنَاكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّظَرَ لِلْمَوْلَى في الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ لِلْحَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ إذَا لم نَحْكُمْ بِجَوَازِهِ بَلْ يُخَاطَبُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَتَعَطَّلُ على الْمَوْلَى مَنَافِعُهُ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَرْجِعُ إلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي فَخَمْسَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
الْمِصْرُ الْجَامِعُ
وَالسُّلْطَانُ
وَالْخُطْبَةُ
وَالْجَمَاعَةُ
وَالْوَقْتُ
أَمَّا الْمِصْرُ الْجَامِعُ فَشَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا حتى لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلَّا على أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ كان سَاكِنًا في تَوَابِعِهِ
وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ إلَّا في الْمَصْرِ وَتَوَابِعِهِ فَلَا تَجِبُ على أَهْلِ الْقُرَى التي لَيْسَتْ من تَوَابِعِ الْمَصْرِ وَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فيها
وقال الشَّافِعِيُّ الْمِصْرُ ليس بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَكُلُّ قَرْيَةٍ يَسْكُنُهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا من الْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ عنها شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تَجِبُ عليهم الْجُمُعَةُ وَيُقَامُ بها الْجُمُعَةُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال أَوَّلُ جُمُعَةٍ جمعت في الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ لَجُمُعَةٌ جُمِعَتْ بجؤاثى وَهِيَ قَرْيَةٌ من قُرَى عبد الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ
وَرُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عن الْجُمُعَةِ بِجُؤَاثَى فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اجمع بها وَحَيْثُ ما كُنْتَ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ وَكَذَا النبي كان يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ وما روى الْإِقَامَةُ حَوْلَهَا وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحُوا الْبِلَادَ وما نَصَبُوا الْمَنَابِرَ إلَّا في الْأَمْصَارِ فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا منهم على أَنَّ الْمِصْرَ شَرْطٌ وَلِأَنَّ الظُّهْرَ فَرِيضَةٌ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا بِنَصٍّ قَاطِعٍ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِتَرْكِهَا إلى الْجُمُعَةَ في الْأَمْصَارِ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى الْجُمُعَةُ في الْبَرَارِيِّ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ من أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ فَتَخْتَصُّ بِمَكَانِ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ وهو الْمِصْرُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ جُؤَاثَى مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ وَاسْمُ الْقَرْيَةِ يَنْطَلِقُ على الْبَلْدَةِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِمَا اجْتَمَعَ فيها من الْبُيُوتِ قال تَعَالَى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ التي كنا فيها } وَهِيَ مِصْرُ
وقال { وَكَأَيِّنْ من قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً من قَرْيَتِك التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ } وَهِيَ مَكَّةُ
وما ذُكِرَ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْبَرَارِيِّ ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَمَعْرِفَةِ ما هو من تَوَابِعِهِ
أَمَّا الْمِصْرُ الْجَامِعُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَقَاوِيلُ في تَحْدِيدِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ ما أُقِيمَتْ فيه الْحُدُودُ وَنُفِّذَتْ فيه الْأَحْكَامُ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَاتٌ ذَكَرَ في الْإِمْلَاءِ كُلُّ مِصْرٍ فيه مِنْبَرٌ وَقَاضٍ يُنْفِذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ فَهُوَ مِصْرٌ جَامِعٌ تَجِبُ على أَهْلِهِ الْجُمُعَةُ
وفي رِوَايَةٍ قال إذَا اجْتَمَعَ في قَرْيَةٍ من لَا يَسَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ بَنَى لهم الْإِمَامُ جَامِعًا وَنَصَبَ لهم من يُصَلِّي
____________________

(1/259)


بِهِمْ الْجُمُعَةَ
وفي رِوَايَةٍ لو كان في الْقَرْيَةِ عَشْرَةُ آلَافٍ أو أَكْثَرُ أَمَرْتُهُمْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فيها وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمِصْرُ الْجَامِعُ ما يَتَعَيَّشُ فيه كُلُّ مُحْتَرِفٍ بِحِرْفَتِهِ من سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ من غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى حِرْفَةٍ أُخْرَى
وَعَنْ أبي عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال أَحْسَنُ ما قِيلَ فيه إذَا كَانُوا بِحَالٍ لو اجْتَمَعُوا في أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لم يَسَعْهُمْ ذلك حتى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ فَهَذَا مِصْرٌ تُقَامُ فيه الْجُمُعَةُ وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْمِصْرُ الْجَامِعُ ما يَعُدُّهُ الناس مِصْرًا عِنْدَ ذِكْرِ الْأَمْصَارِ الْمُطْلَقَةِ
وَسُئِلَ أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عن حَدِّ الْمِصْرِ الذي تَجُوزُ فيه الْجُمُعَةُ فقال أَنْ تَكُونَ لهم مَنَعَةٌ لو جَاءَهُمْ عَدُوٌّ قَدَرُوا على دَفْعِهِ فَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُمَصَّرَ وَتَمَصُّرُهُ أَنْ يُنَصَّبَ فيه حَاكِمٌ عَدْلٌ يُجْرِي فيه حُكْمًا من الْأَحْكَامِ وهو أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ خَصْمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فيها سِكَكٌ وَأَسْوَاقٌ وَلَهَا رَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ على إنْصَافِ الْمَظْلُومِ من الظَّالِمِ بحكمه ( ( ( بحشمه ) ) ) وَعِلْمِهِ أو عِلْمِ غَيْرِهِ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ في الْحَوَادِثِ وهو الْأَصَحُّ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ تَوَابِعِ الْمِصْرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيها
روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فيه سَمَاعُ النِّدَاءِ إنْ كان مَوْضِعًا يُسْمَعُ فيه النِّدَاءُ من الْمِصْرِ فَهُوَ من تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِلَّا فَلَا
وقال الشَّافِعِيُّ إن كان في الْقَرْيَةِ أَقَلُّ من أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ دُخُولُ الْمِصْرِ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ كُلُّ قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِرَبَضِ الْمِصْرِ فَهِيَ من تَوَابِعِهِ وَإِنْ لم تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالرَّبَضِ فَلَيْسَتْ من تَوَابِعِ الْمِصْرِ
وقال بَعْضُهُمْ ما كان خَارِجًا عن عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَيْسَ من تَوَابِعِهِ
وقال بَعْضُهُمْ الْمُعْتَبَرُ فيه قَدْرُ مِيلٍ وهو ثلث فرسخ ( ( ( فراسخ ) ) )
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان قَدْرَ مِيلٍ أو مِيلَيْنِ فَهُوَ من تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِلَّا فَلَا
وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسِتَّةِ أَمْيَالٍ وَمَالِكٌ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أنها تَجِبُ في ثلاث فَرَاسِخَ
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أنها تَجِبُ في أربع ( ( ( أربعة ) ) ) فَرَاسِخَ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجُمُعَةَ وَيَبِيتَ بِأَهْلِهِ من غَيْرِ تَكَلُّفٍ تَجِبُ عليه الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا حَسَنٌ
وَيَتَّصِلُ بهذا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ في أَيَّامِ الْمَوْسِمِ بِمِنًى
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بها إذَا كان الْمُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ هو الْخَلِيفَةُ أو أَمِيرُ الْعِرَاقِ أو أَمِيرُ الْحِجَازِ أو أَمِيرُ مَكَّةَ سَوَاءٌ كَانُوا مُقِيمِينَ أو مُسَافِرِينَ أو رَجُلًا مَأْذُونًا من جِهَتِهِمْ
وَلَوْ كان الْمُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ أَمِيرَ الْمَوْسِمِ وهو الذي أَمَرَ بِتَسْوِيَةِ أُمُورِ الْحُجَّاجِ لَا غَيْرُ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كان مُقِيمًا أو مُسَافِرًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ إلَّا إذَا كان مَأْذُونًا من جِهَةِ أَمِيرِ الْعِرَاقِ أو أَمِيرِ مَكَّةَ وَقِيلَ إنْ كان مُقِيمًا يَجُوزُ وَإِنْ كان مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ
وقال مُحَمَّدٌ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِمِنًى وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِعَرَفَاتٍ وَإِنْ أَقَامَهَا أَمِيرُ الْعِرَاقِ أو الْخَلِيفَةُ نَفْسُهُ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إن الْخِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في هذا بِنَاءً على أَنَّ مِنًى من تَوَابِعِ مَكَّةَ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس من تَوَابِعِهَا
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الناس في تَقْدِيرِ التَّوَابِعِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَبِخِلَافِهِ على ما مَرَّ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ فيه بِنَاءً على أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يقول إنَّ مِنًى ليس بِمِصْرٍ جَامِعٍ بَلْ هو قَرْيَةٌ فَلَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بها كما لَا تَجُوزُ بِعَرَفَاتٍ
وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّهَا تَتَمَصَّرُ في أَيَّامِ الْمَوْسِمِ لِأَنَّ لها بِنَاءً وَيُنْقَلُ إلَيْهَا الْأَسْوَاقُ وَيَحْضُرُهَا وَالٍ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَيُنْفِذُ الْأَحْكَامَ فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَمْصَارِ بِخِلَافِ عَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا مَفَازَةٌ فَلَا تَتَمَصَّرُ بِاجْتِمَاعِ الناس وَحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وَهَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ خَارِجَ الْمِصْرِ مُنْقَطِعًا عن الْعُمْرَانِ أَمْ لَا
ذُكِرَ في الْفَتَاوَى رِوَايَةً عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَرَجَ يوم الْجُمُعَةِ مِقْدَارَ مِيلٍ أو مِيلَيْنِ فَحَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ فَصَلَّى جَازَ
وقال بَعْضُهُمْ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ خَارِجَ الْمِصْرِ مُنْقَطِعًا عن الْعُمْرَانِ
وقال بَعْضُهُمْ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كما اخْتَلَفُوا في الْجُمُعَةِ بِمِنًى
وَأَمَّا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ في مِصْرٍ وَاحِدٍ في مَوْضِعَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنه لَا بَأْسَ بِأَنْ يجمع ( ( ( يجمعوا ) ) ) في مَوْضِعَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
هَكَذَا ذُكِرَ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كان بين مَوْضِعَيْ الْإِقَامَةِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ أو نَحْوِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ وَقِيلَ إنَّمَا تَجُوزُ على قَوْلِهِ إذَا كان لَا جِسْرَ على النَّهْرِ فَأَمَّا إذَا كان عليه جِسْرٌ فَلَا لِأَنَّ له حُكْمَ مِصْرٍ وَاحِدٍ وكان يَأْمُرُ بِقَطْعِ الْجِسْرِ يوم الْجُمُعَةِ حتى يَنْقَطِعَ الْفَصْلُ
وفي رِوَايَةٍ قال يَجُوزُ في مَوْضِعَيْنِ إذَا كان الْمِصْرُ عَظِيمًا ولم يَجُزْ في الثَّلَاثِ وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا نَهْرٌ صَغِيرٌ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَدَّوْهَا في مَوْضِعَيْنِ فَالْجُمُعَةُ لِمَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا وَعَلَى الْآخَرِينَ أَنْ يُعِيدُوا
____________________

(1/260)


الظُّهْرَ وَإِنْ أَدَّوْهَا مَعًا أو كان لَا يَدْرِي كَيْفَ كان لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ في مَوْضِعَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ أو أَكْثَرَ من ذلك
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ وقال لو أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَانْطَلَقَ هو إلَى حَاجَةٍ له ثُمَّ دخل الْمِصْرَ في بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ
قال تجزىء أَهْلَ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلَا تُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ الناس بِذَلِكَ فَيَجُوزُ وَهَذَا كَجُمُعَةٍ في مَوْضِعَيْنِ
وقال أَيْضًا لو خَرَجَ الْإِمَامُ يوم الْجُمُعَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ يَدْعُو وَخَرَجَ معه نَاسٌ كَثِيرٌ وَخَلَّفَ إنْسَانًا يُصَلِّي بِهِمْ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فلما حَضَرَتْ الصَّلَاةُ صلى بِهِمْ الْجُمُعَةَ في الْجَبَّانَةِ وَهِيَ على قَدْرِ غَلْوَةٍ من مِصْرِهِ وَصَلَّى خَلِيفَتُهُ في الْمِصْرِ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قال تُجْزِئُهُمَا جميعا فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجُوزُ في مَوْضِعَيْنِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ أَنَّهُ تَجُوزُ في مَوْضِعَيْنِ وَلَا تَجُوزُ في أَكْثَرَ من ذلك فإنه رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَخْرُجُ إلَى الْجَبَّانَةِ في الْعِيدِ وَيَسْتَخْلِفُ في الْمِصْرِ من يُصَلِّي بِضَعَفَةِ الناس وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَمَّا جَازَ هذا في صَلَاةِ الْعِيدِ فَكَذَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُمَا في اخْتِصَاصِهِمَا بِالْمِصْرِ سِيَّانِ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ يَنْدَفِعُ عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ بِمَوْضِعَيْنِ غَالِبًا فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ من ذلك
وما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ من الْإِطْلَاقِ في ثلاث مَوَاضِعَ مَحْمُولٌ على مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ
فأما السُّلْطَانُ فَشَرْطُ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَنَا حتى لَا يَجُوزَ إقَامَتُهَا بِدُونِ حَضْرَتِهِ أو حَضْرَةِ نَائِبِهِ
وقال الشَّافِعِيُّ السُّلْطَانُ ليس بِشَرْطٍ لِأَنَّ هذه صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهَا السُّلْطَانُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَلَنَا أَنَّ النبي شَرَطَ الْإِمَامَ لِإِلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِتَارِكِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ في ذلك الحديث وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أو جَائِرٌ
روي ( ( ( وروي ) ) ) عن النبي أَنَّهُ قال أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَعَدَّ من جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةَ
وَلِأَنَّهُ لو لم يَشْتَرِطْ السُّلْطَانَ لَأَدَّى إلَى الْفِتْنَةِ لِأَنَّ هذه صَلَاةٌ تُؤَدَّى بِجَمْعٍ عَظِيمٍ وَالتَّقَدُّمُ على جَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ يُعَدُّ من بَابِ الشَّرَفِ وَأَسْبَابِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ فَيَتَسَارَعُ إلَى ذلك كُلُّ من جُبِلَ على عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْمَيْلِ إلَى الرِّئَاسَةِ فَيَقَعُ بَيْنَهُمْ التَّجَاذُبُ وَالتَّنَازُعُ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّقَالِي فَفَوَّضَ ذلك إلَى الْوَالِي لِيَقُومَ بِهِ أو يُنَصِّبَ من رَآهُ أَهْلًا له فَيَمْتَنِعُ غَيْرُهُ من الناس عن الْمُنَازَعَةِ لِمَا يَرَى من طَاعَةِ الْوَالِي أو خَوْفًا من عُقُوبَتِهِ وَلِأَنَّهُ لو لم يُفَوِّضْ إلَى السُّلْطَانِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُؤَدِّي كُلُّ طَائِفَةٍ حَضَرَتْ الْجَامِعَ فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ فَائِدَةِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ اجْتِمَاعُ الناس لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ على الْكَمَالِ
وَإِمَّا أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ الْجُمُعَةُ لِلْأَوَّلِينَ
وَتَفُوتُ عن الْبَاقِينَ فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنْ تَكُونَ إقَامَتُهَا مُتَوَجِّهَةً إلَى السُّلْطَانِ لِيُقِيمَهَا بِنَفْسِهِ أو بِنَائِبِهِ عِنْدَ حُضُورِ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ مع مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان السُّلْطَانُ أو نَائِبُهُ حَاضِرًا فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ إمام ( ( ( إماما ) ) ) بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ أو بِسَبَبِ الْمَوْتِ ولم يَحْضُرْ وَالٍ آخَرُ بَعْدُ حتى حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُجْمِعَ الناس على رَجُلٍ حتى يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَهَكَذَا روى عن مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ في الْعُيُونِ لِمَا روى عن عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا حُوصِرَ قَدَّمَ الناس عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ
وروى في الْعُيُونِ عن أبي حَنِيفَةَ في وَالِي مِصْرٍ مَاتَ ولم يَبْلُغْ الْخَلِيفَةَ مَوْتُهُ حتى حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ فَإِنْ صلى بِهِمْ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أو صَاحِبُ الشَّرْطِ أو الْقَاضِي أَجْزَأَهُمْ وَإِنْ قَدَّمَ الْعَامَّةُ رَجُلًا لم يَجُزْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَائِمُونَ مَقَامَ الْأَوَّلِ في الصَّلَاةِ حَالَ حَيَّاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ ما لم يُفَوِّضْ الْخَلِيفَةُ الْوِلَايَةَ إلَى غَيْرِهِ
وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا كان يَخْطُبُ فَجَاءَ سُلْطَانٌ آخَرُ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ الْخُطْبَةَ يَجُوزُ وَيَكُونُ ذلك الْقَدْرُ خُطْبَةً وَيَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّهُ خَطَبَ بِأَمْرِهِ فَصَارَ نَائِبًا عنه وَإِنْ لم يَأْمُرْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَكِنَّهُ سَكَتَ حتى أَتَمَّ الْأَوَّلُ خُطْبَتَهُ فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ أَمْرًا فَلَا يُعْتَبَرُ مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ الثَّانِي وقد فَرَغَ الْأَوَّلُ من خُطْبَتِهِ فَصَلَّى الثَّانِي بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا خُطْبَةُ إمَامٍ مَعْزُولٍ ولم تُوجَدْ الْخُطْبَةُ من الثَّانِي وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ
هذا كُلِّهِ إذَا عَلِمَ الْأَوَّلُ بِحُضُورِ الثَّانِي وَإِنْ لم يَعْلَمْ فَخَطَبَ وَصَلَّى وَالثَّانِي سَاكِتٌ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لا يَصِيرُ مَعْزُولًا إلَّا بِالْعِلْمِ كَالْوَكِيلِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ أو أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَصَارَ مَعْزُولًا
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا كان سُلْطَانًا فَجَمَعَ بِالنَّاسِ أو أَمَرَ غَيْرَهُ جَازَ
وَكَذَا إذَا كان حُرًّا مُسَافِرًا
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ شَرْطُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ هو الْإِمَامُ الذي هو حُرٌّ مُقِيمٌ
____________________

(1/261)


حتى إذَا كان عَبْدًا أو مُسَافِرًا لَا تَصِحُّ منه إقَامَةُ الْجُمُعَةِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ على الْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ
قال النبي أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عليهم الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ فَلَوْ جَمَعَ بِالنَّاسِ كان مُتَطَوِّعًا في أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَجُوزُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ صلى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وكان مُسَافِرًا حتى قال لهم في صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ ما صلى رَكْعَتَيْنِ وسلم أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ يا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ
وَعَنْ النبي أَنَّهُ قال أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عبدا حَبَشِيٌّ وَلَوْ لم يَصْلُحْ إمَامًا لم تُفْتَرَضْ طَاعَتُهُ وَلِأَنَّهُمَا من أَهْلِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمَا التَّخَلُّفَ عنها وَالِاشْتِغَالَ بِتَسْوِيَةِ أَسْبَابِ السَّفَرِ وَخِدْمَةَ الْمَوْلَى نَظَرًا فإذا حَضَرَ الْجَامِعَ لم يَسْلُكْ طَرِيقَةَ التَّرَخُّصِ وَاخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ وَيَلْتَحِقُ بِالْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هذا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ فَيَصِحُّ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْإِمَامَةِ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَفِي الْجُمُعَةِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كانت سُلْطَانًا فَأَمَرَتْ رَجُلًا صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ حتى صلى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ سُلْطَانًا أو قَاضِيًا في الْجُمْلَةِ ( فَتَصِحُّ إنابتها ( ( ( إمامتها ) ) ) )
وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَالْكَلَامُ في الْخُطْبَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ وفي بَيَانِ وَقْتِ الْخُطْبَةِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْخُطْبَةِ وَمِقْدَارِهَا وفي بَيَانِ ما هو الْمَسْنُونُ في الْخُطْبَةِ وفي بَيَانِ مَحْظُورَاتِ الْخُطْبَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على كَوْنِهَا شَرْطًا قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالْخُطْبَةُ ذِكْرُ اللَّهِ فَتَدْخُلُ في الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ لها من حَيْثُ هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ أو الْمُرَادُ من الذِّكْرِ الْخُطْبَةُ وقد أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَدَلَّ على وُجُوبِهَا وَكَوْنِهَا شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ
وَعَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا إنَّمَا قُصِرَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ أَخْبَرَا أَنَّ شَطْرَ الصَّلَاةِ سَقَطَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَشَطْرُ الصَّلَاةِ كان فَرْضًا فَلَا يَسْقُطُ إلَّا لِتَحْصِيلِ ما هو فَرْضٌ وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ وَهِيَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ
ثُمَّ هِيَ وَإِنْ كانت قَائِمَةً مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقَامُ بِالْخُطْبَةِ فلم تَكُنْ من أَرْكَانِهَا وَأَمَّا وَقْتُ الْخُطْبَةِ فَوَقْتُ الْجُمُعَةِ وهو وَقْتُ الظُّهْرِ لَكِنْ قبل صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أنها شَرْطُ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عليه وَهَكَذَا فَعَلَهَا رسول اللَّهِ وَوَقْتُ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ قبل الصَّلَاةِ أَيْضًا لَكِنَّهَا سُنَّتْ لِتَعْلِيمِ الْمَنَاسِكِ
وَأَمَّا الْخُطْبَةُ في الْعِيدَيْنِ فَوَقْتُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَهِيَ سُنَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَمِقْدَارُهَا فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أن الشَّرْطَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى على قَصْدِ الْخُطْبَةِ
كَذَا نُقِلَ عنه في الْأَمَالِي مُفَسِّرًا قَلَّ الذِّكْرُ أَمْ كَثُرَ حتى لو سَبَّحَ أو هَلَّلَ أو حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى على قَصْدِ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ يُسَمَّى خُطْبَةً في الْعُرْفِ
وقال الشَّافِعِيُّ الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِخُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَهَذَا ذِكْرٌ مُجْمَلٌ فَفَسَّرَهُ النبي بِفِعْلِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِخُطْبَتَيْنِ وَلَهُمَا أَنَّ الْمَشْرُوطَ هو الْخُطْبَةُ وَالْخُطْبَةُ في الْمُتَعَارَفِ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِلُ على تَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عليه وَالصَّلَاةِ على رَسُولِهِ وَالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ لهم فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى طَرِيقَانِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هو مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فيه فلم يَكُنْ مجملا ( ( ( محملا ) ) ) لِأَنَّهُ تَطَاوُعُ الْعَمَلُ من غَيْرِ بَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِذِكْرٍ يُسَمَّى خُطْبَةً أو بِذِكْرٍ طَوِيلٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَالثَّانِي أَنْ يُقَيَّدَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُسَمَّى خُطْبَةً لَكِنَّ اسْمَ الْخُطْبَةِ في حَقِيقَةِ اللُّغَةِ يَقَعُ على ما قُلْنَا فإنه روى عن عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ خَطَبَ في أَوَّلِ جُمُعَةٍ فلما قال الْحَمْدُ لِلَّهِ أرتج عليه فقال أَنْتُمْ إلَى إمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلَى إمَامٍ قَوَّالٍ وأن أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَكَانِ مَقَالًا وَسَتَأْتِيكُمْ الْخُطَبُ من بَعْدُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهِ لي وَلَكُمْ وَنَزَلَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ وما أَنْكَرُوا عليه صَنِيعَهُ مع أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ فَكَانَ هذا إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على أَنَّ الشَّرْطَ هو مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الْخُطْبَةِ لُغَةً وَإِنْ كان لَا يَنْطَلِقُ عليه عُرْفًا
وَتَبَيَّنَ بهذا أَنَّ الْوَاجِبَ هو الذِّكْرُ لُغَةً وَعُرْفًا وقد وُجِدَ أو ذُكِرَ هو خُطْبَةٌ لُغَةً وَإِنْ لم يُسَمَّ خُطْبَةً في الْعُرْفِ وقد أتى بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ في
____________________

(1/262)


مُعَامَلَاتِ الناس فَيَكُونُ دَلَالَةً على غَرَضِهِمْ وَأَمَّا في أَمْرٍ بين الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيُعْتَبَرُ فيه حَقِيقَةُ اللَّفْظِ لُغَةً وقد وُجِدَ
على أَنَّ هذا الْقَدْرَ من الْكَلَامِ يُسَمَّى خُطْبَةً في الْمُتَعَارَفِ
أَلَا تَرَى إلَى ما روى عن النبي أَنَّهُ قال لِلَّذِي قال من يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى بِئْسَ الْخَطِيبُ أنت سَمَّاهُ خَطِيبًا بهذا الْقَدْرِ من الْكَلَامِ
وَأَمَّا سُنَنُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ على ما روى عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال يَنْبَغِي أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةً خَفِيفَةً يَفْتَتِحُ فيها بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُثْنِي عليه وَيَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي على النبي وَيَعِظُ وَيُذَكِّرُ وَيُقْرَأُ سُورَةً ثُمَّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً أُخْرَى يَحْمَدُ اللَّه تَعَالَى وَيُثْنِي عليه وَيُصَلِّي على النَّبِيّ وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَيَكُونُ قَدْرُ الْخُطْبَةِ قَدْرَ سُورَةٍ من طِوَالِ الْمُفَصَّلِ لِمَا روى عن جَابِرٍ بن سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ فِيمَا بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَتْلُو آيَاتٍ من الْقُرْآنِ
وكان الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ في خُطْبَتِهِ { يوم تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ من خَيْرٍ مُحْضَرًا }
ثُمَّ الْقَعْدَةُ بين الْخُطْبَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَكَذَا الْقِرَاءَةُ في الْخُطْبَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ
وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أمرنا ( ( ( أمر ) ) ) بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا عن قَيْدِ الْقَعْدَةِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا تُجْعَلُ شَرْطًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ
وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا له
وَلَكِنْ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا له فَقُلْنَا إنَّ قَدْرَ ما ثَبَتَ بِالْكِتَابِ يَكُونُ فَرْضًا
وما ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ سُنَّةً عَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً
فلما ثَقُلَ أَيْ أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ وَقَعَدَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا دَلِيلٌ على أَنَّ الْقَعْدَةَ لِلِاسْتِرَاحَةِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ
وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ في حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ
حتى إنَّ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ وهو جُنُبٌ أو مُحْدِثٌ فإنه يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْأَثَرِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ في غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لها الطَّهَارَةُ كما تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ
وَلَنَا أَنَّهُ ليس في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ شَرْطُ الطَّهَارَةِ وَلِأَنَّهَا من بَابِ الذِّكْرِ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ من ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ
أَلَا تَرَى أنها تؤدي مُسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ثُمَّ لم يذكر إعَادَةَ الْخُطْبَةِ هَهُنَا وَذَكَرَ الْجُنُبِ أَنَّهُ يُعَادُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَذَانَ تَحَلَّى بِحِلْيَةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ الْخَلَلُ الْمُتَمَكِّنُ في الْأَذَانِ أَشَدَّ وَكَثِيرُ النَّقْصِ مُسْتَحَقُّ الرَّفْعِ دُونَ قَلِيلِهِ كما يُجْبَرُ نَقْصُ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ دُونَ تَرْكِ السُّنَنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ مُسْتَحَبَّةً في الْمَوْضِعَيْنِ
كَذَا ذُكِرَ في نَوَادِرِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعِيدُهَا وَإِنْ لم يُعِدْهَا جَازَ لِأَنَّهُ ليس من شَرْطِهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ
هَكَذَا ذَكَرَ
أَشَارَ إلَى أنها لَيْسَتْ نَظِيرَ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لها الطَّهَارَةُ إلَّا أنها سُنَّةٌ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَصْلُ بين الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ من إقَامَةِ هذه السُّنَّةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى لو خَطَبَ قَاعِدًا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِظَاهِرِ النَّصِّ
وَكَذَا روى عن عثمانأنه كان يَخْطُبُ قَاعِدًا حين كَبِرَ وَأَسَنَّ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ إلَّا أَنَّهُ مَسْنُونٌ في حَالِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ النبي كان يَخْطُبُ قَائِمًا
وروى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَكَانَ رسول اللَّهِ يَخْطُبُ قَائِمًا أو قَاعِدًا
فقال أَلَسْتَ تَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ لِأَنَّ النبي هَكَذَا كان يَخْطُبُ وَكَذَا السُّنَّةُ في حَقِّ الْقَوْمِ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ وَاجِبٌ لِلْخُطْبَةِ وَذَا لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْمُقَابَلَةِ
وروى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كان لَا يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامَ بِوَجْهِهِ حتى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ من الْأَذَانِ فإذا أَخَذَ الْإِمَامُ في الْخُطْبَةِ انْحَرَفَ بِوَجْهِهِ إلَيْهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُطَوِّلَ الْخُطْبَةَ لِأَنَّ النبي أَمَرَ بِتَقْصِيرِ الْخُطَبِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال طَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ
وقال ابن مَسْعُودٍ طُولُ الصَّلَاةِ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ من فِقْهِ الرَّجُلِ أَيْ إن هذا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ على فِقْهِ الرَّجُلِ
وَأَمَّا مَحْظُورَاتُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَكَذَا الصَّلَاةُ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا دخل الْجَامِعَ وَالْإِمَامُ في الْخُطْبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال دخل سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يوم الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ فقال له أَصَلَّيْتَ قال لَا قال فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا } وَالصَّلَاةُ تُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ
____________________

(1/263)


فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ
كان ذلك قبل وُجُودِ الِاسْتِمَاعِ
وَنُزُولِ قَوْله تَعَالَى { وإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا } دَلَّ عليه ما روى عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبي أَمَرَ سُلَيْكًا أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نهى الناس أَنْ يُصَلُّوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَصَارَ مَنْسُوخًا
أو كان سُلَيْكٌ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَا كُلُّ ما شَغَلَ عن سَمَاعِ الْخُطْبَةِ من التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا
بَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يَسْتَمِعَ وَيَسْكُتَ
وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { وإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا } قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ في شَأْنِ الْخُطْبَةِ
أَمَرَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وروى عن النبي أَنَّهُ قال من قال لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ انصت فَقَدْ لَغَا وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ له ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالسُّكُوتِ في حَقِّ الْقَرِيبِ من الْخَطِيبِ
فَأَمَّا الْبَعِيدُ منه إذَا لم يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ كَيْفَ يَصْنَعُ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال محمد بن سَلَمَةَ الْبَلْخِيّ الْإِنْصَاتُ له أَوْلَى من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أبي بَكْرِ مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ
وَوَجْهُهُ ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا إنَّ أَجْرَ الْمُنْصِتِ الذي لَا يَسْمَعُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُنْصِتِ السَّامِعِ وَلِأَنَّهُ في حَالِ قُرْبِهِ من الْإِمَامِ كان مَأْمُورًا بِشَيْئَيْنِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَبِالْبُعْدِ إنْ عَجَزَ عن الِاسْتِمَاعِ لم يَعْجِزْ عن الْإِنْصَاتِ فَيَجِبُ عليه
وَعَنْ نُصَيْرِ بن يحيى أَنَّهُ أَجَازَ له قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ سِرًّا
وكان الْحَكَمُ بن زُهَيْرٍ من أَصْحَابِنَا يُنْظَرُ في كُتُبِ الْفِقْهِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ الْقُرْبِ لِيَشْتَرِكُوا في ثَمَرَاتِ الْخُطْبَةِ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فيها وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ من الْبَعِيدِ عن الْإِمَامِ فَلْيُحْرِزْ لِنَفْسِهِ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ وَلِأَنَّ الْإِنْصَاتَ لم يَكُنْ مَقْصُودًا بَلْ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاسْتِمَاعِ فإذا سَقَطَ عنه فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ سَقَطَ عنه الْإِنْصَاتُ أَيْضًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ
وَلَنَا إنه تَرَكَ الِاسْتِمَاعَ الْمَفْرُوضَ وَالْإِنْصَاتَ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ ليس بِفَرْضٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِأَجْلِهِ وَكَذَا رَدُّ السَّلَامِ في هذه الْحَالَةِ ليس بِفَرْضٍ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ بِسَلَامِهِ مَأْثَمًا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عليه كما في حَالَةِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ السَّلَامَ في حَالَةِ الْخُطْبَةِ لم يَقَعْ تَحِيَّةً فَلَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ وَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ في كل حَالَةٍ أَمَّا سَمَاعُ الْخُطْبَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في هذه الْحَالَةِ فَكَانَ إقَامَتُهُ أَحَقَّ وَنَظِيرُهُ ما قال أَصْحَابُنَا إنَّ الطَّوَافَ تَطَوُّعًا بِمَكَّةَ في حَقِّ الْآفَاقِيِّ أَفْضَلُ من صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالصَّلَاةُ في حَقِّ الْمَكِّيِّ أَفْضَلُ من الطَّوَافِ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ إنَّ سَمَاعَ الْخُطْبَةِ أَفْضَلُ من الصَّلَاةِ على النبي فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِعَ وَلَا يُصَلِّيَ عليه عِنْدِ سَمَاعِ اسْمِهِ في الْخُطْبَةِ لِمَا أَنَّ إحْرَازَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ على النبي مِمَّا يُمْكِنُ في كل وَقْتٍ وَإِحْرَازُ ثَوَابِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَفْضَلَ
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ على النبي في نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ اسْمِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عن سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ إحْرَازُ الْفَضِيلَتَيْنِ أَحَقَّ
وَأَمَّا الْعَاطِسُ فَهَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يقول ذلك في نَفْسِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عن سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَكَذَا السَّلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ مَكْرُوهٌ لِمَا قُلْنَا
هذا الذي ذَكَرْنَا في حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَأَمَّا عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَخِيرِ حين خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ من الْخُطْبَةِ حين أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ هل يُكْرَهُ ما يُكْرَهُ في حَالِ الْخُطْبَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ
وَاحْتَجَّا بِمَا روى في الحديث خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ جَعَلَ الْقَاطِعَ لِلْكَلَامِ هو الْخُطْبَةُ فَلَا يُكْرَهُ قبل وُجُودِهَا وَلِأَنَّ النَّهْيَ عن الْكَلَامِ لِوُجُوبِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تَمْتَدُّ غَالِبًا فَيَفُوتُ الِاسْتِمَاعُ وَتَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما روى عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا كان يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ على أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ الناس الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فإذا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وجاؤوا ( ( ( وجاءوا ) ) ) يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ فَقَدْ أَخْبَرَ عن طَيِّ الصُّحُفِ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا يَطْوُونَ الصُّحُفَ إذَا طَوَى الناس الْكَلَامَ لِأَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا يَكْتُبُونَهُ عليهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ما يَلْفِظُ من قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
____________________

(1/264)


وَلِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلْخُطْبَةِ كان مُسْتَعِدًّا لها وَالْمُسْتَعِدُّ لِلشَّيْءِ كَالشَّارِعِ فيه وَلِهَذَا أُلْحِقَ الِاسْتِعْدَادُ بِالشُّرُوعِ في كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فَكَذَا في كَرَاهَةِ الْكَلَامِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فيه أَنَّ غير الْكَلَامِ يَقْطَعُ الْكَلَامَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ في حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا تَفْسُدُ الْخُطْبَةُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ فَلَا يُفْسِدُهَا كَلَامُ الناس لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مَنْظُومَةً كالأذان وَالْكَلَامُ يَقْطَعُ النَّظْمَ إلَّا إذَا كان الْكَلَامُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ فَلَا يُكْرَهُ
لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ أَنَّهُ كان يَخْطُبُ يوم الْجُمُعَةِ فَدَخَلَ عليه عُثْمَانُ فقال له أَيَّةُ سَاعَةٍ هذه
فقال ما زِدْتُ حين سمعت النِّدَاءَ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ على أَنْ تَوَضَّأْتُ
فقال وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وقد عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْخُطْبَةِ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ فيها وَعْظٌ فلم يَبْقَ مَكْرُوهًا
وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قبل الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ
إنْ كان مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أو شيئا منها جَازَ وَإِنْ لم يَشْهَدْ شيئا من الْخُطْبَةِ لم يَجُزْ وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ
أَمَّا إذَا شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّ الثَّانِيَ قام مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي
وَكَذَا إذَا شَهِدَ شيئا منها لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ لو وُجِدَ وَحْدَهُ وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ فَكَذَا إذَا وُجِدَ مع غَيْرِهِ وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بين ما إذَا كان الْإِمَامُ مَأْذُونًا في الِاسْتِخْلَافِ أو لم يَكُنْ بِخِلَافِ الْقَاضِي فإنه لَا يَمْلِكُ الِاسْتِخْلَافَ إذَا لم يَكُنْ مَأْذُونًا فيه وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ إذَا لم يَسْتَخْلِفْ فَالْأَمْرُ بِإِقَامَتِهَا مع عِلْمِ الْوَالِي أَنَّهُ قد يَعْرِضُ له عَارِضٌ يَمْنَعُهُ من الْإِقَامَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَانْعَدَمَ الْإِذْنُ نَصًّا وَدَلَالَةً فَهُوَ الْفَرْقُ وَأَمَّا إذَا لم يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّهُ منشىء ( ( ( منشئ ) ) ) لِلْجُمُعَةِ وَلَيْسَ ببان ( ( ( بيان ) ) ) تَحْرِيمَتِهِ على تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ إنْشَاءِ الْجُمُعَةِ ولم تُوجَدُ وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ في الصَّلَاةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جاء سَاعَتَئِذٍ أَيْ لم يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ جَازَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ لِلْجُمُعَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا وهو الْخُطْبَةُ
وَالثَّانِي بَنَى تَحْرِيمَتَهُ على تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ في حَقِّ من ينشىء ( ( ( ينشئ ) ) ) التَّحْرِيمَةَ في الْجُمُعَةِ لَا في حَقِّ من يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ على تَحْرِيمَةِ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ وَإِنْ لم يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى
فَكَذَا هذا
وَلَوْ تَكَلَّمَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ ما شَرَعَ الْإِمَامُ في الصَّلَاةِ فإنه يَسْتَقْبِلُ بِهِمْ الْجُمُعَةَ إنْ كان مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَإِنْ كان لم يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الظُّهْرَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ينشىء ( ( ( ينشئ ) ) ) التَّحْرِيمَةَ في الْجُمُعَةِ وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ في حَقِّ المنشىء ( ( ( المنشئ ) ) ) لِتَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا قام مَقَامَ الْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِهِ حُكْمًا وَلَوْ تَكَلَّمَ الْأَوَّلُ اسْتَقْبَلَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ في الْمُخْتَصَرِ إن الْإِمَامَ إذَا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا لم يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَأَحْدَثَ قبل الشُّرُوعِ لم يَجُزْ وَلَوْ قَدَّمَ هذا الرَّجُلُ مُحْدِثًا آخَرَ قد شَهِدَ الْخُطْبَةَ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ منه الِاسْتِخْلَافُ وَبِمِثْلِهِ لو قَدَّمَ جُنُبًا قد شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَقَدَّمَ هذا الْجُنُبُ رَجُلًا طَاهِرًا قد شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ لِأَنَّ الْجُنُبَ الذي شَهِدَ الْخُطْبَةَ من أَهْلِ الْإِقَامَةِ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِسَالِ فَيَصِحُّ منه الِاسْتِخْلَافُ وَلَوْ كان الْمُقَدَّمُ صَبِيًّا أو مَعْتُوهًا أو امْرَأَةً أو كَافِرًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لم يَجُزْ تَقْدِيمُهُ بِخِلَافِ الْجُنُبِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُنُبَ أَهْلٌ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على اكْتِسَابِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بِإِزَالَةِ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ عن نَفْسِهِ فَكَانَ هذا اسْتِخْلَافًا لِمَنْ له قُدْرَةُ الْقِيَامِ بِمَا اُسْتُخْلِفَ عليه فَصَحَّ كما في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ التي يُسْتَخْلَفُ فيها فإذا قَدَّمَ هو غَيْرَهُ صَحَّ لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ ما صَارَ خَلِيفَةً فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَرْأَةِ فإن الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ لَيْسَا من أَهْلِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ من أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ وَلَا قُدْرَةَ لهم على اكْتِسَابِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فلم يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ إذْ الِاسْتِخْلَافُ شُرِعَ إبْقَاءً لِلصَّلَاةِ على الصِّحَّةِ وَاسْتِخْلَافُ من لَا قُدْرَةَ له على اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ غَيْرُ مُفِيدٍ فلم يَصِحَّ وإذا لم يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ كَيْفَ يَصِحُّ منهم اسْتِخْلَافُ ذلك الْغَيْرِ
فإذا تَقَدَّمَ ذاك ( ( ( ذلك ) ) ) الْغَيْرُ فَكَأَنَّهُ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ لِالْتِحَاقِ تَقَدُّمِهِمْ بِالْعَدَمِ شَرْعًا وَلَوْ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ في هذه الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فيها إلَى التَّقْدِيمِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِمَامِ
____________________

(1/265)


وَالْمُتَقَدِّمُ ليس بِمَأْمُورٍ من جِهَةِ السُّلْطَانِ أو نَائِبِهِ فلم يَجُزْ تَقَدُّمُهُ
فَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَإِقَامَتُهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْإِمَامِ وَبِخِلَافِ ما إذَا اسْتَخْلَفَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا
فَأَدَّى الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ
وَإِنْ كان الْكَافِرُ قَادِرًا على اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ
لِأَنَّ هذا من أُمُورِ الدِّينِ وهو يَعْتَمِدُ وِلَايَةَ السَّلْطَنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكَافِرِ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ على الْمُسْلِمِينَ
فلم يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ولو قَدَّمَ مُسَافِرًا أو عَبْدًا أو مُكَاتَبًا وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ على ما بَيَّنَّا هذا إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ أَحَدًا فَإِنْ لم يُقَدِّمْ وَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرَطِ والقاضي جَازَ
لِأَنَّ هذا من أُمُورِ الْعَامَّةِ وقد قَلَّدَهُمَا الْإِمَامُ ما هو من أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ لِدَفْعِ التَّنَازُعِ في التَّقَدُّمِ وَذَا يَحْصُلُ بِتَقَدُّمِهِمَا لِوُجُودِ دَلِيلِ اخْتِصَاصِهِمَا من بَيْنِ سَائِرِ الناس وهو كَوْنُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبًا لِلسُّلْطَانِ وَعَامِلًا من عُمَّالِهِ وَكَذَا لو قَدَّمَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا قد شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ على ما مَرَّ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّقْدِيمِ لِأَنَّ كُلَّ من يَمْلِكُ إقَامَةَ الصَّلَاةِ يَمْلِكُ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَهُ والله أعلم
فصل في الجماعة وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَالْكَلَامُ في الْجَمَاعَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِلْجُمُعَةِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هذا الشَّرْطِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على أنها شَرْطٌ أَنَّ هذه الصَّلَاةَ تُسَمَّى جُمُعَةً فَلَا بُدَّ من لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فيه اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الذي أُخِذَ اللَّفْظُ منه من حَيْثُ اللُّغَةُ كما في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذلك وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ ثَبَتَ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ على ما مَرَّ وَلِهَذَا لم يُؤَدِّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْجُمُعَةَ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هذا الشَّرْطِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حتى لَا تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا حتى إنَّ الْإِمَامَ إذَا فَرَغَ من الْخُطْبَةِ ثُمَّ نَفَرَ الناس عنه إلَّا وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ وَكَذَا لو نَفَرُوا قبل أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ فَخَطَبَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كما هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَالَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ فَهِيَ شَرْطُ حَالِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ من الصَّلَاةِ
قالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَالَ سَمَاعِهَا كما تُشْتَرَط حَالَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَاخْتَلَفُوا في أنها هل هِيَ شَرْطُ بَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ إنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وقال زُفَرُ إنَّهَا شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ جميعا فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا من أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا حتى إنَّهُمْ لو نَفَرُوا بَعْدَ ما قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ له أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ إذَا نَفَرُوا قبل أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الظُّهْرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ من الْوَقْتِ وَسِتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا جُعِلَ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِتَسَاوِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ إلَّا إذَا كان شَرْطًا لَا يُمْكِنُ قِرَانُهُ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ لِتَعَذُّرِ ذلك أو لِمَا فيه من الْحَرَجِ كَالنِّيَّةِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا لِانْعِقَادِهَا وَهُنَا لَا حَرَجَ في اشْتِرَاطِ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ في حَقِّ الْإِمَامِ لِأَنَّ فَوَاتَ هذا الشَّرْطِ قبل تَمَامِ الصَّلَاةِ في غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ شَرْطَ الْأَدَاءِ كما هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَلِهَذَا شَرَطَ أبو حَنِيفَةَ دَوَامَ هذا الشَّرْطِ في رَكْعَةً كَامِلَةً وَذَا لَا يُشْتَرَطُ في شَرْطِ الِانْعِقَادِ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ هذا الشَّرْطِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي يُوقِعُهُ في الْحَرَجِ لِأَنَّهُ كَثِيرًا ما يُسْبَقُ بِرَكْعَةٍ أو رَكْعَتَيْنِ فَجُعِلَ في حَقِّهِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا غَيْرُ
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَلَا شَرْطَ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْعِبَادَةِ شيئا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ إلَّا إذَا كان شَرْطًا هو كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَالْوَقْتِ
لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لم يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بُدٌّ من تَحْصِيلِهِ لِيَتَمَكَّنَ من الْأَدَاءِ وَلَا وِلَايَةَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ على غَيْرِهِ فلم يَكُنْ قَادِرًا على تَحْصِيلِ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا إلَّا أَنَّا جَعَلْنَاهَا شَرْطًا بِالشَّرْعِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا بِقَدْرِ ما يَحْصُلُ قَبُولُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ وَصَارَ كَالنِّيَّةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ في وُسْعِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَ النِّيَّةِ لَكِنْ لَمَّا كان في اسْتِدَامَتِهَا حَرَجٌ جُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالشَّرْطُ الذي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْعِبَادِ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ شرط ( ( ( شرطا ) ) ) البقاء ( ( ( لبقاء ) ) ) فَجُعِلَ
____________________

(1/266)


شَرْطُ الِانْعِقَادِ
وَلِهَذَا كان من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا في حَقِّ الْإِمَامِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فقال أبو حَنِيفَةَ إنَّ الْجَمَاعَةَ في حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنَّهَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ حتى إنَّهُمْ لو نَفَرُوا بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ قبل تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ عِنْدَهُ كما قال زُفَرُ
وَعِنْدَهُمَا يُتِمُّ الْجُمُعَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَذَا في حَقِّ الْإِمَامِ وَالْجَامِعِ أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْجُمُعَةِ إذَا صَحَّتْ صَحَّ بِنَاءُ الْجُمُعَةِ عليها وَلِهَذَا لو أَدْرَكَهُ إنْسَانٌ في التَّشَهُّدِ صلى الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ لِمَا يُذْكَرُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ في حَقِّ الْإِمَامِ لو جُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ حِينَئِذٍ لَا تَنْعَقِدُ بِدُونِ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ إيَّاهُ فيها وَذَا لَا يَحْصُل إلَّا وَأَنْ تَقَعَ تَكْبِيرَاتُهُمْ مُقَارِنَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ وإنه مِمَّا يَتَعَذَّرُ مُرَاعَاتُهُ وَبِالْإِجْمَاعِ ليس بِشَرْطٍ فَإِنَّهُمْ لو كَانُوا حُضُورًا وَكَبَّرَ الْإِمَام ثُمَّ كَبَّرُوا صَحَّ تَكْبِيرُهُ وَصَارَ شَارِعًا في الصَّلَاةِ وَصَحَّتْ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فلم تُجْعَلْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَجُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ بِخِلَافِ الْقَوْمِ فإنه أَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ في حَقِّهِمْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لِأَنَّهُ تَحْصُلُ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ في التَّحْرِيمَةِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ سَبَقَهُمْ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ في حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ فَانْعِقَادُ الْأَدَاءِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِعْلٌ وَالْحَاجَةُ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ أَدَاءً لِلصَّلَاةِ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ هو الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يُصَلِّي فما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثْ فإذا لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يُوجَدْ الْأَدَاءُ فلم تَنْعَقِدْ فَشَرَطَ دَوَامَ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ الْإِمَامَ إلَى الْفَرَاغِ عن الْأَدَاءِ
وَلَوْ افْتَتَحَ الْجُمُعَةَ وَخَلْفَهُ قَوْمٌ وَنَفَرُوا عنه وَبَقِيَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ ولم تُوجَدْ
وَلَوْ جاء قَوْمُ آخَرُونَ فَوَقَفُوا خَلْفَهُ ثُمَّ نَفَرَ الْأَوَّلُونَ فإن الْإِمَامَ يَمْضِي على صَلَاتِهِ ولم ( ( ( لوجود ) ) ) يوجد الشَّرْطِ
هذا الذي ذَكَرْنَا اشْتِرَاطُ الْمُشَارَكَةِ في حَقِّ الْإِمَامِ وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُشَارَكَةُ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذلك فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ الْمُشَارَكَةُ في التَّحْرِيمَةِ كَافِيَةٌ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا بُدَّ من الْمُشَارَكَةِ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وفي رِوَايَةٍ الْمُشَارَكَةُ في رُكْنٍ منها كَافِيَةٌ وهو قَوْلُ زُفَرَ حتى إن الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ في الْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَهُ في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى أو الثَّانِيَةِ أو كان في رُكُوعِهَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ في سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أو في التَّشَهُّدِ كان مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ في التَّحْرِيمَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا في رِوَايَةٍ لانعدام ( ( ( لعدم ) ) ) الْمُشَارَكَةِ في رَكْعَةٍ وفي رِوَايَةٍ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ في بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قبل السَّلَامِ أو بَعْدَ ما سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سجدتا ( ( ( سجدة ) ) ) السَّهْوِ وَعَادَ إلَيْهِمَا فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ لِوُقُوعِ الْمُشَارَكَةِ في التَّحْرِيمَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ في شَيْءٍ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا تَكُونُ الْأَرْبَعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظُهْرًا مَحْضًا حتى قال يَقْرَأُ في الْأَرْبَعِ كُلِّهَا وَعَنْهُ في افْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأَوْلَى رِوَايَتَانِ في رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عنه فَرْضٌ وفي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى
عنه لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ سَلَكَ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عليه فَأَوْجَبَ ما يُخْرِجُهُ عن الْفَرْضِ بِيَقِينٍ جُمُعَةً كان الْفَرْضُ أو ظُهْرًا
وَقِيلَ على قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَرْبَعُ ظُهْرٌ مَحْضٌ حتى لو تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ
وَاحْتَجُّوا في الْمَسْأَلَةِ بِمَا روى عن الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صلى أَرْبَعًا وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صلى الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ عُرِفَ بِنَصِّ الشَّرْعِ بِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ
منها الجماعة ( ( ( الجمعة ) ) ) وَالسُّلْطَانُ ولم تُوجَدْ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ كُلُّ مَسْبُوقٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ
إلَّا أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكْعَةِ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ وَلَا نَصَّ في الْمُتَنَازَعِ فيه
ثُمَّ مع هذه الْأَدِلَّةِ يَسْلُكُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ
وَاحْتَجَّ أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا أَمَرَ الْمَسْبُوقَ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ
وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ
وَالْحَدِيثُ في حَدِّ الشُّهْرَةِ
وَرَوَى أبو الدَّرْدَاءِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ الْإِمَامَ في التَّشَهُّدِ يوم الْجُمُعَةِ فَقَدْ
____________________

(1/267)


أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ وَلِأَنَّ سَبَبَ اللُّزُومِ هو التَّحْرِيمَةُ وقد شَارَكَ الْإِمَامُ في التَّحْرِيمَةِ وَبَنَى تَحْرِيمَتَهُ على تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ فَيَلْزَمُهُ ما لَزِمَ الْإِمَامَ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فإن الثِّقَاتِ من أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ كَمَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ رَوَوْا أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ رَكْعَةً من صَلَاةٍ فَقَدْ أَدْرَكَهَا فَأَمَّا ذِكْرُ الْجُمُعَةِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ومن أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صلى أَرْبَعًا رَوَاهُ ضُعَفَاءُ أَصْحَابِهِ
هَكَذَا قال الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَلَئِنْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَتَأْوِيلُهَا وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قد سَلَّمُوا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وما ذَكَرُوا من الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً
وَقَوْلُهُمْ هُنَاكَ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ قُلْنَا وَهَهُنَا أَيْضًا يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا
وما ذَكَرُوا من الِاحْتِيَاطِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ إنْ كانت ظُهْرًا فَلَا يُمْكِنُ بِنَاؤُهَا على تَحْرِيمَةِ عَقْدِهَا لِلْجُمُعَةِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو أَدْرَكَهُ في التَّشَهُّدِ وَنَوَى الظُّهْرَ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِنْ كانت جُمُعَةً فَالْجُمُعَةُ كَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ على أَنَّهُ لَا احْتِيَاطَ عِنْدَ ظُهُورِ فَسَادِ أَدِلَّةِ الْخُصُومِ وَصِحَّةِ دَلِيلِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في مِقْدَارِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ
وقال أبو يُوسُفَ اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عن عبد الرحمن بن كَعْبِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ قال كنت قَائِدَ أبي حين كُفَّ بَصَرُهُ فَكَانَ إذَا سمع النِّدَاءَ يوم الْجُمُعَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بن زُرَارَةَ فقلت لَأَسْأَلَنَّهُ عن اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِي أُمَامَةَ فَبَيْنَمَا أنا أَقُودُهُ في جُمُعَةٍ إذْ سمع النِّدَاءَ فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ فقلت يا ( ( ( يل ) ) ) أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة أسعد بن زرارة فقال إنَّ أَوَّلَ من جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ أَسْعَدُ فَقُلْت وَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ فقال كنا أَرْبَعِينَ رَجُلًا
وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ إلَى الْجُمُعَةِ يَكُونُ بِالنَّصِّ ولم يُنْقَلْ إنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِثَلَاثَةٍ
وَلَنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَخْطُبُ فَقَدِمَ عِيرٌ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فَانْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَائِمًا وَلَيْسَ معه إلَّا اثني ( ( ( اثنا ) ) ) عَشَرَ رَجُلًا منهم أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وقد أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِهِمْ وَرُوِيَ أَنْ مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ قد أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ مع إثني عَشَرَ رَجُلًا وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ تُسَاوِي ما ورائها ( ( ( وراءها ) ) ) في كَوْنِهَا جَمْعًا فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ جَمْعِ الْأَرْبَعِينَ بِخِلَافِ الِاثْنَيْنِ فإنه ليس بِالْجَمْعِ وَلَا حُجَّةَ له في حديث أَسْعَدَ بن زُرَارَةَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِالْأَرْبَعِينَ وَقَعَ اتِّفَاقًا أَلَا يَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ أَقَامَهَا بِسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَقَامَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حين انْفَضُّوا إلَى التِّجَارَةِ وَتَرَكُوهُ قَائِمًا
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إنْ الشرط ( ( ( شرط ) ) ) أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ وقد وُجِدَ لِأَنَّهُمَا مع الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ جَمْعٌ مُطْلَقٌ وَلِهَذَا يَتَقَدَّمُهُمَا الْإِمَامُ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم وَشَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ كل وَاحِدٍ منهم يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ فَيَحْصُلَ هذا الشَّرْطُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَحْصُلُ هذا الشَّرْطُ إلَّا إذَا كان سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ إذْ لو كان مع الْإِمَام ثَلَاثَةٌ لَا يُوجَدُ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم إلَّا اثْنَانِ وَالْمُثَنَّى ليس بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْجَوَازِ حتى يَجِبَ على كل وَاحِدٍ تَحْصِيلُ هذا الشَّرْطِ غير أَنَّهُمَا يَصْطَفَّانِ خَلَفَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْمُقْتَدِي تَابِعٌ لِإِمَامِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ خَلْفَهُ لِإِظْهَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ غير إنه إنْ كان وَاحِدًا لَا يَقُومُ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَصِيرَ مُنْتَبَذًا خَلْفَ الصُّفُوفِ فَيَصِيرَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ فإذا صَارَ اثْنَيْنِ زَالَ هذا الْمَعْنَى فَقَامَا خَلْفَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَعِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ من يَصْلُحْ إمَامًا لِلرِّجَالِ في الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لَا غَيْرُ وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ حتى تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِقَوْمٍ عَبِيدٍ أو مُسَافِرِينَ وَلَا تَنْعَقِدُ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالنِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ
وقال الشَّافِعِيُّ يُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ في صِفَةِ الْقَوْمِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عليهم فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ كَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ
وَلَنَا إن دَرَجَةَ الْإِمَامِ أَعْلَى ثُمَّ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِقَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْإِمَامِ لِمَا مَرَّ فَلَأَنْ لَا تُشْتَرَطَ في الْقَوْمِ أَوْلَى
وَإِنَّمَا لَا تَجِبْ الْجُمُعَةُ على الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ إذَا لم يَحْضُرُوا فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا تَجِبُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْوُجُوبِ قد زَالَ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وهو وَقْتُ الظُّهْرِ حتى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا على زَوَالِ الشَّمْسِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ
____________________

(1/268)


بن عُمَيْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ قال له إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَسْعَدَ بن زُرَارَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ من الْيَوْمِ الذي تَتَجَهَّزُ فيه الْيَهُودُ لِسَبْتِهَا فَازْدَلِفْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ وما رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ ضُحًى يَعْنِي بِالْقُرْبِ منه وَمُرَادُ الرَّاوِي أَنَّهُ ما أَخَّرَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنْ لم يُؤَدِّهَا حتى دخل وَقْتُ الْعَصْرِ تَسْقُطْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهَا لَا تقضي لِمَا نَذْكُرُ
وقال مَالِكُ تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ في وَقْتِ الْعَصْرِ وهو فَاسِدٌ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الظُّهْرِ بِالنَّصِّ فَيَصِيرُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَقْتًا لِلْجُمُعَةِ وما أُقِيمَتْ مَقَامَ غَيْرِ الظُّهْرِ من الصَّلَوَاتِ فلم تَكُنْ مَشْرُوعَةً في غَيْرِ وَقْتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا من الشَّرَائِطِ مَذْكُورَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ في النَّوَادِر شَرْطًا آخَرَ لم يَذْكُرْهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الِاشْتِهَارِ حتى إنَّ أَمِيرًا لو جَمَعَ جَيْشَهُ في الْحِصْنِ وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا تُجْزِئُهُمْ
كَذَا ذُكِرَ في النَّوَادِرِ
فإنه قال السُّلْطَانُ إذَا صلى في فَهَنْدَرَةٍ وَالْقَوْمُ مع أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قال إنْ فَتْحَ بَابَ دَارِهِ وَأَذِنَ لِلْعَامَّةِ بِالدُّخُولِ في فَهَنْدَرَةٍ جَازَ وَتَكُونُ الصَّلَاةُ في مُوضِعَيْنِ وَلَوْ لم يَأْذَنْ لِلْعَامَّةِ وَصَلَّى مع جَيْشِهِ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ السُّلْطَانِ وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْعَامَّةِ وَإِنَّمَا كان هذا شَرْطًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالنِّدَاءُ لِلِاشْتِهَارِ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً لِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فيها فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْمِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِهَا فَمِقْدَارُهَا رَكْعَتَانِ
عَرَفْنَا ذلك بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من بَعْدِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِقْدَارَ ما يَقْرَأُ في صَلَاةِ الظُّهْرِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ قَرَأَ في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ وفي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ تَبَرُّكًا بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَحَسَنٌ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ كان يَقْرَأْهُمَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } و { الغاشية } فَإِنْ تَبَرَّكَ بِفِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَرَأَ هذه السُّورَةَ في أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَنِعْمَ ما فَعَلَ وَلَكِنْ لَا يُوَاظِبْ على قِرَاءَتِهَا بَلْ يَقْرَأْ غَيْرَهَا في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَلِئَلَّا تَظُنَّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فيها لِوُرُودِ الْأَثَرِ فيها بِالْجَهْرِ وهو ما روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال سمعت النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وفي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ لم يَجْهَرْ لَمَا سُمِعَ وَكَذَا الْأُمَّةُ تَوَارَثَتْ ذلك وَلِأَنَّ الناس يوم الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ عن الِاهْتِمَامِ لِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذلك الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَتَحْصُلُ لهم ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ فَيَجْهَرُ بها كما ( يجهر بها ) في صَلَاةِ اللَّيْلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو فَاتَتْ عن وَقْتِهَا فَنَقُولُ إنَّهُ يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ ما يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وقد بَيَّنَّا ذلك في مَوْضِعِهِ وَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا على الْخُصُوصِ أَشْيَاءُ منها خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ في خِلَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ العلماء ( ( ( المشايخ ) ) ) وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يُفْسِدُهَا بِنَاءً على أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ الْعَامَّةِ حتى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهَا في وَقْتِ الْعَصْرِ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه وَكَذَا خُرُوجُ الْوَقْتِ بعدما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ في قول أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَفْسُدُ وَهِيَ من الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وقد مَرَّتْ
وَمِنْهَا فَوْتُ الْجَمَاعَةِ الْجُمُعَةُ قبل أَنْ يُقَيِّدَ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ بِأَنْ نَفَرَ الناس عنه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا لَا تَفْسُدُ وَأَمَّا فَوْتُهَا بَعْدَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ وقد ذَكَرْنَا هذه الْمَسَائِلَ
وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِهَا فَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أو بِفَوْتِ الْجَمَاعَةِ يَسْتَقْبِلْ الظُّهْرَ وَإِنْ فَسَدَتْ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ عَامَّةُ الصَّلَوَاتِ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذلك يَسْتَقْبِلْ الْجُمُعَةَ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطهَا وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا وهو وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقْضَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ على حَسَبِ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا على كل فَرْدٍ فَتَسْقُطُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ عن أَوْقَاتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ وما يُكْرَهُ فيه فَالْمُسْتَحَبُّ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ أَنْ يَدَّهِنَ وَيَمَسَّ طِيبًا وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ إنْ كان عِنْدَهُ ذلك وَيَغْتَسِلَ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ من أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ
____________________

(1/269)


يَكُونَ الْمُقِيمُ لها على أَحْسَنِ وَصْفٍ وقال مَالِكٌ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ على كل مُحْتَلِمٍ أو قال حَقٌّ على كل مُحْتَلِمٍ
وَلَنَا ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من تَوَضَّأَ يوم الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ وما روى من الحديث فَتَأْوِيلُهُ مَرْوِيٌّ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا كان الناس عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْرَقُونَ فيه وَالْمَسْجِدُ قَرِيبُ السَّمْكِ فَكَانَ يَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ بَعْضٍ فَأُمِرُوا بِالِاغْتِسَالِ لِهَذَا ثُمَّ اُنْتُسِخَ هذا حين لَبِسُوا غير الصُّوفِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ
قال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
وقال أبو يُوسُفَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ بِشَرَائِطَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا فَلَهَا من الْفَضِيلَةِ ما ليس لِغَيْرِهَا وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ من اغْتَسَلَ يوم الْجُمُعَةِ قبل صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْغُسْلِ وَعِنْدَ الْحَسَنِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لها وَكَذَا إذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا إذَا اغْتَسَلَ يوم الْجُمُعَةِ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فإنه يَنَالُ فَضِيلَةَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ لِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا ما يُكْرَهُ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَنَقُولُ تُكْرَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ يوم الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ في الْمِصْر في سِجْنٍ أو ( ( ( وغير ) ) ) غير سِجْنٍ هَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ في وَقْتِ الظُّهْرِ يوم الْجُمُعَةِ في الْأَمْصَارِ فَدَلَّ ذلك على كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فيها في حَقِّ الْكُلِّ وَلِأَنَّا لو أَطْلَقْنَا لِلْمَعْذُورِ إقَامَةَ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ في الْمِصْرِ فَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ جَمْعِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ سَاكِنَ الْمِصْرِ مَأْمُورٌ بِشَيْئَيْنِ في هذا الْوَقْتِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْمَعْذُورُ قَدَرَ على أَحَدِهِمَا وهو تَرْكُ الْجَمَاعَاتِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّرْكِ
وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِأَنَّهُ ليس عليهم شُهُودُ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ في إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فيها تَقْلِيلَ جَمْعِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ هذا الْيَوْمُ في حَقِّهِمْ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ وَكَذَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يوم الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بين يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ يَكُونُ نَهْيًا عن مُبَاشَرَتِهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ وَلَوْ بَاعَ يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ ليس لَعَيْنِ الْبَيْعِ بَلْ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَنَذْكُرُهَا في آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ فَنَوْعَانِ صَلَاةُ الْوِتْرِ وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ
أَمَّا صَلَاةُ الْوِتْرِ فَالْكَلَامُ في الْوِتْرِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ الْوَتْرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ وفي بَيَانِ من يَجِبُ عليه وفي بَيَانِ مِقْدَارِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ التي فيه وَمِقْدَارِهَا وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهُ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أو فَاتَ عن وَقْتِهِ وفي بَيَانِ الْقُنُوتِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فيه ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى حَمَّادُ بن زَيْدٍ عنه أَنَّهُ فَرْضٌ وَرَوَى يُوسُفُ بن خَالِدٍ السَّمْتِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَرَوَى نُوحُ بن أبي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ في الْجَامِعِ عنه أَنَّهُ سَنَةٌ وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تعالى وَقَالُوا إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ آكَدُ من سَائِرِ السُّنَنِ الْمُؤَقَّتَةِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ ولم تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى
وفي رِوَايَةٍ ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى
وَعَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم في خُطْبَةِ الْوَدَاعِ صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ في حديث مُعَاذٍ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قال له أَعْلِمْهُمْ إن اللَّهَ عز وجل افْتَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلَوْ كان الْوِتْرُ وَاجِبًا لَصَارَ الْمَفْرُوضُ سِتَّ صَلَوَاتٍ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ على الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ نَسْخٌ لها لِأَنَّ الْخَمْسَ قبل الزِّيَادَةِ كانت كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ تَصِيرُ بَعْضَ الْوَظِيفَةِ فَيُنْسَخُ وَصْفُ الْكُلِّيَّةِ بها
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَالْمَشَاهِيرِ من الْأَحَادِيثِ بِالْآحَادِ وَلِأَنَّ عَلَامَاتِ السُّنَنِ فيها ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى تَبَعًا لِلْعِشَاءِ وَالْفَرْضُ ما لَا يَكُونُ تَابِعًا لِفَرْضٍ آخَرَ وَلَيْسَ لها وَقْتٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ وَلِفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ أَوْقَاتٌ وَأَذَانٌ وَإِقَامَةُ وجماعة ( ( ( جماعة ) ) ) وَلِذَا يُقْرَأُ في الثَّلَاثِ
____________________

(1/270)


كُلِّهَا وذا من أَمَارَاتِ السُّنَنِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رَوَى خَارِجَةُ بن حُذَافَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا ما بين الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَ بها وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّاهَا زِيَادَةً وَالزِّيَادَةُ على الشَّيْءِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا من جِنْسِهِ فَأَمَّا إذَا كان غَيْرَهُ فإنه يَكُونُ قِرَانًا لَا زِيَادَةَ لأن الزِّيَادَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ على الْمُقَدَّرِ وهو الْفَرْضُ فَأَمَّا النَّفَلُ فَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الزِّيَادَةُ عليه وَلَا يُقَالُ إنَّهَا زِيَادَةٌ على الْفَرْضِ لَكِنْ في الْفِعْلِ لَا في الْوُجُوبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا قبل ذلك أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ ذَكَرَهَا مَعْرِفَةً بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَمِثْلُ هذا التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعَهْدِ وَلِذَا لم يَسْتَفْسِرُوهَا وَلَوْ لم يَكُنْ فِعْلُهَا مَعْهُودًا لَاسْتَفْسَرُوا فَدَلَّ أَنَّ ذلك في الْوُجُوبِ لَا في الْفِعْلِ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا زِيَادَةٌ على السُّنَنِ لِأَنَّهَا كانت تُؤَدَّى قبل ذلك بِطَرِيقِ السُّنَّةِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَوْتِرُوا يا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَمَنْ لم يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَكَذَا التَّوَعُّدُ على التَّرْكِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ
وَرَوَى أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن عَلِيٍّ الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عن أبي سُلَيْمَانَ بن أبي بُرْدَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لم يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قال أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ على أَنَّ الْوِتْرَ حَقٌّ وَاجِبٌ وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ فيه إجْمَاعَ السَّلَفِ وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ يُقْضَى عِنْدَهُمَا وهو أَحَدُ قَوْلِي الشَّافِعِيِّ
وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عن الْفَوَاتِ لَا عن عُذْرٍ يَدُلُّ على وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَلِذَا لَا يُؤَدَّى على الرَّاحِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ وَبِعَيْنِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ وَذَا من أَمَارَاتِ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالثَّلَاثِ وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ ليس بِمَشْرُوعٍ
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِبَارَةٌ عن الْفَرْضِيَّةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهِيَ آخِرُ أَقْوَالِ أبي حَنِيفَةَ
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ على ما قبل الْوُجُوبِ وَلَا حُجَّةَ لهم في الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ على فَرْضِيَّةِ الْخَمْسِ وَالْوِتْرُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ وفي هذا حِكَايَةٌ وهو ما روى أَنَّ يُوسُفَ بن خَالِدٍ السمني ( ( ( السمتي ) ) ) سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ عن الْوِتْرِ فقال هِيَ وَاجِبَةٌ فقال يُوسُفُ كَفَرْتَ يا أَبَا حَنِيفَةَ وكان ذلك قَبْل أَنْ يَتَّلْمَذَ عليه كَأَنَّهُ فَهِمَ من قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يقول أنها فَرِيضَةٌ فَزَعَمَ أَنَّهُ زَادَ على الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فقال أبو حَنِيفَةَ لِيُوسُفَ أَيَهُولُنِي إكْفَارُكَ إيَّايَ وأنا أَعْرِفُ الْفَرْقَ بين الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَفَرْقِ ما بين السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ بَيَّنَ له الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَجَلَسَ عِنْدَهُ لِلتَّعَلُّمِ بَعْدَ أَنْ كان من أَعْيَانِ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ وإذا لم يَكُنْ واجبا ( ( ( فرضا ) ) ) لم تَصِرْ الْفَرَائِضُ الْخَمْسُ سِتًّا بِزِيَادَةِ الْوِتْرِ عليها وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ على الْخَمْسِ لَيْسَتْ نَسْخًا لها لِأَنَّهَا بَقِيَتْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَرْضًا أَمَّا قَوْلُهُمْ أنه لَا وَقْتَ لها فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لها وَقْتٌ وهو وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ الْعِشَاءِ عليها شَرْطٌ عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَذَا لَا يَدُلُّ على التَّبَعِيَّةِ كَتَقْدِيمِ كل فَرْضٍ على ما يَعْقُبُهُ من الْفَرَائِضِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ اسْتِحْسَانًا فإن تَأْخِيرَهَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبٌّ وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ وَذَا أَمَارَةُ الْأَصَالَةِ إذْ لو كانت تَابِعَةً لِلْعِشَاءِ لَتَبِعَتْهُ في الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ جميعا
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَلِأَنَّهَا من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لها في صَلَاةِ ( الجنازة ( ( ( النساء ) ) ) ) وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَلِضَرْبِ احْتِيَاطٍ عِنْدَ تَبَاعُدِ الْأَدِلَّةِ عن إدْخَالِهَا تَحْتَ الْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ على ما نَذْكُرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه فَوُجُوبُهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ بَلْ يَعُمُّ الناس أَجْمَعَ من الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بَعْدَ أَنْ كان أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ في مِقْدَارِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا
وقال الشَّافِعِيُّ هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ أو ثَلَاثٍ أو خَمْسٍ أو سَبْعٍ أو تِسْعٍ أو أَحَدَ عَشْرَ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا
وقال الزُّهْرِيُّ في شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وفي غَيْرِهِ رَكْعَةٌ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من شَاءَ أَوْتَرَ ركعة ( ( ( بركعة ) ) ) وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أو بِخَمْسٍ
وَلَنَا ما روى عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
وَعَنْ الْحَسَنِ قال أَجْمَعَ
____________________

(1/271)


الْمُسْلِمُونَ على أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا سَلَامَ إلَّا في آخِرِهِنَّ وَمِثْلُهُ لَا يُكَذَّبُ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ نَفْلٌ عِنْدَهُ وَالنَّوَافِلُ أتباع الْفَرَائِضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لها نَظِيرًا من الْأُصُولِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ فَرْضًا وَحَدِيثُ التَّخْيِيرِ مَحْمُولٌ على ما قبل اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْوِتْرِ بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِهِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ وفي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ أَمَّا أَصْلُ الْوَقْتِ فَوَقْتُ الْعِشَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عليه حتى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهُ قبل صَلَاةِ الْعِشَاءِ مع أَنَّهُ وَقْتُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وهو التَّرْتِيبُ إلَّا إذَا كان نَاسِيًا كَوَقْتِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ وهو وَقْتُ الْفَائِتَةِ لَكِنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عليه
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقْتُهُ بَعْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهَذَا بِنَاءً على ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ سُنَّةٌ وَيُبْنَى على هذا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ من صلى الْعِشَاءَ على غَيْرِ وُضُوءٍ وهو لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَعَادَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كان وَاجِبًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كان أَصْلًا بِنَفْسِهِ في حَقِّ الْوَقْتِ لَا تَبَعًا لِلْعِشَاءِ فكلما ( ( ( فكما ) ) ) غَابَ الشَّفَقُ دخل وَقْتُهُ كما دخل وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَاجِبٌ حَالَةَ التَّذَكُّرِ فَعِنْدَ النِّسْيَانِ يَسْقُطُ كما في الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ التي لم يُؤَدِّهَا حتى دخل وَقْتُ الْعَصْرِ يَجِبُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ على الظُّهْرِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ ثُمَّ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ على الظُّهْرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ كَذَا هذا وَالدَّلِيلُ على أَنَّ وَقْتَهُ ما ذَكَرْنَا لَا ما بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لو لم يُصَلِّ الْعِشَاءَ حتى طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ كما يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِشَاءِ وَلَوْ كان وَقْتُهَا ذلك لَمَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا إذ لم يَتَحَقَّقْ وَقْتُهَا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ ما بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ بِدُونِ فِعْلِ الْعِشَاءِ هذا هو تَخْرِيجُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ على هذا الْأَصْلِ
وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كان سُنَّةً كان وَقْتُهُ ما بَعْدَ وَقْتِ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ كَوَقْتِ رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَلِهَذَا قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في ذلك الحديث زَادَكُمْ الله عز وجل صَلَاةً وَجَعَلَهَا لَكُمْ ما بين الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَوُجُودُ ما بين شَيْئَيْنِ سَابِقًا على وُجُودِهِمَا مُحَالٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ إطْلَاقَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَا يَنْفِي الْإِطْلَاقَ قَبْلَهُ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ إذَا صلى الْوِتْرَ على ظَنِّ أَنَّهُ صلى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُصَلِّ الْعِشَاءَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وهو أَنَّ من صلى الْفَجْرَ وهو ذَاكِرٌ أَنَّهُ لم يُوتِرْ وفي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ في الْعَمَلِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بين السُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَوْ تَرَكَ الْوِتْرَ عِنْدَ وَقْتِهِ حتى طَلَعَ الْفَجْرُ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ كَالْفَرْضِ وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْكِلُ أَيْضًا لِأَنَّهُ سُنَّةٌ ( عنده ( ( ( عندهما ) ) ) ) وَكَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يَقْضِيَ وَهَكَذَا روى عنهما في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُمَا اسحسنا ( ( ( استحسنا ) ) ) في الْقَضَاءِ بِالْأَثَرِ وهو قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من نَامَ عن وِتْرٍ أو نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ فإن ذلك وَقْتُهُ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا تَذَكَّرَ في الْوَقْتِ أو بَعْدَهُ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلْوِتْرِ فَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن وِتْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت تَارَةً كان يُوتِرُ في أَوَّلِ اللَّيْلِ وَتَارَةً في وَسَطِ اللَّيْلِ وَتَارَةً في آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَارَ وِتْرُهُ في آخِرِ عُمْرِهِ في آخِرِ اللَّيْلِ
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ اللَّيْلِ مثنى مَثْنَى فإذا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ وَهَذَا إذَا كان لَا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنْ كان يَخَافُ فَوْتَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنَامَ إلَّا عن وِتْرٍ وأبو بَكْرٍ كان يُوتِرُ في أَوَّلِ اللَّيْلِ وَعُمَرُ كان يُوتِرُ في آخِرِ اللَّيْلِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ أَخَذْتَ بِالثِّقَةِ وقال لِعُمَرَ أَخَذْتَ بِفَضْلِ الْقُوَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فيه فَالْقِرَاءَةُ فيه فَرْضٌ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان وَاجِبًا لَكِنَّ الْوَاجِبَ ما يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفْلٌ لَكِنْ يُرَجَّحُ جِهَةُ الْفَرْضِيَّةِ فيه بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ فَيُجْعَلُ وَاجِبًا مع احْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ فَإِنْ كان فَرْضًا يكتفي بِالْقِرَاءَةِ في رَكْعَتَيْنِ منه كما في الْمَغْرِبِ وَإِنْ كان نَفْلًا يُشْتَرَطُ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كما في النَّوَافِلِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في وُجُوبِهَا في الْكُلِّ لم يذكر الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ قَدْرَ
____________________

(1/272)


الْقِرَاءَةِ في الْوِتْرِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وقال وما قَرَأَ في الْوِتْرِ فَهُوَ حَسَنٌ وَبَلَغَنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ في الْوِتْرِ في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى ب { سبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وفي الثَّانِيَةِ ب { قل يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثَّالِثَةِ ب { قل هو اللَّهُ أَحَدٌ } وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يؤقت شيئا من الْقُرْآنِ في الْوِتْرِ لِمَا مَرَّ
وَلَوْ قَرَأَ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وفي الثَّانِيَةِ { قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثَّالِثَةِ { قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ } اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان حَسَنًا لَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عليه كيلا يَظُنَّهُ الْجُهَّالُ حَتْمًا ثُمَّ إذَا فَرَغَ من الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَةِ الثالثة ( ( ( الثانية ) ) ) كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُمَا ثُمَّ يَقْنُتُ
أَمَّا التَّكْبِيرُ فَلِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَقَنَتَ
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَرْفَعْ الْيَدَيْنِ إلَّا في سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا الْقُنُوتَ وَأَمَّا الْإِرْسَالُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأُمَّا الْقُنُوتُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في صِفَةِ الْقُنُوتِ وَمَحَلِّ أَدَائِهِ وَمِقْدَارِهِ وَدُعَائِهِ وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن مَحِلِّهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقُنُوتُ وَاجِبٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ
وَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في أَصْلِ الْوِتْرِ
وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ فَالْوِتْرُ في جَمِيعِ السُّنَّةِ قبل الرُّكُوعِ عِنْدَنَا
وقد خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ في الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فقال يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَقْنُتُ في الْوِتْرِ إلَّا في النِّصْفِ الْأَخِيرِ من رَمَضَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ
وَاحْتَجَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وكان يَدْعُو على قَبَائِلَ
وَلَنَا ما رَوَى ابن مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَنَتَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا كان يَدْعُو في قُنُوتِهِ على رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ مَنْسُوخًا دَلَّ عليه أَنَّهُ روى أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كما في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ
وقال أبو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ صَلَّيْتُ خَلْفَ أبي بَكْرٍ وَخَلْفَ عُمَرَ كَذَلِكَ فلم أَرَ أَحَدًا مِنْهُمَا يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَاحْتَجَّ في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا أَمَرَ أُبَيَّ بن كَعْبٍ بِالْإِمَامَةِ في لَيَالِي رَمَضَانَ أَمَرَهُ بِالْقُنُوتِ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ منه
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا رَاعَيْنَا صَلَاةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِاللَّيْلِ فقنت ( ( ( يقنت ) ) ) قبل الرُّكُوعِ ولم يَذْكُرُوا وَقْتًا في السُّنَّةِ
وَتَأْوِيلُ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ طَوَّلَ الْقِيَامَ بِالْقِرَاءَةِ وَطُولُ الْقِيَامِ يُسَمَّى قُنُوتًا
لا أنه أَرَادَ بِهِ الْقُنُوتَ في الْوِتْرِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ على هذا لِأَنَّ إمَامَةَ أُبَيِّ بن كَعْبٍ كانت بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ وَلَا يَخْفَى عليهم حَالُهُ وقد رَوَيْنَا عَنْهُمْ بِخِلَافِهِ
وَاسْتَدَلَّ في الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ قد صَحَّ في الحديث عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَاسَ عليه الْقُنُوتَ في الْوِتْرِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قُنُوتَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْوِتْرِ قبل الرُّكُوعِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَنْسُوخِ على ما مَرَّ
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْقُنُوتِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِقْدَارَ الْقِيَامِ في الْقُنُوتِ مِقْدَارُ سُورَةِ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وَكَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في الْقُنُوتِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَكِلَاهُمَا على مِقْدَارِ هذه السُّورَةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان لَا يُطَوِّلُ في دُعَاءِ الْقُنُوتِ
وَأَمَّا دُعَاءُ الْقُنُوتِ فَلَيْسَ في الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عن الصَّحَابَةِ أَدْعِيَةٌ مُخْتَلِفَةً في حَالِ الْقُنُوتِ وَلِأَنَّ الْمُوَقَّتَ من الدُّعَاءِ يَجْرِي على لِسَانِ الدَّاعِي من غَيْرِ احْتِيَاجِهِ إلَى إحْضَارِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ منه إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْعُدُ عن الْإِجَابَةِ وَلِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ في الْقِرَاءَةِ لِشَيْءٍ من الصَّلَوَاتِ فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى
وقد روى عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّوْقِيتُ في الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ وقال بَعْضُ مَشَايِخُنَا الْمُرَادُ من قَوْلِهِ ليس في الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ ما سِوَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّفَقُوا على هذا في الْقُنُوتِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَهُ وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ وَلَوْ قَرَأَ معه غَيْرَهُ كان حَسَنًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ ما عَلَّمَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما في قُنُوتِهِ اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ إلَى آخِرِهِ وقال بَعْضُهُمْ الْأَفْضَلُ في الْوِتْرِ أَنْ يَكُونَ فيه دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا
____________________

(1/273)


يَكُونُ جَاهِلًا فَيَأْتِي بِدُعَاءٍ يُشْبِهُ كَلَامَ الناس فتفسد ( ( ( فيفسد ) ) ) الصَّلَاةَ وما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْقِيتَ في الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ مَحْمُولٌ على أَدْعِيَةِ الْمَنَاسِكِ دُونَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا صِفَةُ دُعَاءِ الْقُنُوتِ من الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كان مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ كما في الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كان إمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إلَى قَوْلِهِ إنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ وإذا دَعَا الْإِمَامُ بَعْدَ ذلك هل يُتَابِعُهُ الْقَوْمُ ذَكَرَ في الْفَتَاوَى اخْتِلَافًا بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ يُتَابِعُونَهُ ويقرؤون ( ( ( ويقرءون ) ) ) وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يقرؤون ( ( ( يقرءون ) ) ) وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ شَاءَ الْقَوْمُ سَكَتُوا
وَأَمَّا الصَّلَاةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْقُنُوتِ فَقَدْ قال أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَفْعَلُ لِأَنَّ هذا ليس مَوْضِعَهَا
وقال الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ يَأْتِي بها لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فيه الصَّلَاةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ذَكَرَهُ في الْفَتَاوَى هذا كُلُّهُ مَذْكُورٌ في شَرْحِ الْقَاضِي مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْإِخْفَاءَ في دُعَاءِ الْقُنُوتِ في حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جميعا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ
وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوتِ إذَا فَاتَ عن مَحِلِّهِ فَنَقُولُ إذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ حتى رَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ بعدما رَفْعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ لَا يَعُودُ وَيَسْقُطُ عنه الْقُنُوتُ وَإِنْ كان في الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ وهو ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُنُوتِ لأن فيه شَبَهًا بِالْقِرَاءَةِ فَيَعُودُ كما لو تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أو السُّورَةَ وَلَوْ تَذَكَّرَ في الرُّكُوعِ أو بَعْدَ ما رَفْعَ رَأْسَهُ منه أَنَّهُ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أو السُّورَةَ يَعُودُ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّكُوعَ يَتَكَامَلُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ أَصْلًا فَيَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الْقِرَاءَةِ وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ على التَّعْيِينِ وَاجِبَةٌ فَيُنْتَقَضُ الرُّكُوعُ بِتَرْكِهَا فَكَانَ نَقْضُ الرُّكُوعِ لِلْأَدَاءِ على الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالْأَحْسَنِ فَكَانَ مَشْرُوعًا فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَكَامَلُ بِهِ الرُّكُوعُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قُنُوتَ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالرُّكُوعُ مُعْتَبَرٌ بِدُونِهِ فلم يَكُنْ النَّقْضُ لِلتَّكْمِيلِ لِكَمَالِهِ في نَفْسِهِ وَلَوْ نُقِضَ كان النَّقْضُ لِأَدَاءِ الْقُنُوتِ الْوَاجِبِ وَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَا يَقْنُتُ في الرُّكُوعِ أَيْضًا بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا تَذَكَّرَهَا في حَالِ الرُّكُوعِ حَيْثُ يُكَبِّرُ فيه وَالْفَرْقُ أَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ لم تَخْتَصَّ بِالْقِيَامِ الْمَحْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بها في حَالِ الِانْحِطَاطِ وَهِيَ مَحْسُوبَةٌ من تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فإذا جَازَ أَدَاءُ وَاحِدَةٍ منها في غَيْرِ مَحْضِ الْقِيَامِ من غَيْرِ عُذْرٍ جَازَ أَدَاءُ الْبَاقِي مع قِيَامِ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَأَمَّا الْقُنُوتُ فلم يُشْرَعْ إلَّا في مَحْضِ الْقِيَامِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الرُّكُوعِ الذي هو قِيَامٌ من وَجْهٍ وَلَوْ أَنَّهُ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ رُكُوعُهُ على قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ ما إذَا عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أو السُّورَةِ حَيْثُ يُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ قَائِمٌ ما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ فإذا عَادَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ أو السُّورَةَ وَقَعَ الْكُلُّ فَرْضًا فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بين الْفَرَائِضِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِنَقْضِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ لِأَنَّ مَحِلَّهُ قد فَاتَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ فإذا عَادَ فَقَدْ قَصَدَ نَقْضَ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ وَاجِبٍ فَاتَ عليه فَلَا يَمْلِكُ ذلك
وَلَوْ عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أو السُّورَةِ فَقَرَأَهَا وَرَكَعَ مَرَّةً أُخْرَى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ في الرُّكُوعِ الثَّانِي كان مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَلَوْ كان أَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَرَكَعَ فَظَنَّ أَنَّهُ لم يَقْرَأْ فَرَفَعَ رَأْسَهُ منه يَعُودُ فَيَقْرَأُ وَيُعِيدُ الْقُنُوتَ وَالرُّكُوعَ وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الرُّكُوعَ هَهُنَا حَصَلَ قبل الْقِرَاءَةِ فلم يُعْتَبَرْ أَصْلًا وَلَوْ حَصَلَ قبل قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أو السُّورَةِ يَعُودُ وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ فَهَهُنَا أَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُهُ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أو فَاتَ عن وَقْتِهِ أَمَّا ما يُفْسِدُهُ وَحُكْمُهُ إذَا فَسَدَ فما ذَكَرْنَا في الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وإذا فَاتَ عن وَقْتِهِ يقضى على اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أنها وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا وفي بَيَانِ وَقْتِ أَدَائِهَا وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو فَاتَتْ عن وَقْتِهَا وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ في يَوْمِ الْعِيدِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ نَصَّ الْكَرْخِيُّ على الْوُجُوبِ فقال
____________________

(1/274)


وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ على أَهْلِ الْأَمْصَارِ كما تَجِبُ الْجُمُعَةُ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ على من تَجِبُ عليه صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ ما يَدُلُّ على الْوُجُوبِ فإنه قال لَا يصلي التَّطَوُّعُ بِالْجَمَاعَةِ ما خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ وَكُسُوفَ الشَّمْسِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَلَوْ كانت سُنَّةً ولم تَكُنْ وَاجِبَةً لَاسْتَثْنَاهَا كما اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَسَمَّاهُ سُنَّةً في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فإنه قال في الْعِيدَيْنِ اجْتَمَعَا في يَوْمٍ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَهَذَا اخْتِلَافٌ من حَيْثُ الْعِبَارَةُ فَتَأْوِيلُ ما ذَكَرَهُ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أنها وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ أَمْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وإنها في مَعْنَى الْوَاجِبِ على أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السُّنَّةِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ على وُجُوبِهَا وَذَكَرَ أبو مُوسَى الضَّرِيرُ في مُخْتَصَرِهِ أنها فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّحِيحُ أنها وَاجِبَةٌ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ أنها سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أنها بَدَلُ صَلَاةِ الضُّحَى وَتِلْكَ سُنَّةٌ فكذلك ( ( ( فكذا ) ) ) هذه لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لوجوب ( ( ( للوجوب ) ) ) وقَوْله تَعَالَى { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على ما هَدَاكُمْ } قِيلَ الْمُرَادُ منه صَلَاةُ الْعِيدِ وَلِأَنَّهَا من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَلَوْ كانت سُنَّةً فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الناس على تَرْكِهَا فَيَفُوتُ ما هو من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً صِيَانَةً لِمَا هو من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عن الْفَوْتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا فَكُلُّ ما هو شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَجَوَازِهَا فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَجَوَازِهَا من الْإِمَامِ وَالْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْوَقْتِ إلَّا الْخُطْبَةَ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَلَوْ تَرْكَهَا جَازَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ
أَمَّا الْإِمَامُ فَشَرْطٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَكَذَا الْمِصْرُ لِمَا رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ ولم يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْسَ الْفِطْرِ وَنَفْسَ الْأَضْحَى وَنَفْسَ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا يُوجَدُ في كل مَوْضِعٍ بَلْ الْمُرَادُ من لَفْظِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَلِأَنَّهَا ما ثَبَتَتْ بِالتَّوَارُثِ من الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَّا في الْأَمْصَارِ وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا في مَوْضِعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ لِأَنَّهَا ما أُدِّيَتْ إلَّا بِجَمَاعَةٍ


وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فَإِنَّهَا لَا تُؤَدَّى إلَّا في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ وَكَذَا الذُّكُورَةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَصِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْإِقَامَةُ من شَرَائِطِ وُجُوبِهَا كما هِيَ من شَرَائِطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ حتى لَا تَجِبَ على النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْعَبِيدِ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيهِمْ وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ كما لَا تَجِبُ عليهم لِمَا ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ هذه الْأَعْذَارَ لَمَّا أَثَّرَتْ في إسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلَأَنْ تُؤَثِّرَ في إسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْلَى وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ عن حُضُورِ الْعِيدَيْنِ كما له مَنْعُهُ عن حُضُورِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ
وَأَمَّا النساء ( ( ( النسوة ) ) ) فَهَلْ يُرَخَّصُ لَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ في الْعِيدَيْنِ
أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ في الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَشَيْءٍ من الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ } وَالْأَمْرُ بِالْقَرَارِ نَهْيٌ عن الِانْتِقَالِ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِلَا شَكٍّ وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ وما أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ في الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْعِيدَيْنِ وَاخْتَلَفُوا في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ
قال أبو حَنِيفَةَ لَا يُرَخَّصُ لَهُنَّ في ذلك
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُرَخَّصُ لَهُنَّ في ذلك وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَنْعَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ خُرُوجِهِنَّ وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ في الْعَجَائِزِ وَلِهَذَا أَبَاحَ أبو حَنِيفَةَ خُرُوجَهُنَّ في غَيْرِهِمَا من الصَّلَوَاتِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتُ انْتِشَارِ الْفُسَّاقِ في الْمَحَالِّ وَالطُّرُقَاتِ فَرُبَّمَا يَقَعُ من صَدَقَتْ رَغْبَتُهُ في النِّسَاءِ في الْفِتْنَةِ بِسَبَبِهِنَّ أو يَقَعْنَ هُنَّ في الْفِتْنَةِ لِبَقَاءِ رَغْبَتِهِنَّ في الرِّجَالِ وَإِنْ كَبِرْنَ فَأَمَّا في الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَالْهَوَاءُ مُظْلِمٌ وَالظُّلْمَةُ تَحُولُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ نَظَرِ الرِّجَالِ وَكَذَا الْفُسَّاقُ لَا يَكُونُونَ في الطَّرَقَاتِ في هذه الْأَوْقَاتِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ في الْفِتْنَةِ
وفي الْأَعْيَادِ وَإِنْ كان تَكْثُرُ الْفُسَّاقُ تَكْثُرُ الصُّلَحَاءُ أَيْضًا فَتَمْنَعُ هَيْبَةُ الصُّلَحَاءِ أو الْعُلَمَاءِ إيَّاهُمَا عن الْوُقُوعِ في الْمَأْثَمِ وَالْجُمُعَةُ في الْمِصْرِ فَرُبَّمَا تَصْدِمُ أو تُصْدَمُ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وفي ذلك فِتْنَةٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تؤدي في الْجَبَّانَةِ فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَعْتَزِلَ نَاحِيَةً عن الرِّجَالِ كيلا تُصْدَمَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ الْخُرُوجَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ هذا الْخِلَافُ في الرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَأَمَّا لَا خِلَافَ في أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ في صَلَاةٍ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْمَرْأَةِ في دَارِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في مَسْجِدِهَا وَصَلَاتُهَا في بَيْتِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في دَارِهَا وَصَلَاتُهَا في مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في
____________________

(1/275)


بَيْتِهَا ثُمَّ إذَا رُخِّصَ في صَلَاةِ الْعِيدِ هل يُصَلِّينَ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ يُصَلِّينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُرُوجِ هو الصَّلَاةُ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلِيَخْرُجْنَ إذَا خَرَجْنَ تَفِلَاتٍ أَيْ غير مُتَطَيِّبَاتٍ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ لَا يُصَلِّينَ الْعِيدَ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي اللَّهُ عنها كُنَّ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي فَعُلِمَ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ كان لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ في زَمَانِنَا
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا حَضَرَ مع مَوْلَاهُ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةَ لِيَحْفَظَ دَابَّتَهُ هل له أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ رِضَاهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ ليس له ذلك إلَّا إذَا كان لَا يُخِلُّ بِحَقِّ مَوْلَاهُ في إمْسَاكِ دَابَّتِهِ
وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عليه أو مُقَارِنًا له وَالدَّلِيلُ على أنها تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ ما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَكَانُوا يبدؤون ( ( ( يبدءون ) ) ) بِالصَّلَاةِ قبل الْخُطْبَةِ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فبدؤوا ( ( ( فبدءوا ) ) ) بِالصَّلَاةِ قبل الْخُطْبَةِ ولم يُؤَذِّنُوا ولم يُقِيمُوا وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِتَعْلِيمِ ما يَجِبُ إقَامَتُهُ يوم الْعِيدِ وَالْوَعْظِ وَالتَّكْبِيرِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى لِيَكُونَ الِامْتِثَالُ أَقْرَبَ إلَى زَمَانِ التَّعْلِيمِ
وَالدَّلِيلُ على أنها بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ ما رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا خَطَبَ الْعِيدَ قبل الصَّلَاةِ قام رَجُلٌ فقال أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ يا مَرْوَانُ ولم يُخْرِجْهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَطَبْتَ قبل الصَّلَاةِ وكان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فقال مَرْوَانُ ذَاكَ شَيْءٌ قد تُرِكَ فقال أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَمَا هذا فَقَدْ قَضَى ما عليه سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول من رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيده فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ أَيْ أَقَلُّ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ
وَإِنَّمَا أَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ الْخُطْبَةَ قبل الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ في خُطْبَتِهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ وكان الناس لَا يَجْلِسُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِسَمَاعِهَا فَأَحْدَثُوهَا قبل الصَّلَاةِ لِيَسْمَعَهَا الناس فَإِنْ خَطَبَ أَوَّلًا ثُمَّ صلى أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّهُ لو تَرَكَ الْخُطْبَةَ أَصْلًا أَجْزَأَهُمْ فَهَذَا أَوْلَى
وَكَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ في الْعِيدَيْنِ كَهِيَ في الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَقْرَأُ فيها سُورَةً من الْقُرْآنِ وَيَسْتَمِعُ لها الْقَوْمُ وَيُنْصِتُوا لِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ الشَّرَائِعَ وَيَعِظُهُمْ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ ذلك إذَا اسْتَمَعُوا وَلَيْسَ في الْعِيدَيْنِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ لِمَا رَوَيْنَا من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ
وروى عن جَابِرِ بن سَمُرَةَ أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ الْعِيدَ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم غير مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَلِأَنَّهُمَا شَرْعًا عَلَمًا على الْمَكْتُوبَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقْتَ صَلَاةِ العيدين ( ( ( العيد ) ) ) من حِينِ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ لِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ على قَدْرِ رُمْحٍ أو رُمْحَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ في آخِرِ يَوْمٍ من رَمَضَانَ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى من الْغَدِ
وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الزَّوَالِ لم يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى وَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ في الْأُمَّةِ فَيَجِبُ اتِّبَاعَهُمْ فَإِنْ تَرَكَهَا في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ في عِيدِ الْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حتى زَالَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ أَصْلًا سَوَاءٌ تَرَكَهَا لِعُذْرٍ أو لِغَيْرِ عُذْرٍ وَأَمَّا في عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ تَرَكَهَا في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِعُذْرٍ أو لِغَيْرِ عُذْرٍ صلى في الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَوَاءٌ كان لِعُذْرٍ أو لِغَيْرِ عُذْرٍ غير أَنَّ التَّأْخِيرَ إذَا كان لِغَيْرِ عُذْرٍ تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَإِنْ كان لِعُذْرٍ لَا تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا في يَوْمِ العيد ( ( ( عيد ) ) ) لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِالْعِيدِ فَيُقَالُ صَلَاةٌ العيد ( ( ( لعيد ) ) ) إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ في الْيَوْمِ الثَّانِي في عِيدِ الْفِطْرِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا وَالنَّصِّ الذي وَرَدَ في حَالَةِ الْعُذْرِ فَبَقِيَ ما رَوَاهُ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ في الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ في عِيدِ الْأَضْحَى اسْتِدْلَالًا بِالْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ في الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَكَذَا صَلَاةُ الْعِيدِ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ وَيَمْضِي ذلك كُلُّهُ في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ من ذِي الْحِجَّةِ لِلنَّحْرِ خَاصَّةً وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلتَّشْرِيقِ خَاصَّةً وَالْيَوْمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِلنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ جميعا=

ح4. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587


فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا فَنَقُولُ يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ فيقول سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ كَاسْمِهِ وُضِعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَخِّرُ التَّعَوُّذَ عن التَّكْبِيرَاتِ بِنَاءً على أَنَّ التَّعَوُّذَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ أو سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ فإذا قام إلَى الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ أَوَّلًا ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَرْكَعُ بِالرَّابِعَةِ
فَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ عِنْدَنَا يُكَبِّرُ في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ سِتَّةٌ من الزَّوَائِدِ وثلاث ( ( ( وثلاثة ) ) ) أَصْلِيَّاتٌ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ وَيُوَالِي بين الْقِرَاءَتَيْنِ فَيَقْرَأُ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وفي الثَّانِيَةِ قبل التَّكْبِيرَاتِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سَبْعًا في الْأُولَى وَخَمْسًا في الثَّانِيَةِ فَتَكُونُ الزَّوَائِدُ تِسْعًا خَمْسٌ في الْأُولَى وَأَرْبَعٌ في الثَّانِيَةِ وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَيَبْدَأُ بالتكبير ( ( ( بالتكبيرات ) ) ) في كل وَاحِدَةٍ من الرَّكْعَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سَبْعًا في الْأُولَى وَخَمْسًا في الثَّانِيَةِ سِوَى الْأَصْلِيَّاتِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ قبل الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَحُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا مِثْلَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فقال في الْفِطْرِ يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَثَمَانٍ زَوَائِدُ في كل رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ وفي الْأَضْحَى يُكَبِّرُ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَتَكْبِيرَتَانِ زَائِدَتَانِ وَعِنْدَهُ يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ على التَّكْبِيرَاتِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عنه كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَّهُ شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ عنه رِوَايَتَانِ
إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ في الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَعَشْرَةٌ زَوَائِدُ في كل رَكْعَةٍ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ
وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ اثْنَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً كما قال أبو يُوسُفَ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ على التَّكْبِيرَاتِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا وَالْمُخْتَارُ في الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاجْتِمَاعِ الصَّحَابَةِ عليه فإنه رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بن عُقْبَةَ أَتَاهُمْ فقال غَدًا الْعِيدُ فَكَيْفَ تَأْمُرُونِي أَنْ أَفْعَلَ فَقَالُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ عَلِّمْهُ فَعَلَّمَهُ هذه الصِّفَةَ وَوَافَقُوهُ على ذلك وَقِيلَ أنه مُخْتَارُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرَاتِ بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ فَبِقَدْرِ ما ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لم تَبْقَ بِدْعَةً بِيَقِينٍ وما دخل تَحْتَ الِاخْتِلَافِ كان تَوَهُّمَ الْبِدْعَةِ وَإِنَّمَا الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ إلَّا أَنَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ بِلَادِنَا لِأَنَّ الْخِلَافَةَ في بَنِي الْعَبَّاسِ فَيَأْمُرُونَ عُمَّالَهُمْ بِالْعَمَلِ بِمَذْهَبِ جَدِّهِمْ
وَبَيَانُ هذه الْفُصُولِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ولم يُبَيِّنْ في الْأَصْلِ مِقْدَارَ الْفَصْلِ بين التَّكْبِيرَاتِ وقد رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بين كل تَكْبِيرَتَيْنِ مقدار ( ( ( قدر ) ) ) ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ
روى ( ( ( وحكى ) ) ) أبو عِصْمَةَ عن أبي يُوسُفَ إنه لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في شَيْءٍ منها لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في الصَّلَاةِ إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَتَلْتَحِقُ بِجِنْسِهَا وهو تَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هو إعْلَامُ ( وهو ( ( ( الأصم ) ) ) ) لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالرَّفْعِ فَيَرْفَعُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وتكبير ( ( ( وتكبيرات ) ) ) الْقُنُوتِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا في حَالِ الِانْتِقَالِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدِ لِلْإِعْلَامِ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ على الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْعِيدِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَ { هل أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ في أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَحَسَنٌ لَكِنْ يُكْرَهُ أَنْ ( يتخذهما ( ( ( يتحد ) ) ) ) حَتْمًا لَا يُقْرَأُ فيها غَيْرُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ ويجهر ( ( ( وبجهر ) ) ) بالقراءة ( ( ( القراءة ) ) ) كَذَا وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْجَهْرِ بِهِ وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ من الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَى يَوْمِنَا هذا
ثُمَّ الْمُقْتَدِي يُتَابِعُ الْإِمَامَ في التَّكْبِيرَاتِ على رَأْيِهِ وَإِنْ كَبَّرَ أَكْثَرَ من تِسْعٍ ما لم يُكَبِّرْ تَكْبِيرًا لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فَيَجِبُ عليه مُتَابَعَتُهُ وَتَرْكُ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
____________________

(1/277)


فَلَا تَخْتَلِفُوا ( عليه )
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَابِعْ إمَامَك على أَيِّ حَالٍ وَجَدْته ما لم يَظْهَرْ خطأه بِيَقِينٍ كان اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا وَلَا يَظْهَرُ ذلك في الْمُجْتَهَدَاتِ
فَأَمَّا إذَا خَرَجَ عن أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إذْ لَا مُتَابَعَةَ في الخطأ وَلِهَذَا لو اقْتَدَى بِمَنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسِ منه أو بِمَنْ يَقْنُتُ في الْفَجْرِ أو بِمَنْ يَرَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يُتَابِعُهُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ مَنْسُوخٌ
ثُمَّ إلَى كَمْ يُتَابِعُهُ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فيه قال عَامَّتُهُمْ أنه يُتَابِعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ثُمَّ يَسْكُتُ بَعْدَ ذلك
قال بَعْضُهُمْ يُتَابِعُهُ إلَى سِتَّةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً لِأَنَّ فِعْلَهُ إلَى هذا الْمَوْضِعِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَعَلَّ هذا الْقَائِلَ ذَهَبَ إلَى أن ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً الزَّوَائِدَ فإذا ضَمَمْت إلَيْهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ صَارَتْ ستة ( ( ( ست ) ) ) عشر تَكْبِيرَةً لَكِنْ هذا إذَا كان يَقْرُبُ من الْإِمَامِ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَاتِ منه فَأَمَّا إذَا كان يَبْعُدُ منه يَسْمَعُ من الْمُكَبِّرِينَ يَأْتِي بِجَمِيعِ ما يَسْمَعُ وَإِنْ خَرَجَ عن أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَلَطَ من الْمُكَبِّرِينَ فَلَوْ تَرَكَ شيئا منها رُبَّمَا كان الْمَتْرُوكُ ما أتى بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْتِيُّ بِهِ ما أَخْطَأَ فيه الْمُكَبِّرُونَ فَيُتَابِعُهُمْ لِيَتَأَدَّى ما يَأْتِيه الْإِمَامُ بِيَقِينٍ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا كان الْمُقْتَدِي يَبْعُدُ من الْإِمَامِ يَسْمَعُ من الْمُكَبِّرِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِكُلٍّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِجَوَازِ أَنَّ ما سمع قبل هذه كان غَلَطًا من الْمُنَادِي وَإِنَّمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ لِلِافْتِتَاحِ الْآنَ وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ في صَلَاةِ الْعِيدِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهِ
فَإِنْ كان قبل التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ يُتَابِعُ الْإِمَامَ على مَذْهَبِهِ وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ أَدْرَكَهُ بعدما كَبَّرَ الْإِمَامُ الزَّوَائِدَ
وَشَرَعَ في الْقِرَاءَةِ فإنه يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لَا بِرَأْيِ الْإِمَامِ
لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ في الرُّكُوعِ
فَإِنْ لم يَخَفْ فَوْتَ الرُّكُوعِ مع الْإِمَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا
وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في الرُّكُوعِ
وَإِنْ كان الِاشْتِغَالُ بِقَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ الْمُصَلِّي قبل الْفَرَاغِ بِمَا أَدْرَكَهُ مَنْسُوخًا لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يَتَمَكَّنُ من قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ
فَأَمَّا ما لَا يَتَمَكَّنُ من قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فلم يَثْبُتْ فيه النَّسْخُ
وَلِأَنَّهُ لو تَابَعَ الْإِمَامَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ أو لَا يَأْتِي بها
فَإِنْ كان لَا يَأْتِي بها فَهَذَا تَفْوِيتُ الْوَاجِبِ وَإِنْ كان يَأْتِي بها فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ فِيمَا هو مَحَلٌّ له من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ فيه تَفْوِيتُهُ عن مَحِلِّهِ من وَجْهٍ
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فِيمَا هو مَحِلٌّ له من وَجْهٍ أَوْلَى من تَفْوِيتِهِ رَأْسًا
وَإِنْ خَافَ إنْ كَبَّرَ يَرْفَعُ الْإِمَامُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَرَكَعَ لِأَنَّهُ لو لم يَرْكَعْ يَفُوتُهُ الرُّكُوعُ فَتَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوْتِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ أَيْضًا فَاتَتْهُ فَيَصِيرُ بِتَحْصِيلِ التَّكْبِيرَاتِ مُفَوِّتًا لها وَلِغَيْرِهَا من أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ إذَا رَكَعَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ في الرُّكُوعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكَبِّرُ لِأَنَّهُ فَاتَ عن مَحِلِّهَا وهو الْقِيَامُ فَيَسْقُطُ كَالْقُنُوتِ
وَلَهُمَا أَنَّ لِلرُّكُوعِ حُكْمُ الْقِيَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ مُدْرِكَهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ مَحِلُّهَا قَائِمًا فَيَأْتِي بها وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ الْقِيَامَ الْمَحْضَ وقد فَاتَ
ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بين التَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يأتي بِالتَّكْبِيرَاتِ دُونَ التَّسْبِيحَاتِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ وَالتَّسْبِيحَاتِ سُنَّةٌ وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى فَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ قبل أَنْ يُتِمَّهَا رَفَعَ رَأْسَهُ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ وَسَقَطَ عنه ما بَقِيَ من التَّكْبِيرَاتِ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحِلُّهَا
وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ من الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَتَذَكَّرَ إنه لم يُكَبِّرْ فإنه يَعُودُ وَيُكَبِّرُ وقد انْتَقَضَ رُكُوعُهُ وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ
فَرْقٌ بين الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي حَيْثُ أَمَرَ الْإِمَامَ بِالْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ ولم يَأْمُرْهُ بِأَدَاءِ التَّكْبِيرَاتِ في حَالَةِ الرُّكُوعِ
وفي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ في حَالَةِ الرُّكُوعِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحِلَّ التَّكْبِيرَاتِ في الْأَصْلِ الْقِيَامُ الْمَحْضُ وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا حَالَةَ الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لم تَتَحَقَّقْ في حَقِّ الْإِمَامِ فَبَقِيَ مَحِلُّهَا الْقِيَامُ الْمَحْضُ فَأُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ
ثُمَّ من ضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ ارْتِفَاضُ الرُّكُوعِ كما لو تَذَكَّرَ الْفَاتِحَةَ في الرُّكُوعِ أَنَّهُ يَعُودُ وَيَقْرَأُ وَيَرْتَفِضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالْفَرَاغِ عنها وَالرُّكْنُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالِانْتِقَالُ عنه غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ فَبَقِيَتْ على ما تَمَّتْ
هذا إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِرَاءَةِ فَأَمَّا إنْ تَذَكَّرَ قبل الْفَرَاغِ عنها بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ دُونَ السُّورَةِ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ وَيَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ قبل أَوَانِهَا فَيَتْرُكُهَا وَيَأْتِي بِمَا هو الْأَهَمُّ لِيَكُونَ الْمَحِلُّ مَحِلًّا له ثُمَّ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ
____________________

(1/278)


لِأَنَّ الرُّكْنَ مَتَى تُرِكَ قبل تَمَامِهِ يُنْتَقَضُ من الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ في نَفْسِهِ وما لَا يَتَجَزَّأُ في الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الذي بِهِ تَمَامُهُ في الْحُكْمِ وَنَظِيرُهُ من تَذَكَّرَ سَجْدَةً في الرُّكُوعِ خَرَّ لها وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ لِمَا مَرَّ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
هذا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِنْ أَدْرَكَهُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ وَتَابَعَ إمَامَهُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ فيها رَأْيَ إمَامِهِ لِمَا قُلْنَا فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ
ثُمَّ إنْ كان رَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْإِمَامِ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي بِخِلَافِ اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ في الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفُ الْإِمَامِ وَإِنْ كان رَأْيُهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِ إمَامِهِ بِأَنْ كان إمَامُهُ يَرَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وهو كَذَلِكَ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ
وفي نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ في أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وقال في الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ ما يَقْضِي الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ وَعِنْدَنَا في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وما ذُكِرَ في النَّوَادِرِ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا ما يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَعِنْدَنَا في الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقْرَأُ وَمِنْهُمْ من قال لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ بين أَصْحَابِنَا بَلْ فيها اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ النوادر ( ( ( والنوادر ) ) ) ما ذَكَرْنَا أَنَّ ما يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ يَقْضِي ما فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ كما فَاتَهُ وقد فَاتَهُ على وَجْهٍ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فيه على الْقِرَاءَةِ فَيَقْضِيهِ كَذَلِكَ وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ إن الْمَقْضِيَّ وَإِنْ كان أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ صُورَةً وَفِيمَا أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ قَرَأَ ثُمَّ كَبَّرَ لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ الْإِمَامِ فَلَوْ قَدَّمَ هَهُنَا ما يقضى أَدَّى ذلك إلَى الْمُوَالَاةِ بين التكبيرات ( ( ( التكبيرتين ) ) ) ولم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَلَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ احْتِرَازًا عن مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بِصُورَةِ هذا الْفِعْلِ
وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ لَكَانَ فيه تَقْدِيمُ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ لَكِنْ هذا مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا قَالَهُ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِمَا لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إذْ هو بَاطِلٌ بِيَقِينٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو فَاتَتْ عن وَقْتِهَا فَكُلُّ ما يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وما يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ يُفْسِدُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ من خُرُوجِ الْوَقْتِ في خِلَالِ الصَّلَاةِ أو بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَفَوْتِ الْجَمَاعَةِ على التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ غير إنها إنْ فَسَدَتْ بِمَا يَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ ذلك يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ على شَرَائِطِهَا وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أو فَاتَتْ عن وَقْتِهَا مع الْإِمَامِ سَقَطَتْ وَلَا يَقْضِيهَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ كما يُصَلِّي الْإِمَامُ يُكَبِّرُ فيها تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ما عُرِفَتْ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَالْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما فَعَلَهَا إلَّا بِالْجَمَاعَةِ كَالْجُمُعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَلِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا في الْقَضَاءِ فَلَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى إنْ شَاءَ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِالْقَضَاءِ لِفَقْدِ الشَّرَائِطِ فَلَوْ صلى مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى لِيَنَالَ الثَّوَابَ كان حَسَنًا لَكِنْ لَا يَجِبُ لفقد ( ( ( لعدم ) ) ) دَلِيلِ الْوُجُوبِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال من فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صلى أَرْبَعًا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ في يَوْمِ الْعِيدِ فَيُسْتَحَبُّ فيه أَشْيَاءُ منها ما قال أبو يُوسُفَ أنه يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ وَيَغْتَسِلَ وَيَطْعَمَ شيئا وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَمَسَّ طِيبًا وَيُخْرِجَ فِطْرَتَهُ قبل أَنْ يَخْرُجَ
أَمَّا الِاغْتِسَالُ وَالِاسْتِيَاكُ وَمَسُّ الطِّيبِ وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ جَدِيدًا كان أو غَسِيلًا فَلِمَا ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ
وَأَمَّا إخْرَاجُهُ الْفِطْرَةَ قبل الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى في عِيدِ الْفِطْرِ فَلِمَا روى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُخْرِجُ قبل أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَأَمَّا الذَّوْقُ فيه فَلِكَوْنِ الْيَوْمِ يوم فِطْرٍ
وَأَمَّا في عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ شَاءَ ذَاقَ وَإِنْ شَاءَ لم يَذُقْ وَالْأَدَبُ أَنَّهُ لَا يَذُوقُ شيئا إلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ حتى يَكُونَ تَنَاوُلُهُ من الْقَرَابِينَ
وَمِنْهَا أَنْ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى جَاهِرًا بِالتَّكْبِيرِ في عِيدِ الْأَضْحَى فإذا انْتَهَى إلَى الْمُصَلَّى تَرَكَ لِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يُكَبِّرُ في الطَّرِيقِ
وَأَمَّا في عِيدِ الْفِطْرِ فَلَا يُجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ في قول أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُجْهَرُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُجْهَرُ في الْعِيدَيْنِ جميعا و ( ( ( واحتجوا ) ) ) ( احتجا ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على ما هَدَاكُمْ } وَلَيْسَ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إلَّا
____________________

(1/279)


ذا التَّكْبِيرُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ قَائِدُهُ يوم الْفِطْرِ فَسَمِعَ الناس يُكَبِّرُونَ فقال لِقَائِدِهِ أَكَبَّرَ الْإِمَامُ قال لَا قال أَفَجُنَّ الناس وَلَوْ كان الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ سُنَّةً لم يَكُنْ لِهَذَا الْإِنْكَارِ مَعْنًى وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَذْكَارِ هو الْإِخْفَاءُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ فيه وقد وَرَدَ في عِيدِ الْأَضْحَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ في عِيدِ الْفِطْرِ على الْأَصْلِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ منه صَلَاةُ الْعِيدِ على أَنَّ الْآيَةَ تَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ التَّكْبِيرِ وَكَلَامُنَا في وَصْفِ التَّكْبِيرِ من الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عن ذلك وَمِنْهَا أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْخُطْبَةِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من صلى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ له بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً
وَأَمَّا قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَتَطَوَّعُ في الْمُصَلَّى وَلَا في بَيْتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا لِمَا نَذْكُرُ في بَيَانِ الْأَوْقَاتِ التي يُكْرَهُ فيها التَّطَوُّعُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَخْلُفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِأَصْحَابِ الْعِلَلِ في الْمِصْرِ صَلَاةَ الْعِيدِ لِمَا روى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ اسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ لِيُصَلِّيَ بِالضَّعَفَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ في الْمَسْجِدِ وَخَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ مع خَمْسِينَ شَيْخًا يَمْشِي وَيَمْشُونَ وَلِأَنَّ في هذا إعَانَةً لِلضَّعَفَةِ على إحْرَازِ الثَّوَابِ فَكَانَ حَسَنًا وَإِنْ لم يَفْعَلْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يُنْقَلْ ذلك عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا عن الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ سِوَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ على الضَّعَفَةِ وَلَكِنْ لو خَلَّفَ كان أَفْضَلَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُخْرَجُ الْمِنْبَرُ في الْعِيدَيْنِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَفْعَلْ ذلك وقد صَحَّ أَنَّهُ كان يَخْطُبُ في الْعِيدَيْنِ على نَاقَتِهِ وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَلِهَذَا اتَّخَذُوا في الْمُصَلَّى مِنْبَرًا على حِدَةٍ من اللَّبِنِ وَالطِّينِ وَاتِّبَاعُ ما اُشْتُهِرَ الْعَمَلُ بِهِ في الناس وَاجِبٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ أَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ فَالْكَلَامُ في صَلَاةِ الْكُسُوفِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أنها وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا وفي بَيَانِ مَوْضِعِهَا وفي بَيَانِ وَقْتِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْأَصْلِ ما يَدُلُّ على عَدَمِ الْوُجُوبِ فإنه قال وَلَا تُصَلَّى نَافِلَةٌ في جَمَاعَةٍ إلَّا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ فَاسْتَثْنَى صَلَاةَ الْكُسُوفِ من الصَّلَوَاتِ النَّافِلَةِ وَالْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه فَيَدُلُّ على كَوْنِهَا نَافِلَةً
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ ما يَدُلُّ عليه فإنه رَوَى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في كُسُوفِ الشَّمْسِ إنْ شاؤوا صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شاؤوا صَلَّوْا أَرْبَعًا وَإِنْ شاؤوا أَكْثَرَ من ذلك وَالتَّخْيِيرُ يَكُونُ في النَّوَافِلِ لَا في الْوَاجِبَاتِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا روى عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يوم مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ
فقال الناس إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَسَمِعَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال أَلَا إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فإذا رَأَيْتُمْ من هذا شيئا فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوهُ وَسَبِّحُوهُ وَصَلُّوا حتى تَنْجَلِيَ وفي رِوَايَةِ أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فإذا رَأَيْتُمُوهَا فَقُومُوا وَصَلُّوا وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَعَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قال انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ في زَمَنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقَامَ فَزِعًا فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ حتى أتى الْمَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وقال إنَّ هذه الْآيَاتِ تُرْسَلُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُهَا لِيُخَوِّفَ بها عِبَادَهُ
فإذا رَأَيْتُمْ منها شيئا فَارْغَبُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَافْزَعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ
وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إيَّاهَا نَافِلَةً لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ النَّافِلَةَ عِبَارَةٌ عن الزِّيَادَةِ وَكُلُّ وَاجِبٍ زِيَادَةٌ على الْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قرنها ( ( ( قربها ) ) ) بِقِيَامِ رَمَضَانَ وهو التَّرَاوِيحُ وإنها سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهِيَ في مَعْنَى الْوَاجِبِ
وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ
لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قد يَجْرِي بين الْوَاجِبَاتِ
كما في قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }
فَصْلٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ في قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَقَوْمَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
____________________

(1/280)


عليه وسلم فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا من سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وهو دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وهو دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلَنَا ما رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عن أبي بَكْرَةَ أَنَّهُ قال كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَخَرَجَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَجُرُّ ثَوْبَهُ حتى دخل الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَهُمَا حتى تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَذَلِكَ حين مَاتَ وَلَدُهُ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ قال إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فإذا رَأَيْتُمْ من هذه الْأَفْزَاعِ شيئا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ لِيَنْكَشِفَ ما بِكُمْ وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وفي رِوَايَةٍ عن أبي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى رَكْعَتَيْنِ نحو صَلَاةِ أَحَدِكُمْ
وَرَوَى الْجَصَّاصُ عن عَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ وَسَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ وَالْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى في الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا
وَالْجَوَابُ عن تَعَلُّقِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رِوَايَتَهُمَا قد تَعَارَضَتْ روى كما قُلْتُمْ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ في أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَالْمُتَعَارَضُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا أو نَقُولُ تَعَاضَدَ ما رَوَيْنَا بِالِاعْتِبَارِ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى أو نَحْمِلُ ما رَوَيْتُمْ على أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ كَثِيرًا زِيَادَةً على قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِمَا روى أَنَّهُ عُرِضَ عليه الْجَنَّةُ وَالنَّارُ في تِلْكَ الصَّلَاةِ فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رؤوسهم ظَنًّا منهم أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ فَرَفَعَ من خَلْفَهُمْ فلما رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَاكِعًا رَكَعُوا وَرَكَعَ من خَلْفَهُمْ فلما رَفَعَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ رؤوسهم فَمَنْ كان خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فَرَوَوْا على حَسَبِ ما وَقَعَ عِنْدَهُمْ وَعَلِمَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقَلُوا على حَسَبِ ما عَلِمُوهُ وَمِثْلُ هذا الِاشْتِبَاهِ قد يَقَعُ لِمَنْ كان في آخِرِ الصُّفُوفِ وَعَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كانت وَاقِفَةً في خَيْرِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وابن عَبَّاسٍ في صَفِّ الصِّبْيَانِ في ذلك الْوَقْتِ فَنَقَلَا كما وَقَعَ عِنْدَهُمَا فَيُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ كَذَا وَفَّقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَلَاةِ الْأَثَرِ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ لَا مَخْرَجَ التَّخْيِيرِ لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ في ذلك وَلَوْ كان على التَّخْيِيرِ لَمَا اخْتَلَفُوا ثَمَّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قد ظَهَرَ انْتِسَاخُ زِيَادَاتٍ كانت في الِابْتِدَاءِ في الصَّلَوَاتِ وَاسْتَقَرَّتْ الصَّلَاةُ على الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْيَوْمَ عِنْدَنَا فَكَانَ صَرْفُ النَّسْخِ إلَى ما ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ أَوْلَى من صَرْفِهِ إلَى ما لم يَظْهَرْ أَنَّهُ نَسَخَهُ غَيْرُهُ
وَرَوَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال إنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ في صَلَاةِ الْكُسُوفِ لَا لِلْكُسُوفِ بَلْ لِأَحْوَالٍ اعْتَرَضَتْ حتى رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقَدَّمَ في الرُّكُوعِ حتى كان كَمَنْ يَأْخُذُ شيئا ثُمَّ تَأَخَّرَ كَمَنْ يَنْفِرُ عن شَيْءٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ منه بِاعْتِرَاضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَسَعُهُ التَّكَلُّمُ فيها
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذلك لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فلما أَشْكَلَ الْأَمْرُ لم يَعْدِلْ عن الْمُعْتَمَدِ عليه إلَّا بِيَقِينٍ والله أعلم ثم هذه الصَّلَاةُ تُقَامُ بِالْجَمَاعَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَقَامَهَا بِالْجَمَاعَةِ وَلَا يُقِيمُهَا إلَّا الْإِمَامُ الذي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ فَأَمَّا أَنْ يُقِيمَهَا كُلُّ قَوْمٍ في مَسْجِدِهِمْ فَلَا وروى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إنْ كان لِكُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ لِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَاتِ
وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ عُرِفَ بِإِقَامَةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُقِيمُهَا إلَّا من هو قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِالْمِصْرِ لِأَنَّ مَشَايِخَنَا قالوا أنها مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِصْرِ فَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ فَإِنْ لم يُقِمْهَا الْإِمَامُ حِينَئِذٍ صلى الناس فُرَادَى إنْ شاؤوا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شاؤا أَرْبَعًا وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ ثُمَّ إنْ شاؤا طَوَّلُوا الْقِرَاءَةَ وَإِنْ شاؤا قَصَرُوا واشتغلو ( ( ( واشتغلوا ) ) ) بِالدُّعَاءِ حتى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ لِأَنَّ عليهم الِاشْتِغَالَ بِالتَّضَرُّعِ إلَى أَنْ تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ تَارَةً وَبِالْقِرَاءَةِ أُخْرَى وقد صَحَّ في الحديث أَنَّ قِيَامَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الرَّكْعَةِ الْأُولَى كان بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وفي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَالْأَفْضَلُ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فيها وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ في صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ في كُسُوفِ الشَّمْسِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُجْهَرُ بها
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَهُ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ من خَالَفَ أَبَا
____________________

(1/281)


حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَهَرَ فيها بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فيها كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى حَدِيثُ سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قام قِيَامًا طَوِيلًا لم يُسْمَعْ له صَوْتٌ
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال صَلَّيْتُ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكُنْتُ إلَى جَنْبِهِ فلم أَسْمَعْ منه حَرْفًا

وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ أَيْ ليس فيها قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يَقْدِرُونَ على التَّأَمُّلِ في الْقِرَاءَةِ لِتَصِيرَ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ مُشْتَرَكَةً لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بهذا الْفَزَعِ كما لَا يَقْدِرُونَ على التَّأَمُّلِ في سَائِرِ الْأَيَّامِ في صَلَوَاتِ النَّهَارِ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِالْمَكَاسِبِ
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ تَعَارَضَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَقِيَ لنا الِاعْتِبَارُ الذي ذَكَرْنَا مع ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ وَنَحْمِلُ ذلك على أَنَّهُ جَهَرَ بِبَعْضِهَا اتِّفَاقًا كما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُسْمِعُ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ في صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَيْسَ في هذه الصَّلَاةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ لِأَنَّهُمَا من خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ وَلَا خُطْبَةَ فيها عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى في كُسُوفِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل وَأَثْنَى عليه
وَلَنَا أَنَّ الْخُطْبَةَ لم تُنْقَلْ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَعْنَى قَوْلِهَا خَطَبَ أَيْ دَعَا أو لِأَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْخُطْبَةِ رَدًّا لِقَوْلِ الناس إنَّمَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ لَا لِلصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا خُسُوفُ الْقَمَرِ فَالصَّلَاةُ فيها حَسَنَةٌ لِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا رَأَيْتُمْ من هذه الْأَفْزَاعِ شيئا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تصلي بِجَمَاعَةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تصلي بِجَمَاعَةٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى بِالنَّاسِ في خُسُوفِ الْقَمَرِ وقال صَلَّيْتُ كما رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ في خُسُوفِ الْقَمَرِ لم تُنْقَلْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع أَنَّ خُسُوفَهُ كان أَكْثَرَ من كُسُوفِ الشَّمْسِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غير الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ أَفْضَلُ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كما في الْعِيدَيْنِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِاللَّيْلِ متعذرا ( ( ( متعذر ) ) ) وسبب الْوُقُوعِ في الْفِتْنَةِ
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ في مَحَلِّ الشُّهْرَةِ وَكَذَا تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ في كل فَزَعٍ كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ وَالزَّلْزَلَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ لِكَوْنِهَا من الْأَفْزَاعِ وَالْأَهْوَالِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى للزلزلة ( ( ( لزلزلة ) ) ) بِالْبَصْرَةِ وَأَمَّا مَوْضِعُ الصَّلَاةِ أَمَّا في خُسُوفِ الْقَمَرِ فَيُصَلُّونَ في مَنَازِلِهِمْ لِأَنَّ السُّنَّةَ فيها أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا على ما بَيَّنَّا وَأَمَّا في كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يصلي في الْمَوْضِعِ الذي يُصَلَّى فيه الْعِيدُ أو الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ وَلِأَنَّهَا من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتُؤَدَّى في الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَلَوْ اجْتَمَعُوا في مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَجْزَأَهُمْ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ
وَأَمَّا وَقْتُهَا فَهُوَ الْوَقْتُ الذي يُسْتَحَبُّ فيه أَدَاءُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ دُونَ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ إنْ كانت نَافِلَةً فَالنَّوَافِلُ في هذه الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ وَإِنْ كانت لها أَسْبَابٌ عِنْدَنَا كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ وَإِنْ كانت وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ في هذه الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ في الِاسْتِسْقَاءِ وَإِنَّمَا فيه الدُّعَاءُ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ في الِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ أَيْ لَا صَلَاةَ فيه بِجَمَاعَةٍ بِدَلِيلِ ما روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عن الِاسْتِسْقَاءِ هل فيه صَلَاةٌ أو دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ أو خُطْبَةٌ فقال أَمَّا صلاة بِجَمَاعَةٍ فَلَا وَلَكِنْ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ
وقال مُحَمَّدٌ يُصَلِّي الْإِمَامُ أو نَائِبُهُ في الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ كما في الْجُمُعَةِ
ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أبي يُوسُفَ وَذَكَرَ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَوْلَهُ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُ مع قَوْلِ مُحَمَّدٍ وهو الْأَصَحُّ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بِجَمَاعَةٍ في الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ
وَالْمَرْوِيُّ في حديث عبد اللَّهِ بن عَامِرِ بن رَبِيعَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى فيه رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { فقلت اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كان غَفَّارًا } وَالْمُرَادُ منه الِاسْتِغْفَارُ في الاستسقاء بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ في الِاسْتِسْقَاءِ فَمَنْ زَادَ عليه الصَّلَاةَ
____________________

(1/282)


فَلَا بُدَّ له من دَلِيلٍ
وَكَذَا لم يُنْقَلْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صلى في الِاسْتِسْقَاءِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى الْجُمُعَةَ فَقَامَ رَجُلٌ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَاسْقِ لنا الْغَيْثَ فَرَفَعَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَدَعَا فما ضَمَّ يَدَيْهِ حتى مَطَرَتْ السَّمَاءُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلَّهِ دَرُّ أبي طَالِبٍ لو كان في الْأَحْيَاءِ لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه تَعْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلَهُ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَجَلْ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قام ذلك الْأَعْرَابِيُّ وَأَنْشَدَ فقال أَتَيْنَاك وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا وقد شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عن الطِّفْلِ وقال في آخِرِهِ وَلَيْسَ لنا إلَّا إلَيْك فِرَارُنَا وَلَيْسَ فِرَارُ الناس إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَبَكَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى أخضلت لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عليه وَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وقال اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا عَذْبًا طَيِّبًا نَافِعًا غير ضَارٍّ عَاجِلًا غير آجِلٍ فما رَدَّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَدَهُ إلَى صَدْرِهِ حتى مَطَرَتْ السَّمَاءُ جاء ( ( ( وجاء ) ) ) وأهل ( ( ( أهل ) ) ) الْبَلَدِ يَصِيحُونَ الْغَرَقَ الْغَرَقَ يا رَسُولَ اللَّهِ
فَضَحِكَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فقال اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ حتى أَحْدَقَتْ بِالْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلَّهِ دَرُّ أبي طَالِبٍ لو كان حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ من يُنْشِدُنَا قَوْلَهُ فَقَامَ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوَّلًا وما رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ولم يُصَلِّ بِجَمَاعَةٍ بَلْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وما زَادَ عليه فَقَالُوا ما اسْتَسْقَيْتَ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
فقال لقد اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ التي بها يُسْتَنْزَلُ الْغَيْثُ وَتَلَا قول الله تَعَالَى { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كان غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا }
وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْعَبَّاسِ فَأَجْلَسَهُ على الْمِنْبَرِ وَوَقَفَ بِجَنْبِهِ يَدْعُو وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيُّكَ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ فما نَزَلَ عن الْمِنْبَرِ حتى سُقُوا
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَسْقَى ولم يُصَلِّ وما رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بِجَمَاعَةٍ حَدِيثٌ شَاذٌّ وَرَدَ في مَحِلِّ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ يَكُونُ بِمَلَأٍ من الناس
وَمِثْلُ هذا الحديث يُرَجَّحُ كَذِبُهُ على صِدْقِهِ أو وَهْمُهُ على ضَبْطِهِ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مع أَنَّ هذا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى في دِيَارِهِمْ وما تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا يُقْبَلُ فيه الشَّاذُّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ ما شَاءَ جَهْرًا كما في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْرَأَ ب { سبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى }
و { هل أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يقرأهما ( ( ( يقرؤهما ) ) ) في صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا يُكَبِّرُ فيها في الْمَشْهُورِ من الرِّوَايَةِ عنهما
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَيْسَ في الِاسْتِسْقَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ ليس فيه صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا فُرَادَى وَذَلِكَ في مَعْنَى الدُّعَاءِ وَعِنْدَهُمَا إنْ كان فيه صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ من خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ يَخْطُبُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَخْطُبُ وَلَكِنْ لو صَلَّوْا وُحْدَانًا يَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ من تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ وَالْجَمَاعَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ في هذه الصَّلَاةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَذَا الْخُطْبَةُ
ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْجِلْسَةِ كما في صَلَاةِ الْعِيدِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعُهَا بِالْجِلْسَةِ وَلَا يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ في الِاسْتِسْقَاءِ وَلَا يَصْعَدُهُ لو كان في مَوْضِعِ الدُّعَاءِ مِنْبَرٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وقد عَابَ الناس على مَرْوَانَ بن الْحَكَمِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ الْمِنْبَرَ في الْعِيدَيْنِ وَنَسَبُوهُ إلَى خِلَافِ السُّنَّةِ على ما بَيَّنَّا وَلَكِنْ يَخْطُبُ على الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا على قَوْسٍ أو سَيْفٍ ولو تَوَكَّأَ على عَصًا فَحَسَنٌ لِأَنَّ خُطْبَتَهُ تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ على عَصًا وَيَخْطُبُ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ إلَى الناس وَهُمْ مُقْبِلُونَ عليه لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ إنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ وَيَسْتَمِعُونَ الْخُطْبَةَ وَيُنْصِتُونَ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعِظُهُمْ فيها فَلَا بُدَّ من الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ وإذا فَرَغَ من الْخُطْبَةِ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى الناس وَوَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَيَشْتَغِلُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالنَّاسُ قُعُودٌ مُسْتَقْبِلُونَ بِوُجُوهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ في الْخُطْبَةِ وَالدُّعَاءِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَقْبِلَ
____________________

(1/283)


الْقِبْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ فَيَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُجَدِّدُونَ التَّوْبَةَ وَيَسْتَسْقُونَ
وَهَلْ يَقْلِبُ الْإِمَامُ رِدَاءَهُ لَا يَقْلِبُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَقْلِبُ إذَا مَضَى صَدْرٌ من خُطْبَتِهِ فَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَلَبَ رِدَاءَهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ اسْتَسْقَى يوم الْجُمُعَةِ ولم يَقْلِبْ الرِّدَاءَ وَلِأَنَّ هذا دُعَاءٌ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ الثَّوْبِ فيه كما في سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ وما رُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرِّدَاءَ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَغَيَّرَ عليه فَأَصْلَحَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي إنه قَلَبَ أو يُحْتَمَلُ إنه عَرَفَ من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ من الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ بِطَرِيقِ التَّفَاؤُلِ فَفَعَلَ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في حَقِّ غَيْرِهِ وَكَيْفِيَّةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ كان مُرَبَّعًا جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَإِنْ كان مُدَوَّرًا جَعَلَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ على الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ على الْأَيْمَنِ وَأَمَّا الْقَوْمُ فَلَا يَقْلِبُونَ أَرْدِيَتَهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْلِبُونَ أَيْضًا
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن عبد اللَّهِ بن زيد ( ( ( يزيد ) ) ) أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَحَوَّلَ الناس أَرْدِيَتَهُمْ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ في حَقِّ الْإِمَامِ أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ على ما ذَكَرْنَا فَنَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ وما رُوِيَ من الحديث شَاذٌّ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَرَفَ ذلك فلم يُنْكِرْ عليهم فَيَكُونُ تَقْرِيرًا
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَعْرِفْ لِأَنَّهُ كان مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَدْبِرًا القوم ( ( ( لهم ) ) ) فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ ثُمَّ إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ نحو السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ
ثم الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الدُّعَاءِ الْإِجَابَةُ وَالثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ وصنعت ( ( ( ضربت ) ) ) لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ
وَإِنْ أَمَرَ الإمام الناس بِالْخُرُوجِ ولم يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ خَرَجُوا لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَحْطَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْثُوا على الرُّكَبِ ولم يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ
وإذا خَرَجُوا اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ ولم يُصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ إلَّا إذَا أَمَرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جَمَاعَةً لِأَنَّ هذا دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ له حُضُورُ الْإِمَامِ وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ له إذْنُ الْإِمَامِ وَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ من الْخُرُوجِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إنْ خَرَجُوا لم يُمْنَعُوا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِمْ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ينتظرون ( ( ( ينظرون ) ) ) نُزُولَ الرَّحْمَةِ عليهم وَالْكُفَّارُ مَنَازِلُ اللَّعْنَةِ وَالسَّخْطَةِ فَلَا يُمَكَّنُونَ من الْخُرُوجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ فَهِيَ السُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَوَاقِيتِ هذه السُّنَنِ وَمَقَادِيرِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وفي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ فيها
وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ فيها
وفي بَيَانِ أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ لَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقْتُ جُمْلَتِهَا وَقْتُ الْمَكْتُوبَاتِ لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لِلْمَكْتُوبَاتِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لها في الْوَقْتِ وَمِقْدَارُ جُمْلَتِهَا اثنا ( ( ( اثنتا ) ) ) عشر رَكْعَةً رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ
وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَأَمَّا مِقْدَارُ كل وَاحِدَةٍ منها وَوَقْتُهَا على التَّفْصِيلِ فَرَكْعَتَانِ قبل الْفَجْرِ وَأَرْبَعٌ قبل الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا في آخِرِهِنَّ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ قَبْلَهُ فَحَسَنٌ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هَكَذَا
إلَّا أَنَّهُ قال في الْعَصْرِ وَأَرْبَعٌ قبل الْعَصْرِ وفي الْعِشَاءِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَرَكْعَتَانِ قبل الْعَصْرِ
وَالْعَمَلُ فِيمَا رَوَيْنَا على الْمَذْكُورِ في الْأَصْلِ
وَالْأَصْلُ في السُّنَنِ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من ثَابَرَ على اثني ( ( ( اثنتي ) ) ) عَشْرَةَ رَكْعَةً في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ له بَيْتًا في الْجَنَّةِ رَكْعَتَيْنِ قبل الْفَجْرِ وَأَرْبَعٌ قبل الظُّهْرِ
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وركعتين بعد المغرب وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وقد وَاظَبَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عليها ولم يَتْرُكْ شيئا منها إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ لِعُذْرٍ
وَهَذَا تَفْسِيرُ السُّنَّةِ
وَأَقْوَى السُّنَنِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِمَا ما لم يَرِدْ في غَيْرِهِمَا فإنه روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلُّوهُمَا فإن فِيهِمَا لَرَغَائِبَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ
وروي جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ في كل يَوْمٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ منهم أبو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ
____________________

(1/284)


رضي اللَّهُ عنه
وروي عنه أَيْضًا قَوْلًا على ما نَذْكُرُ
وَعَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قال ما اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ على مُحَافَظَةِ الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ في عِدَّةِ الْأُخْتِ ثُمَّ هذه الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ ذَكَرَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً كما ذَكَرَتْ عَائِشَةُ إلَّا أَنَّهُ زَادَ وَأَرْبَعًا قبل الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ
وَلَنَا حَدِيثُ أبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قال كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْت ما هذه الصَّلَاةُ التي تُدَاوِمُ عليها يا رَسُولَ اللَّهِ فقال هذه سَاعَةٌ تُفْتَحُ فيها أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لي فيها عَمَلٌ صَالِحٌ فقلت أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ قال نعم فقلت بِتَسْلِيمَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ فقال بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَالتَّسْلِيمُ في حديث ابْنِ عُمَرَ عِبَارَةٌ عن التَّشَهُّدِ لِمَا فيه من السَّلَامِ كما فيه من الشَّهَادَةِ على ما مَرَّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ أن التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قبل الْعَصْرِ حَسَنٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْبَعِ من السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ غير ثَابِتٍ لِأَنَّهَا لم تُذْكَرْ في حديث عَائِشَةَ ولم يُرْوَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُوَاظِبُ على ذلك وكذا ( ( ( ولذا ) ) ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في فَصْلِهِ إيَّاهَا روى ( ( ( وروي ) ) ) في بَعْضِهَا أَنَّهُ صلى أَرْبَعًا
وفي بَعْضِهَا رَكْعَتَيْنِ
فَإِنْ صلى أَرْبَعًا كان حَسَنًا
لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ رضي اللَّهُ عنها عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قبل الْعَصْرِ كانت له جُنَّةً من النَّارِ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ
وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ ركعات ( فهو أفضل لما روي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى بعد المغرب ست رَكَعَاتٍ كُتِبَ من الْأَوَّابِينَ
وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { فإنه ( ( ( إنه ) ) ) كان لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا } وَإِنَّمَا قال في الْأَصْلِ إنَّ التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قبل الْعِشَاءِ حَسَنٌ
لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بها لم يَثْبُتْ أَنَّهُ من السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ ذلك فَحَسَنٌ
لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ في أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ في الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من صلى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ له كَمِثْلِهِنَّ من لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وروى عن عَائِشَةَ أنها سُئِلَتْ عن قِيَامِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في لَيَالِي رَمَضَانَ فقالت كان قِيَامُهُ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً كان يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كان يُوتِرُ بِثَلَاثٍ
وَأَمَّا السُّنَّةُ قبل الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا فَقَدْ ذُكِرَ في الْأَصْلِ وَأَرْبَعٌ قبل الْجُمُعَةِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا وَقِيلَ هو مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وما ذَكَرْنَا أَنَّهُ كان يُصَلِّي أَرْبَعًا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَمْكُثُ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِقْدَارَ ما يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أو سِتَّ رَكَعَاتٍ أَمَّا الْأَرْبَعُ قبل الْجُمُعَةِ
فَلِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَتَطَوَّعُ قبل الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ نَظِيرُ الظُّهْرِ ثُمَّ التَّطَوُّعُ قبل الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ كَذَا قَبْلَهَا
وَأَمَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن فِيمَا قُلْنَا جَمْعًا بين قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ فِعْلِهِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَجَمَعْنَا بين قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ
قال أبو يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ كَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه كيلا يَصِيرَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرْضِ بِمِثْلِهَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من كان مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا وما رُوِيَ من فِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَيْسَ فيه ما يَدُلُّ على الْمُوَاظَبَةِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ من يُصَلِّي بَعْدَهَا كَمْ شَاءَ غير أَنَّا نَقُولُ السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا غَيْرُ لِمَا رَوَيْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فيها فَالْقِرَاءَةُ في السُّنَنِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَطَوُّعٌ وَكُلُّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ لِمَا نَذْكُرُ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ كُلُّ شَفْعٍ منها بِمَنْزِلَةِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ من الْفَرَائِضِ وقد رَوَيْنَا في حديث أبي أَيُّوبَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ قال نعم وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ منها فَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شيئا من السُّنَنِ في الْمَكَانِ الذي صلى فيه الْمَكْتُوبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وقد رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيَعْجِزُ أحدكم إذَا صلى أَنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأَخَّرَ
وَلَا يُكْرَهُ ذلك لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَقِّ الْإِمَامِ لِلِاشْتِبَاهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في حَقِّ الْمَأْمُومِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا حتى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ على الدَّاخِلِ من كل وَجْهٍ على ما مَرَّ وَيُكْرَهُ أَنْ
____________________

(1/285)


يُصَلِّي شيئا منها وَالنَّاسُ في الصَّلَاةِ أو أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فإنه يُصَلِّيهِمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ من الْفَجْرِ فَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الْفَجْرُ تَرَكَهُمَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّاخِلَ إذَا دخل الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَإِمَّا إن كان لم يُصَلِّ
وَإِمَّا إن كان لم يُصَلِّهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا إن دخل الْمَسْجِدَ وقد أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ أو دخل الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ في الصَّلَاةِ
ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ
فَإِنْ دخل وقد كان الْمُؤَذِّنُ أَخَذَ في الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ له التَّطَوُّعُ في الْمَسْجِدِ
سَوَاءٌ كان رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أو غَيْرِهِمَا من التَّطَوُّعَاتِ
لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ لَا يَرَى صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ
وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ
وَأَمَّا خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ في سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ
وَأَمَّا في رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَالْأَمْرُ فيه على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
لِأَنَّ إدْرَاكَ فَضِيلَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْلَى من الِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها وَلَيْسَتْ هذه الْمَرْتَبَةُ لِسَائِرِ النَّوَافِلِ وفي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِهَا فَوَاتُ النَّوَافِلِ وفي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِ النَّوَافِلِ فَوْتُهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَكَانَ إحْرَازُ فَضِيلَتِهَا أَوْلَى بِخِلَافِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فإن التَّرْغِيبَ فِيهِمَا قد وُجِدَ حَسْبَمَا وُجِدَ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
قال صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها فَقَدْ اسْتَوَيَا في الدَّرَجَةِ
وَاخْتَلَفَ تَخْرِيجُ مَشَايِخِنَا في ذلك
منهم من قال مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وقد سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَشَرَعَ في قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِيَنَالَ هذه الْفَضِيلَةَ عِنْدَ فَوْتِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ لِأَنَّ إدْرَاكَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ غَيْرُ مَوْهُومٍ فإذا عَجَزَ عن إحْرَازِ ( إحْدَى ) الْفَضِيلَتَيْنِ يُحْرِزُ الْأُخْرَى فإذا كان الْإِمَامُ لم يَأْتِ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ بَعْدُ يَشْتَغِلُ بِإِحْرَازِهَا لِأَنَّهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ تَأَيَّدَتْ بِالِانْضِمَامِ إلَى فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى غير أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ على خِلَافِ هذا فإن مُحَمَّدًا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ وَمَعَ ذلك قال أنه يَشْتَغِلُ بِالتَّطَوُّعِ إذَا كان يَرْجُو إدْرَاكَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اسْتَوَيَا في الدَّرَجَةِ على ما مَرَّ وَالْوَجْهُ فيه أَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَفَاتَتْهُ فَضِيلَةُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا وَلَوْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمَا فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ من كل وَجْهٍ ما دَامَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هِيَ التَّحْرِيمَةُ وَهِيَ تَبْقَى ما دَامَتْ الْأَرْكَانُ بَاقِيَةً فَكَانَتْ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ بَاقِيَةً بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ من وَجْهٍ فَصَارَ مُدْرِكًا من وَجْهٍ وَصَارَ مُدْرِكًا أَيْضًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَكْثَرَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَكْعَةٌ لَا غَيْرُ وَالْمُسْتَدْرَكُ رَكْعَةٌ وَقَعْدَةٌ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا كان يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَتَيْنِ جميعا لِأَنَّهُمَا إذَا فَاتَتَا لم يَبْقَ شَيْءٌ من الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا عِبْرَةَ له بِمُقَابَلَةِ ما فَاتَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَالْفَائِتُ أَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَعَجَزَ عن إحْرَازِهِمَا فَيَخْتَارُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِمَا انْضَمَّ إلَى إحْرَازِهَا فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ في الْفَرْضِ وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول تَفْضُلُ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ على صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
وفي رِوَايَةٍ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً فَكَانَ هذا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
أَمَّا إذَا دخل الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ في الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَيْضًا على وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ شَرَعَ في التَّطَوُّعِ وَإِمَّا إنْ شَرَعَ في الْفَرْضِ فَإِنْ شَرَعَ في التَّطَوُّعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَتَمَّ الشَّفْعَ الذي هو فيه
وَلَا يَزِيدُ عليه أَمَّا إتْمَامُ الشَّفْعِ فَلِأَنَّ صَوْنَهُ عن الْبُطْلَانِ وَاجِبٌ وقد أَمْكَنَهُ ذلك وَلَا يَزِيدُ عليه لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ في التَّطَوُّعِ زِيَادَةٌ على الشَّفْعِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عليه كَابْتِدَاءِ تَطَوُّعٍ آخَرَ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّطَوُّعِ في الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ
وَأَمَّا إذَا شَرَعَ في الْفَرْضِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَإِنْ كان في صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقْطَعُهَا ما لم يُقَيِّدْ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَإِنْ كان نَقْصًا صُورَةً فَلَيْسَ بِنَقْصٍ مَعْنًى لِأَنَّهُ لِلْأَدَاءِ على وَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالْهَدْمُ ليبنى أَكْمَلُ يُعَدُّ إصْلَاحًا لَا هَدْمًا أَلَا تَرَى أَنَّ من هَدَمَ مَسْجِدًا لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ من الْأَوَّلِ لَا يَأْثَمُ وإذا قَيَّدَ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يَقْطَعْ لِأَنَّهُ أتى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَالْفَرْضُ بَعْدَ إتْمَامِهِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَلَا يَدْخُلُ في صَلَاةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كان في صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنْ كان صلى رَكْعَةً ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صَوْنُ الْمُؤَدَّى وَاسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ صَلَاةُ الرَّجُلِ بِالْجَمَاعَةِ تَزِيدُ على صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
____________________

(1/286)


على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ صلى رَكْعَتَيْنِ تَشَهَّدَ وسلم لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى التَّشَهُّدِ وَيُسَلِّمُ
وَلَا يُسَلِّمُ على حَالِهِ قَائِمًا
لِأَنَّ ما أتى بِهِ من الْقَعْدَةِ كانت سُنَّةً وَقَعْدَةُ الفرض ( ( ( الختم ) ) ) ختم ( ( ( فرض ) ) ) فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقَعْدَةِ
ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ
فَإِنْ كان قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ أَتَمَّهَا
لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَيَدْخُلُ مع الْإِمَامِ فَيَجْعَلُهَا تَطَوُّعًا لِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ صلى في مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ فقال عَلَيَّ بِهِمَا فَجِيءَ بِهِمَا تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُمَا فقال ما لَكُمَا لم تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا كنا صَلَّيْنَا في رِحَالِنَا
فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا صَلَّيْتُمَا في رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا معه وَاجْعَلَا ذلك سُبْحَةً أَيْ نَافِلَةً وكان ذلك في الظُّهْرِ
كَذَا روى عن أبي يُوسُفَ في الْإِمْلَاءِ وَلَوْ كان في الرَّكْعَةِ الْأُولَى ولم يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ لم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مع الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ ثَوَابَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّ ما دُونَ الرَّكْعَةِ ليس له حُكْمُ الصَّلَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ من الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ ما لم يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ وَكَذَا الْجَوَابُ في الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ في الْعَصْرِ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ وَيَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ في الْخُرُوجِ أَقَلُّ منها في الْمُكْثِ
وَأَمَّا في الْمَغْرِبِ فَإِنْ صلى رَكْعَةً قَطَعَهَا لِأَنَّهُ لو ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى لَأَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَلَوْ قَطَعَ كان بِهِ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قبل الْمَغْرِبِ وهو مَنْهِيٌّ عنه وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فيها ما قُلْنَا وَلَا يَدْخُلُ مع الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ على الثَّلَاثِ كما يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يَدْخُلُ مع الْإِمَامِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِتَصِيرَ شَفْعًا له وقال بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ يُسَلِّمُ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ هذا التغير ( ( ( التغيير ) ) ) بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ في الْقَعْدَةِ أَنَّهُ يَقْعُدُ معه وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ ثُمَّ جَازَ هذا التغير ( ( ( التغيير ) ) ) بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ كَذَا هذا فَإِنْ دخل مع الْإِمَامِ صلى أَرْبَعًا كما قال أبو يُوسُفَ لِأَنَّ بِالْقِيَامِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلرَّكْعَتَيْنِ لِخُرُوجِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ عن جَوَازِ التَّنَفُّلِ بها
قال ابن مَسْعُودٍ وَاَللَّهِ ما أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ فَلِذَلِكَ يُتِمُّ أَرْبَعًا لو دخل مع الْإِمَامِ هذا إذَا كان لم يُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ فَإِنْ كان قد صَلَّاهَا ثُمَّ دخل الْمَسْجِدَ فَإِنْ كان صَلَاةً لَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بَعْدَهَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَلَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ لَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في سَائِرِ السُّنَنِ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا لَا تُقْضَى سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا أو مع الْفَرِيضَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ في قَوْلٍ تُقْضَى قِيَاسًا على الْوِتْرِ
وَلَنَا ما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دخل حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فقلت يا رَسُولَ اللَّهِ ما هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لم تَكُنْ تُصَلِّيهِمَا من قَبْلُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكْعَتَانِ كنت أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ وفي رِوَايَةٍ رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عنهما الْوَفْدُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ الناس فَيَرَوْنِي فقلت أَفَأَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا فقال لَا وَهَذَا نَصٌّ على أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ على الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا هو شَيْءٌ اُخْتُصَّ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا شَرِكَةَ لنا في خَصَائِصِهِ وَقِيَاسُ هذا الحديث أَنْ لَا يَجِبَ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إذَا فَاتَتَا مع الْفَرْضِ لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ وَلِأَنَّ سُنَّةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عِبَارَةٌ عن طَرِيقَتِهِ وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ في وَقْتٍ خَاصٍّ على هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ على ما فَعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَالْفِعْلُ في وَقْتٍ آخَرَ لَا يَكُونُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا
وَأَمَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ إذَا فَاتَتَا مع الْفَرْضِ فَقَدْ فَعَلَهُمَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذلك لِنَكُونَ على طَرِيقَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على ما ذَكَرْنَا وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كان سُنَّةً مُؤَكَّدَةً لَكِنَّهُمَا عَرَفَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وأما سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنْ فَاتَتْ مع الْفَرْضِ تُقْضَى مع الْفَرْضِ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا نَامَ في ذلك الْوَادِي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّ الشَّمْسِ فَارْتَحَلَ منه ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا لَا تُقْضَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ تُقْضَى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قبل الزَّوَالِ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَضَاهُمَا بَعْدَ
____________________

(1/287)


طُلُوعِ الشَّمْسِ قبل الزَّوَالِ فَصَارَ ذاك ( ( ( ذلك ) ) ) وَقْتَ قَضَائِهِمَا وَلَهُمَا أَنَّ السُّنَنَ شُرِعَتْ تَوَابِعَ لِلْفَرَائِضِ فَلَوْ قُضِيَتْ في وَقْتٍ لَا أَدَاءَ فيه لِلْفَرَائِضِ لَصَارَتْ السُّنَنُ أَصْلًا وَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ فلم تَبْقَ سنة ( ( ( سنن ) ) ) مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّهَا كانت سُنَّةً بِوَصْفِ التَّبَعِيَّةِ وَلَيْلَةُ التَّعْرِيسِ فَاتَتَا مع الْفَرْضِ فَقُضِيَتَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ وَلَا كَلَامَ فيه إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا فَاتَتَا وَحْدَهُمَا وَلَا وَجْهَ إلَى قَضَائِهِمَا وَحْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا وَلِهَذَا لَا يُقْضَى غَيْرُهُمَا من السُّنَنِ وَلَا هُمَا يُقْضَيَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ والله أعلم
وَأَمَّا الذي هو سُنَنُ الصَّحَابَةِ فَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ في لَيَالِي رَمَضَانَ وَالْكَلَامُ في صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وَقْتِهَا وفي بَيَانِ صِفَتِهَا وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وفي سُنَنِهَا وفي بَيَانِ أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ لَا
أَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ سُنَّةٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال الْقِيَامُ في شَهْرِ رَمَضَانَ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ إلَّا أنها لَيْسَتْ بِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ سُنَّةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما وَاظَبَ عليه ولم يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى من الْمَعَانِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما وَاظَبَ عليها بَلْ أَقَامَهَا في بَعْضِ اللَّيَالِي روى أَنَّهُ صَلَّاهَا لِلَيْلَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ ثُمَّ تَرَكَ وقال أَخْشَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ لَكِنْ الصَّحَابَةُ وَاظَبُوا عليها فَكَانَتْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَدْرُهَا فَعِشْرُونَ رَكْعَةً في عَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ في خَمْسِ تَرْوِيحَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَتَيْنِ تَرْوِيحَةٌ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً وفي قَوْلٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه جَمَعَ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في شَهْرِ رَمَضَانَ على أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ في كل لَيْلَةٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً ولم يُنْكِرْ عليه أحد فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على ذلك
وَأَمَّا وَقْتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فيه
قال بَعْضُهُمْ وَقْتُهَا ما بين الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ فَلَا تَجُوزُ قبل الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ الْوِتْرِ وقال عَامَّتُهُمْ وَقْتُهَا ما بَعْدَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تَجُوزُ قبل الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ
وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ في إمَامٍ صلى بِقَوْمٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ على غَيْرِ وُضُوءٍ نَاسِيًا ثُمَّ صلى بِهِمْ إمَامٌ آخَرُ التَّرَاوِيحَ مُتَوَضِّئًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كان على غَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّ عليهم أَنْ يُعِيدُوا الْعِشَاءَ وَالتَّرَاوِيحَ جميعا أَمَّا الْعِشَاءُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَلِأَنَّهَا تُصَلَّى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ ذلك وَقْتُهَا
وَهَلْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ قال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَا تَأْخِيرُهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ وَقِيَامُ اللَّيْلِ في آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُهَا فَمِنْهَا الْجَمَاعَةُ وَالْمَسْجِدُ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَدْرَ ما صلى من التَّرَاوِيحِ صلى بِجَمَاعَةٍ في الْمَسْجِدِ فَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْهَا بِجَمَاعَةٍ في الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ في الْمَسْجِدِ سُنَّةً
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في كَيْفِيَّةِ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ أنها سُنَّةُ عَيْنٍ أَمْ سُنَّةُ كِفَايَةٍ
قال بَعْضُهُمْ أنها سُنَّةٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قام بها بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ في الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ
وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كلهم إقَامَتَهَا في الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ أساؤا ( ( ( أساءوا ) ) ) وَأَثِمُوا
وَمَنْ صَلَّاهَا في بَيْتِهِ وَحْدَهُ أو بِجَمَاعَةٍ لَا يَكُونُ له ثَوَابُ سُنَّةِ التَّرَاوِيحِ لِتَرْكِهِ ثَوَابَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ
وَمِنْهَا نِيَّةُ التَّرَاوِيحِ أو نِيَّةُ قِيَامِ رَمَضَانَ أو نِيَّةُ سُنَّةِ الْوَقْتِ وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا أو نَوَى التَّطَوُّعَ
قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ أو نِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ
وقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لأنها ( ( ( ولأنها ) ) ) وَإِنْ كانت سُنَّةً لَا تَخْرُجُ عن كَوْنِهَا نَافِلَةً وَالنَّوَافِلُ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ أو سُنَّةَ الْوَقْتِ أو قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عن مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَلَوْ اقْتَدَى من يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِمَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ أو النَّافِلَةَ
قِيلَ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا للتراويح ( ( ( التراويح ) ) )
وَقِيلَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِعَمَلِ السَّلَفِ
وَلَوْ اقْتَدَى من يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى بِمَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ
قِيلَ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ
وَقِيلَ يَجُوزُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ فَكَانَ نِيَّةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَغْوًا
وَلِهَذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بِمُصَلِّي الْأَرْبَعِ قَبْلَهُ فَكَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالْمُقْتَدِي أَيْضًا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ
وفي التَّعَوُّذِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بِنَاءً على أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعُ الثَّنَاءِ أو تَبَعُ الْقِرَاءَةِ على ما ذَكَرْنَا
____________________

(1/288)


في مَوْضِعِهِ وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ على قَدْرِ التَّشَهُّدِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَثْقُلُ على الْقَوْمِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْقُلُ على الْقَوْمِ يَزِيدُ عليه وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَقِيلَ يَقْرَأُ فيها كما يَقْرَأُ في أَخَفِّ الْمَكْتُوبَاتِ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَقِيلَ يَقْرَأُ كما يَقْرَأُ في الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ وَقِيلَ يَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ من عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه دَعَا بِثَلَاثَةٍ من الْأَئِمَّةِ فَاسْتَقْرَأَهُمْ وَأَمَرَ أَوَّلَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً وَأَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ آيَةً وَأَمَرَ الثَّالِثَ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً
وما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ سُنَّةٌ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّةً في التَّرَاوِيحِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ وما أَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَهُوَ من بَابِ الْفَضِيلَةِ وهو أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ أو ثَلَاثًا وَهَذَا في زَمَانِهِمْ
وَأَمَّا في زَمَانِنَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ على حَسَبِ حَالِ الْقَوْمِ من الرَّغْبَةِ وَالْكَسَلِ فَيَقْرَأُ قَدْرَ ما لَا يُوجِبُ تَنْفِيرَ الْقَوْمِ عن الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ من تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَالْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ في التَّرْوِيحَاتِ كُلِّهَا وَإِنْ لم يُعَدِّلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا الْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ في التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُطَوِّلُ الْأُولَى على الثَّانِيَةِ كما في الْفَرَائِضِ
وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ على حِدَةٍ
وَلَوْ صلى تَرْوِيحَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ في الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً تَتَأَدَّى بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً على أَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَكِنْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ هل يَجُوزُ عن تَسْلِيمَتَيْنِ أو لَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ بِتَرْكِ التَّسْلِيمَةِ وَالتَّحْرِيمَةِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
وقال عَامَّتُهُمْ أنه يَجُوزُ عن تَسْلِيمَتَيْنِ وهو الصَّحِيحُ
وَعَلَى هذا لو صلى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ في كل رَكْعَتَيْنِ إن الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَجُوزُ عن الْكُلِّ لِأَنَّهُ قد أتى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا لِأَنَّ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمَةِ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَنَا هذا إقعد على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يصلى التَّطَوُّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إذَا لم يَقْعُدْ في الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا عِنْدَهُمَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيَاسًا ثُمَّ إذَا جَازَ عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَجُوزُ عن تَسْلِيمَتَيْنِ أو لَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ كَامِلًا وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ ولم تُوجَدْ وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ
وَلَوْ صلى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ولم يَقْعُدْ في الثَّانِيَةِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا بِنَاءً على أَنَّ من تَنَفَّلَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ولم يَقْعُدْ إلَّا في آخِرِهَا جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لو كان فَرْضًا وهو الْمَغْرِبُ جَازَ فَكَذَا النَّفَلُ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ على رَأْسِ الثَّالِثَةِ في النَّوَافِلِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الْمَغْرِبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَقْعُدْ فيها وَلَوْ لم يَقْعُدْ فيها لم تَجُزْ النَّافِلَةُ فَكَذَا في التَّرَاوِيحِ ثُمَّ إنْ كان سَاهِيًا في الثَّالِثَةِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ لِأَنَّهُ شَرَعَ في صَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كان عَمْدًا فَعَلَى قَوْلِ من قال بِالْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قد صَحَّتْ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ
وَإِنْ لم يُكْمِلْهَا بضم ( ( ( يضم ) ) ) رَكْعَةً أُخْرَى إلَيْهَا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وَعَلَى قَوْلِ من قال بِعَدَمِ الْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قد فَسَدَتْ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَشَرَعَ في الثَّالِثَةِ بِلَا تَحْرِيمَةٍ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا لو صلى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَةٍ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ صلى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ولم يَقْعُدْ إلَّا في آخِرِهَا
قال بَعْضُهُمْ يُجْزِئُهُ عن التَّرَاوِيحِ كُلِّهَا
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِكُلِّ شَفْعٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ تَرْوِيحَةٍ إمَامٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَعَمَلُ السَّلَفِ وَلَا يُصَلِّي التَّرْوِيحَةَ الْوَاحِدَةَ إمَامَانِ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ وَيَكُونُ تَبْدِيلُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ بين التَّرْوِيحَتَيْنِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَلَا يُصَلِّي إمَامٌ وَاحِدٌ التَّرَاوِيحَ في مَسْجِدَيْنِ في كل مَسْجِدٍ على الْكَمَالِ وَلَا له فِعْلٌ وَلَا يُحْتَسَبُ التَّالِي من التَّرَاوِيحِ وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا لِأَنَّ صَلَاةَ إمَامِهِمْ نَافِلَةٌ وَصَلَاتُهُمْ سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ أَقْوَى فلم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وما صلى في الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ مَحْسُوبٌ وَلَيْسَ على الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا وَلَا
____________________

(1/289)


بَأْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ في مَسْجِدَيْنِ لِأَنَّهُ اقْتِدَاءُ الْمُتَطَوِّعِ بِمَنْ يُصَلِّي السُّنَّةَ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كما لو صلى الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَدَخَلَ فيها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا صَلَّوْا التَّرَاوِيحَ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوهَا ثَانِيًا يُصَلُّونَ فُرَادَى لَا بِجَمَاعَةٍ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِجَمَاعَةٍ مَكْرُوهٌ وَيَجُوزُ التَّرَاوِيحُ قَاعِدًا من غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ من صلى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَاعِدًا من غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لو صَلَّاهَا على الدَّابَّةِ من غَيْرِ عُذْرٍ وهو يَقْدِرُ على النُّزُولِ لِاخْتِصَاصِ هذه السُّنَّةِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ على تَرْكِهَا فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ كُلَّمَا صلى تَرْوِيحَةً قَعَدَ بين التَّرْوِيحَتَيْنِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيُصَلِّي على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَدْعُو وَيَنْتَظِرُ أَيْضًا بَعْدَ الْخَامِسَةِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ لِأَنَّهُ مُتَوَارَثٌ من السَّلَفِ
وَأَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ بَعْدَ خَمْسِ تَسْلِيمَاتٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ
قال بَعْضُهُمْ نعم
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَدَائِهَا إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ لَا فَقَدْ قِيلَ أنها تُقْضَى وَالصَّحِيحُ أنها لَا تُقْضَى لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ من سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَتِلْكَ لَا تُقْضَى فَكَذَلِكَ هذه
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ التَّطَوُّعَ هل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ ما يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ وفي بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ وفي بَيَانِ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إذَا شَرَعَ في التَّطَوُّعِ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فيه وإذا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ في التَّطَوُّعِ وَلَا الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن التَّطَوُّعَ تَبَرُّعٌ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ وإذا لم يَجِبْ الْمُضِيُّ فيه لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عن الْإِبْطَالِ وذلك ( ( ( وذا ) ) ) طريقة ( ( ( بلزوم ) ) ) الْمُضِيِّ فيها وإذا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَاجِبَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كما في الْمَنْذُورِ وَالْمَفْرُوضِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ كما ذَكَرَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِأَنَّا نَقُولُ نعم قبل الشُّرُوعِ وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَقَدْ صَارَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ وهو صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عن الْبُطْلَانِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مع الْإِمَامِ وهو يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ في الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ دخل معه فيها يَنْوِي التَّطَوُّعَ فَهَذَا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى أو لم يَكُنْ له نِيَّةٌ أَصْلًا أو نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَسْقُطُ عنه وَتَنُوبُ هذه عن قَضَاءِ ما لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن ما لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ صَارَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ كَالصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فَلَا يَتَأَدَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى
وَلَنَا أَنَّهُ لو أَتَمَّهَا حين شَرَعَ فيها لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَا إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي لِأَنَّهُ ما الْتَزَمَ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وقد أَدَّاهَا وَإِنْ نَوَى تَطَوُّعًا آخَرَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَذُكِرَ في زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كان دَيْنًا عليه بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَنُوبُ هذا الْمُؤَدَّى عنه بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ ما الْتَزَمَ في الْمَرَّتَيْنِ إلَّا أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وقد أَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ الشُّرُوعُ في التَّطَوُّعِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ الشُّرُوعُ في التَّطَوُّعِ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ حتى لو قَطَعَهَا لَا شَيْءَ عليه عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْطَعَ وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كما وَجَبَتْ وإذا قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَأَمَّا الشُّرُوعُ في الصَّوْمِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَغَيْرُ مُلْزِمٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رحمهما الله تعالى وَعِنْدَهُمَا مُلْزِمٌ فَهُمَا سَوَّيَا بين الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَجَعَلَا الشُّرُوعَ فِيهِمَا مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ لِكَوْنِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَجَعَلَ الشُّرُوعَ فِيهِمَا غير مُلْزِمٍ وأبو حَنِيفَةَ فَرَّقَ وَالْفَرْقُ له من وُجُوهٍ
أَحَدُهَا ما لَا بُدَّ له من تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ ما تَرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْكُلِّ فيه على الْبَعْضِ كَالْمَاءِ فإن مَاءَ الْبَحْرِ يُسَمَّى مَاءً ( وَقَطْرَةٌ منه تُسَمَّى مَاءً ) وَكَذَا الْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَكُلُّ مَائِعٍ وما تَرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ منه اسْمُ الْكُلِّ كالسنجبين ( ( ( كالسكنجبين ) ) ) لَا يُسَمَّى الْخَلَّ وَحْدَهُ وَلَا السُّكْرَ وَحْدَهُ سكنجبينا ( ( ( سكنجيبا ) ) )
وَكَذَا الْأَنْفُ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى وَجْهًا وَلَا الْخَدُّ
____________________

(1/290)


وَحْدَهُ وَلَا الْعَظْمُ وَحْدَهُ يُسَمَّى آدَمِيًّا ثُمَّ الصَّوْمُ يَتَرَكَّبُ من أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ اسْمُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةُ تَتَرَكَّبُ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهِيَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَلَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ
وَمِنْ هذا قال أَصْحَابُنَا إنَّ من حَلَفَ لَا يَصُومُ ثُمَّ شَرَعَ في الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ أن لَا يُصَلِّي فما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثُ وإذا تَقَرَّرَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ أنه نَهْيٌ عن الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ بَاشَرَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ وَنَهَى عن الصَّلَاةِ فما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يُبَاشِرْ منهيا فما ( ( ( فيما ) ) ) انْعَقَدَ انْعَقَدَ قُرْبَةً خَالِصَةً غير مَنْهِيٍّ عنها
فَبَعْدَ هذا يقول بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وهو في الصَّوْمِ مَنْهِيٌّ فَفَسَدَ في نَفْسِهِ فلم يَصِرْ سَبَبَ الْوُجُوبِ
وفي الصَّلَاةِ ليس بِمَنْهِيٍّ فَصَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ
وإذا تَحَقَّقَ هذا فَنَقُولُ وُجُوبُ الْمُضِيِّ في التَّطَوُّعِ لِصِيَانَةِ ما انْعَقَدَ قُرْبَةً
وفي بَابِ الصَّوْمِ ما انْعَقَدَ انْعَقَدَ مَعْصِيَةً من وَجْهٍ
وَالْمُضِيُّ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ
وَالْمُضِيُّ لو وَجَبَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ ما انْعَقَدَ وما انْعَقَدَ عِبَادَةٌ وهو مَنْهِيٌّ عنه وَتَقْرِيرُ الْعِبَادَةِ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبٌ
وَتَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَصِيَانَتُهَا مَعْصِيَةٌ فَالصِّيَانَةُ وَاجِبَةٌ من وَجْهٍ مَحْظُورَةٌ من وَجْهٍ
فلم تَجِبْ الصِّيَانَةُ عِنْدَ الشَّكِّ وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ على ما هو الْأَصْلُ
وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا هو عِبَادَةٌ وَبِمَا هو مَعْصِيَةٌ وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مُمْكِنٌ
وَإِيجَابُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ
فلم يَجِبْ الْمُضِيُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ
فَأَمَّا في بَابِ الصَّلَاةِ فما انْعَقَدَ انْعَقَدَ عِبَادَةً خَالِصَةً لَا حَظْرَ فيها فَوَجَبَ تَقْرِيرُهَا وَصِيَانَتُهَا ثُمَّ صِيَانَتُهَا
وَإِنْ كانت بِالْمُضِيِّ وَبِالْمُضِيِّ يَقَعُ في الْمَحْظُورِ
لكن ( ( ( ولكن ) ) ) لو مَضَى تَقَرَّرَتْ الْعِبَادَةُ
وتقرير ( العبادة ) وَاجِبٌ
وما يَأْتِي بِهِ عِبَادَةٌ
وَمَحْظُورٌ أَيْضًا
فَكَانَ مُحَصِّلًا لِلْعِبَادَةِ من وَجْهَيْنِ وَمُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ من وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْعِبَادَةِ
وَلَوْ امْتَنَعَ عن الْمُضِيِّ امْتَنَعَ عن تَحْصِيلِ ما هو مَنْهِيٌّ
وَلَكِنْ امْتَنَعَ أَيْضًا عن تَحْصِيلِ ما هو عِبَادَةٌ وَأَبْطَلَ الْعِبَادَةَ الْمُتَقَرِّرَةَ وَإِبْطَالُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ
فَكَانَ الْمُضِيُّ لِلصِّيَانَةِ أَوْلَى من الِامْتِنَاعِ فلزمه ( ( ( فيلزمه ) ) ) الْمُضِيُّ
فإذا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وَمِنْهُمْ من فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال إنَّ النَّهْيَ عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ وهو خَبَرُ الْوَاحِدِ
وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في صِحَّتِهِ وَوُرُودِهِ فَكَانَ في ثُبُوتِهِ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ وما كان هذا سَبِيلُهُ كان قَبُولُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ
وَالِاحْتِيَاطُ في حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ على من أَفْسَدَ بِالشُّرُوعِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ ما وَرَدَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عن الصَّوْمِ
لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ
وَتَلَقَّتْهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بِالْقَبُولِ فَكَانَ النَّهْيُ ثَابِتًا من جَمِيعِ الْوُجُوهِ
فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ
فلم يَجِبْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ
وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ ذَكَرَ هذه الْفُرُوقَ
وَأَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ وهو أَنَّ الصَّوْمَ وُجُوبُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ وهو فِعْلٌ من الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عنه
فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوُجُوبُهَا بِالتَّحْرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلٌ وَلَيْسَتْ من الصَّلَاةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
غير أَنَّهُ لو أفسد ( ( ( أفسدها ) ) ) مع هذا وَقَضَى في وَقْتٍ آخَرَ كان أَحْسَنَ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلُ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا وَهَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يؤدي خَالِيًا عن اقْتِرَانِ النَّهْيِ بِهِ وَلَكِنْ لو صلى مع هذا جَازَ لِأَنَّهُ ما لَزِمَهُ إلَّا هذه الصَّلَاةُ وقد أَسَاءَ حَيْثُ أَدَّى مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ
وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كما وَجَبَتْ فَيَجُوزُ كما لو أَتَمَّهَا في ذلك الْوَقْتِ ثُمَّ الشُّرُوعُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبَ الْوُجُوبِ إذَا صَحَّ فَأَمَّا إذَا لم يَصِحَّ فَلَا حتى لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ على غَيْرِ وُضُوءٍ أو في ثَوْبٍ نَجِسٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَكَذَا القارىء إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أو في صَلَاةِ امْرَأَةٍ أو جُنُبٍ أو مُحْدِثٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّ شُرُوعَهُ في الصَّلَاةِ لم يَصِحَّ حَيْثُ اقْتَدَى بِمِنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا له وَكَذَا الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ حتى لو شَرَعَ في الصَّلَاةِ على ظَنِّ أنها عليه ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها لَيْسَتْ عليه لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَلَوْ أَفْسَدَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وفي بَابِ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مَعْلُومًا كان أو مَظْنُونًا وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ في كِتَابِ الصَّوْمِ إنْ شَاءَ الله ( ( ( لله ) ) ) تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ ما يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ من رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عن أَصْحَابِنَا إلَّا بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عنه أَنَّهُ قال فِيمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا قَضَى أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ وقال يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ
وَرَوَى بِشْرُ بن أبي الْأَزْهَرِ عنه أَنَّهُ قال فِيمَنْ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذلك الْعَدَدُ وَإِنْ كان مِائَةَ رَكْعَةٍ
وَرَوَى غَسَّانُ
____________________

(1/291)


عنه أَنَّهُ قال إنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ
وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك لم يَلْزَمْهُ
وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ ما تَنَاوَلَهُ وَإِنْ كَثُرَ
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ أبي الْأَزْهَرِ عنه أَنَّ الشُّرُوعَ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ ما تَنَاوَلَهُ كذا بِالشُّرُوعِ
وَجْهُ رِوَايَةِ غَسَّانَ عنه أَنَّ ما وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً على مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من الْعَبْدِ دُونَ ما وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَذَا لَا يَزِيدُ على الْأَرْبَعِ فَهَذَا أَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ الشُّرُوعِ ما ثَبَتَ وَضْعًا بَلْ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ المؤدى عن الْبُطْلَانِ وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِتَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِصِيغَتِهِ وَضْعًا فَيَتَقَدَّرُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ ما تَنَاوَلَهُ السَّبَبُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَنَقُولُ نعم لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ما وُجِدَ الشُّرُوعُ فيه ولم يُوجَدْ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَجِبُ وَلِأَنَّهُ ما وُضِعَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوُجُوبُ لِمَا ذَكَرْنَا من الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ الشَّفْعِ الثَّانِي بِخِلَافِ النَّذْرِ فإنه الْتَزَمَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ ما الْتَزَمَ
وَكَذَا الْجَوَابُ في السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فيها إلَّا رَكْعَتَيْنِ حتى لو قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ قَضَى أَرْبَعًا في كل مَوْضِعٍ يَقْضِي في التَّطَوُّعِ أَرْبَعًا وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ من مَشَايِخِنَا اخْتَارَ قَوْلَ أبي يُوسُفَ فِيمَا يؤدى من الْأَرْبَعِ منها بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الْأَرْبَعُ قبل الظُّهْرِ
وقال لو قَطَعَهَا يَقْضِي أَرْبَعًا وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ فَانْتَقَلَ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وهو الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ من وَجَبَ عليه رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ على قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ ويبنيهما ( ( ( وبينهما ) ) ) على التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عليه إتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً له عن الْبُطْلَانِ وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ على قَصْدِ الْأَدَاءِ بِنَاءً منه الشَّفْعُ الثَّانِي على التَّحْرِيمَةِ الْأَوْلَى وَأَمْكَنَ الْبِنَاءُ عليها لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا
وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ أنها تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ وَيَلْزَمُهُ في هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ الْقِرَاءَةُ كما في الْأُولَيَيْنِ لأن كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الْمُتَنَفِّلَ إذَا قام إلَى الثالثة ( ( ( الثالث ) ) ) لِقَصْدِ الْأَدَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِحَ فَيَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كما يَسْتَفْتِحُ في الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ هذا بِنَاءُ الِافْتِتَاحِ
وكل رَكْعَتَيْنِ من النَّفْلِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ لَكِنْ بِنَاءً على التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ الْمَسْنُونِ فيه وَلَوْ صلى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ ليس له ذلك لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَوَقَعَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صلى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كان يَقَعُ سَهْوُهُ في وَسَطِ الصَّلَاةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلَّلٌ في الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عن الْعَمَلِ في هذه الْحَالَةِ أو حَكَمَ بِعَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ السُّجُودِ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إذ ( ( ( والضرورة ) ) ) الضرورة في حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِهَا فَظَهَرَ بَقَاءُ التَّحْرِيمَةِ أو عَوْدُهَا في حَقِّهَا لَا في حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى وَلَا ضَرُورَةَ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَيَعْمَلُ التَّسْلِيمُ عَمَلَهُ في التَّحْلِيلِ وكان الْقِيَاسُ في الْمُتَنَفِّلِ بِالْأَرْبَعِ إذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ لَمَّا كان صَلَاةً على حِدَةٍ كانت الْقَعْدَةُ عَقِيبَهُ فَرْضًا كَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ من الْفَرَائِضِ إلَّا أَنَّ في الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَمَّا قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل الْقَعْدَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا صَلَاةً وَاحِدَةً شَبِيهَةً بِالْفَرْضِ وَاعْتِبَارُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ مَشْرُوعٌ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَاصِلَةً بين الشَّفْعَيْنِ وَالْخَاتِمَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ فَأَمَّا الْفَاصِلَةُ فَوَاجِبَةٌ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ في التَّطَوُّعِ وَقَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ فِيهِمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ ولم نَجْعَلْ هذه الصَّلَاةَ صَلَاةً وَاحِدَةً في حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا صَارَتْ فَرْضًا لِغَيْرِهَا وهو الْخُرُوجُ فإذا قام إلَى الثَّالِثَةِ وَصَارَتْ الصَّلَاةُ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لم يَأْتِ أَوَانُ الْخُرُوجِ فلم تَبْقَ الْقَعْدَةُ فَرْضًا
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ رُكْنٌ بِنَفْسِهَا فإذا تَرَكَهَا في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَسَدَ فلم يَصِحَّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عليه
وَعَلَى هذا قالوا إذَا صلى التَّطَوُّعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ
____________________

(1/292)


وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اعْتِبَارًا لِلتَّطَوُّعِ بِالْفَرْضِ وهو صَلَاةُ الْمَغْرِبِ إذَا صَلَّاهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ما اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ فَسَدَتْ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ ما قَبْلَهَا وَلَوْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فتجوز ( ( ( فيجوز ) ) ) بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الْأَرْبَعِ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْفَرِيضَةِ وَلَيْسَ في الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَعُودُ الْأَمْرُ فيه إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الذي اتَّصَلَ بِهِ الْمُفْسَدُ دُونَ الشَّفْعِ الذي مَضَى على الصِّحَّةِ حتى لو صلى أَرْبَعًا فَتَكَلَّمَ في الثَّالِثَةِ أو الرَّابِعَةِ قَضَى الشَّفْعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَفَسَادُ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَفَسَادُ الْبَعْضِ يُوجِبُ فَسَادَ الْكُلِّ وَلَوْ اقْتَدَى الْمُتَطَوِّعُ بمصلى الظُّهْرِ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا أو اقْتَدَى بِهِ في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ
وَمَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ سِتًّا لم يَلْزَمْهُ رَكْعَتَانِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لم يُوجَدْ في الرَّكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا وُجِدَ في الظُّهْرِ وَهِيَ أَرْبَعٌ ولم يُوجَدْ في حَقِّ الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُلْزِمُ شيئا وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ لِأَنَّ الظُّهْرَ في حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الزِّيَادَةِ لَغْوًا هذا إذَا أَفْسَدَ التَّطَوُّعَ بِشَيْءٍ من أَضْدَادِ الصَّلَاةِ في الْوَضْعِ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ صلى للتطوع ( ( ( التطوع ) ) ) أَرْبَعًا ولم يَقْرَأْ فِيهِنَّ شيئا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَهِيَ من الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِثَمَانِ مَسَائِلَ
وَالْأَصْلُ فيها أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَتَى فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَإِنْ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَاهُمَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ في كل شَفْعٍ من النَّفْلِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا فَكَمَا يَفْسُدُ الشَّفْعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَاهُمَا لِفَوَاتِ ما هو رُكْنٌ كما لو تَرَكَ الرُّكُوعَ أو السُّجُودَ إنه لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بين التَّرْكِ في الرَّكْعَتَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا
كَذَا هذا وَصَارَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ في الْإِفْسَادِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ سَوَاءً فإذا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لم تَبْقَ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّهَا تَبْقَى لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فإذا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَا تَبْقَى هِيَ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي لِعَدَمِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسَادُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ القراءة لكون الْقِرَاءَةِ رُكْنًا لكن ( ( ( ولكن ) ) ) بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّهَا ما عُقِدَتْ لِهَذَا الشَّفْعِ خَاصَّةً بَلْ له وللشفع ( ( ( الشفع ) ) ) الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَرَأَ يَصِحُّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عليه فإذا لم تَبْطُلْ التَّحْرِيمَةُ صَحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
ثُمَّ يَفْسُدُ هو أَيْضًا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فيه
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلتَّحْرِيمَةِ مع بُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كما إذَا تَرَكَ رُكْنًا آخر ( ( ( آخرا ) ) ) أو ( ( ( وتكلم ) ) ) تكلم أو أَحْدَثَ عَمْدًا لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ بين الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَجْعَلَهَا كُلَّهَا عِبَادَةً وَاحِدَةً فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كما قال مُحَمَّدٌ غير أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا عَلِمَ فَسَادَ الشَّفْعِ بِيَقِينٍ لِتَرْكِ الرُّكْنِ بِيَقِينٍ
وأما إذَا قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لم يَعْلَمْ يَقِينًا بِفَسَادِ هذا الشَّفْعِ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كان يقول بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَقَوْلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنْ إنَّمَا عَرَفْنَا فَسَادَهُ بِدَلِيلٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ قَوْلَهُ غير أَنَّا عَرَفْنَا صِحَّةَ ما ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَفَسَادَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فلم يحكم ( ( ( نحكم ) ) ) بِبُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى دَارَ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كان الِاحْتِيَاطُ في الْحُكْمِ بِفَسَادِهِ لِيَجِبَ عليه الْقَضَاءُ وَبِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِيَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي لِيَجِبَ عليه الْقَضَاءُ بِوُجُودِ مُفْسِدٍ في هذا الشَّفْعِ أَيْضًا
إذَا عَرَفْت هذا الْأَصْلَ فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأَرْبَعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ( رحمهم الله تعالى ) لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قد بَطَلَتْ بِفَسَادِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه قَضَاءُ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَقِيَتْ وَإِنْ فَسَدَ الشَّفْعُ
____________________

(1/293)


الْأَوَّلُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا فَيَجِبُ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ جميعا
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ أو قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَحَسْبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ من هذا الشَّفْعِ فَبَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِعَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِكَوْنِ الْفَسَادِ غير ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَصَحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وهو الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ
فَأَمَّا الشَّفْعُ الثَّانِي فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى صَلَاةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فيه قد صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وقد وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا فَصَحَّ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَمَّا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ لم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فلم تَكُنْ صَلَاةً فلم ( ( ( فلا ) ) ) يَجِبُ إلَّا قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ( رحمهم الله تعالى ) فَلِأَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ ليس بِصَلَاةٍ لِانْعِدَامِ التَّحْرِيمَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَإِنْ كان صَلَاةً لَكِنَّهُ بَنَاهُ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وإنها انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فيها الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ
وَلَوْ قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ
وَذَكَرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ مع مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ
وَلَوْ قَرَأَ في إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ وَلَوْ قَرَأَ في الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْكُلِّ وَكَذَا لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَعَدَ بين الشَّفْعَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ
وَلَا تَتَأَتَّى هذه التَّفْرِيعَاتُ عِنْدَهُ وَلَوْ كان خَلْفَهُ رَجُلٌ اقْتَدَى بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إمَامِهِ يَقْضِي ما يَقْضِي إمَامُهُ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا وَلَوْ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي وَمَضَى الْإِمَامُ في صَلَاتِهِ حتى صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَرَأَ في الْأَرْبَعِ كُلِّهَا وَقَعَدَ بين الشَّفْعَيْنِ فَإِنْ تَكَلَّمَ قبل أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لم يَلْتَزِمْ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالشُّرُوعِ ولم يَشْرَعْ فيه وَإِنَّمَا وُجِدَ منه الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بِالْإِفْسَادِ لَا غَيْرُ
وَإِنْ تَكَلَّمَ بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قبل أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّى ما الْتَزَمَ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ وَأَمَّا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي لم يذكر هذه الْمَسْأَلَةَ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ عِصَامُ بن يُوسُفَ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عليه قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ
قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الأجل الزَّاهِدُ صَدْرُ الدِّينِ أبو الْمُعِينِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا الْجَوَابُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمهما الله تعالى لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هذا كُلَّهُ صَلَاةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لم يَحْكُمَا بِفَسَادِهَا بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَقِيَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً على حِدَةٍ حتى حُكِمَ بِافْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَانَ هذا الْمُقْتَدِي مُفْسِدًا لِلشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَا غَيْرُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لَا غَيْرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا في النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا رحمهم الله تعالى
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جميعا
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بن رُوَيْبَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَلِأَنَّ في التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ وَلِهَذَا قال في الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ
وَلَنَا ما رَوَى ابن مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يُوَاظِبُ في صَلَاةِ الضُّحَى على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَوْلَى من الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بن رُوَيْبَةَ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ على الْبَدَنِ وَسُئِلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فقال أَحْمَزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا على الْبَدَنِ
وَأَمَّا في اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمهما الله تعالى احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كل رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ
____________________

(1/294)


وما أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ مُرَادًا بِهِ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ في التَّرَاوِيحِ قد ( ( ( فظهر ) ) ) ظهر مَثْنَى مَثْنَى من لَدُنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إلَى يَوْمِنَا هذا فَدَلَّ أَنَّ ذلك أَفْضَلُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن قِيَامِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في لَيَالِي رَمَضَانَ فقالت كان قِيَامُهُ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً لِأَنَّهُ كان يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كان يُوتِرُ بِثَلَاثٍ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أنها سُئِلَتْ عن ذلك فقالت وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذلك ثُمَّ ذَكَرَتْ الحديث
وَكَلِمَةُ كان عِبَارَةٌ عن الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ وما كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُوَاظِبُ إلَّا على أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَفِيهِ دَلَالَةٌ على أَنَّهُ ما كان يُسَلِّمُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لو كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ
وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بين الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ في بَابِ الصَّوْمِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ كما في صِفَةِ التَّتَابُعِ في بَابِ الصَّوْمِ
ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ
وَالْمَعْنَى فيه ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ على الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَلَّمَ أَيْ فَتَشَهَّدَ
لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فيها من الشَّهَادَةِ
وَهِيَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فيها من التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
وَحَمْلُهُ على هذا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالتَّسْلِيمُ ليس بِوَاجِبٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو صلى أَرْبَعًا جَازَ
أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عليه أَوْلَى
فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى
لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ
فَتُؤَدَّى على وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ من الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ
وَلَا كَلَامَ فيه
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كان وَحْدَهُ والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ فَالْمَكْرُوهُ منه نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا في النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ على الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وفي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا
ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا وَإِنْ شِئْت سِتًّا ولم يَزِدْ عليه وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ على الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ أو إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ
وهو ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَالثَّلَاثُ من كل وَاحِدٍ من هذه الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَانِ من ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هذا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في الزِّيَادَةِ على الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ قال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على هذا لم تُرْوَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال لِأَنَّ فيه وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ
وَلَوْ زَادَ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ أو على الثَّمَانِ في اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وهو الشُّرُوعُ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في أَنَّ الْأَفْضَلَ في التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ في الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى على حَسَبِ ما اُخْتُلِفَ فيه أو ( ( ( أم ) ) ) كَثْرَةُ الصَّلَاةِ
قال أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ
وقال الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ إن طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فقال طُولُ الْقُنُوتِ أَيْ الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال في قَوْله تَعَالَى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { أم ( ( ( أمن ) ) ) من هو قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ }
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا لم يَكُنْ له وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ
وَأَمَّا إذَا كان له وِرْدٌ من الْقُرْآنِ يقرأه ( ( ( يقرؤه ) ) ) فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى في الْوَقْتِ
وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى في غَيْرِ الْوَقْتِ
أَمَّا الذي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ أَحَدُهَا ما بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ
وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ
وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ
وهو احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ
فَفِي هذه
____________________

(1/295)


الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ في جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يوم الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ
وفي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا
وَسَوَاءٌ كان تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ له أو تَطَوُّعًا له سَبَبٌ
كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ وَقْتَ الزَّوَالِ يوم الْجُمُعَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ في هذه الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يوم الْجُمُعَةِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فيها وَأَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حتى تَرْتَفِعَ وإذا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ وَعِنْدَ الزَّوَالِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وقال لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ
وَرَوَى الصالحي ( ( ( الصنابحي ) ) ) أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقال إنَّهَا تَطْلُعُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا في عَيْنِ من يَعْبُدُهَا حتى يَسْجُدَ لها فإذا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فإذا كانت عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا فإذا مَالَتْ فَارَقَهَا فإذا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فإذا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا في هذه الْأَوْقَاتِ
فَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ من غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ على الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ وَنَبَّهَ على مَعْنَى النَّهْيِ وهو طُلُوعُ الشَّمْسِ بين قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك لِأَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَيَسْجُدُونَ لها عِنْدَ الطُّلُوعِ تَحِيَّةً لها وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا وَعِنْدَ الْغُرُوبِ وَدَاعًا لها فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بين قَرْنَيْهِ لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نحو الشَّمْسِ له فَنَهَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التشبه ( ( ( التشبيه ) ) ) بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ وما رُوِيَ من النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بها
وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ التي يُكْرَهُ فيها التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى في غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا ما بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وما بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وما بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ في هذه الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ المبتدأ مَكْرُوهٌ فيها
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الذي له سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى لَا يُكْرَهُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا دخل أحدكم الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ من غَيْرِ فَصْلٍ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بَعْدَ الْعَصْرِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى صلاة الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فقال عَزَمْت على من أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فلم يَقُمْ أحد فقال جَرِيرُ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيُّ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لو تَوَضَّأْنَا جميعا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ فَاسْتَحْسَنَ ذلك عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وقال له كُنْت سَيِّدًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا في الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لم يُحْدِثْ كانت نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ في هذه الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حتى تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَهُوَ على الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال ذلك
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ولم يُصَلِّ حتى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ ما طَلَعَتْ الشَّمْسُ وقال رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كان أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الفجر ( ( ( الشمس ) ) ) جَائِزًا من غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عليه ما رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بَعْدَ الْعَصْرِ فقال إنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ ونحن نَفْعَلُ ما أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ في مَوْضِعِ الْخُصُوصِ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عن ذلك فقال شَغَلَنِي وَفْدٌ عن رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فقالت وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فقال لَا أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عليه
____________________

(1/296)


السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ
وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وما روى عن عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ على أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ المكروه ( ( ( المكر ) ) ) لِمِثْلِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في هذه الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى في الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ وهو إخْرَاجُ ما بَقِيَ من الْوَقْتِ عن كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ في حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ
وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الذي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ من النَّذْرِ وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الذي أَفْسَدَهُ في هذه الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو نَفْلٌ في نَفْسِهِ وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عن الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا في نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ في هذه الْأَوْقَاتِ
وَمِنْهَا ما بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فيه النَّفَلُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ فيه تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهَا ما بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ في الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ ما أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ في ذلك الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ كما تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا في سُنَّةِ الْفَجْرِ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في السُّنَنِ
وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يوم الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فيه الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَمِنْهَا ما بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يوم الْجُمُعَةِ قبل أَنْ يَشْتَغِلَ بها وما بَعْدَ فَرَاغِهِ منها قبل أَنْ يَشْرَعَ في الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيه وَالْكَلَامُ وَجَمِيعُ ما يُكْرَهُ في حَالَةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى
وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيها في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَمِنْهَا ما قبل صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيه لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَتَطَوَّعْ قبل الْعِيدَيْنِ مع شِدَّةِ حِرْصِهِ على الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَوَجَدَ الناس يُصَلُّونَ فقال إنَّهُ لم يَكُنْ قبل الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ له أَلَا تَنْهَاهُمْ فقال لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى { أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صلى }
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ الناس عن الصَّلَاةِ قبل الْعِيدِ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ وفي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تأخيرها ( ( ( تأخير ) ) ) وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ في بَيْتِهِ يَقَعُ في وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ
من أَصْحَابِنَا إنَّمَا يُكْرَهُ ذلك في الْمُصَلَّى كيلا يَشْتَبِهَ على الناس أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَأَمَّا في بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا على أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ لَا في الْمُصَلَّى وَلَا في بَيْتِهِ فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ في هذا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه فَنَقُولُ إنَّهُ يُفَارِقُهُ في أَشْيَاءَ منها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مع الْقُدْرَةِ على الْقِيَامِ وَلَا يَجُوزُ ذلك في الْفَرْضِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عليه إدَامَةُ هذا الْخَيْرِ فَأَمَّا الْفَرْضُ فإنه يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَكُونُ في إلْزَامِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه حَرَجٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مع الْقُدْرَةِ على الْقِيَامِ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُصَلِّي قَاعِدًا فإذا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قام فَقَرَأَ آيَاتٍ
ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ وَكَذَا لو افْتَتَحَ الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ من غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى اسْتِحْسَانًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى لَا يَجُوزُ وهو الْقِيَاسُ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ له الْقُعُودُ من غَيْرِ عُذْرٍ فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وهو مُخَيَّرٌ بين الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ في الِابْتِدَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ إنَّ الشُّرُوعَ ليس بِمُلْزِمٍ وَضْعًا وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ ما انْعَقَدَ عِبَادَةً عن الْبُطْلَانِ وما انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً بِوُجُودِ أَصْلِ ما بَقِيَ من الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ ما بَقِيَ فإن التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ في الْجُمْلَةِ فلم يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ لُزُومَ ما بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ من رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عن الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فإنه مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فإذا أَوْجَبَ مع الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ حتى لو أَطْلَقَ النَّذْرَ لَا رِوَايَةَ فيه فَقِيلَ أنه على هذا الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في
____________________

(1/297)


الشُّرُوعِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لم يَتَنَاوَلْ الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عليه كَالتَّتَابُعِ في بَابِ الصَّوْمِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ قَائِمًا لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَيُعْتَبَرُ ما أَوْجَبَهُ على نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عليه مُطْلَقًا وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا من عُذْرٍ فكذا ههنا
وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ مُوجِبًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ في حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ على ما مَرَّ ولو افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حتى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ أو نَحْوُهَا قام فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كان يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ انْتَقَلَ من الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك جَائِزٌ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
ومنها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ على الدَّابَّةِ مع الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ على الدَّابَّةِ مع الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ في التَّطَوُّعِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ وَالْمَفْرُوضُ من الْقِرَاءَةِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ من الْمَكْتُوبَاتِ في رَكْعَتَيْنِ منها فَقَطْ حتى لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ من الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا في الشَّفْعِ الثَّانِي أو يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ
وقد روى عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ مَوْقُوفًا عليهم وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا
قال مُحَمَّدٌ تَأْوِيلُهُ لَا يصلي بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا من التَّطَوُّعِ على هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ في الْقِرَاءَةِ أَيْ رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ أَرْبَعًا من التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ في رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ في رَكْعَتَيْنِ وَالنَّهْيُ عن الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَكَانَ هذا أمرا ( ( ( أمر ) ) ) بِالْقِرَاءَةِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا في التَّطَوُّعِ وَلَا يُحْمَلُ على الْمُمَاثَلَةِ في أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالظُّهْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ
وَتَأْوِيلُ أبي يُوسُفَ أَيْ لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ لِأَنَّهُ في بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كانت الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ من الْغَدِ لِوَقْتِهَا فَنَهَى النبي عن ذلك وَمِصْدَاقُ هذا التَّأْوِيلِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أو اسْتَيْقَظَ من الْغَدِ لِوَقْتِهَا ثُمَّ نُسِخَ هذا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا وَيُمْكِنُ حَمْلُ الحديث على النَّهْيِ عن قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ فَسَادٍ فيه بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الحديث على هذا التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ وَالنَّهْيَ عن اتِّبَاعِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ على النَّهْيِ عن تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَعَلَى هذا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لنا على الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ في الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حتى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا وفي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ على ما مَرَّ وَلَوْ قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يَقْعُدَ سَاهِيًا في الْفَرْضِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لم يُعِدْ وَإِنْ لم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
وَأَمَّا في التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ ولم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا أَنَّهُ يَعُودُ ولم يذكر أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هل يَعُودُ أَمْ لَا
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ وَبَعْضُهُمْ قال يَعُودُ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَلَوْ كان نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ من الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يَقْعُدَ فَيَعُودُ هَهُنَا بِلَا خِلَافٍ بين مَشَايِخِنَا لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ في التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا في قِيَامِ رَمَضَانَ وفي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أو سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ أَفْضَلُ من صَلَاتِهِ في مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ في بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أو الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً في التَّرَاوِيحِ بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّرَاوِيحَ في الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ وَصَلَّى الناس بِصَلَاتِهِ وَعُمَرُ رضي اللَّهُ عنه في خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ الناس على قارىء ( ( ( قارئ ) ) ) وَاحِدٍ فلم يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ على أُبَيِّ بن كَعْبٍ
وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مؤقت بِوَقْتٍ خَاصٍّ وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ في أَيِّ وَقْتٍ كان على أَيِّ مِقْدَارٍ كان إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ
____________________

(1/298)


في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ على ما مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مؤقت بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على قَدْرِهِ وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ على ما مَرَّ في مَوْضِعِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ في مَوْضِعِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حتى لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لم يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ
وَلَوْ كان في الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قبل وَقْتِهِ وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَلِأَنَّهُ لو تَذَكَّرَ فَائِتَةً عليه في صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا فإذا تَذَكَّرَ في التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كان أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ في الْجَنَائِزِ يَقَعُ في الْأَصْلِ في سِتَّةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في غُسْلِ الْمَيِّتِ
وَالثَّانِي في تَكْفِينِهِ
وَالثَّالِثُ في حَمْلِ جِنَازَتِهِ
وَالرَّابِعُ في الصَّلَاةِ عليه
وَالْخَامِسُ في دَفْنِهِ
وَالسَّادِسُ في الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذلك نَبْدَأُ بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وما يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كما يُوَجَّهُ في الْقَبْرِ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كما يُضْجَعُ الْمَيِّتُ في اللَّحْدِ وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُرَادُ من الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا لِقُرْبِهِ من الْمَوْتِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }
وإذا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ لِأَنَّهُ لو تُرِكَ كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ في نَظَرِ الناس كَالْمُثْلَةِ وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ دخل على أبي سَلَمَةَ وقد شُقَّ بَصَرُهُ نغمضه ( ( ( فغمضه ) ) ) وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ الناس بِمَوْتِهِ من أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عليه وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ
وقد رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في الْمِسْكِينَةِ التي كانت في نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي وَلِأَنَّ في الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا على الطَّاعَةِ وَحَثًّا على الِاسْتِعْدَادِ لها فَيَكُونُ من بَابِ الْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالتَّسَبُّبِ إلَى الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عليه وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ في الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ لِأَنَّ ذلك يُشْبِهُ عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ في جِهَازِهِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ نَدَبَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في الْغُسْلِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ من يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قالت لِوَلَدِهِ هذه سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ في مَعْنَى الْوَاجِبِ وَكَذَا الناس تَوَارَثُوا ذلك من لَدُنْ آدَمَ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على وُجُوبِهِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فيه عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا ذَكَرَ محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ في أَجْزَائِهِ كَرَامَةً له لِأَنَّهُ لو تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ التي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حتى رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لو وَقَعَ في الْبِئْرِ قبل الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لم يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عن سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ وَالْبَدَنُ في حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ في كل وَقْتٍ حتى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عن شَهْوَةٍ لَمَّا كان لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لم يُكْتَفَ فيه إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فيه من الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كما يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ التي لها دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا لو وَقَعَ في الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً له فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ في
____________________

(1/299)


الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ في الْجُمْلَةِ وهو الْغُسْلُ لَا في الْمَنْعِ من حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ الْكَرَامَةُ في امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا وَقَوْلُ الْعَامَّةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ فيه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ ما له أَثَرٌ في التَّطْهِيرِ في الْجُمْلَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا في الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ من مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مع وُجُودِ السَّبَبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْوَاجِبُ هو الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حتى لو اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ أو غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ في مَاءٍ جَارٍ جَازَ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ كما ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كما في غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فيه كَرَامَةً له على ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يجزىء عن الْغُسْلِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ ولم يُوجَدْ وَلَوْ غَرِقَ في الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كان الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ كما يُحَرَّكُ الشَّيْءُ قي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيْثُ غُسِّلَ في قَمِيصِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْغُسْلِ هو التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ بِالْغُسَالَاتِ التي تَنَجَّسَتْ بِمَا عليه من النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ وحصوله بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا غُسْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في قَمِيصِهِ فَقَدْ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ عز وجل السِّنَةَ عليهم فما فِيهِمْ أَحَدٌ إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ على صَدْرِهِ حتى نُودُوا من نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا نَبِيَّكُمْ وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ لنا في خَصَائِصِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّجْرِيدِ هو التَّطْهِيرُ وَأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان طَاهِرًا حتى قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه حين تَوَلَّى غُسْلَهُ طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا وَيُوضَعُ على التَّخْتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا بِالْوَضْعِ عليه لِأَنَّهُ لو غُسِّلَ على الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أو عَرْضًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا من اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كما يَفْعَلُ في مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ وَمِنْهُمْ من اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كما يُوضَعُ في قَبْرِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كما تَيَسَّرَ لِأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عليه ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وهو حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ من بَابِ الِاحْتِرَامِ
وروى ( ( ( وقد ) ) ) الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كما يَفْعَلُهُ في حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عليهم غَسْلُ ما تَحْتَ الْإِزَارِ ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً ما بين السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ في الْأَصْلِ حَيْثُ قال وَتُطْرَحُ على عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عن أبي ( ( ( أبو ) ) ) عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا في نَوَادِرِهِ ثُمَّ تُغَسَّلُ عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ على يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا ذَكَرَ الْبَلْخِيّ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ النَّظَرِ فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هل يستنجي أَمْ لَا
وَذُكِرَ في صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يستنجي وَعَلَى قولهما ( ( ( قول ) ) ) لَا يستنجي هو ( ( ( هما ) ) ) يقول ( ( ( يقولان ) ) ) قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا بُدَّ من إزَالَتِهَا وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ إنَّ الْمُسْكَةَ تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ فَكَانَ السَّبِيلُ فيه هو التَّرْكُ وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لم يَذْكُرْهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا رُجُوعَ أبي حَنِيفَةَ حَيْثُ لم يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ منها وَلِأَنَّ هذا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا
____________________

(1/300)


بَعْدَ الْمَمَاتِ لِأَنَّ الْغُسْلَ في الْمَوْضِعَيْنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ الْمَيِّتُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ لِأَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ في الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ من الْفَمِ إلَّا بِالْكَبِّ وَذَا مثلة مع أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ منه شَيْءٌ لو فُعِلَ ذلك بِهِ وَكَذَا الْمَاءُ لَا يَدْخُلُ الْخَيَاشِيمَ إلَّا بِالْجَذْبِ بِالنَّفَسِ وَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ من الْمَيِّتِ وَلَوْ كُلِّفَ الْغَاسِلُ ذلك لَوَقَعَ في الْحَرَجِ وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُسَالَةُ تَجْتَمِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَلَا تَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ على التَّخْتِ فلم يَكُنْ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا وَكَذَا لَا يُمْسَحُ رَأْسُهُ
وَيُمْسَحُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَسْحَ هُنَاكَ سُنَّ تَعَبُّدًا لَا تَطْهِيرًا وَهَهُنَا لو سُنَّ لَسُنَّ تَطْهِيرًا لَا تَعَبُّدًا وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ ثُمَّ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِأَنَّ ذلك أَبْلَغُ في التَّنْظِيفِ فَإِنْ لم يَكُنْ فَبِالصَّابُونِ وما أَشْبَهَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ فَيَكْفِيهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ وَلَا يُسَرَّحُ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ أنها رَأَتْ قَوْمًا يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فقالت عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ أَيْ تُسَرِّحُونَ شَعْرَهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عنها ولم يُرْوَ عن غَيْرِهَا خِلَافُ ذلك فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ لو سُرِّحَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِهَذَا لَا تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَشَارِبُهُ وَلِحْيَتُهُ وَلَا يُخْتَنُ وَلَا يُنْتَفُ إبْطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ وَلِأَنَّ ذلك يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ وَالْمَيِّتُ ليس بِمَحَلِّ الزِّينَةِ وَلِهَذَا لَا يُزَالُ عنه شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان فيه حُصُولُ زِينَةٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسَرَّحُ وَيُزَالُ عنه شَعْرُ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ إذَا كَانَا طَوِيلَيْنِ وَشَعْرُ الرَّأْسِ يُزَالُ إنْ كان يَتَزَيَّنُ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَلَا يُحْلَقُ في حَقِّ من كان لَا يَحْلِقُ في حَالِ الْحَيَاةِ وكان يَتَزَيَّنُ بِالشَّعْرِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ ما تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ ثُمَّ هذه الْأَشْيَاءُ تُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ فَكَذَا بِالْمَيِّتِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ وَذَكَرْنَا من الْمَعْقُولِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما رَوَاهُ يَنْصَرِفُ إلَى زِينَةٍ ليس فيها إزَالَةُ شَيْءٍ من أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالطِّيبِ وَالتَّنْظِيفِ من الدَّرَنِ وَنَحْوِ ذلك بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَحْصُلَ الْبِدَايَةُ بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ على ما مَرَّ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قد خَلَصَ إلَى ما يَلِي التَّخْتَ منه ثُمَّ قد كان أُمِرَ الْغَاسِلُ قبل ذلك أَنْ يَغْلِيَ الْمَاءَ بِالسِّدْرِ فَإِنْ لم يَكُنْ سِدْرٌ فَحُرْضٌ فَإِنْ لم يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِمَاءِ السِّدْرِ أو الْحُرْضِ أو الْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قد وَصَلَ إلَى ما يَلِي التَّخْتَ منه ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَى صَدْرِهِ أو يَدِهِ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا حتى إنْ بَقِيَ شَيْءٌ عِنْدَ الْمَخْرَجِ يَسِيلُ منه
هَكَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أن يُقْعِدُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ ذلك وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قد يَكُونُ في بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ حتى لو سَالَ منه شَيْءٌ يَغْسِلْهُ بَعْدَ ذلك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ قد يَكُونُ في بَطْنِهِ نَجَاسَةٌ مُنْعَقِدَةٌ لَا تَخْرُجُ بِالْمَسْحِ قبل الْغُسْلِ وَتَخْرُجُ بَعْد ما غُسِّلَ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَوْلَى
وَالْأَصْلُ في الْمَسْحِ ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا تَوَلَّى غُسْلَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بن الْعَبَّاسِ وَصَالِحُ مولى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلِيٌّ أَسْنَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى نَفْسِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا فلم يَخْرُجْ منه شَيْءٌ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ بَطْنَهُ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ في الْبَيْتِ ثُمَّ إذَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ منه شَيْءٌ يَمْسَحْهُ كيلا يَتَلَوَّثَ الْكَفَنُ وَيَغْسِلُ ذلك الْمَوْضِعَ تَطْهِيرًا له عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سِوَى الْمَسْحِ وَلَا يُعِيدُ الْغُسْلَ وَلَا الْوُضُوءَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُعِيدُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ من خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ هو لم يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَهَا الْخَارِجُ مع أَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ أَوْلَى ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يُنَقِّيَهُ لِيَتِمَّ عَدَدُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال للاتي ( ( ( للائي ) ) ) غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أو خَمْسًا أو سَبْعًا وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هو الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ في الْغُسْلِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ في الْمَرَّةِ الْأُولَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِيَبْتَلَّ الدَّرَنُ وَالنَّجَاسَةُ ثُمَّ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِمَاءِ السِّدْرِ أو ما يَجْرِي مَجْرَاهُ في التَّنْظِيفِ لِأَنَّ ذلك أَبْلَغُ في التَّطْهِيرِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ ثُمَّ في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَشَيْءٍ من الْكَافُورِ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ اسْتِرْخَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُغَسِّلُهُ لِيَسْتَرْخِيَ فَيَزُولَ عنه ما عليه من الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ ثُمَّ يُنَشِّفُهُ في ثَوْبٍ كيلا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ كما يُفْعَلُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْغُسْلِ
____________________

(1/301)


وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ في الْغُسْلِ حُكْمُ الرَّجُلِ وَكَذَا الصَّبِيُّ في الْغُسْلِ كَالْبَالِغِ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عليه وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ يُصَلَّى عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كان لَا يَعْقِلُ الصَّلَاةَ لَا يُوَضَّأُ عِنْدَ غُسْلِهِ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْحَيَاةِ وفي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ وُضُوءُ من لَا يَعْقِلُ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ حتى لو وُلِدَ مَيِّتًا لم يُغَسَّلْ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عليه وَوَرِثَ وَوُرِثَ عنه وإذا لم يَسْتَهِلَّ لم يُسَمَّ ولم يُغَسَّلْ ولم يَرِثْ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عليه وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عليه وهكذا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ
وقال مُحَمَّدٌ في السِّقْطِ الذي اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُحَنَّطُ وَلَا يُصَلَّى عليه
فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ على أَنَّهُ لَا يُصَلَّى على من وُلِدَ مَيِّتًا وَالْخِلَافُ في الْغُسْلِ
وَجْهُ ما اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كان لَا يُصَلَّى عليه كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عليه وَوَرِثَ وَإِنْ لم يَسْتَهِلَّ لم يُغَسَّلْ ولم يُصَلَّ عليه ولم يَرِثْ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالشَّرْعِ وَأَنَّهُ وَرَدَ بِاسْمِ الْمَيِّتِ وَمُطْلَقُ اسْمِ الْمَيِّتِ في الْعُرْفِ لَا يَقَعُ على من وُلِدَ مَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عليه
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى إنْ أُسْقِطَ قبل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كان لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ الْعُلُوقِ وقد اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا إذَا لم يَسْتَهِلَّ فَأَمَّا إذَا اسْتَهَلَّ بِأَنْ حَصَلَ منه ما يَدُلُّ على حَيَاتِهِ من بُكَاءٍ أو تَحْرِيكِ عُضْوٍ أو طَرَفٍ أو غَيْرِ ذلك فإنه يُغَسَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَكَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ ولاته ( ( ( ولادته ) ) ) حَيًّا فَيُغَسَّلُ وَلَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ أو الْأُمُّ على الِاسْتِهْلَالِ تُقْبَلُ في حَقِّ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عليه لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ في بَابِ الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ إذَا كان عَدْلًا وَأَمَّا في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً لِجَرِّهَا الْمَغْنَمِ إلَى نَفْسِهَا وَكَذَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى
وَقَالَا تُقْبَلُ إذَا كانت عَدْلَةٌ على ما يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وُجِدَ طَرَفٌ من أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ كَيَدٍ أو رِجْلٍ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتُ اسْمٌ لِكُلِّهِ وَلَوْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ منه غُسِّلَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ منه أو النِّصْفُ لم يُغَسَّلْ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ ليس بِمَيِّتٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَلِأَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ وما لم يَزِدْ على النِّصْفِ لَا يُصَلَّى عليه فَلَا يُغَسَّلُ أَيْضًا
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُغَسَّلُ وَإِنْ لم يَكُنْ معه الرَّأْسُ لَا يُغْسَلُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ مع الرَّأْسِ في حُكْمِ الْأَكْثَرِ لِكَوْنِهِ مُعْظَمَ الْبَدَنِ وَلَوْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا لَا يُغْسَلُ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ لو غُسِّلَ الْأَقَلُّ أو النِّصْفُ يُصَلَّى عليه لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَوْ صلى عليه لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُوجَدَ الْبَاقِي فيصلي عليه فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ على مَيِّتٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا أو يَكُونُ صَاحِبُ الطَّرَفِ حَيًّا فيصلي على بَعْضِهِ وهو حَيٌّ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى إنْ وُجِدَ عُضْوٌ يُغَسَّلُ ويصلي عليه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ زَمَنَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ فَغَسَّلَهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلَّوْا عليها وَقِيلَ أنها يَدُ طَلْحَةَ أو يَدُ عبد الرحمن بن عَتَّابِ بن أُسَيْدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى على عِظَامٍ بِالشَّامِ
وَعَنْ أبي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى على رؤوس وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَتْ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ وَكَذَا الْغُسْلُ وَكُلُّ جُزْءٍ منه مُحْتَرَمٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا لَا يُصَلَّى على عُضْوٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي أَيْضًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ الرَّاوِيَ لم يَرْوِ أَنَّ الذي صلى عليه من هو حتى نَنْظُرَ أَهُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا
أو نَحْمِلُ الصَّلَاةَ على الدُّعَاءِ
وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ رضي اللَّهُ عنهما
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُصَلَّى عليها بِالْإِجْمَاعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا حتى لَا يَجِبَ غُسْلُ الْكَافِرِ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ لَكِنْ إذَا كان ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ
____________________

(1/302)


من الْمُسْلِمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَيَدْفِنَهُ لِأَنَّ الِابْنَ ما نُهِيَ عن الْبِرِّ بِمَكَانِ أبيه الْكَافِرِ بَلْ أُمِرَ بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَمِنْ الْبِرِّ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أبو طَالِبٍ جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قد تُوُفِّيَ فقال اذْهَبْ وَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حتى تَلْقَانِي
قال فَفَعَلْت ذلك وَأَتَيْته فَأَخْبَرْته فَدَعَا لي بِدَعَوَاتٍ ما أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لي بها حُمْرُ النَّعَمِ
وقال سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ فقال إنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً
فقال اغسلها وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا
وَعَنْ الْحَارِثِ بن أبي رَبِيعَةَ إن أُمَّهُ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا في نَفَرٍ من الصَّحَابَةِ ثُمَّ إنَّمَا يَقُومُ ذُو الرَّحِمِ بِذَلِكَ إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ من يَقُومُ بِهِ من المشركين ( ( ( أهل ) ) ) فَإِنْ كان خلي الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ ما يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ
وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ هل يُمَكَّنُ من الْقِيَامِ بِتَغْسِيلِهِ وَتَجْهِيزِهِ
لم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ من ذلك بَلْ يُغَسِّلُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ ما قام رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى مَاتَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ ولم يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ شُرِعَ كَرَامَةً له وَلَيْسَ من الْكَرَامَةِ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ غُسْلَهُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حتى لَا يُغَسَّلَ الْبَاغِي إذَا قُتِلَ وَلَا يُصَلَّى عليه
وكذا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أبي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فما كان من حَقِّهِ يُؤْتَى بِهِ وما كان من حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْتَى بِهِ إهَانَةً له وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْتَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُنْظَرُ إنْ كان بِالْمُسْلِمِينَ عَلَامَةٌ يُمْكِنُ الْفَصْلُ بها يُفْصَلُ وَعَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلُبْسُ السَّوَادِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ
وَإِنْ لم يَكُنْ بِهِمْ عَلَامَةٌ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَدُفِنُوا في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلِّيَ عليهم وينوى بِالدُّعَاءِ المسلمون ( ( ( المسلمين ) ) ) وَإِنْ كان الْكُفَّارُ أَكْثَرَ يُغَسَّلُوا وَلَا يُصَلَّى عليهم كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عليهم لَكِنْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ
وَوَجْهُهُ أَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ في الْجُمْلَةِ فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ في الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ
وَأَمَّا إذَا كَانُوا على السَّوَاءِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه تَحْصِيلَ الْوَاجِبِ مع الْإِتْيَانِ بِالْجَائِزِ في الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَوْلَى من تَرْكِ الْوَاجِبِ رَأْسًا وَهَلْ يصلي عليهم
قال بَعْضُهُمْ لَا يصلي عليهم
لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ على الْمُسْلِمِ أَوْلَى من الصَّلَاةِ على الْكَافِرِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْكَافِرِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ أَصْلًا قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أَبَدًا } وَتَرْكُ الصَّلَاةِ على الْمُسْلِمِ مَشْرُوعَةٌ في الْجُمْلَةِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَكَانَ التَّرْكُ أَهْوَنَ
وقال بَعْضُهُمْ يصلي عليهم وينوى بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ إنْ عَجَزُوا عن تَعْيِينِ الْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ لم يَعْجَزُوا عن تَمْيِيزِ الْقَصْدِ في الدُّعَاءِ لهم
وَأَمَّا الدَّفْنُ فَلَا رِوَايَةَ فيه في الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يُدْفَنُونَ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وقال بَعْضُهُمْ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ
وقال بَعْضُهُمْ تُتَّخَذُ لهم مَقْبَرَةٌ على حِدَةٍ وَتُسَوَّى قُبُورُهُمْ وَلَا تُسَنَّمُ وهو قَوْلُ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وهو أَحْوَطُ وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ في كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وفي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ لَا يُصَلَّى عليها بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْكَافِرَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وما في بَطْنِهَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ عليه وَلَكِنَّهَا تُغَسَّلُ وَتُكَفَّنُ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ في الدَّفْنِ
قال بَعْضُهُمْ تُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ
وقال بَعْضُهُمْ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْوَلَدَ في حُكْمِ جُزْءٍ منها ما دَامَ في الْبَطْنِ
وقال وَاثِلَةُ بن الْأَسْقَعِ يُتَّخَذُ لها مَقْبَرَةٌ على حِدَةٍ وَهَذَا أَحْوَطُ وَلَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أو قَتِيلٌ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان عليه سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ لم يَكُنْ معه سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ
____________________

(1/303)


الْمَكَانِ وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَلَوْ وُجِدَ في دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كان معه سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ لم يَكُنْ معه سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَلَا يُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بين السِّيمَا وَدَلِيلِ الْمَكَانِ بَلْ يُعْمَلُ بِالسِّيمَا وَحْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَهَلْ يُعْمَلُ بِدَلِيلِ الْمَكَانِ وَحْدَهُ فيه رِوَايَتَانِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ سَاعِيًا في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَلَا يُغَسَّلُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْمُكَاثِرُونَ وَالْخَنَّاقُونَ إذَا قُتِلُوا لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُغَسَّلُ كَرَامَةً له وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْكَرَامَةَ بَلْ الْإِهَانَةَ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ صَاحِبِ أبي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ أَنَّ الْبَاغِيَ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه لِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ فَيُؤْتَى بِهِ وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُصَلَّى عليه إهَانَةً له كَالْكَافِرِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه كَذَا ذَكَرَهُ في الْعُيُونِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ من قُتِلَ مَظْلُومًا لَا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَمَنْ قُتِلَ ظَالِمًا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَالْبَاغِي قُتِلَ ظَالِمًا فَيُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه
وَمِنْهَا وُجُودُ الْمَاءِ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ وَلَا وُسْعَ مع عَدَمِ الْمَاءِ فَسَقَطَ الْغُسْلُ وَلَكِنْ يُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ صَلُحَ بَدَلًا عن الْغُسْلِ في حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ غير أَنَّ الْجِنْسَ يمم ( ( ( ييمم ) ) ) الْجِنْسَ بيده لِأَنَّهُ يُبَاحُ له مَسُّ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ منه من غَيْرِ شَهْوَةٍ كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَإِنْ لم يَكُونَا زَوْجَيْنِ يُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَسْتُرُ يَدَهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كان أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُشْتَهَى كَالصَّغِيرِ أو الصَّغِيرَةِ فَيُيَمِّمُهُ من غَيْرِ خِرْقَة وَإِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ فَالْمَرْأَةُ تُيَمِّمُ زَوْجَهَا بِلَا خِرْقَةٍ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى إذَا لم تَبِنْ منه في حَالِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ما يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ أصحابنا ( ( ( علمائنا ) ) ) الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما نَذْكُرُ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى وَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يُيَمِّمُ زَوْجَتَهُ بِلَا خِرْقَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله على ما نَذْكُرُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ شَهِيدًا لِأَنَّ الْغُسْلَ سَاقِطٌ عن الشَّهِيدِ بِالنَّصِّ على ما نَذْكُرُ في فَصْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ فَنَقُولُ الْجِنْسُ يُغَسِّلُ الْجِنْسَ فَيُغَسِّلُ الذَّكَرُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى الْأُنْثَى لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ من غَيْرِ شَهْوَةٍ ثَابِتٌ لِلْجِنْسِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَسَوَاءٌ كان الْغَاسِلُ جُنُبًا أو حَائِضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وهو التَّطْهِيرُ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ لِأَنَّهَا لو اغْتَسَلَتْ بِنَفْسِهَا لم تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إذَا غَسَّلَتْ وَلَا يُغَسِّلُ الْجِنْسَ خِلَافُ الْجِنْسِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ في ذلك مِثْلُ الْفَحْلِ كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك مَنْهِيٌّ إلَّا الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا إذَا لم تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا في حَالَةِ حَيَاتِهِ وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ما يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ أو الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ فَبَيَانُ ذلك في الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
أَمَّا الرَّجُلُ فَنَقُولُ إذَا مَاتَ رَجُلٌ في سَفَرٍ فَإِنْ كان معه رِجَالٌ يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ وَإِنْ كان معه نِسَاءٌ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ فَإِنْ كان فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّيْنَ عليه وَتَدْفِنُهُ
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُغَسِّلُ زَوْجَهَا لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لو اسْتَقْبَلْنَا من الْأَمْرِ ما اسْتَدْبَرْنَا لَمَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا نِسَاؤُهُ وَمَعْنَى ذلك أنها لم تَكُنْ عَالِمَةً وَقْتَ وَفَاةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِإِبَاحَةِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ثُمَّ عَلِمَتْ بَعْدَ ذلك
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه أَوْصَى إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهَكَذَا فَعَلَ أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْغُسْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالنِّكَاحِ فَتَبْقَى ما بَقِيَ النِّكَاحُ وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقٍ إلَى وَقْتِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَيْثُ لَا يُغَسِّلُهَا الزَّوْجُ لِأَنَّ هُنَاكَ انْتَهَى مِلْكُ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ فَصَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ له غُسْلُهَا وَاعْتُبِرَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي عن الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ فَكَذَا هذا وَهَذَا إذَا لم تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا في حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ فَأَمَّا إذَا ثَبَتَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو بَائِنًا وَهِيَ في الْعِدَّةِ لَا يُبَاحُ لها غُسْلُهُ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ بِالْإِبَانَةِ وَكَذَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ في الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ على سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فيبطل ( ( ( فبطل ) ) ) مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةً وَكَذَا لو ارْتَدَّتْ عن الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ وَلَوْ طَلَّقَهَا
____________________

(1/304)


طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ في الْعِدَّةِ لها أَنْ تُغَسِّلَهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ
وَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ ما يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ لَا يُبَاحُ لها أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله تعالى يُبَاحُ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَبَقِيَ حِلُّ الْغُسْلِ كما كان بِخِلَافِ الرِّدَّةِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ
وَلَنَا أَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ مَوْقُوفٌ على انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فَيَرْتَفِعُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ لم يَبْقَ مُطْلَقًا فَقَدْ بَقِيَ في حَقِّ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ الْحِلِّ تَرْفَعُ ما بَقِيَ منه وهو حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو قَبَّلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أو وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ عليها الْعِدَّةُ ليس لها أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله تعالى وَلَوْ مَاتَ للزوج ( ( ( الزوج ) ) ) وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ من وَطْءِ شُبْهَةٍ ليس لها أَنْ تُغَسِّلَهُ وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا من ذلك الْغَيْرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ لها حِلُّ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ إذَا دخل الزَّوْجُ بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمَجُوسِيَّةُ لم تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزاهد السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى الْخِلَافَ في هذه الْمَسَائِلِ الثَّلَاث
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ في هذه الْمَوَاضِعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله تعالى ليس لها أَنْ تُغَسِّلَهُ والله أعلم وَلَوْ لم يَكُنْ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ وَلَكِنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ علمته ( ( ( علمنه ) ) ) غُسْلَ الْمَيِّتِ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُمَا حتى يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ ثُمَّ يُصَلِّينَ عليه وَيَدْفِنَّهُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ في الدِّينِ فَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ فَإِنْ كان مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لم تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَتْ الْغُسْلَ عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حتى تُغَسِّلَهُ وَتُكَفِّنَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ في حَقِّهَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُنَّ ذلك فَإِنَّهُنَّ لَا يُغَسِّلْنَهُ سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه أو لَا لِأَنَّ الْمَحْرَمَ في حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةَ سَوَاءٌ فَكَمَا لَا تُغَسِّلُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَكَذَا ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ وَلَكِنْ يُيَمِّمْنَهُ غير أَنَّ الْمُيَمِّمَةَ إذَا كانت ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ منه تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ لم تَكُنْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ منه تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا على كَفِّهَا لِأَنَّهُ لم يَكُنْ لها أَنْ تَمَسَّهُ في حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَكَذَا لو كان فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لم تُغَسِّلْهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رحمهما الله تعالى لها أَنْ تُغَسِّلَهُ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فَأَشْبَهَتْ الْمَنْكُوحَةَ
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فيها بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فيها كان مِلْكَ يَمِينٍ وهو يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ فإن حُرِّيَّتَهَا لَا تُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ كما في حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ
وَكَذَا لو كان فِيهِنَّ أَمَتُهُ أو مُدَبَّرَتُهُ
أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّهَا زَالَتْ عن مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَرَثَةِ وَلَا يُبَاحُ لِأَمَةِ الْغَيْرِ عَوْرَتُهُ غير أنها لو يَمَّمَتْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجَارِيَةِ مَسُّ مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ وَتَلْتَحِقُ بِسَائِرِ الْحَرَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ
وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ وَلَا يَجِبُ عليها الْعِدَّةُ ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُغَسِّلُهُ فَلَأَنْ لَا تُغَسِّلَهُ هذه أَوْلَى وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى الْأَمَةُ تُغَسِّلُ مَوْلَاهَا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى من يُغَسِّلُهُ فَبَقِيَ الْمِلْكُ له فيها حُكْمًا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِالْجِنْسِ أو بِالتَّيَمُّمِ والله أعلم
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَقُولُ إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ في سَفَرٍ فَإِنْ كان مَعَهَا نِسَاءٌ غَسَّلْنَهَا وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم دخل عليها وَهِيَ تَقُولُ وَارَأْسَاهْ فقال وأنا وَارَأْسَاهْ لَا عَلَيْكِ أَنَّكِ إذَا مِتِّ غَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وما جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ هو الْأَصْلُ إلَّا ما قام عليه الدَّلِيلُ
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا لأن النِّكَاحَ جُعِلَ قَائِمًا حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْغُسْلِ كما إذَا مَاتَ الزَّوْجُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ عن امْرَأَةٍ تَمُوتُ بين رِجَالٍ فقال تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ ولم يَفْصِلْ بين أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا أو لَا يَكُونُ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِمَوْتِهَا فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ كما لو طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أنها صَارَتْ مُحَرَّمَةً على التَّأْبِيدِ وَالْحُرْمَةُ على التَّأْبِيدِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وإذا زَالَ النِّكَاحُ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَبَطَلَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ الزَّوْجُ لِأَنَّ هُنَاكَ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ عن الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ وَيَزُولُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ كما في مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَحْمُولٌ على الْغُسْلِ تَسَبُّبًا فَمَعْنَى قَوْلِهِ غَسَّلْتُكِ قُمْتُ بِأَسْبَابِ غُسْلِك كما يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا حَمَلْنَاهُ على
____________________

(1/305)


هذا صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُورِثُ شُبْهَةَ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ عنه وَتَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عليه ابن مَسْعُودٍ حتى قال عَلِيٌّ أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال إنَّ فَاطِمَةَ زَوْجَتُكَ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَدَعْوَاهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ على أَنَّهُ كان مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ وَيُخَلُّونَ بَيْنَهُمَا حتى تُغَسِّلَهَا وَتُكَفِّنَهَا ثُمَّ يُصَلِّي عليها الرِّجَالُ ويدفنونها ( ( ( ويدفنوها ) ) ) لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ لَا مُسْلِمَةٌ وَلَا كَافِرَةٌ فَإِنْ كان مَعَهُمْ صَبِيٌّ لم يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَ الْغُسْلَ عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ فَيُغَسِّلُهَا وَيُكَفِّنُهَا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُمْ ذلك فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا غير أَنَّ الْمُيَمِّمَ لها إنْ كان مَحْرَمًا لها يُيَمِّمُهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مَحْرَمًا لها فَمَعَ الْخِرْقَةِ يَلُفُّهَا على كَفِّهِ لِمَا مَرَّ وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عن ذِرَاعَيْهَا لِأَنَّ في حَالَةِ الْحَيَاةِ ما كان لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ الذي لَا يُشْتَهَى لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَهُ النِّسَاءُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ التي لَا تُشْتَهَى إذَا مَاتَتْ لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرِّجَالُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ في حَقِّ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ ثُمَّ إذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ يُكَفَّنُ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في تَكْفِينِهِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّكْفِينِ وفي بَيَانِ من يَجِبُ عليه الْكَفَنُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وَجْهِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْبَسُوا هذه الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فيها مَوْتَاكُمْ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلَتْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه كَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قالت لِوَلَدِهِ هذه سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ في مَعْنَى الْوَاجِبِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على وُجُوبِهِ وَلِهَذَا تَوَارَثَهُ الناس من لَدُنْ وَفَاةِ آدَمَ ( صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه ) إلَى يَوْمِنَا هذا وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ إنَّمَا وَجَبَ كَرَامَةً له وَتَعْظِيمًا وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ والكرامة إنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّكْفِينِ فَكَانَ وَاجِبًا
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ فَوُجُوبُهُ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَيِّتِ حتى إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عن الْبَاقِينَ لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا كما في الْغُسْلِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ فَنَقُولُ أَكْثَرُ ما يُكَفَّنُ فيه الرَّجُلُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَقَمِيصٌ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يُسَنُّ الْقَمِيصُ في الْكَفَنِ وَإِنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ ليس فيها قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مُغَفَّلٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كَفِّنُونِي في قَمِيصِي فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كُفِّنَ في قَمِيصِهِ الذي تُوُفِّيَ فيه وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَحَدُهَا الْقَمِيصُ الذي تُوُفِّيَ فيه وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى من الْأَخْذِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَضَرَ تَكْفِينَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَدَفْنَهُ وَعَائِشَةُ ما حَضَرَتْ ذلك على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا ليس فيها ( ( ( فيه ) ) ) قَمِيصٌ أَيْ لم يَتَّخِذْ قَمِيصًا جَدِيدًا وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كَفَنُ الْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلِأَنَّ حَالَ ما بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ حَيَاتِهِ وَالرَّجُلُ في حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ فَالْإِزَارُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ في حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ في حَالِ حَيَاتِهِ إنَّمَا كان يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَهُ وكذا ( ( ( ولذا ) ) ) لم يذكر الْعِمَامَةَ في الْكَفَنِ وقد كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يَكُونَ وِتْرًا وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كان يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ على وَجْهِهِ
بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ فإنه يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ من قِبَلِ الْقَفَا لِأَنَّ ذلك لِمَعْنَى الزِّينَةِ وقد انْقَطَعَ ذلك بِالْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ السُّنَّةَ في حَقِّ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كُفِّنَ في بُرْدٍ وَحُلَّةٍ وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِلزَّوْجِ من الثِّيَابِ وَالْبُرْدُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ منها وَأَدْنَى ما يُكَفَّنُ فيه في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ
____________________

(1/306)


ثَوْبَانِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه كَفِّنُونِي في ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَلِأَنَّ أَدْنَى ما يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ في حَالِ حَيَاتِهِ ثَوْبَانِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا من غَيْرِ كَرَاهَةٍ فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ في حَالَةِ الْحَيَاة تَجُوزُ صَلَاتُهُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مع الْكَرَاهَةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فيه إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كان لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ في نَمِرَةٍ فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بها رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وإذا غُطِّيَ بها رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُغَطَّى بها رَأْسُهُ وَيُجْعَلَ على رِجْلَيْهِ شَيْءٌ من الْإِذْخِرِ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ لم يُوجَدْ له غَيْرُهُ فَدَلَّ على الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فيه الرَّجُلُ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ في حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فيه الْبَالِغُ عَادَةً فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فيه وَإِنْ كان صَبِيًّا لم يُرَاهِقْ فَإِنْ كُفِّنَ في خِرْقَتَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ وَإِنْ كُفِّنَ في إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ لِأَنَّ في حَالِ حَيَاتِهِ كان يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ على ثَوْبٍ وَاحِدٍ في حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَكْثَرُ ما تُكَفَّنُ فيه خَمْسَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَةٌ وَخِرْقَةٌ هو السُّنَّةُ في كَفَنِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عن أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ في كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حتى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بها ثَدْيَيْهَا وَلِمَا رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ في حَالِ حَيَاتِهَا تَخْرُجُ في خَمْسَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَمُلَاءَةٌ وَنِقَابٌ
فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تُكَفَّنُ في خَمْسَةِ أَثْوَابٍ
ثُمَّ الْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كيلا يَنْتَشِرَ عليها الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ على السَّرِيرِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا في حديث أُمِّ عَطِيَّةَ أنها قالت آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بها ثَدْيَيْهَا وَأَدْنَى ما تُكَفَّنُ فيه الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَخِمَارٌ لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حتى يَجُوزَ لها أَنْ تُصَلِّيَ فيها وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ في ثَوْبَيْنِ
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ في ثَوْبَيْنِ وَالْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ في الْكَفَنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالسِّقْطُ يُلَفُّ في خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ ليس له حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عليه كما لَا يَنْطَلِقُ على بَعْضِ الْمَيِّتِ وَكَذَا من وُلِدَ مَيِّتًا أو وُجِدَ طَرَفٌ من أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ أو نِصْفُهُ مَشْقُوقًا طُولًا أو نِصْفُهُ مَقْطُوعًا عَرْضًا لَكِنْ ليس معه الرَّأْسُ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كان معه الرَّأْسُ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَفَّنُ وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ في الْغُسْلِ يُلَفُّ في خِرْقَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا في فَصْلِ الْغُسْلِ وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُهُ يُكَفَّنُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا مَاتَ وَلَهُ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ لَكِنْ في خِرْقَةٍ لِأَنَّ التَّكْفِينَ على وَجْهِ السُّنَّةِ من بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَا يُكَفَّنُ الشَّهِيدُ كَفَنًا جَدِيدًا غير ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَكُلُومِهِمْ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْكَفَنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فيها مَوْتَاكُمْ وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَسِّنُوا أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا وَلِيَ أحدكم أَخَاهُ مَيِّتًا فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ وَالْبُرُودُ وَالْكَتَّانُ وَالْقَصَبُ كُلُّ ذلك حَسَنٌ
وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ
لِمَا رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ
وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ من الْمَيِّتِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ما يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ في حَيَاتِهِ
يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فيه بَعْدَ مَوْتِهِ حتى يُكْرَهَ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ في الْحَرِيرِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ وَلَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ذلك اعْتِبَارًا بِاللِّبَاسِ في حَالِ الْحَيَاةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَمَّرَ الْأَكْفَانُ أَوَّلًا وِتْرًا أَيْ مَرَّةً أو ثَلَاثًا أو خَمْسًا وَلَا يَزِيدُ عليه لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أو الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ في ذلك لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ
____________________

(1/307)


الْوِتْرَ ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ عليها طُولًا ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ إنْ كان له قَمِيصٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له ( ( ( سرواله ) ) ) السراويل لِأَنَّ اللُّبْسَ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ في حَيَاتِهِ كان يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حتى لَا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذلك بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ إلَّا أَنَّ الْإِزَارَ في حَالِ حَيَاتِهِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَوْقَ الْقَمِيصِ من الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ لِأَنَّ الْإِزَارَ تَحْتَ الْقَمِيصِ حَالَةَ الْحَيَاةِ لِيَتَيَسَّرَ عليه الْمَشْيُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ
ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ في رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ صلى ( ( ( صلوات ) ) ) اللَّهِ عليه ( ( ( وسلامه ) ) ) وسلم عليه لَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَنَّطُوهُ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ على مَسَاجِدِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قال وَتُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ يَعْنِي بِالْكَافُورِ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَمِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُطَيَّبَ لِئَلَّا تَجِيءَ منه رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ وَلِيُصَانَ عن سُرْعَةِ الْفَسَادِ وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالتَّعْظِيمِ مَوَاضِعُ السُّجُودِ وَكَذَا الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ هُمَا من أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الدِّمَاغِ وَمَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَاللِّحْيَةُ من الْوَجْهِ وَالْوَجْهُ من أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ
وَعَنْ زُفَرَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال يُذَرُّ الْكَافُورُ على عَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ من الْمَوْضِعِ الذي يُذَرُّ عليه الْكَافُورُ فَخَصَّ هذه الْمَحَالَّ من بَدَنِهِ لِهَذَا وَإِنْ لم يَجِدْ ذلك لم يَضُرَّهُ
وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ غَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ في حَقِّ الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى الرِّجَالَ عن الْمُزَعْفَرِ ولم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ هل تحتشي ( ( ( تحشى ) ) ) مَحَارِقُهُ وَقَالُوا إنْ خُشِيَ خُرُوجَ شَيْءٍ يُلَوِّثُ الْأَكْفَانَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ في أَنْفِهِ وَفَمِهِ وقد جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في دُبُرِهِ أَيْضًا وَاسْتَقْبَحَ ذلك مَشَايِخُنَا وَإِنْ لم يُخْشَ جَازَ التَّرْكُ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عليه من قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ كان الْإِزَارُ طَوِيلًا حتى يُعْطَفَ على رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ يُعْطَفُ من قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ فَوْقَ الْأَيْسَرِ ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْتَقِبَ في حَالَةِ الْحَيَاةِ هَكَذَا يَفْعَلُ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعَطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ على الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ على الْأَيْسَرِ فَكَذَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ
فَإِنْ خِيفَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ تُعْقَدُ وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ تُحَلُّ الْعُقَدُ لِزَوَالِ ما لِأَجْلِهِ عُقِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبْسَطُ لها اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْخِرْقَةُ يربط ( ( ( تربط ) ) ) فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ بِاضْطِرَابِ ثَدْيَيْهَا عِنْدَ الْحَمْلِ على السَّرِيرِ وَعَرْضُ الْخِرْقَةِ ما بين الثَّدْيِ وَالسُّرَّةِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا ما بين ثَدْيَيْهَا من الْجَانِبَيْنِ جميعا تَحْتَ الْخِمَارِ وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسْدَلُ خَلْفَ ظَهْرِهَا وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أنها قالت لَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ في نَاصِيَتِهَا وَقَرْنَيْهَا وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا
وَلَنَا أَنَّ إلْقَاءَهَا إلَى ظَهْرِهَا من بَابِ الزِّينَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحَالِ زِينَةٍ وَلَا حُجَّةَ في حديث أُمِّ عَطِيَّةَ لِأَنَّ ذلك كان فِعْلَ أُمِّ عَطِيَّةَ وَلَيْسَ في الحديث أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ ذلك
ثُمَّ الْمُحْرِمُ يُكَفَّنُ كما يُكَفَّنُ الْحَلَالُ عِنْدَنَا أَيْ تغطى ( ( ( يغطى ) ) ) رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُقَرَّبُ منه طِيبٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ عن مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَانْدَقَّ عُنُقُهُ فقال اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبِهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وفي رِوَايَةٍ قال وَلَا تَقْرَبُوا منه طِيبًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَطَاءٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في الْمُحْرِمِ يَمُوتُ خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قال في الْمُحْرِمِ إذَا مَاتَ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال إذَا مَاتَ ابن آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا من ثَلَاثَةٍ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو له وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ الناس يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَالْإِحْرَامُ ليس من هذه الثَّلَاثَةِ وما رُوِيَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَا في الْمُحْرِمِ فَبَقِيَ لنا الْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ الذي رَوَيْنَا أَنَّ هذا الْعَمَلَ مُنْقَطِعٌ على أَنَّ ذلك الحديث مَحْمُولٌ على مُحْرِمٍ خَاصٍّ جَعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَخْصُوصًا بِهِ بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه الْكَفَنُ فَنَقُولُ كَفَنُ الْمَيِّتِ في مَالِهِ إنْ كان له مَالٌ وَيُكَفَّنُ من جَمِيعِ مَالِهِ قبل الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ لِأَنَّ هذا من أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ فَكَفَنُهُ على من تَجِبُ عليه نَفَقَتُهُ كما تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ في حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا الْمَرْأَةَ فإنه لَا يَجِبُ كَفَنُهَا على زَوْجِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ
____________________

(1/308)


انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وعند ( ( ( وعن ) ) ) أبي يُوسُفَ يَجِبُ عليه كَفَنُهَا كما تَجِبُ عليه كِسْوَتُهَا في حَالِ حَيَاتِهَا
وَلَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ كما لَا يَجِبُ عليها كِسْوَتُهُ في حَالِ الْحَيَاةِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ وَلَا من يُنْفِقُ عليه فَكَفَنُهُ في بَيْتِ الْمَالِ كَنَفَقَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هذا إذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ وهو طَرِيٌّ لم يَتَفَسَّخْ بَعْدُ كُفِّنَ ثَانِيًا من جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْكَفَنِ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحَاجَتِهِ إلَيْهِ في الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنْ قُسِمَ الْمَالُ فَهُوَ على الْوَارِثِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا لِأَنَّ بِالْقَسْمِ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَيِّتِ عنه فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَا مَالَ له فَيُكَفِّنُهُ وَارِثُهُ إنْ كان له مَالٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ وَلَا من تُفْتَرَضُ عليه نَفَقَتُهُ فَكَفَنُهُ في بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ وَإِنْ نُبِشَ بَعْدَمَا تَفَسَّخَ وَأُخِذَ كَفَنُهُ كُفِّنَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ إذَا تَفَسَّخَ خَرَجَ عن حُكْمِ الْآدَمِيِّينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عليه فَصَارَ كَالسَّقْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ يُحْمَلُ على الْجِنَازَةِ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في حَمْلِهِ على الْجِنَازَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ كَمِّيَّةِ من يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَتَشْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا وما يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِمَّا يُسَنُّ وما يُكْرَهُ
أَمَّا بَيَانُ كَمِّيَّةِ من يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا
فَالسُّنَّةُ في حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ من جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ حَمْلُهَا بين الْعَمُودَيْنِ وهو أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ الْجِنَازَةِ على كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذلك وَهَذَا النَّوْعُ من الْحَمْلِ مَكْرُوهٌ كذا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في الْمُجَرَّدِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بن مُعَاذٍ بين الْعَمُودَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال السُّنَّةُ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ من جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما كان يَدُورُ على الْجِنَازَةِ من جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ وَلِأَنَّ عَمَلَ الناس اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وهو آمَنُ من سُقُوطِ الْجِنَازَةِ وَأَيْسَرُ على الْحَامِلِينَ الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ وَأَبْعَدُ من تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وقد أُمِرْنَا بِذَلِكَ وَلِهَذَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا على الظَّهْرِ أو على الدَّابَّةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كان لِضِيقِ الْمَكَانِ أو لِعَوَزِ الْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ إكْمَالَ السُّنَّةِ في حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي له أَنْ يَحْمِلَهَا من الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ لِمَا رَوَيْنَا عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَدُورُ على الْجِنَازَةِ على جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَيَضَعُ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ على يَمِينِهِ ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا على يَمِينِهِ ثُمَّ مُقَدَّمَهَا على يَسَارِهِ ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا على يَسَارِهِ كما بَيَّنَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُحِبُّ التَّيَامُنَ في كل شَيْءٍ
وإذا حَمَلَ هَكَذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْحَامِلِ وَيَمِينِ الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ وَالْبِدَايَةُ بِالشَّيْءِ إنَّمَا تَكُونُ من أَوَّلِهِ ثُمَّ يَضَعُ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْمَنَ على يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لو وَضَعَ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ على يَسَارِهِ لَاحْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ وَلِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك أو وَضَعَ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْسَرَ على يَسَارِهِ لَقَدَّمَ الْأَيْسَرَ على الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَضَعُ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ على يَسَارِهِ لِأَنَّهُ لو فَعَلَ كَذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَيَمْشِي خَلْفَهَا وهو أَفْضَلُ كَذَلِكَ كان الْحَمْلُ وَلِكَمَالِ السُّنَّةِ كما وَصَفْنَا من التَّرْتِيبِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ من كل جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِمَا رُوِيَ في الحديث من حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً
وَأَمَّا جِنَازَةُ الصَّبِيِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّجَالُ وَيُكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ جِنَازَتُهُ على دَابَّةٍ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُكَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ كَالْبَالِغِ وَلِهَذَا يُصَلَّى عليه كما يُصَلَّى على الْبَالِغِ وَمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ في الْحَمْلِ على الْأَيْدِي فَأَمَّا الْحَمْلُ على الدَّابَّةِ فَإِهَانَةٌ له لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ وَإِهَانَةُ الْمُحْتَرَمِ مَكْرُوهٌ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ رَاكِبٌ على دَابَّتِهِ وهو أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ له رَاكِبًا لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ حَاصِلٌ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في الرَّضِيعِ وَالْفَطِيمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يحمل ( ( ( يحمله ) ) ) في طَبَقٍ يَتَدَاوَلُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ أَفْضَلُ من الْإِبْطَاءِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا أَلْقَيْتُمُوهُ عن رِقَابِكُمْ وفي رِوَايَةٍ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاعُ دُونَ الْخَبَبِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ فقال ما دُونَ الْخَبَبِ وَلِأَنَّ الْخَبَبَ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِمُشَيِّعِي الْجِنَازَةِ وَيُقَدَّمُ الرَّأْسُ في حَالِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُ من أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ في التَّقْدِيمِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْيِيعِ فَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عن سَالِمٍ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
____________________

(1/309)


كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَهَذَا حِكَايَةُ عَادَةٍ وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ اخْتِيَارَ الْأَفْضَلِ وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ وَالشَّفِيعُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ لِمَا فيه من التَّحَرُّزِ عن احْتِمَالِ الْفَوْتِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ ليس مَعَهَا من تَقَدَّمَهَا
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ( ( ( السلام ) ) ) كان يَمْشِي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ وَرَوَى مَعْمَرُ عن طَاوُسٍ عن أبيه قال ما مَشَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ على الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ على النَّافِلَةِ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَقْرَبُ إلَى الِاتِّعَاظِ لِأَنَّهُ يُعَايِنُ الْجِنَازَةَ فَيَتَّعِظُ فَكَانَ أَفْضَلَ وَالْمَرْوِيُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَتَسْهِيلِ الْأَمْرِ على الناس عِنْدَ الِازْدِحَامِ وهو تَأْوِيلُ فِعْلِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى أَنَّهُ قال بَيْنَا أنا أَمْشِي مع عَلِيٍّ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ أَمَامَهَا فقلت لِعَلِيٍّ ما بَالُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ
فقال إنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ من الْمَشْيِ أَمَامَهَا إلَّا أَنَّهُمَا يسهلان على الناس وَمَعْنَاهُ أَنَّ الناس يَتَحَرَّزُونَ عن الْمَشْيِ أَمَامَهَا تَعْظِيمًا لها فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ لَضَاقَ الطَّرِيقُ على مُشَيِّعِيهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الناس شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَيُشْكِلُ هذا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ فإن حَالَةَ الصَّلَاةِ حَالَةُ الشَّفَاعَةِ وَمَعَ ذلك لَا يَتَقَدَّمُونَ الْمَيِّتَ بَلْ الْمَيِّتُ قُدَّامُهُمْ وَقَوْلُهُ هذا أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ قُلْنَا عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ إذَا كان بِقُرْبٍ منها بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا وفي مِثْلِ هذا لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ وَلَوْ مَشَى قُدَّامَهَا كان وَاسِعًا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما فَعَلُوا ذلك في الْجُمْلَةِ على ما ذَكَرْنَا غير أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ عليها لِأَنَّ فيه إبْطَالُ مَتْبُوعِيَّةِ الْجِنَازَةِ من كل وَجْهٍ وَلَا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ وَأَلْيَقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيُكْرَهُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ لِأَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن الضَّرَرِ بِالنَّاسِ
وَلَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي الْإِجْمَارَ في قَبْرِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَرَجَ في جِنَازَةٍ فَرَأَى امْرَأَةً في يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عليها وَطَرَدَهَا حتى توارت ( ( ( توارث ) ) ) بالآكام وَرُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا تَحْمِلُوا مَعِي مِجْمَرًا وَلِأَنَّهَا آلَةُ الْعَذَابِ فَلَا تُتْبَعُ معه تَفَاؤُلًا
قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ من الدُّنْيَا نَارًا وَلِأَنَّ هذا فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ من يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ حتى يُصَلِّيَ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ كان لِلصَّلَاةِ عليها فَلَا يَرْجِعُ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ
وَلَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ في الْجِنَازَةِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَهَاهُنَّ عن ذلك وقال انْصَرِفْنَ مَأْزُورَاتٍ غير مَأْجُورَاتٍ
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ إذَا أتى بها بين يَدَيْهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ اتِّبَاعَهَا وَيُكْرَهُ النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ في الْجِنَازَةِ وَمَنْزِلِ الْمَيِّتِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ صَوْتِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ فَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَكَى على ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وقال الْعَيْنُ تَدْمَعُ وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَلَا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ وإذا كان مع الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أو صَائِحَةٌ زُجِرَتْ فَإِنْ لم تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ مَعَهَا ولا ( ( ( ويمتنع ) ) ) يمتنع لِأَجْلِهَا لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلَا يُتْرَكُ بِبِدْعَةٍ من غَيْرِهِ
وَيُطِيلُ الصَّمْتَ إذَا أتبع الْجِنَازَةَ
وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ لِمَا رُوِيَ عن قَيْسِ بن عُبَادَةَ أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَكْرَهُونَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ وَالذِّكْرِ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا
وَيُكْرَهُ لِمُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْعُدُوا قبل وَضْعِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْجِنَازَةِ وَالتَّبَعُ لَا يَقْعُدُ قبل قُعُودِ الْأَصْلِ وَلَأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ وَلَيْسَ من التَّعْظِيمِ الْجُلُوسُ قبل الْوَضْعِ فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ أن ( ( ( رضي ) ) ) النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان لَا يَجْلِسُ حتى يُوضَعَ الْمَيِّتُ في اللَّحْدِ وكان قَائِمًا مع أَصْحَابِهِ على رَأْسِ قَبْرٍ فقال يَهُودِيٌّ هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال لِأَصْحَابِهِ خَالِفُوهُمْ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَنَقُولُ إنَّهَا تُوضَعُ عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ هَكَذَا تَوَارَثَهُ الناس وَاَللَّهَ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ يُصَلَّى عليها
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أنها فَرِيضَةٌ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ من يصلي عليه وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وفي بَيَانِ ما تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ وما يُفْسِدُهَا وما يُكْرَهُ وفي بَيَانِ من له وِلَايَةُ الصَّلَاةِ
أَمَّا
____________________

(1/310)


الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّتِهَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلُّوا على كل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا أَنَّهُ يصلي على جِنَازَتِهِ وَكَلِمَةُ على لِلْإِيجَابِ وَكَذَا مُوَاظَبَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأُمَّةِ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا عليها دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على فَرْضِيَّتِهَا أَيْضًا إلَّا أنها فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عن الْبَاقِينَ لِأَنَّ ما هو الْفَرْضُ وهو قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا على كل وَاحِدٍ من آحَادِ الناس فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ لَكِنْ لَا يَسَعُ الِاجْتِمَاعُ على تَرْكِهَا كَالْجِهَادِ
وَأَمَّا بَيَانُ من يُصَلَّى عليه فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُصَلَّى عليه صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا ذَكَرًا كان أو أُنْثَى حُرًّا كان أو عَبْدًا إلَّا الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلُّوا على كل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَقَوْلُهُ لِلْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا أَنْ يُصَلَّى على جِنَازَتِهِ من غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَالْبُغَاةُ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ مَخْصُوصُونَ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُصَلَّى على من ولد مَيِّتًا وقد ذَكَرْنَاهُ في بَابِ الْغُسْلِ وَإِنْ مَاتَ في حَالِ وِلَادَتِهِ فَإِنْ كان خَرَجَ أَكْثَرُهُ صلى عليه وَإِنْ كان أَقَلَّهُ لم يُصَلَّ عليه اعْتِبَارًا لِلْأَغْلَبِ وَإِنْ كان خَرَجَ نِصْفُهُ لم يذكر في الْكِتَابِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا على قِيَاسِ ما ذَكَرْنَا من الصَّلَاةِ على نِصْفِ الْمَيِّتِ وَلَا يُصَلَّى على بَعْضِ الْإِنْسَانِ حتى يُوجَدَ الْأَكْثَرُ منه عِنْدَنَا
لِأَنَّا لو صَلَّيْنَا على هذا الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا الصَّلَاةُ على الْبَاقِي إذَا وَجَدْنَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ وَأَنَّهُ ليس بِمَشْرُوعٍ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ إذَا صلى عليه لم يُصَلَّ على الْبَاقِي إذَا وُجِدَ وقد ذَكَرْنَاهُ في بَابِ الْغُسْلِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ في النِّصْفِ الْمَقْطُوعِ
وَلَا يُصَلَّى على مَيِّتٍ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا جَمَاعَةً وَلَا وُحْدَانًا عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عليها أَجَانِبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ له أَنْ يُعِيدَهَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يَجُوزُ لِمَنْ لم يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلي على النَّجَاشِيِّ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كان صلى عليه
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عنه فَقِيلَ قَبْرُ فُلَانَةَ فقال هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عليها فَقِيلَ إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْكَ هَوَامَّ الْأَرْضِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا مَاتَ إنْسَانٌ فَآذِنُونِي فإن صَلَاتِي عليه رَحْمَةٌ
وَقَامَ وَجَعَلَ الْقَبْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى عليه وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْا على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وجماعة ( ( ( جماعة ) ) ) بَعْدَ جَمَاعَةٍ وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ وَإِنْ قضى فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ في الصَّلَاةِ حَقٌّ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ بِذَلِكَ وَعَسَى أَنْ يُغْفَرَ له بِبَرَكَةِ هذا الْمَيِّتِ كَرَامَةً له ولم يَقْضِ هذا الْحَقَّ في حَقِّ كل شَخْصٍ فَكَانَ له أَنْ يَقْضِيَ حَقَّهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على جِنَازَةٍ فلما فَرَغَ جاء عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِيًا فقال له النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ لَا تُعَادُ وَلَكِنْ اُدْعُ لِلْمَيِّتِ وَاسْتَغْفِرْ له وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَاتَتْهُمَا صَلَاةٌ على جِنَازَةٍ فلما حَضَرَا ما زَادَا على الِاسْتِغْفَارِ له
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَلَامٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ على جِنَازَةِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فلما حَضَرَ قال إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عليه فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ له وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْأُمَّةَ تَوَارَثَتْ تَرْكَ الصَّلَاةِ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ رضوان ( ( ( رضي ) ) ) اللَّهُ عليهم ( ( ( عنهم ) ) ) أجمعين وَلَوْ جَازَ لَمَا تَرَكَ مُسْلِمٌ الصَّلَاةَ عليهم خُصُوصًا على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّهُ في قَبْرِهِ كما وُضِعَ فإن لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ على الْأَرْضِ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَتَرْكُهُمْ ذلك إجْمَاعًا منهم دَلِيلٌ على عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ قد سَقَطَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ وَلِهَذَا إنَّ من لم يُصَلِّ لو تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَانِيًا لَا يَأْثَمُ وَإِذًا سَقَطَ الْفَرْضُ فَلَوْ صلى ثَانِيًا كان نَفْلًا وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ من صلى مَرَّةً لَا يُصَلِّي ثَانِيًا وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْوَلِيِّ فَصَلَّى لأن لِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ الْأَوَّلُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ لم يَقَعْ فَرْضًا لِأَنَّ حَقَّ التَّقَدُّمِ كان له فإذا تَقَدَّمَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كان له أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ في التَّقَدُّمِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ فَرْضًا فَهُوَ الْفَرْقُ وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا أَعَادَ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّلَاةِ كانت له فإنه كان أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ قال اللَّهُ تَعَالَى { النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ }
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُصَلِّي على مَوْتَاكُمْ غَيْرِي ما دُمْتُ بين أَظْهُرِكُمْ فلم يَسْقُطْ الفرض بِأَدَاءِ غَيْرِهِ وَهَذَا هو تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن
____________________

(1/311)


الْوَلَايَةَ كانت لِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ هو الْخَلِيفَةُ إلَّا أَنَّهُ كان مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عليه قبل حُضُورِهِ فلما فَرَغَ صلى عليه ثُمَّ لم يُصَلَّ بَعْدَهُ عليه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الدُّعَاءُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِذَلِكَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن لِكُلِّ وَاحِدٍ من الناس حَقًّا في الصَّلَاةِ عليه قُلْنَا نعم لَكِنْ لَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ ذلك لِسُقُوطِ الْفَرْضِ وَعَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بها وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أنها دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَشْرُوعٌ وَبِالصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَعَلَى هذا قال أَصْحَابُنَا لَا يُصَلَّى على مَيِّتٍ غَائِبٍ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُصَلَّى عليه اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على النَّجَاشِيِّ وهو غَائِبٌ وَلَا حُجَّةَ له فيه لِمَا بَيَّنَّا على أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ طُوِيَتْ له وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذلك في حَقِّ غَيْرِهِ ثُمَّ ما ذَكَرَهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كان في جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ في الصَّلَاةِ عليه كان الْمَيِّتُ خَلْفَهُ وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كان مُصَلِّيًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ وَلَا يُصَلَّى على صَبِيٍّ وهو على الدَّابَّةِ وَعَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ حتى يُوضَعَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لهم فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا وَهُمْ على الْأَرْضِ وَلَا يُصَلَّى على الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُصَلَّى عليهم لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الْآيَةَ فَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلُّوا على كل بَرٍّ وَفَاجِرٍ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ لم يُغَسِّلْ أَهْلَ نَهْرَوَانَ ولم يُصَلِّ عليهم فَقِيلَ له أَكُفَّارٌ هُمْ فقال لَا وَلَكِنْ هُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عليهم إهَانَةً لهم لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عنه ( ( ( عنهم ) ) ) ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وهو نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ يترك ( ( ( ترك ) ) ) على خَشَبَتِهِ إهَانَةً له وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ كَذَا هذا
وإذا ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْبُغَاةِ ثَبَتَ في قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُمْ في مَعْنَاهُمْ إذْ هُمْ يَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْبُغَاةِ فَكَانُوا في اسْتِحْقَاقِ الْإِهَانَةِ مِثْلَهُمْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُغَاةَ وَمَنْ بِمِثْلِهِمْ مَخْصُوصُونَ عن الحديث بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَذَلِكَ الذي يُقْتَلُ بِالْخَنْقِ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى
وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يصلى عليه وَكَذَلِكَ من يُقْتَلُ على مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ والمكابرون ( ( ( والمكاثرون ) ) ) في الْمِصْرِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُلْحَقُونَ بِالْبُغَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ من الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ في كِتَابِ صَلَاتِهِ عن أبي حَنِيفَةَ أرحمه الله تعالى نه قال في الرَّجُلِ يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا وهو قَوْلُ ابْنِ أبي لَيْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ في الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً بين الْجَانِبَيْنِ في الْحَظِّ من الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ في الْمَرْأَةِ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عن عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هو وَسَطُ الْبَدَنِ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسَ من جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ من الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هو الصَّدْرُ وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ في الْحَظِّ من الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى وَلَا نَصَّ عن الشَّافِعِيِّ في كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ يَقُومُ بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ وَيَكُونُ هذا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى على امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى على رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقِيلَ له أَكَانَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُصَلِّي كَذَلِكَ قال نعم
قالوا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ فَيَكُونُ هذا مَذْهَبَهُ وَإِنْ لم يُرْوَ عنه وَلَكِنَّا نَقُولُ هذا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى سَمُرَةُ بن جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على أُمِّ قِلَابَةَ مَاتَتْ في نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ أو نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ في أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ وفي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وكان ابن أبي لَيْلَى يقول خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ رحمهما الله تعالى
وقد اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في فِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَرُوِيَ عنه الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ وَأَكْثَرُ من ذلك إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كان أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حين اخْتَلَفُوا في عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وقال لهم إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا منكم فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صلاها رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فوجدوه ( ( ( فوجده ) ) ) صلى على امْرَأَةٍ كَبَّرَ عليها أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا على ذلك فَكَانَ ذلك دَلِيلًا على كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ
____________________

(1/312)


في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليها حتى قال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه حين سُئِلَ عن تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ كُلُّ ذلك قد كان وَلَكِنِّي رأيت الناس أَجْمَعُوا على أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عنه أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَا كان يَفْعَلُ
ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كانت بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ لم تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ على التَّخْيِيرِ فَدَلَّ أَنَّ ما تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ التي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ في الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ أبي لَيْلَى يقول التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كان يُكَبِّرُ على أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ وَعَلَى سَائِرِ الناس أَرْبَعًا وَهَذَا افْتِرَاءٌ منهم عليه فإنه رُوِيَ عنه أَنَّهُ كَبَّرَ على فَاطِمَةَ أَرْبَعًا وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى على فَاطِمَةَ أبو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَعُمَرُ صلى على أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فإذا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى على اللَّهِ تَعَالَى وهو أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فيه وَلَكِنَّ النَّقْلَ وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ كما يَسْتَفْتِحُونَ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وإذا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ ( اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ) إلَى قَوْلِهِ ( إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) وإذا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ في الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ ثُمَّ الصَّلَاةَ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذلك لِيَكُونَ أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كان يُحْسِنُهُ وَإِنْ لم يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ ما يَدْعُو بِهِ في التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخره ( ( ( آخر ) ) ) هذا إذَا كان بَالِغًا فَأَمَّا إذَا كان صَبِيًّا فإنه يقول اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لنا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ فِينَا كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وهو الْمَرْوِيُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُ جاء أَوَانُ التَّحَلُّلِ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لم يَتَعَرَّضْ له في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْلِيمِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فَصْلٍ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ في زَمَانِنَا هذا يُخَالِفُ ما يَقُولُهُ الْحَسَنُ وَلَيْسَ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ وقد اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا ما يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلى ( ( ( إلخ ) ) ) آخره ) فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لم يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي في الْخَامِسَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا مُجْتَهَدٌ فيه فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ كما في تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ
وَلَنَا أَنَّ هذا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ ما زَادَ على أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فيه فَلَا يُتَابِعُهُ في الْخَطَأِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ لِأَنَّهُ لم يَظْهَرْ خطأه بِيَقِينٍ حتى لو ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ على ما ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لم يُتَابِعْهُ في التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ في رِوَايَةٍ قال يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُتَابِعَهُ في التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ليس بِخَطَأٍ إنَّمَا الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ في التكبير ( ( ( التكبيرة ) ) ) فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا يُتَابِعُ وفي رِوَايَةٍ قال يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ لِأَنَّ الْبَقَاءَ في التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ عَقِيبَهَا هو الْمَشْرُوعُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَابِعُهُ في الْبَقَاءِ كما لَا يُتَابِعُهُ في التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ وَلَا يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ من الْقُرْآنِ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فيها وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ وَعِنْدَنَا لو قَرَأَ الْفَاتِحَةَ على سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لم يُكْرَهْ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فيها
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَبَّرَ على مَيِّتٍ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بفاتحة ( ( ( فاتحة ) ) ) الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى على جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فيها بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَهَرَ بها وقال إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّةٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هل يُقْرَأُ فيها فقال لم يُوَقِّتْ لنا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً وفي رِوَايَةٍ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ ما كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ من أَطْيَبِ الْكَلَامِ ما شِئْت وفي رِوَايَةٍ وَاخْتَرْ من الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ
وَرُوِيَ عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا قَالَا ليس فيها قِرَاءَةُ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ
____________________

(1/313)


وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا الْقِرَاءَةُ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ( ( ( السلام ) ) ) لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ على ( ( ( حقيقة ) ) ) الحقيقة إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس فيها الْأَرْكَانُ التي تَتَرَكَّبُ منها الصَّلَاةُ من الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أنها تُسَمَّى صَلَاةً
لِمَا فيها من الدُّعَاءِ وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فيها لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ الِاسْمِ
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ وَتَأْوِيلُ حديث جَابِرٍ أَنَّهُ كان قَرَأَ على سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا على سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ ليس بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ من أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ في كل تَكْبِيرَةٍ من صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وكان نُصَيْرُ بن يحيى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً وَجْهُ قَوْلِ من اخْتَارَ الرَّفْعَ أَنَّ هذه تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بها في قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ من خَلْفَهُ من الْأَصَمِّ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فيها صَلَاةُ الْجِنَازَةِ
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فيها إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كل تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ ذكروا السنة ( ( ( والسنة ) ) ) فيه الْمُخَافَتَةُ وإذا صَلَّيْنَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً على جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ كما في الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أو تَكْبِيرَتَيْنِ أو ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ جاء رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حتى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ معه ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ما عليه قبل أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ وَهَذَا قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حين يَحْضُرُ ثُمَّ إنْ كان الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لم يَقْضِ شيئا وَإِنْ كان كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هو يقول أنه مَسْبُوقٌ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حين انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَكَمَا لو كان حَاضِرًا مع الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عليه أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هذا
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال في الذي انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وهو في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وقد سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِتَكْبِيرَةٍ أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ ما سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عنه ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ من هذه الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَرَكَ تَكْبِيرَةً منها تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كما لو تَرَكَ رَكْعَةً من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في الْحَالَةِ التي أَدْرَكَهَا وَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ أَوَّلًا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ كَذَا هَهُنَا وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا كان حَاضِرًا لِأَنَّ من كان خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ في حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
أَلَا تَرَى أَنَّ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ وَيَقَعُ ذلك أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بها حين حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فإنه غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قبل سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي ما فَاتَهُ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قبل أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى إنْ كان الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لم يَقْضِ شيئا وَإِنْ كَبَّرَ اثنتين قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ جاء بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قبل السَّلَامِ لم يَدْخُلْ معه وقد فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وإذا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ كما لو كان حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ ولم يُكَبِّرْ شيئا حتى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ
والصحيح ( ( ( الصحيح ) ) ) قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا والإمام ( ( ( الإمام ) ) ) لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هذا لِتَتَابُعِهِ وَالْأَصْلُ في الْبَابِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ من الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عليه الدُّخُولُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ وَذَكَرَ عِصَامُ بن يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَهُنَا يُكَبِّرُ أَيْضًا بِخِلَافِ ما إذَا جاء وقد كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ ما سَبَقَ قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ إنْ كان لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
لِأَنَّهُ لو انْتَظَرَ الْإِمَامَ هَهُنَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________

(1/314)



فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَصِحُّ بِهِ وما تَفْسُدُ وما يُكْرَهُ أَمَّا ما تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ ما يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ من الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا
حتى أَنَّهُمْ لو صَلَّوْا على جِنَازَةٍ
وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ
فَكَذَا صَلَاتُهُمْ لِأَنَّهَا بِنَاءً على صَلَاتِهِ
وَلَوْ كان الْإِمَامُ على الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ على غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ ولم يَكُنْ عليهم إعَادَتُهَا
لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ
وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في هذه الصَّلَاةِ
وَلَوْ أخطأوا ( ( ( أخطئوا ) ) ) بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ في مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عليها جَازَتْ الصَّلَاةُ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ
وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذلك فَقَدْ أساؤوا ( ( ( أساءوا ) ) ) لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ المتواترة ( ( ( المتوارثة ) ) )
وَلَوْ تَحَرَّوْا على جِنَازَةٍ فأخطأوا ( ( ( فأخطئوا ) ) ) الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ
لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى
وَإِنْ تَعَمَّدُوا خلافهم ( ( ( خلافها ) ) ) لم تَجُزْ كما في اعْتِبَارِ شَرْطِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَلَوْ صلى رَاكِبًا أو قَاعِدًا من غَيْرِ عُذْرٍ لم تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ
وهو لايختلف
وَالْأَرْكَانُ فيها التَّكْبِيرَاتُ
وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا في حَالَةِ الرُّكُوبِ كما يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا في حَالَةِ الْقِيَامِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إن الشَّرْعَ ما وَرَدَ بها إلَّا في حَالَةِ الْقِيَامِ فيراعي فيها ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ في شَرَائِطِهَا
فَكَذَا في الرُّكْنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ من الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أو رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَيِّتِ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا تَسْقُطُ في حَقِّ من تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي وَالْكَافِرِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ ما شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ على وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ على مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ
وَلَوْ كان وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى الناس خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى
وقال مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى يجزىء الْإِمَامَ وَلَا يجزىء الْمَأْمُومَ بِنَاءً على اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ وقد مَرَّ ذلك
وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ إنهم لم يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أما إن ذَكَرُوا قبل الدَّفْنِ أو بَعْدَهُ فَإِنْ كان قبل الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عليه لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عليه كما أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ فإذا فُقِدَتْ لم يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ الدَّفْنِ لم يَنْبُشُوا عنه لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عليه لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عليه لِمَا بَيَّنَّا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُخْرَجُ ما لم يُهِيلُوا عليه التُّرَابَ لِأَنَّ ذلك ليس بِنَبْشٍ فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لم يُخْرَجْ وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عليه لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لم تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ الطَّهَارَةَ مع الْإِمْكَانِ وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ فَيُصَلَّى عليه وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قبل الصَّلَاةِ عليه صلى عليه في الْقَبْرِ ما لم يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ
وفي الْأَمَالِي عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال يصلي عليه إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ
أَمَّا قبل مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ
فلما جَازَتْ الصَّلَاةُ على الْقَبْرِ بَعْدَ ما صلى على الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَأَنْ تَجُوزَ في مَوْضِعٍ لم يُصَلَّ عليه أَصْلًا أَوْلَى
وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يصلي لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ على الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى الْبَدَنُ
وَهَذَا لِأَنَّ في الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ
وفي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ في حَدِّ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهَا جَمْعٌ
وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ
وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ
وَالْغَالِبُ في الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ أَعْضَاؤُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هذا ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ
لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ في الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ في السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فيه غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ
فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ صلى على شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ دَعَا لهم
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَصَلِّ عليهم إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم } وَالصَّلَاةُ في الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ
وَقِيلَ إنَّهُمْ لم تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فإن مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ كما دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ
وتجوز الصَّلَاةُ على الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً
فإذا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صلى عليهم دَفْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ شَاءَ صلى على كل جِنَازَةٍ على حِدَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى يوم أُحُدٍ على كل عَشَرَةٍ من الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ وهو الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ على كل وَاحِدَةٍ على حِدَةٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ
ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا
____________________

(1/315)


إن كانت من جِنْسٍ وَاحِدٍ أو اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كان الْجِنْسُ مُتَّحِدًا فَإِنْ شاؤا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا كما يَصْطَفُّونَ في حَالِ حَيَاتِهِمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ
وَإِنْ شاؤا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِيَقُومَ الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ
هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى من الْأَوَّلِ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ هو يَحْصُلُ في الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ
وإذا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ
كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ
لقوله ( ( ( لقول ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كل وَاحِدٍ منهم بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ
وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ كما قال ابن أبي لَيْلَى وهو أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهما دُفِنُوا على هذه الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ على هذا التَّرْتِيبِ أَيْضًا
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ في حَالِ الْحَيَاةِ ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ من النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من قال تُوضَعُ النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ لِأَنَّ في الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ في حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا في وَضْعِ الْجَنَائِزِ وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ الْمَرْأَةُ ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أولو ( ( ( أولوا ) ) ) الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَقُومُونَ في الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ على جِنَازَةٍ ثُمَّ أتى بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى على الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ على الْأُخْرَى لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ على الْأُولَى فَيُتِمُّهَا فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى لِأَنَّهُ لم يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عن الْأُولَى فَبَقِيَ فيها ولم يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ
وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مع النِّيَّةِ كما إذَا كان في الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا من الظُّهْرِ فَكَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا نَوَاهُمَا جميعا لِأَنَّهُ ما رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فيها فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في الثَّانِيَةِ ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا في الثَّانِيَةِ فإذا فَرَغَ منها أَعَادَ الصَّلَاةَ على الْأُولَى أَيْ يَسْتَقْبِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَنَقُولُ إنَّهَا تَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَغَيْرِهَا من نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ إلَّا الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ في هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بها غَيْرُهَا وَلِهَذَا لم يَلْحَقْ بها سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حتى لم تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فيها مُفْسِدَةً وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ في هذه الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ لِأَنَّا عَرَفْنَا الْقَهْقَهَةَ حَدَثًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا في غَيْرِهَا فَرْقٌ بين هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ فإنه لو سَبَقَهُ الْحَدَثُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَبْنِي
وَإِنْ عَرَفَ الْبِنَاءَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا في الصَّلَاةِ
وَقُبْحُهَا يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَوْقَ حُرْمَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فكنا ( ( ( فكان ) ) ) قُبْحُهَا في تِلْكَ الصَّلَاةِ فَوْقَ قُبْحِهَا في هذه فَجَعْلُهَا حَدَثًا هُنَاكَ لَا يَدُلُّ على جَعْلِهَا حَدَثًا هَهُنَا وَكَذَا الْمُحَاذَاةُ جُعِلَتْ مُفْسِدَةً في تِلْكَ الصَّلَاةِ تَعْظِيمًا لها وَلَيْسَتْ هذه مِثْلَ تِلْكَ في مَعْنَى التَّعْظِيمِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ
لِأَنَّ الْجَوَازَ وَتَحَمُّلَ الْمَشْيِ في أَعْلَى الْعِبَادَتَيْنِ يُوجِبُ التَّحَمُّلَ
وَالْجَوَازَ في أَدْنَاهُمَا دَلَالَةً وَلِأَنَّا لو لم نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هَهُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا لِأَنَّ الناس يَفْرُغُونَ من الصَّلَاةِ قبل رُجُوعِهِ من التوضأ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِعَادَةِ لِمَا مَرَّ وَلَوْ لم نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هُنَاكَ لَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا فلما جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هَهُنَا أَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ فيها فَنَقُولُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنِصْفِ النَّهَارِ
لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ قال ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ فيها وَأَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ أَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ إذْ لَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ في هذه
____________________

(1/316)


الْأَوْقَاتِ
فَإِنْ صَلَّوْا في أَحَدِ هذه الْأَوْقَاتِ لم يَكُنْ عليهم إعَادَتُهَا
لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ صُلِّيَتْ وَقَعَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ في هذه الْأَوْقَاتِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْقَضَاءِ فيها دُونَ الْأَدَاءِ كما إذَا أَدَّى عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قبل تَغَيُّرِ الشَّمْسِ
لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في هذه الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى في الْوَقْتِ فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ الْفَرَائِضِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا على جِنَازَةٍ وقد غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يبدؤا ( ( ( يبدءوا ) ) ) بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلُّونَ على الْجِنَازَةِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ آكَدُ من صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ في تَقْدِيمِ الْجِنَازَةِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من له وِلَايَةُ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ فذكر في الْأَصْلِ أَنَّ إمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ إنْ حَضَرَ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَأَمِيرُ الْمِصْرِ وَإِنْ لم يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ من ذَوِي قَرَابَاتِهِ وَهَذَا هو حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا وَالتَّوْفِيقُ بين الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْقَاضِي لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ لِأَنَّهُ رضي بِإِمَامَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ فَيَدُلُّ على الرِّضَا بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَلِهَذَا لو عَيَّنَ الْمَيِّتُ أَحَدًا في حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ أَوْلَى من الْقَرِيبِ لِرِضَاهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ بِإِمَامِ الْحَيِّ لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْجَنَائِزَ ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ من عَصَبَتِهِ وَذَوِي قَرَابَاتِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ له وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَرِيبُ أَوْلَى من السُّلْطَانِ لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هذا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ على الْوَلَايَةِ
وَالْقَرِيبُ في مِثْلِ هذا مُقَدَّمٌ على السُّلْطَانِ كما في النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ من التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَرْجَى لِأَنَّهُ يُبَالِغُ في إخْلَاصِ الدُّعَاءِ وَإِحْضَارِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ شَفَقَتِهِ وَتُوجَدُ منه زِيَادَةُ رِقَّةٍ وَتَضَرُّعٍ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ رضي الله عنهما لَمَّا مَاتَ قَدَّمَ الْحُسَيْنُ بن عَلِيٍّ سَعِيدَ بن الْعَاصِ لِيُصَلِّيَ عليه وكان وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ
وقال لَوْلَا السُّنَّةُ ما قَدَّمْتُكَ وفي رِوَايَةٍ قال لَوْلَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن التَّقَدُّمِ لَمَا قَدَّمْتُكَ وَلِأَنَّ هذا من الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فإنه من الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ وَضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ يَتَّصِلُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالسُّلْطَانِ فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْقَرِيبِ أَنْفَعَ لِلْمُوَلَّى عليه وَتِلْكَ وِلَايَةُ نَظَرٍ ثَبَتَتْ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عليه قيل ( ( ( قبل ) ) ) الْوَلِيِّ بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه
أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ دُعَاءَ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى فَنَقُولُ بِتَقَدُّمِ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ دُعَاءُ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتُهُ مع أَنَّ دُعَاءَ الْإِمَامِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ على ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُحْجَبُ دُعَاؤُهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ الْإِمَامَ ثُمَّ تَقَدُّمُ إمَامِ الْحَيِّ ليس بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ لِمَا ذكرنا أَنَّهُ رَضِيَهُ في حَالِ حَيَاتِهِ
وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّلْطَانِ فَوَاجِبٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِهِ لَا يَخْلُو عن فَسَادِ التَّجَاذُبِ وَالتَّنَازُعِ على ما ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلَوْ كان لِلْمَيِّتِ وَلِيَّانِ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ في الصَّلَاةِ
وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا وَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا على حِدَةٍ فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُمَا إلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ فإذا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كان الْآخَرُ أَوْلَى فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَصَلَّى يُنْظَرُ إنْ صلى الْأَوْلِيَاءُ معه جَازَتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ وَإِنْ لم يُصَلُّوا معه فَلَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ من الْآخَرِ فَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ من شَاءَ
لِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ كان الْأَقْرَبُ غَائِبًا بِمَكَانٍ تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِحُضُورِهِ بَطَلَتْ وَلَايَتُهُ وَتَحَوَّلَتْ الْوَلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ
وَلَوْ قَدَّمَ الْغَائِبُ غَيْرَهُ بِكِتَابٍ كان لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ أو يُقَدِّمَ من شَاءَ
لِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قد سَقَطَتْ لِمَا أَنَّ في التَّوْقِيفِ على حُضُورِهِ ضررا ( ( ( ضرر ) ) ) بِالْمَيِّتِ وَالْوِلَايَةُ تَسْقُطُ مع ضَرَرِ الْمُوَلَّى عليه فَتُنْقَلُ إلَى الْأَبْعَدِ وَالْمَرِيضُ في الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يُقَدِّمُ من شَاءَ وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَتَقَدَّمَ مع مَرَضِهِ فَكَانَ له حَقُّ التَّقْدِيمِ وَلَا حَقَّ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ في التَّقْدِيمِ لِانْعِدَامِ وَلَايَةِ التَّقَدُّمِ
وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَالْوِلَايَةُ لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَاتَتْ له امْرَأَةٌ
____________________

(1/317)


فقال لِأَوْلِيَائِهَا كنا أَحَقَّ بها حين كانت حَيَّةً فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بها وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ
قال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى وَلَهُ في حُكْمِ الْوَلَايَةِ أَنْ يُقَدِّمَ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ له وَإِنَّمَا مُنِعَ من التَّقَدُّمِ حتى لَا يستخق ( ( ( يستخف ) ) ) بِأَبِيهِ فلم تَسْقُطْ وَلَايَتُهُ في التَّقْدِيمِ وَإِنْ كان لها ابْنٌ من زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ على هذا الزَّوْجِ لِأَنَّهُ هو أولى ( ( ( الولي ) ) ) وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عليه وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى من الزَّوْجِ وَكَذَا مولى الْعَتَاقَةِ وابن الْمَوْلَى وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ قد انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَرَكَتْ أَبًا وَزَوْجًا وَابْنًا من هذا الزَّوْجِ فَلَا وَلَايَةَ لِلزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَقَدْ ذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ من غَيْرِهِ وَقِيلَ هو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى فَالِابْنُ أَحَقُّ إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَبَ تَعْظِيمًا له وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى الْوَلَايَةُ لِلْأَبِ وَقِيلَ هو قَوْلُهُمْ جميعا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ لِلْأَبِ فَضِيلَةً على الِابْنِ وَزِيَادَةَ سِنٍّ وَالْفَضِيلَةُ تُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا في اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَلَايَاتِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَحَقُّ من الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْقَرِيبِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ أَبٌ وَأَبُ الْأَبِ فَالْوَلَايَةُ لِأَبِيهِ وَلَكِنَّهُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ الذي هو جَدُّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا له
وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ ابْنُهُ أو عَبْدُهُ وَمَوْلَاهُ حاضر ( ( ( حاضرا ) ) ) فَالْوَلَايَةُ لِلْمُكَاتَبِ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلَاهُ احْتِرَامًا له ثُمَّ إذَا صلى على الْمَيِّتِ يُدْفَنُ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في الدَّفْنِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ سُنَّةِ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وما يَتَّصِلُ بِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهِ تَوَارُثُ الناس من لَدُنْ آدَمَ صلى ( ( ( صلوات ) ) ) اللَّهِ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا مع النَّكِيرِ على تَارِكِهِ وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ حتى إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَّةُ الْحَفْرِ فَالسُّنَّةُ فيه اللَّحْدُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الشَّقُّ وَاحْتَجَّ أَنَّ تَوَارُثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقُّ دُونَ اللَّحْدِ وَتَوَارُثُهُمْ حُجَّةٌ
وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اللَّحْدُ لنا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا وفي رِوَايَةٍ اللَّحْدُ لنا وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ الناس أَنْ يُشَقَّ له أو يُلْحَدَ وكان أبو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَحَّادًا وأبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ شَاقًّا فَبَعَثُوا رَجُلًا إلَى أبي عُبَيْدَةَ وَرَجُلًا إلَى أبي طَلْحَةَ فقال الْعَبَّاسُ بن عبد الْمُطَّلِبِ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْك فَوَجَدَ أَبَا طَلْحَةَ من كان بُعِثَ إلَيْهِ ولم يَجِدْ أَبَا عُبَيْدَةَ من بُعِثَ إلَيْهِ وَالْعَبَّاسُ رضي اللَّهُ عنه كان مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إنَّمَا تَوَارَثُوا الشَّقَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ وَلِهَذَا اخْتَارَ أَهْلُ بُخَارَى الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ لِرَخَاوَةِ أَرَاضِيهِمْ
وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ ثُمَّ يُحْفَرُ في جَانِبِ الْقِبْلَةِ منه حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فيه الْمَيِّتُ
وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ في وَسَطِ الْقَبْرِ فَيُوضَعُ فيه الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ على اللَّحْدِ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ وُضِعَ على قَبْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم طُنٌّ من قَصَبٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأَى فُرْجَةً في قَبْرٍ فَأَخَذَ مدرة ( ( ( مدورة ) ) ) وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وقال سُدَّ بها تِلْكَ الْفُرْجَةَ فإن اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ من كل صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ وَالْمَدَرَةُ قِطْعَةٌ من اللَّبِنِ
وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْعَاصِ أَنَّهُ قال اجْعَلُوا على قَبْرِي اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ كما جُعِلَ على قَبْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَبْرِ أبي بَكْرٍ وَقَبْرِ عُمَرَ وَلِأَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِيَمْنَعَا ما يُهَالُ من التُّرَابِ على الْقَبْرِ من الْوُصُولِ إلَى الْمَيِّتِ وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَدُفُوفُ الْخَشَبِ لِمَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ على الْقُبُورِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى أَنْ تُشَبَّهَ الْقُبُورُ بِالْعُمْرَانِ وَالْآجُرُّ وَالْخَشَبُ لِلْعُمْرَانِ وَلِأَنَّ الْآجُرَّ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلْمَيِّتِ وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ على الْمَيِّتِ تَفَاؤُلًا كما يُكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ قَبْرُهُ بِنَارٍ تَفَاؤُلًا وكان الشَّيْخُ الإمام أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يقول لَا بَأْسَ بِالْآجُرِّ في دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرَاضِي وكان أَيْضًا يُجَوِّزُ دُفُوفَ الْخَشَبِ وَاِتِّخَاذَ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حتى قال لو اتَّخَذُوا تَابُوتًا من حَدِيدٍ لم أَرَ بِهِ بَأْسًا في هذه الدِّيَارِ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَّةُ الدَّفْنِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وهو أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ في جَانِبِ الْقِبْلَةِ من الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ منه الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ في اللَّحْدِ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ وَصُورَةُ السَّلِّ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ على يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَتُجْعَلَ رِجْلَا الْمَيِّتِ إلَى الْقَبْرِ طُولًا ثُمَّ تُؤْخَذُ رِجْلُهُ وَتُدْخَلُ رِجْلَاهُ في الْقَبْرِ وَيُذْهَبُ
____________________

(1/318)


بِهِ إلَى أَنْ تَصِيرَ رِجْلَاهُ إلَى مَوْضِعِهِمَا وَيُدْخَلُ رَأْسُهُ الْقَبْرَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُدْخِلَ في الْقَبْرِ سَلًّا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في كِتَابِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ يُسْتَغْنَى فيه عن رِوَايَةِ الحديث فإنه نَقَلَتْهُ الْعَامَّةُ عن الْعَامَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَخَذَ أَبَا دُجَانَةَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُدْخِلَ في الْقَبْرِ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَصَارَ هذا مُعَارِضًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ على أَنَّا نَقُولُ أنه صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا أُدْخِلَ إلَى الْقَبْرِ سَلًّا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَاتَ في حُجْرَةِ عَائِشَةَ من قِبَلِ الْحَائِطِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ في دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ في الْمَوْضِعِ الذي قُبِضُوا فيه فَكَانَ قَبْرُهُ لَزِيقَ الْحَائِطِ وَاللَّحْدُ تَحْتَ الْحَائِطِ فَتَعَذَّرَ إدْخَالُهُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَسُلَّ إلَى قَبْرِهِ سَلًّا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا يُدْخَلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلِأَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَكَانَ إدْخَالُهُ من هذا الْجَانِبِ أَوْلَى وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هذا أَمْرٌ مَشْهُورٌ
قُلْنَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ عن حَمَّادٍ رحمهما الله تعالى عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال حدثني من رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ في الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَحْدَثُوا السَّلَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ فَإِنَّهَا كانت أَرْضًا سَبْخَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا يَضُرُّ وِتْرٌ دخل قَبْرَهُ أَمْ شَفْعٌ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ هِيَ الْوِتْرُ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ والأجمار
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا دُفِنَ أَدْخَلَهُ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بن الْعَبَّاسِ وَعَلِيٌّ وَصُهَيْبٌ رضي الله عنهم وَقِيلَ في الرَّابِعِ إنَّهُ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ وَقِيلَ إنَّهُ أبو رَافِعٍ فَدَلَّ أَنَّ الشَّفْعَ سُنَّةٌ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ في الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْوَضْعِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْوِتْرُ وَالشَّفْعُ فيه سَوَاءٌ وَلِأَنَّهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَيَحْمِلُهُ على الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ اثْنَانِ وَإِنْ كان شَفْعًا فَكَذَا هَهُنَا
ما ( ( ( وما ) ) ) ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِانْتِقَاضِهِ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مع أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ تَرْكُ السُّنَّةِ خُصُوصًا في دَفْنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ أَحَدٍ من قَرَابَتِهِ من الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الذي فيه الْكَافِرُ تَنْزِلُ فيه السَّخْطَةُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ عن ذلك وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ على سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُوا عِنْدَ وَضْعِهِ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ وإذا وُضِعَ في اللَّحْدِ قال وَاضِعُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ يقول بِاسْمِ اللَّهِ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا أَدْخَلَ مَيِّتًا قَبْرَهُ وَضَعَهُ في اللَّحْدِ قال بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ كان إذَا دَفَنَ مَيِّتًا أو نَامَ قال بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ وكان يقول النَّوْمُ وَفَاةٌ
قال الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ مَعْنَى هذا بِاسْمِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَلَيْسَ هذا بِدُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ على مِلَّةِ رسول اللَّهِ لم يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ عليه الْحَالَةُ وَإِنْ مَاتَ على غَيْرِ ذلك لم يُبَدَّلْ إلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الْأَرْضِ فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاتِهِ على الْمِلَّةِ وَعَلَى هذا جَرَتْ السُّنَّةُ وَيُوضَعُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال شَهِدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم جِنَازَةَ رَجُلٍ فقال يا عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جميعا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تَكُبُّوهُ لِوَجْهِهِ وَلَا تُلْقُوهُ لِظَهْرِهِ وَتُحَلُّ عُقَدُ أَكْفَانِهِ إذَا وُضِعَ في الْقَبْرِ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ وقد زَالَ هذا الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ
وَلَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كان قبل إهَالَةِ التُّرَابِ عليه وقد سَرَّحُوا اللَّبِنَ أَزَالُوا ذلك لِأَنَّهُ ليس بِنَبْشٍ وَإِنْ أُهِيلَ عليه التُّرَابُ تُرِكَ ذلك لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ وَلَا يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ أو أَكْثَرُ في قَبْرٍ وَاحِدٍ
هَكَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ من لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هذا فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذلك قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا من الصَّعِيدِ لِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ وكان يُدْفَنُ في الْقَبْرِ رَجُلَانِ أو ثَلَاثَةٌ وقال قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا وَإِنْ كان رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ
وَلَوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وصبي وَخُنْثَى وَصَبِيَّةٌ دُفِنَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثُمَّ الصَّبِيُّ خَلْفَهُ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ الْأُنْثَى ثُمَّ الصَّبِيَّةُ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَهَكَذَا تُوضَعُ جَنَائِزُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ عليها فَكَذَا في الْقَبْرِ وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها سُجِّيَ
____________________

(1/319)


قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ على جِنَازَتِهَا
لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا على السَّتْرِ فَلَوْ لم يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عليها وَلِهَذَا يُوضَعُ النَّعْشُ على جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ له مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ منها أَوْلَى من الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لم يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا في قَبْرِهَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ
وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقبر ( ( ( أقبر ) ) ) سَعْدَ بن مُعَاذٍ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بن زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ وقد سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذلك عنه وقال إنَّهُ رَجُلٌ وفي رِوَايَةٍ قال لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ لِأَنَّ الْكَفَنَ كان لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حتى لَا يَبْدُوَ منه شَيْءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان لِضَرُورَةٍ أُخْرَى من دَفْعِ مَطَرٍ أو حَرٍّ عن الدَّاخِلِينَ في الْقَبْرِ
وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ في حَالَةِ الضَّرُورَةِ
وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال أخبرني من رَأَى قَبْرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَبْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ أنها مُسَنَّمَةٌ
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صلى عليه محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَكَبَّرَ عليه أَرْبَعًا وَجَعَلَ له لَحْدًا وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا وَضَرَبَ عليه فُسْطَاطًا وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ من صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا منه بُدٌّ مَكْرُوهٌ وما رُوِيَ من الحديث مَحْمُولٌ على أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ في وَسَطِهِ حَمَلْنَاهُ على هذا بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا من الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ أو أَكْثَرَ قَلِيلًا
وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ على الْقَبْرِ وإن يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ وَكَرِهَ أبو يُوسُفَ الْكِتَابَةَ عليه ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عليها وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عليها وَلِأَنَّ ذلك من بَابِ الزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا
وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ على تُرَابِ الْقَبْرِ الذي خَرَجَ منه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عليه بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ ولا بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ على الْقَبْرِ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ له
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّطْيِينَ وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ يُوطَأَ على قَبْرٍ أو يُجْلَسَ عليه أو يُنَامَ عليه أو تُقْضَى عليه حَاجَةٌ من بَوْلٍ أو غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الْجُلُوسِ على الْقُبُورِ وَيُكْرَهُ أَنْ يصلي على الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُصَلَّى على الْقَبْرِ
قال أبو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يصلي على مَيِّتٍ بين الْقُبُورِ وكان عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذلك وَإِنْ صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا على عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ بين مَقَابِرِ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ أبو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابن عُمَرَ ولا ( ( ( رضي ) ) ) بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ من غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ من يَكُونُ شَهِيدًا في الْحُكْمِ وَمَنْ لَا يَكُونُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فمبني ( ( ( فبني ) ) ) على شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حتى لو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أو تَرَدَّى من مَوْضِعٍ أو احْتَرَقَ بِالنَّارِ أو مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أو غَرِقَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ليس بِمَقْتُولٍ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ في الْمَعْرَكَةِ من سِلَاحٍ أو غَيْرِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ في حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ ما قُتِلَ كلهم بِسِلَاحٍ بَلْ منهم من قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَأَمَّا في الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فيه على ما نَذْكُرُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حتى لو قُتِلَ بِحَقٍّ في قِصَاصٍ أو رُجِمَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جاء عَمُّهُ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال قُتِلَ مَاعِزٌ كما تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَقُلْ هذا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ على أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عليه وَكَذَلِكَ من مَاتَ من حَدٍّ أو تَعْزِيرٍ أو عَدَا على قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَكَذَا لو
____________________

(1/320)


قَتَلَهُ سَبُعٌ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْلُفَ عن نَفْسِهِ بَدَلًا هو مَالٌ حتى لو كان مَقْتُولًا خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَهُ في الْمِصْرِ نَهَارًا بِعَصًا صَغِيرَةٍ أو سَوْطٍ أو وَكَزَهُ بِالْيَدِ أو لَكَزَهُ بِالرِّجْلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ في هذه الْمَوَاضِعِ هو الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ وَذَا دَلِيلُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لأن غير السِّلَاحِ مِمَّا يَلْبَثَ فَكَانَ بِحَالٍ لو اسْتَغَاثَ لَحِقَهُ الْغَوْثُ فإذا لم يَسْتَغِثْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعَانَ على قَتْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ ما إذَا قُتِلَ في الْمَفَازَةِ بِغَيْرِ السِّلَاحِ
لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ الْقَتْلَ بِحُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا الْمَالِ لأنه ( ( ( ولأنه ) ) ) لو اسْتَغَاثَ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فلم يَصِرْ بِتَرْكِ الِاسْتِغَاثَةِ مُعِينًا على قَتْلِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ بِعَصًا كَبِيرَةٍ أو بِمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ أو بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أو بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ أو خَنَقَهُ أو غَرَّقَهُ في الْمَاءِ أو أَلْقَاهُ من شَاهِقِ الْجَبَلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى لِأَنَّ هذا كُلَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُ فَكَانَ الْوَاجِبُ فيه الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْوَاجِبُ هو الْقِصَاصُ فَكَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا
وَلَوْ نَزَلَ عليه اللُّصُوصُ لَيْلًا في الْمِصْرِ فَقُتِلَ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ أو قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لم يَخْلُفْ في هذه الْمَوَاضِعِ بَدَلًا هو مَالٌ
وَلَوْ قُتِلَ في الْمِصْرِ نَهَارًا بِسِلَاحٍ ظُلْمًا بِأَنْ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ أو ما يُشْبِهُ الْحَدِيدَةَ كَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ وما أَشْبَهَ ذلك أو ما يَعْمَلُ عَمِلَ الْحَدِيدُ من جُرْحٍ أو قَطْعٍ أو طُعِنَ بِأَنْ قَتَلَهُ بِزُجَاجَةٍ أو بُلَيْطَةِ قَصَبٍ أو طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا زُجَّ له أو رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ لَا نَصْلَ لها أو أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ
وفي الْجُمْلَةِ كُلُّ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كان ( ( ( فالقتيل ) ) ) شَهِيدٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا غُسِّلَا وَلِأَنَّ هذا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا وهو الْمَالُ أو الْقِصَاصُ فما هو في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كالقتيل ( ( ( كالقتل ) ) ) خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ هذا الْبَدَلِ دَلِيلُ انْعِدَامِ الشُّبْهَةِ وَتَحَقُّقِ الظُّلْمِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ إذْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مع الشُّبْهَةِ فَصَارَ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا هو مَالٌ لِأَنَّ ذلك أَمَارَةُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ في الْقَتْلِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عن الْمَقْتُولِ فإذا وَصَلَ إلَيْهِ الْبَدَلُ صَارَ الْمُبْدَلُ كَالْبَاقِي من وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا في الشَّهَادَةِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عن الْمَحَلِّ بَلْ هو جَزَاءُ الْفِعْلِ على طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا غُسِّلَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا اُرْتُثَّا وَالِارْتِثَاثُ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ على ما نَذْكُرُ
وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ في مَحَلَّةٍ أو مَوْضِعٍ يَجِبُ فيه الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لم يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا هو مَالٌ وَكَذَا الْأَبُ إذَا قَتَلَ ولده ( ( ( ابنه ) ) ) عَمْدًا كان شَهِيدًا لأن أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ شَهَادَةُ الْمَقْتُولِ
وَمِنْهَا أَنْ لا يَكُونَ مُرْتَثًّا في شَهَادَتِهِ وهو أَنْ لَا يَخْلَقَ شَهَادَتُهُ مَأْخُوذٌ من الثَّوْبِ الرَّثِّ وهو الْخَلَقُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ وكان شَهِيدًا وَكَذَا عَلِيٌّ حُمِلَ حَيًّا بَعْد ما طُعِنَ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ وكان شَهِيدًا وَعُثْمَانُ أُجْهِزَ عليه في مَصْرَعِهِ ولم برتث ( ( ( يرتث ) ) ) فلم يُغَسَّلْ وَسَعْدُ بن مُعَاذٍ ارْتَثَّ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَادِرُوا إلَى غُسْلِ صَاحِبِكُمْ سَعْدٍ كيلا تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ بِغُسْلِهِ كما سَبَقَتْنَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ وَلِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَاتُوا على مَصَارِعِهِمْ ولم يُرْتَثُّوا حتى رُوِيَ أَنَّ الْكَأْسَ كان يُدَارُ عليهم فلم يَشْرَبُوا خَوْفًا من نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ فإذا اُرْتُثَّ لم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا اُرْتُثَّ وَنُقِلَ من مَكَانِهِ يَزِيدُهُ النَّقْلُ ضَعْفًا وَيُوجِبُ حُدُوثَ آلَامٍ لم تَحْدُثْ لَوْلَا النَّقْلُ
وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ عَقِيبَ تَرَادُفِ الْآلَامِ
فَيَصِيرُ النَّقْلُ مُشَارِكًا لِلْجِرَاحَةِ في إثَارَةِ الْمَوْتِ
وَلَوْ تَمَّ الْمَوْتُ بِالنَّقْلِ لَسَقَطَ الْغُسْلُ
وَلَوْ تَمَّ بِإِيلَامٍ سِوَى الْجُرْحِ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ
وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لم يَتَمَحَّضْ بِالْجُرْحِ بَلْ حَصَلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ وهو النَّقْلُ وَالْجُرْحُ مَحْظُورٌ وَالنَّقْلُ مُبَاحٌ فلم يمتب ( ( ( يمت ) ) ) سبب ( ( ( بسبب ) ) ) تَمَحَّضَ حَرَامًا
فلم يَصِرْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ
ثُمَّ الْمُرْتَثُّ من خَرَجَ عن صِفَةِ الْقَتْلَى وَصَارَ إلَى حَالِ الدُّنْيَا بِأَنْ جَرَى عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِهَا أو وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ من مَنَافِعِهَا وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ من حُمِلَ من الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ في بَيْتِهِ أو على أَيْدِي الرِّجَالِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ أو شَرِبَ أو بَاعَ أو ابْتَاعَ أو تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ أو قام من مَكَانِهِ ذلك أو تَحَوَّلَ من مَكَانِهِ إلَى مَكَان آخَرَ وَبَقِيَ على مَكَانِهِ ذلك حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا أو لَيْلَةً كَامِلَةً وهو يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى إذَا بَقِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ حتى صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وهو يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَإِنْ بَقِيَ في مَكَانَهُ لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِمُرْتَثٍّ
وقال مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى إنْ بَقِيَ يَوْمًا فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَلَوْ أَوْصَى
____________________

(1/321)


كان ارْتِثَاثًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ فَجَوَابُ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى خَرَجَ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ من أُمُورِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا من أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا فَيَنْقُضُ ذلك مَعْنَى الشَّهَادَةِ
وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى مَحْمُولٌ على ما إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ من أُمُورِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ كَوَصِيَّةِ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ وهو ما رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ يوم أُحُدٍ وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم هل من رَجُلٍ يَنْظُرُ ما فَعَلَ سَعْدُ بن الرَّبِيعِ فَنَظَرَ عبد اللَّهِ بن عبد الرحمن من بَنِي النَّجَّارِ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا في الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فقال له إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ في الْأَحْيَاءِ أنت أَمْ في الْأَمْوَاتِ فقال أنا في الْأَمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ له إنَّ سَعْدَ بن الرَّبِيعِ يقول جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ ما يجزي نَبِيٌّ عن أُمَّتِهِ وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لهم إنَّ سَعْدًا يقول لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُصَ إلَى نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ
قال ثُمَّ لم أَبْرَحْ حتى مَاتَ فلم يُغَسَّلْ وَصُلِّيَ عليه
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إنْ أَوْصَى بِمِثْلِ وَصِيَّةِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَلَيْسَ بِارْتِثَاثٍ وَالصَّلَاةُ ارْتِثَاثٌ لِأَنَّهَا من أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَلَوْ جُرَّ بِرِجْلِهِ من بَيْنِ الصَّفَّيْنِ حتى تَطَؤُهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لم يَكُنْ مُرْتَثًّا لِأَنَّهُ ما نَالَ شيئا من رَاحَةِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ ما إذَا مَرِضَ في خَيْمَتِهِ أو في بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قد نَالَ الرَّاحَةَ بِسَبَبِ ما مَرِضَ فَصَارَ مُرْتَثًّا ثُمَّ الْمُرْتَثُّ وَإِنْ لم يَكُنْ شَهِيدًا في حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ في حَقِّ الثَّوَابِ حتى أنه يَنَالُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ أنهم شُهَدَاءُ بِشَهَادَةِ رسول ( ( ( الرسول ) ) ) الله صلى اللَّهُ عليه وسلم لهم بِالشَّهَادَةِ وَإِنْ لم يَظْهَرْ حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ في الدُّنْيَا
ومنها كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُسْلِمًا فَإِنْ كان كَافِرًا كَالذِّمِّيِّ إذَا خَرَجَ مع الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عن الْمُسْلِمِ إنَّمَا ثَبَتَ كَرَامَةً له وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُكَلَّفًا هو شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شَهِيدَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى ليس بِشَرْطٍ وَيَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ولم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا لَمَّا أَوْجَبَ تَطْهِيرَ من ليس بِطَاهِرٍ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ فَلَأَنْ يُوجِبَ تَطْهِيرَ من هو طَاهِرٌ أَوْلَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ في حَقِّهِمْ كَرَامَةً لهم فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا فِيمَنْ لَا يُسَاوِيهِمْ في اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وما ذَكَرُوا من مَعْنَى الطَّهَارَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ على الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم غُسِّلُوا وَرَسُولُنَا سَيِّدُ الْبَشَرِ صلى اللَّهُ عليه وسلم غُسِّلَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَطْهَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيقِ ذلك بِالتَّطْهِيرِ مع أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ يُطَهِّرُهُ السَّيْفُ فَكَانَ الْقَتْلُ في حَقِّهِ وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً
وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ شَرْطٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو قُتِلَ جُنُبًا لم يَكُنْ شَهِيدًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ على طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغُسْلِ كَالذَّكَاةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ غَسْلِ الْعُرُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ما رُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حتى قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ ما بَالُهُ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فقالت خَرَجَ وهو جُنُبٌ حين سمع الْهَيْعَةَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ عِلَّةُ الْغُسْلِ وَالْمَعْنَى فيه إن الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً من حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا رَافِعَةً لنجاسة ( ( ( لنجاسته ) ) ) كانت كَالذَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ من حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فِيمَا كان حَلَالًا إمَّا لَا تَرْفَعُ حُرْمَةً كانت ثَابِتَةً وَهَذَا لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مَانِعَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا تَكُونُ رَافِعَةً لِأَنَّ الْمَنْعَ أَدْوَنُ من الرَّفْعِ فَأَمَّا الْحَدَثُ فَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ ضَرُورَةُ الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عن الْحَدَثِ إذْ لَا بُدَّ من زَوَالِ الْعَقْلِ سَابِقًا على الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ الْحَدَثُ لَا مَحَالَةَ وَالشَّهَادَةُ مَانِعَةٌ من نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فَلَوْ لم يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ بِالشَّهَادَةِ لَاحْتِيجَ إلَى غَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فلم يَظْهَرْ أَثَرُ مَنْعِ الشَّهَادَةِ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فَقُلْنَا إنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ ذلك الْحَدَثَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ لِيَنْعَدِمَ أَثَرُ الشَّهَادَةِ بَلْ تُوجَدُ في النُّدْرَةِ فلم يَرْفَعْ
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا اُسْتُشْهِدَتَا فَإِنْ كان ذلك بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَطَهَارَتِهِمَا قبل الِاغْتِسَالِ فَالْكَلَامُ فِيهِمَا وفي الْجُنُبِ سَوَاءٌ وَإِنْ كان قبل انْقِطَاعِ الدَّمِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُغَسَّلَانِ كَالْجُنُبِ
____________________

(1/322)


لِوُجُودِ شَرْطِ الِاغْتِسَالِ وهو الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وفي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ وَجَبَ بَعْدُ قبل الْمَوْتِ قبل انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَوْ وَجَبَ وَجَبَ بِالْمَوْتِ وَالِاغْتِسَالُ الذي يَجِبُ بِالْمَوْتِ يَسْقُطُ بِالشَّهَادَةِ وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يوم الْقِيَامَةِ من قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ كَالرِّجَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وإذا عُرِفَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ إذَا قُتِلَ الرَّجُلُ في الْمَعْرَكَةِ أو غَيْرِهَا وهو يُقَاتِلُ أَهْلَ الْحَرْبِ أو قُتِلَ مُدَافِعًا عن نَفْسِهِ أو مَالِهِ أو أَهْلِهِ أو وَاحِدٍ من الْمُسْلِمِينَ أو أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ شَهِيدٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ في حَقِّهِ فَالْتَحَقَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَقْتُولًا من جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا لم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ دَلَّ عليه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهَذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا بِشَهَادَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَكَذَا إذَا قُتِلَ في مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُغَسَّلُ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِأَنَّ على أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْبَاغِي فَهَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا وهو الْقِصَاصُ وَهَذَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ على ما مَرَّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَمَّارٍ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ بِصِفِّينَ تَحْتَ رَايَةِ عَلِيٍّ فقال لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةُ بِالْجَادَّةِ وكان قَتِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ على ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بن صُوحَانَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يوم الْجَمَلِ فقال لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يوم الْقِيَامَةَ من قَتَلَنِي
وَعَنْ عَلِيٍّ عنه أَنَّهُ كان لَا يُغَسِّلُ من قُتِلَ من أَصْحَابِهِ وَلِأَنَّهُ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لِأَنَّهُ قُتِلَ قَتْلًا تَمَحَّضَ ظُلْمًا ولم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ في قَتْلِ الْبَاغِي مَمْنُوعٌ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إن كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَتِيلُ غَيْرِ الْبَاغِي وَإِنْ وَجَبَ عليه الْقِصَاصُ لَكِنَّ ذلك أَمَارَةٌ تُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ على ما مَرَّ فَلَا يُوجِبُ قَدْحًا في الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَلَوْ وُجِدَ في الْمَعْرَكَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ من جِرَاحَةٍ أو خَنْقٍ أو ضَرْبٍ أو خُرُوجِ الدَّمِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فإذا لم يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَكُنْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ من شِدَّةِ الْفَزَعِ وقد يُبْتَلَى الْجَبَانُ بهذا فَإِنْ كان بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كان بِذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنَّهُ كان من الْعَدُوِّ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عليه وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من مَحَارِقِهِ يُنْظَرُ إنْ كان مَوْضِعًا يَخْرُجُ الدَّمُ منه من غَيْرِ آفَةٍ في الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ وَالذَّكَرِ وَالدُّبُرِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَرْءَ قد يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ وقد يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ وقد يَخْرُجُ الدَّمُ من الدُّبُرِ من غَيْرِ جُرْحٍ في الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في سُقُوطِ الْغُسْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ من هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا لِآفَةٍ في الْبَاطِنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ على رَأْسِهِ حتى خَرَجَ الدَّمُ من أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من فَمِهِ فَإِنْ كان يَنْزِلُ من رَأْسِهِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ ما يَنْزِلُ من الرَّأْسِ فَنُزُولُهُ من جَانِبِ الْفَمِ أو من جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ وَإِنْ كان يَعْلُو من جَوْفِهِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَصْعَدُ من الْجَوْفِ إلَّا لِجُرْحٍ في الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِلَوْنِ الدَّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ وُجِدَ في عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا لَقَوْا الْعَدُوَّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَلَيْسَ فيه قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْعَدُوِّ ظاهرا ( ( ( وظاهرا ) ) ) كما لو وُجِدَ قَتِيلًا في الْمَعْرَكَةِ وَإِنْ كَانُوا لم يَلْقَوْا الْعَدُوَّ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ليس قَتِيلَ الْعَدُوِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ فيه الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ وَلَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ الْعَدُوِّ وَهُمْ رَاكِبُوهَا أو سَائِقُوهَا أو قَائِدُوهَا فَمَاتَ أو نَفَّرَ الْعَدُوُّ دَابَّتَهُ أو نَخَسَهَا فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ أو رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ أو كان الْمُسْلِمُونَ في سَفِينَةٍ فَرَمَاهُمْ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقُوا أو تَعَدَّى هذا الْحَرِيقُ إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى فيها مُسْلِمُونَ فَاحْتَرَقُوا أو سَيَّلُوا عليهم الْمَاءَ حتى غَرِقُوا أو أَلْقَوْهُمْ في الْخَنْدَقِ أو من السُّورِ بِالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ وَالدَّفْعِ حتى مَاتُوا أو أَلْقَوْا عليهم الْجِدَارَ كَانُوا شُهَدَاءَ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ فَيَلْحَقُهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ
وَلَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ من دَابَّةِ الْعَدُوِّ أو من سَوَادِهِمْ من غَيْرِ تَنْفِيرٍ منهم فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ أو انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فالقوا أَنْفُسَهُمْ في الْخَنْدَقِ أو من السُّورِ حتى مَاتُوا لم يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ وَكَذَلِكَ إذَا حَمَلَ على الْعَدُوِّ فَسَقَطَ عن فَرَسِهِ أو كان الْمُسْلِمُونَ يَنْقُبُونَ عليهم الْحَائِطَ فَسَقَطَ عليهم فَمَاتُوا لم يَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَأَصَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في الزِّيَادَاتِ في
____________________

(1/323)


هذه الْمَسَائِلِ أَصْلًا فقال إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى الْعَدُوِّ كان شَهِيدًا وَإِلَّا فَلَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ وَالْقِتَالِ كان شَهِيدًا وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كان مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ أو لَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ بِحَيْثُ لو وُجِدَ ذلك الْقَتْلُ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن وُجُوبِ قِصَاصٍ أو كَفَّارَةٍ كان شَهِيدًا وإذا صَارَ مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لم يَكُنْ شَهِيدًا وَجِنْسُ هذه الْمَسَائِلِ في الزِّيَادَاتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا فَنَقُولُ إنَّ الشَّهِيدَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ في حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ في حَقِّهِ أَوْجَبَ وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَجَبَ تَطْهِيرًا له
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عليه بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عليه فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا له وَإِنَّمَا لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا على الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الناس كان مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذلك الْيَوْمَ كان يوم بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ فلم يَقْدِرُوا على غُسْلِهِمْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في شُهَدَاءِ أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يوم الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فإنه ما من جَرِيحٍ يُجْرَحُ في سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا وهو يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وهو أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يوم الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لهم يوم الْقِيَامَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ من بَابِ الْكَرَامَةِ له وإن الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ مَانِعَةً عن حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ كما في شُهَدَاءِ أُحُدٍ
وما ذُكِرَ من تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ التي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لم تَكُنْ مَانِعَةً لهم من الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً من الْغُسْلِ وهو أَيْسَرُ من الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لو كان لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يتيمموا ( ( ( ييمموا ) ) ) كما لو تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ في زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ كما لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ وَالْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ وما ذُكِرَ من التَّعَذُّرِ لم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ وَلِذَا لم يُغَسَّلْ عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وكان بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا من تَرْكِ الْغُسْلِ على قَتْلَى أُحُدٍ غير ما فَهِمَ الْحَسَنُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ في ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وقد رُوِيَ في ثِيَابِهِمْ وَرَوَيْنَا عن عَمَّارٍ وَزَيْدِ بن صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الحديث غير أَنَّهُ يُنْزَعُ عنه الْجِلْدُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عنه شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال تَنْزِعُ عنه الْعِمَامَةَ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا لِأَنَّ ما يُتْرَكُ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا وَالْكَفَنُ ما يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ أو لِدَفْعِ الْبَرْدِ أو لِدَفْعِ مغرة ( ( ( معرة ) ) ) السِّلَاحِ وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ من ذلك فلم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك كَفَنًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ الثِّيَابُ التي يُكَفَّنُ بها وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ وَلِأَنَّ هذا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عليهم من الْأَسْلِحَةِ وقد نُهِينَا عن التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَيَزِيدُونَ في أَكْفَانِهِمْ ما شاؤوا وَيُنْقِصُونَ ما شاؤوا لِمَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه كان عليه نَمِرَةٌ لو غُطِّيَ رَأْسُهُ بها بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بها رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُغَطَّى بها رَأْسُهُ وَيُوضَعُ على رِجْلَيْهِ شَيْءٌ من الْإِذْخِرِ وَذَاكَ زِيَادَةٌ في الْكَفَنِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ على ما عليه حتى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ من بَابِ الْكَمَالِ فَكَانَ لهم ذلك وَالنُّقْصَانُ من بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عن الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عليه من الثِّيَابِ ما يَضُرُّ تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَهُوَ كَغَيْرِهِ من الْمَوْتَى
وقال الشَّافِعِيُّ أنه لَا يُصَلَّى عليه كما لَا يُغَسَّلُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما صلى على أَحَدٍ من شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ له وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ وَالشَّهِيدُ قد تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ عن دَنَسِ الذُّنُوبِ على ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ فاستغنى عن ذلك كما استغنى عن الْغُسْلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ
____________________

(1/324)


الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ في كِتَابِهِ وَالصَّلَاةُ على الْمَيِّتِ لَا على الْحَيِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ حتى رُوِيَ أَنَّهُ صلى على حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً وَبَعْضُهُمْ أَوَّلُوا ذلك بِأَنَّهُ كان يؤتي بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عليه رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَحَمْزَةُ رضي اللَّهُ عنه بين يَدَيْهِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كان يُصَلِّي على حَمْزَةَ في كل مَرَّةٍ فروي أَنَّهُ صلى عليه سَبْعِينَ صَلَاةً وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان ذلك على حَسَبِ الرِّوَايَةِ وكان مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ وما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَقِيلَ أنه كان يَوْمَئِذٍ مَشْغُولًا فإنه قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فلم يَكُنْ حَاضِرًا حين صلى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عليهم فَلِهَذَا روي ما روي وَمَنْ شَاهَدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قد رُوِيَ أَنَّهُ صلى عليهم ثُمَّ سمع جَابِرٌ مُنَادِيَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى في مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فيها وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بها الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَفَرَةِ وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ وما ذُكِرَ من حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالشَّهَادَةِ فَالْعَبْدُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ لَا يستغنى عن الدُّعَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّ دَرَجَتَهُ كانت فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْحَيَاةِ في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فَأَمَّا في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ وَتُنْكَحُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عليه من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَيِّتًا فيه فَيُصَلَّى عليه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
____________________

(1/325)



كِتَابُ الزَّكَاةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالزَّكَاةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ فَالْفَرْضُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرُ
وَزَكَاةُ الْمَالِ نَوْعَانِ زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهِيَ الْعُشْرُ أو نِصْفُ الْعُشْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أما الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها }
وَقَوْلُهُ عز وجل { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هو الزَّكَاةُ
وَقَوْلُهُ { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ فَكُلُّ مَالٍ لم تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال كُلُّ مَالٍ أُدِّيَتْ الزَّكَاةُ عنه فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كان تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ وَكُلُّ مَالٍ لم تُؤَدَّ الزَّكَاةُ عنه فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كان على وَجْهِ الْأَرْضِ فَقَدْ أُلْحِقَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولم يُنْفِقْهَا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ
وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ } وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إنْفَاقٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وقَوْله تَعَالَى { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
وقَوْله تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ من بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما وَرَدَ في الْمَشَاهِيرِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ
وَرُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما من صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا جُعِلَتْ له يوم الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ ثُمَّ أُحْمِيَ عليها في نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بها جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ في يَوْمٍ كان مِقْدَارُهُ
____________________

(2/2)


خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حتى يُقْضَى بين الناس فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ وما من صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا أُتِيَ بها يوم الْقِيَامَةِ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا
ثُمَّ ذَكَرَ فيه ما ذَكَرَ في الْأَوَّلِ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ فَصَاحِبُ الْخَيْلِ قال الْخَيْلُ ثَلَاثٌ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا من رَبَطَهَا عُدَّةً في سَبِيلِ اللَّهِ فإنه لو طُوِّلَ لها في مَرْجٍ خِصْبٍ أو في رَوْضَةٍ كَتَبَ اللَّهُ له عَدَدَ ما أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ وَعَدَدَ أَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ وَإِنْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ عَجَّاجٍ لَا يُرِيدُ منه السَّقْيَ فَشَرِبَتْ كَتَبَ اللَّهُ له عَدَدَ ما شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا عِزًّا وَفَخْرًا على الْمُسْلِمِينَ كانت له وِزْرًا يوم الْقِيَامَةِ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لم يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى في رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا كانت له سِتْرًا من النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما من صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لها يوم الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تطؤه ( ( ( تطؤها ) ) ) بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في مَانِعِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ لا ( ( ( لألفين ) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يقول يا محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ ولا ( ( ( ولألفين ) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ فيقول يا محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ ولا ( ( ( ولألفين ) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لها خُوَارٌ فيقول يا محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ ولا ( ( ( ولألفين ) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ فيقول يا محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ وَالْأَحَادِيثُ في الْبَابِ كَثِيرَةٌ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّتِهَا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ من بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ على أَدَاءِ ما افْتَرَضَ اللَّهُ عز وجل عليه من التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ مَفْرُوضٌ
وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ نَفْسَ الْمُؤَدِّي عن أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ وَتُزَكِّي أَخْلَاقَهُ بِتَخَلُّقِ الْجُودُ وَالْكَرَمِ وَتَرْكِ الشُّحِّ وَالضَّنِّ إذْ الْأَنْفُسُ مَجْبُولَةٌ على الضَّنِّ بِالْمَالِ فَتَتَعَوَّدُ السَّمَاحَةَ وَتَرْتَاضُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وقد تَضَمَّنَ ذلك كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها }
وَالثَّالِثُ إن اللَّهَ تَعَالَى قد أَنْعَمَ على الْأَغْنِيَاءِ وَفَضَّلَهُمْ بِصُنُوفِ النِّعْمَةِ وَالْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عن الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَخَصَّهُمْ بها فَيَتَنَعَّمُونَ وَيَسْتَمْتِعُونَ بِلَذِيذِ الْعَيْشِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ من بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ فَرْضًا
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أنها على الْفَوْرِ وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى ما يَدُلُّ عليه فإنه قال إذَا لم يُؤَدِّ الزَّكَاةَ حتى مَضَى حَوْلَانِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ ولم يَحِلَّ له ما صَنَعَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ حَوْلٍ وَاحِدٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ إن من لم يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَرُوِيَ عنه أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا جوز ( ( ( يجوز ) ) ) وَهَذَا نَصٌّ على الْفَوْرِ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أنها على التَّرَاخِي وَاسْتَدَلَّ بِمَنْ عليه الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ كانت وَاجِبَةً على الْفَوْرِ لَضَمِنَ كَمَنْ أَخَّرَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عن وَقْتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ
وَذَكَرَ أبو عبد اللَّهِ الثَّلْجِيُّ عن أَصْحَابِنَا أنها تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا
وقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أنها على سَبِيلِ التَّرَاخِي وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أنها تَجِبُ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ غير عَيْنٍ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَيَتَعَيَّنُ ذلك الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وإذا لم يُؤَدِّ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ يَتَضَيَّقُ عليه الْوُجُوبُ بِأَنْ بَقِيَ من الْوَقْتِ قَدْرُ ما يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فيه وَغَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ لو لم يُؤَدِّ فيه يَمُوتُ فَيَفُوتُ فَعِنْدَ ذلك يَتَضَيَّقُ عليه الْوُجُوبُ حتى أَنَّهُ لو لم يُؤَدِّ فيه حتى مَاتَ يَأْثَمُ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عن الْوَقْتِ هل يَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ على الْفَوْرِ أَمْ على التَّرَاخِي كَالْأَمْرِ بِقَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وقال إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ أنه يَجِبُ تَحْصِيلُ لفعل ( ( ( الفعل ) ) ) على الْفَوْرِ وهو الْفِعْلُ في أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ مع الِاعْتِقَادِ الْمُبْهَمِ أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ بِهِ من الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَهَذِهِ من مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى مَسْأَلَةُ هَلَاكِ النِّصَابِ على هذا الْأَصْلِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا كان على التَّرَاخِي عِنْدَنَا لم يَكُنْ بِتَأْخِيرِهِ الْأَدَاءَ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطًا فَلَا يَضْمَنُ وَعِنْدَهُ لَمَّا كان الْوُجُوبُ على الْفَوْرِ صَارَ مُفَرِّطًا ( لِتَأْخِيرِهِ ) فَيُضْمَنُ وَيَجُوزُ
____________________

(2/3)


أَنْ تُبْنَى على أَصْلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ في بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا فَالْمَالُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَلِذَا تُضَافُ إلَى الْمَالِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْإِضَافَةُ في مِثْلِ هذا يُرَادُ بها السَّبَبِيَّةُ كما يُقَالُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى من عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى من عليه فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها إسْلَامُهُ حتى لَا تَجِبَ على الْكَافِرِ في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ من مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَمَّا في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا خِلَافَ في أنها لَا تَجِبُ على الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حتى لَا يُخَاطَبَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا حتى إذَا مَضَى عليه الْحَوْلُ وهو مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عليه حتى لَا يَجِبَ عليه أَدَاؤُهَا إذَا أَسْلَمَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ عليه في حَالِ الرِّدَّةِ وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لِقُدْرَتِهِ على الْأَدَاءِ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عنه الْأَدَاءُ رَحْمَةً عليه وَتَخْفِيفًا له وَالْمُرْتَدُّ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ ما عَرَفَ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ وهو الْإِسْلَامُ فَلَا يَكُونُ من أَهْلِ وُجُوبِهَا كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ
وَقَوْلُهُ إنه قَادِرٌ على الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وهو الْإِيمَانُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَالْعِبَادَاتِ تَوَابِعُ له بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلُ عِبَادَةً بِدُونِهِ وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ آيَةُ التَّبَعِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْإِيمَانُ عن الْخَلَائِقِ بِحَالٍ من الْأَحْوَالِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مع ارْتِفَاعِ غَيْرِهِ من الْعِبَادَاتِ فَكَانَ هو عِبَادَةً بِنَفْسِهِ وَغَيْرُهُ عِبَادَةً بِهِ فَكَانَ تَبَعًا له فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا من الْعِبَادَاتِ بِنَاءً على تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ جَعَلَ التَّبَعَ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَتَغْيِيرُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مع الطَّهَارَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ وَالطَّهَارَةَ تَابِعَةٌ لها فَكَانَ إيجَابُ الْأَصْلِ إيجَابًا لِلتَّبَعِ وهو الْفَرْقُ
وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فَرِيضَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بَلْ السَّبَبَ الْمُوصِلَ إلَيْهِ وَعِنْدَ زُفَرَ ليس بِشَرْطٍ حتى إن الْحَرْبِيَّ لو أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَهُ سَوَائِمُ وَلَا عِلْمَ له بِالشَّرَائِعِ لَا يَجِبُ عليه زَكَاتُهَا حتى لَا يُخَاطَبَ بِأَدَائِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهَلْ تَجِبُ عليه إذَا بَلَّغَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ في دَارِ الْحَرْبِ أو يُحْتَاجُ فيه إلَى الْعَدَدِ
وقد ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ على الصَّبِيِّ وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وابن عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ على الصَّبِيِّ حتى تَجِبَ عليه الصَّلَاةُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما وكان ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يقول يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيَتِيمِ فإذا بَلَغَ أخبره وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ لَكِنْ ليس لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ وهو قَوْلُ ابن أبي لَيْلَى حتى قال لو أَدَّاهَا الْوَلِيُّ من مَالِهِ ضُمِنَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من بَنَى الْمَسْأَلَةَ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا وَالصَّبِيُّ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا تَجِبُ عليه كما لَا يَجِبُ عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَقُّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ من أَهْلِ وُجُوبِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ولئن ( ( ( ولإن ) ) ) كانت عِبَادَةً فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تجري فيها النِّيَابَةُ حتى تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيُّ نَائِبُ الصَّبِيِّ فيها فَيَقُومُ مَقَامَهُ في إقَامَةِ هذا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فيها النِّيَابَةُ وَمِنْهُمْ من تَكَلَّمَ فيها ابْتِدَاءً
أَمَّا الْكَلَامُ فيها على وَجْهِ الْبِنَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ النَّصُّ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْحَقِيقَةُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَالْإِضَافَةُ بِحَرْفِ اللَّامِ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةِ الْمِلْكِ إذَا كان الْمُضَافُ إلَيْهِ من أَهْلِ الْمِلْكِ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّ من عليه الزَّكَاةُ إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ من الْفَقِيرِ ولم تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَلِذَا يجري فيها الْجَبْرُ والاستخلاف ( ( ( والاستحلاف ) ) ) من السَّاعِي
____________________

(2/4)


وَإِنَّمَا يَجْرِيَانِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالذِّمِّيُّ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فإن الزَّكَاةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ من الْفَقِيرِ وَالْمُنْتَفِعُ بها هو الْفَقِيرُ فَكَانَتْ حَقَّ الْفَقِيرِ وَالصِّبَا لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ الْعِبَادِ على ما بَيَّنَّا
وَلَنَا قَوْلُ النبي بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وما بُنِيَ عليه الْإِسْلَامُ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْعِبَادَاتُ التي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ تُقَدَّرُ في الْجُمْلَةِ فَلَا تَجِبُ على الصِّبْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ من الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فيها مَحِلُّ الصَّدَقَةِ وهو الْمَالُ لَا نَفْسُ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْفِعْلِ وهو إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّ الْفَقِيرِ وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ في الْآيَةِ الْأُخْرَى الْمُرَادُ منه الْمَالُ وَذَا ليس بِزَكَاةٍ بَلْ هو مَحِلُّ الزَّكَاةِ وَسُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ النِّصَابِ من الْفَقِيرِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ دَلَالَةٌ وَالْجَبْرُ على الْأَدَاءِ لِيُؤَدِّيَ من عليه بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ حتى لو مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ من غَيْرِ أَدَاءِ من عليه لَا تَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَجَرَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلسَّاعِي لِيُؤَدِّيَ من عليه بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الزَّكَاةِ حَقَّ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي في الْحَقِيقَةِ هو الْمُوَكِّلُ وَالْخَرَاجُ ليس بِعِبَادَةٍ بَلْ هو مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ على قَوْلِ حمد ( ( ( محمد ) ) ) وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ من وَجْهٍ قال النبي أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ فَتَجِبُ بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ لَا بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ وهو الْجَوَابُ عن الْعُشْرِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ على وَجْهِ الِابْتِدَاءِ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِمَا روى عن النبي أَنَّهُ قال ابْتَغُوا في أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كيلا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ وَلَوْ لم تَجِبْ الزَّكَاةُ في مَالِ الْيَتِيمِ ما كانت الصَّدَقَةُ تَأْكُلُهَا
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ
وَرُوِيَ من وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ وَلِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْبَالِغِينَ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وقد وُجِدَ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيه كَالْبَالِغِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ على الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الزَّكَاةِ إيجَابُ الْفِعْلِ وَإِيجَابُ الْفِعْلِ على الْعَاجِزِ عن الْفِعْلِ تَكْلِيفُ ما ليس في الْوُسْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ على الْوَلِيِّ لِيُؤَدِّيَ من مَالِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْهِيٌّ عن قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ من مَالِهِ قُرْبَانُ مَالِهِ لَا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْخِلَافِيَّاتِ وَالْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ أو من الْآحَادِ فَلَا يُعَارِضَانِ الْكِتَابَ مع ما أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يُطْلَقُ على النَّفَقَةِ قال نَفَقَةُ الرَّجُلِ على نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ وفي الحديث ما يَدُلُّ عليه لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ هِيَ التي تَأْكُلُ الْجَمِيعَ لَا الزَّكَاةُ أو تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ على صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى زَكَاةً
وَأَمَّا قَوْلُهُ من وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ أَيْ لِيَتَصَرَّفْ في مَالِهِ كَيْ يَنْمُوَ مَالُهُ إذْ التَّزْكِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ أو هِيَ مَخْصُوصَةٌ فَتَخُصُّ الْمُتَنَازِعَ فيه بِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْعَقْلُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الْمَجْنُونِ جُنُونًا أَصْلِيًّا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجُنُونَ نَوْعَانِ أَصْلِيٌّ وطارىء ( ( ( وطارئ ) ) ) أَمَّا الْأَصْلِيُّ وهو أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا فَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُمْنَعُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ على النِّصَابِ حتى لَا يَجِبَ عليه أَدَاءُ زَكَاةِ ما مَضَى من الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ من وَقْتِ الْإِفَاقَةِ لِأَنَّهُ الْآنَ صَارَ أَهْلًا لَأَنْ يَنْعَقِدَ الْحَوْلُ على مَالِهِ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه أَدَاءُ زَكَاةِ ما مَضَى من زَمَانِ الصِّبَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ على مَالِهِ من وَقْتِ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا كَذَا هذا وَلِهَذَا مُنِعَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ كَذَا الزَّكَاةَ
وَأَمَّا الْجُنُونُ الطارىء فَإِنْ دَامَ سَنَةً كَامِلَةً فَهُوَ في حُكْمِ الْأَصْلِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ في حَقِّ الصَّوْمِ كَذَلِكَ كَذَا في حَقِّ الزَّكَاةِ لِأَنَّ السَّنَةَ في الزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ في الصَّوْمِ وَالْجُنُونُ الْمُسْتَوْعِبُ لِلشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَالْمُسْتَوْعِبُ لِلسَّنَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فَكَذَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كان في بَعْضِ السَّنَةِ ثُمَّ أَفَاقَ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ في شَيْءٍ من السَّنَةِ وَإِنْ كان سَاعَةً من الْحَوْلِ من أَوَّلِهِ أو وَسَطِهِ أو آخِرِهِ تَجِبُ زَكَاةُ ذلك الْحَوْلِ وهو رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا
وَرَوَى هِشَامٌ عنه أَنَّهُ قال إنْ أَفَاقَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا كان في أَكْثَرُ السَّنَةِ مُفِيقًا فَكَأَنَّهُ كان مُفِيقًا في جَمِيعِ السَّنَةِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فيه
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ هو اعْتِبَارُ
____________________

(2/5)


الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ وهو اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ الْإِفَاقَةُ في جُزْءٍ من الشَّهْرِ يَكْفِي لِوُجُوبِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَذَا الْإِفَاقَةُ في جُزْءٍ من السَّنَةِ تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْحَوْلِ على الْمَالِ
وَأَمَّا الذي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وهو بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عليه
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْمِلْكَ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُ وَالْمَمْلُوكُ لَا مِلْكَ له حتى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ على الْعَبْدِ وَإِنْ كان مَأْذُونًا له في التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا زَكَاةَ فيه على أَحَدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كان يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا زَكَاةَ على الْمُكَاتَبِ في كَسْبِهِ لِأَنَّهُ ليس مِلْكَهُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الرِّقِّ فيه بِشَهَادَةِ النبي الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ
وَأَمَّا الْمُسْتَسْعَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَنْظُرُ إنْ كان فَضَلَ عن سِعَايَتِهِ ما يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ عليه وَإِلَّا فَلَا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عليه دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ عِنْدَنَا فَإِنْ كان فإنه يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ حَالًّا كان أو مُؤَجَّلًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَالدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَيْفَمَا كان احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ أو لِلْإِسَامَةِ وقد وُجِدَ أَمَّا الْمِلْكُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ في ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه كَيْفَ شَاءَ وَأَمَّا الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ أو الْإِسَامَةِ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُنَافِي ذلك وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ ( لَا يَمْنَعُ ) وُجُوبَ الْعُشْرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ في شَهْرِ رَمَضَانَ وقال في خُطْبَتِهِ أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قد حَضَرَ فَمَنْ كان له مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْسِبْ مَالَهُ بِمَا عليه ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ وكان بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ منهم فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا منهم على أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ خَارِجٌ عن عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هذا الْمَالِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الغني وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عن ظَهْرِ غِنًى على لِسَانِ رسول اللَّهِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَشَرْطَهُ لِأَنَّ صِفَةَ الْغِنَى مع ذلك شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ مع الدَّيْنِ مع ما أَنَّ مِلْكَهُ في النِّصَابِ نَاقِصٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يأخذ ( ( ( يأخذه ) ) ) من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رضاء ( ( ( إرضاء ) ) )
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له ذلك في الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ وَذَا آيَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كما في الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ رَوَى ابن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فَيُمْنَعُ على هذه الرِّوَايَةِ وَأَمَّا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه غِنَى الْمَالِكِ وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فيه أَصْلُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا حتى يَجِبَ في الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فإنه لَا بُدَّ فيها من غِنَى الْمَالِكِ وَالْغِنَى لَا يُجَامِعُ الدَّيْنَ وَعَلَى هذا يُخْرَجُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ فإنه يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا مُعَجَّلًا كان أو مُؤَجَّلًا لِأَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً فَأَمَّا الْمُعَجَّلُ فَيُطَالَبُ بِهِ عَادَةً فَيَمْنَعُ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان الزَّوْجُ على عَزْمٍ من قَضَائِهِ يَمْنَعُ وَإِنْ لم يَكُنْ على عَزْمِ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمَرْءُ بِمَا عِنْدَهُ في الْأَحْكَامِ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ في الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ التي تَعَارَفَهَا أَهْلُ بُخَارَى أَنَّ الزَّكَاةَ في الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ تَجِبُ على الْآجِرِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قبل الْفَسْخِ وَإِنْ كان يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْلِ بِالْفَسْخِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا أنه يَجِبُ على الْمُسْتَأْجَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعُدُّ ذلك مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْآجِرِ وَقَالُوا في الْبَيْعِ الذي اعْتَادَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وهو بَيْعُ الْوَفَاءِ إنَّ الزَّكَاةَ على الْبَائِعِ في ثَمَنِهِ إنْ بَقِيَ حَوْلًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا يَجِبُ أَنْ يُلْزَمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعُدُّهُ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُؤَاخَذُ ( بِمَا عِنْدَهُ ) وَقَالُوا فِيمَنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ أنه إنْ كان في الْحَوْلِ يَمْنَعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَارَنَ الْمُوجِبَ فَيُمْنَعُ الْوُجُوبُ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَادِثٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُقْتَصِرٌ على حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كان الضَّمَانُ سَبَبًا حتى
____________________

(2/6)


اُعْتُبِرَ من جَمِيعِ الْمَالِ وإذا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لم يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَبْلَهُ
وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فما لم يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهَا تَجِبُ شيئا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا لم يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي في مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نحو ما دُونَ الشَّهْرِ فَتَصِيرُ دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كانت الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ في الْجُمْلَةِ في نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَيْضًا لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا بِالتَّرَاضِي في الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ
وَقَالُوا دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ
فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ وَالطَّعَامُ ليس مَالَ التِّجَارَةِ حتى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ
وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ في النِّصَابِ أو دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ أُتْلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ حتى انْتَقَلَ من الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كان في الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أو الْبَاطِنَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ في النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ ولم يَفْصِلْ بين الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هذا مَذْهَبُهُ في الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَوَجْهُ هذا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فلم يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ من جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كانت في الْعَيْنِ أو في الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى من الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بين وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هو أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ في الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ من النِّصَابِ وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ من النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ
وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ ما حُجَّتُكَ على زُفَرَ فقال ما حُجَّتِي على من يُوجِبُ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْأَمْرُ على ما قَالَهُ أبو يُوسُفَ لِأَنَّهُ إذَا كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ في الْمَالِ أَكْثَرَ منه بِأَضْعَافِهِ وأنه قَبِيحٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ ذلك دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ
أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بها من جِهَةِ السُّلْطَانِ عَيْنًا كان أو دَيْنًا وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أو أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أو ما أَشْبَهَ ذلك فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ الْعِبَادِ
وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بها أَيْضًا تَقْدِيرًا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وكان يَأْخُذُهَا رسول اللَّهِ وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فلما كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ في زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ في تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ في أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عن الْإِمَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال من كان عليه دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وليزك ( ( ( وليترك ) ) ) ما بَقِيَ من مَالِهِ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عن الْأَخْذِ
وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ من أَهْلِ بَلْدَةٍ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ من الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فإنه يُطَالِبُهُمْ بها لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ من غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ من أَرْبَابِهَا ليس له ذلك لِمَا فيه من مُخَالِفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّهُ إذَا كان لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أو عشرون ( ( ( عشرين ) ) ) مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ الْأُولَى وَلَيْسَ عليه لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ وَكَذَا هذا في مَالِ التِّجَارَةِ وَكَذَا في السَّوَائِمِ إذَا كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى عليها سَنَتَانِ ولم يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عليه لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَوْ كانت عَشْرًا وَحَالَ عليها حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ وَلَوْ كانت الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَلَوْ كان له ثَلَاثُونَ من الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كانت أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَإِنْ كان له أَرْبَعُونَ من الْغَنَمِ عليه لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ كانت مِائَةً
____________________

(2/7)


وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ عليه لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ في خِلَالِ الْحَوْلِ هل يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ
قال أبو يُوسُفَ لَا يَنْقَطِعُ حتى إذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ أو بِالْإِبْرَاءِ قبل تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ
وقال زُفَرُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على نُقْصَانِ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالدَّيْنِ يَنْعَدِمُ كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ صِفَةُ الْغِنَى في الْمَالِكِ فَكَانَ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ في أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَعِنْدَنَا نُقْصَانُ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْطَعُ على ما نَذْكُرُ فَهَذَا مِثْلُهُ
وَأَمَّا الدُّيُونُ التي لَا مَطَالِبَ لها من جِهَةِ الْعِبَادَاتِ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ وَنَحْوِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِأَنَّ أَثَرَهَا في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وهو الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ فَأَمَّا لَا أَثَرَ له في أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَا يُحْبَسُ فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ حُكْمٍ من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا
ثُمَّ إذَا كان على الرَّجُلِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ من عَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَدُورِ السُّكْنَى فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كان من جِنْسِ الدَّيْنِ أو لَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ وَإِنْ كان من جِنْسِ الدَّيْنِ
وقال زُفَرُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ حتى أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ امْرَأَةً على خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ فَدَيْنُ الْمَهْرِ يُصْرَفُ إلَى الْمِائَتَيْنِ دُونَ الْخَادِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَادِمِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ من الْجِنْس أَيْسَرُ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ عَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ مُسْتَحَقٌّ كَسَائِرِ الْحَوَائِجِ وَمَالُ الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عنها فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَيْسَرُ وَأَنْظُرُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى ثِيَابِ بَدَنِهِ وَقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ وَإِنْ كان من جِنْسِ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ لو تَصَدَّقَ عليه لم يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ إن مَالَ الزَّكَاةِ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا يُحَرِّمُ عليه أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ فَقِيرًا وَلَا زَكَاةَ على الْفَقِيرِ وَلَوْ كان في يَدِهِ من أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ فإنه يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّوَائِمِ لِأَنَّ زَكَاةَ هذه الْجُمْلَةِ يُؤَدِّيهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ وَزَكَاةُ السَّوَائِمِ يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ في الصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ ضَنًّا بمالهم فَكَانَ صَرْفُ الدَّيْنِ إلَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ لِيَأْخُذَ السُّلْطَانُ زَكَاةَ السَّوَائِمِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَنَا
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ كان من السَّوَائِمِ حتى إنَّ من تَزَوَّجَ امْرَأَةً على خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَهُ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَإِبِلٌ سَائِمَةٌ فإن عِنْدَهُ يُصْرَفُ الْمَهْرُ إلَى الْإِبِلِ وَعِنْدَنَا يُصْرَفُ إلَى مَالِ التِّجَارَةِ لِمَا مَرَّ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ هذا إذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ من الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ من السَّائِمَةِ لِأَنَّ في حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ في حَقِّ الْمُصْدِقِ فإن له وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ من السَّائِمَةِ دُونَ الدَّرَاهِمِ فَلِهَذَا إذَا حَضَرَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ من السَّائِمَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له مَالُ الزَّكَاةِ سِوَى السَّوَائِمِ فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَمْوَالِ الْبِذْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كان له أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ من السَّوَائِمِ فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حتى يَجِبَ الْأَكْثَرُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ من الْبَقَرِ
____________________

(2/8)


وَأَرْبَعُونَ شَاةً فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ أو الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ حتى يَجِبَ التَّبِيعُ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ قِيمَةً من الشَّاةِ وَهَذَا إذَا صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ شَيْءٌ منه فَأَمَّا إذَا اسْتَغْرَقَ أَحَدُهُمَا وَفَضَلَ منه شَيْءٌ وَإِنْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ لَا يَفْضُلُ منه شَيْءٌ فإنه يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ شَيْءٌ منه يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ وَامْتَنَعَ وُجُوبُ التَّبِيعِ تَجِبُ الشَّاتَانِ لِأَنَّهُ لو صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الْغَنَمِ يَبْقَى نِصَابُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ كَامِلًا وَالتَّبِيعُ أَقَلُّ قِيمَةً من شَاتَيْنِ
وَلَوْ لم يَكُنْ له إلَّا الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ الدَّيْنَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ لِاسْتِوَائِهِمَا في قَدْرِ الْوَاجِبِ وهو الشَّاةُ وَذَكَرَ في نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْمُصْدِقِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ من الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ لِأَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ في الْإِبِلِ لَيْسَتْ من نَفْسِ النِّصَابِ فَلَا يَنْتَقِصُ النِّصَابُ بِأَخْذِهَا وَلَوْ صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ يَأْخُذُ الشَّاةَ من الْأَرْبَعِينَ فَيَنْتَقِصُ النِّصَابُ فَكَانَ هذا أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ وَلَوْ كان له خَمْسٌ وَعِشْرُونَ من الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ بَقَرًا وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كان الدَّيْنُ لَا يَفْضُلُ عن الْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى الشَّاةِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ زَكَاةً فَإِنْ فَضَلَ منه يُنْظَرُ إنْ كان بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَقَلَّ قِيمَةً من الشَّاةِ وَتَبِيعٌ وَسْطٌ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ قِيمَةً منها يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّ هذا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَالْمَدَارُ على هذا الْحَرْفِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له مَالٌ لِلزَّكَاةِ فإنه يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى عُرُوضِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى الْعَقَارِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِمَّا يُسْتَحْدَثُ في الْعُرُوضِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَأَمَّا الْعَقَارُ فَمِمَّا لَا يُسْتَحْدَثُ فيه الْمِلْكُ غَالِبًا فَكَانَ فيه مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمَا جميعا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ فَمِنْهَا الْمِلْكُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهَذَا لِأَنَّ في الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ في غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ وإلا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمَالِ الذي اسْتَوْلَى عليه الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهُ بديارهم ( ( ( بدراهم ) ) ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ عِنْدَنَا فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عنها وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ قَائِمٌ وَإِنْ زَالَتْ يَدُهُ عنه وَالزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وهو أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا له رَقَبَةً وَيَدًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ الْيَدُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمَالِ الضِّمَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا
وَتَفْسِيرُ مَالِ الضِّمَارِ هو كُلُّ مَالٍ غَيْرُ مَقْدُورٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مع قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ وَالْمَالِ السَّاقِطِ في الْبَحْرِ وَالْمَالِ الذي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إذَا لم يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ صَارَ له بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ الناس وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ في الصَّحْرَاءِ إذَا خَفِيَ على الْمَالِكِ مَكَانُهُ فَإِنْ كان مَدْفُونًا في الْبَيْتِ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ
وفي الْمَدْفُونِ في الْكَرْمِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ احتجا ( ( ( احتجاجا ) ) ) بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ بِدَلِيلِ ابْنِ السَّبِيلِ فإنه تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِهِ وَإِنْ كانت يَدُهُ فَائِتَةً لِقِيَامِ مِلْكِهِ
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في الدَّيْنِ مع عَدَمِ الْقَبْضِ وَتَجِبُ في الْمَدْفُونِ في الْبَيْتِ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِعَجْزِهِ عن الْأَدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عنه وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ كما في ابْنِ السَّبِيلِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا زَكَاةَ في مَالِ الضِّمَارِ وهو الْمَالُ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مع قِيَامِ الْمِلْكِ مَأْخُوذٌ من الْبَعِيرِ الضَّامِرِ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشِدَّةِ هُزَالِهِ مع كَوْنِهِ حَيًّا وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بها في حَقِّ الْمَالِكِ لِعَدَمِ وُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا فَكَانَتْ ضِمَارًا وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا لم يَكُنْ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ في حَقِّ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا وَلَا زَكَاةَ على غَيْرِ الغني بِالْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا وَمَالُ ابن السَّبِيلِ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِهِ في حَقِّهِ بِيَدِ نَائِبِهِ وَكَذَا الْمَدْفُونُ في الْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّبْشِ بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ لِأَنَّ نَبْشَ كل الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مَقْدُورٍ له وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إذَا كان الْمُقِرُّ مَلِيًّا فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَيْهِ
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ فَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان له بَيِّنَةٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه لِأَنَّهُ يمكن ( ( ( يتمكن ) ) ) الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فإذا لم يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ فلم يُعْذَرْ وقال بَعْضُهُمْ لَا تَجِبُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قد يَفْسُقُ إلَّا إذَا كان الْقَاضِي عَالِمًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ يقضي بِعِلْمِهِ فَكَانَ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنْ كان الْمَدْيُونُ يُقِرُّ في السِّرِّ وَيَجْحَدُ في الْعَلَانِيَةِ فَلَا زَكَاةَ فيه كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِإِقْرَارِهِ في السِّرِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَإِنْ كان الْمَدْيُونُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ مُفْلِسٌ فَإِنْ لم يَكُنْ مَقْضِيًّا عليه بِالْإِفْلَاسِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه في قَوْلِهِمْ جميعا
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لَا زَكَاةَ فيه لِأَنَّ الدَّيْنَ على الْمُعْسِرِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ ضِمَارًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ على الْكَسْبِ وَالِاسْتِقْرَاضِ مع إن الْإِفْلَاسَ مُحْتَمَلُ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَإِنْ كان مَقْضِيًّا عليه بِالْإِفْلَاسِ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ لَا زَكَاةَ فيه فَمُحَمَّدٌ مَرَّ على أَصْلِهِ لِأَنَّ التَّفْلِيسَ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَجْزٍ لِأَنَّهُ يَسُدُّ عليه بَابَ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ الناس لَا يُعَامِلُونَهُ بِخِلَافِ الذي لم يُقْضَ عليه بِالْإِفْلَاسِ وأبو حَنِيفَةَ مَرَّ على أَصْلِهِ لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ في حَالِ الْحَيَاةِ وَالْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلٌ وأبو يُوسُفَ وَإِنْ كان يَرَى التَّفْلِيسَ لَكِنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ في الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ الدَّيْنُ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ في الْجُمْلَةِ فَكَانَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ في تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيه
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ وَدِيعَةً ثُمَّ نَسِيَ
____________________

(2/9)


الْمُودَعُ فَإِنْ كان الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ من مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا تَذَكَّرَ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمَعْرُوفِ نَادِرٌ فَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ قَائِمًا وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عليه فِيمَا مَضَى لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ في دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ ليس بِدَيْنٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ فَلِهَذَا لم تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ إذ هو مِلْكُ الْمَوْلَى من وَجْهٍ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ من وَجْهٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ في اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فلم يَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى مُطْلَقًا بَلْ كان نَاقِصًا وَكَذَا الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ مِلْكُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فيها مُتَزَلْزِلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو مَاتَ وَاحِدٌ من الْعَاقِلَةِ سَقَطَ ما عليه فلم يَكُنْ مِلْكًا مُطْلَقًا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في الدَّيْنِ الذي وَجَبَ لِلْإِنْسَانِ لَا بَدَلًا عن شَيْءٍ رَأْسًا كَالْمِيرَاثِ الدين ( ( ( بالدين ) ) ) وَالْوَصِيَّةِ بِالدِّينِ أو وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ أَصْلًا كَالْمَهْرِ لِلْمَرْأَةِ على الزَّوْجِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ على الْمَرْأَةِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الدُّيُونِ أنها على ثَلَاثِ مَرَاتِبَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةِ دَيْنٌ قَوِيٌّ وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ وَدَيْنٌ وَسَطٌ كَذَا قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا
أَمَّا الْقَوِيُّ فَهُوَ الذي وَجَبَ بَدَلًا عن مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَرَضِ التِّجَارَةِ من ثِيَابِ التِّجَارَةِ وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ أو غَلَّةِ مَالِ التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ من زَكَاةِ ما مَضَى ما لم يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَكُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى دِرْهَمًا وَاحِدًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كُلَّمَا قَبَضَ شيئا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أو كَثُرَ
وَأَمَّا الدَّيْنُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الذي وَجَبَ له بَدَلًا عن شَيْءٍ سَوَاءٌ وَجَبَ له بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْمِيرَاثِ أو بِصُنْعِهِ كالوصية ( ( ( كما ) ) ) أو وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا زَكَاةَ فيه ما لم يُقْبَضْ كُلُّهُ وَيَحُولُ عليه الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْوَسَطُ فما وَجَبَ له بَدَلًا عن مَالٍ ليس لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ عبد الْخِدْمَةِ وَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عنه ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ قبل الْقَبْضِ لَكِنْ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ ما لم يَقْبِضْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فإذا قَبَضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَّى لِمَا مَضَى وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فيه حتى يَقْبِضَ الْمِائَتَيْنِ وَيَحُولَ عليه الْحَوْلُ من وَقْتِ الْقَبْضِ وهو أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عنه
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها قبل الْقَبْضِ إلَّا الدِّيَةَ على الْعَاقِلَةِ وَمَالَ الْكِتَابَةِ فإنه لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها أَصْلًا ما لم تُقْبَضْ وَيَحُولُ عليها الْحَوْلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ما سِوَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِلْكًا مُطْلَقًا رَقَبَةً وَيَدًا لِتَمَكُّنِهِ من الْقَبْضِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وهو الْعَيْنُ فَتَجِبُ فيه الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ ليس في يَدِهِ حَقِيقَةً فإذا حَصَلَ في يَدِهِ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ كما هو مذهبهما ( ( ( مذهبهم ) ) ) في الْعَيْنِ فِيمَا زَادَ على النِّصَابِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ ذلك ليس بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ بَلْ هو مِلْكٌ نَاقِصٌ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّيْنَ ليس بِمَالٍ بَلْ هو فِعْلٌ وَاجِبٌ وهو فِعْلُ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ في الْمَالِ فإذا لم يَكُنْ مَالًا لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وَدَلِيلُ كَوْنِ الدَّيْنِ فِعْلًا من وُجُوهٍ ذَكَرْنَاهَا في الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عن مَيِّتٍ مُفْلِسٍ في الْخِلَافِيَّاتِ كان يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ في دَيْنٍ مالم يُقْبَضْ وَيَحُولُ عليه الْحَوْلُ إلَّا أَنَّ ما وَجَبَ له بَدَلًا عن مَالِ التِّجَارَةِ أعطى له حُكْمُ الْمَالِ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو فَصَارَ كَأَنَّ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ في يَدِهِ وَأَنَّهُ مَالُ التِّجَارَةِ وقد حَالَ عليه الْحَوْلُ في يَدِهِ
وَالثَّانِي إنْ كان الدَّيْنُ مَالًا مَمْلُوكًا أَيْضًا لَكِنَّهُ مَالٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ حَقِيقَةً بَلْ هو مَالٌ حُكْمِيٌّ في الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فلم يَكُنْ مَالًا مَمْلُوكًا رَقَبَةً وَيَدًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه كَمَالِ الضِّمَارِ فَقِيَاسُ هذا أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ في الدُّيُونِ كُلِّهَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ بِفَوَاتِ الْيَدِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ الذي هو بَدَلُ مَالِ التِّجَارَةِ الْتَحَقَ بِالْعَيْنِ في احْتِمَالِ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ مَالِ التِّجَارَةِ قَابِلٌ القبض ( ( ( للقبض ) ) ) وَالْبَدَلُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَابِلَةٌ لِلْقَبْضِ فَكَذَا ما يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا ليس بِبَدَلٍ رَأْسًا وَلَا فِيمَا هو بَدَلٌ عَمَّا ليس بِمَالٍ وَكَذَا في بَدَلِ مَالٍ ليس لِلتِّجَارَةِ على الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ ما لم يُقْبَضْ قَدْرُ النِّصَابِ وَيَحُولُ عليه الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ ليس لِلتِّجَارَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَلَوْ كان الْمُبْدَلُ قَائِمًا في يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه فَكَذَا في بَدَلِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ مَالِ التِّجَارَةِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في إخْرَاجِ زَكَاةٍ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ من الدَّيْنِ الذي تَجِبُ فيه
____________________

(2/10)


الزَّكَاةُ على نَحْوِ الْكَلَامِ في الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كان زَائِدًا على قَدْرِ النِّصَابِ وَحَالَ عليه الْحَوْلُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ هُنَاكَ ما لم يَكُنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا أَيْضًا لَا يُخْرِجُ شيئا من زَكَاةِ الْمَقْبُوضِ ما لم يَبْلُغْ الْمَقْبُوضُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيُخْرِجُ من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَقْبِضُهَا دِرْهَمًا
وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ قَدْرَ ما قَبَضَ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أو كَثُرَ كما في الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كان زَائِدًا على النِّصَابِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فيه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا إذَا لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فَأَمَّا إذَا كان له مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فما قَبَضَ منه فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفَادِ فَيُضَمُّ إلَى ما عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ نَامِيًا لِأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ وهو النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا من الْمَالِ النَّامِي وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ بِالتِّجَارَةِ أو بِالْإِسَامَةِ لِأَنَّ الْإِسَامَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالسِّمَنِ وَالتِّجَارَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرِّبْحِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَالسَّفَرِ مع الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحِ مع الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ مع الْحَدَثِ وَنَحْوِ ذلك وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الغنا وَمَعْنَى النَّعْمَةِ وهو التَّنَعُّمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عن طِيبِ النَّفْسِ إذْ الْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ غَنِيًّا عنه وَلَا يَكُونُ نَعْمَةً إذْ التَّنَعُّمُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لِأَنَّهُ من ضَرُورَاتِ حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهُ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَن وَلَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عن طِيبِ نَفْسٍ فَلَا يَقَعُ الْأَدَاءُ بِالْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بها لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ فَلَا تَقَعُ زَكَاةٌ إذْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عليه فَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ عن الْحَاجَةِ فَيُقَامُ دَلِيلُ الْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ مَقَامَهُ وهو الْإِعْدَادُ لِلْإِسَامَةِ وَالتِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ هذا ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في كل مَالٍ سَوَاءٌ كان نَامِيًا فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ أو لَا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَالْعَلُوفَةِ وَالْحَمُولَةِ وَالْعَمُولَةِ من الْمَوَاشِي وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرَاكِبِ وَكِسْوَةِ الْأَهْلِ وَطَعَامِهِمْ وما يُتَجَمَّلُ بِهِ من آنِيَةٍ أو لُؤْلُؤٍ أو فُرُشٍ وَمَتَاعٍ لم يُنْوَ بِهِ التِّجَارَةُ وَنَحْوِ ذلك وَاحْتُجَّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ نحو قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }
وَقَوْلُهُ عز وجل { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }
وقَوْله تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَغَيْرِ ذلك وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَمَعْنَى النِّعْمَةِ في هذه الْأَمْوَالِ أَتَمُّ وَأَقْرَبُ لِأَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الْبَقَاءِ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الشُّكْرِ
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا بُدَّ منه لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك في هذه الْأَمْوَالِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْعُمُومَاتِ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ الْفَاضِلَةُ عن الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أنها نِعْمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ فيها يَرْجِعُ إلَى الْبَدَنِ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الضَّرُورِيَّةَ وَهِيَ حَاجَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عن الْبَدَنِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ من الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذلك
وقَوْله تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } دَلِيلُنَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَارَةٌ عن النَّمَاءِ وَذَلِكَ من الْمَالِ النَّامِي على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَاهُ وهو أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَذَلِكَ بِالْإِعْدَادِ لِلْإِسَامَةِ في الْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ في الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا في دَفْعِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْدَادِ من الْعَبْدِ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ إذْ النِّيَّةُ لِلتَّعْيِينِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيها نَوَى التِّجَارَةَ أو لم يَنْوِ أَصْلًا أو نَوَى النَّفَقَةَ وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الْأَثْمَانِ من الْعُرُوضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِعْدَادُ فيها لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا كما تَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ منها ذلك فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ وَكَذَا في الْمَوَاشِي لَا بُدَّ فيها من نِيَّةِ الْإِسَامَةِ لِأَنَّهَا كما تَصْلُحُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَاللَّحْمِ فَلَا بُدَّ من النِّيَّةِ
ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لَا تُعْتَبَرُ ما لم تَتَّصِلْ بِفِعْلِ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ في الْأَحْكَامِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ عَفَا عن أمتي ما تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ ما لم يَتَكَلَّمُوا بِهِ أو يَفْعَلُوا
ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ قد تَكُونُ صَرِيحًا وقد تَكُونُ دَلَالَةً أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَقْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ بِأَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ الذي اشْتَرَاهَا بِهِ من الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أو من عُرُوضِ التِّجَارَةِ أو مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أو أَجَّرَ دَارِهِ بِعَرَضٍ بِنِيَّةِ
____________________

(2/11)


التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ ذلك مَالَ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ صَرِيحِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارِنًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ أَمَّا الشِّرَاءُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تِجَارَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وهو نَفْسُ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ الْإِجَارَةَ وَالنِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا من الْأَعْيَانِ وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ دُونَ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ من مَالِ التِّجَارَةِ أو من غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ التِّجَارَةِ إنْ كان دَلَالَةَ التِّجَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ صَرِيحُ نِيَّةِ الِابْتِذَالِ وَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مع الصَّرِيحِ بِخِلَافِهَا وَلَوْ مَلَكَ عُرُوضًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَصْلًا بِأَنْ وَرِثَهَا وَنَوَى التِّجَارَةَ لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عن الْعَمَلِ أَصْلًا فَضْلًا عن عَمَلِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ يَدْخُلُ في مِلْكِهِ من غَيْرِ صُنْعِهِ وَلَوْ مَلَكهَا بِعَقْدٍ ليس مُبَادَلَةً أَصْلًا كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أو بِعَقْدٍ هو مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَنَوَى التِّجَارَةَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الِاخْتِلَافَ على الْقَلْبِ فقال في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ
وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لم تُقَارِنْ عَمَلًا هو تِجَارَةٌ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ الْحَاصِلُ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وما لَا يَدْخُلُ في مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ بِكَسْبِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ قِرَانُهَا بِالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَالِ بِبَدَلِ ما هو مَالٌ وَالْقَبُولُ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلًا فلم تَكُنْ من بَابِ التِّجَارَةِ فلم تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً عَمَلَ التِّجَارَةِ
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ عُرُوضًا وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْقَرْضَ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ في الْعَاقِبَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْجَامِعِ أَنَّ من كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا مَالَ له غَيْرُهَا فَاسْتَقْرَضَ قبل حَوَلَانِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ من رَجُلٍ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ ولم تُسْتَهْلَكُ الْأَقْفِزَةُ حتى حَالَ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ عليه في الْمِائَتَيْنِ وَيُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ الْجِنْسِ الذي ليس بِمَالِ الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لو اسْتَقْرَضَ لِلتِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وهو تَبَرُّعٌ لَا تِجَارَةٌ فلم تُوجَدْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُقَارِنَةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ
وَلَوْ اشْتَرَى عُرُوضًا لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَة ثُمَّ نَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذلك لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ ما لم يَبِعْهَا فَيَكُونُ بَدَلُهَا لِلتِّجَارَةِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا كان له مَالُ التِّجَارَةِ فَنَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْبِذْلَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَسْتَعْمِلْهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ ما لم تَتَّصِلْ بِالْفِعْلِ وهو ليس بِفَاعِلٍ فَعَلَ التِّجَارَةَ فَقَدْ عزلت ( ( ( عزبت ) ) ) النِّيَّةُ عن فِعْلِ التِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ لِلْحَالِ بِخِلَافِ ما إذَا نَوَى الِابْتِذَالَ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وهو تَارِكٌ لها في الْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلٍ هو تَرْكُ التِّجَارَةِ فَاعْتُبِرَتْ
وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ السَّفَرُ مع الْإِقَامَةِ وهو أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا نَوَى السَّفَرَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ما لم يَخْرُجْ عن عُمْرَانِ الْمِصْرِ وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ في مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ وَنَظِيرُهُمَا من غَيْرِ هذا الْجِنْسِ الْكَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَ شَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِلْحَالِ وَالْمُسْلِمُ إذَا قَصَدَ أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سِنِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِلْحَالِ
وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْعُرُوضِ التي اشْتَرَاهَا لِلِابْتِذَالِ بَعْدَ ذلك عُرُوضًا أُخَرَ تَصِيرُ بَدَلَهَا لِلتِّجَارَةِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ
وَكَذَلِكَ في الْفُصُولِ التي ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَوَى لِلتِّجَارَةِ في الْوَصِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا ليس بِمَالٍ إذَا اشْتَرَى بِتِلْكَ الْعُرُوضِ عُرُوضًا أُخَرَ صَارَتْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ قد وُجِدَتْ حَقِيقَةً إلَّا أنها لم تَعْمَلُ لِلْحَالِ لِأَنَّهَا لم تُصَادِفْ عَمَلَ التِّجَارَةِ فإذا وُجِدَتْ التِّجَارَةُ بَعْدَ ذلك عَمِلَتْ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عَمَلهَا فَيَصِيرُ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ لِوُجُودِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مع التِّجَارَةِ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا من الْأَعْيَانِ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ أو يُؤَاجِرَ دَارِهِ التي لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ من الْعُرُوضِ فَيَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَنْوِ التِّجَارَةَ صَرِيحًا لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَالِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ
وَأَمَّا الشِّرَاءُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا إجَارَةُ الدَّارِ فَلِأَنَّ بَدَلَ مَنَافِعَ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ كَبَدَلِ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ في أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ
كَذَا ذُكِرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ من الْأَصْلِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ صَرِيحًا فإنه قال وَإِنْ كانت الْأُجْرَةُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ لِلتِّجَارَةِ فَأَجَّرَ الْمُؤَجِّرُ دَارِهِ بها وهو يُرِيدُ التِّجَارَةَ شَرْطُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ لِتَصِيرَ الْجَارِيَةُ لِلتِّجَارَةِ ولم يُذْكَرْ أَنَّ الدَّارَ لِلتِّجَارَةِ أو لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ بَدَلَ مَنَافِعِ الدَّارِ
____________________

(2/12)


الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلتِّجَارَةِ
وَإِنْ كانت الدَّارُ مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَكَانَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمَشَايِخُ بَلْخٍ كَانُوا يُصَحِّحُونَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ وَيَقُولُونَ إنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ كانت لِلتِّجَارَةِ لَكِنْ قد يُقْصَدُ بِبَدَلِ مَنَافِعِهَا الْمَنْفَعَةُ فَيُؤَاجِرُ الدَّابَّةَ لِيُنْفِقَ عليها وَالدَّارَ لِلْعِمَارَةِ فَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مع التَّرَدُّدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا بِالدَّرَاهِمِ أو بِالدَّنَانِيرِ أو بِمَا يُكَالُ أو يُوزَنُ مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ ما لم يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كانت الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانًا وَالْمَوْصُوفُ في الذِّمَّةِ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَثْمَانٌ عِنْدَ الناس وَلِأَنَّهَا كما جُعِلَتْ ثَمَنًا لِمَالِ التِّجَارَةِ جُعِلَتْ ثَمَنًا لِشِرَاءِ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِابْتِذَالِ وَالْقُوتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الشِّرَاءُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ مع الإحتمال
وَعَلَى هذا لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبِيدًا ثُمَّ اشْتَرَى لهم كِسْوَةً وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ كان الْكُلُّ لِلتِّجَارَةِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في الْكُلِّ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمُطْلَقُ تَصَرُّفِهِ يَنْصَرِفُ إلَى ما يُمْلَكُ دُونَ ما لَا يُمْلَكُ حتى لَا يَصِيرَ خَائِنًا وَعَاصِيًا عَمَلًا بِدِينِهِ وَعَقْلِهِ وَإِنْ نَصَّ على النَّفَقَةِ وَبِمِثْلِهِ الْمَالِكُ إذَا اشْتَرَى عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى لهم ثِيَابًا لِلْكِسْوَةِ وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ فإنه لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْمَالِكَ كما يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلتِّجَارَةِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلنَّفَقَةِ وَالْبِذْلَةِ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ من مَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ
وَأَمَّا الْأُجَرَاءُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلنَّاسِ نحو الصَّبَّاغِينَ وَالْقَصَّارِينَ وَالدَّبَّاغِينَ إذَا اشْتَرَوْا الصَّبْغَ وَالصَّابُونَ وَالدُّهْنَ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ في عَمَلِهِمْ وَنَوَوْا عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّ ذلك لِلِاسْتِعْمَالِ في عَمَلِهِمْ هل يَصِيرُ ذلك مَالَ التِّجَارَةِ رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ ليصبغ ( ( ( الصباغ ) ) ) إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لصبغ ( ( ( ليصبغ ) ) ) ثِيَابَ الناس فَعَلَيْهِ فيه الزَّكَاةُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هذا على وَجْهَيْنِ
إنْ كان شيئا يَبْقَى أَثَرُهُ في الْمَعْمُولِ فيه كَالصَّبْغِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالشَّحْمِ الذي يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ فإنه يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ
لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ مُقَابَلَةَ ذلك الْأَثَرِ وَذَلِكَ الْأَثَرُ مَالٌ قَائِمٌ فإنه من أَجْزَاءِ الصَّبْغِ وَالشَّحْمِ لَكِنَّهُ لَطِيفٌ يكون ( ( ( فيكون ) ) ) هذا تِجَارَةً
وَإِنْ كان شيئا لَا يبقي أَثَرُهُ في الْمَعْمُولِ فيه مِثْلُ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ وَالْقِلْيِ وَالْكِبْرِيتِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَة
لِأَنَّ عَيْنَهَا تَتْلَفُ ولم يَنْتَقِلْ أَثَرُهَا إلَى الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ حتى يَكُونَ له حِصَّةٌ من الْعِوَضِ بَلْ الْبَيَاضُ أَصْلِيٌّ لِلثَّوْبِ يَظْهَرُ عِنْدَ زَوَالِ الدَّرَنِ فما يَأْخُذُ من الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ عَمَلِهِ لَا بَدَلَ هذه الْآلَاتِ فلم يَكُنْ مَالَ التِّجَارَةِ
وَأَمَّا آلَاتُ الصُّنَّاعِ وَظُرُوفُ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ مع الْأَمْتِعَةِ عَادَةً وَقَالُوا في نَخَّاسِ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْمَقَاوِدَ وَالْجِلَالَ وَالْبَرَاذِعَ إنه إنْ كان يُبَاعُ مع الدَّوَابِّ عَادَةً يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لها وَإِنْ كان لَا يُبَاعُ مَعَهَا وَلَكِنْ تُمْسَكُ وَتُحْفَظُ بها الدَّوَابُّ فَهِيَ من آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ إذَا لم يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا
وقال أَصْحَابُنَا في عبد التِّجَارَةِ قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدُفِعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالِ التِّجَارَةِ وَكَذَا إذَا فَدَى بِالدِّيَةِ من الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ
وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى من الدِّيَةِ على الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أو على شَيْءٍ من الْعُرُوضِ لَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عِوَضُ الْقِصَاصِ لَا عِوَضُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ
وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْحَوْلُ في بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يُشْتَرَطُ له الْحَوْلُ من الْأَمْوَالِ وما لَا يُشْتَرَطُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وما لَا يَقْطَعُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ وهو النِّصَابُ الْمَوْجُودُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ يُشْتَرَطُ له الْحَوْلُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ نَامِيًا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالنَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِنْمَاءِ
وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ من مُدَّةٍ وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يستنمي الْمَالُ فيها بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً الْحَوْلُ فَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ في خِلَالِ الْحَوْلِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ له حَوْلٌ على حِدَةٍ أو يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فيزكي بِحَوْلِ الْأَصْلِ
جُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْمُسْتَفَادِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان مُسْتَفَادًا في الْحَوْلِ وَإِمَّا إن كان مُسْتَفَادًا بَعْدَ الْحَوْلِ وَالْمُسْتَفَادُ في الْحَوْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان من جِنْسِ الْأَصْلِ وَإِمَّا إن كان من خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ مع الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مع الْغَنَمِ فإنه لَا يُضَمُّ إلَى نِصَابِ الْأَصْلِ بَلْ يُسْتَأْنَفُ له الْحَوْلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان من جِنْسِهِ فَأَمَّا إنْ كان مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ أو حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْوَلَدِ وَالرِّبْحِ ( وَأَمَّا لم ) يَكُنْ مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كالمشتري وَالْمَوْرُوثِ وَالْمَوْهُوبِ والموصي بِهِ فَإِنْ كان مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ أو حَاصِلًا بِسَبَبِهِ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ ويزكي بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَكُنْ مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ
____________________

(2/13)


وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ فإنه يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُضَمُّ
احْتَجَّ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لم يَحُلْ عليه الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فيه وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَفَادُ أَصْلٌ في الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ فَيَكُونُ أَصْلًا في شَرْطِ الْحَوْلِ كَالْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالرِّبْحِ لِأَنَّ ذلك تَبَعٌ لِلْأَصْلِ في الْمِلْكِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا له في سَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَبَعًا في الْحَوْلِ
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْحَوْلِ إلَّا ماخص بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ من جِنْسِ الْأَصْلِ تَبَعٌ له لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عليه إذْ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عليه وَالتَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ كما لَا يُفْرَدُ بِالسَّبَبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيها بِحَوْلِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ ليس بِتَابِعٍ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَزْدَادُ بِهِ وَلَا يَتَكَثَّرُ
وَقَوْلُهُ إنه أَصْلٌ في الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في سَبَبِ الْمِلْكِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ كَوْنَهُ أَصْلًا من هذا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ تَبَعًا من الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا وهو أَنَّ الْأَصْلَ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ فَكَانَ أَصْلًا من وَجْهٍ وَتَبَعًا من وَجْهٍ فَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ في حَقِّ الْحَوْلِ احْتِيَاطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَامٌّ خُصَّ منه بَعْضُهُ وهو الْوَلَدُ وَالرِّبْحُ فَيَخُصُّ الْمُتَنَازَعَ فيه بِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ إنَّمَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادَ عِنْدَنَا إلَى أَصْلِ الْمَالِ إذَا كان الْأَصْلُ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كان أَقَلَّ من النِّصَابِ فإنه لَا يُضَمُّ إلَيْهِ وَإِنْ كان يَتَكَامَلُ بِهِ النِّصَابُ وَيَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا حَالَ وُجُودِ الْمُسْتَفَادِ لِأَنَّهُ إذَا كان أَقَلَّ من النِّصَابِ لم يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ على الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ على الْمُسْتَفَادِ من طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ
وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ في حَقِّ الْحَوْلِ الْمَاضِي بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُضَمُّ إلَيْهِ في حَقِّ الْحَوْلِ الذي اُسْتُفِيدَ فيه لِأَنَّ النِّصَابَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عليه يُجْعَلُ مُتَجَدِّدًا حُكْمًا كَأَنَّهُ انْعَدَمَ الْأَوَّلُ وَحَدَثَ آخَرُ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ وهو النَّمَاءُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَصِيرُ النِّصَابُ كَالْمُتَجَدِّدِ وَالْمَوْجُودُ في الْحَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كَالْعَدَمِ وَالْمُسْتَفَادُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ الْمُسْتَفَادُ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ فَأَمَّا إذَا كان فإنه لَا يُضَمُّ إلَى ما عِنْدَهُ من النِّصَابِ من جِنْسِهِ وَلَا يزكي بِحَوْلِ الْأَصْلِ بَلْ يُشْتَرَطُ له حَوْلٌ على حِدَةٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كان لِرَجُلٍ خَمْسٌ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَمَّ حَوْلُ السَّائِمَةِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ ولم يَتِمَّ حَوْلُ الدَّرَاهِمِ فإنه يَسْتَأْنِفُ لِلثَّمَنِ حَوْلًا عِنْدَهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَلَوْ زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ على الدَّرَاهِمِ فإن ثَمَنَهَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فيزكي الْكُلُّ بِحَوْلِ الدَّرَاهِمِ
وَلَوْ كان له عَبْدٌ لِلْخِدْمَةِ فَأَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ أو كان له طَعَامٌ فَأَدَّى عُشْرَهُ أو كان له أَرْضٌ فَأَدَّى خَرَاجَهَا ثُمَّ باعه ( ( ( باعها ) ) ) يُضَمُّ ثَمَنُهَا إلَى أَصْلِ النِّصَابِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وهو ظَاهِرُ نُصُوصِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ الْحَوْلِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عليه ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ وَعَبْدُ الْخِدْمَةِ وَالطَّعَامُ الْمَعْشُورُ وَالْأَرْضُ التي أَدَّى خَرَاجَهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ الذي ليس بِثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ الثَّمَنُ على أَصْلِ الْعُمُومِ وَصَارَ مَخْصُوصًا عن عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا ثنيا ( ( ( ثنى ) ) ) في الصَّدَقَةِ أَيْ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ حَالَ اخْتِلَافِ الْمَالِكِ وَالْحَوْلُ وَالْمَالُ صُورَةٌ وَمَعْنًى صَارَ مَخْصُوصًا وَهَهُنَا لم يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْمَالِكِ وَالْحَوْلِ وَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا الْمَالُ لم يَخْتَلِفْ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو فَكَانَتْ السَّائِمَةُ قَائِمَةً مَعْنًى
وما ذُكِرَا من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ قِيَاسٌ في مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا
على أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ إنْ كان يُوجِبُ الضَّمَّ فَاعْتِبَارُ النباء ( ( ( البناء ) ) ) يُحَرِّمُ الضَّمَّ وَالْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا وَأَمَّا إذَا زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَقَدْ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إن على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يُضَمُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ
وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ وَصْفِ النَّمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ وَحَدَثَ عَيْنٌ أُخْرَى فلم يَكُنْ الثَّمَنُ بَدَلَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْبِنَاءِ وَكَذَا في الْمَسَائِلِ الْأُخَرِ الثَّمَنُ ليس بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ وهو الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَكُون الضَّمُّ بِنَاءً
وَلَوْ كان عِنْدَهُ نِصَابَانِ أَحَدَهُمَا ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ وَالْآخَرَ
____________________

(2/14)


غَيْرُ ثَمَنِ الْإِبِلِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ حَوْلًا من الْآخَرِ فَاسْتَفَادَ دَرَاهِمَ بِالْإِرْثِ أو الْهِبَةِ أو الْوَصِيَّةِ فإن الْمُسْتَفَادَ يُضَمُّ إلَى أقربهما ( ( ( أقربها ) ) ) حَوْلًا أَيُّهُمَا كان وَلَوْ لم يُوهَبْ له وَلَا وَرِثَ شيئا وَلَا أَوْصَى له بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَصَرَّفَ في النِّصَابِ الْأَوَّلِ بَعْدَ ما أَدَّى زَكَاتَهُ وَرَبِحَ فيه رِبْحًا ولم يَحُلْ حَوْلُ ثَمَنِ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ فإن الرِّبْحَ يُضَمُّ إلَى النِّصَابِ الذي رَبِحَ فيه لَا إلَى ثَمَنِ الْإِبِلِ وَإِنْ كان ذلك أَبْعَدَ حَوْلًا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَوَيَا في جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَقْرَبُ النِّصَابَيْنِ حَوْلًا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وفي الْفَصْلِ الثَّانِي ما اسْتَوَيَا في جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ بَلْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى في الِاسْتِتْبَاعِ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعٌ لِأَحَدِهِمَا حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا منه فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فَلَا يُقْطَعُ حُكْمُ التَّبَعِ عن الْأَصْلِ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ ما يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وما لَا يَقْطَعُ فَهَلَاكُ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ حتى لو اسْتَفَادَ في ذلك الْحَوْلِ نِصَابًا يُسْتَأْنَفُ له الْحَوْلُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الحولوالهالك ما حَالَ عليه الْحَوْلُ وَكَذَا الْمُسْتَفَادُ بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ ثُمَّ اسْتَفَادَ ما يُكْمِلُ بِهِ لِأَنَّ ما بَقِيَ من النِّصَابِ ما حَالَ عليه الْحَوْلُ فلم يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ مَالُ التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض قبل تَمَامِ الْحَوْلِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ بِجِنْسِهَا أو بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الْمَالِ وهو الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ فَكَانَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا على الْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَائِمٌ لم يَفُتْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أو بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ أو الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ
وقال الشَّافِعِيُّ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الصَّيَارِفَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِبْدَالِ منهم سَاعَةً فَسَاعَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَلَا تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ على إحْدَاهُمَا كما إذَا بَاعَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ بِجِنْسِهَا أو بِخِلَافِ جِنْسِهَا
وَلِّنَا أَنَّ الْوُجُوبَ في الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى أَيْضًا لَا بِالْعَيْنِ
وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كما في الْعُرُوضِ بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ
وقد تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ فَبَطَلَ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ على الْأَوَّلِ فَيُسْتَأْنَفُ لِلثَّانِي حَوْلًا
وَلَوْ اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ فَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْبَقَرِ أو الْبَقَرَ بِالْغَنَمِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِجِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْإِبِلِ أو الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ أو الْغَنَمَ بِالْغَنَمِ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَنْقَطِعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ كما إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ
وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ في السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَا بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ من كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ عِجَافٍ هُزَالٍ لَا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ فيها تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قد اخْتَلَفَتْ فَيَخْتَلِفُ له الْحَوْلُ وَكَذَا لو بَاعَ السَّائِمَةَ بِالدَّرَاهِمِ أو بِالدَّنَانِيرِ أو بِعُرُوضٍ يَنْوِي بها التِّجَارَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بالإتفاق لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ في الْمَالَيْنِ قد اخْتَلَفَ إذْ الْمُتَعَلِّقُ في أَحَدِهِمَا الْعَيْنُ وفي الْآخَرِ الْمَعْنَى
وَلَوْ احْتَالَ بِشَيْءٍ من ذلك فِرَارًا من وُجُوبِ الزَّكَاةِ عليه هل يُكْرَهُ له ذلك
قال مُحَمَّدٌ يُكْرَهُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ
وهو على الِاخْتِلَافِ في الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وَلَا خِلَافَ في الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهَةٌ كَالْحِيلَةِ لاسقاط الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا
وَمِنْهَا النِّصَابُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في النِّصَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ النِّصَابِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ في النِّصَابِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا على الْغَنِيِّ والغنا ( ( ( والغنى ) ) ) لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَالِ الْفَاضِلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وما دُونَ النِّصَابِ لَا يَفْضُلُ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ غَنِيًّا بِهِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شكرا ( ( ( شكر ) ) ) لنعمة ( ( ( النعمة ) ) ) الْمَالِ وما دُونَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلشُّكْرِ لِلْمَالِ بَلْ يَكُونُ شُكْرُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِهِ من تَوَابِعِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ على ما ذَكَرْنَا وَلَكِنَّ هذا الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وفي آخِرِهِ لَا في خِلَالِهِ حتى لو انْتَقَصَ النِّصَابُ في أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ في آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كان من السَّوَائِمِ أو من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أو مَالِ التِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ كَمَالُ النِّصَابِ من أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وهو قَوْلُ
____________________

(2/15)


الشَّافِعِيِّ إلَّا في مَالِ التِّجَارَةِ فإنه يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ في آخِر الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وَوَسَطِهِ حتى أَنَّهُ إذَا كان قِيمَةُ مَالِ التِّجَارَةِ في أَوَّلِ الْحَوْلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ في آخِرِ الْحَوْلِ مِائَتَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ على النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه وَلَا نِصَابَ في وَسَطِ الْحَوْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عليه وَلِهَذَا لو هَلَكَ النِّصَابُ في خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ وَكَذَا لو كان النِّصَابُ سَائِمَةً فَجَعَلَهَا عَلُوفَةً في وَسَطِ الْحَوْلِ بَطَلَ الْحَوْلُ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يقول تَرَكْتُ هذا الْقِيَاسَ في مَالِ التِّجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ نِصَابَ التِّجَارَةِ يَكْمُلُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تَزْدَادُ وَتَنْتَقِصُ في كل سَاعَةٍ لِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِكَثْرَةِ رَغْبَةِ الناس وَقِلَّتِهَا وَعِزَّةِ السِّلْعَةِ وَكَثْرَتِهَا فَيَشُقُّ عليه تَقْوِيمُ مَالِهِ في كل يَوْمٍ فَاعْتُبِرَ الْكَمَالُ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وهو آخِرُ الْحَوْلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ في السَّائِمَةِ لِأَنَّ نِصَابَهَا لَا يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيُعْتَبَر وُجُودُهُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ لَا غير لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَوْلِ وَقْتُ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَآخِرَهُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا وَسَطُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ بِوَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من بَقَاءِ شَيْءٍ من النِّصَابِ الذي انْعَقَدَ عليه الْحَوْلُ لِيَضُمَّ الْمُسْتَفَادَ إلَيْهِ فإذا هَلَكَ كُلُّهُ لم يُتَصَوَّرُ الضَّمُّ فَيُسْتَأْنَفُ له الْحَوْلُ بِخِلَافِ ما إذَا جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً في خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ أَخْرَجَهَا من أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ فَصَارَ كما لو هَلَكَتْ
وماذكر الشَّافِعِيُّ من اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ إعتبار كَمَالِ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ لَا في أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عليه تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كما لَا يَشُقُّ عليه ذلك في آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وأما مِقْدَارُ النِّصَابِ وَصِفَتُهُ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ في النِّصَابِ وَصِفَتُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ هذه الْجُمْلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
أَمْوَالُ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
وَالثَّانِي أَمْوَالُ التِّجَارَةِ ( وَهِيَ الْعُرُوض الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ )
وَالثَّالِثُ السَّوَائِمُ فَنُبَيِّنُ مِقْدَارَ النِّصَابِ من كل وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَ الْوَاجِبِ في كل وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمَنْ له الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ
فَصْلٌ أَمَّا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَمَّا قَدْرُ النِّصَابِ فِيهِمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أو ذَهَبٌ مُفْرَدٌ أو اجْتَمَعَ له الصِّنْفَانِ جميعا فَإِنْ كان له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَا زَكَاةَ فيها حتى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنَ سَبْعَةٍ فإذا بَلَغَتْ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ لِعَمْرِو بن حَزْمٍ ذَكَرَ فيه الْفِضَّةَ ليس فيها صَدَقَةٌ حتى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ليس فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ من الْوَرِقِ شَيْءٌ وفي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ في الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن قَدْرٍ من الْمَوْزُونِ مُشْتَمِلٌ على جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ من الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ حتى لو كان وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ أو قِيمَتُهَا لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلَا زَكَاةَ فيها
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا وَزْنَ سَبْعَةٍ وهو أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ منها وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَالْمِائَتَانِ مِمَّا يُوزَنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْقَالًا لِأَنَّهُ الْوَزْنُ الْمُجْمَعُ عليه لِلدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ في الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ في الْجَاهِلِيَّةِ كان بَعْضُهَا ثَقِيلًا مِثْقَالًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا طَيْرِيًّا فلما عَزَمُوا على ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ في الْإِسْلَامِ جَمَعُوا الدِّرْهَمَ الثَّقِيلَ وَالدِّرْهَمَ الْخَفِيفَ فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ فَكَانَا دِرْهَمَيْنِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ على الْعَمَلِ على ذلك
وَلَوْ نَقَصَ النِّصَابُ عن الْمِائَتَيْنِ نُقْصَانًا يَسِيرًا يَدْخُلُ بين الْوَزْنَيْنِ
قال أَصْحَابُنَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ في كَمَالِ النِّصَابِ فَلَا نَحْكُمُ بِكَمَالِهِ مع الشَّكِّ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَلَوْ كانت الْفِضَّةُ مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ فَإِنْ كان يَبْلُغُ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ النِّصَابِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَيُعْتَبَرُ في حَالِ الشَّرِكَةِ ما يُعْتَبَرُ في حَالِ الِانْفِرَادِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ هذا النِّصَابِ فَنَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ في هذا النِّصَابِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ على كَوْنِهِ فِضَّةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيها سَوَاءٌ
____________________

(2/16)


كانت دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً أو نُقْرَةً أو تِبْرًا أو حُلِيًّا مَصُوغًا أو حِلْيَةَ سَيْفٍ أو مِنْطَقَةٍ أو لِجَامٍ أو سَرْجٍ أو الْكَوَاكِبِ في الْمَصَاحِفِ أو ( ( ( والأواني ) ) ) الأواني وَغَيْرِهَا إذَا كانت تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَوَاءٌ كان يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ أو لِلنَّفَقَةِ أو لِلتَّجَمُّلِ أو لم يَنْوِ شيئا وَهَذَا عِنْدَنَا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا في حُلِيِّ النِّسَاءِ إذاكان مُعَدًّا لِلُبْسٍ مُبَاحٍ أو لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا شَيْءَ فيه وهو مَرْوِيٌّ عن ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ ( عنهما ) وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ في الحديث لَا زَكَاةَ في الْحُلِيِّ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله ( عنه ) أَنَّهُ قال زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ في وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فإنه مُبْتَذَلٌ في وَجْهٍ مَحْظُورٍ وَهَذَا لِأَنَّ الإبتذال إذَا كان مُبَاحًا كان مُعْتَبَرًا شَرْعًا وإذا كان مَحْظُورًا كان سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مع ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ إنه اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ انفاقها ( ( ( إنفاقهما ) ) ) في سَبِيلِ اللَّهِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ وَكُلُّ مَالٍ لم تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ منه كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَلَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ فَاضِلٌ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ منها لِلْفُقَرَاءِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قال بَعْضُ صَيَارِفَةِ الحديث إنه لم يَصِحَّ لِأَحَدٍ شَيْءٌ في بَابِ الْحُلِيِّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَالْمَرْوِيُّ عن ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عنه أَيْضًا أَنَّهُ زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ
على أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً على الْبَعْضِ مع ما إن تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قام دَلِيلُ الْوُجُوبِ وقد بَيَّنَّا ذلك
هذا إذَا كانت الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً فَأَمَّا إذَا كانت مَغْشُوشَةً فَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْغِشَّ فيها مَغْمُورٌ مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ بأن الزَّكَاةَ تَجِبُ في الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ قال لِأَنَّ الْغَالِبَ فيها كُلِّهَا الْفِضَّةُ وما تَغْلِبُ فِضَّتُهُ على غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فيها مَغْلُوبَةٌ فَإِنْ كانت أَثْمَانًا رَائِجَةً أو كان يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ من أَدْنَى الدَّرَاهِمِ التي تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ وَهِيَ التي الْغَالِبُ عليها الْفِضَّةُ تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ لم تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فيها إلَّا أَنْ يَكُونَ ما فيها من الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كانت كَبِيرَةً لِأَنَّ الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَالْفِضَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فيها نِيَّةُ التِّجَارَةِ فإذا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعتبرنا ( ( ( اعتبر ) ) ) الْقِيمَةَ كعروض ( ( ( كمعروض ) ) ) التِّجَارَةِ وإذا لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا ما فيها من الْفِضَّةِ
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كانت عِنْدَهُ فُلُوسٌ أو دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أو نُحَاسٌ أو مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ فيها الْفِضَّةُ إنها إنْ كانت لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ من الدَّرَاهِمِ التي تَغْلِبُ فيها الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَإِنْ لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فيها لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ ما لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ
وَعَلَى هذا كان جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ من مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ في الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ التي كانت في الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ في دِيَارِنَا إنها إنْ كانت أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِأَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ التي تَغْلِبُ عليها الْفِضَّةُ وَإِنْ لم تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً
فَإِنْ كانت سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا وَإِنْ لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ ما فيها من الْفِضَّةِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا أو بِالضَّمِّ إلَى ما عِنْدَهُ من مَالِ التِّجَارَةِ
وكان الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يفتي بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ في كل مِائَتَيْنِ فيها رُبُعُ عُشْرِهَا وهو خَمْسَةٌ منها عَدَدًا وكان يقول هو من أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا من الْفِقْهِ
وَلَوْ زَادَ على نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ حتى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فيها دِرْهَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى هذا أَبَدًا في كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ
____________________

(2/17)


تَجِبُ الزَّكَاةُ في الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذلك
قَلَّتْ أو كَثُرَتْ حتى لو كانت الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا يَجِبُ فيه جُزْءٌ من الْأَرْبَعِينَ جُزْءًا من دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ قَوْلِهِمْ
وَلَا خِلَافَ في السَّوَائِمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ في الزَّوَائِدِ منها على النِّصَابِ حتى تَبْلُغَ نِصَابًا
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال وما زَادَ على الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذلك وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ
وَمَعْنَى النِّعْمَةِ يُوجَدُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهُ بِالنَّصِّ وإنه وَرَدَ في أَصْلِ النِّصَابِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ في الزِّيَادَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ في السَّوَائِمِ لَا تُعْتَبَرُ ما لم تَبْلُغْ نِصَابًا دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في كِتَابِ عَمْرِو بن حَزْمٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وفي كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِمُعَاذٍ حين وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ لَا تَأْخُذْ من الْكُسُورِ شيئا
فإذا كان الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ منها خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ شيئا حتى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذَ منها دِرْهَمًا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كل نِصَابٍ عَفْوٌ نَظَرًا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كما في السَّوَائِمِ وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِ الْكُسُورِ حَرْجًا وإنه مَدْفُوعٌ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لم يَرْفَعْهُ أَحَدٌ من الثِّقَاتِ بَلْ شَكُّوا في قَوْلِهِ وما زَادَ على الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذلك إن ذلك قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو قَوْلُ عَلِيٍّ
فَإِنْ كان قَوْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَكُونُ حُجَّةً وَإِنْ كان قَوْلَ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا وما ذَكَرُوا من شُكْرِ النَّعْمَةِ فَالْجَوَابُ منه ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ مَعْنَى النَّعْمَةِ هو التَّنَعُّمُ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالسَّوَائِمِ مع أَنَّهُ قِيَاسٌ في مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فيها فَرُبُعُ الْعُشْرِ وهو خَمْسَةٌ من مِائَتَيْنِ لِلْأَحَادِيثِ التي رَوَيْنَا إذْ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا تَوْقِيفًا
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ وَخَمْسَةٌ من مِائَتَيْنِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ هذا إذَا كان له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَأَمَّا إذَا كان له ذَهَبٌ مُفْرَدٌ فَلَا شَيْءَ فيه حتى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فإذا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ
لِمَا رُوِيَ في حديث عَمْرِو بن حَزْمٍ وَالذَّهَبُ ما لم يَبْلُغْ قِيمَتُهُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَلَا صَدَقَةَ فيه فإذا بَلَغَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ وكان الدِّينَارُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُقَوَّمًا بعشر ( ( ( بعشرة ) ) ) دَرَاهِمَ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَلِيٍّ ليس عَلَيْك في الذَّهَبِ زَكَاةٌ ما لم يَبْلُغْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فإذا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَسَوَاءٌ كان الذَّهَبُ لِوَاحِدٍ أو كان مُشْتَرَكًا بين اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ على أَحَدِهِمَا ما لم يَبْلُغْ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في نِصَابِ السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الذَّهَبِ فَنَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ في نِصَابِ الذَّهَبِ أَيْضًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ على كَوْنِهِ ذَهَبًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمَضْرُوبِ وَالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ وَالْحُلِيِّ إلَّا على أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ في الْحُلِيِّ الذي يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } وَقَوْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كِتَابِ عَمْرِو بن حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في مُطْلَقِ الذَّهَبِ
وَكَذَا حُكْمُ الدَّنَانِيرِ التي الْغَالِبُ عليها الذَّهَبُ كَالْمَحْمُودِيَّةِ وَالصُّورِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَحُكْمُ الذَّهَبِ الْخَالِصِ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا الْهَرَوِيَّةُ وَالْمَرْوِيَّةُ وما لم يَكُنْ الْغَالِبُ عليها الذَّهَبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا إنْ كانت أَثْمَانًا رَائِجَةً أو لِلتِّجَارَةِ وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ ما فيها من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَزْنًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَخْلُصُ بِالْإِذَابَةِ وَلَوْ زَادَ على نِصَابِ الذَّهَبِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ حتى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ فَيَجِبُ فيها قِيرَاطَانِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِحِسَابِ ذلك وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فيه فَرُبُعُ الْعُشْرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بن حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما
____________________

(2/18)


لِأَنَّ نِصْفَ مِثْقَالٍ من عِشْرِينَ مِثْقَالًا رُبُعُ عشرة وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا كان له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أو ذَهَبٌ مُفْرَدٌ فَأَمَّا إذَا كان له الصِّنْفَانِ جميعا فَإِنْ لم يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كان له عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فإنه يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ في حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ
بَلْ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنهما جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنهما عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَصَارَ كَالْإِبِلِ مع الْغَنَمِ بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ يَكْمُلُ النِّصَابُ من قِيمَتَهَا وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ فَكَانَ مَالُ الزَّكَاةِ جِنْسًا وَاحِدًا وهو الذَّهَبُ أو الْفِضَّةُ
فَأَمَّا الزَّكَاةُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا دُونَ الْقِيمَةِ
وَلِهَذَا لَا يُكْمَلُ بِهِ الْقِيمَةُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَإِنَّمَا يُكْمَلُ بِالْوَزْنِ كَثُرَتْ القيمة ( ( ( القيامة ) ) ) أو قَلَّتْ بِأَنْ كانت رَدِيئَةً
وَلَنَا ما رُوِيَ عن بُكَيْر بن عبد اللَّهِ بن الْأَشَجِّ أَنَّهُ قال مَضَتْ السُّنَّةُ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ إلَى الذَّهَبِ في إخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَّحِدَانِ في الْمَعْنَى الذي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وهو الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَكَانَا في حُكْمِ الزَّكَاةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا وهو رُبُعُ الْعُشْرِ عن كل حَالٍ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْوَاجِبُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِ
وَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وإذا اتَّحَدَ الْمَالَانِ مَعْنًى فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يُكْمَلُ نِصَابُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كما إذَا كان له أَقَلُّ من عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَأَقَلُّ من مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ وَنَقْدُ الْبَلَدِ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ فَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الْفِضَّةِ وَصَارَ كَالسُّودِ مع الْبِيضِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَعَذَّرَ تَكْمِيلُ نِصَابِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ
ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يؤدي
رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يؤدي من مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَمِنْ عَشْرَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ رُبْعُ مِثْقَالٍ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ هذا أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ وَالنَّظَرِ من الْجَانِبَيْنِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ من نَوْعٍ وَاحِدٍ وهو أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ نُصُوصِ الزَّكَاةِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فقال أبو حَنِيفَةَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
وهو رِوَايَةً عن أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا
ذَكَرَهُ في نَوَادِرِ هِشَامٍ
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الإختلاف فِيمَا إذَا كانت قِيمَةُ أَحَدِهِمَا لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ أَكْثَرَ من وَزْنِهِ بِأَنْ كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُقَوِّمُ الدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ جِنْسِهَا دَرَاهِمَ وَتُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُكَمَّلُ نِصَابُ الدَّرَاهِمِ من حَيْثُ الْقِيمَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ
وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ لِأَنَّ له نِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ الذَّهَبِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النِّصَابِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ
وَعَلَى هذا لو كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَجِبُ فيها سِتَّةُ دَرَاهِمَ
وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ نِصْفَ نِصَابِ الذَّهَبِ وَنِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ فَيَكُونُ نِصَابًا تَامًّا فَيَجِبُ في نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ عُشْرِهِ
فأما إذَا كان وَزْنُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً بِأَنْ كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةً أو مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ أو خَمْسَةُ عَشْرَ مِثْقَالًا وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا لَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ بَلْ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ
وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا لِأَنَّ النِّصَابَ لم يَكْمُلْ بِالضَّمِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ في حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ حتى أَنَّهُ إذَا كان له إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لصناعتها ( ( ( لصناعة ) ) ) مِائَتَانِ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان له آنِيَةُ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةٌ وَقِيمَتُهَا لِصِنَاعَتِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ
____________________

(2/19)


بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيمَةَ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا لِأَنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِمَا وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ من مَلَكَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ آنِيَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَوْ كانت الْقِيمَةُ فيها مُعْتَبَرَةٌ لَوَجَبَتْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلَا اتِّحَادَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فإن الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ بِأَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فيها وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ وَالْآنِيَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ ما وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حتى تُعْتَبَرَ فيه الْقِيمَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فإن الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ لَا قِيمَةَ لها إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ
فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتَظْهَرُ لِلْجُودَةِ قِيمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ تَقُومُ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ اغْتَصَبَ قَلْبًا فَهَشَّمَهُ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ من خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَذَلِكَ في حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ في التَّكْمِيلِ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ ضَرْبَ احْتِيَاطٍ في بَابِ الْعِبَادَةِ وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَوْلَى
ثُمَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ في التَّقْوِيمِ مَنْفَعَةُ الْفُقَرَاءِ كما هو أَصْلُهُ حتى رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إذَا كان لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا ودينارا ( ( ( ودينار ) ) ) يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ أنه تَجِبُ الزَّكَاةُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوِّمَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كُلَّ خَمْسَةٍ منها بِدِينَارٍ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا كُلُّهُ من وُجُوبِ الضَّمِّ إذَا لم يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كان أَقَلَّ من النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا تَامًّا ولم يَكُنْ زَائِدًا عليه لَا يَجِبُ الضَّمُّ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ وَلَوْ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ حتى يؤدي كُلُّهُ من الْفِضَّةِ أو من الذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بِمَا هو أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ رَوَاجًا وَإِلَّا فيؤدي من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ عُشْرِهِ وَإِنْ كان على كل وَاحِدٍ من النِّصَابَيْنِ زِيَادَةٌ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ في الْكُسُورِ بِحِسَابِ ذلك
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَيُنْظَرُ إنْ بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ وَأَقَلَّ من أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِيَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وأربعة مَثَاقِيلَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ في الْكُسُورِ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا أَمْوَالُ التِّجَارَةِ فَتَقْدِيرُ النِّصَابِ فيها بِقِيمَتِهَا من الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَلَا شَيْءَ فيها ما لم تَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أو عِشْرِينَ مِثْقَالًا من ذَهَبٍ فَتَجِبُ فيها الزَّكَاةُ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ لا زَكَاةَ فيها أَصْلًا
وقال مَالِكٌ إذَا نَضَّتْ زَكَّاهَا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ إن وُجُوبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِوُجُوبِهَا في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالسَّوَائِمِ فَلَوْ وَجَبَتْ في غَيْرِهَا لَوَجَبَتْ بِالْقِيَاسِ عليها وَالْقِيَاسُ ليس بِحَجَّةٍ خُصُوصًا في بَابِ الْمَقَادِيرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سُمْرَةَ بن جُنْدُبٍ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ من الرَّقِيقِ الذي كنا نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ
وَرُوِيَ عن أبي ذَرٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في الْبُرِّ صَدَقَةٌ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ
فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ وَرَدَ في نِصَابِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ قال في آخِرِهِ من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الحديث عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِهِ يُوجِبُ سَلْبَ عُمُومِ أَوَّلِهِ أو نَحْمِلُ قَوْلَهُ من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ على الْقِيمَةِ أَيْ من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا من قِيمَتِهَا دِرْهَمٌ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَدُّوا زَكَاةَ أموالكممن غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ كَالسَّوَائِمِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ لِأَنَّا قد رَوَيْنَا النَّصَّ في الْبَابِ على أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عُرِفَ بِالْعَقْلِ وهو شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ بِإِعَانَةِ الْعَاجِزِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عُرِفَ بِالسَّمْعِ وما ذكره مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَشَرْطُهُ في كل حَوْلٍ فَلَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بالوجود ( ( ( بالوجوب ) ) ) فيه كَالسَّوَائِمِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَسَوَاءٌ كان مَالُ التِّجَارَةِ عُرُوضًا أو عَقَارًا أو شيئا مِمَّا يُكَالُ
____________________

(2/20)


أو يُوزَنُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى وهو الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا في هذا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَا يُضَمُّ بَعْضُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَى الْبَعْضِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ لِمَا قُلْنَا
وإذا كان تَقْدِيرُ النِّصَابِ من أَمْوَالِ التِّجَارَةِ بِقِيمَتِهَا من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهو أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِقْدَارَ نِصَابٍ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ من التَّقْوِيمِ حتى يُعْرَفَ مِقْدَارُ النِّصَابِ ثُمَّ بِمَاذَا تُقَوَّمُ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِأَوْفَى الْقِيمَتَيْنِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حتى أنها إذَا بَلَغَتْ بِالتَّقْوِيمِ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا ولم تَبْلُغْ بِالدَّنَانِيرِ قُوِّمَتْ بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّصَابَ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في الأموال ( ( ( الأمالي ) ) ) أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ النَّقْدَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّنَانِيرِ قَوَّمَهَا بِالدَّنَانِيرِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِهِمَا من الْعُرُوضِ أو لم يَكُنْ اشْتَرَاهَا بِأَنْ كان وُهِبَ له فَقَبِلَهُ يَنْوِي بِهِ التِّجَارَةَ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ في ذلك الْمَوْضِعِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ على كل حَالٍ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا يوم حَالَ الْحَوْلُ إنْ شَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْوِيمَ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ في حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ شَيْءٍ من حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ في الْبَلْدَةِ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ المشتري بَدَلٌ وَحُكْمُ الْبَدَلِ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ فإذا كان مشتري بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَتَقْوِيمُهُ بِمَا هو أَصْلُهُ أَوْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا دُونَ أَعْيَانِهَا وَالتَّقْوِيمُ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّقْدَانِ في ذلك سِيَّانِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ يُقَوِّمُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ أَلَا تَرَى أَنَّ في السَّوَائِمِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَهِيَ ما إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ الْخِيَارَ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَكَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَا في الثَّمَنِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ بِهِمَا سَوَاءٌ لَكِنَّا رَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا بِمُرَجِّحٍ وهو النَّظَرُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان بِالتَّقْوِيمِ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فإنه يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَاحْتِيَاطًا كَذَا هذا وَمَشَايِخُنَا حَمَلُوا رِوَايَةَ كِتَابِ الزَّكَاةِ على ما إذَا كان لَا يَتَفَاوَتُ النَّفْعُ في حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِالتَّقْوِيمِ بِأَيِّهِمَا كان جَمْعًا بين الرِّوَايَتَيْنِ
وَكَيْفَمَا كان يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ بِأَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ وَهِيَ التي يَكُونُ الْغَالِبُ فيها الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَعَلَى هذا إذَا كان مع عُرُوضِ التِّجَارَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ فإنه يَضُمُّهَا إلَى الْعُرُوضِ وَيُقَوِّمُهُ جُمْلَةً لِأَنَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ يَشْمَلُ الْكُلَّ لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ قَوَّمَ الْعُرُوضَ وَضَمَّهَا إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَضَمَّ قيمتها ( ( ( قيمتهما ) ) ) إلَى قِيمَةِ أَعْيَانِ التِّجَارَةِ
وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتُقَوَّمُ الْعُرُوض فَيَضُمُّ قِيمَتَهَا إلَى ما عِنْدَهُ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُقَوَّمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا في بَابِ الزَّكَاةِ على ما مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ هذا النِّصَابِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ وهو أَنْ يُمْسِكَهَا لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارَنَةً لِعَمَلِ التِّجَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فإنه لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْدَادِ الْعَبْدِ وَيُوجَدُ الْإِعْدَادُ منه دَلَالَةً على ما مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ من هذا النِّصَابِ فما هو مِقْدَارُ الْوَاجِبِ من نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهو رُبُعُ الْعُشْرِ لِأَنَّ نِصَابَ مَالِ التِّجَارَةِ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ فيه ما هو الْوَاجِبُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهو رُبُعُ الْعُشْرِ وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ من غَيْرِ فَصْلٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَالْوَاجِبُ فيها رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وهو النِّصَابُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هذا قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْوَاجِبُ فيها أَحَدُ شَيْئَيْنِ إما الْعَيْنُ أو الْقِيمَةُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ وَبَنَوْا على بَعْضِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ فِيمَنْ كانت له مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حتى تَغَيَّرَ سِعْرُهَا إلَى النُّقْصَانِ حتى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أو إلَى الزِّيَادَةِ حتى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ إنَّ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إن أَدَّى من عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَاجِبُ من الْأَصْلِ
____________________

(2/21)


فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها هِيَ الْوَاجِبَةُ يوم الْحَوْلِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَدَّى من عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا كما قال أبو حَنِيفَةَ وَإِنْ أَدَّى من الْقِيمَةِ يُؤَدِّي في النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وفي الزِّيَادَةِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عِنْدَهُمَا هو رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا له وِلَايَةُ النَّقْلِ إلَى الْقِيمَةِ يوم الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْأَدَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هذا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كان من السَّوَائِمِ أو من أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَوْ كان الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا غير عَيْنٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ على ما هو الْأَصْلُ في التَّخْيِيرِ بين شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ
وَكَذَا لو وَهَبَ النِّصَابَ من الْفَقِيرِ ولم تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ أَصْلًا سَقَطَتْ عنه الزَّكَاةُ وَلَوْ لم يَكُنْ الْوَاجِبُ في النِّصَابِ عَيْنًا لَمَا سَقَطَتْ كما إذَا وَهَبَ منه غير النِّصَابِ وَكَذَا إذَا بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ من السَّوَائِمِ وَالسَّاعِي حَاضِرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ من الْبَائِعِ وَلَوْلَا أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ لَمَا مَلَكَ الْأَخْذَ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا هذا وهو أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ إلَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ من حَيْثُ أنه مَالٌ لَا من حَيْثُ أنه عَيْنٌ
وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى جميعا لَكِنْ لِمَنْ عليه حَقُّ النَّقْلِ من الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْأَدَاءِ
وَمَسَائِلُ الْجَامِعِ مَبْنِيَّةٌ على هذا الْأَصْلِ على ما نذكره ( ( ( نذكر ) ) )
وقال الشَّافِعِيُّ الْوَاجِبُ من قَدْرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ في الذِّمَّةِ لَا في النِّصَابِ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي ما إذَا هَلَكَ مَالُ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ أَنَّهُ تَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَسْقُطُ وإذا هَلَكَ قبل التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا تَجِبُ أَصْلًا وفي قَوْلٍ تَجِبُ ثُمَّ تَسْقُطُ لَا إلَى ضَمَانٍ وَلَا خِلَافٍ في أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هذا حَقٌّ وَجَبَ في ذِمَّتِهِ وَتَقَرَّرَ بِالتَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ كما في دُيُونِ الْعِبَادِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَمَا في الْحَجِّ فإنه إذَا كان مُوسِرًا وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ من بَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُهُ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عنه وَإِنَّمَا قُلْنَا أنه وَجَبَ في ذِمَّتِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَالٍ لَا بِعَيْنِهِ قال النبي في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وفي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ أَوْجَبَ خَمْسَةً وَشَاةً لَا بِعَيْنِهَا وَالْوَاجِبُ إذَا لم يَكُنْ عَيْنًا كان في الذِّمَّةِ كما في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا وَلِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ في يَدِهِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ منه وَمَنْ مَنَعَ الْحَقَّ عن الْمُسْتَحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ يُضْمَنُ كما في سَائِرِ الْأَمَانَاتِ
وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَلَبَهُ الْفَقِيرُ أو طَالَبَهُ السَّاعِي بِالْأَدَاءِ فلم يُؤَدِّ حتى هَلَكَ النِّصَابُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَالِكَ إمَّا أَنْ يُؤَاخَذَ بِأَصْلِ الْوَاجِبِ أو بِضَمَانِهِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْد فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي أو الْمَدْيُونِ إذَا هَلَكَ وَالشِّقْصُ الذي فيه الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا وَالدَّلِيلُ على أَنَّ مَحَلَّ أَصْلِ الْوَاجِبِ هو النِّصَابُ قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }
وَقَوْلُ النبي خُذْ من الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ وَمِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ الحديث وَكَلِمَةُ من تَبْعِيضٌ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْضَ النِّصَابِ وَقَوْلُهُ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وفي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ جَعَلَ الْوَاجِبَ مَظْرُوفًا في النِّصَابِ لِأَنَّ ( في ) لِلظَّرْفِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا على طَرِيقِ الْيُسْرِ وَطِيبَةِ النَّفْسِ بِأَدَائِهَا وَلِهَذَا اُخْتُصَّ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَشُرِطَ لها الْحَوْلُ وَكَمَالُ النِّصَابِ وَمَعْنَى الْيُسْرِ في كَوْنِ الْوَاجِبِ في النِّصَابِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أو يَدٍ كما في سَائِرِ الضَّمَانَاتِ وهو بِالتَّأْخِيرِ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لم يُفَوِّتْ على الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يُضْمَنُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُنَاكَ ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ مَنَعَ حَقَّ الْفَقِيرِ بَعْدَ طَلَبِهِ فَنَقُولُ إنَّ هذا الْفَقِيرَ ما تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْحَقِّ فَإِنْ له أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى فَقِيرٍ آخَرَ وَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي فَامْتَنَعَ من الْأَدَاءِ حتى هَلَكَ الْمَالُ قال أَهْلُ الْعِرَاقِ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ فَيَصِيرُ بِالِامْتِنَاعِ مُفَوِّتًا فَيُضَمَّنُ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءِ النَّهْرِ قالوا إنَّهُ لَا يَضْمَنُ وهو الْأَصَحُّ فإنه ذَكَرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ إذَا حَبَسَ السَّائِمَةَ بَعْدَ ما وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فيها حتى
____________________

(2/22)


ثويت ( ( ( تويت ) ) ) لم يَضْمَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَرِدْ بهذا الْحَبْسِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ لِأَنَّ ذلك اسْتِهْلَاكٌ لها وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاتِهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَبْسَهَا بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي لها وَالْوَجْهُ فيه أَنَّهُ ما فَوَّتَ بهذا الْحَبْسِ مِلْكًا وَلَا يَدًا على أَحَدٍ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَلَهُ رَأْيٌ في اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ من السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ من غَيْرِهَا فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ من مَحِلٍّ آخَرَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا
هذا إذَا هَلَكَ كُلُّ النِّصَابِ فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ في الْبَاقِي حِصَّتُهُ من الزَّكَاةِ إذَا لم يَكُنْ في الْمَالِ فَضْلٌ على النِّصَابِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ
ثُمَّ إذَا هَلَكَ الْكُلُّ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فإذا هَلَكَ الْبَعْضُ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بقدره ( ( ( بقدر ) ) )
هذا إذَا لم يَكُنْ في الْمَالِ عَفْوٌ فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ فيه النِّصَابُ وَالْعَفْوُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَعْضُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا كَأَنَّهُ لم يَكُنْ في مِلْكِهِ إلَّا النِّصَابُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْكُلِّ شَائِعًا حتى إذَا كان له تِسْعَةٌ من الْإِبِلِ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ منها أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ في الْبَاقِي شَاةٌ كَامِلَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه في الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جميعا
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النبي في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ أَخْبَرَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْمَالُ النَّامِي وَالْعَفْوُ مَالٌ نَامٍ وَمَعَ هذا لَا تَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ على أَنَّ الْوُجُوبَ في الْكُلِّ نَظِيرُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كان قَضَاؤُهُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ وَإِنْ كان لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ إلَى الثَّالِثِ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ في الْكُلِّ فما هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وما بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ
وَاحْتَجَّ أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ بِقَوْلِ النبي في حديث عَمْرِو بن حَزْمٍ في خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حتى تَكُونَ عشر ( ( ( عشرا ) ) )
وقال في حَدِيثِهِ أَيْضًا في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَهَذَا نَصَّ على أَنَّ الْوَاجِبَ في النِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ وَالْعَفْوَ تَبَعٌ لَلنِّصَاب لِأَنَّ النِّصَابَ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عن الْوَقْصِ وَالْوَقْصُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عن النِّصَابِ وَالْمَالُ إذَا اشْتَمَلَ على أَصْلٍ وَتَبَعٍ فإذا هَلَكَ منه شَيْءٌ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كان فيه رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ منه يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا حَالَ الْحَوْلُ على ثَمَانِينَ شَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ منها وَبَقِيَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ في الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ شَاةٌ كَامِلَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْهَلَاكَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا عِنْدَهُمَا فَجُعِلَ كَأَنَّ الْغَنَمَ أَرْبَعُونَ من الإبتداء وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه في الْبَاقِي نِصْفُ شَاةٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في الْكُلِّ عِنْدَهُمَا وقد هَلَكَ النِّصْفُ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَلَوْ هَلَكَ منها عِشْرُونَ وَبَقِيَ سِتُّونَ فَعَلَيْهِ في الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هذا مَسَائِلُ في الْجَامِعِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ جُزْءٌ من النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَاجِبُ هو الْجُزْءُ منه صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعتباره ( ( ( اعتبار ) ) ) الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ
وهو اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا في زَكَاةِ السَّوَائِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
قال بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ هُنَاكَ أَيْضًا جُزْءٌ من النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْمَنْصُوصَ عليه من خلال ( ( ( خلاف ) ) ) جِنْسِ النِّصَاب لِلتَّقْدِيرِ
قال بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ هو الْمَنْصُوصُ عليه لَا جُزْءٌ من النِّصَابِ لَكِنْ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ هو الْمَنْصُوصُ عليه صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ على ما ذَكَرْنَا
وَيَنْبَنِي على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ الْجَامِعِ إذَا كان لِرَجُلٍ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ له غَيْرُ ذلك وَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَإِنْ أَدَّى من عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا هِيَ رُبُعُ عُشْرِ النِّصَابِ وهو الْوَاجِبُ على ما مَرَّ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يوم الْحَوْلِ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَعِنْدَهُمَا في الْفَصْلَيْنِ جميعا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يوم الْأَدَاءِ في النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا
وفي الزِّيَادَةِ عَشْرَةً هُمَا يَقُولَانِ الْوَاجِبُ جُزْءٌ من النِّصَابِ وَغَيْرُ
____________________

(2/23)


الْمَنْصُوصِ عليه حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى غير أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ له وِلَايَةَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ إمَّا تَيْسِيرًا عليه وَإِمَّا نَقْلًا لِلْحَقِّ وَالتَّيْسِيرُ له في الْأَدَاءِ دُونَ الْوَاجِبِ وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ وَقْتَ الْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ في الذِّمَّةِ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عليه وَجُزْءُ النِّصَابِ ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُنْقَلُ ذلك إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يوم النَّقْلِ كما في وَلَدِ الْمَغْرُورِ إنه يُضَمَّنُ الْمَغْرُورُ قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ يوم التَّضْمِينِ لِأَنَّ الْوَلَدَ في حَقِّهِ وَإِنْ عُلِّقَ حُرُّ الْأَصْلِ فَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ جُعِلَ مَمْلُوكًا له لِحُصُولِهِ عن مَمْلُوكَتِهِ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عنه حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ يوم الْخُصُومَةِ فَكَذَا هَهُنَا
وأبو حَنِيفَةَ يقول الْوَاجِبُ هو الْجُزْءُ من النِّصَاب غير أَنَّ وُجُوبَهُ من حَيْثُ أنه مُطْلَقُ الْمَالِ لَا من حَيْثُ أنه جُزْءٌ من النِّصَابِ بِدَلِيلِ إنه يَجُوزُ أَدَاءُ الشَّاةِ عن خَمْسٍ من الْإِبِلِ وَإِنْ لم يَكُنْ جُزْءًا منها وَالتَّعَلُّقُ بِكَوْنِهِ جُزْءٌ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ منه أَيْسَرُ في الْأَغْلَبِ حتى إن الْأَدَاءَ من غَيْرِ الْجُزْءِ لو كان أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ وَعِنْدَ مَيْلِهِ إلَيْهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هو الْوَاجِبُ لِأَنَّهُ هو مُطْلَقُ الْمَالِ وَهَذَا هو الْوَاجِبُ على طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ
وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عليه مَعْلُولٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ لِلتَّيْسِيرِ بِدَلِيلِ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاحِدِ من الْخَمْسِ وَالنَّاقَةِ الْكَوْمَاءِ عن بِنْتِ مَخَاضٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبْعُ الْعُشْرِ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَالْمَنْصُوصُ عليه من حَيْثُ أنه مَالٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يوم الْوُجُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ بِسَبَبِ نُقْصَانِ السِّعْرِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ
وَأَمَّا في السَّوَائِمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
قال بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْوُجُوبِ كما في مَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ من النِّصَابِ من حَيْثُ أنه مَالٌ في جَمِيعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ
وقال بَعْضُهُمْ يوم الْأَدَاءِ كما قَالَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ ثَمَّةَ هو الْمَنْصُوصُ عليه صُورَةً وَمَعْنًى وَلَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في مَالِ الزَّكَاةِ إذَا كان جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَتَيْنِ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا من تَغَيُّرِ السِّعْرِ إلَى زِيَادَةٍ أو نُقْصَانٍ وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ تُعْرَفُ في كِتَابِ الزَّكَاةِ من الْجَامِعِ
هذا إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ فيه الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ
عِنْدَنَا يَجُوزُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلِنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ في مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا جَائِزٌ عِنْدَنَا حتى لو بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ جَازَ الْبَيْعُ في الْكُلِّ عِنْدَنَا وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ في قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في الزِّيَادَةِ على قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ
وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ من النِّصَابِ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ كما يقول أو حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كما يَقُولُونَ وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ من التَّصَرُّفِ فيه
وَلَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وهو إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا حَقَّ في الْمَالِ حق ( ( ( حتى ) ) ) يَمْنَعَ نَفَاذَ الْبَيْعِ فيه فَيَنْفُذُ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيه هو فِعْلُ الدَّفْعِ فَكَانَ الْمَحَلُّ خَالِيًا عن الْحَقِّ قبل الْفِعْلِ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فيه
كَذَا هذا
وإذا جَازَ التَّصَرُّفُ في النِّصَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه عِنْدَنَا فإذا تَصَرَّفَ الْمَالِكُ فيه يُنْظَرُ إنْ كان اسْتِبْدَالًا بمثله لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وأن كان اسْتِهْلَاكًا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَصِيرُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ
بَيَانُ ذلك إذَا حَالَ الْحَوْلُ على مَالِ التِّجَارَةِ وَوَجَبَتْ فيه الزَّكَاةُ فَأَخْرَجَهُ الْمَالِكُ عن مِلْكِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أو بِعَرَضِ التِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ الْوَاجِبَ بَلْ نَقَلَهُ من مَحَلِّ إلَى مَحَلِّ مِثْلِهِ إذْ الْمُعْتَبَرُ في مَالِ التِّجَارَةِ هو الْمَعْنَى وهو الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا مَعْنًى فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَكَذَا لو بَاعَهُ وَحَابَى بِمَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَجُعِلَ عَفْوًا وَلِهَذَا جُعِلَ عَفْوًا في بَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ
وَإِنْ حَابَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ يَضْمَنُ قَدْرَ زَكَاةِ الْمُحَابَاةِ وَيَكُونُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَزَكَاةُ ما بَقِيَ يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَيْنِ يبقي بِبَقَائِهَا وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا
وَلَوْ أَخْرَجَ مَالَ الزَّكَاةِ عن مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ من غَيْرِ الْفَقِيرِ وَالْوَصِيَّةِ أو بِعِوَضٍ ليس بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ عليه امْرَأَةً أو صَالَحَ بِهِ من دَمِ الْعَمْدِ أو اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ يَضْمَنُ الزَّكَاةَ في ذلك كُلِّهِ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إتْلَافٌ له وَكَذَا بِعِوَضٍ ليس بِمَالٍ وَكَذَا لو أَخْرَجَهُ بِعِوَضٍ هو مَالٌ لَكِنَّهُ ليس بِمَالِ الزَّكَاةِ بِأَنْ بَاعَهُ بِعَبْدِ الْخِدْمَةِ أو ثِيَابِ الْبِذْلَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْعِوَضُ في يَدِهِ أو هَلَكَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَعْنَى الذي صَارَ الْمَالُ بِهِ مَالَ الزَّكَاةِ فَكَانَ استهلاكا ( ( ( استهلاكه ) ) ) له في حَقِّ الزَّكَاةِ
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ بِهِ عَيْنًا من الْأَعْيَانِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ وَإِنْ كانت مَالًا في نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لها
وَكَذَا لو صَرَفَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى حَوَائِجِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الِاسْتِهْلَاكِ

____________________

(2/24)


وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ بِالسَّوَائِمِ على أَنْ يَتْرُكَهَا سَائِمَةً يَضْمَنُ الزَّكَاةَ لِأَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ خِلَافَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا وَلَوْ كان مَالُ الزَّكَاةِ سَائِمَةً فَبَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا من الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثْمَانِ أو بِجِنْسِهَا يَضْمَنُ وَيَصِيرُ قَدْرُ الزَّكَاةِ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ ذلك الْعِوَضِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَبَيْعُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لها لَا اسْتِبْدَالًا وَلَوْ كان مَالُ الزَّكَاةِ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَأَقْرَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَثَوَى الْمَالُ عِنْدَهُ ذُكِرَ في الْعُيُونِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْإِتْلَافُ وَكَذَا لو كان مَالُ الزَّكَاةِ ثَوْبًا فَأَعَارَهُ فَهَلَكَ لِمَا قُلْنَا
وَقَالُوا في عبد التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدَفَعَ بِهِ إن الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عن الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَصَالَحَهُ الْمَوْلَى من الدَّمِ على عَبْدٍ أو غَيْرِهِ لم يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الثَّانِيَ ليس بِعِوَضٍ عن الْأَوَّلِ بَلْ هو عِوَضٌ عن الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ
وَقَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا لِلتِّجَارَةِ فَصَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا أنه لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْعَارِضَ هو التَّخَمُّرُ وَأَثَرُ التَّخَمُّرِ في زَوَالِ صِفَةِ التقويم ( ( ( التقوم ) ) ) لا غير وقد عَادَتْ الصِّفَةُ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كما كان وَكَذَلِكَ قالوا في الشَّاةِ إذَا مَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا إن جِلْدَهَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيها فَإِنْ كان الْمُصْدِقُ حَاضِرًا يَنْظُرُ إلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ من الْبَائِعِ وَتَمَّ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْوَاجِبَ من الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَإِنْ لم يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَحَضَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّفَرُّقِ عن الْمَجْلِسِ فإنه لَا يَأْخُذُ من الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ من الْبَائِعِ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْعَ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيها اسْتِهْلَاكٌ لها لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ قبل الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ منه لِحُصُولِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَمَّ الْبَيْعُ في الْكُلِّ إذْ لم يَسْتَحِقَّ شَيْءٌ من الْمَبِيعِ وَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ الزَّوَالِ أَخَذَ الْوَاجِبَ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي كما قُبِلَ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ كَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ هذا الْقَدْرَ من الْمَبِيعِ فَأَمَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَدْ تَأَكَّدَ زَوَالُ الْمِلْكِ لِخُرُوجِهِ عن مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَأَكَّدَ الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ الْمَاشِيَةِ من مَوْضِعِهَا مع افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لم يُشْتَرَطْ ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ الْكَرْخِيُّ وقال إنْ حَضَرَ الْمُصْدِقُ قبل النَّقْلِ فَلَهُ الْخِيَارُ
وَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا وَجَبَ فيه الْعُشْرُ فَالْمُصَدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ من الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حَضَرَ قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعُشْرِ بِالْعَيْنِ آكِدٌ من تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بها أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُعْتَبَرُ فيه الْمَالِكُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَلَوْ مَاتَ من عليه الْعُشْرُ قبل أَدَائِهِ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ يُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ من النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى أو من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْوَاجِبُ أَدَاءُ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عليه وينبني ( ( ( ويبنى ) ) ) عليه إن دَفْعَ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ في بَابِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عليه وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النبي في الْخَمْسِ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ
وَقَوْلُهُ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَكُلُّ ذلك بَيَانٌ لِمُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إذْ ليس فيه بَيَانُ الزَّكَاةِ فَبَيَّنَهُ النبي وَالْتَحَقَ الْبَيَانُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال وَآتُوا الزَّكَاةَ من كل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وفي خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ فَصَارَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً لِلْأَدَاءِ بِالنَّصِّ وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ النَّصِّ
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ السُّجُودِ على الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ على الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالتَّعْلِيلُ فيه بِمَعْنَى الْخُضُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا وَصَارَ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عن خَمْسٍ من الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ وهو قَوْلُهُ خُذْ من الْإِبِلِ الْإِبِلَ إلَّا عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبُ من خِلَافِ الْجِنْسِ تَيْسِيرًا على أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فإذا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ بَعِيرٍ من الْخَمْسِ فَقَدْ تَرَكَ هذا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ
وَلَنَا في الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ أبي حَنِيفَةَ
الثاني ( ( ( والثاني ) ) ) طَرِيقُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
أَمَّا طَرِيقُ أبي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ من النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْمَالِيَّةُ
____________________

(2/25)


وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مِثْلُ أَدَاءِ الْجُزْءِ من النِّصَابِ من حَيْثُ أنه مَالٌ وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَدَاءَ جُزْءٍ من النِّصَابِ ما ذَكَرْنَا في مَسْأَلَةِ التَّفْرِيطِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْجُزْءَ من النِّصَابِ وَاجِبٌ من حَيْثُ أنه مَالٌ إن تَعَلُّقَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ من النِّصَابِ لِلتَّيْسِيرِ لِيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لو تَعَيَّنَ الْجُزْءُ من النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ من حَيْثُ هو مَالٌ إذْ لو تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِغَيْرِ الْجُزْءِ لَبَقِيَتْ الشَّرِكَةُ في النِّصَابِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِيهِ من الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ ما لَا يَخْفَى خُصُوصًا إذَا كان النِّصَابُ من نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ نحو الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَالْأَفْرَاسِ الْفَارِهَةِ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا كَذَلِكَ إذَا كان التَّعَلُّقُ بِهِ من حَيْثُ هو مَالٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كان الِاخْتِيَارُ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ رَأَى أداء الْجُزْءَ إلَيْهِ أَيْسَرَ أَدَّى الْجُزْءَ وَإِنْ رَأَى أَدَاءَ غَيْرِهِ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيُسْرِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الشَّاةِ في الحديث لِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ لَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى في إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ على الْمُصْدِقِ وقال أَلَمْ أَنْهَكُمْ عن أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ الناس فقال أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ من إبِلِ الصَّدَقَةِ
وفي رِوَايَةٍ ارْتَجَعْتُهَا فَسَكَتَ رسول اللَّهِ وَأَخْذُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَدَلَّ على صِحَّةِ مَذْهَبِنَا
وَأَمَّا طَرِيقُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنُ ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وهو أَدَاءُ رُبُعِ الْعُشْرِ في مَالِ التِّجَارَةِ وَأَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عليه في السَّوَائِمِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بَلْ هو تَعَبُّدٌ مَحْضٌ حتى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو أَمَرَنَا باتلافه حَقًّا له أو سببه ( ( ( سبيه ) ) ) لَفَعَلْنَا ولم نَعْدِلْ عن الْمَنْصُوصِ عليه إلَى غَيْرِهِ غير أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصَرْفِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُحْتَاجِينَ كِفَايَةً لهم وَكِفَايَتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ صَارَ وُجُوبُ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وهو الْكِفَايَةُ التي تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْمَالِ فَصَارَ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ وكان أَمْرُهُ عز وجل أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ إعْلَامًا له أَنَّهُ إذن لهم بِنَقْلِ حَقِّهِ الثَّابِتِ في الْمَنْصُوصِ عليه إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ كَمَنْ له على رَجُلٍ حِنْطَةٌ وَلِرَجُلِ آخَرَ على صَاحِبِ الدَّيْنِ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ من له الْحِنْطَةُ من عليه الْحِنْطَةُ بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الدَّرَاهِمِ من الذي له عليه وهو الْحِنْطَةُ كان ذلك إذْنًا منه إيَّاهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِأَنْ يَسْتَبْدِلَ الْحِنْطَةَ بِالدَّرَاهِمِ وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ بِالْأَدَاءِ كَأَنَّهُ أَدَّى عَيْنَ الْحَقِّ إلَى من له الْحَقُّ ثُمَّ اسْتَبْدَلَ ذلك وَصَرَفَ إلَى الْآخَرِ ما أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَصَارَ ما وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ سَوَاءٌ كان الْمَنْصُوصُ عليه أو غَيْرِهِ جزأ من النِّصَابِ أو غَيْرِهِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ أَدَاءُ مَالٍ مُطْلَقٍ مُقَدَّرٍ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عليه بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيُجْزِئُهُ كما لو أَدَّى وَاحِدًا من خَمْسٍ من الْإِبِلِ بِخِلَافِ السُّجُودِ على الْخَدِّ وَالذَّقَنِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فائت ( ( ( فاتت ) ) ) أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يُنْتَقَلُ بِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وما ليس بِقُرْبَةٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ وَبِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيها إرَاقَةُ الدَّمِ حتى لو هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قبل التَّصَدُّقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ ليس بِمَالٍ فَلَا يَقُومُ الْمَالُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّوَائِمُ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
أَمَّا نِصَابُ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ من الْإِبِلِ زَكَاةٌ وفي الْخَمْسِ شَاةٌ وفي الْعَشْرِ شَاتَانِ وفي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وفي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وفي سِتٍّ وثلاثون ( ( ( وثلاثين ) ) ) بِنْتُ لَبُونٍ وفي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ وفي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ وَهِيَ أَقْصَى سِنٍّ لها مَدْخَلٌ في الزَّكَاةِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ كِتَابًا إلَى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه فَكَتَبَهُ أبو بَكْرٍ لِأَنَسٍ وكان فيه وفي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فما دُونَهَا الْغَنَمُ في كل خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ فإذا كانت خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ
فإذا كانت سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ فإذا كانت سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ فإذا كانت إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فإذا كانت سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ فإذا كانت إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ
وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ إلَّا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ وفي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ
منها ما رَوَيْنَا من كِتَابِ رسول اللَّهِ الذي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه
وَمِنْهَا كِتَابُهُ الذي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بن حَزْمٍ وَغَيْرُ ذلك من الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَلِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ في السَّوَائِمِ لِأَنَّ فيها مُوَالَاةٍ بين وَاجِبَيْنِ لَا وَقَصَ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ فيها أَنْ يَكُونَ بين الْفَرِيضَتَيْنِ وَقَصٌ

____________________

(2/26)


وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ وقد حُكِيَ عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قال كان عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه أَفْقَهُ من أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هذا إنَّمَا هو غَلَطٌ وَقَعَ من رِجَالِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ يقول في سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ من الْغَنَمِ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في الزِّيَادَةِ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فقال أَصْحَابُنَا إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على هذا الْعَدَدِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ وَيُدَارُ الْحِسَابُ على الْخَمْسِينَانِ في النِّصَابِ وَعَلَى الْحِقَاقِ في الْوَاجِبِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ ما قَبْلَهُ من الْوَاجِبَاتِ وَالْأَوْقَاصِ بِقَدْرِ ما يَدْخُلُ فيه
وَبَيَانُ ذلك إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ حتى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فيها شَاةٌ وَحِقَّتَانِ وفي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَحِقَّتَانِ وفي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ وفي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَحِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ في كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ حتى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فيها شَاةٌ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ وفي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ
وفي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ وفي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسًا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ إلَى مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى منها أَرْبَعَ حِقَاقٍ من كل خَمْسِينَ حِقَّةً وَإِنْ شَاءَ أَدَّى خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ من كل أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ
ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ أَبَدًا في كل خَمْسِينَ كما اُسْتُؤْنِفَتْ من مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى مِائَتَيْنِ فَيَدْخُلُ فيها بِنْتُ مَخَاضٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ مع الشِّيَاهِ
هذا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال مَالِكٌ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً لَا تَجِبُ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى تِسْعَةٍ بَلْ يُجْعَلُ تِسْعَةً عَفْوًا حتى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ مئة ( ( ( مائة ) ) ) وَثَلَاثِينَ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَيُجْعَلُ كُلُّ تِسْعَةٍ عَفْوًا وَتَجِبُ في كل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ فَيُدَارُ النِّصَابُ على الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات وَالْوَاجِبُ على الحقائق ( ( ( الحقاق ) ) ) وَبَنَاتِ لَبُونٍ فَيَجِبُ في مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ لِأَنَّهَا مَرَّةً خَمْسُونَ مرتين ( ( ( ومرتين ) ) ) أَرْبَعُونَ وفي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وفي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى من الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ
وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ أنه يُدَارُ الْحِسَابُ على الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات في النُّصُبِ وَعَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ في الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا خَالَفَهُ في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ قال إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَقَرَنَهُ بِقِرَابِ سَيْفِهِ ولم يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حتى قُبِضَ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ حتى قُبِضَا وكان فيه إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ
غير أَنَّ مَالِكًا قال لَفْظُ الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ زِيَادَةً يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عليه فيها وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ
وَالشَّافِعِيُّ قال إنَّ النبي عَلَّقَ هذا الْحُكْمَ بِنَفْسِ الزِّيَادَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعِنْدَهُمَا يُوجِبُ في كل أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ لِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بها فَلَا يَكُونُ لها حَظٌّ من الْوَاجِبِ ثُمَّ أَعْدَلُ الْأَسْنَانِ بِنْتُ لَبُونٍ وَالْحِقَّةُ فإن أَدْنَاهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَأَعْلَاهَا الْجَذَعَةُ فَالْأَعْدَلُ هو الْمُتَوَسِّطُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن قَيْسِ بن سَعْدٍ أَنَّهُ قال قُلْت لِأَبِي بَكْرِ بن عَمْرِو بن حَزْمٍ إخرج إلى كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الذي كَتَبَهُ رسول اللَّهِ لِعَمْرِو بن حَزْمٍ فَأَخْرَجَ كِتَابًا في وَرَقَةٍ وَفِيهِ فإذا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ فما كان أَقَلَّ من خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ في كل خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ
وَرُوِيَ هذا الْمَذْهَبُ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَيَدُلُّ على سماعها ( ( ( سماعهما ) ) ) من رسول اللَّهِ حتى رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقْرَأُهُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ عز وجل وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ فيها أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتُهَا من رسول اللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ نخالفها
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَنْفَذَهَا إلَى عُثْمَانَ فقال له مُرْ سُعَاتُكَ فَلْيَعْمَلُوا بها
فقال لَا حَاجَةَ لنا فيها مَعَنَا مِثْلُهَا وما هو خَيْرٌ منها فَقَدْ وَافَقَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنهما وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحِقَّتَيْنِ في مِائَةٍ وَعِشْرِينَ
____________________

(2/27)


ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا بمثله
وَبَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ ذلك الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآثَارِ بَلْ يُعْمَلُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بن حَزْمٍ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما على الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ حتى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ أن في كل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْوَاجِبَ في كل مَالٍ من جِنْسِهِ فَنَعَمْ إذَا احْتَمَلَ ذلك فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الزِّيَادَةَ تَحْتَمِلُ الْوَاجِبَ من الْجِنْسِ فإن الزِّيَادَةَ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِالْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لِبَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فيها كما كانت وَمَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فيها على حَالِهِمَا لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مع بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدُ مُحْتَمِلَةً لِلْإِيجَابِ من جِنْسِهِ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْقِيمَةِ فيها كما في الِابْتِدَاءِ حتى أَنَّهُ لَمَّا كان أَمْكَنَ الْبِنَاءُ مع بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدَ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَنَيْنَا فَنَقْلنَا من بَنَاتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلِأَنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ خَمْسِينَ فَيُوجِبُ من كل خَمْسِينَ حِقَّةً وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نِصَابُ الْبَقَرِ فَلَيْسَ في أَقَلَّ من ثَلَاثِينَ بقرة ( ( ( بقرا ) ) ) زَكَاةٌ وفي كل ثَلَاثِينَ منها تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فإذا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه بين الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِمُعَاذٍ حين بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ في كل ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وفي كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ
فَأَمَّا إذَا زَادَتْ على الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فيه ذُكِرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ وما زَادَ على الْأَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذلك ولم يُفَسَّرْ هذا الْكَلَامُ وَذُكِرَ في كِتَابِ اخْتِلَافِ أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ أبي لَيْلَى إذَا كان له إحْدَى وَأَرْبَعِينَ بَقَرَةً
قال أبو حَنِيفَةَ عليه مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أو ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا نِصَابَ عِنْدَهُ في الزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِينَ وَأَنَّهُ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ قَلَّ أو كَثُرَ بِحِسَابِ ذلك
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حتى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فإذا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أو ثُلُثُ تَبِيعٍ وَرَوَى أَسَدُ بن عَمْرٍو عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال ليس في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حتى تَكُونَ سِتِّينَ فإذا كانت سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ أو تَبِيعَتَانِ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ فإذا زَادَ على السِّتِّينَ يُدَارُ الْحِسَابُ على الثَّلَاثِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات في النُّصُبِ وَعَلَى الْأَتْبِعَةِ وَالْمُسِنَّاتِ في الْوَاجِبِ وَيُجْعَلُ تِسْعَةٌ بَيْنَهُمَا عَفْوًا بِلَا خِلَافٍ فَيَجِبُ في كل ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وفي كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فإذا كانت سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ وفي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ وفي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ وفي مِائَةٍ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ وفي مِائَةٍ وَعَشْرَةَ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ وفي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ أو ( ( ( وأربعة ) ) ) أربعة أَتْبِعَةٍ فَإِنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثَلَاثِينَ وَعَلَى هذا الِاعْتِبَارِ يُدَارُ الْحِسَابِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَقَصِ وَالنِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَا نَصَّ فِيمَا بين الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَلَا سَبِيلَ إلَى إخْلَاءِ مَالِ الزَّكَاةِ عن الزَّكَاةِ فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ على الْأَرْبَعِينَ بِحِسَابِ ما سَبَقَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَوْقَاصَ في الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ بِدَلِيلِ ما قبل الْأَرْبَعِينَ وما بَعْدَ السِّتِّينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا بين ذلك لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ أو بِمَا بَعْدَهُ فتعجل ( ( ( فتجعل ) ) ) التِّسْعَةُ عَفْوًا فإذا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أو ثُلُثُ تَبِيعٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثٌ ثلاثين ( ( ( وثلاثين ) ) ) وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ
وَجْهُ رِوَايَةِ أَسَدِ بن عَمْرٍو وَهِيَ أَعْدَلُ الرِّوَايَاتِ ما رُوِيَ في حديث مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال له لَا تَأْخُذْ من أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شيئا وَفَسَّرَ مُعَاذٌ الْوَقَصَ بِمَا بين الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ حتى قِيلَ له ما تَقُولُ فِيمَا بين الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فقال تِلْكَ الْأَوْقَاصُ لَا شَيْءَ فيها وَلِأَنَّ مَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ فيها الْأَشْقَاصُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا وَجَبَ في الْإِبِلِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ من خِلَافِ الْجِنْسِ تَحَرُّزًا عن إيجَابِ الشِّقْصِ فَكَذَلِكَ في زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الشِّقْصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نِصَابُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ في أَقَلَّ من أَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ زَكَاةٌ فإذا كانت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فإذا كانت مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ فإذا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فإذا كانت أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ثُمَّ في كل مِائَةٍ شَاةٌ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْحَسَنُ بن حَيٍّ إذَا زَادَتْ على ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وفي أَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُ شِيَاهٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ في
____________________

(2/28)


حديث أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه كَتَبَ له كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الذي كَتَبَهُ له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَفِيهِ وفي أَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ شَاةٌ وفي مِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ شَاتَانِ وفي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّصُبِ التَّوْقِيفُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كانت السَّوَائِمُ لِوَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كانت مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا أنه يُعْتَبَرُ في حَالِ الشَّرِكَةِ ما يُعْتَبَرُ في حَالِ الإنفراد وهو كَمَالُ النِّصَابِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كان نَصِيبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا كانت أَسْبَابُ الْإِسَامَةِ مُتَّحِدَةً وهو أَنْ يَكُونَ الرَّاعِي وَالْمَرْعَى وَالْمَاءُ وَالْمُرَاحُ وَالْكَلْبُ وَاحِدًا وَالشَّرِيكَانِ من أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا يُجْعَلُ مَالُهُمَا كَمَالٍ وَاحِدٍ وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لو انْفَرَدَ لَا تَجِبُ عليه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُجْمَعُ بين مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بين مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وما كان بين خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ فَقَدْ اعْتَبَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْجَمْعَ وَالتَّفْرِيقَ حَيْثُ نهى عن جَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ
وفي اعْتِبَارِ حَالِ الْجَمْعِ بِحَالِ الإنفراد في اشْتِرَاطِ النِّصَابِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ إبْطَالُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمَعِ
وَلَنَا ما روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس في سَائِمَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا كانت أَقَلَّ من أَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ نَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ في أَقَلَّ من أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا عن حَالِ الشَّرِكَةِ وَالِانْفِرَادِ فَدَلَّ أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُجْمَعُ بين مُتَفَرِّقٍ
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُرَادَ منه التَّفَرُّقُ في الْمِلْكِ لَا في الْمَكَانِ لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ النِّصَابَ الْوَاحِدَ إذَا كان في مَكَانَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه فَكَانَ الْمُرَادُ منه التَّفَرُّقُ في الْمِلْكِ وَمَعْنَاهُ إذَا كان الْمِلْكُ مُتَفَرِّقًا لَا يُجْمَعُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لِوَاحِدٍ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ كَخَمْسٍ من الْإِبِلِ بين اثْنَيْنِ أو ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ أو أَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ وَأَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يَأْخُذَ منها الصَّدَقَةَ وَيَجْمَعَ بين الْمِلْكَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا كَمِلْكٍ وَاحِدٍ ليس له ذلك وَكَثَمَانِينَ من الْغَنَمِ بين اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ أَنَّهُ يَجِبُ فيها شَاتَانِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ وَلَوْ أَرَادَا أَنْ يَجْمَعَا بين الْمِلْكَيْنِ فَيَجْعَلَاهُمَا مِلْكًا وَاحِدًا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَيُعْطِيَا الْمُصْدِقَ شَاةً وَاحِدَةً ليس لَهُمَا ذلك لِتَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فَلَا يَمْلِكَانِ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلُهُ وَلَا يُفَرَّقُ بين مُجْتَمِعٍ أَيْ في الْمِلْكِ كَرَجُلٍ له ثَمَانُونَ من الْغَنَمِ في مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إنه يَجِبُ عليه شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ أَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يُفَرِّقَ الْمُجْتَمِعَ فَيَجْعَلَهَا كَأَنَّهَا لِرَجُلَيْنِ فَيَأْخُذَ منها شَاتَيْنِ ليس له ذلك لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَهُ وَكَذَا لو كان له أَرْبَعُونَ من الْغَنَمِ في مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَجِبُ عليه الزَّكَاةُ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَفَرِّقِينَ في الْمِلْكِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ أو يَحْتَمِلُ ما قُلْنَا فَيُحْمَلُ عليه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا كان خَمْسٌ من الْإِبِلِ بين اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فيها على أَحَدِهِمَا عِنْدَنَا لِأَنَّ نِصَابَهُ نَاقِصٌ وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَلَوْ كان الْإِبِلُ عَشْرًا فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ لِكَمَالِ نِصَابِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَذَا لو كانت خَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَلَوْ كانت عِشْرِينَ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ لِأَنَّ نِصَابَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ وَلَوْ كانت خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَوْ كان النِّصَابُ ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فيه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ فيها تَبِيعٌ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كانت سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبِيعٌ بِلَا خِلَافٍ
وَكَذَلِكَ أَرْبَعُونَ من الْغَنَمِ بين اثْنَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كانت ثَمَانِينَ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَاةٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ تَمَامُ ثَمَانِينَ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ شَاةً ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ عليه الزَّكَاةُ
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا زَكَاةَ عليه
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا زَكَاةَ عليه بِخِلَافِ ما إذَا كان الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ عليه الزَّكَاةُ كما إذَا كان الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ من قال بِالْوُجُوبِ إن الزَّكَاةَ تَجِبُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ وفي مِلْكِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ فَتَجِبُ فيه الزَّكَاةُ كما لو كانت مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ من قال لَا يَجِبُ إنه لو قَسَمَ لَا يُصِيبُهُ نِصَابٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ من شَاةٍ
____________________

(2/29)


وَاحِدَةٍ إلَّا نِصْفَهَا فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ سِتُّونَ من الْبَقَرِ أو عَشْرٌ من الْإِبِلِ إذَا كانت مُشْتَرَكَةً على الْوَجْهِ الذي وَصَفْنَا فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ
وقد ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَكَذَلِكَ الزُّرُوعُ
وَهَذَا مَحْمُولٌ على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ النِّصَابَ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْمُصْدِقُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ على الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فإنه يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ منه إذَا وَجَدَ فيه وَاجِبًا على الِاخْتِلَافِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا على عِلْمِهِمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ في الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وأن الْمُصْدِقَ لَا يَتَمَيَّزُ له الْمَالُ فَيَكُونُ إذْنٌ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ من مَالِهِ دَلَالَةً ثُمَّ إذَا أَخَذَ يُنْظَرُ إنْ كان الْمَأْخُوذُ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا غير بِأَنْ كان الْمَالُ بَيْنَهُمَا على السَّوِيَّةِ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ كان وَاجِبًا على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَإِنْ كانت الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا على التَّفَاوُتِ فَأَخَذَ من أَحَدِهِمَا زِيَادَةً لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فإنه يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ
وَبَيَانُ ذلك إذَا كان ثَمَانُونَ من الْغَنَمِ بين رَجُلَيْنِ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ منها شَاتَيْنِ فَلَا تَرَاجُعَ هَهُنَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وهو شَاةٌ فلم يَأْخُذْ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا قَدْرَ الْوَاجِبِ عليه فَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ كانت الثَّمَانُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَجِبُ فيها شَاةٌ وَاحِدَةٌ على صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ لِكَمَالِ نِصَابِهِ وَزِيَادَةٌ وَلَا شَيْءَ على صَاحِبِ الثُّلُثِ لِنُقْصَانِ نِصَابِهِ فإذا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ وَأَخَذَ من عَرَضِهَا شَاةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ على صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَانَتْ الشَّاةُ الْمَأْخُوذَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَقَدْ أَخَذَ الْمُصْدِقُ من نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ شَاةٍ لِأَجْلِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الثُّلُثِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان مِائَةٌ وَعِشْرُونَ من الْغَنَمِ بين رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَوَجَبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ فَجَاءَ الْمُصْدِقُ وَأَخَذَ من عَرَضِهَا شَاتَيْنِ كان لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ على صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الثَّمَانِينَ وَالثُّلُثُ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ فَكَانَتْ الشَّاتَانِ الْمَأْخُوذَتَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةٌ وَثُلُثُ شَاةٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا شَاةٍ وَالْوَاجِبُ عليه شَاةٌ كَامِلَةٌ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ من نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةً وَثُلُثَ شَاةٍ من ( ( ( ومن ) ) ) نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَيْ شَاةٍ فَقَدْ صَارَ آخِذًا من نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ زَكَاةِ صَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ على صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وما كان بين الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ فَلَهُ صِفَاتٌ
منها أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلْإِسَامَةِ وهو أَنْ يُسِيمَهَا لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هو الْمَالُ النَّامِي وهو الْمُعَدُّ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَالنَّمَاءُ في الْحَيَوَانِ بِالْإِسَامَةِ إذْ بها يَحْصُلُ النَّسْلُ فَيَزْدَادُ الْمَالُ فَإِنْ أُسِيمَتْ لِلْحَمْلِ أو الرُّكُوبِ أو اللَّحْمِ فَلَا زَكَاةَ فيها وَلَوْ أُسِيمَتْ لِلْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ فَفِيهَا زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الرَّاعِيَةُ التي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ عن الْعَلَفِ وَيُمَوِّنُهَا ذلك وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْلَفَ فَإِنْ كانت تُسَامُ في بَعْضِ السَّنَةِ وَتُعْلَفُ وَتُمَانُ في الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَمْنَعُونَ من إطْلَاقِ اسْمِ السَّائِمَةِ على ما تُعْلَفُ زَمَانًا قَلِيلًا من السَّنَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فيها لِحُصُولِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ لِأَنَّ عِنْدَ ذلك يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ فَيَحْصُلُ الْأَدَاءُ عن طِيبِ نَفْسٍ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ إذَا أُسْيِمَتْ في أَكْثَرِ السَّنَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ فيه وَاحِدًا من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّوْعُ وَالصِّفَةُ أو اخْتَلَفَا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ من كل جِنْسٍ من السَّوَائِمِ وَسَوَاءٌ كانت كُلُّهَا ذُكُورًا أو إنَاثًا أو مُخْتَلِطَةً وَسَوَاءٌ كانت من نَوْعٍ وَاحِدٍ أو أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْعِرَابِ والبخاتي في الْإِبِلِ وَالْجَوَامِيسِ في الْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ في الْغَنَمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِنِصَابِهَا بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعَ بِأَيِّ صِفَةٍ كانت كَاسْمِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذلك وَسَوَاءٌ كان مُتَوَلِّدًا من الْأَهْلِيِّ أو من أَهْلِيٍّ وَوَحْشِيٍّ بَعْدَ أَنْ كان الْأُمُّ أَهْلِيًّا كَالْمُتَوَلِّدِ من الشَّاةِ وَالظَّبْيِ إذَا كان أُمُّهُ شَاةً وَالْمُتَوَلِّدُ من الْبَقَرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ إذَا كان أُمُّهُ أَهْلِيَّةً فَتَجِب فيه الزَّكَاةُ وَيَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
____________________

(2/30)


لَا زَكَاةَ فيه
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الشَّرْعَ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ بِقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ
وَهَذَا وَإِنْ كان شَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ فَلَيْسَ بِشَاةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَحْلِ فَلَا يَكُونُ شَاةً على الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ
وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْأُمِّ رَاجِحٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلِمَا نَذْكُرُ في كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا السِّنُّ وهو أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَسَانَّ أو بَعْضُهَا فَإِنْ كان كُلُّهَا صِغَارًا فُصْلَانًا أو حُمْلَانًا أو عَجَاجِيلَ فَلَا زَكَاةَ فيها
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وكان أبو حَنِيفَةَ يقول أَوَّلًا يَجِبُ فيها ما يَجِبُ في الْكِبَارِ وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَمَالِكٌ ثُمَّ رَجَعَ وقال يَجِبُ فيها وَاحِدَةٌ منها وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَجِبُ فيها شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ عليه وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ في زَكَاةِ الْفُصْلَانِ في رِوَايَةٍ قال لَا زَكَاةَ فيها حتى تَبْلُغَ عَدَدًا لو كانت كِبَارًا تَجِبُ فيها وَاحِدَةٌ منها وهو خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
وفي رِوَايَةٍ قال في الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ وفي الْعَشْرِ خمسا ( ( ( خمس ) ) ) فَصِيلٍ وفي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ وفي عِشْرِينَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ منها
وفي رِوَايَةٍ قال في الْخَمْسِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا وفي الْعَشْرِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قمية ( ( ( قيمة ) ) ) خُمُسَيْ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا وفي خَمْسَةِ عَشْرَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا
وفي عِشْرِينَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يَجِبُ وَاحِدَةٌ منها
وَعَلَى رِوَايَاتِهِ كُلِّهَا قال لَا تَجِبُ في الزِّيَادَةِ على خَمْسٍ وَعِشْرِينَ شَيْءٌ حتى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الذي لو كانت كِبَارًا يَجِبُ فيها اثْنَانِ وهو سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ ثُمَّ لَا يَجِبُ فيها شَيْءٌ حتى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الذي لوكانت كِبَارًا يَجِبُ فيها ثَلَاثَةٌ وهو مائة ( ( ( خمسة ) ) ) وخمسة وَأَرْبَعُونَ
وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِعُمُومِ قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَقَوْلِهِ في ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَبِهِ تَبَيَّنَ إن الْمُرَادَ من الْوَاجِبِ في قَوْلِهِ في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ وفي قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ هو الْكَبِيرَةُ لَا الصَّغِيرَةُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْإِيجَابِ في الصِّغَارِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ وفي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْمُسِنَّةِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلسُّعَاةِ إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ الناس
وَقَوْلُهُ لَا تَأْخُذُوا من حرزات ( ( ( حزرات ) ) ) الْأَمْوَالِ وَلَكِنْ خُذُوا من حَوَاشِيهَا وَأَخْذُ الْكِبَارِ من الصِّغَارِ أَخْذٌ من كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ وحرزاتها ( ( ( وحزراتها ) ) ) وأنه مَنْهِيٌّ وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ على النَّظَرِ من الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُلَّاكِ وَجَانِبِ الْفُقَرَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ هو الْوَسَطُ وما كان ذلك إلَّا مُرَاعَاتِهِ الْجَانِبَيْنِ وفي إيجَابِ الْمُسِنَّةِ اضرار بِالْمُلَّاكِ لِأَنَّ قِيمَتَهَا قد تَزِيدُ على قِيمَةِ النِّصَابِ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وفي نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسًا إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ الْعَدْلُ في إيجَابِ وَاحِدَةٍ منها
وقد رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ وَالْعَنَاقُ هِيَ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةُ من أَوْلَادِ الْمَعْزِ فَدَلَّ أَنَّ أَخْذَ الصِّغَارِ زَكَاةً كان أَمْرًا ظَاهِرًا في زَمَنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَنْصِيبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهَذِهِ الْأَسَامِي لَا تَتَنَاوَلُ الْفُصْلَانَ وَالْحُمْلَانَ وَالْعَجَاجِيلَ فلم يَثْبُتْ كَوْنُهَا نِصَابًا
وَعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ أَنَّهُ قال وكان مُصَدِّقُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ من رَاضِعِ اللَّبَنِ شيئا
وَأَمَّا قَوْلُ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه لو مَنَعُونِي عِنَاقًا فَقَدْ رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال لو مَنَعُونِي عِقَالًا وهو صَدَقَةُ عَامٍ أو الْحَبْلُ الذي يُعْقَلُ بِهِ الصَّدَقَةُ فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَةُ فيه فلم يَكُنْ حُجَّةً وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ كَلَامُ تَمْثِيلٍ لَا تَحْقِيقٍ أَيْ لو وَجَبَتْ هذه وَمَنَعُوهَا لَقَاتَلْتُهُمْ وَأَمَّا صُورَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فيها لِأَنَّهَا مُشْكِلَةٌ إذْ الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ قبل تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَبْقَى اسْمُ الْفَصِيلِ وَالْحَمَلِ وَالْعُجُولِ بَلْ تَصِيرُ مُسِنَّةً
قال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ في أَنَّ الْحَوْلَ هل يَنْعَقِدُ عليها وَهِيَ صغار ( ( ( صغارا ) ) ) أو ( ( ( ويعتبر ) ) ) يعتبر انْعِقَادُ الْحَوْلِ عليها إذَا كَبِرَتْ وَزَالَتْ صِفَةُ الصِّغَرِ عنها
وقال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كان له نِصَابٌ من النُّوقِ فَمَضَى عليها سِتَّةُ أَشْهُرٍ أو أَكْثَرُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَتَمَّ الْحَوْلُ على الْأَوْلَادِ وَهِيَ صِغَارٌ هل تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْأَوْلَادِ أَمْ لَا وَعَلَى هذا الإختلاف إذَا كان له مُسِنَّاتٌ فَاسْتَفَادَ في خِلَالِ الْحَوْلِ صِغَارًا ثُمَّ هَلَكَتْ الْمُسِنَّاتُ وَبَقِيَ الْمُسْتَفَادُ أَنَّهُ هل تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمُسْتَفَادِ فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْكِتَابِ فِيمَنْ كان له أَرْبَعُونَ
____________________

(2/31)


حَمَلًا وَوَاحِدَةٌ مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ وَتَمَّ الْحَوْلُ على الْحُمْلَانِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَجِبُ وَاحِدَةٌ منها
وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ
هذا إذَا كان الْكُلُّ صِغَارًا فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وكان وَاحِدٌ منها ( ( ( منهما ) ) ) كَبِيرًا فإن الصِّغَارَ تُعَدُّ وَيَجِبُ فيها ما يَجِبُ في الْكِبَارِ وهو الْمُسِنَّةُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال تعد ( ( ( وتعد ) ) ) صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا وَرُوِيَ أَنَّ الناس شَكَوْا إلَى عُمَرَ عَامِلَهُ وَقَالُوا إنَّهُ يَعُدُّ عَلَيْنَا السَّخْلَةَ وَلَا يَأْخُذُهَا مِنَّا فقال عُمَرُ أَلَيْسَ يَتْرُكُ لَكُمْ الرُّبَّى وَالْمَاخِضَ وَالْأَكِيلَةَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ ثُمَّ قال عُدَّهَا وَلَوْ رَاحَ بها الرَّاعِي على كَفِّهِ وَلَا تَأْخُذْهَا منهم وَلِأَنَّهَا إذَا كانت مُخْتَلِطَةً بِالْكِبَارِ أو كان فيها كَبِيرٌ دَخَلَتْ تَحْتَ اسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ النُّصُوصِ فَيَجِبُ فيها ما يَجِبُ في الْكِبَارِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان فيها مُسِنَّةٌ كانت تَبَعًا لِلْمُسِنَّةِ فَيُعْتَبَرُ الْأَصْلُ دُونَ التَّبَعِ فَإِنْ كان وَاحِدٌ منها مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَجِبُ في الصِّغَارِ زكاتها ( ( ( وزكاتها ) ) ) بِقَدْرِهَا حتى لو كانت حُمْلَانًا يَجِبُ عليه تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جزأ من أَرْبَعِينَ جزأ من الْحَمَلِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ في الصِّغَارِ لِأَجْلِ الْكِبَارِ تَبَعًا لها فَكَانَتْ أَصْلًا في الزَّكَاةِ فَهَلَاكُهَا كَهَلَاكِ الْجَمِيعِ وَعِنْدَهُ الصِّغَارُ أَصْلٌ في النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ منها وَإِنَّمَا الْفَصْلُ على الْحَمَلِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ الْمُسِنَّةِ فَهَلَاكُهَا يُسْقِطُ الْفَصْلَ لَا أَصْلَ الْوَاجِبِ
وَلَوْ هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ يُؤْخَذُ قِسْطُهَا من الزَّكَاةِ وَذَلِكَ جزأ من أَرْبَعِينَ جُزْءًا من الْمُسِنَّةِ لِأَنَّ الْمُسِنَّةَ كانت سَبَبَ زَكَاةِ نَفْسِهَا وَزَكَاةُ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سِوَاهَا لِأَنَّ كُلَّ الْفَرِيضَةِ كانت فيها لَكِنْ أَعْطَى الصِّغَارَ حُكْمَ الْكِبَارِ تَبَعًا لها فَصَارَتْ الصِّغَارُ كَأَنَّهَا كِبَارٌ فإذا هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ هَلَكَتْ بِقِسْطِهَا من الْفَرِيضَةِ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ بِقِسْطِهَا من الْفَرِيضَةِ وهو ما ذَكَرْنَا
ثُمَّ الْأَصْلُ حَالُ اخْتِلَاطِ الصِّغَارِ بِالْكِبَارِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ في الصِّغَارِ تَبَعًا لِلْكِبَارِ إذَا كان الْعَدَدُ الْوَاجِبُ في الْكِبَارِ مَوْجُودًا في الصِّغَارِ في قَوْلِهِمْ جميعا فإذا لم يَكُنْ عَدَدُ الْوَاجِبِ في الْكِبَارِ كُلُّهُ مَوْجُودًا في الصِّغَارِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيَانُ ذلك إذَا كان له مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشْرَ حَمَلًا يَجِبُ فيها مُسِنَّتَانِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ عَدَدَ الْوَاجِبِ مَوْجُودٌ فيه وَإِنْ كان له مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا أُخِذَتْ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ لَا غير في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُؤْخَذُ الْمُسِنَّةُ وَحَمَلٌ
وَكَذَلِكَ سِتُّونَ من الْعَجَاجِيلُ فيها تَبِيعٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ لَا غير
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ وَعُجُولٌ وَكَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ من الْفُصْلَانِ فيها بِنْتُ لَبُونٍ إنها تُؤْخَذُ فَحَسْبُ في قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُؤْخَذُ بِنْتُ لَبُونٍ وَفَصِيلٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّغَارِ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَتَعَلَّقُ بها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ فَقَدْ ذكرناه ( ( ( ذكرنا ) ) ) في بَيَانِ مِقْدَارِ نِصَابِ السَّوَائِمِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وهو الْأَسْنَانُ الْمَعْرُوفَةُ من بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةُ وَالْجَذَعَةُ وَالتَّبِيعُ وَالْمُسِنَّةُ وَالشَّاةُ وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ مَعَانِي هذه الْأَسْمَاءِ فَبِنْتُ الْمَخَاضِ هِيَ التي تَمَّتْ لها سَنَةٌ وَدَخَلَتْ في الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَهَا
وَالْمَاخِضُ اسْمٌ لِلْحَامِلِ من النُّوقِ
وَبِنْتُ اللَّبُونِ هِيَ التي تَمَّتْ لها سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ في الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَهَا وَوَلَدَتْ فَصَارَتْ ذَاتِ لَبَنٍ وَاللَّبُونُ هِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ
وَالْحِقَّةُ هِيَ التي تَمَّتْ لها ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ في الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إمَّا لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحَمْلَ وَالرُّكُوبَ أو لِاسْتِحْقَاقِهَا الضِّرَابَ
وَالْجَذَعَةُ هِيَ التي تَمَّتْ لها أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ في الْخَامِسَةِ وَلَا اشْتِقَاقَ لِاسْمِهَا
وَالذُّكُورُ منها ابن مَخَاضٍ وابن لون ( ( ( لبون ) ) ) وَحِقٌّ وَجَذَعٌ وَوَرَاءَ هذه أَسْنَانٌ من الْإِبِلِ من الثَّنِيِّ وَالسَّدِيسِ وَالْبَازِلِ لَكِنْ لَا مَدْخَلَ لها في بَابِ الزَّكَاةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ مَعَانِيهَا في كُتُبِ الْفِقْهِ
وَالتَّبِيعُ الذي تَمَّ له حَوْلٌ وَدَخَلَ في الثَّانِي وَالْأُنْثَى منه التَّبِيعَةُ وَالْمُسِنَّةُ التي تَمَّتْ لها سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ في الثَّالِثَةِ وَالذَّكَرُ منه الْمُسِنُّ
وَأَمَّا الشَّاةُ فَذُكِرَ في الْأَصْلِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الثَّنِيَّ فَصَاعِدًا وَالثَّنِيُّ من الشَّاةِ هِيَ التي دَخَلَتْ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الجزع ( ( ( الجذع ) ) ) من الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ من الْمَعْزِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْجَذَعِ من الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ من الْمَعْزِ لِأَنَّهُ قال وَلَا يُؤْخَذُ في الصَّدَقَةِ إلَّا ما يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةِ وَالْجَذَعُ من الضَّأْنِ يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةِ
وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْحَسَنِ وَالْجَذَعُ
____________________

(2/32)


من الْغَنَمِ الذي أتى عليه سِتَّةُ أَشْهُرٍ
وَقِيلَ الذي أتى عليه أَكْثَرُ السَّنَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ من الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّمَا حَقُّنَا في الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ وَلِأَنَّ الْجَذَعَ يَجُوزُ في الْأَضَاحِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ في الزَّكَاةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَكْثَرُ شُرُوطًا من الزَّكَاةِ فَالْجَوَازُ هُنَاكَ يَدُلُّ على الْجَوَازِ هَهُنَا من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يجزىء في الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ من الْمَعْزِ فَصَاعِدًا ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ مع ما أَنَّ هذا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قال ذلك سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ فَالْوَاجِبُ فيها صِفَاتٌ لَا بُدَّ من مَعْرِفَتِهَا منها الْأُنُوثَةُ في الْوَاجِبِ في الْإِبِلِ من جِنْسِهَا من بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ منها وهو ابن الْمَخَاضِ وابن اللَّبُونِ وَالْحِقُّ وَالْجَذَعُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيها إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فيها بِالْإِنَاثِ فَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ في بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا
وَأَمَّا في الْبَقَرِ فَيَجُوزُ فيها الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ وهو قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وفي ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَكَذَا في الْإِبِلِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ وَإِنَّهَا تَقَعُ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَكَذَا في الْغَنَمِ عِنْدَنَا يَجُوزُ في زَكَاتِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كانت كُلُّهَا ذُكُورًا وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فيها بِاسْمِ الشَّاةِ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ
وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى في اللُّغَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ إلَّا من طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلسُّعَاةِ إيَّاكُمْ وحرزات ( ( ( وحزرات ) ) ) أَمْوَالِ الناس وَخُذُوا من أَوْسَاطِهَا
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال لِلسَّاعِي إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ الناس وَخُذْ من حَوَاشِيهَا وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا ليس بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ
وفي الْخَبَرِ الْمَعْرُوفِ إنه رَأَى في إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ على السَّاعِي وقال أَلَمْ أَنْهَكُمْ عن أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ الناس حتى قال السَّاعِي أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ يا رَسُولَ اللَّهِ وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ على مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ في أَخْذِ الْوَسَطِ لِمَا في أَخْذِ الْخِيَارِ من الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وفي أَخْذِ الْأَرْذَالِ من الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ نَظَرُ الْجَانِبَيْنِ في أَخْذِ الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ هو أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ من الْأَرْفَعِ وَأَرْفَعَ من الْأَدْوَنِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ في المنتقي
وَلَا يُؤْخَذُ في الصَّدَقَةِ الربي بِضَمِّ الرَّاءِ وَلَا الْمَاخِضُ وَلَا الْأَكِيلَةُ وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ قال مُحَمَّدٌ الربي التي تُرَبِّي وَلَدَهَا وَالْأَكِيلَةُ التي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ وَالْمَاخِضُ التي في بَطْنِهَا وَلَدٌ
وَمِنْ الناس من طَعَنَ في تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ الربي وَالْأَكِيلَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الربي الْمُرَبَّاةُ وَالْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ وَطَعْنُهُ مَرْدُودٌ عليه وكان من حَقِّهِ تَقْلِيدُ مُحَمَّدٍ إذْ هو كما كان إمَامًا في الشَّرِيعَةِ وكان إمَامًا في اللُّغَةِ وَاجِبُ التَّقْلِيدِ فيها كَتَقْلِيدِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وقد قَلَّدَهُ أبو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بن سَلَامٍ مع جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
وسئل ( ( ( وسأل ) ) ) أبو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ عن الْغَزَالَةِ فقال هِيَ عَيْنُ الشَّمْسِ ثُمَّ قال أَمَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ قال لِغُلَامِهِ يَوْمًا اُنْظُرْ هل دَلَكَتْ الْغَزَالَةُ يَعْنِي الشَّمْسَ
وكان ثَعْلَبُ يقول محمد بن الْحَسَنِ عِنْدَنَا من أَقْرَانِ سِيبَوَيْهِ وكان قَوْلُهُ حُجَّةً في اللُّغَةِ فَكَانَ على الطَّاعِنِ تَقْلِيدُهُ فيها كَيْفَ وقد ذَكَرَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ وَمُجْمَلِ اللُّغَةِ ما يُوَافِقُ قَوْلَهُ في الرُّبَّى
قال صَاحِبُ الدِّيوَانِ الربي التي وَضَعَتْ حَدِيثًا أَيْ هِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ
وقال صَاحِبُ الْمُجْمَلِ الربي الشَّاةُ التي تُحْبَسُ في الْبَيْتِ لِلَّبَنِ فَهِيَ مُرَبِّيَةٌ لَا مُرَبَّاةٌ وَالْأَكِيلَةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ في بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ بِمَا قَالَهُ الطَّاعِنُ لَكِنَّ تَفْسِيرَ مُحَمَّدٍ أَوْلَى وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَفْعُولَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ فَعِيلٍ يَسْتَوِي فيه الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يَدْخُلُ فيه هَاءُ التَّأْنِيثِ يُقَالُ امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ من غَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ فَلَوْ كانت الْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ لَمَا أُدْخِلَ فيها الْهَاءُ على اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَلَمَّا أُدْخِلَ الْهَاءُ دَلَّ أنها لَيْسَتْ بِاسْمِ للمأكولة ( ( ( المأكولة ) ) ) بَلْ لَمَّا أُعِدَّ لِلْأَكْلِ كالأضيحة ( ( ( كالأضحية ) ) ) أنها اسْمٌ لِمَا أُعِدَّ لِلتَّضْحِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسَوَاءٌ كان النِّصَابُ من نَوْعٍ وَاحِدٍ أو من نَوْعَيْنِ كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ وَالْبُخْتِ أَنَّ الْمُصْدِقَ يَأْخُذُ منها وَاحِدَةً وَسَطًا على التَّفْسِيرِ الذي ذكرنا ( ( ( ذكرناه ) ) )
وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَأْخُذُ من الْغَالِبِ وقال في الْقَوْلِ الْآخَرِ أنه يَجْمَعُ بين قِيمَةِ شَاةٍ من الشأن ( ( ( الضأن ) ) ) وَشَاةٍ من الْمَعْزِ وَيُنْظَرُ في
____________________

(2/33)


نِصْفِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ شَاةٌ بِقِيمَةِ ذلك من أَيِّ النَّوْعَيْنِ كانت وهو غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ الناس وحرزاتها ( ( ( وحزراتها ) ) ) وَأَمَرَ بِأَخْذِ أَوْسَاطِهَا من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا كان النِّصَابُ من نَوْعٍ وَاحِدٍ أو نَوْعَيْنِ
ولوكان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ كُلُّهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ أو كُلُّهَا بَنَاتُ لَبُونٍ أو حِقَاقٌ أو جِذَاعٌ فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ وَإِنْ كانت عِجَافًا فَإِنْ كان فيها بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ وأعلى سِنًّا منها فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ وَسَطٌ وَكَذَلِكَ إنْ كانت خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَنَّهُ يَجِبُ فيها بِنْتُ مَخَاضٍ وَتُؤْخَذُ تِلْكَ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَإِنْ كانت جَيِّدَةً لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْجَيِّدَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ وَإِنْ أَخَذَ الْجَيِّدَةَ يَرُدُّ الْفَضْلَ وَإِنْ كانت كُلُّهَا عِجَافًا ليس فيها بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا ما يُسَاوِي قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ بَلْ قِيمَتُهَا دُونَ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْسَاطٍ فَفِيهَا شَاةٌ بِقَدْرِهَا
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذلك أَنْ تَجْعَلَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطًا حَكَمًا في الْبَابِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهَا من النِّصَابِ إنْ كانت قِيمَةُ بِنْتِ مختض ( ( ( مخاض ) ) ) وَسَطٍ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسِينَ تَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ وَكَذَلِكَ لو كان التَّفَاوُتُ أَكْثَرَ من النِّصْفِ أو أَقَلَّ فَكَذَلِكَ يَجِبُ على قَدْرِهِ وَهِيَ من مَسَائِلِ الزيادا ( ( ( الزيادات ) ) ) تُعْرَفُ هُنَاكَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْوَسَطُ في النِّصَابِ فلم يُوجَدْ الْوَسَطُ وَوُجِدَ سِنٌّ أَفْضَلَ منه أو دُونَهُ
قال مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أن الْمُصْدِقَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَدْوَنَ وَأَخَذَ تَمَامَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ من الدَّرَاهِمِ
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ السَّائِمَةِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَفْضَلَ وَاسْتَرَدَّ الْفَضْلَ من الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَدْوَنَ وَدَفَعَ الْفَضْلَ من الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ في بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ في ذلك لِصَاحِبِ الْمَالِ دُونَ الْمُصْدِقِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُصَّدِّقِ في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو ما إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْوَاجِبِ فَالْمُصْدِقُ بِالْخِيَارِ بين أَنَّهُ لَا يَأْخُذْ وَبَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَنْ كان الْوَاجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْحِقَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ أو كان الْوَاجِبُ حِقَّةً فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْجَذَعَةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ لِمَا فيه من تَشْقِيصِ الْعَيْنِ وَالشِّقْصُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ فَكَانَ له أَنْ لَا يَقْبَلَ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَلَا خِيَارَ له وَلَيْسَ له أَنْ يَمْتَنِعَ من الْقَبُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْخَيْلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْخَيْلَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلُوفَةً أو سَائِمَةً فَإِنْ كانت عَلُوفَةً بِأَنْ كانت تُعْلَفُ لِلرُّكُوبِ أو لِلْحَمْلِ أو لِلْجِهَادِ في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا زَكَاةَ فيها لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ وَمَالُ الزَّكَاةِ هو الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عن الْحَاجَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كانت تُعْلَفُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مَالًا نَامِيًا فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ لِأَنَّ الأعداد لِلتِّجَارَةِ دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ وَإِنْ كانت سَائِمَةً فَإِنْ كانت تُسَامُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أو لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَلَا زَكَاةَ فيها لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كانت تُسَامُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كانت مُخْتَلِطَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها قَوْلًا وَاحِدًا وَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى من كل فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَدَّى من كل مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَإِنْ كانت إنَاثًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عنه ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ
وَإِنْ كانت ذُكُورًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عنه أَيْضًا ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ في الْآثَارِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا زَكَاةَ فيها كَيْفَمَا كانت وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَفَوْتُ لَكُمْ عن صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ في الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ
وروى عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا في فَرَسِهِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ ذلك نُصَّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ لَا بُدَّ لها من نِصَابٍ مُقَدَّرٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالشَّرْعُ لم يَرِدْ بِتَقْدِيرِ النِّصَابِ في السَّائِمَةِ منها فَلَا يَجِبُ فيها زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْحَمِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن جَابِرٍ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في كل فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ وَلَيْسَ في الرَّابِطَةِ شَيْءٌ
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أبي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ رضي اللَّهُ عنه في صَدَقَةِ الْخَيْلِ أَنْ خَيِّرْ أَرْبَابَهَا فَإِنْ شاؤوا أَدَّوْا من كل فَرَسٍ دِينَارًا وَإِلَّا قَوِّمْهَا وَخُذْ من كل مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
وَرُوِيَ
____________________

(2/34)


عن السَّائِبِ بن زيد ( ( ( يزيد ) ) ) رضي اللَّهُ عنه أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا بَعَثَ الْعَلَاءَ بن الْحَضْرَمِيِّ إلَى الْبَحْرَيْنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ من كل فَرَسٍ شَاتَيْنِ أو عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَلِأَنَّهَا مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَجِبُ فيها الزَّكَاةُ كما لو كانت لِلتِّجَارَةِ
وَأَمَّا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَفَوْت لَكُمْ عن صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَالْمُرَادُ منها الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلرُّكُوبِ وَالْغَزْوِ لَا لِلْإِسَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْخَيْلِ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ وَالْمُرَادُ منها عَبِيدُ الْخِدْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فيها صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ في عَبِيدِ الْخِدْمَةِ أو يُحْتَمَلُ ما ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عليه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وهو الْجَوَابُ عن تَعَلُّقِهِمْ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ
وَأَمَّا إذَا كان الْكُلُّ إنَاثًا أو ذُكُورًا فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ السَّوَائِمِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها وَإِنْ كان كُلُّهَا إنَاثًا أو ذُكُورًا كَذَا هَهُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فيها لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هو الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ فيها بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَلَا لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ لِأَنَّ لَحْمَهَا غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ لَحْمَهَا مَأْكُولٌ فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فيها بِالسَّمْنِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَلَا شَيْءَ فيها وَإِنْ كانت سَائِمَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ عَادَةً لَا الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لَكِنَّهَا قد تُسَامُ في غَيْرِ وَقْتِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ مُؤْنَةِ الْعَلَفِ وَإِنْ كانت لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من له الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ من له وِلَايَةُ الْأَخْذِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الأخذ وفي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وهو الْمَوَاشِي وَالْمَالُ الذي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ وَبَاطِنٌ وهو الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ في مَوَاضِعِهَا أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ وَهُمْ الْمُصْدِقُونَ من السُّعَاةِ وَالْعَشَّارِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ وَالسَّاعِي هو الذي يَسْعَى في الْقَبَائِلِ لِيَأْخُذَ صَدَقَةَ الْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا وَالْعَاشِرُ هو الذي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ من التَّاجِرِ الذي يَمُرُّ عليه وَالْمُصْدِقُ اسْمُ جِنْسٍ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ في الْمَوَاشِي وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَالْآيَةُ نَزَلَتْ في الزَّكَاةِ
عليه عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَمَرَ اللَّهُ عز وجل نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ وَالْأَخْذَ قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليها } فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذلك بَيَانًا شَافِيًا حَيْثُ جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عليها حَقًّا فَلَوْ لم يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ في أَمَاكِنِهَا وكان أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لم يَكُنْ لِذَكَرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ إلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ من الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا وَعَلَى ذلك فَعَلَ الْأَئِمَّةُ من بَعْدِهِ من الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حتى قال الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا امْتَنَعَتْ الْعَرَبُ عن أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهِ لو مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَحَارَبْتُهُمْ عليه وَظَهَرَ الْعُمَّالُ بِذَلِكَ من بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هذا
وَكَذَا الْمَالُ الْبَاطِنُ إذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ كان له أَنْ يَأْخُذَ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ من الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا كان له الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ في الْبَرَارِي لَا تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إلَّا بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه نَصَّبَ الْعَشَارَ وقال لهم خُذُوا من الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه وَاحِدٌ منهم فَكَانَ إجْمَاعًا
وَرُوِيَ عن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ وقال أخبرني بهذا من سَمِعَهُ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا الْمَالُ الْبَاطِنُ الذي يَكُونُ في الْمِصْرِ فَقَدْ قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنَّ رَسُولَ اللَّه صلى اللَّهُ عليه وسلم طَالَبَ بِزَكَاتِهِ وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ طَالَبَا وَعُثْمَانُ طَالَبَ زَمَانًا وَلَمَّا كَثُرَتْ أَمْوَالُ الناس وَرَأَى أَنَّ في تَتَبُّعِهَا حَرَجًا على الْأُمَّةِ وفي تَفْتِيشِهَا ضَرَرًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال لم يَبْلُغْنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعَثَ في مُطَالَبَةِ
____________________

(2/35)


الْمُسْلِمِينَ بِزَكَاةِ الْوَرِقِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ الناس كَانُوا يُعْطُونَ ذلك وَمِنْهُمْ من كان يَحْمِلُ إلَى الْأَئِمَّةِ فَيَقْبَلُونَ منه ذلك وَلَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا عن مَبْلَغِ مَالِهِ وَلَا يُطَالِبُونَهُ بِذَلِكَ إلَّا ما كان من تَوْجِيهِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه المشار ( ( ( العشار ) ) ) إلَى الْأَطْرَافِ وكان ذلك منه عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَّنْ بَعُدَ دَارُهُ وَشُقَّ عليه أَنْ يَحْمِلَ صَدَقَتَهُ إلَيْهِ وقد جَعَلَ في كل طَرَفٍ من الْأَطْرَافِ عَاشِرَ التُّجَّارِ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالذِّمَةِ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذُوا من تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ ما يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ وكان ذلك من عُمَرَ تَخْفِيفًا على الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ على الْإِمَامِ مُطَالَبَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنَ وَأَمْوَالَ التِّجَارَةِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ سِوَى الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ وَأَنَّ مُطَالَبَةَ ذلك إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الْإِمَامِ بِشَيْءٍ من ذلك فَيَقْبَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالسُّنَّةُ إلَى غَيْرِهِ
وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ إذَا أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هذه الْحُقُوقُ عن أَرْبَابِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذلك كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا في أَهْلِهَا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لهم فَيَسْقُطُ عَنَّا بِأَخْذِهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لم يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عليهم
وقال الشَّيْخُ أبو بَكْرِ بن سَعِيدٍ إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ وَلَا تسقط ( ( ( أسقط ) ) ) الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ يُصْرَفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عن حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا في أَهْلِهَا
وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ إنَّ جَمِيعَ ذلك يَسْقُطُ وَيُعْطِي ثَانِيًا لِأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا وَلَوْ نَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ذلك عن زَكَاةِ مَالِهِ قِيلَ يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ في الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لو أَدَّوْا ما عليهم من التَّبِعَاتِ وَالْمَظَالِمِ صَارُوا فُقَرَاءَ
وَرُوِيَ عن أبي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لمعلي ( ( ( لعلي ) ) ) بن عِيسَى بن هَامَانَ وكان وإلى خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا قال ذلك لِمَا ذكرناه ( ( ( ذكرنا ) ) )
وَحُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ سَأَلَ وَاحِدًا من الْفُقَهَاءِ عن كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَزِمَتْهُ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ فَبَكَى الْأَمِيرُ وَعَرَفَ أَنَّهُ يقول لو أَدَّيْتَ ما عَلَيْكَ من التَّبِعَاتِ وَالْمَظْلِمَةِ لم يَبْقَ لَك شَيْءٌ
وَقِيلَ إنَّ السُّلْطَانَ لو أَخَذَ مَالًا من رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُصَادَرَةً فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذلك عن زَكَاةِ مَالِهِ وَعُشْرِ أَرْضِهِ يَجُوزُ ذلك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ فَأَنْوَاعٌ منها وُجُودُ الْحِمَايَةِ من الْإِمَامِ حتى لو ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ على مَدِينَةٍ من مَدَائِنِ أَهْلِ الْعَدْلِ أو قَرْيَةٍ من قُرَاهُمْ وَغَلَبُوا عليها فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ سَوَائِمِهِمْ وَعُشُورِ أَرَاضِيهمْ وَخَرَاجِهَا ثُمَّ ظَهَرَ عليهم إمام ( ( ( عليهم ) ) ) الْعَدْلِ لَا يَأْخُذُ منهم ثَانِيًا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ ولم يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ يُفْتَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَالْعُشُورَ ثَانِيًا وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ عن ذِكْرِ الْخَرَاجِ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا قال بَعْضُهُمْ عليهم أَنْ يُعِيدُوا الْخَرَاجَ كَالزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ
وقال بَعْضُهُمْ ليس عليهم الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَذُبُّونَ عن حَرِيمِ الْإِسْلَامِ
وَمِنْهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَلَا بُدَّ من تقويم ( ( ( تقديم ) ) ) الْوُجُوبِ فَتُرَاعَى له شَرَائِطُ الْوُجُوبِ وَهِيَ ما ذَكَرْنَا من الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَكَمَالِ النِّصَابِ وَكَوْنِهِ مُعَدًّا لِلنَّمَاءِ وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ وَعَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ وَأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَنَحْوِ ذلك
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْمَالِ وَحُضُورُ الْمَالِكِ حتى لو حَضَرَ الْمَالِكُ ولم يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حِمَايَةِ السُّلْطَانِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَالُ ولم يَحْضُرْ الْمَالِكُ وَلَا الْمَأْذُونُ من جِهَةِ الْمَالِكِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَنَحْوِهِ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا جاء السَّاعِي إلَى صَاحِبِ الْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا يُرِيدُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فقال ليس ( ( ( ليست ) ) ) هِيَ مَالِي أو قال لم يَحُلْ عليها الْحَوْلُ أو قال عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَيُسْتَحْلَفُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وهو مُطَالَبَةُ السَّاعِي فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ وَلَوْ قال أَدَّيْتُ إلَى مُصْدِقٍ آخَرَ فَإِنْ لم يَكُنْ في تِلْكَ السَّنَةِ مُصْدِقٌ آخَرُ لَا يُصَدَّقُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ بقين ( ( ( بيقين ) ) ) وَإِنْ كان في تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ يُصَدَّقُ مع الْيَمِينِ سَوَاءٌ أتي بِخَطٍّ وَبَرَاءَةٍ أو لم يَأْتِ بِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ ما لم يَأْتِ بِالْبَرَاءَةِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَا بُدَّ من مُرَجِّحٍ وَالْبَرَاءَةُ أَمَارَةُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن الرُّجْحَانَ ثَابِتٌ بِدُونِ الْبَرَاءَةِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ إذْ له أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُصْدِقِ فَقَدْ أَخْبَرَ عن الدَّفْعِ إلَى من جُعِلَ له الدَّفْعُ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْمُودَعِ إذَا قال دَفَعْتُ
____________________

(2/36)


الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ وَالْبَرَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ صَادِقَةٍ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَعَلَى هذا إذَا أتى بِالْبَرَاءَةِ على خِلَافِ اسْمِ ذلك الْمُصْدِقِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ على جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بها وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَعَلَى رِوَايَة الْحَسَنِ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ شَرْطٌ فَلَا تُقْبَلُ بِدُونِهَا
وَلَوْ قال أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَا يُصَدَّقُ وَتُؤْخَذُ منه عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْخَذُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِيُوصِلَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وهو الْفَقِيرُ وقد أَوْصَلَ بِنَفْسِهِ
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ أَدَّيْتُ بِنَفْسِي أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ السُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَكَذَلِكَ الْعُشْرُ على هذا الْخِلَافِ وَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَنْ مَرَّ على الْعَاشِرِ بِالسَّوَائِمِ أو بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ أو بِأَمْوَالِ التِّجَارَةِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا إلَّا في قَوْلِهِ أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِيمَا سِوَى السَّوَائِمِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُؤْخَذُ ثَانِيًا لِأَنَّ أَدَاءَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضٌ إلَى أَرْبَابِهَا إذَا كَانُوا يَتَّجِرُونَ بها في الْمِصْرِ فلم يَتَضَمَّنْ الدَّفْعُ بِنَفْسِهِ إبْطَالَ حَقِّ أَحَدٍ
وَلَوْ مَرَّ على الْعَاشِرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَ الْعَاشِرُ أَنَّ له مِائَةً أُخْرَى قد حَالَ عليها الْحَوْلُ لم يَأْخُذُ منه زَكَاةَ هذه الْمِائَةِ التي مَرَّ بها لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وما دُونَ النِّصَابِ قَلِيلٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ وَالْقَدْرُ الذي في بَيْتِهِ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْحِمَايَةِ فَلَا يُؤْخَذُ من أَحَدِهِمَا شَيْءٌ وَلَوْ مَرَّ عليه بِالْعُرُوضِ فقال هذه لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ أو قال هذه بِضَاعَةٌ أو قال أنا أَجِيرٌ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ولم يُوجَدْ ظَاهِرٌ يُكَذِّبُهُ
وَجَمِيعُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصَدَّقُ فيه الْمُسْلِمُ يُصَدَّقُ فيه الذِّمِّيُّ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ
وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ في هذا الْبَابِ إلَّا في قَدْرِ الْمَأْخُوذِ وهو أَنَّهُ يُؤْخَذُ منه ضِعْفُ ما يُؤْخَذُ من الْمُسْلِمِ كما في التَّغْلِبِيِّ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ منه بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَبِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لم تَكُنْ صَدَقَةً حقيقة ( ( ( حقيقية ) ) ) وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ في شَيْءٍ من ذلك وَيُؤْخَذُ منه الْعُشْرُ إلَّا في جَوَارٍ يقول هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي أو في غِلْمَانٍ يقول هُمْ أَوْلَادِي لِأَنَّ الْأَخْذَ منه لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَالْعِصْمَةِ لِمَا في يَدِهِ وقد وُجِدَتْ فَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ من ذلك من الْأَخْذِ وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ في الإستيلاد وَالنَّسَبِ لِأَنَّ الإستيلاد وَالنَّسَبَ كما يَثْبُتُ في دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ في دَارِ الْحَرْبِ
وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال الْحَرْبِيُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَإِنْ كان صَادِقًا فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ كان كَاذِبًا فَقَدْ صَارَتْ بِإِقْرَارِهِ في الْحَالِ أُمُّ وَلَدٍ له وَلَا عُشْرَ في أُمِّ الْوَلَدِ وَلَوْ قال هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ في دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ مَرَّ على عَاشِرٍ بِمَالٍ وقال هو عِنْدِي بِضَاعَةً أو قال أنا أَجِيرٌ فيه فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَعْشُرُهُ وَلَوْ قال هو عِنْدِي مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا وَهَلْ يَعْشُرُهُ كان أبو حنيف ( ( ( حنيفة ) ) ) أَوَّلًا يقول يَعْشُرُهُ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَعْشُرُهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَلَوْ مَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَالٍ من كَسْبِهِ وَتِجَارَتِهِ وَلَيْسَ عليه دَيْنٌ وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه فَإِنْ كان منه ( ( ( معه ) ) ) مَوْلَاهُ عَشَرَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَكُنْ معه مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ يَعْشُرُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِهِمَا لَا يَعْشُرُهُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رَجَعَ في الْعَبْدِ أَمْ لَا
وَقِيلَ إنَّ الصَّحِيحَ إن رُجُوعَهُ في الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ
وَجْهُ قول الْأَوَّلِ في الْمُضَارِبِ إن الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في الْمَالِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ من رَبِّ الْمَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ وهو قَوْلُهُمَا إن الْمِلْكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا مِلْكَ له فيه وَرَبُّ الْمَالِ لم يَأْمُرهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لم يَأْذَنْ له بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ في الْمَالِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ في وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ لَا في أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ في مَعْنَى الْمُضَارِبِ في هذا الْمَعْنَى وَلِأَنَّهُ لم يُؤْمَرْ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هو الرُّجُوعُ
وَلَا يُؤْخَذُ من الْمُسْلِمِ إذَا مَرَّ على الْعَاشِرِ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ منه زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ له ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ منه بِاسْمِ الصَّدَقَةِ إن لم تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقَةً كَالتَّغْلِبِيِّ فَلَا يُؤْخَذُ منه في الْحَوْلِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إلَّا إذَا عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا وَإِنْ خَرَجَ من يَوْمِهِ ذلك لِأَنَّ الْأَخْذَ من أَهْلِ الْحَرْبِ لِمَكَانِ حِمَايَةِ ما في أَيْدِيهِمْ من الأموال وما دَامَ هو في دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْحِمَايَةُ مُتَّحِدَةٌ ما دَامَ الْحَوْلُ بَاقِيًا فَيَتَّحِدُ حَقُّ الْأَخْذِ وَعِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَتَجَدَّدُ الْحِمَايَةُ فَيَتَجَدَّدُ حَقُّ الْأَخْذِ
وإذا مَرَّ الْحَرْبِيُّ على الْعَاشِرِ فلم يَعْلَمْ حتى عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ ثَانِيًا
____________________

(2/37)


فَعَلِمَ بِهِ لم يَعْشُرْهُ لِمَا مَضَى لأنه ما مَضَى سَقَطَ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلَايَةِ عنه بدخوله ( ( ( دخوله ) ) ) دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ اجْتَازَ الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ ولم يَعْلَمْ بِهِمَا الْعَاشِرُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِمَا في الْحَوْلِ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قد ثَبَتَ ولم يُوجَدْ ما يُسْقِطُهُ وَلَوْ مَرَّ على الْعَاشِرِ بِالْخَضْرَاوَاتِ وَبِمَا لَا يَبْقَى حَوْلًا كَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَعْشُرُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَعْشُرُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا مَالُ التِّجَارَةِ وَالْمُعْتَبَرُ في مَالِ التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وهو مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لَا عَيْنُهُ فإذا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فيه إذَا كان يَتَّجِرُ فيه في الْمِصْرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس في الخضروات ( ( ( الخضراوات ) ) ) صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ إذَا أُطْلِقَتْ يُرَادُ بها الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّ ما يُتَّجَرُ بها في الْمِصْرِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ أو يُحْمَلُ على أَنَّهُ ليس فيها صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ ليس لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَلْ صَاحِبُهَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَأَنَّهَا لَا تَبْقَى حَوْلًا وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ منها بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحِمَايَةِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُهَا وَلِأَنَّهَا تَهْلِكُ في يَدِ الْعَاشِرِ في الْمَفَازَةِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهَا مُفِيدًا
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ على صَاحِبِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل لِلْعَاشِرِ حَقُّ الْأَخْذِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ على أَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَلَفٌ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا يُعْشَرُ مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا عِنْدَهُمَا وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ من بَنِي تَغْلِبَ على الْعَاشِرِ فَلَيْسَ على الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ ما على الرَّجُلِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ من بَنِي تَغْلِبَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الصَّدَقَاتِ لَا يُفَارِقُهَا إلَّا في التَّضْعِيفِ وَالصَّدَقَةُ لَا تُؤْخَذُ من الصَّبِيِّ وَتُؤْخَذُ من الْمَرْأَةِ وَلَوْ مَرَّ على عَاشِرِ الخوارج ( ( ( الخراج ) ) ) في أَرْضٍ غُلِبُوا عليها فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ على عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ بِالْمُرُورِ على عَاشِرِهِمْ ضَيَّعَ حَقَّ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَحَقَّ فُقَرَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بَعْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ حِمَايَةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُضْمَنُ
وَلَوْ مَرَّ ذِمِّيٌّ على الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ أو خَنَازِيرَ يَأْخُذُ عُشْرَ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَلَا يَعْشُرُ الْخَنَازِيرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُمَا وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْشُرُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَمْرَ والخنازير ( ( ( والخنزير ) ) ) لَيْسَا بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعُشْرُ إنَّمَا يُؤْخَذُ من الْمَالِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَقَوِّمَانِ في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَالْخَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ عِنْدَنَا وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا كَانَا مَضْمُونَيْنِ على الْمُسْلِمِ بالاتلاف
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو الْفَرْقُ بين الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةُ فِيمَا له مِثْلٌ من جِنْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ قِيمَةِ الْخَمْرِ كَأَخْذِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ من ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ له يَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ وَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
وَالثَّانِي إن الْأَخْذَ حَقٌّ لِلْعَاشِرِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَلِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ الْخَمْرَ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَتِهَا عن غَيْرِهِ بِالْغَصْبِ وَلَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ له أَنْ يُخَاصِمَهُ وَيَسْتَرِدَّهَا منه لِلتَّخْلِيلِ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خَمْرِ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ رَأْسًا حتى لو أَسْلَمَ وَلَهُ خَنَازِيرُ ليس له أَنْ يَحْمِيَهَا بَلْ يُسَيِّبَهَا فَلَا يَكُونُ له وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرٍ غَيْرَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ فَالْمَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو حَرْبِيًّا فَإِنْ كان مُسْلِمًا يَأْخُذُ منه في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ منه زَكَاةٌ فَيُؤْخَذُ على قَدْرِ الْوَاجِبِ من الزَّكَاةِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وهو رُبُعُ الْعُشْرِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الزَّكَاةِ وَيُسْقَطُ عن مَالِهِ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ
وَإِنْ كان ذِمِّيًّا يأخذ ( ( ( يؤخذ ) ) ) منه نِصْفُ الْعُشْرِ وَيُؤْخَذُ على شَرَائِطِ الزَّكَاةِ لَكِنْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا تَسْقُطُ عنه جِزْيَةُ رَأْسِهِ في تِلْكَ السَّنَةِ غير نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ لِأَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه صَالَحَهُمْ من الْجِزْيَةِ على الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ
فإذا أَخَذَ الْعَاشِرُ منهم ذلك سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ وَإِنْ كان حَرْبِيًّا يَأْخُذُ منه ما يَأْخُذُونَهُ من الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبُعَ الْعُشْرِ أُخِذَ منهم ذلك الْقَدْرُ وَإِنْ كان نِصْفًا فَنِصْفٌ وَإِنْ كان عُشْرًا فَعُشْرٌ لِأَنَّ ذلك أَدْعَى لهم إلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَدْعُوهُمْ ذلك إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان لَا يُعْلَمُ ذلك يَأْخُذُ منه الْعُشْرَ وَأَصْلُهُ ما رَوَيْنَا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى الْعَشَارِ في الْأَطْرَافِ أَنْ خُذُوا من الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ
____________________

(2/38)


الْعُشْرَ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُخَالِفْهُ أَحَدٌ منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على ذلك
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال خُذُوا منهم ما يَأْخُذُونَ من تُجَّارِنَا فَقِيلَ له إنْ لم نَعْلَمْ ما يَأْخُذُونَ من تُجَّارِنَا فقال خُذُوا منهم الْعُشْرَ وما يُؤْخَذُ منهم فَهُوَ في مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَالْمُؤْنَةُ تُوضَعُ مَوَاضِعَ الْجِزْيَةِ وَتُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِهَا
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الزَّكَاةِ فَرُكْنُ الزَّكَاةِ هو إخْرَاجُ جُزْءٍ من النِّصَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْلِيمُ ذلك إلَيْهِ يَقْطَعُ الْمَالِكُ يَدَهُ عنه بِتَمْلِيكِهِ من الْفَقِيرِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أو إلَى يَدِ من هو نَائِبٌ عنه وهو الْمُصْدِقُ وَالْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ يَثْبُتُ من اللَّهِ تَعَالَى وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عن اللَّهِ تَعَالَى في التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ وَالدَّلِيلُ على ذلك قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عن عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّدَقَةُ تَقَعُ في يَدِ الرحمن قبل أَنْ تَقَعَ في كَفِّ الْفَقِيرِ وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُلَّاكَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ عز ( ( ( عزو ) ) ) وجل ( ( ( جل ) ) ) { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَالْإِيتَاءُ هو التَّمْلِيكُ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً بِقَوْلِهِ عز وجل { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَيَصِيرُ الْمَالِكُ مُخْرِجًا قَدْرَ الزَّكَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُقْتَضَى التَّمْلِيكِ سَابِقًا عليه وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ على أَصْلِنَا وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى
وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إنَّ عِنْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ عنه بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ في الْإِخْرَاجِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عنه لَا في التَّمْلِيكِ من الْفَقِيرِ بَلْ التَّمْلِيكِ من اللَّهِ تَعَالَى في الْحَقِيقَةِ وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عن اللَّهِ تَعَالَى غير أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الرُّكْنُ هو إخْرَاجُ جُزْءٍ من النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ
وَعِنْدَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وهو اللَّهُ تَعَالَى على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ في السَّوَائِمِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ من بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّمْلِيكُ أَصْلًا وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالزَّكَاةِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ الْفُقَرَاءَ غذاء ( ( ( غداء ) ) ) وَعَشَاءً ولم يَدْفَعْ عَيْنَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ وَكَذَا لو قَضَى دَيْنَ مَيِّتٍ فَقِيرٍ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّمْلِيكُ من الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ
وَلَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ فَقِيرٍ أن قَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّمْلِيكُ من الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ وَإِنْ كان بِأَمْرِهِ يَجُوزُ عن الزَّكَاةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ من الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهِ صَارَ وَكِيلًا عنه في الْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّ الْفَقِيرَ قَبَضَ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ وَمِلْكِهِ من الْغَرِيمِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ إذْ الْإِعْتَاقُ ليس بِتَمْلِيكٍ بَلْ هو إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَكَذَا لو اشْتَرَى بِقَدْرِ الزَّكَاةِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ لَا يَجُوزُ عن الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ وَبِهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى { وفي الرِّقَابِ } وهو أَنْ يَشْتَرِيَ بِالزَّكَاةِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هو التَّمْلِيكُ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فلم يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُرَادُ من قَوْله تَعَالَى { وفي الرِّقَابِ } إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ بِالزَّكَاةِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَلَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ إلَى الْإِمَامِ أو إلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عن الْفَقِيرِ في الْقَبْضِ فكأن قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْفَقِيرِ وَكَذَا لو دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى صَبِيٍّ فَقِيرٍ أو مَجْنُونٍ فَقِيرٍ وَقَبَضَ له وَلِيُّهُ أَبُوهُ أو جَدُّهُ أو وَصِيُّهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ قَبْضَ الصَّدَقَةِ عنه وَكَذَا لو قَبَضَ عنه بَعْضُ أَقَارِبِهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ أَقْرَبَ منه وهو في عِيَالِهِ يَجُوزُ وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ الذي هو في عِيَالِهِ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْوَلِيِّ في قَبْضِ الصَّدَقَةِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ له وَكَذَا الْمُلْتَقِطُ إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ عن اللَّقِيطِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ له فَقَدْ وَجَدَ تَمْلِيكَ الصَّدَقَةِ من الْفَقِيرِ
وَذُكِرَ في الْعُيُونِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ من عَالَ يَتِيمًا فَجَعَلَ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ وَيَنْوِي بِهِ عن زَكَاةِ مَالِهِ يَجُوزُ وقال مُحَمَّدٌ ما كان من كِسْوَةٍ يَجُوزُ وفي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ إلَّا ما دُفِعَ إلَيْهِ
وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ مُرَادَ أبي يُوسُفَ ليس هو الْإِطْعَامُ على طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ بَلْ على وَجْهِ التَّمْلِيكِ ثُمَّ إنْ كان الْيَتِيمُ عَاقِلًا يُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَاقِلًا يُقْبَضُ عنه بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ثُمَّ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ كَقَبْضِهِ لو كان عَاقِلًا
وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْفَقِيرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له عليه فَلَا بُدَّ من أَمْرِهِ كما في قَبْضِ الْهِبَةِ وَعَلَى هذا أَيْضًا يُخَرَّجُ الدَّفْعُ إلَى عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ إذْ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ شيئا فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَلِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَرَدِّدٌ
____________________

(2/39)


بين أَنْ يَكُونَ له أو لِمَوْلَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ
وَلَا يَدْفَعُ إلَى وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ من وَجْهٍ فَلَا يَقَعُ تَمْلِيكًا مُطْلَقًا ولهذا ( ( ( لهذا ) ) ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَلَا يَدْفَعُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ زَكَاتَهُ إلَى الْآخَرِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَدْفَعُ الزَّوْجَةُ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الصَّدَقَةِ على زَوْجِهَا عبد اللَّهِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ كما يَنْتَفِعُ بِمَالِ نَفْسِهِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ كَذَا الزَّوْجَةُ وَتُخَرَّجُ هذه الْمَسَائِلُ على أَصْلٍ آخَرَ سَنَذْكُرُهُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَنِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وفي بَيَانِ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ له وَقَوْلُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ على فَقِيرٍ ولم يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عن الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا بُدَّ لها من النِّيَّةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلَالَةً لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ من عليه الزَّكَاةُ لَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيَغْفُلُ عن نِيَّةِ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً وَعَلَى هذا إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ من الْفَقِيرِ أو نَوَى تَطَوُّعًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ شيئا فَشَيْئًا أَجْزَأَهُ عن الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم يَنْوِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ حتى أتى عليه ضَمِنَ الزَّكَاة لِأَنَّ الزَّكَاةَ بَقِيَتْ وَاجِبَةً عليه بعد ما تَصَدَّقَ بِبَعْضِ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْبَاقِي وَلَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَالِهِ من غَيْرِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ حتى لم يُجْزِئْهُ عن زَكَاةِ الْكُلِّ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عن زَكَاةِ الْقَدْرِ الذي تَصَدَّقَ بِهِ
قال أبو يُوسُفَ لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْجَمِيعَ
وقال مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عن زَكَاةِ ما تَصَدَّقَ بِهِ وَيُزَكِّي ما بَقِيَ حتى إنه لو أَدَّى خَمْسَةً من مِائَتَيْنِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ أو نَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْخَمْسَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْكُلِّ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْخَمْسَةِ وهو ثُمُنُ دِرْهَمٍ وَلَا يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْبَاقِي
وَكَذَا لو أَدَّى مِائَةً لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ وَنَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ ما تَصَدَّقَ وهو دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَلَا يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْبَاقِي
كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى ولم يذكر الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وهو أَنَّهُ لو تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَجَازَ عن زَكَاةِ الْكُلِّ فإذا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ يَجُوزُ عن زَكَاتِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ في جَمِيعِ النِّصَابِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ سُقُوطَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِزَوَالِ مِلْكِهِ على وَجْهِ الْقُرْبَةِ عن الْمَالِ الذي فيه الزَّكَاةُ ولم يُوجَدْ ذلك في التَّصَدُّقِ بِالْبَعْضِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةٍ يَنْوِي بِجَمِيعِهَا الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ كانت من الزَّكَاةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ هِيَ من التَّطَوُّعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا فلم يَصِحَّ التَّعْيِينُ لِلتَّعَارُضِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ التَّصَدُّقُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عن التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ يُعْمَلُ بِالْأَقْوَى وهو الْفَرْضُ كما في تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِأَقْوَاهُمَا وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ يُعْتَبَرُ في الزَّكَاةِ لَا في التَّطَوُّعِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ
أَلَا تَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عليه فَلَغَا تَعْيِينُهُ وَبَقِيَتْ الزَّكَاةُ مُتَعَيِّنَةً فَيَقَعُ عن الزَّكَاةِ وَالْمُعْتَبَرُ في الدَّفْعِ نِيَّةُ الْآمِرِ حتى لو دَفَعَ خَمْسَةً إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ عن زَكَاةِ مَالِهِ فَدَفَعَ ولم تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الدَّفْعِ جَازَ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ من الْمُؤَدِّي وَالْمُؤَدِّي هو الْآمِرُ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عنه في الْأَدَاءِ وَلِهَذَا لو وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ جَازَ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي في الْحَقِيقَةِ هو الْمُسْلِمُ
وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ في رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بها تَطَوُّعًا ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ أَنْ يَكُونَ ذلك من زَكَاةِ مَالِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَ عن زَكَاةِ مَالِ الْآمِرِ
وَكَذَا
____________________

(2/40)


لو قال تَصَدَّقْ بها عن كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ عن زَكَاةِ مَالِهِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الأمر هو الْمُؤَدِّي من حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عنه
وَلَوْ قال إنْ دَخَلْتِ هذه الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ نَوَى وَقْتَ الدُّخُولِ عن زَكَاةِ مَالِهِ لَا تَكُونُ زَكَاةً لِأَنَّ عِنْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ بِالنَّذْرِ الْمُتَقَدِّمِ أو الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فيه بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَوْ تَصَدَّقَ عن غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ نَفْسِهِ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عن نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ عن غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ وَرَضِيَ بِهِ
أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عن غَيْرِهِ فَلِعَدَمِ التَّمْلِيكِ منه إذْ لَا مِلْكَ له في المؤدي وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِجَازَةِ فَلَا تَقَعُ الصَّدَقَةُ عنه وَتَقَعُ عن الْمُتَصَدِّقِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وُجِدَ نَفَاذًا عليه
وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ الْمُتَصَدَّقِ عنه وُقِفَ على إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ وَالْمَالُ قَائِمٌ جَازَ عن الزَّكَاةِ وَإِنْ كان الْمَالُ هَالِكًا جَازَ عن التَّطَوُّعِ ولم يَجُزْ عن الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ عنه بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَلَكَ الْمَالُ صَارَ بَدَلُهُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَلَوْ جَازَ ذلك عن الزَّكَاةِ كان أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَا تجزىء الزَّكَاةُ عَمَّنْ أَخْرَجَهَا إلَّا بِنِيَّةٍ مُخَالِطَةٍ لِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا كما قال في بَابِ الصَّلَاةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أنها لَا تجزىء إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ قال إنْ كان وَقْتَ التصديق ( ( ( التصدق ) ) ) بِحَالٍ لو سُئِلَ عماذا يَتَصَدَّقُ أَمْكَنَهُ الْجَوَابُ من غَيْرِ فِكْرَةٍ فإن ذلك يَكُونُ نِيَّةً منه وَتُجْزِئُهُ كما قال في نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ في أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ إمَّا عِنْدَ الدَّفْعِ وَإِمَّا عِنْدَ التَّمْيِيزِ هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ نَوَى إن ما يَتَصَدَّقُ بِهِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ فَهُوَ عن زَكَاةِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ
قال لَا تُجْزِئُهُ وَإِنْ مَيَّزَ زَكَاةَ مَالِهِ فَصَرَّهَا في كُمِّهِ وقال هذه من الزَّكَاةِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ
قال أَرْجُو أَنْ تُجْزِئَهُ عن الزَّكَاةِ لِأَنَّ في الْأَوَّلِ لم تُوجَدْ النِّيَّةُ في الْوَقْتَيْنِ
وفي الثَّانِي وُجِدَ في أَحَدِهِمَا وهو وَقْتُ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا لم تُشْتَرَطْ في وَقْتِ الدَّفْعِ عَيْنًا لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ قد يَقَعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وقد يَقَعُ مُتَفَرِّقًا وفي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عِنْدَ كل دَفْعٍ مع تَفْرِيقِ الدَّفْعِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى المؤدى فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا على الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كان مَنْصُوصًا عليه أو لَا من جِنْسِ الْمَالِ الذي وَجَبَتْ فيه الزَّكَاةُ أو من غَيْرِ جِنْسِهِ وَالْأَصْلُ إن كُلَّ مَالٍ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ تَطَوُّعًا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ منه وما لَا فَلَا وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ الْمَنْصُوصُ عليه وقد مَضَتْ الْمَسْأَلَةُ غير أَنَّ الْمُؤَدَّى يُعْتَبَرُ فيه الْقَدْرُ وَالصِّفَةُ في بَعْضِ الْأَمْوَالِ وفي بَعْضِهَا الْقَدْرُ دُونَ الصِّفَةِ وفي بَعْضِهَا الصِّفَةُ دُونَ الْقَدْرِ وفي بَعْضِ هذه الْجُمْلَةِ اتِّفَاقٌ وفي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَالْعَيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فيه الرِّبَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا فَإِنْ كان من السَّوَائِمِ فَإِنْ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عليه من الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ وَنَحْوِ ذلك يراعي فيه صِفَةُ الْوَاجِبِ وهو أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَا يَجُوزُ الرَّدِيءُ إلَّا على طَرِيقِ التَّقْوِيمِ فَبِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ لِأَنَّهُ لم يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَدَّى الْجَيِّدَ جَازَ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً وَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ أَدَّى قِيمَةَ الْوَسَطِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ الرَّدِيءِ لم يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ وَلَوْ أَدَّى شَاةً وَاحِدَةً سَمِينَةً عن شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ تَعْدِلُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ جَازَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ ليس من أَمْوَالِ الرِّبَا وَالْجُودَةُ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاتَيْنِ فَبِقَدْرِ الْوَسَطِ يَقَعُ عن نَفْسِهِ وَبِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ يَقَعُ عن شَاةٍ أُخْرَى وَإِنْ كان من عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى من النِّصَابِ رُبُعَ عُشْرِهِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كان النِّصَابُ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ وَإِنْ أَدَّى من غَيْرِ النِّصَابِ فَإِنْ كان من جِنْسِهِ يراعي فيه صِفَةُ الْوَاجِبِ من الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ والردىء ( ( ( والرديء ) ) ) وَلَوْ أَدَّى الردىء ( ( ( الرديء ) ) ) مَكَانَ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ إلَّا على طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِقَدْرِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ من أَمْوَالِ الرِّبَا حتى يَجُوزَ بَيْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فيها مُتَقَوِّمَةً
وَلِهَذَا لو أَدَّى ثَوْبًا جَيِّدًا عن ثَوْبَيْنِ رَدِيئَيْنِ يَجُوزُ
وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ يُرَاعَى فيه قِيمَةُ الْوَاجِبِ حتى لو أَدَّى أَنْقَصَ منه لَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِهِ
وَإِنْ كان مَالُ الزَّكَاةِ مِمَّا يَجْرِي فيه الرِّبَا من الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ فَإِنْ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِ النِّصَابِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كان لِأَنَّهُ أَدَّى ما وَجَبَ عليه وَإِنْ أَدَّى من غَيْرِ النِّصَابِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان من جِنْسِ النِّصَابِ وَإِمَّا إن كان من خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كان الْمُؤَدَّى من خِلَافِ جِنْسِهِ بأنه ( ( ( بأن ) ) ) أَدَّى الذَّهَبَ عن الْفِضَّةِ أو
____________________

(2/41)


الْحِنْطَةَ عن الشَّعِيرِ يراعي قِيمَةُ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو أَدَّى أَنْقَصَ منها لَا يَسْقُطُ عنه كُلُّ الْوَاجِبِ بَلْ يَجِبُ عليه التَّكْمِيلُ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا
وَإِنْ كان الْمُؤَدَّى من جِنْسِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ أن الْمُعْتَبَرَ هو الْقَدْرُ لَا الْقِيمَةُ
وقال زُفَرُ الْمُعْتَبَرُ هو الْقِيمَةُ لَا الْقَدْرُ
وقال مُحَمَّدٌ الْمُعْتَبَرُ ما هو أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ كان اعْتِبَارُ الْقَدْرِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هو الْقَدْرُ كما قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ
وَإِنْ كان اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هو الْقِيمَةُ كما قال زُفَرُ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا كان له مائتا ( ( ( مائتان ) ) ) قَفِيزٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فلم يُؤَدِّ منها وَأَدَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ يَجُوزُ وتسقط عنه الزَّكَاةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ لَا قِيمَةُ الْجَوْدَةِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ اعْتِبَارًا في حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِلْقِيمَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لها عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يقول أن الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَقَوُّمِهَا شَرْعًا لِجَرَيَانِ الرِّبَا وَالرِّبَا اسْمٌ لِمَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ ولم يُوجَدْ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْقِطَ لِاعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وهو النَّصُّ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي سُقُوطَ تَقَوُّمِهَا مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَلَوْ كلف النِّصَابُ حِنْطَةً رَدِيئَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَأَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عن خَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عن أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ منها وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قفيز ( ( ( قفيزا ) ) ) آخَرَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا لِلْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ آخَرُ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ عِنْدَهُ
وَعَلَى هذا إذَا كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ حَالَ عليها الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ وَالْأَنْفَعِ
وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ عن خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عن أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ آخَرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ وَالْقَدْرُ نَاقِصٌ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِاعْتِبَارِ الْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْقَدْرُ هَهُنَا أَنْفَعُ لهم وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وَلَوْ كان له قَلْبُ فِضَّةٍ أو إنَاءٌ مصوغ ( ( ( مصنوع ) ) ) من فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ ثلثمائة فَإِنْ أَدَّى من النِّصَابِ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهِ
وَإِنْ أَدَّى من الْجِنْسِ من غَيْرِ النِّصَابِ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثلثمائة دِرْهَمٍ بِنَاءً على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا
وَإِنْ أَدَّى من غَيْرِ جنسه يُؤَدِّي زَكَاةَ ثلثمائة وَذَلِكَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ
وَلَوْ أَدَّى عنها خَمْسَةً زُيُوفًا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ جَازَ وَسَقَطَتْ عنه الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ
وَعَلَى هذا النَّذْرِ إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَأَدَّى قَفِيزًا رَدِيئًا يَخْرُجُ عن النَّذْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه أَدَاءُ الْفَضْلِ وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ قَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عن النِّصْفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ آخَرَ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وفي قَوْلِ زُفَرَ لَا شَيْءَ عليه غَيْرُهُ وَهَذَا وَالزَّكَاةَ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَدَقَةً بِشَاتَيْنِ فَتَصَدَّقَ مَكَانَهُمَا بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ جَازَ وَيَخْرُجُ عن النَّذْرِ كما في الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى مَكَانَهُمَا شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ أنه لَا يَجُوزُ إلَّا عن وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ في نَفْسِ الْإِرَاقَةِ لَا في التَّمْلِيكِ وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ
وَكَذَا لو أَوْجَبَ على نَفْسِهِ عِتْقَ رَقَبَتَيْنِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ رَقَبَتَيْنِ لم يَجُزْ لِأَنَّ القربة ( ( ( الرقبة ) ) ) ثَمَّةَ ليس في التَّمْلِيكِ بَلْ في إزَالَةِ الرِّقِّ وَإِزَالَةُ رِقٍّ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إزَالَةِ رِقَّيْنِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كانت سَمِينَةً إلَّا عن كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كان مَالُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أن أَدَاءُ الْعَيْنِ عن الْعَيْنِ جَائِزٌ بِأَنْ كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً منها لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عن الْكَامِلِ فَقَدْ أَدَّى ما وَجَبَ عليه فَيَخْرُجُ عن الْوَاجِبِ
وَكَذَا إذَا أَدَّى الْعَيْنَ عن الدَّيْنِ بِأَنْ كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ فيها الزَّكَاةُ
____________________

(2/42)


فَأَدَّى خَمْسَةً عَيْنًا عن الدَّيْنِ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عن النَّاقِصِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِيَّةُ الدَّيْنِ لِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِهِ في الْعَاقِبَةِ
وَكَذَا الْعَيْنُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ من جَمِيعِ الناس وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِغَيْرِ من عليه الدَّيْنُ وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كان له على فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ حَالَ عليها الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِالْخَمْسَةِ على الْفَقِيرِ نَاوِيًا عن زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عن الْكَامِلِ فَلَا يَخْرُجُ عَمَّا عليه
وَالْحِيلَةُ في الْجَوَازِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عليه بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَيْنٍ يَنْوِي عن زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا منه قَضَاءً عن دَيْنِهِ فَيَجُوزُ وَيَحِلُّ له ذلك
وَأَمَّا أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الدَّيْنِ فَإِنْ كان عن دَيْنٍ يَصِيرُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بِأَنْ كان له على فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٍ وَلَهُ على رَجُلٍ آخَرَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ على من عليه نَاوِيًا عن زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ تَصِيرُ عَيْنًا بِالِاسْتِيفَاءِ فَتَبَيَّنَ في الْآخِرَةِ أَنَّ هذا أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كان عن دَيْنٍ لَا يَصِيرُ عَيْنًا يَجُوزُ بِأَنْ كان له على فَقِيرٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَوَهَبَ منه الْمِائَتَيْنِ يَنْوِي عن الزَّكَاةِ لِأَنَّ هذا دَيْنٌ لَا يَنْقَلِبُ عَيْنًا فَلَا يَظْهَرُ في الْآخِرَةِ أَنَّ هذا أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْعَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عن الْكَامِلِ فَيَجُوزُ
هذا إذَا كان من عليه الدَّيْنُ فَقِيرًا فَوَهَبَ الْمِائَتَيْنِ له أو تَصَدَّقَ بها عليه فَأَمَّا إذَا كان غَنِيًّا فَوَهَبَ أو تَصَدَّقَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ سَقَطَ عنه الدَّيْنُ لَكِنْ هل يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عنه الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ زَكَاتُهَا عينا ( ( ( دينا ) ) ) عليه
ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ قَدْرُ الزَّكَاةِ مَضْمُونًا عليه وَذَكَرَ في نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْغَنِيِّ مع الْعِلْمِ بِحَالِهِ أو من غَيْرِ نحر ( ( ( تحر ) ) )
وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْجَوَازَ ليس على مَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ بَلْ على امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا في الْعَاقِبَةِ فإذا لم يَصِرْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ مَالًا وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِيمَا ليس بِمَالٍ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عليها لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ بِحَرْفِ اللَّامِ وَأَنَّهُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَوْ جَازَ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالْآيَةُ خُرِّجَتْ لِبَيَانِ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا وَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِمْ فَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ في الْكُلِّ وَاحِدٌ وهو الْحَاجَةُ إلَّا الْعَامِلِينَ عليها فَإِنَّهُمْ مع غِنَاهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِمَالَةَ لِأَنَّ السَّبَبَ في حَقِّهِمْ الْعِمَالَةَ لِمَا نَذْكُرُ
ثُمَّ لَا بُدَّ من بَيَانِ مَعَانِي هذه الْأَسْمَاءِ أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسٌ على حِدَةٍ وهو الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ في مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وفي أَنَّ أَيَّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا
قال الْحَسَنُ الْفَقِيرُ الذي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الذي يَسْأَلُ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ وَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وهو الْمَرْوِيُّ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ
وقال قَتَادَةَ الْفَقِيرُ الذي بِهِ زَمَانَةٌ وَلَهُ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الذي لَا زَمَانَةَ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ وَقِيلَ الْفَقِيرُ الذي يَمْلِكُ شيئا يَقُوتُهُ وَالْمِسْكِينُ الذي لَا شَيْءَ له سُمِّيَ مِسْكِينًا لَمَّا أَسْكَنَتْهُ حَاجَتُهُ عن التَّحَرُّكِ فَلَا يَقْدِرُ يَبْرَحُ عن مَكَانِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقَاوِيلِ قال اللَّهُ تَعَالَى { أو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ أَيْ اسْتَتَرَ بِالتُّرَابِ وَحَفَرَ الْأَرْضَ إلَى عَانَتِهِ وقال الشَّاعِرُ أَمَّا الْفَقِيرُ الذي كانت حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ سَمَّاهُ فَقِيرًا مع أَنَّ له حَلُوبَةً هِيَ رفق ( ( ( وفق ) ) ) الْعِيَالِ وَالْأَصْلُ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ ينبىء عن الْحَاجَةِ إلَّا حَاجَةَ الْمِسْكِينِ أَشَدُّ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ من يقول الْفَقِيرُ الذي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الذي يَسْأَلُ لِأَنَّ من شَأْنِ الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ ما كانت له حِيلَةٌ وَيَتَعَفَّفُ وَلَا يَخْرُجُ فَيَسْأَلُ وَلَهُ حِيلَةٌ فَسُؤَالُهُ يَدُلُّ على شِدَّةِ حَالِهِ
وما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال ليس الْمِسْكِينُ الطَّوَّافُ الذي يَطُوفُ على الناس تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قِيلَ فما الْمِسْكِينُ يا رَسُولَ اللَّهِ قال الذي لَا يَجِدُ ما يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عليه
____________________

(2/43)


وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ الناس فَهُوَ مَحْمُولٌ على أَنَّ الذي يَسْأَلُ وَإِنْ كان عِنْدَكُمْ مِسْكِينًا فإن الذي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ أَشَدُّ مَسْكَنَةً من هذا وَعَلَى هذا يُحْمَلُ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ليس الْمِسْكِينُ الذي لَا مَالَ له وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الذي لَا مَكْسَبَ له أَيْ الذي لَا مَالَ له وَإِنْ كان مِسْكِينًا فَاَلَّذِي لَا مَالَ له وَلَا مَكْسَبَ له أَشَدُّ مَسْكَنَةً منه وَكَأَنَّهُ قال الذي لَا مَالَ له وَلَا مَكْسَبَ فَهُوَ فَقِيرٌ وَالْمِسْكِينُ الذي لَا مَالَ له وَلَا مَكْسَبَ
وما قَالَهُ بَعْضُ مشياخنا ( ( ( مشايخنا ) ) ) إن الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ جِنْسٌ وَاحِدٌ في الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدُ في كَوْنِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا أو جِنْسَيْنِ في الْوَصَايَا اخْتِلَافٌ بين أَصْحَابِنَا غير سَدِيدٍ بَلْ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِيهِمَا جميعا لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْبَعْضُ على الْبَعْضِ وَالْعَطْفُ دَلِيلُ الْمُغَايَرَةِ في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى آخَرَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْوَصِيَّةِ وهو دَفْعُ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ وَالْوَصِيَّةُ ما شُرِّعَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الموصي له فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وقد يَكُونُ لِلْمُوصِي أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ لَا يُوقَفُ عليها فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ نَصِّ كَلَامِهِ فَتَجْرِي على ظَاهِرِ لَفْظِهِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّا عَقَلْنَا الْمَعْنَى فيها وهو دَفْعُ الْحَاجَةِ وَإِزَالَةُ الْمَسْكَنَةِ وَجَمِيعُ الْأَصْنَافِ في هذا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ افْتَرَقَا لَا لِمَا قَالُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عليها فَهُمْ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُعْطَوْنَ
قال أَصْحَابُنَا يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ كِفَايَتَهُمْ منها
وقال الشَّافِعِيُّ يُعْطِيهِمْ الثَّمَنَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ على الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ منهم الْعَامِلُونَ عليها فَكَانَ لهم منها الثَّمَنُ
وَلَنَا أَنَّ ما يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِطَرِيقِ الْعِمَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يعطي وَإِنْ كان غَنِيًّا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان ذلك صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لو حَمَلَ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ منها شيئا وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا أن حَقَّ الْعَامِلِ فِيمَا في يَدِهِ من الصَّدَقَاتِ حتى لو هَلَكَ ما في يَدِهِ سَقَطَ حَقُّهُ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ إنها تَكُونُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ حتى لو هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ كَذَا هذا دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ لَكِنْ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ له وَلِأَعْوَانِهِ لَا على سَبِيلِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِفَايَةِ له وَلِأَعْوَانِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَا عِنْدَهُ لِأَنَّ قَدْرَ ما يَجْتَمِعُ من الصَّدَقَاتِ بِجِبَايَتِهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا مَحَالَةَ وَجَهَالَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِجَارَةِ فَجَهَالَةُ الْبَدَلَيْنِ جميعا أَوْلَى فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ ليس على سَبِيلِ الْأُجْرَةِ بَلْ على طَرِيقِ الْكِفَايَةِ له وَلِأَعْوَانِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ في مَالِهِمْ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ على الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ في الْآيَةِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ قَسَمَ بَلْ بَيَّنَ فيها مَوَاضِعَ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفَهَا لِمَا نَذْكُرُ وَلَوْ كان الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا لَا يَحِلُّ له عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه إلَى الْيَمَنِ مُصَدِّقًا وَفَرَضَ له وَلَوْ لم يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ لَمَا فَرَضَ له وَلِأَنَّ الْعِمَالَةَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أنها تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ فَيَسْتَوِي فيه ( ( ( فيها ) ) ) الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بن الْحَارِثِ بَعَثَ ابْنَيْهِ إلَى رسول اللَّهِ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا على الصَّدَقَةِ فقال لَا تَحِلُّ لكما ( ( ( لكم ) ) ) الصَّدَقَةُ وَلَا غُسَالَةُ الناس وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُجَبَّى صَدَقَةٌ وَلَمَّا حَصَلَ في يَدِ الْإِمَامِ حُصِّلَتْ الصَّدَقَةُ مُؤَدَّاةً حتى لو هَلَكَ الْمَالُ في يَدِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عن صَاحِبِهَا وإذا حُصِّلَتْ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ مَطْهَرَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ في الْمَالِ فَلَا يُبَاحُ لِلْهَاشِمِيِّ لِشَرَفِهِ صِيَانَةً له عن تَنَاوُلِ الْخَبَثِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ أو نَقُولُ لِلْعِمَالَةِ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا من أَوْسَاخِ الناس فَيَجِبُ صِيَانَةُ الْهَاشِمِيِّ عن ذلك كَرَامَةً له وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْغَنِيِّ وقد فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ والغني لَا يَمْنَعُ من تَنَاوُلِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَابْنِ السَّبِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ له وَإِنْ كان غَنِيًّا مِلْكًا فَكَذَا هذا وَقَوْلُهُ أن الذي يعطى لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَمْنُوعٌ وقد بَيَّنَّا فَسَادَهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ فيه أَنَّهُ فَرْضٌ له وَلَيْسَ فيه بَيَانُ الْمَفْرُوضِ أَنَّهُ من الصَّدَقَاتِ أو من غَيْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فُرِضَ له من بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ كان قَاضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ قِيلَ أنهم كَانُوا قَوْمًا من رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِثْلِ أبي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعِ بن حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بن حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْعَبَّاسِ بن مرداس ( ( ( مرادس ) ) ) السُّلَمِيُّ وَمَالِكِ بن عَوْفٍ =

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...