اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الأربعاء، 9 نوفمبر 2022

ج13.وج14.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني

 

ج13 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني

سنة الولادة / سنة الوفاة 587.

الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلُودِ وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ عن الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا
وَقَوْلُهُمَا الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةٌ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ في هذا الْبَابِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ مع الْأَظْآرِ وَالتَّوْسِيعُ عَلَيْهِنَّ شَفَقَةٌ على الْأَوْلَادِ فَأَشْبَهَتْ جَهَالَةَ الْقَفِيزِ من الصُّبْرَةِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ الْآجِرُ تَطْيِينَ الدَّارِ وَمَرَمَّتَهَا أو تَعْلِيقَ بَابٍ عليها أو إدْخَالَ جِذْعٍ في سَقْفِهَا على الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَصِيرُ أُجْرَةً وهو مَجْهُولٌ فَتَصِيرُ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً
وَكَذَا إذَا آجَرَ أَرْضًا وَشَرَطَ كَرْيَ نَهْرِهَا أو حَفْرَ بِئْرِهَا أو ضَرْبَ مُسَنَّاةٍ عليها لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ على الْمُؤَاجِرِ فإذا شُرِطَ على الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ جَعَلَهُ أُجْرَةً وهو مَجْهُولٌ فَصَارَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً
وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً هِيَ من جِنْسِ الْمَعْقُودِ عليه كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ بِالزِّرَاعَةِ حتى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ من ذلك عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هذه الْإِجَارَةُ وَإِنْ كانت الْأُجْرَةُ من خِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالْخِدْمَةِ بِالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذلك وَالْكَلَامُ فيه فَرْعٌ في كَيْفِيَّةِ انْعِقَادِ هذا الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فلم تَكُنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ من الْمَنْفَعَتَيْنِ مُعَيَّنَةً بَلْ هِيَ مَعْدُومَةٌ وَقْتَ الْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ أَحَدِ الْمُسْتَأْجِرِينَ فَيَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا كَإِسْلَامِ الْهَرَوِيِّ في الْهَرَوِيِّ وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَا حكى أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عن هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ في الْجَوَابِ أنك أَطَلْتَ الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْكَ الْحَيْرَةُ وَجَالَسْتَ الْجُبَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةً أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَيْعَ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ في جِنْسَيْنِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى النِّسْبَةِ وَلَوْ تَحَقَّقَ فَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَهُ وَتَعْلِيلُ من عَلَّلَ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هذا في مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَتَيْنِ مَعْدُومَتَانِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَكَانَ بَيْعُ الكاليء ( ( ( الكالئ ) ) ) بالكاليء ( ( ( بالكالئ ) ) ) غير سَدِيدٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِمَوْجُودٍ في الذِّمَّةِ أُخِّرَ بِالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ بِتَغْيِيرِ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَأَمَّا ما لَا وُجُودَ له وَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ إلَى وَقْتٍ فَلَا يُسَمَّى دَيْنًا
وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ في الْمَسْأَلَةِ ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ هِيَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ الناس وَلَا حَاجَةَ تَقَعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالْحَاجَةُ تَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ وَيَسْتَوِي في ذلك الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ حتى لو اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ شَهْرًا بِخِدْمَةِ أَمَةٍ كان فَاسِدًا لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ثُمَّ في إجَارَةِ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ إذَا خَدَمَ أَحَدُهُمَا ولم يَخْدُمْ الْآخَرُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ عليه وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وقال الظَّاهِرُ أَنَّ له أَجْرَ الْمِثْلِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْمَنْفَعَةَ بِجِنْسِهَا ولم تَصِحَّ هذه الْمُقَابَلَةُ فَقَدْ جَعَلَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ ما لَا قِيمَةَ له فَكَانَ رَاضِيًا بِبَذْلِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا بَدَلٍ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِمَا نَذْكُرُ تَحْقِيقَهُ أنها تُقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ الذي لم يُذْكَرْ فيه بَدَلٌ رَأْسًا بِأَنْ اسْتَأْجَرَ شيئا ولم يُسَمِّ عِوَضًا أَصْلًا فإذا سَمَّى الْعِوَضَ وهو الْمَنْفَعَةُ أَوْلَى وَقَالُوا في عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ تَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ فيه فَخَدَمَ أَحَدَهُمَا يَوْمًا ولم يَخْدُمْ الْآخَرَ أَنَّهُ لَا أَجْرَ له لِأَنَّ هذا ليس بِمُبَادَلَةٍ بَلْ هو إفْرَازٌ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْعَبْدَيْنِ لِعَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْخِيَاطَةِ وَالصِّيَاغَةِ لِأَنَّ الْجِنْسَ قد اخْتَلَفَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في الْجَامِعِ إذَا كان عَبْدٌ بين اثْنَيْنِ أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من صَاحِبِهِ يَخِيطُ معه شَهْرًا على أَنْ يَصُوغَ نَصِيبَهُ معه في الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَنَّ هذا لَا يَجُوزُ في الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ في الْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إذَا كَانَا في عَبْدَيْنِ لِأَنَّ هذا مُهَايَأَةٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا فَعَلَا ما يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا من غَيْرِ إجَارَةٍ وَالْمُهَايَأَةُ من شَرْطِ جَوَازِهَا أَنْ تَقَعَ على الْمَنَافِعِ الْمُطْلَقَةِ فإما أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ على الْآخَرِ الْمَنْفَعَةَ فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى رُكْنِ الْعَقْدِ فَخُلُوُّهُ عن شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ حتى لو أَجَرَهُ دَارِهِ على أَنْ يَسْكُنَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أو أَرْضًا على أَنْ يَزْرَعَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا
____________________

(4/194)


إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أو دَابَّةً على أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أو ثَوْبًا على أَنْ يَلْبَسَهُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ في الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ في مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ يَكُونُ رِبًا أو فيها شُبْهَةُ الرِّبَا وَكُلُّ ذلك مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ أَيْضًا شَرْطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَإِصْلَاحِ مِيزَابِهَا وما هي ( ( ( وهى ) ) ) منها وَإِصْلَاحِ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ وكرى الْأَنْهَارِ وفي إجَارَةِ الْأَرْضِ وَطَعَامِ الْعَبْدِ وَعَلْفِ الدَّابَّةِ في إجَارَةِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يُلَائِمُهُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ على أَنْ لَا يَسْكُنَهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَا أُجْرَةَ على الْمُسْتَأْجِرِ إذَا لم يَسْكُنْهَا وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِمَّا سمى أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَسْكُنَ نفي مُوجَبَ الْعَقْدِ وهو الِانْتِفَاعُ بِالْمَعْقُودِ عليه وَأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مقضتى ( ( ( مقتضى ) ) ) الْعَقْدِ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْأَجْرِ رَأْسًا إنْ لم يَسْكُنْ وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ إنْ سَكَنَ فَظَاهِرٌ أَيْضًا لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ في الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه لَا بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ كما في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ هِيَ التَّمْكِينُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مع الْفَسَادِ لِوُجُودِ الْمَنْعِ من الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا فَأَشْبَهَ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ من الْعِبَادِ وهو الْغَصْبُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ هُنَاكَ فَتَحَقَّقَ التَّسْلِيمُ فَلَئِنْ لم يَنْتَفِعْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ في الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الْآجِرِ في الْأُجْرَةِ وإذا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عليه بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُنْتَقَصُ من الْمُسَمَّى فَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّهُ قد صَحَّ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ في الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه الْأَقَلُّ من الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ إذَا كان الْأَجْرُ مُسَمًّى وقد قال في هذه الْمَسْأَلَةِ أنه لَا يُنْقَصُ من الْمُسَمَّى من الْمَشَايِخِ من قال الْمَسْأَلَةُ مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلُهَا أنه لَا يُنْقَصُ من الْمُسَمَّى إذَا كان أَجْرُ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا
وَمِنْهُمْ من أَجْرَى الرِّوَايَةَ على الظَّاهِرِ فقال إنَّ الْعَاقِدَيْنِ لم يَجْعَلَا الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ حَيْثُ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَسْكُنَ وَلَا بِمُقَابَلَةِ التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مع فَسَادِ الْعَقْدِ فإذا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ ليس في مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا ما بَلَغَ كما إذَا لم يذكر في الْعَقْدِ تَسْمِيَةً أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ قال لَا يُنْقَصُ من الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رضي بِالْمُسَمَّى بِدُونِ الِانْتِفَاعِ فَعِنْدَ الِانْتِفَاعِ أَوْلَى
وَلَوْ آجَرَهُ دَارِهِ أو أَرْضَهُ أو عَبْدَهُ أو دَابَّتَهُ وَشَرَطَ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ جَازَ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِدُونِ الشَّرْطِ فَكَانَ هذا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا مُخَالِفًا له فَصَارَ كما لو أَجَّرَهُ على أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجَرِ
وَلَوْ آجَرَ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ أو شَرَطَ على الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا أو كَفِيلًا جَازَ إذَا كان الرَّهْنُ مَعْلُومًا وَالْكَفِيلُ حَاضِرًا لِأَنَّ هذا شَرْطٌ يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَإِنْ كان لَا يَقْتَضِيهِ كما ذَكَرْنَا في الْبُيُوعِ فَيَجُوزُ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَأَمَّا شَرْطُ اللُّزُومِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو شَرْطُ انْعِقَادٍ العقد لَازِمًا من الْأَصْلِ وَنَوْعٌ هو شَرْطُ بَقَائِهِ على اللُّزُومِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هو مُسْتَحِقُّ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَضْلًا عن الْجَوَازِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ في وَقْتِ الْعَقْدِ أو وَقْتِ الْقَبْضِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ كان لم يَلْزَمْ الْعَقْدُ حتى قالوا في الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ سَارِقٌ له أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ دَلَالَةً فَتَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجَرُ مَرْئِيَّ الْمُسْتَأْجِرِ حتى لو اسْتَأْجَرَ دَارًا لم يَرَهَا ثُمَّ رَآهَا فلم يَرْضَ بها أَنَّهُ يَرُدُّهَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ فيها خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنْ رضي بها بَطَلَ خِيَارُهُ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا سَلَامَةُ الْمُسْتَأْجَرِ عن حُدُوثِ عَيْبٍ بِهِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لم يَبْقَ الْعَقْدُ لَازِمًا حتى لو اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ أو دَابَّةً يَرْكَبُهَا أو دَارًا يَسْكُنُهَا فَمَرِضَ الْعَبْدُ أو عَرَجَتْ الدَّابَّةُ أو انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَاءِ الدَّارِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَضَى على الْإِجَارَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْمَنَافِعِ مَعْقُودًا مُبْتَدَأً فإذا حَدَثَ الْعَيْبُ
____________________

(4/195)


بِالْمُسْتَأْجَرِ كان هذا عَيْبًا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قبل الْقَبْضِ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ في بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا في الْإِجَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ الْمَعْنَى وإذا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ لم يَفْسَخْ وَمَضَى على ذلك إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ رضي بِالْمَعْقُودِ عليه مع الْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي على عَيْبٍ فَرَضِيَ بِهِ وَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ قبل أَنْ يَفْسَخَ بِأَنْ صَحَّ الْعَبْدُ وَزَالَ الْعَرَجُ عن الدَّابَّةِ وَبَنَى الْمُؤَاجِرُ ما سَقَطَ من الدَّارِ بَطَلَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخِيَارِ قد زَالَ وَالْعَقْدُ قَائِمٌ فَيَزُولُ الْخِيَارُ
هذا إذَا كان الْعَيْبُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ كان لَا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ بَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْخِدْمَةِ أو سَقَطَ شَعْرُهُ أو سَقَطَ من الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ حَائِطٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ في سُكْنَاهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْمَنْفَعَةِ لَا على الْعَيْنِ إذا الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ وَلَا نُقْصَانَ في الْمَنْفَعَةِ بَلْ في الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عليها في بَابِ الْإِجَارَةِ وَتَغَيُّرُ عَيْنِ الْمَعْقُودِ عليه لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْعَيْبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ إذَا كان يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ فَالنُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه فَأَوْجَبَ الْخِيَارَ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ ثُمَّ إنَّمَا يَلِي الْفَسْخَ إذَا كان الْمُؤَاجِرُ حَاضِرًا فَإِنْ كان غَائِبًا فَحَدَثَ بِالْمُسْتَأْجَرِ ما يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُمَا
وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً يَزْرَعُهَا شيئا ذَكَرَهُ فَزَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ من بَرْدٍ أو غَيْرِهِ فَذَهَبَ بِهِ وَتَأَخَّرَ وَقْتُ زِرَاعَةِ ذلك النَّوْعِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَزْرَعَ قال إنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ شيئا غَيْرَهُ مِمَّا ضَرَرُهُ على الْأَرْضِ أَقَلُّ من ضَرَرِهِ أو مِثْلُ ضَرَرِهِ فَلَهُ ذلك وَإِلَّا فَسَخْت عليه الْإِجَارَةَ وَأَلْزَمْتَهُ أَجْرَ ما مَضَى لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عن زِرَاعَةِ ذلك النَّوْعِ كان اسْتِيفَاءُ الْإِجَارَةِ إضْرَارًا بِهِ قال وإذا نَقَصَ الْمَاءُ عن الرَّحَى حتى صَارَ يَطْحَنُ أَقَلَّ من نِصْفِ طِحْنِهِ فَذَلِكَ عَيْبٌ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ وهو نُقْصَانُ الِانْتِفَاعِ
وَلَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ كُلُّهَا أو انْقَطَعَ الْمَاءُ عن الرَّحَى أو انْقَطَعَ الشُّرْبُ عن الْأَرْضِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ إشَارَةُ الرِّوَايَاتِ فيه ذُكِرَ في بَعْضِهَا ما يَدُلُّ على أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فإنه ذَكَرَ في إجَارَةِ الْأَصْلِ إذَا سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ كان صَاحِبُ الدَّارِ شَاهِدًا أو غَائِبًا فَهَذَا دَلِيلُ الِانْفِسَاخِ حَيْثُ جُوِّزَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُرُوجُ من الدَّارِ مع غَيْبَةِ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ لم تَنْفَسِخْ تَوَقَّفَ جَوَازُ الْفَسْخِ على حُضُورِهِ وَالْوَجْهُ فيه أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ من الدَّارِ قد بَطَلَتْ بِالسُّقُوطِ إذْ الْمَطْلُوبُ منها الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى وقد بَطَلَ ذلك فَقَدْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عليه فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَذُكِرَ في بَعْضِهَا ما يَدُلُّ على أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ لَكِنْ يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ فإنه ذَكَرَ في كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا صَالَحَ على سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ لم يَنْفَسِخْ الصُّلْحُ
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْآجِرُ فقال الْمُسْتَأْجِرُ بعدما بَنَاهُ لَا حَاجَةَ لي فيه قال مُحَمَّدٌ ليس لِلْمُسْتَأْجِرِ ذلك وَكَذَلِكَ لو قال الْمُسْتَأْجِرُ آخُذُهُ وَأَبَى الْآجِرُ ليس لِلْآجِرِ ذلك وَهَذَا يجري مَجْرَى النَّصِّ على أَنَّ الْإِجَارَةَ لم تَنْفَسِخْ وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّارَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ بَقِيَتْ مُنْتَفَعًا بها مَنْفَعَةَ السُّكْنَى في الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَضْرِبَ فيها خَيْمَةً فلم يَفُتْ الْمَعْقُودُ عليه رَأْسًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ على أَنَّهُ إنْ فَاتَ كُلُّهُ لَكِنْ فَاتَ على وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ وَهَذَا يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فأبقى ( ( ( فأبق ) ) ) قبل الْقَبْضِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ بِيَقِينٍ لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يزول ( ( ( يزال ) ) ) بِالشَّكِّ كما أَنَّ غير الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يُثْبَتُ بِالشَّكِّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وقال الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ من الدَّارِ قد بَطَلَتْ وَضَرْبُ الْخَيْمَةِ في الدَّارِ ليس بِمَنْفَعَةٍ مَطْلُوبَةٍ من الدَّارِ عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وقال فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْبَيْتِ إذَا بَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ أنه لَمَّا بَنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لم يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً وَإِنْ حُكِمَ بِفَسْخِهِ ظَاهِرًا فَيُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدٍ في الظَّاهِرِ مع التَّوَقُّفِ في الْحَقِيقَةِ كمن اشْتَرَى شَاةً فَمَاتَتْ في يَدِ الْبَائِعِ فَدَبَغَ جِلْدَهَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْفِسَاخِهِ ظَاهِرًا بِمَوْتِ الشَّاةِ كَذَا هَهُنَا وإذا بَقِيَ الْعَقْدُ يُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ لم يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في السَّفِينَةِ إذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا ثُمَّ بَنَاهَا الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ فَرَّقَ بين السَّفِينَةِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ في السَّفِينَةِ قد انْفَسَخَ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْأَصْلَ فيها الصِّنَاعَةُ وَهِيَ التَّرْكِيبُ
____________________

(4/196)


وَالْأَلْوَاحُ تَابِعَةٌ لِلصِّنَاعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ من غَصَبَ خَشَبَةً فَعَمِلَهَا سَفِينَةً مَلَكَهَا فَكَانَ تركيت ( ( ( تركيب ) ) ) الْأَلْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ اتِّخَاذِ سَفِينَةٍ أُخْرَى فلم يُجْبَرْ على تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِخِلَافِ الدَّارِ لِأَنَّ عَرْصَةَ الدَّارِ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْبِنَاءِ بَلْ الْعَرْصَةُ فيها أَصْلٌ فإذا بَنَاهَا فَقَدْ بَنَى تِلْكَ الدَّارَ بِعَيْنِهَا فَيُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ
وقال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَحَى مَاءٍ سَنَةً فَانْقَطَعَ الْمَاءُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمْسَكَ الرَّحَى حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ لِلسِّتَّةِ أَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ وَلَا شَيْءَ عليه لِمَا بَقِيَ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّحَى قد بَطَلَتْ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ قال فَإِنْ كان الْبَيْتُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ من الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ من الْمَعْقُودِ عليه له حِصَّةٌ في الْعَقْدِ فإذا اسْتَوْفَى لَزِمَهُ حِصَّتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ إلَّا بَيْتًا منها ثُمَّ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ أو غَيْرُهُ بَعْدَ ذلك من الْبَيْتِ فَلَا أَجْرَ على الْمُسْتَأْجِرِ في الْبَيْتِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عليه دُونَ بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ عليه حِصَّةٌ ما لم يَسْتَوْفِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ من قَبُولِ الدَّارِ بِغَيْرِ الْبَيْتِ وَأَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا حَدَثَ ذلك بَعْدَ قَبْضِهِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ في الْمَعْقُودِ عليه وهو الْمَنَافِعُ وَتَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فلم تُسَلَّمْ إلَيْهِ الدَّارُ حتى مَضَى بَعْضُ الْمُدَّةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الدَّارَ فِيمَا بَقِيَ من الْمُدَّةِ فَلَهُ ذلك وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْبَى ذلك وَكَذَلِكَ لو كان الْمُسْتَأْجِرُ طَلَبَهَا من الْمُؤَاجِرِ فَمَنَعَهُ إيَّاهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهَا فَذَلِكَ له وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُدُوثِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا مُجْتَمِعَةً وَالصَّفْقَةُ هَهُنَا حِينَمَا وَقَعَتْ وَقَعَتْ مُتَفَرِّقَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ من الْمَنَافِعِ كَالْمَعْقُودِ عليه عَقْدًا مُبْتَدَأً فَكَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ من الْمَنْفَعَةِ مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ وَالثَّانِي مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ آخَرَ وما مُلِكَ بِعَقْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ في أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ في الْآخَرِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا أو مَنَعَهُ مَانِعٌ من إحْدَاهُمَا أو حَدَثَ في إحْدَاهُمَا عَيْبٌ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا جميعا لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وقد تَفَرَّقَتْ عليه فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالثَّانِي عَدَمُ حُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أو بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا أو بِالْمُسْتَأْجِرِ عُذْرٌ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَازِمًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لَازِمًا كَالنَّوْعِ الْآخَرِ وهو بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا
وَلَنَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْفَسْخِ عِنْدَ الْعُذْرِ لِأَنَّهُ لو لَزِمَ الْعَقْدُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لم يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ لِمَا نذكر ( ( ( يذكر ) ) ) في تَفْصِيلِ الْأَعْذَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسْخِ فَكَانَ الْفَسْخُ في الْحَقِيقَةِ امْتِنَاعًا من الْتِزَامِ الضَّرَرِ وَلَهُ وِلَايَةُ ذلك وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أن هذا بَيْعٌ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنَّهُ عَجَزَ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِهِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ لم يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ في هذه الْحَالَةِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي على عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ وَكَمَا لو حَدَثَ عَيْبٌ بِالْمُسْتَأْجَرِ
وَكَذَا عن قَوْلِهِ الْعَقْدُ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا أن هذا هَكَذَا إذَا لم يَعْجِزْ عن الْمُضِيِّ على مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ وقد عَجَزَ هَهُنَا فَلَا يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي على الْفَسْخِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ وَحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالْمُسْتَأْجَرِ ثُمَّ إنْكَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ خُرُوجٌ عن الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ من اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا ليقلعها ( ( ( ليقلعه ) ) ) فَسَكَنَ الْوَجَعُ يُجْبَرُ على الْقَلْعِ وَمَنْ وَقَعَتْ في يَدِهِ آكلة فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْطَعَهَا فَسَكَنَ الْوَجَعُ ثُمَّ برأت ( ( ( برئت ) ) ) يَدُهُ يُجْبَرُ على الْقَطْعِ وَهَذَا قَبِيحٌ عَقْلًا وَشَرْعًا
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ الْأَعْذَارِ الْمُثْبِتَةِ لِلْفَسْخِ على التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أن الْعُذْرَ قد يَكُونُ في جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ وقد يَكُونُ في جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ وقد يَكُونُ في جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ
أَمَّا الذي في جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ فَنَحْوُ أَنْ يُفْلِسَ فَيَقُومَ من السُّوقِ أو يُرِيدَ سَفَرًا أو يَنْتَقِلَ من الْحِرْفَةِ إلَى الزِّرَاعَةِ أو من الزِّرَاعَةِ إلَى التِّجَارَةِ أو يَنْتَقِلَ من حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْحَانُوتِ فَكَانَ في إبْقَاءِ الْعَقْدِ من غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إضْرَارٌ بِهِ ضَرَرًا لم يَلْتَزِمْهُ الْعَقْدُ فَلَا يُجْبَرُ على عَمَلِهِ وإذا عَزَمَ على السَّفَرِ فَفِي تَرْكِ السَّفَرِ مع الْعَزْمِ عليه ضَرَرٌ بِهِ وفي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مع خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ ضَرَرٌ بِهِ أَيْضًا لِمَا فيه من لُزُومِ الْأُجْرَةِ من غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَالِانْتِقَالُ من عَمَلٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْإِعْرَاضِ عن الْأَوَّلِ وَرَغْبَتِهِ عنه فَإِنْ مَنَعْنَاهُ عن الِانْتِقَالِ أَضْرَرْنَا بِهِ وَإِنْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ لَأَلْزَمْنَاهُ الْأُجْرَةَ من غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ وَلَوْ أَرَادَ
____________________

(4/197)


أَنْ يَنْتَقِلَ من حَانُوتٍ إلَى حَانُوتٍ لِيَعْمَلَ ذلك الْعَمَلَ بِعَيْنِهِ في الثَّانِي لَمَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَرْخَصُ وَأَوْسَعُ عليه لم يَكُنْ ذلك عُذْرًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ من الْأَوَّلِ من غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ زِيَادَةُ الْمَنْفَعَةِ وقد رضي بِالْقَدْرِ الْمَوْجُودِ منها في الْأَوَّلِ
وَعَلَى هذا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِمَا لَا يَصِلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَدْخُلُ في مِلْكِهِ أو بَدَنِهِ ثُمَّ بَدَا له أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُقَصِّرَ له ثِيَابًا أو ليقطها ( ( ( ليقطعها ) ) ) أو يَخِيطَهَا أو يَهْدِمَ دَارًا له أو يَقْطَعَ شَجَرًا له أو لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ أو لِيَحْجُمَ أو لِيَفْصِدَ أو لِيَزْرَعَ أَرْضًا أو يُحْدِثَ في مِلْكِهِ شيئا من بِنَاءٍ أو تِجَارَةٍ أو حَفْرٍ ثُمَّ بَدَا له أَنْ لَا يَفْعَلَ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَلَا يُجْبَرُ على شَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ الْقِصَارَةَ وَالْقَطْعَ نُقْصَانٌ عَاجِلٌ في الْمَالِ بِالْغُسْلِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَهَدْمُ الدَّارِ وَقَطْعُ الشَّجَرِ إتْلَافُ الْمَالِ وَالزِّرَاعَةُ إتْلَافُ البذر ( ( ( البذور ) ) ) وفي الْبِنَاءِ إتْلَافُ الْآلَةِ وَقَلْعُ الضِّرْسِ وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ إتْلَافُ جُزْءٍ من الْبَدَنِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لها لِمَصْلَحَةٍ تَأَمَّلَهَا تَرْبُو على الْمَضَرَّةِ فإذا بَدَا له عُلِمَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فيه فَبَقِيَ الْفِعْلُ ضَرَرًا في نَفْسِهِ فَكَانَ له الِامْتِنَاعُ من الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ على الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ ثُمَّ بَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَلَهُ ذلك وَلَا يُجْبَرُ على السَّفَرِ لِأَنَّهُ لِمَا بَدَا له عَلِمَ أَنَّ السَّفَرَ ضَرَرٌ فَلَا يُجْبَرُ على تَحَمُّلِ الضَّرَرِ وَكَذَا كُلُّ من اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ ثُمَّ قَعَدَ عن السَّفَرِ فَلَهُ ذلك لِمَا قُلْنَا
وقد قالوا إنَّ الْجَمَّالَ إذَا قال لِلْحَاكِمِ أن هذا لَا يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ السَّفَرَ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قال له الْحَاكِم انْتَظِرْهُ فَإِنْ خَرَجَ ثُمَّ قَفَلَ الْجَمَّالُ معه فإذا فَعَلْت ذلك فَلَكَ الْأَجْرُ
فَإِنْ قال صَاحِبَ الدَّارِ لِلْحَاكِمِ إنَّ هذا لَا يُرِيدُ سَفَرًا وَإِنَّمَا يقول ذلك لِيَفْسَخَ الْإِجَارَةَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عز وجل أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ الذي عَزَمَ عليه لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ الْفَسْخِ وهو إرَادَةُ السَّفَرِ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عليه فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا مع يَمِينِهِ
وَقَالُوا لو خَرَجَ من الْمِصْرِ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ فقال صَاحِبُ الدَّارِ إنَّمَا أَظْهَرَ الْخُرُوجَ لِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وقد عَادَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عز وجل لقد خَرَجَ قَاصِدًا إلَى الْمَوْضِعِ الذي ذَكَرَ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي أَنَّ الْفَسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وهو عَزْمُ السَّفَرِ إلَى الموضع ( ( ( موضع ) ) ) مَعْلُومٍ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عليه لِأَنَّ عَزْمَ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُعْلَمُ إلَّا من جِهَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَأَمَّا الْجَمَّالُ إذَا بَدَا له من الْخُرُوجِ فَلَيْسَ له أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِأَنَّ خُرُوجَ الْجَمَّالِ مع الْجِمَالِ ليس بِمُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فإن له أَنْ يَبْعَثَ غَيْرَهُ مع الْجِمَالِ فَلَا يَكُونُ قُعُودُهُ عُذْرًا بِخِلَافِ خُرُوجِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ غَرَضَهُ يَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ قُعُودُهُ عُذْرًا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ له بِئْرًا فَحَفَرَ بَعْضَهَا فَوَجَدَهَا صُلْبَةً أو خَرَجَ حَجَرًا أو وَجَدَهَا رَخْوَةً بِحَيْثُ يُخَافُ التَّلَفُ كان عُذْرًا لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لم يَلْتَزِمْهُ
وقال هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ في امْرَأَةٍ وَلَدَتْ يوم النَّحْرِ قبل أَنْ تَطُوفَ فَأَبَى الْجَمَّالُ أَنْ يُقِيمَ قال هذا عُذْرٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ من غَيْرِ طَوَافٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الْجَمَّالِ لِلْإِقَامَةِ مُدَّةَ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ إذْ هِيَ مُدَّةُ ما جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِقَامَةِ الْقَافِلَةِ قَدْرَهَا فَيُجْعَلُ عُذْرًا في فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كانت قد وَلَدَتْ قبل ذلك وقد بَقِيَ من مُدَّةِ نِفَاسِهَا كَمُدَّةِ الْحَيْضِ أو أَقَلَّ أُجْبِرَ الْجَمَّالُ على الْمُقَامِ مَعَهَا لِأَنَّ هذه الْمُدَّةَ قد جَرَتْ الْعَادَةُ بِمَقَامِ الْحَاجِّ فيها بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْحَجِّ
وَأَمَّا الذي هو في جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ فَنَحْوُ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا يَجِدُ قَضَاءَهُ إلَّا من ثَمَنِ الْمُسْتَأْجَرِ من الْإِبِلِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذلك إذَا كان الدَّيْنُ ثَبَتَ قبل عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْبَيِّنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ أو ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هذا الْإِقْرَارِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ بِالدَّيْنِ على نَفْسِهِ كَاذِبًا وَهَذَا الْعُذْرُ من جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ بِنَاءً على أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَاجِرِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَنَا من غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ على ما نَذْكُرهُ وإذا لم يَجُزْ الْبَيْعُ مع عَقْدِ الْإِجَارَةِ جُعِلَ الدَّيْنُ عُذْرًا في فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْإِجَارَةِ مع لُحُوقِ الدَّيْنِ الْفَادِحِ الْعَاجِلِ إضْرَارٌ بِالْمُؤَاجِرِ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْجَبْرُ على تَحَمُّلِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وهو غَيْرُ قَادِرٍ على قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمُؤَاجَرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْبِسَهُ الْقَاضِي فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ أَنَّهُ لَا مَالَ له سِوَى الْمُؤَاجَرِ فَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ وفي الْحَبْسِ ضَرَرٌ على أَنَّهُ وإن لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُؤَاجَرِ لَكِنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا تعلق ( ( ( يتعلق ) ) ) بِالْمَنْفَعَةِ لَا بِالْعَيْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ من
____________________

(4/198)


بَدَلِ الْعَيْنِ وهو الثَّمَنُ فَيُحْبَسُ حتى يَبِيعَ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى شيئا فَأَجَرَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ له أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ على بَائِعِهِ وَإِنْ رضي الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَيْبِ وَيُجْعَلُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عُذْرًا له في فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على اسْتِيفَائِهَا إلَّا بِضَرَرٍ وهو الْتِزَامُ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَلَوْ أَرَادَ الْمُؤَاجِرُ السَّفَرَ أو النُّقْلَةَ عن الْبَلَدِ وقد أَجَرَ عَقَارًا له فَلَيْسَ ذلك بِعُذْرٍ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ منفعة الْعَقَارِ مع غَيْبَتِهِ لَا ضَرَرَ عليه فيه
قال أبو يُوسُفَ إنْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ أو أَصَابَ إبِلَهُ دَاءٌ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كانت بِعَيْنِهَا أَمَّا إذَا أَصَابَ الْإِبِلَ دَاءٌ فَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدَّابَّةِ مع ما بها من الدَّاءِ إجْحَافٌ بها وَفِيهِ ضَرَرٌ بِصَاحِبِهَا وَالضَّرَرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتَ له حَقُّ الْفَسْخِ وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَنْقُصُ بِمَرَضِ الْإِبِلِ فَصَارَ ذلك عَيْبًا فيها
وَأَمَّا مَرَضُ الْجَمَّالِ فَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا لِأَنَّ أَثَرَ الْمَرَضِ في الْمَنْعِ من الْخُرُوجِ وَخُرُوجُ الْجَمَّالِ بِنَفْسِهِ مع الْجِمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ
وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وهو الْفَرْقُ بين مَرَضِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ قُعُودِهِ أَنَّ الْجَمَّالَ يَقُومُ على جِمَالِهِ بِنَفْسِهِ فإذا مَرِضَ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ إلَّا بِضَرَرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا بَدَا له من الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على الْخُرُوجِ فإذا تَرَكَ ذلك بِاخْتِيَارِهِ كان عليه أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ
وَلَوْ أَجَرَ صَانِعٌ من الصُّنَّاعِ أو عَامِلٌ من الْعُمَّالِ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ أو صِنَاعَةٍ ثُمَّ قال بَدَا لي أَنْ أَتْرُكَ هذا الْعَمَلَ وانتقل منه إلَى غَيْرِهِ قال مُحَمَّدٌ إنْ كان ذلك من عَمَلِهِ بِأَنْ كان حَجَّامًا فقال قد أَنِفْتُ من عَمَلِي وَأُرِيدُ تَرْكَهُ لم يَكُنْ له ذلك وَيُقَالُ أَوْفِ الْعَمَلَ ثُمَّ انْتَقِلْ إلَى ما شِئْتَ من الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد لَزِمَهُ وَلَا عَارَ عليه فيه لِأَنَّهُ من أَهْلِ تِلْكَ الْحِرْفَةِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ أُرِيدُ أَنْ أَتْرُكَهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عنه في الْحَالِ وَيَقْدِرُ على ذلك بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَمَلِ وَإِنْ كان ذلك الْعَمَلُ ليس من عَمَلِهِ وَصَنْعَتِهِ بَلْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ فيها وَذَلِكَ مِمَّا يُعَابُ بِهِ أو كانت امْرَأَةً أَجَرَتْ نَفْسَهَا ظِئْرًا وَهِيَ مِمَّنْ تُعَابُ بِذَلِكَ فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا
وَكَذَلِكَ إنْ أَبَتْ هِيَ أَنْ تُرْضِعَهُ لأن من لَا يَكُونُ من أَهْلِ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ إذَا دخل فيها يَلْحَقُهُ الْعَارُ فإذا أَرَادَ التَّرْكَ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ على إيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِضَرَرٍ وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ إذَا لم تَكُنْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا فَلِأَهْلِهَا الْفَسْخُ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ وفي الْمَثَلِ السَّائِرِ تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا فَإِنْ لم يُمْكِنْ إيفَاءُ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَا يُقْدَرُ على تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِضَرَرٍ بِخِلَافِ ما إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ إنه لَا يَثْبُتُ لها حَقُّ الْفَسْخِ وَيَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِالْعُذْرِ فَقَدْ لَزِمَهَا الْعَقْدُ وَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ وَإِنْ وَقَعَتْ لَازِمَةً
وَلَوْ انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُؤَاجِرِ ولم يَكُنْ له مَنْزِلٌ آخَرُ سِوَى الْمَنْزِلِ الْمُؤَاجَرِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ وَيَسْكُنَهَا ليس له ذلك لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْزِلًا آخَرَ أو يَشْتَرِيَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا إذَا أَرَادَ التَّحَوُّلَ من الْمِصْرِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْزِلِ في الْإِجَارَةِ وَيَخْرُجَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرُ مَنْزِلًا فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ لم يَكُنْ ذلك عُذْرًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَ نَفْسِهِ فَشِرَاؤُهُ دَارًا أُخْرَى أو وُجُودُ دَارٍ أُخْرَى لَا يُوجِبُ عُذْرًا في الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي هو في جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ فإنه عُذْرٌ في فَسْخِ الْإِجَارَةِ حتى لو أَجَرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ سَنَةً فلما مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَعْتَقَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَضَى على الْإِجَارَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ
أَمَّا الْعِتْقُ فَلَا شَكَّ في نَفَاذِهِ لِصُدُورِ الْإِعْتَاقِ من الْأَهْلِ في الْمَحَلِّ الْمَمْلُوكِ الْمَرْقُوقِ وَالْعَارِضُ وهو حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا في الْمَنْعِ من التَّسْلِيمِ وَنَفَاذُ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ على إمْكَانِ التَّسْلِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّ اعتاق الْآبِقِ نَافِذٌ
وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ على الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِهَا فَيَصِيرُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عليه ابْتِدَاءً فَكَانَ له خِيَارُ الْإِجَارَةِ وَالْفَسْخِ فَإِنْ فَسَخَ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَسَقَطَ عن الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ فِيمَا بَقِيَ وكان أَجْرُ ما مَضَى لِلْمَوْلَى لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ على مِلْكِ بِعَقْدِهِ وَإِنْ أَجَازَ وَمَضَى على الْإِجَارَةِ فَالْأُجْرَةُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إلَى تَمَامِ السَّنَةِ تَكُونُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ له كما لو أَجَرَ نَفْسَهُ من إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى في الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ له بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِجَارَةَ لم يَكُنْ له أَنْ يَنْقُضَهَا بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الْإِجَارَةِ أَبْطَلَ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ وَقَبْضُ الْأُجْرَةِ كُلِّهَا لِلْمَوْلَى وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ إلَّا بِوَكَالَةٍ من الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعَاقِدَ هو الْمَوْلَى وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ هذا إنْ لم يَكُنْ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ وَلَا شَرَطَ الْمَوْلَى عليه
____________________

(4/199)


التَّعْجِيلَ فَإِنْ كان عَجَّلَ أو شَرَطَ عليه التَّعْجِيلَ فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاخْتَارَ الْمُضِيَّ على الْإِجَارَةِ فَالْأُجْرَةُ كُلُّهَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالتَّعْجِيلِ أو بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ
وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ يَرُدُّ النِّصْفَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ ولم يَسْلَمْ له إلَّا مَنْفَعَةُ نِصْفِ الْمُدَّةِ وَسَوَاءٌ كان الْمَوْلَى أَجَرَهُ بِنَفْسِهِ أو أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ سَنَةً فَأَجَرَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى في نِصْفِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَعَقْدِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ إلَّا أن قَبَضَ الْأُجْرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى في الْمُدَّةِ لِأَنَّ إجَارَةَ الْمَحْجُورِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً وَخِيَارُ الْإِمْضَاءِ في الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ
وَمِنْهَا بُلُوغُ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجَرِ آجَرَهُ أَبُوهُ أو وَصِيُّ أبيه أو جَدُّهُ أو وَصِيُّ جَدِّهِ أو الْقَاضِي أو أَمِينُهُ فَبَلَغَ في الْمُدَّةِ فَهُوَ عُذْرٌ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ لِأَنَّ في إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ضَرَرًا بِالصَّبِيِّ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَعْجِزُ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لم يَلْتَزِمْهُ فَكَانَ عُذْرًا
وَلَوْ أَجَرَ وَاحِدٌ من هَؤُلَاءِ شيئا من مَالِهِ فَبَلَغَ قبل تَمَامِ الْمُدَّةِ لَا خِيَارَ له وَالْفَرْقُ بين إجَارَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ذَكَرَهُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ أن إجَارَةَ مَالِهِ تَصَرُّفٌ نُظِرَ في حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالْبُلُوغِ فَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَهُوَ في وَضْعِهَا إضْرَارٌ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ أو الْوَصِيُّ من حَيْثُ هِيَ تَأْدِيبٌ وقد انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ بِالْبُلُوغِ فَأَمَّا غَلَاءُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ إلَّا في إجَارَةِ الْوَقْفِ حتى لو آجَرَ دَارًا هِيَ مِلْكُهُ ثُمَّ غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ ليس ( ( ( فليس ) ) ) له أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ إلَّا في الْوَقْفِ فإنه يُفْسَخُ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَيُجَدَّدُ الْعَقْدُ في الْمُسْتَقْبَلِ على أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَفِيمَا مَضَى يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ وَقِيلَ هذا إذَا ازْدَادَ أَجْرُ مِثْلِ الدُّورِ
فَأَمَّا إذَا جاء وَاحِدٌ وزاد في الْأُجْرَةِ تَعَنُّتًا على الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذلك ثم إنَّمَا تُفْسَخُ هذه الْإِجَارَةُ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخُ فَأَمَّا إذَا لم يُمْكِنْ فَلَا تُفْسَخُ بِأَنْ كان في الْأَرْضِ زَرْعٌ لم يُسْتَحْصَدْ لِأَنَّ في الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تُفْسَخُ بَلْ تُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الرزع ( ( ( الزرع ) ) ) بِأَجْرِ الْمِثْلِ فَإِلَى وَقْتِ الزِّيَادَةِ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ هذا إذَا غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الْوَقْفِ فَأَمَّا إذَا رَخُصَ فإن الْإِجَارَةَ لَا تُفْسَخُ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رضي بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَزِيَادَةٍ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ في الْوَقْفِ عِنْدَ الْغَلَاءِ لِمَعْنًى النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وفي هذا ضَرَرٌ فَلَا تُفْسَخُ
وَأَمَّا الْعُذْرُ في اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَنَحْوُ أَنْ لَا يَأْخُذَ الصَّبِيُّ من لَبَنِهَا لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ بَعْضُ ما دخل تَحْتَ الْعَقْدِ أو بَقِيَ من لَبَنِهَا لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِهِ أو تَحْبَلَ الظِّئْرُ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ أو تَكُونَ سَارِقَةً لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ على مَتَاعِهِمْ أو تَكُونَ فَاجِرَةً بَيِّنَةَ الْفُجُورِ لِأَنَّهَا تَتَشَاغَلُ بِالْفُجُورِ عن حِفْظِ الصَّبِيِّ أو أَرَادُوا أَنْ يُسَافِرُوا بِصَبِيِّهِمْ وَأَبَتْ الظِّئْرُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُمْ لِأَنَّ في إلْزَامِهِمْ تَرْكَ الْمُسَافَرَةِ إضْرَارًا بِهِمْ وفي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ السَّفَرِ إضْرَارًا أَيْضًا أو تَمْرَضَ الظِّئْرُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِلَبَنِ الْمَرِيضَةِ وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِالْإِرْضَاعِ في الْمَرَضِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ من الْجَانِبَيْنِ فَإِنْ كَانُوا يُؤْذُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُفُّوا عنها فَإِنْ لم يَكُفُّوا كان لها أَنْ تَخْرُجَ لِأَنَّ الْأَذِيَّةَ مَحْظُورَةٌ فَعَلَيْهِمْ تَرْكُهَا فَإِنْ لم يَتْرُكُوهَا كان في إبْقَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ بِالْعَقْدِ فَكَانَ عُذْرًا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا من الرَّضَاعِ إنْ لم تَكُنْ الْإِجَارَةُ بِرِضَاهُ
وَقِيلَ هو على التَّفْصِيلِ إنْ كان مِمَّنْ يَشِينُهُ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ فَلَهُ الْفَسْخُ لِأَنَّهُ يُعَيَّرُ بِذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَشِينُهُ ذلك لم يَكُنْ له أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لَا مَنَافِعُ ثَدْيِهَا فَكَانَتْ هِيَ بِالْإِجَارَةِ مُتَصَرِّفَةً في حَقِّهَا وَقِيلَ له الْفَسْخُ في الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ في بَيْتِهِمْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من الْخُرُوجِ من مَنْزِلِهِ وَإِنْ أَرْضَعَتْ في بَيْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا من إدْخَالِ الصَّبِيِّ إلَى بَيْتِهِ ثُمَّ إذَا اعْتَرَضَ شَيْءٌ من هذه الْأَعْذَارِ التي وَصَفْنَاهَا فَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بنفسه ( ( ( بنفسها ) ) ) أو تَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا وقال بَعْضُهُمْ لَا تَنْفَسِخُ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْعُذْرِ إنْ كان يُوجِبُ الْعَجْزَ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْعَقْدِ شَرْعًا بِأَنْ كان الْمُضِيُّ فيه حَرَامًا فَالْإِجَارَةُ تُنْتَقَضُ بِنَفْسِهَا كما في الْإِجَارَةِ على قَلْعِ الضِّرْسِ إذَا اشْتَكَتْ ثُمَّ سَكَنَتْ وَعَلَى قَطْعِ الْيَدِ المتآكلة إذَا برأت ( ( ( برئت ) ) ) وَنَحْوِ ذلك وَإِنْ كان الْعُذْرُ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ عن ذلك لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ ضَرَرٍ لم يُوجِبْهُ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ وَهَلْ يُحْتَاجُ فيه إلَى فَسْخِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي ذَكَرَ في الْأَصْلِ وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهَا
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أنها لَا تنفسخ ( ( ( تفسخ ) ) ) إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي وَجْهُ ما ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ هذا خِيَارٌ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ
____________________

(4/200)


وَجْهُ الْمَذْكُورِ في الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَنَافِعَ في الْإِجَارَةِ لَا تُمْلَكُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بَلْ شيئا فَشَيْئًا فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْعُذْرِ فيها بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَدَثَ قبل الْقَبْضِ وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ قبل الْقَبْضِ في باب الْبَيْعِ يُوجِبُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ وَلَا يَقِفُ ذلك على الْقَضَاءِ وَالرِّضَا كَذَا هذا
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ فيه تَفْصِيلًا فقال إنْ كان الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ كان خَفِيًّا كَالدَّيْنِ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ لِيَظْهَرَ الْعُذْرُ فيه وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ وَهَذَا حَسَنٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُسْتَأْجَرَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ إذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً عَرِيَّةً عن خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ عِنْدَ عام ( ( ( عامة ) ) ) الْعُلَمَاءِ فَلَا تُفْسَخُ من غَيْرِ عُذْرٍ وقال شُرَيْحٌ إنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَتُفْسَخُ بِلَا عُذْرٍ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَتْ الْإِعَارَةَ
وَلَنَا أنها تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْفَسْخُ ليس من الْإِيفَاءِ بِالْعَقْدِ
وقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيَارٌ جَعَلَ الْبَيْعَ نَوْعَيْنِ نَوْعًا لَا خِيَارَ فيه وَنَوْعًا فيه خِيَارٌ وَالْإِجَارَةُ بَيْعٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَوْعَيْنِ نَوْعًا ليس فيه خِيَارُ الْفَسْخِ وَنَوْعًا فيه خِيَارُ الْفَسْخِ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فيها بِالْفَسْخِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْعَقْدِ من غَيْرِ تَحَمُّلِ ضَرَرٍ كَالْبَيْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أن كانت صَحِيحَةً وأما إنْ كانت فَاسِدَةً وأما إنْ كانت بَاطِلَةً أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا من التَّوَابِعِ أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فَالْكَلَامُ فيه في ثلاث مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ في الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ في الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ في الْعِوَضَيْنِ
وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان عُقِدَ مُطْلَقًا عن شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ وأما إن شُرِطَ فيه تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ أو تَأْجِيلُهَا فَإِنْ عُقِدَ مُطْلَقًا فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ في الْعِوَضَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُؤَاجِرِ في الْأُجْرَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَأْجِرِ في الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ هو ثُبُوتُ الْمِلْكِ في الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا يَثْبُتُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِ مَحَلِّهِ وهو الْمَنْفَعَةُ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ الْمُدَّةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فيها في الْحَالِ وَعَلَى هذا يبني أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تُمْلَكُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وقد وُجِدَتْ مُطْلَقَةً وَالْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ في الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لَا بُدَّ له من مَحَلٍّ يثبت ( ( ( تثبت ) ) ) فيه مَنَافِعُ الْمُدَّةِ معلومة ( ( ( المعلومة ) ) ) في الْحَالِ حَقِيقَةً فَتُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ وقد يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْمُطْلَقَةَ إذَا لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ فيها في أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَثْبُتُ في الْعِوَضِ الْآخَرِ إذْ لو ثَبَتَ لَا يَكُونُ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ في الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ وَلَا مُسَاوَاةَ إذَا لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ في أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَالْمِلْكُ لم يَثْبُتْ في أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وهو مَنَافِعُ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا معدومة ( ( ( معلومة ) ) ) حَقِيقَةً فَلَا تَثْبُتُ في الْأُجْرَةِ في الْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ في أَيِّ وَقْتٍ تَثْبُتُ فَقَدْ كان أبو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يقول إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِثْلُ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ سَنَةً أو عَشْرَ سِنِينَ وهو قَوْلُ زُفَرَ ثُمَّ رَجَعَ هُنَا فقال تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا وفي الْإِجَارَةِ على الْمَسَافَةِ مِثْلَ أن اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا كان قَوْلُهُ الْأَوَّلَ أنه لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ حتى يَعُودَ وهو قَوْلُ زُفَرَ ثُمَّ رَجَعَ وقال يُسَلِّمُ حَالًا فَحَالًا
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أُجْرَةَ كل مَرْحَلَةٍ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ أو الْمَسَافَةِ من حَيْثُ أنها مَعْقُودٌ عليها شَيْءٌ وَاحِدٌ فما لم يَسْتَوْفِهَا كُلَّهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ من بَدَلِهَا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فَخَاطَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حتى يَفْرُغَ منه وَكَذَا الْقَصَّارُ وَالصَّبَّاغُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي وهو الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَدَلِ وهو الْمَنْفَعَةُ وإنها تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَمْلِكُهَا شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِهَا فَكَذَا ما يُقَابِلُهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عليه تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ
____________________

(4/201)


سَاعَةً فَسَاعَةً إلَّا أَنَّ ذلك مُتَعَذِّرٌ فَاسْتُحْسِنَ فقال يَوْمًا فَيَوْمًا وَمَرْحَلَةً فَمَرْحَلَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فيه وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ أو نِصْفَهُ أَعْطَى من الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ اسْتِحْسَانًا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّيْرَ إلَى ثُلُثِ الطَّرِيقِ أو نِصْفِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ في الْجُمْلَةِ فإذا وُجِدَ ذلك الْقَدْرُ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ بَدَلِهِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَبْرَأَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ من الْأَجْرِ أو وَهَبَهُ له أو تَصَدَّقَ بِهِ عليه إن ذلك لَا يَجُوزُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرِ عَيْنًا كان الاجر أو دَيْنًا وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان دَيْنًا جَازَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ظَاهِرٌ خَارِجٌ على الْأَصْلِ وهو أَنَّ الْأُجْرَةَ لم يَمْلِكْهَا الْمُؤَاجِرُ في الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عن شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالْإِبْرَاءُ عَمَّا ليس بِمَمْلُوكِ المبرىء ( ( ( المبرئ ) ) ) لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَإِنَّمَا التَّأْجِيلُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءِ عنه وَهِبَةُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ فإذا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ فَيُثْبِتُ الْمِلْكُ مُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا له كما في قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي على أَلْفِ دِرْهَمٍ فقال أَعْتَقْت وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَهُنَا مَوْجُودٌ وهو الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كان يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ في حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَإِنْ كان يَعْنِي شيئا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عن بَعْضِ الْأُجْرَةِ أو وَهَبَ منه جَازَ في قَوْلِهِمْ جميعا
أَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذلك عِنْدَهُ في الْكُلِّ فَكَذَا في الْبَعْضِ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ ذلك حَطُّ بَعْضِ الْأُجْرَةِ فَيُلْحَقُ الْحَطُّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ كما لو وُجِدَ في حَالِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ بَعْضِ الثَّمَنِ في الْبَيْعِ وَحَطُّ الْكُلِّ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَأَمَّا إذَا كانت الْأُجْرَةُ عَيْنًا من الْأَعْيَانِ فَوَهَبَهَا الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ إنَّ ذلك لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِجَارَةِ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ وَإِنْ رَدَّهَا لم تَبْطُلْ أَمَّا أبو يُوسُفَ فَقَدْ مَرَّ على الْأَصْلِ أَنَّ الْهِبَةَ لم تَصِحَّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهَا لم تُوجَدْ رَأْسًا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ من بَائِعِهِ قبل الْقَبْضِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ إنَّ ذلك يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ الْهِبَةَ هُنَاكَ قد صَحَّتْ لِصُدُورِهَا من الْمَالِكِ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فإنه يقول الْأُجْرَةُ إذَا كان عَيْنًا كانت في حُكْمِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ ما يُقَابِلُهَا هو في حُكْمِ الْأَعْيَانِ وَالْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ من الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ كَذَا هذا
وإذا رَدَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ فإذا رَدَّ بَطَلَتْ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ
وَعَلَى هذا إذَا صَارَفَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْأُجْرَةِ فَأَخَذَ بها دِينَارًا بِأَنْ كانت الْأُجْرَةُ دَرَاهِمَ إن الْعَقْدَ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ في قَوْلِهِ الْأَخِيرِ وكان قَوْلُهُ الْأَوَّلَ إنَّهُ جَائِزٌ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ على الْأَصْلِ فقال الْأُجْرَةُ لم تَجِبْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وما وَجَبَ بِعَقْدِ الصَّرْفِ لم يُوجَدْ فيه التَّقَابُضُ في الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلَ الْعَقْدُ فيه كَمَنْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ فلم يَتَقَابَضَا وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي الدِّينَارَ بِدَرَاهِمَ في ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهَا قِصَاصًا بِالْأُجْرَةِ وَلَا أُجْرَةَ له فَيَبْقَى ثَمَنُ الصَّرْفِ في ذِمَّتِهِ فإذا افْتَرَقَا قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَمُحَمَّدٌ يقول إذَا لم يَجُزْ الصَّرْفُ إلَّا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ وَلَا وُجُوبَ إلَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ثَبَتَ الشَّرْطُ مقتضى ( ( ( مقتض ) ) ) إقْدَامَهُمَا على الصَّرْفِ
وَلَوْ شَرَطَا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ ثُمَّ تَصَارَفَا جَازَ كَذَا هذا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُؤَاجِرُ من الْمُسْتَأْجِرِ عَيْنًا من الْأَعْيَانِ بِالْأُجْرَةِ جَازَ في قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْعَقْدَ على الْأَعْيَانِ وَالْهِبَةِ جَائِزَانِ فَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِأَنَّ جَوَازَهَا لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الدَّيْنِ لِلْحَالِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو كَفَلَ بِمَا يَذُوبُ له على فُلَانٍ جَازَتْ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِدَيْنٍ لم يَجِبْ جَائِزٌ كَالرَّهْنِ بِالثَّمَنِ في الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فيه الْخِيَارُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ شُرِعَا لِلتَّوَثُّقِ وَالتَّوَثُّقُ مُلَائِمٌ لِلْأَجْرِ هذا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ فَأَمَّا إذَا شُرِطَ في تَعْجِيلِهَا مُلِكَتْ بِالشَّرْطِ ووجب ( ( ( وجب ) ) ) تَعْجِيلُهَا
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا شَرْطُ التَّعْجِيلِ في نَفْسِ الْعَقْدِ
وَالثَّانِي التَّعْجِيلُ من غَيْرِ شَرْطٍ
وَالثَّالِثُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عليه
أَمَّا مِلْكُهَا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ في الْعِوَضَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ لِتَحْقِيقِ
____________________

(4/202)


مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ التي هِيَ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا في ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا في زَمَانٍ وَاحِدٍ فإذا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فلم تُوجَدْ الْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْمُقَيَّدَةُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ في الْعِوَضِ قبل ثُبُوتِهِ في العوض ( ( ( المعوض ) ) ) وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْجِيلُ في ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَإِنْ كان إطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْحُلُولَ كَذَا هذا وَلِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ ما وَقَعَ عليه الْعَقْدُ حتى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ في بَابِ الْإِجَارَةِ كَالْمَبِيعِ في بَابِ الْبَيْعِ وَالْأُجْرَةُ في الْإِجَارَاتِ كَالثَّمَنِ في الْبِيَاعَاتِ وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَذَا لِلْمُؤَاجِرِ حَبْسُ الْمَنَافِعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ
فَإِنْ قِيلَ لَا فَائِدَةَ في هذا الْحَبْسِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ على مُدَّةٍ فإذا حُبِسَ الْمُسْتَأْجَرُ مُدَّةً بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ وَلَا شَيْءَ فيها من الْأُجْرَةِ فلم يَكُنْ الْحَبْسُ مُفِيدًا
فَالْجَوَابُ إنَّ الْحَبْسَ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ وَيُطَالَبُ بِالْأُجْرَةِ فَإِنْ عَجَّلَ وَإِلَّا فُسِخَ الْعَقْدُ فَكَانَ في الْحَبْسِ فَائِدَةٌ على أَنَّ هذا لَا يَلْزَمُ في الْإِجَارَةِ على الْمَسَافَةِ بِأَنْ أَجَّرَ دَابَّةً مَسَافَةً مَعْلُومَةً لِأَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا لَا يَبْطُلُ بِالْحَبْسِ وَكَذَا هذا وَيَبْطُلُ بِبَيْعِ ما يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالسَّمَكِ الطَّرِيِّ وَنَحْوِهِ إذْ لِلْبَائِعِ حَبْسُهُ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ
وَإِنْ كان يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْبَيْعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ في عَقْدِ الْإِجَارَةِ على أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجْرَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا في آخِرِ الْمُدَّةِ فإذا شُرِطَ كان هذا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ جَائِزًا
وَأَمَّا على قَوْلِهِ الْآخَرِ فَالْأُجْرَةُ وَإِنْ كانت تَجِبُ شيئا فَشَيْئًا فَقَدْ شُرِطَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ وَالْأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ فَتَحْتَمِلُ التَّأْجِيلَ كَالثَّمَنِ
وَأَمَّا إذَا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ من غَيْرِ شَرْطٍ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَقَدْ غَيَّرَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَهُ هذه الْوِلَايَةُ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ حَقًّا له فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالتَّعْجِيلِ كما لو كان عليه دَيْنٌ مؤجر ( ( ( مؤجل ) ) ) فَعَجَّلَهُ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ فَالِاسْتِحْقَاقُ وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَتَعْجِيلُ الْحُكْمِ قبل الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ
وَأَمَّا إذَا استوفى الْمَعْقُودُ عليه فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَوَّضَ فَيَمْلِكُ الْمُؤَاجِرُ الْعِوَضَ في مُقَابَلَتِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَسْوِيَةً بين الْعَاقِدَيْنِ في حُكْمِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تُبْنَى الْإِجَارَةُ الْمُضَافَةُ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ قال أَجَّرْتُك هذه الدَّارَ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا أو قال أَجَرْتُك هذه الدَّارَ سَنَةً أَوَّلُهَا غُرَّةُ شَهْرِ رَمَضَانَ أنها جَائِزَةٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ
وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَطَرِيقُ جَوَازِهَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا عَقِيبَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا له إذْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ مَوْجُودًا لِيُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ فيه فَجُعِلَتْ الْمَنَافِعُ مَوْجُودَةً حُكْمًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَإِضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى عَيْنٍ سَتُوجَدُ لَا تَصِحُّ كما في بَيْعِ الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِ الْمَعْقُودِ عليه شيئا فَشَيْئًا وهو الْمَنْفَعَةُ فَكَانَ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَالتَّنْصِيصُ على الْإِضَافَةِ يَكُونُ مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْإِضَافَةَ في الْإِجَارَةِ دُونَ الْبَيْعِ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَالَ وُجُودِهَا لَا يُمْكِنُ إنْشَاءُ الْعَقْدِ عليها فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِضَافَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في بَيْعِ الْعَيْنِ لِإِمْكَانِ إيقَاعِ الْعَقْدِ عليها بَعْدَ وُجُودِهَا لِكَوْنِهَا مُحْتَمِلَةً لِلْبَقَاءِ فَلَا ضَرُورَةَ إلا ( ( ( إلى ) ) ) الْإِضَافَةِ وَطَرِيقُنَا أَوْلَى لِأَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا تَقْدِيرٌ لِلْمُحَالِ وَتَقْدِيرُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا إحَالَةَ في الْإِضَافَةِ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ فإن كَثِيرًا من التَّصَرُّفَاتِ تَصِحُّ مُضَافَةً إلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا فَكَانَ الصَّحِيحُ ما قُلْنَا
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ التي هِيَ من التَّوَابِعِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مِمَّا عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فيه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَخْلُو أما إن شُرِطَ فيه تَعْجِيلُ الْبَدَلِ أو تَأْجِيلُهُ وَأَمَّا إنْ كان مُطْلَقًا عن شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ فَإِنْ شُرِطَ فيه تَعْجِيلُ الْبَدَلِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلُهَا والإبتداء بِتَسْلِيمِهَا سَوَاءٌ كان ما وَقَعَ عليه الْإِجَارَةُ شيئا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ أو كان صَانِعًا أو عَامِلًا يُنْتَفَعُ بِصَنْعَتِهِ أو عَمَلِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّيَّاغِ وَالْإِسْكَافِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا تَعْجِيلَ الْبَدَلِ لَزِمَ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَمَلَكَ
____________________

(4/203)


الْآجِرُ الْبَدَلَ حتى تَجُوزَ له هِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْإِبْرَاءُ عنه وَالشِّرَاءُ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُ الْبَائِعُ في الثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ في الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا حتى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ وَكَذَا لِلْأَجِيرِ الْوَاحِدِ أنت يَمْتَنِعَ عن تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَلِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن إيفَاءِ الْعَمَلِ قبل اسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ في الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ في الْبِيَاعَاتِ وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ إذَا لم يَكُنْ مُؤَجَّلًا كَذَا هَهُنَا
وَإِنْ شُرِطَ فيه تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِيفَاءِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا لِلْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا وَإِنْ كان الْعَقْدُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ ما وَقَعَ عليه الْعَقْدُ في نَوْعَيْ الْإِجَارَةِ فَيَجِبُ على الْمُؤَاجِرِ تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجَرِ وَعَلَى الْأَجِيرِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ أو إيفَاءُ الْعَمَلِ أَوَّلًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَعِنْدَهُ تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ غير أَنَّ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ وهو الْإِجَارَةُ على الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا إذَا سَلِمَ الْمُسْتَأْجَرُ لَا يَجِبُ على الْمُسْتَأْجِرِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ كُلِّهِ لِلْحَالِّ بَلْ على حَسَبِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شيئا فَشَيْئًا حَقِيقَةً أو تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ من الِاسْتِيفَاءِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ بِمِقْدَارِ ذلك يَوْمًا فَيَوْمًا في الْإِجَارَةِ على الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً في الْإِجَارَةِ على الْمَسَافَةِ وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمُكَارِي على الْحَمْلِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ إذْ لو لم يخبر ( ( ( يخير ) ) ) لَتَضَرَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ
وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ من الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أو قَطْعِ الْمَسَافَةِ كُلِّهَا في الْإِجَارَةِ على قَطْعِ الْمَسَافَةِ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا في النَّوْعِ الْآخَرِ وهو اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ والعمل ( ( ( والعمال ) ) ) فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ من الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أو قَطْعِ الْمَسَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْعَمَلِ بِلَا خِلَافٍ حتى قالوا في الْحَمَّالِ ما لم يَحُطَّ الْمَتَاعَ من رَأْسِهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْحَطَّ من تَمَامِ الْعَمَلِ وَهَكَذَا قال أبو يُوسُفَ في الْحَمَّالِ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ بعدما بَلَغَ الْمَنْزِلَ قبل أَنْ يَضَعَهُ أنه ليس له ذلك لِأَنَّ الْوَضْعَ من تَمَامِ الْعَمَلِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من الْعَمَلِ في هذا النَّوْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بعضه ( ( ( ببعضه ) ) ) دُونَ بَعْضٍ فَكَانَ الْكُلُّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فما لم يُوجَدْ لَا يُقَابِلُهُ الْبَدَلُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من السُّكْنَى وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ مَقْصُودٌ فَيُقَابَلُ بِالْأُجْرَةِ ثُمَّ في النَّوْعِ الْآخَرِ إذَا أَرَادَ الْأَجِيرُ حَبْسَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْعَمَلِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ هل له ذلك يُنْظَرُ إنْ كان لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ في الْعَيْنِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ له ذلك لِأَنَّ ذلك الْأَثَرَ هو الْمَعْقُودُ عليه وهو صَيْرُورَةُ الثَّوْبِ مَخِيطًا مَقْصُورًا وَإِنَّمَا الْعَمَلُ يُحَصِّلُ ذلك الْأَثَرَ عَادَةً وَالْبَدَلُ يُقَابِلُ ذلك الْأَثَرَ فَكَانَ كَالْمَبِيعِ فَكَانَ له أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ كالبيع ( ( ( كالمبيع ) ) ) قبل الْقَبْضِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ إذَا لم يَكُنْ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا
وَلَوْ هَلَكَ قبل التَّسْلِيمِ تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قبل الْقَبْضِ وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ لِأَنَّهُ يَجِبُ قبل الْحَبْسِ عِنْدَهُمَا فَبَعْدَ الْحَبْسِ أَوْلَى وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ لم يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ في الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي ليس له أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِأَنَّ ما لَا أَثَرَ له في الْعَيْنِ فَالْبَدَلُ إنَّمَا يُقَابِلُ نَفْسَ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَكَمَا فَرَغَ حَصَلَ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ عنه بَعْدَ طَلَبِهِ كَالْيَدِ الْمُودَعَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ حَبْسُ الْوَدِيعَةِ بِالدَّيْنِ وَلَوْ حَبَسَهُ فَهَلَكَ قبل التَّسْلِيمِ لَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كما وَقَعَ في الْعَمَلِ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِحُصُولِهِ في يَدِهِ فَتَقَرَّرَتْ عليه الْأُجْرَةُ فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْهَلَاكِ وَيَضْمَنُ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ وَنَصَّ مُحَمَّدٌ على الْغَصْبِ فقال فَإِنْ حَبَسَ الْحَمَّالُ الْمَتَاعَ في يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ
وَوَجْهُهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَيْنَ كانت أَمَانَةً في يَدِهِ فإذا حَبَسَهَا بِدَيْنِهِ فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا كما لو حَبَسَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّيْنِ هذا الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ منه حتى لَا يَمْلِكَ الْأَجِيرُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ قبل الْفَرَاغِ إذَا كان الْمَعْمُولُ فيه في يَدِ الْأَجِيرِ فَإِنْ كان في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْرُ ما أَوْقَعَهُ من الْعَمَلِ فيه يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجَرِ قبل الْفَرَاغِ منه حتى يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِقَدْرِهِ من الْمُدَّةِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَبْنِيَ له بِنَاءً في مِلْكِهِ أو فِيمَا في يَدِهِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ له بِنَاءً في دَارِهِ أو يَعْمَلَ له سَابَاطًا أو جَنَاحًا أو يَحْفِرَ له بِئْرًا أو قَنَاةً
____________________

(4/204)


أو نَهْرًا أو ما أَشْبَهَ ذلك في مِلْكِهِ أو فِيمَا في يَدِهِ فَعَمِلَ بَعْضَهُ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَدْرِهِ من الْأُجْرَةِ لَكِنَّهُ يُجْبَرُ على الْبَاقِي حتى لو انْهَدَمَ الْبِنَاءُ أو إنهارت الْبِئْرُ أو وَقَعَ فيها الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَسَوَّاهَا مع الْأَرْضِ أو سَقَطَ السَّابَاطُ فَلَهُ أَجْرُ ما عَمِلَهُ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان في مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أو في يَدِهِ فكلما ( ( ( فكما ) ) ) عَمِلَ شيئا حَصَلَ في يَدِهِ قبل هَلَاكِهِ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بَدَلُهُ بِالْهَلَاكِ
وَلَوْ كان غَيْرُ ذلك في غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ ليس له أَنْ يَطْلُبَ شيئا من الْأُجْرَةِ قبل الْفَرَاغِ من عَمَلِهِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ حتى لو هَلَكَ قبل التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ من الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ في مِلْكِهِ وَلَا في يَدِهِ تَوَقَّفَ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فيه على الْفَرَاغِ وَالتَّمَامِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ إذَا أَرَاهُ مَوْضِعًا من الصَّحْرَاءِ يَحْفِرُ فيه بِئْرًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ما هو في مِلْكِهِ وَيَدِهِ وقال في آخِرِ الْكَلَامِ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ قَابِضًا إلَّا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ أَرَاهُ الْمَوْضِعَ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ذلك الْمَوْضِعَ بِالتَّعْيِينِ لم يَصِرْ في يَدِهِ فَلَا يَصِيرُ عَمَلُ الْأَجِيرِ فيه مُسَلَّمًا له وَإِنْ كان ذلك في غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدِهِ فَعَمِلَ الْأَجِيرُ بَعْضَهُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَرِيبٌ من الْعَامِلِ فَخَلَّى الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فقال الْمُسْتَأْجِرُ لَا أَقْبِضُهُ مِنْكَ حتى يَفْرُغَ فَلَهُ ذلك لِأَنَّ قَدْرَ ما عَمِلَ لم يَصِرْ مُسَلَّمًا إذَا لم يَكُنْ في مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا في يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِ عَمَلِهِ دُونَ بَعْضٍ فَكَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ من التَّسْلِيمِ حتى يُتِمَّهُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لَبَّانًا لِيَضْرِبَ له لَبِنًا في مِلْكِهِ أو فِيمَا في يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حتى يَجِفَّ اللَّبِنُ وَيَنْصِبَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ حتى يَجِفَّ أو يَنْصِبَهُ وَيَشْرُجَهُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا ضَرَبَهُ ولم يُقِمْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ ما لم يَقْلِبْهُ عن مَكَانِهِ فَهُوَ أَرْضٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللَّبِنِ وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ هل يَصِيرُ قَابِضًا له بِالْإِقَامَةِ أو لَا يَصِيرُ إلَّا بِالتَّشْرِيجِ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَصِيرُ قَابِضًا له بِنَفْسِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِقَامَةِ من تَمَامِ هذا الْعَمَلِ فَيَصِيرُ اللَّبِنُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بهما ( ( ( بها ) ) )
وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا ما لم يَشْرُجْ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِهِ حتى لو هَلَكَ قبل النَّصْبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَقَبْلَ التَّشْرِيجِ في قَوْلِهِمَا فَلَا أَجْرَ له لِأَنَّهُ هَلَكَ قبل تَمَامِ الْعَمَلِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ فَلَهُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْعَمَلَ قد تَمَّ فَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِكَوْنِهِ في مِلْكِهِ أو في يَدِهِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذلك لَا يُسْقِطُ الْبَدَلَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْنَ عن الْفَسَادِ يَقَعُ بالتشريج ( ( ( بالتشريح ) ) ) وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بين الناس أَنَّ اللَّبَّانَ هو الذي يَشْرُجُ لِيُؤَمِّنَ عليه الْفَسَادَ فَكَانَ ذلك من تَمَامِ الْعَمَلِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ من التَّنُّورِ
وَلَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ له ضَرْبُ اللَّبِنِ وَلَمَّا جَفَّ وَنَصَبَهُ فَقَدْ وُجِدَ ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ اللَّبِنِ وهو في يَدِهِ أو في مِلْكِهِ فَصَارَ قَابِضًا له فَأَمَّا التَّشْرِيجُ فَعَمَلٌ زَائِدٌ لم يُلْزَمْهُ الْعَامِلُ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ من مَكَان إلَى مَكَان فَلَا يَلْزَمُهُ ذلك وَإِنْ كان ذلك في غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لم يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ حتى يُسَلِّمَهُ وهو أَنْ يُخَلِّيَ الْأَجِيرُ بين اللَّبِنِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ لَكِنَّ ذلك بَعْدَ ما نَصَبَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بعدما شَرَجَهُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ له قَفِيزًا من دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ فَخَبَزَ فَاحْتَرَقَ الْخُبْزُ في التَّنُّورِ قبل أَنْ يُخْرِجَهُ أو أَلْزَقَهُ في التَّنُّورِ ثُمَّ أَخَذَهُ لِيُخْرِجَهُ فَوَقَعَ من يَدِهِ في التَّنُّورِ فَاحْتَرَقَ فَلَا أُجْرَةَ له لِأَنَّهُ هَلَكَ قبل تَمَامِ الْعَمَلِ لأن عَمَلَ الْخُبْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ من التَّنُّورِ فلم يَكُنْ قبل الْإِخْرَاجِ خُبْزٌ فَصَارَ كَهَلَاكِ اللَّبِنِ قبل أَنْ يُتِمَّهُ قال وَلَوْ أَخْرَجَهُ من التَّنُّورِ وَوَضَعَهُ وهو يَخْبِزُ في مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاحْتَرَقَ من غَيْرِ جِنَايَتِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ وَلَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّهُ فَرَغَ من الْعَمَلِ بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ من التَّنُّورِ وَحَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِكَوْنِهِ في مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الْهَلَاكَ من غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَهُ
وَأَمَّا على قَوْلِ من يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ فإنه ضَامِنٌ له دَقِيقًا مِثْلَ الدَّقِيقِ الذي دَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَا أَجْرَ له وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُبْزِ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَجِيرِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ بِوَضْعِهِ في مَنْزِلِ مَالِكِهِ وَإِنَّمَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ كَالْغَاصِبِ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عليه عِنْدَهُمَا فَصَاحِبُ الدَّقِيقِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَأَسْقَطَ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ لم يُسَلِّمْ إلَيْهِ الْعَمَلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُبْزًا فَصَارَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَوَجَبَ الْأَجْرُ عليه قال وَلَا أُضَمِّنُهُ الْقَصَبَ وَلَا الْمِلْحَ لِأَنَّ ذلك صَارَ مُسْتَهْلَكًا قبل وُجُوبِ الضَّمَانِ عليه وَحِينَ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه لَا قِيمَةَ له لِأَنَّ الْقَصَبَ صَارَ مادا ( ( ( رمادا ) ) ) وَالْمِلْحَ صَارَ مَاءً
وَكَذَلِكَ الْخَيَّاطُ الذي يَخِيطُ له في مَنْزِلِهِ قَمِيصًا فَإِنْ خَاطَ له بَعْضَهُ لم يَكُنْ له أُجْرَتُهُ لِأَنَّ هذا الْعَمَلَ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضِهِ فَلَا تَلْزَمُ الْأُجْرَةُ
____________________

(4/205)


إلَّا بِتَمَامِهِ فإذا فَرَغَ منه ثُمَّ هَلَكَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعَمَلَ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِحُصُولِهِ في مِلْكِهِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَالْعَيْنُ مَضْمُونَةٌ فَلَا يَبْرَأُ عن ضَمَانِهَا إلَّا بِتَسْلِيمِهَا إلَى مَالِكِهَا فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَا أَجْرَ له وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخِيطًا وَلَهُ الْأَجْرُ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ له دَنًّا من السُّوقِ إلَى مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهُ حتى إذَا بَلَغَ بَابَ دار ( ( ( درب ) ) ) الذي اسْتَأْجَرَهُ كَسَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ على الْحَامِلِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَهُ الْأَجْرُ وهو على ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ إذَا لم يَكُنْ له أَثَرٌ ظَاهِرٌ في الْعَيْنِ كما وَقَعَ يَحْصُلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ فَمَضَى فَخَاطَهُ ثُمَّ جاء رَجُلٌ فتقه ( ( ( ففتقه ) ) ) قبل أَنْ يَقْبِضَهُ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لِلْخَيَّاطِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هَلَكَتْ قبل التَّسْلِيمِ فَسَقَطَ بَدَلُهَا قال وَلَا أُجْبِرُ الْخَيَّاطَ على أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ من الْعَمَلِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ ثَانِيًا وَإِنْ كان الْخَيَّاطُ هو الذي فَتَقَ الثَّوْبَ عليه أَنْ يُعِيدَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ فَقَدْ فَسَخَ الْمَنَافِعَ التي عَمِلَهَا فَكَأَنَّهُ لم يَعْمَلْ رَأْسًا وإذا فَتَقَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ أَتْلَفَ الْمَنَافِعَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ
وَقَالُوا في الْمَلَّاحِ إذَا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ فَرَدَّ السَّفِينَةَ إنْسَانٌ فَلَا أَجْرَ لِلْمَلَّاحِ وَلَيْسَ عليه أَنْ يُعِيدَ السَّفِينَةَ فَإِنْ كان الْمَلَّاحُ هو الذي رَدَّهَا لَزِمَهُ إعَادَةُ الْحَمْلِ إلَى الْمَوْضِعِ الذي شُرِطَ عليه لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان الْمَوْضِعُ الذي رَجَعَتْ إلَيْهِ السَّفِينَةُ لَا يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ على قَبْضِهِ فَعَلَى الْمَلَّاحِ أَنْ يُسَلِّمَهُ في مَوْضِعٍ يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ على قَبْضِهِ وَيَكُونُ له أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا سَارَ في هذا الْمَسِير لِأَنَّا لو جَوَّزْنَا لِلْمَلَّاحِ تَسْلِيمَهُ في مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَتَلِفَ الْمَالُ على صَاحِبِهِ وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ حَمْلَهُ بِالْأَجْرِ إلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ التي يُمْكِنُ الْقَبْضُ فيه فَقَدْ رَاعَيْنَا الْحَقَّيْنِ
وقالوا ( ( ( قالوا ) ) ) وَلَوْ اكتراه ( ( ( اكترى ) ) ) بَغْلًا إلَى مَوْضِعٍ يَرْكَبُهُ فلما سَارَ إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ جَمَحَ بِهِ فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ الذي خَرَجَ منه فَعَلَيْهِ الكري ( ( ( الكراء ) ) ) بِقَدْرِ ما سَارَ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى ذلك الْقَدْرَ من الْمَنَافِعِ فَلَا يَسْقُطُ عنه الضَّمَانُ
وقال في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عن أبي حَنِيفَةَ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا قد مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ قال له من الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ بِكِتَابِهِ إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ وَيَجِيءُ بِجَوَابِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا قد مَاتَ فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا أَجْرَ له وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ له الْأَجْرُ في الذَّهَابِ أَمَّا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَمْلُ الْعِيَالِ فإذا حَمَلَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ كان له من الْأَجْرِ بِحِسَابِ ما حَمَلَ
وَأَمَّا في الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا بِحَمْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لَا حَمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ في الذَّهَابِ وَقَعَ على الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّتَهُ من الْأَجْرِ وفي الْعَوْدِ لم يَقَعْ على الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من حَمْلِ الْكِتَابِ إيصَالُهُ إلَى فُلَانٍ ولم يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ على أَنَّ الْمَقْصُودَ وَإِنْ كان نَقْلَ الْكِتَابِ لَكِنَّهُ إذَا رَدَّهُ فَقَدْ نَقَصَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ فَبَطَلَ الْأَجْرُ كما لو اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ طَعَامًا إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ فَحَمَلَهُ فَوَجَدَهُ قد مَاتَ فَرَدَّهُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ له لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلِلْمُسْتَأْجِرِ في إجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا من الْعَقَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بها كَيْفَ شَاءَ بِالسُّكْنَى وَوَضْعِ الْمَتَاعِ وَأَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَجْعَلَ فيها حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يُوهِنُ الْبِنَاءَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ أَجَّرَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِأَكْثَرَ من الْأُجْرَةِ الْأُولَى فَإِنْ كانت الثَّانِيَةُ من خِلَافِ جِنْسِ الْأُولَى طَابَتْ له الزِّيَادَةُ وَإِنْ كانت من جِنْسِ الْأُولَى لَا تَطِيبُ له حتى يَزِيدَ في الدَّارِ زِيَادَةً من بِنَاءٍ أو حَفْرٍ أو تَطْيِينٍ أو تَجْصِيصٍ فَإِنْ لم يَزِدْ فيه شيئا فَلَا خَيْرَ في الْفَضْلِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ لَكِنْ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ
أَمَّا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في عَقْدٍ لَا يعتبر ( ( ( تعتبر ) ) ) فيه الْمُسَاوَاةُ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَهَهُنَا كَذَلِكَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ
وَأَمَّا التصديق ( ( ( التصدق ) ) ) بِالْفَضْلِ إذَا كانت الْأُجْرَةُ الثَّانِيَةُ من جِنْسِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ ما لم يُضْمَنْ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَدْخُلُ في ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو هَلَكَ الْمُسْتَأْجَرُ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كان الْهَلَاكُ على الْمُؤَاجِرِ وَكَذَا لو غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ وَنَهَى رسول اللَّهِ عن ذلك فَإِنْ كان هُنَاكَ زِيَادَةٌ كان الرِّبْحُ في مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ رِبْحًا وَلَوْ كَنَسَ الْبَيْتَ فَلَا يُعْتَبَرُ ذلك لِأَنَّهُ ليس بِزِيَادَةٍ فَلَا تَطِيبُ بِهِ زِيَادَةُ الْأَجْرِ
وَكَذَا في إجَارَةِ الدَّابَّةِ إذَا زَادَ في الدَّابَّةِ جُوَالِقَ أو لِجَامًا أو ما أَشْبَهَ ذلك يَطِيبُ له الْفَضْلُ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ عَلَفَهَا لَا يَطِيبُ له لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا يَصِيرُ
____________________

(4/206)


شَيْءٌ منها مُقَابَلًا بِالْعَلَفِ فَلَا يَطِيبُ له الْفَضْلُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا ليس له أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ ليس له أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ وَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ لِأَنَّ الناس مُتَفَاوِتُونَ في الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ ذلك الْيَوْمَ ضَمِنَهُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ في إلْبَاسِهِ غَيْرَهُ وَإِنْ لم يُصِبْهُ شَيْءٌ فَلَا أَجْرَ له لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه ما يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِلُبْسِهِ فما يَكُونُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عليه وَاسْتِيفَاءُ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عليه لَا يُوجِبُ الْيَدَ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ غَصَبَ منه ثَوْبًا آخَرَ فَلَبِسَهُ لم يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ فَكَذَلِكَ إذَا أَلْبَسَ ذلك الثَّوْبَ غَيْرَهُ لِأَنَّ تَعْيِينَ اللَّابِسِ كَتَعْيِينِ الْمَلْبُوسِ فَإِنْ قِيلَ هو قد تَمَكَّنَ من اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه وَذَلِكَ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَجْرِ عليه كما لو وَضَعَهُ في بَيْتِهِ ولم يَلْبَسْهُ قُلْنَا تَمَكُّنُهُ من الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فإذا وَضَعَهُ في بَيْتِهِ فَيَدُهُ عليه مُعْتَبَرَةٌ وَلِهَذَا لو هَلَكَ لم يَضْمَنْ فَأَمَّا إذَا أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَيَدُهُ عليه مُعْتَبَرَةٌ حُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَامِنٌ وَإِنْ هَلَكَ من غَيْرِ اللُّبْسِ فإن يَدَ اللَّابِسِ عليه مُعْتَبَرَةٌ حتى يَكُونَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ غير اللَّابِسِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ تَفْوِيتِ يَدِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا تلزمه ( ( ( يلزمه ) ) ) الْأُجْرَةَ وَإِنْ سَلِمَ وَإِنْ كان اسْتَأْجَرَهُ لِيُلْبَسَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ ولم يُسَمِّ من يَلْبَسُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عليه فإن اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَلْبُوسِ وَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ في الْمَلْبُوسِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ تَرْكُ تَعْيِينِ اللَّابِسِ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يُطَالِبُهُ بِإِلْبَاسِ أَرْفَقِ الناس في اللُّبْسِ وَصِيَانَةِ الْمَلْبُوسِ وهو يَأْبَى أَنْ يُلْبِسَ إلَّا أَحْسَنَ الناس في ذلك وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مع فَسَادِ الْعَقْدِ وَإِنْ اخْتَصَمَا فيه قبل اللُّبْسِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ وَإِنْ لَبِسَهُ هو وَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ عليه أَجْرُ الْمِثْلِ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ ولم يُبَيِّنْ من يَرْكَبُهَا أو لِلْعَمَلِ ولم يُسَمِّ من يَعْمَلُ عليها فَعَمِلَ عليها إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا وفي الْقِيَاسِ عليه أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مع فَسَادِ الْعَقْدِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ وهو الْجَهَالَةُ التي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ قد زَالَ وَبِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ في الْمَعْقُودِ عليه وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ في حَقِّ الْمَعْقُودِ عليه كَالْمُضَافِ وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذلك وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عِنْدَ ذلك أَيْضًا فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى وَجَعَلْنَا التَّعْيِينَ في الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ في الِابْتِدَاءِ وَلَا ضَمَانَ عليه إنْ ضَاعَ منه لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ سَوَاءٌ لَبِسَ بِنَفْسِهِ أو أَلْبَسَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ عَيَّنَ هُنَاكَ لُبْسَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِلْبَاسِ غَيْرِهِ
وإذا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَوَضَعَهُ في مَنْزِلِهِ حتى جاء اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَكَّنَهُ من اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إلَيْهِ وما زَادَ على ذلك ليس في وُسْعِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَلْبَسَهُ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْإِذْنِ في اللُّبْسِ كان بِحُكْمِ الْعَقْدِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أو ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ لِلرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَاعَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بعدما أَجَّرَهَا من غَيْرِ عُذْرٍ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ
وَذَكَرَ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ وَذَكَرَ في بَعْضِهَا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ لِأَنَّ في مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَيْ لَا يَنْفُذُ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ التَّوَقُّفَ وَقَوْلُهُ بَاطِلٌ أَيْ ليس له حُكْمٌ ظَاهِرٌ لِلْحَالِ وهو تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ في حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَوْقُوفٌ في حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ حتى إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ وَلَيْسَ له أَنْ يَمْتَنِعَ من الْأَخْذِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ من يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ من غَيْرِ إجَازَةِ الْبَيْعِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَإِنْ أَبَى فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَمَتَى فُسِخَ لَا يَعُودُ جَائِزًا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَهَلْ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ فَسْخَ هذا الْبَيْعِ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ حتى لو فَسَخَ لَا يَنْفَسِخُ حتى إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ كان لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ له أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ وإذا نَقَضَهُ لَا يَعُودُ جَائِزًا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ ليس لِلْمُسْتَأْجِرِ نَقْضُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةُ كَالْعَيْبِ فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي عَالِمًا بها وَقْتَ الشِّرَاءِ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بها وَقْتَ الشِّرَاءِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ وهو الْإِجَارَةُ وَإِنْ شَاءَ أَمَضَاهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْبَيْعُ نَافِذٌ من غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْبَيْعَ صَادَفَ
____________________

(4/207)


مَحِلَّهُ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ وَإِنَّمَا حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ في الْمَنْفَعَةِ وَمَحَلُّ الْبَيْعِ الْعَيْنُ وَلَا حَقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فيها
وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ قَادِرٍ على تَسْلِيمِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ صِيَانَتُهُ عن الْإِبْطَالِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ هَهُنَا بِالتَّوَقُّفِ في حَقِّهِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ في حَقِّ الْمُشْتَرِي وَبِالتَّوَقُّفِ في حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ وَمُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ
وَعَلَى هذا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بها لِإِنْسَانٍ إنَّ إقْرَارَهُ يَنْفُذُ في حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَنْفُذُ في حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فإذا مَضَتْ نَفَذَ الْإِقْرَارُ في حَقِّهِ أَيْضًا فيقضي بِالدَّارِ لِلْمُقَرِّ له وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَجَّرَ دَارِهِ من إنْسَانٍ ثُمَّ أَجَّرَ من غَيْرِهِ إنَّ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ تَكُونُ مَوْقُوفَةً على إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ وَإِنْ أَبْطَلَهَا بَطَلَتْ وَهَهُنَا ليس لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقَعُ على الْمَنْفَعَةِ إذْ هو تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِ وَتَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِنَّمَا يَقَعُ على الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فيها حَقٌّ فإذا زَالَ حَقُّهُ بِتَقْدِيمِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ حتى نَفَذَتْ كانت الْأُجْرَةُ له لَا لِصَاحِبِ الدَّارِ وفي الْبَيْعِ يَكُونُ الثَّمَنُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَرَدَتْ على الْمَنْفَعَةِ وإنها مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فإذا أَجَازَ كان بَدَلُهَا له فَأَمَّا الثَّمَنُ فإنه بَدَلُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَ بَدَلُهَا له وَبِالْإِجَارَةِ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ ما لم تَمْضِ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ فإذا مَضَتْ فَإِنْ كانت مُدَّتُهُمَا وَاحِدَةً تَنْقَضِي الْمُدَّتَانِ جميعا وَإِنْ كانت مُدَّةُ الثَّانِيَةِ أَقَلَّ فلأول ( ( ( فللأول ) ) ) أَنْ يَسْكُنَ حتى تَتِمَّ الْمُدَّةُ
وَكَذَلِكَ لو رَهَنَهَا الْمُؤَاجِرُ قبل انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ إن الْعَقْدَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ مَوْقُوفٌ في حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ حتى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ
وَعَلَى هذا بَيْعُ الْمَرْهُونِ من الرَّاهِنِ أَنَّهُ جَائِزٌ بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَوْقُوفٌ في حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حتى يَسْتَوْفِيَ مَالَهُ فإذا أفتكها الرَّاهِنُ يَجِبُ عليه تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَى الْمُشْتَرِي كما في الْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ حتى جاء وسلم الدَّارَ إلَى الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ قَائِمًا مَقَامَ الدَّارِ لِأَنَّ حَقَّ حَبْسِ الْعَيْنِ كان ثَابِتًا له ما دَامَتْ في يَدِهِ وَبَدَلُ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَيْنِ فَثَبَتَ له حَقُّ حَبْسِهِ
وَفَرَّقَ الْقُدُورِيُّ بين الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فقال في الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذلك لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ في الْمَنْفَعَةِ لَا في الْعَيْنِ فَكَانَ الْفَسْخُ منه تَصَرُّفًا في مَحَلِّ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَأَمَّا في حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بعين ( ( ( بغير ) ) ) الْمَرْهُونِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ فَكَانَ الْفَسْخُ منه تَصَرُّفًا في مَحَلِّ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ وَأُجَرَائِهِ إذَا لم يُشْتَرَطْ عليه في الْعَقْدِ أَنْ يَعْمَلَ بيده لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على الْعَمَلِ وَالْإِنْسَانُ قد يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وقد يَعْمَلُ بِغَيْرِهِ وَلِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ يَقَعُ له فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا شَرَطَ عليه عَمَلَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على عَمَلٍ من شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالتَّعْيِينُ مُفِيدٌ لِأَنَّ الْعُمَّالَ مُتَفَاوِتُونَ في الْعَمَلِ فَيَتَعَيَّنُ فَلَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهَا من شَخْصٍ آخَرَ من غَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا بِعَيْنِهِ لِلْحَمْلِ لَا يُجْبَرُ على أَخْذِ غَيْرِهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ على الْحَمْلِ ولم يُعَيِّنْ جَمَلًا كان لِلْمُكَارِي أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ أَيَّ جَمَلٍ شَاءَ كَذَا هَهُنَا وَتَطْيِينُ الدَّارِ وَإِصْلَاحُ مِيزَابِهَا وما وَهَى من بِنَائِهَا على رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ
لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ وَإِصْلَاحُ الْمِلْكِ على الْمَالِكِ لَكِنْ لَا يُجْبَرُ على ذلك
لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ على إصْلَاحِ مِلْكِهِ
وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ إنْ لم يَعْمَلْ الْمُؤَاجِرُ ذلك لِأَنَّهُ عَيْبٌ بِالْمَعْقُودِ عليه وَالْمَالِكُ لَا يُجْبَرُ على إزَالَةِ الْعَيْبِ عن مِلْكِهِ لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ حتى لو كان اسْتَأْجَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ وَرَآهَا فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّهُ رضي بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَإِصْلَاحُ دَلْوِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ على رَبِّ الدَّارِ وَلَا يُجْبَرُ على ذلك وَإِنْ كان امْتَلَأَ من فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِمَا قُلْنَا
وَقَالُوا في الْمُسْتَأْجِرِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وفي الدَّارِ تُرَابٌ من كَنْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَتُرَابٍ وَضَعَهُ فيها وَإِنْ امْتَلَأَ خَلَاهَا وَمَجْرَاهَا من فِعْلِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عليه نَقْلُهُ
لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَيَلْزَمُهُ نَقْلُهُ كَالْكُنَاسَةِ وَالرَّمَادِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَجَعَلُوا نَقْلَ ذلك على صَاحِبِ الدَّارِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ بين الناس أَنَّ ما كان مُغَيَّبًا في الْأَرْضِ فَنَقْلُهُ على صَاحِبِ الدَّارِ فَحَمَلُوا ذلك على الْعَادَةِ فَإِنْ أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ شيئا من ذلك
____________________

(4/208)


لم يُحْتَسَبْ له بِمَا أَنْفَقَ
لِأَنَّهُ أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ عليه فَكَانَ مُتَبَرِّعًا وَقَبْضُ الْمُسْتَأْجَرِ على الْمُؤَاجِرِ حتى لو اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا في حَوَائِجِهِ في الْمِصْرِ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَضَى الْوَقْتُ فَلَيْسَ عليه تَسْلِيمُهَا إلَى صَاحِبِهَا بِأَنْ يَمْضِيَ بها إلَيْهِ
وَعَلَى الذي أَجَّرَهَا أَنْ يَقْبِضَ من مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ انْتَفَعَ بِالْمُسْتَأْجَرِ لَكِنَّ هذه الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ له بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُؤْجِرِ فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً في يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فلم يَكُنْ عليه رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ حتى لو أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فَهَلَكَتْ في يَدِهِ لم يَضْمَنْ شيئا سَوَاءٌ طَلَبَ منه الْمُؤَاجِرُ أَمْ لم يَطْلُبْ لِأَنَّهُ لم يَلْزَمْهُ الرَّدُّ إلَى بَيْتِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في الْإِمْسَاكِ فَلَا يَضْمَنُ كَالْمُودَعِ إذَا امْتَنَعَ عن رَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى بَيْتِ الْمُودِعِ حتى هَلَكَتْ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ إن رَدَّهُ على الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ نَفْعَهُ له على الْخُلُوصِ فَكَانَ رَدُّهُ عليه لقول ( ( ( لقوله ) ) ) رسول اللَّهُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كانت نَفَقَتُهُ عليه فَكَذَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ
فَإِنْ كان اسْتَأْجَرَهَا من مَوْضِعٍ مُسَمًّى في الْمِصْرِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فإن على الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْتِيَ بها إلَى ذلك الْمَوْضِعِ الذي قَبَضَهَا فيه لَا لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عليه بَلْ لِأَجْلِ الْمَسَافَةِ التي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِرَدِّهِ إلَى ذلك الْمَوْضِعِ فَإِنْ حَمَلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَأَمْسَكَهَا حتى عَطِبَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِأَنَّهُ تَعَدَّى في حَمْلِهَا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ
فَإِنْ قال الْمُسْتَأْجِرُ ارْكَبْهَا من هذا الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَارْجِعْ إلَى مَنْزِلِي فَلَيْسَ على الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّهَا إلَى مَنْزِلِ الْمُؤَاجِرِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَبَقِيَتْ أَمَانَةً في يَدِهِ ولم يَتَبَرَّعْ الْمَالِكُ بِالِانْتِفَاعِ بها فَلَا يَلْزَمُ رَدُّهَا
كَالْوَدِيعَةِ وَلَيْسَ لِلظِّئْرِ أَنْ تَأْخُذَ صَبِيًّا آخَرَ فَتُرْضِعَهُ مع الْأَوَّلِ فَإِنْ أَخَذَتْ صَبِيًّا آخَرَ فَأَرْضَعَتْهُ مع الْأَوَّلِ فَقَدْ أَسَاءَتْ وَأَثِمَتْ إنْ كانت قد أَضَرَّتْ بِالصَّبِيِّ وَلَهَا الْأَجْرُ على الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ
أَمَّا الْإِثْمُ فَلِأَنَّهُ قد اُسْتُحِقَّ عليها كَمَالُ الرَّضَاعِ وَلَمَّا أَرْضَعَتْ صَبِيَّيْنِ فَقَدْ أَضَرَّتْ بِأَحَدِهِمَا لِنُقْصَانِ اللَّبَنِ
وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الْإِرْضَاعُ مُطْلَقًا وقد وُجِدَ وَلِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طئرا ( ( ( ظئرا ) ) ) آخَرَ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } نَفَى الْجُنَاحَ عن الْمُسْتَرْضِعِ مُطْلَقًا فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ الْأُخْرَى فَلَهَا الأجر ( ( ( الأجرة ) ) ) أَيْضًا فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الظِّئْرُ ظِئْرًا أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ أو دَفَعَتْ الصَّبِيَّ إلَى جَارِيَتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ فَلَهَا الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لها الْأَجْرُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على عَمَلِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِ غَيْرِهَا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَعَمِلَ لم يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ فَكَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إرْضَاعَهَا قد يَكُونُ بِنَفْسِهَا وقد يَكُونُ بغيرها ( ( ( بغيره ) ) ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَارَةً يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِغَيْرِهِ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمَّا عَمِلَتْ بِأَمْرِ الْأُولَى وَقَعَ عَمَلُهَا لِلْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهَا عَمِلَتْ بِنَفْسِهَا هذا إذَا أُطْلِقَ فَأَمَّا إذَا قُيِّدَ ذلك بِنَفْسِهَا ليس لها أَنْ تَسْتَرْضِعَ أُخْرَى لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْإِرْضَاعَ بِنَفْسِهَا
فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كما قُلْنَا في الْإِجَارَةِ على الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَحْبِسَ الظِّئْرَ في مَنْزِلِهِ إذَا لم يَشْتَرِطْ ذلك عليها وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الصبى إلَى مَنْزِلِهَا لِأَنَّ الْمَكَانَ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ على الظِّئْرِ طَعَامُ الصَّبِيِّ وَدَوَاؤُهُ لِأَنَّ ذلك لم يَدْخُلْ في الْعَقْدِ وما ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ أَنَّ على الظِّئْرِ ما يُعَالَجُ بِهِ الصِّبْيَانُ من الرَّيْحَانِ وَالدُّهْنِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ على الْعَادَةِ
وقد قالوا في تَوَابِعِ الْعُقُودِ التي لَا ذِكْرَ لها في الْعُقُودِ إنَّهَا تُحْمَلُ على عَادَةِ كل بَلَدٍ حتى قالوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَضْرِبُ له لَبِنًا أن الزِّنْبِيلَ وَالْمِلْبَنَ على صَاحِبِ اللَّبِنِ وَهَذَا على عَادَتِهِمْ
وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ على حَفْرِ قَبْرٍ إنَّ حَثْيَ التُّرَابِ عليه إنْ كان أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَتَشْرِيجُ اللَّبِنِ على اللَّبَّانِ وَإِخْرَاجُ الْخُبْزِ من التَّنُّورِ على الْخَبَّازِ لِأَنَّ ذلك من تَمَامِ الْعَمَلِ
وَقَالُوا في الْخَيَّاط أن السُّلُوكَ عليه لِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِذَلِكَ وَقَالُوا في الدَّقِيقِ الذي يُصْلِحُ بِهِ الْحَائِكُ الثَّوْبَ أنه على صَاحِبِ الثَّوْبِ فَإِنْ كان أَهْلُ بَلَدٍ تَعَامَلُوا بِخِلَافِ ذلك فَهُوَ على ما يَتَعَامَلُونَ
وَقَالُوا في الطَّبَّاخِ إذَا استؤجر ( ( ( استأجر ) ) ) في عُرْسٍ إنَّ إخْرَاجَ الْمَرَقِ عليه وَلَوْ طَبَخَ قِدْرًا خَاصَّةً فَفَرَغَ منها فَلَهُ الْأَجْرُ وَلَيْسَ عليه من إخْرَاجِ الْمَرَقِ شَيْءٌ وهو مَبْنِيٌّ على الْعَادَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ
وَقَالُوا فِيمَنْ تَكَارَى دَابَّةً يَحْمِلُ عليها حِنْطَةً إلَى مَنْزِلِهِ فلما انْتَهَى إلَيْهِ أَرَادَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُكَارِي ذلك فَيُدْخِلَهُ مَنْزِلَهُ وَأَبَى الْمُكَارِي قالوا قال أبو حَنِيفَةَ عليه ما يَفْعَلُهُ الناس وَيَتَعَامَلُونَ عليه
____________________

(4/209)


وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ بها إلَى السَّطْحِ وَالْغُرْفَةِ فَلَيْسَ عليه ذلك إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَهُ وَلَوْ كان حَمَّالًا على ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ إدْخَالُ ذلك وَلَيْسَ عليه أَنْ يَصْعَدَ بِهِ إلَى عُلُوِّ الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ وإذا تَكَارَى دَابَّةً فَالْإِكَافُ على صَاحِبِ الدَّابَّةِ فَأَمَّا الْحِبَالُ وَالْجُوَالِقُ فَعَلَى ما تَعَارَفَهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ وَكَذَلِكَ اللِّجَامُ وَأَمَّا السَّرْجُ فَعَلَى رَبِّ الدَّابَّةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذلك فَيَكُونُ على سُنَّتِهِمْ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ وَلَوْ الْتَقَطَ رَجُلٌ لَقِيطًا فَاسْتَأْجَرَ له ظِئْرًا فَالْأُجْرَةُ عليه وهو مُتَطَوِّعٌ في ذلك أَمَّا لُزُومُ الْأُجْرَةِ إيَّاهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذلك فَيَلْزَمُهُ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَطَوِّعًا فيه فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له على اللَّقِيطِ فَلَا يَمْلِكُ إيجَابَ الدَّيْنِ في ذِمَّتِهِ وَرَضَاعُهُ على بين ( ( ( بيت ) ) ) الْمَالِ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو الذي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فيه فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فيه
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يُغَيِّرُ تِلْكَ الصِّفَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ وَنَحْوِ ذلك حتى لو هَلَكَ في يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فيه فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَسَوَاءٌ كانت الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أو فَاسِدَةً لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فيه كَثَوْبِ الْقِصَارَةِ وَالصِّبَاغَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ في السَّفِينَةِ أو على الدَّابَّةِ أو على الْجِمَالِ وَنَحْوِ ذلك فَالْأَجِيرُ لَا يَخْلُو أما إنْ كان مُشْتَرَكًا أو خَاصًّا وهو الْمُسَمَّى أَجِيرُ الواحد ( ( ( الوحد ) ) ) فَإِنْ كان مُشْتَرَكًا فَهُوَ أَمَانَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هو مَضْمُونٌ عليه إلَّا حَرَقٌ غَالِبٌ أو غَرَقٌ غَالِبٌ أو لُصُوصٌ مُكَابِرِينَ وَلَوْ احْتَرَقَ بَيْتُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِسِرَاجٍ يَضْمَنُ الْأَجِيرُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ هذا ليس بِحَرِيقٍ غَالِبٍ وهو الذي يَقْدِرُ على اسْتِدْرَاكِهِ لو عَلِمَ بِهِ لِأَنَّهُ لو عَلِمَ بِهِ لَأَطْفَأَهُ فلم يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ وهو اسْتِحْسَانٌ ثُمَّ إنْ هَلَكَ قبل الْعَمَلِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ غير معمولا ( ( ( معمول ) ) ) وَلَا أَجْرَ له وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غير مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ له
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وقد عَجَزَ عن رَدِّ عَيْنِهِ بِالْهَلَاكِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ الناس وهو الْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ وهو أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَالُ إلَيْهِمْ من غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ منهم فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ لَهَلَكَتْ أَمْوَالُ الناس لِأَنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ عن دَعْوَى الْهَلَاكِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ إلَّا على الْمُتَعَدِّي لِقَوْلِهِ عز وجل { فَلَا عُدْوَانَ إلَّا على الظَّالِمِينَ } ولم يُوجَدْ التَّعَدِّي من الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ في الْقَبْضِ وَالْهَلَاكُ ليس من صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على الْمُودِعِ وَالْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّ الرَّدَّ في بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ على الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه الْإِعَارَةُ وَالْغَصْبُ وَفِعْلُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في بَعْضِ الْأُجَرَاءِ وهو الْمُتَّهَمُ بِالْخِيَانَةِ وَبِهِ نَقُولُ ثُمَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ على الْأَجِيرِ إذَا هَلَكَ في يَدِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تَدْخُلُ في الضَّمَانِ عِنْدَهُمَا بِالْقَبْضِ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فما لم يُوجَدْ الْقَبْضُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ حتى لو كان صَاحِبُ الْمَتَاعِ معه رَاكِبًا في السَّفِينَةِ أو رَاكِبًا على الدَّابَّةِ التي عليها الْحِمْلُ فَعَطِبَ الْحِمْلُ من غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْمَتَاعَ في يَدِ صَاحِبِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان صَاحِبُ الْمَتَاعِ وَالْمُكَارِي رَاكِبَيْنِ على الدَّابَّةِ أو سَائِقَيْنِ أو قَائِدَيْنِ لِأَنَّ الْمَتَاعَ في أَيْدِيهِمَا فلم يَنْفَرِدْ الْأَجِيرُ بِالْيَدِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْيَدِ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ سُرِقَ الْمَتَاعُ من رَأْسِ الْحَمَّالِ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ يَمْشِي معه لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْمَتَاعَ لم يَصِرْ في يَدِهِ حَيْثُ لم يُخْلِ صَاحِبُ الْمَتَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ
وَقَالُوا في الطَّعَامِ إذَا كان في سَفِينَتَيْنِ وَصَاحِبُهُ في إحْدَاهُمَا وَهُمَا مَقْرُونَتَانِ أو غَيْرُ مَقْرُونَتَيْنِ إلَّا أَنَّ سَيْرَهُمَا جميعا وَحَبْسَهُمَا جميعا فَلَا ضَمَانَ على الْمَلَّاحِ فِيمَا هَلَكَ من يَدِهِ لِأَنَّهُ هَلَكَ في يَدِ صَاحِبِهِ
وَكَذَلِكَ الْقِطَارُ إذَا كان عليه حُمُولَةٌ وَرَبُّ الْحُمُولَةِ على بَعِيرٍ فَلَا ضَمَانَ على الحمال ( ( ( الجمال ) ) )
لِأَنَّ الْمَتَاعَ في يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ هو الْحَافِظُ له
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ عليه زِقًّا من سَمْنٍ فَحَمَلَهُ صَاحِبُ الزِّقِّ وَالْحَمَّالُ جميعا لِيَضَعَاهُ على رَأْسِ الْحَمَّالِ فَانْخَرَقَ الزِّقُّ وَذَهَبَ ما فيه
قال أبو يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ الْحَمَّالُ لِأَنَّهُ لم يُسَلَّمْ إلَى
____________________

(4/210)


الْحَمَّالِ بَلْ هو في يَدِهِ قال وَإِنْ حَمَلَهُ إلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَنْزَلَهُ الْحَمَّالُ من رَأْسِهِ وَصَاحِبُ الزِّقِّ فَوَقَعَ في أَيْدِيهِمَا فَالْحَمَّالُ ضَامِنٌ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ
ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا ضَمَانَ عليه
لأبى يُوسُفَ إن الْمَحْمُولَ دَاخِلٌ في ضَمَانِ الْحِمَالَةِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عليه فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهِ فإذا أخطآ ( ( ( أخطئوا ) ) ) جميعا فَيَدُ الْحَمَّالِ لم تَزُلْ فَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْءَ قد وَصَلَ إلَى صَاحِبِهِ بِإِنْزَالِهِ فَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا كما لو حَمَلَاهُ ابْتِدَاءً إلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَهَلَكَ
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مُصْحَفًا يَعْمَلُ فيه وَدَفَعَ الْغِلَافَ معه أو دَفَعَ سَيْفًا إلَى صَيْقَلٍ يَصْقُلُهُ بِأَجْرٍ وَدَفَعَ الْجَفْنَ معه فَضَاعَا
قال مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ الْمُصْحَفَ وَالْغِلَافَ وَالسَّيْفَ وَالْجَفْنَ
لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَا يَسْتَغْنِي عن الْغِلَافِ وَالسَّيْفَ لَا يَسْتَغْنِي عن الْجَفْنِ فصارا ( ( ( فصار ) ) ) كَشَيْءٍ وَاحِدٍ قال فَإِنْ أَعْطَاهُ مُصْحَفًا يَعْمَلُ له غِلَافًا أو سِكِّينًا يَعْمَلُ له نِصَالًا فَضَاعَ الْمُصْحَفُ أو ضَاعَ السِّكِّينُ لم يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لم يَسْتَأْجِرْهُ على أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا بَلْ في غَيْرِهِمَا
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ وَصَاحِبُ الثَّوْبِ فقال الْأَجِيرُ رَدَدْت وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عِنْدَهُ في الْقَبْضِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مع الْيَمِينِ وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ في دَعْوَى الْأَجْرِ وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الثَّوْبَ قد دخل في ضَمَانِهِ عِنْدَهُمَا فَلَا يُصَدَّقُ على الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كان الْأَجِيرُ خَاصًّا فما في يَدِهِ يَكُونُ أَمَانَةً في قَوْلِهِمْ جميعا حتى لو هَلَكَ في يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ في الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ الناس وَلَا حَاجَةَ إلَى ذلك في الْأَجِيرِ الخاص ( ( ( الخالص ) ) ) لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ وَلَا يَتَسَلَّمُ الْمَالَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخِيَانَةُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ ما يُغَيِّرُهُ من صِفَةِ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ فَالْمُغَيِّرُ له أَشْيَاءُ منها تَرْكُ الْحِفْظِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فيه فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَالْمُودَعِ إذَا تَرَكَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ حتى ضَاعَتْ على ما نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ وَالْإِفْسَادُ إذَا كان الْأَجِيرُ مُتَعَدِّيًا فيه بِأَنْ تَعَمَّدَ ذلك أو عَنُفَ في الدَّقِّ سَوَاءٌ كان مُشْتَرَكًا أو خَاصًّا وَإِنْ لم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ خَطَأً بِعَمَلِهِ من غَيْرِ قَصْدِهِ فَإِنْ كان الْأَجِيرُ خَاصًّا لم يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان مُشْتَرَكًا كَالْقَصَّارِ إذَا دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ أو أَلْقَاهُ في النُّورَةِ فَاحْتَرَقَ أو الْمَلَّاحِ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ من عَمَلِهِ وَنَحْوِ ذلك فإنه يَضْمَنُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَضْمَنُ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن الْفَسَادَ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فيه فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ وَالْمُعَيَّنِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فيه أَنَّهُ حَصَلَ بِالدَّقِّ وَالدَّقُّ مَأْذُونٌ فيه وَلَئِنْ لم يَكُنْ مَأْذُونًا فيه لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عن هذا النَّوْعِ من الْفَسَادِ لِأَنَّهُ ليس في وُسْعِهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ فَأَشْبَهَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ وَلَئِنْ كان ذلك في وُسْعِهِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ إلَّا بِحَرَجٍ والحرم ( ( ( والحرج ) ) ) مَنْفِيٌّ فَكَانَ مُلْحَقًا بِمَا ليس في الْوُسْعِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَأْذُونَ فيه الدَّقُّ الْمُصْلِحُ لَا الْمُفْسِدُ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِإِفْسَادِ مَالِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ ذلك فَيَتَقَيَّدُ الْأَمْرُ بِالْمُصْلِحِ دَلَالَةً وَقَوْلُهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عن الْفَسَادِ مَمْنُوعٌ بَلْ في وُسْعِهِ ذلك بِالِاجْتِهَادِ في ذلك وهو بَذْلُ الْمَجْهُودِ في النَّظَرِ في آلَةِ الدَّقِّ وَمَحَلِّهِ وَإِرْسَالِ الْمِدَقَّةِ على الْمَحَلِّ على قَدْرِ ما يَحْتَمِلُهُ مع الْحَذَاقَةِ في الْعَمَلِ وَالْمَهَارَةِ في الصَّنْعَةِ وَعِنْدَ مُرَاعَاةِ هذه الشَّرَائِطِ لَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ فلما حَصَلَ دَلَّ أَنَّهُ قَصَّرَ كما نَقُولُ في الِاجْتِهَادِ في أُمُورِ الدِّينِ إلَّا أَنَّ الْخَطَأَ في حُقُوقِ الْعِبَادِ ليس بِعُذْرٍ حتى يُؤَاخَذَ الخاطىء وَالنَّاسِي بِالضَّمَانِ
وَقَوْلُهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عن الْفَسَادِ إلَّا بِحَرَجٍ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْحَرَجَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ في حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل بِالْإِسْقَاطِ لَا في حُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ لِأَنَّ السَّلَامَةَ وَالسِّرَايَةَ هُنَاكَ مَبْنِيَّةٌ على قُوَّةِ الطَّبِيعَةِ وَضَعْفِهَا وَلَا يُوقَفُ على ذلك بِالِاجْتِهَادِ فلم يَكُنْ في وُسْعِهِ الِاحْتِرَازُ عن السِّرَايَةِ فَلَا يَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ
وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ فَهُنَاكَ وَإِنْ وَقَعَ عَمَلُهُ إفْسَادًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَيْهِ في الْمُدَّةِ فَكَأَنَّهُ لم يَعْمَلْ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْحَمَّالُ إذَا زَلِقَتْ رَجُلُهُ في الطَّرِيقِ أو عَثَرَ فَسَقَطَ وَفَسَدَ حِمْلُهُ وَلَوْ زَحَمَهُ الناس حتى فَسَدَ لم يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ نَفْسِهِ عن ذلك فَكَانَ بِمَعْنَى الْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ وَلَوْ كان الْحَمَّالُ هو الذي زَاحَمَ الناس
____________________

(4/211)


حتى انْكَسَرَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَكَذَلِكَ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ إذَا سَاقَ الدَّوَابَّ على السُّرْعَةِ فَازْدَحَمْنَ على الْقَنْطَرَةِ أو على الشَّطِّ فَدَفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَسَقَطَ في الْمَاءِ فَعَطِبَ فَعَلَى هذا الْخِلَاف وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّةٌ بِسَوْقِهِ أو ضَرْبِهِ إيَّاهَا فَإِنْ سَاقَ سَوْقًا مُعْتَادًا أو ضَرَبَ ضَرْبًا مُعْتَادًا فَعَطِبَتْ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ سَاقَ أو ضَرَبَ سَوْقًا وَضَرْبًا بِخِلَافِ الْعَادَةِ يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ ذلك إتْلَافٌ على طَرِيقِ التَّعَدِّي ثُمَّ إذَا تَخَرَّقَ الثَّوْبُ من عَمَلِ الْأَجِيرِ حتى ضَمِنَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ ما أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بَلْ الْمَضَرَّةَ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ دُونَ الْمُفْسِدِ وفي الْحَمَّالِ إذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ في الْمَوْضِعِ الذي سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ في الْمَوْضِعِ الذي فَسَدَ أو هَلَكَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ إلَى ذلك الْمَوْضِعِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ له بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا في الْمَوْضِعِ الذي فَسَدَ أو هَلَكَ أَمَّا التَّخْيِيرُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وُجِدَ جِهَتَا الضَّمَانِ الْقَبْضُ وَالْإِتْلَافُ فَكَانَ له أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقَبْضِ يوم الْقَبْضِ وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْإِتْلَافِ يوم الْإِتْلَافِ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَفِيهِ إشْكَالٌ
لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّمَانُ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ سَبَبٌ وَاحِدٌ وهو الْإِتْلَافُ فَيَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِتْلَافِ وَلَا خِيَارَ فِيمَا يُرْوَى عنه
وَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وُجِدَ هَهُنَا سَبَبَانِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ أَحَدُهُمَا الْإِتْلَافُ
وَالثَّانِي الْعَقْدُ لِأَنَّ الْأَجِيرَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ الْتَزَمَ الْوَفَاءَ بِالْمَعْقُودِ عليه وَذَلِكَ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ وقد خَالَفَ وَالْخِلَافُ من أَسْبَابِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَثَبَتَ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ شَاءَ بِالْإِتْلَافِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا لم يُوجَدْ منه إيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ في الْقَدْرِ التَّالِفِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ عليه الصَّفْقَةُ في الْمَنَافِعِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رضي بِتَفْرِيقِهَا وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِالتَّخْيِيرِ وَلَوْ كان الْمُسْتَأْجَرُ على حَمْلِهِ عَبِيدًا صِغَارًا أو كِبَارًا فَلَا ضَمَانَ على الْمُكَارِي فِيمَا عَطِبَ من سَوْقِهِ وَلَا قَوْدِهِ وَلَا يَضْمَنُ بَنُو آدَمَ من وَجْهِ الْإِجَارَةِ وَلَا يُشْبِهُ هذا الْمَتَاعَ لِأَنَّ ضَمَانَ بَنِي آدَمَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ دَلَّتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ ما يَضْمَنُهُ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ يَضْمَنُهُ بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِفْسَادِ وَالْإِتْلَافِ لِأَنَّ ذلك يَسْتَوِي فيه الْمَتَاعُ وَالْآدَمِيُّ وإن وُجُوبَ الضَّمَانِ فيه بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِتْلَافِ
وَذَكَرَ بِشْرٌ في نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ في الْقَصَّارِ إذَا اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِيَدُقَّ معه فَتَخَرَّقَ وَلَا يدري من أَيِّ الدَّقِّ تَخَرَّقَ وقد كان صَحِيحًا قبل أَنْ يَدُقَّاهُ قال على الْقَصَّارِ نِصْفُ الْقِيمَةِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أن الضَّمَانَ كُلَّهُ على الْقَصَّارِ حتى يُعْلَمَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ من دَقَّ صَاحِبِهِ أو من دَقِّهِمَا فَمُحَمَّدٌ مَرَّ على أَصْلِهِمَا أَنَّ الثَّوْبَ دخل في ضَمَانِ الْقَصَّارِ بِالْقَبْضِ بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ عن ضَمَانِهِ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وهو أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّخَرُّقَ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ
ولأبى يُوسُفَ أَنَّ الْفَسَادَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ من فِعْلِ الْقَصَّارِ وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ من فِعْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ على الْقَصَّارِ في حَالٍ وَلَا يَجِبُ في حَالٍ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فيه فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَقَالُوا في تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا وطىء ثَوْبًا من القصار ( ( ( القصارة ) ) ) فَخَرَقَهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ وَطْءَ الثَّوْبِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه وَلَوْ وَقَعَ من يَدِهِ سِرَاجٌ فَأَحْرَقَ ثَوْبًا من الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ على الْأُسْتَاذِ وَلَا ضَمَانَ على التِّلْمِيذِ لِأَنَّ الذَّهَابَ وَالْمَجِيءَ بِالسِّرَاجِ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فيه فَيَنْتَقِلُ عَمَلُهُ إلَى الْأُسْتَاذِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عليه
وَلَوْ دَقَّ الْغُلَامُ فَانْقَلَبَ الكودين من غَيْرِ يَدِهِ فَخَرَقَ ثَوْبًا من الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ على الْأُسْتَاذِ لِأَنَّ هذا من عَمَلِ الْقِصَارَةِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْأُسْتَاذِ فَإِنْ كان ثَوْبًا وَدِيعَةً عِنْدَ الْأُسْتَاذِ فَالضَّمَانُ على الْغُلَامِ لِأَنَّ عَمَلَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْأُسْتَاذِ فِيمَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَهُ عليه وَاسْتِعْمَالَهُ فيه وهو إنَّمَا يَمْلِكُ ذلك في ثِيَابِ الْقِصَارَةِ لَا في ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ فَبَقِيَ مُضَافًا إلَيْهِ فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَذَلِكَ لو وَقَعَ من يَدِهِ سِرَاجٌ على ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ فَأَحْرَقَهُ فَالضَّمَانُ على الْغُلَامِ لِمَا قُلْنَا
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ لو أَنَّ رَجُلًا دعى ( ( ( دعا ) ) ) قَوْمًا إلَى مَنْزِلِهِ فَمَشَوْا على بِسَاطِهِ فَتَخَرَّقَ لم يَضْمَنُوا وَكَذَلِكَ لو جَلَسُوا على وِسَادَةٍ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ في الْمَشْيِ على الْبِسَاطِ وَالْجُلُوسِ على الْوِسَادَةِ فَالْمُتَوَلَّدُ منه لَا يَكُونُ مَضْمُونًا وَلَوْ وَطِئُوا آنِيَةً من الْأَوَانِي ضَمِنُوا لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُؤْذَنُ في وَطْئِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وطؤا ( ( ( وطئوا ) ) ) ثَوْبًا لَا يُبْسَطُ مِثْلُهُ وَلَوْ قَلَبُوا إنَاءً بِأَيْدِيهِمْ فَانْكَسَرَ لم يَضْمَنُوا لِأَنَّ ذلك عَمَلٌ مَأْذُونٌ فيه وَلَوْ كان رَجُلٌ منهم مُقَلَّدًا سَيْفًا فَخَرَقَ السَّيْفُ الْوِسَادَةَ لم يَضْمَنْ
لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ في الْجُلُوسِ على هذه الصِّفَةِ وَلَوْ جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا على حَبْلٍ في الطَّرِيقِ فَمَرَّتْ عليه حَمُولَةٌ فَخَرَقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ
____________________

(4/212)


على الْقَصَّارِ وَالضَّمَانُ على سَائِقِ الْحَمُولَةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ من السَّائِقِ لِأَنَّ الْمَشْيَ في الطَّرِيقِ مُقَيَّدٌ بِالسَّلَامَةِ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَلَوْ تَكَارَى رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ أو كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَعَطَبَهَا ذلك فإنه ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ له صَاحِبُ الدَّابَّةِ في ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ نَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا نُضَمِّنَهُ إذَا لم يَتَعَدَّ في الضَّرْبِ الْمُعْتَادَ وَالْكَبْحِ الْمُعْتَادَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن ضَرْبَ الدَّابَّةِ وَكَبْحَهَا مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ وَالْمُعْتَادُ كَالْمَشْرُوطِ وَلَوْ شُرِطَ ذلك لَا يَضْمَنُ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الضَّرْبِ وَالْكَبْحِ غير مَأْذُونٌ فيه لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجِبُ الْإِذْنَ بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِدُونِهِ فَصَارَ كما لو كان ذلك من أَجْنَبِيٍّ على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَأْذُونٌ فيه لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مع كَوْنِهِ مُخَيَّرًا فيه فَأَشْبَهَ ضَرْبَهُ لِزَوْجَتِهِ وَدَعْوَى الْعُرْفِ في غَيْرِ الدَّابَّةِ الْمَمْلُوكَةِ مَمْنُوعَةٌ على أَنَّ كَوْنَهُ مَأْذُونًا فيه لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ إذَا كان بِشَرْطِ السَّلَامَةِ على ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْخِلَافُ وهو سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إذَا وَقَعَ غَصْبًا لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْخِلَافَ قد يَكُونُ في الْجِنْسِ وقد يَكُونُ في الْقَدْرِ وقد يَكُونُ في الصِّفَةِ وقد يَكُونُ في الْمَكَانِ وقد يَكُونُ في الزَّمَانِ وَالْخِلَافُ من هذه الْوُجُوهِ قد يَكُونُ في اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ وقد يَكُونُ في اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ كَالْحَائِكِ وَالصَّبَّاغِ وَالْخَيَّاطِ خَلَا الْمَكَانِ
أَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ فَالْمُعْتَبَرُ في الْخِلَافِ فيه في الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ في اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فَإِنْ كان الْخِلَافُ فيه في الْجِنْسِ يُنْظَرُ إنْ كان ضَرَرُ الدَّابَّةِ فيه بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فيه من جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ فَإِنْ كان الضَّرَرُ في الثَّانِي أَكْثَرَ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا لِكُلِّهَا وَإِنْ كان الضَّرَرُ في الثَّانِي مِثْلَ الضَّرَرِ في الْأَوَّلِ أو أَقَلَّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالشَّيْءِ إذْنٌ بِمَا هو مِثْلُهُ أو دُونَهُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالِانْتِفَاعِ بِهِ من هذه الْجِهَةِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان ضَرَرُ الدَّابَّةِ فيه لَا من حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ بَلْ من وَجْهٍ آخَرَ لَا يُعْتَبَرُ فيه الْخِلَافُ من حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ من ذلك الْوَجْهِ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ من ذلك الْوَجْهِ وَإِنْ كان الْخِلَافُ في الْقَدْرِ وَالضَّرَرُ فيه من حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ في ذلك الْقَدْرِ وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِهِ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَإِنْ كان الضَّرَرُ فيه من جِهَةٍ أُخْرَى تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْجِهَةُ في الضَّمَانِ لَا الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ وَإِنْ كان الْخِلَافُ في الصِّفَةِ وَضَرَرُ الدَّابَّةِ يَنْشَأُ منها يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فيها ويبني الضَّمَانُ عليها
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ فَحَمَلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ من الشَّعِيرِ وَلَيْسَ من جِنْسِهِ فلم يَكُنْ مَأْذُونًا فيه أَصْلًا فَصَارَ غَاصِبًا كُلَّ الدَّابَّةِ مُتَعَدِّيًا عليها فَيَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا وَلَا أَجْرَ عليه لِأَنَّ الْأَجْرَ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِصَيْرُورَتِهِ غَاصِبًا وَلَا أُجْرَةَ على الْغَاصِبِ على أَصْلِنَا وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ عليه وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عليها حِنْطَةً فَحَمَلَ عليها مَكِيلًا آخَرَ ثِقَلُهُ كَثِقَلِ الْحِنْطَةِ وَضَرَرُهُ كَضَرَرِهَا فَعَطِبَتْ لَا يَضْمَنُ
وَكَذَلِكَ من اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فيها نَوْعًا سَمَّاهُ فَزَرَعَ غَيْرَهُ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ في الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عليها قَفِيزًا من حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عليها قَفِيزًا من شَعِيرٍ وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فيها نَوْعًا آخَرَ ضَرَرُهُ أَقَلُّ من ضَرَرِ الْمُسَمَّى وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ وهو قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ وهو قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْخِلَافَ قد تَحَقَّقَ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ
وَلَنَا أَنَّ الْخِلَافَ إلَى مِثْلِهِ أو إلَى ما هو دُونَهُ في الضَّرَرِ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى لِأَنَّ الثَّانِيَ إذَا كان مثله في الضَّرَرِ كان الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي وإذا كان دُونَهُ في الضَّرَرِ فإذا رضي بِالْأَوَّلِ كان بِالثَّانِي أَرْضَى فَصَارَ كما لو اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عليها حِنْطَةَ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عليها حِنْطَةَ غَيْرِهِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ في الْكَيْلِ أو لِيَحْمِلَ عليها عَشَرَةً فَحَمَلَ عليها تِسْعَةً أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا كَذَا هذا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَحَمَلَ عليها أَحَدَ عشرة ( ( ( عشر ) ) ) فَإِنْ سَلِمَتْ فَعَلَيْهِ ما سَمَّى من الْأُجْرَةِ وَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ عَطِبَتْ ضَمِنَ جزأ من أَحَدَ عَشَرَ جزأ من قِيمَةِ الدَّابَّةِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال زُفَرُ وابن أبي لَيْلَى يَضْمَنُ قِيمَةَ كل الدَّابَّةِ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عِلَّةَ التَّلَفِ
وَلَنَا أَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ حَصَلَ بِالثِّقَلِ وَالثِّقَلُ بَعْضُهُ مَأْذُونٌ فيه وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه فَيُقَسَّمُ التَّلَفُ أَحَدَ عَشَرَ
____________________

(4/213)


جزأ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ ذلك
وَنَظِيرُ هذا ما قاله ( ( ( قال ) ) ) أَصْحَابُنَا في حَائِطٍ بين شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فاشهد على أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ على رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى الذي أُشْهِدَ عليه قَدْرُ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ مَاتَ من ثِقَلِ الْحَائِطِ وَثِقَلُ الْحَائِطِ أَثْلَاثٌ كَذَا هذا وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عليه وهو حَمْلُ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ وَإِنَّمَا خَالَفَ في الزِّيَادَةِ وإنها اُسْتُوْفِيَتْ من غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا أَجْرَ لها
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً لِيَطْرَحَ فيها عَشَرَةَ أَكْرَارٍ فَطَرَحَ فيها أَحَدَ عَشَرَ فَغَرِقَتْ السَّفِينَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ زُفَرَ وَابْنِ أبي لَيْلَى يَضْمَنُ قِيمَةَ كل السَّفِينَةِ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ فَهِيَ عِلَّةُ التَّلَفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يَزِدْ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ وَالْجَوَابُ أَنَّ هذا مَمْنُوعٌ بَلْ التَّلَفُ حَصَلَ بِالْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُرَّ الزَّائِدَ لو انْفَرَدَ لَمَا حَصَلَ بِهِ التَّلَفُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالْكُلِّ وَالْبَعْضُ مَأْذُونٌ فيه وَالْبَعْضُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه فما هَلَكَ بِمَا هو مَأْذُونٌ فيه لَا ضَمَانَ عليه فيه وما هَلَكَ بِمَا هو غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه فَفِيهِ الضَّمَانُ وَصَارَ كمسئلة ( ( ( كمسألة ) ) ) الْحَائِطِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عليها مِائَةَ رِطْلٍ من قُطْنٍ فَحَمَلَ عليها مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا أو أَقَلَّ من وَزْنِهِ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَا يَضْمَنُ قميتها ( ( ( قيمتها ) ) ) لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ هَهُنَا ليس لِلثِّقَلِ بَلْ لِلِانْبِسَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْبَسِطُ على ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ وَأَعْقَرَ لها فلم يَكُنْ مَأْذُونًا فيه فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ وَلَا أُجْرَةَ عليه لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا استأجر ( ( ( استأجرها ) ) ) لِيُحَمِّلَهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عليها حَطَبًا أو خَشَبًا أو آجُرًّا أو حَدِيدًا أو حِجَارَةً أو نحو ذلك مِمَّا يَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ أو أَعْقَرَ له حتى عَطِبَتْ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ وَلَا أَجْرَ عليه لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَحَمَلَ عليها أو اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عليها فَرَكِبَهَا حتى عَطِبَتْ ضَمِنَ لِأَنَّ الْجِنْسَ قد اخْتَلَفَ وقد يَكُونُ الضَّرَرُ في أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْكَبَهَا من هو مِثْلُهُ في الثِّقَلِ أو أَخَفُّ منه ضَمِنَ لِأَنَّ الْخِلَافَ هَهُنَا ليس من جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ بَلْ من حَيْثُ الخرق ( ( ( الحزق ) ) ) وَالْعِلْمُ فإن خَفِيفَ الْبَدَنِ إذَا لم يُحْسِنْ الرُّكُوبَ يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ وَالثَّقِيلَ الذي يُحْسِنُ الرُّكُوبَ لَا يَضُرُّ بها فإذا عَطِبَتْ عُلِمَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ من خرقه ( ( ( حزقه ) ) ) بِالرُّكُوبِ فَضَمِنَ وَلَا أَجْرَ عليه لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَ معه غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَتِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ الثِّقَلُ هَهُنَا لِأَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ ليس من ثِقَلِ الرَّاكِبِ بَلْ من قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِالرُّكُوبِ فَصَارَ تَلَفُهَا بِرُكُوبِهَا بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهَا بِجِرَاحَتِهَا وَرُكُوبُ أَحَدِهِمَا مَأْذُونٌ فيه وَرُكُوبُ الْآخَرِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَصَارَ كَحَائِطٍ بين شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا أُشْهِدَ على أَحَدِهِمَا فَوَقَعَتْ منه آجُرَّةٌ فَقَتَلَتْ رَجُلًا فَعَلَى الذي أُشْهِدَ عليه نِصْفُ دِيَتِهِ وَإِنْ كان نَصِيبُهُ من الْحَائِطِ أَقَلَّ من النِّصْفِ لِأَنَّ التَّلَفَ ما حَصَلَ بِالثِّقَلِ بَلْ بِالْجُرْحِ وَالْجِرَاحَةُ الْيَسِيرَةُ كَالْكَثِيرَةِ في حُكْمِ الضَّمَانِ كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ فَمَاتَ من ذلك كان الضَّمَانُ عليها ( ( ( عليهما ) ) ) نِصْفَيْنِ كَذَا هَهُنَا وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عليه وَزِيَادَةً على ذلك وهو إرْكَابُ الْغَيْرِ غير أَنَّ الزِّيَادَةَ اُسْتُوْفِيَتْ من غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَجِبُ بها الْأَجْرُ
هذا إذَا كانت الدَّابَّةُ تَطِيقُ اثْنَيْنِ فَإِنْ كانت لَا تَطِيقُهُمَا فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِإِرْكَابِ غَيْرِهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِإِكَافٍ فَنَزَعَهُ منه وَأَسْرَجَهُ فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ ضَرَرَ السَّرْجِ أَقَلُّ من ضَرَرِ الْإِكَافِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ من ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَقَلَّ مِمَّا يَأْخُذُ الْإِكَافُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ منه السَّرْجَ وَأَوْكَفَهُ فَعَطِبَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ ما زَادَ الْإِكَافُ على السَّرْجِ ولم يذكر الاخلاف ( ( ( الاختلاف ) ) ) وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ بِحِسَابِ الزِّيَادَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِكَافَ وَالسَّرْجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرْكَبُ بِهِ عَادَةً وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ لِأَنَّ الْإِكَافَ أَثْقَلُ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الثِّقَلِ كما لو اسْتَأْجَرَهُ بِسَرْجٍ فَنَزَعَهُ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ آخَرَ أَثْقَلُ من الْأَوَّلِ فَعَطِبَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكَافَ لَا يُخَالِفُ السَّرْجَ في الثِّقَلِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّهُ يَأْخُذُ من ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ السَّرْجُ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ التي لم تَأْلَفْ الْإِكَافَ يَضُرُّ بها الْإِكَافُ وَالْخِلَافُ إذَا لم يَكُنْ لِلثِّقَلِ يَجِبُ بِهِ جَمِيعُ الضَّمَانِ كما إذَا حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ الْحَدِيدَ وَنَحْوَ ذلك بِخِلَافِ ما إذَا بَدَّلَ السَّرْجَ بِسَرْجٍ أَثْقَلَ منه وَالْإِكَافُ بِإِكَافٍ أَثْقَلَ منه لأنه التَّفَاوُتَ هُنَاكَ من نَاحِيَةِ الثِّقَلِ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كما في الزِّيَادَةِ على الْمُقَدَّرَاتِ من جِنْسِهَا على ما مَرَّ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا عَارِيًّا فَأَسْرَجَهُ ثُمَّ رَكِبَ
____________________

(4/214)


فَعَطِبَ كان ضَامِنًا لِأَنَّ السَّرْجَ أَثْقَلُ على الدَّابَّةِ وَقِيلَ هذا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ في الْمِصْرِ وهو من غَرْضِ الناس مِمَّنْ يَرْكَبُ في الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَرْجٍ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ أو هو من ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يُرْكَبُ من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ بِغَيْرِ سَرْجٍ وَلَا إكَافٍ وَكَذَا ذُو الْهَيْئَةِ فَكَانَ الْإِسْرَاجُ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَأَسْرَجَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كان سَرْجًا يُسْرَجُ بمثله الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ كان لَا يُسْرَجُ بمثله الْحُمُرُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ الثَّانِيَ إذَا كان مِمَّا يُسْرَجُ بِهِ الْحُمُرُ لَا يَتَفَاوَتَانِ في الضَّرَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا بِالْآخَرِ دَلَالَةً وإذا كان مما لَا يُسْرَجُ بمثله الْحُمُرُ بِأَنْ كان سَرْجًا كَبِيرًا كَسُرُوجِ الْبَرَاذِينِ كان ضَرَرُهُ أَكْثَرَ فَكَانَ إتْلَافًا لِلدَّابَّةِ فَيَضْمَنُ
وَكَذَلِكَ إنْ لم يَكُنْ عليه لِجَامٌ فَأَلْجَمَهُ فَلَا ضَمَانَ عليه إذَا كان مِثْلُهُ يُلْجَمُ بِمِثْلِ ذلك اللِّجَامِ وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَهُ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يَتْلَفُ بِأَصْلِ اللِّجَامِ فإذا كان الْحِمَارُ قد يُلْجَمُ بمثله أو أَبْدَلَهُ بمثله لم يُوجَدْ منه الْإِتْلَافُ وَلَا الْخِلَافُ فَلَا يَضْمَنُ
وَأَمَّا الْخِلَافُ في الْمَكَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ أو لِلْحَمْلِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ ذلك الْمَكَانَ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ كما جَاوَزَ الْمَكَانَ الْمَعْلُومَ دخل الْمُسْتَأْجَرُ في ضَمَانِهِ حتى لو عَطِبَ قبل الْعَوْدِ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فيه يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ وَلَوْ عَادَ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فيه هل يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ كان أبو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يقول يَبْرَأُ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَعِيسَى بن أَبَانَ من أَصْحَابِنَا ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَبْرَأُ حتى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا سَلِيمَةً وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّيْءَ أَمَانَةٌ في يَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ في يَدِهِ قبل الْخِلَافِ لَا ضَمَانَ عليه فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ فَالْهَلَاكُ في يَدِهِ كَالْهَلَاكِ في يَدِ الْمَالِكِ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ وَلِهَذَا لو هَلَكَ في يَدِهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَضَمِنَهُ الْمُسْتَحِقُّ يَرْجِعُ على الْمُؤَاجِرِ كَالْمُودِعِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فإنه لَا يَرْجِعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أن يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ الشَّيْءَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ لَا يَدَ الْمُؤَاجِرِ وَكَذَا يَدُ الْمُسْتَعِيرِ لِمَا قُلْنَا وإذا كانت يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ فإذا ضَمِنَ بِالتَّعَدِّي لَا يَبْرَأُ من ضَمَانِهِ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ الْإِعَادَةُ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فيه رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَلَا يَبْرَأُ من الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ لَا يَدُ نَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بالوديعة فَكَانَ الْعَوْدُ إلَى الْوِفَاقِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَكَانَ رَدًّا إلَى الْمَالِكِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ على الْمُؤَاجِرِ بِالضَّمَانِ فَلَيْسَ ذلك لِكَوْنِ يَدِهِ يَدَ المؤجر ( ( ( المؤاجر ) ) ) بَلْ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ من يَدِهِ إنه يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِسَبَبِ الْغَرُورِ كَذَا هذا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان عَيَّنَهُ فَرَكِبَهَا إلَى مَكَان آخَرَ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ وَإِنْ كان الثَّانِي أَقْرَبَ من الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ إلَى الْأَمَاكِنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلَا أُجْرَةَ عليه لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ رَكِبَهَا إلَى ذلك الْمَكَانِ الذي عَيَّنَهُ لَكِنْ من طَرِيقٍ آخَرَ يُنْظَرُ إنْ كان الناس يَسْلُكُونَ ذلك الطَّرِيقَ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لم يَصِرْ مُخَالِفًا وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْلُكُونَهُ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ لِصَيْرُورَتِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا بِسُلُوكِهِ وَإِنْ لم تَهْلَكْ وَبَلَغَ الْمَوْضِعَ الْمَعْلُومَ ثُمَّ رَجَعَ وسلم الدَّابَّةَ إلَى صَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا أو لِيَحْمِلَ عليها إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَذَهَبَ بها ولم يَرْكَبْهَا ولم يَحْمِلْ عليها شيئا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْمَنَافِعَ إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهَا إلَى الْمَكَانِ الْمَعْلُومِ فَصَارَ كما لو اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ فلم يَسْكُنْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْأُجْرَةُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ أَمْسَكَ الدَّابَّةَ في الْمَوْضِعِ الذي اسْتَأْجَرَهَا ولم يَذْهَبْ بها إلَى الْمَوْضِعِ الذي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا على قَدْرِ ما يُمْسِكُ الناس إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ فَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ حَبْسَ الدَّابَّةِ ذلك الْقَدْرِ مُسْتَثْنًى عَادَةً فَكَانَ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً وَإِنْ حَبَسَ مِقْدَارَ ما لَا يَحْبِسُ الناس مثله يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةً فَعَطِبَ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ خَالَفَ في الْمَكَانِ بِالْإِمْسَاكِ الْخَارِجِ عن الْعَادَةِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ وَلَا أُجْرَةَ عليه لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ لم تَهْلَكْ فَأَمْسَكَهَا في بَيْتِهِ فَلَا أَجْرَ عليه لِمَا مَرَّ أَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ في جَمِيعِ الطَّرِيقِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَأْجَرَهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَرْكَبَهَا فَحَبَسَهَا ولم يَرْكَبْهَا حتى رَدَّهَا يوم الْعَاشِرِ إن عليه الْأُجْرَةَ وَيَسَعُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْكِرَاءَ وَإِنْ كان يَعْلَمُ أَنَّهُ لم يَرْكَبْهَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ في الْإِجَارَاتِ على الْوَقْتِ بِالتَّسْلِيمِ في الْوَقْتِ وقد وُجِدَ فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ كما في إجَارَةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ على الْمَسَافَةِ فإن الِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ بِالتَّسْلِيمِ
____________________

(4/215)


في جَمِيعِ الطَّرِيقِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ
وَأَمَّا الْخِلَافُ في الزَّمَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أو يَحْمِلَ عليها مُدَّةً مَعْلُومَةً فَانْتَفَعَ بها زِيَادَةً على الْمُدَّةِ فَعَطِبَتْ في يَدِهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالِانْتِفَاعِ بها فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ
وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ من الْحَائِكِ وَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَنَحْوِهِمْ فَالْخِلَافُ إنْ كان في الْجِنْسِ بِأَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ لِيَصْبُغَهُ لَوْنًا فَصَبَغَهُ لَوْنًا آخَرَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وسلم الثَّوْبَ لِلْأَجِيرِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ ما زال ( ( ( زاد ) ) ) الصِّبْغُ فيه إنْ كان الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ
أَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِفَوَاتِ غَرَضِهِ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ لِتَفْوِيتِهِ عليه مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عليه فَكَانَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا له فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ وَلَا أَجْرَ له لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عليه الْعَقْدُ رَأْسًا حَيْثُ لم يُوَفِّ الْعَمَلَ الْمَأْذُونَ فيه أَصْلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ وَيُعْطِيهِ ما زَادَ البصغ ( ( ( الصبغ ) ) ) فيه إنْ كان الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِالثَّوْبِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِهِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ فَيَأْخُذُهُ وَيُعْطِيهِ ما زَادَ الصِّبْغُ فيه رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَنَظَرًا من الْجَانِبَيْنِ كَالْغَاصِبِ
وَإِنْ كان الصِّبْغُ مِمَّا لَا يَزِيدُ كَالسَّوَادِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَاخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لَا يُعْطِيهِ شيئا بَلْ يُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الثَّوْبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ بِنَاءً على أَنَّ السَّوَادَ لَا قِيمَةَ له عِنْدَهُ فَلَا يَزِيدُ بَلْ يَنْقُصُ وَعِنْدَهُمَا له قِيمَةٌ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْأَلْوَانِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رَطْبَةً ضَمِنَ ما نَقَصَهَا لِأَنَّ الرَّطْبَةَ مع الزَّرْعِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ إذْ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ لها نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ بِخِلَافِ الزَّرْعِ وَكَذَا الرَّطْبَةُ تَضُرُّ بِالْأَرْضِ ما لَا يَضُرُّهَا الزَّرْعُ فَصَارَ بِالِاشْتِغَالِ بِزِرَاعَةِ الرَّطْبَةِ غَاصِبًا إيَّاهَا بَلْ مُتْلِفًا وَلَا أَجْرَ له لِأَنَّ الْأَجْرَ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ
وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَنْقُشَ في فِضَّةٍ اسْمَهُ فَنَقْشَ اسْمَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْخَاتَمَ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ من الْخَاتَمِ وهو الْخَتْمُ بِهِ فَصَارَ كالتلف ( ( ( كالمتلف ) ) ) إيَّاهُ
قال وإذا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يخمر ( ( ( يحمر ) ) ) له بَيْتًا فَخَضَّرَهُ
قال مُحَمَّدٌ أُعْطِيهِ ما زَادَتْ الْخُضْرَةُ فيه وَلَا أُجْرَةَ له لِأَنَّهُ لم يَعْمَلْ ما اسْتَأْجَرَهُ عليه رَأْسًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ الصِّبْغِ الذي زَادَ في الْبَيْتِ لِمَا مَرَّ
وَلَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ما سمى لِأَنَّ الْقَبَاءَ وَالْقَمِيصَ مُخْتَلِفَانِ في الِانْتِفَاعِ فَصَارَ مُفَوِّتًا مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عليه فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لِمَا قُلْنَا
وإذا كان الْخِلَافُ في الصِّفَةِ نحو أَنْ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِصِبْغٍ مُسَمًّى فَصَبَغَهُ بِصَبْغٍ آخَرَ لَكِنَّهُ من جِنْسِ ذلك اللَّوْنِ فصاحب ( ( ( فلصاحب ) ) ) الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ أَبْيَضَ وَيُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّوْبَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ما سمى
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِمَا ذَكَرْنَا من الْخِلَافِ في الْجِنْسِ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْأَجْرُ هَهُنَا لِأَنَّ الْخِلَافَ في الصِّفَةِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ من أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عليه فَقَدْ أتى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عليه إلَّا أَنَّهُ لم يَأْتِ بِوَصْفِهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لم يَأْتِ بِوَصْفِهِ الْمَأْذُونِ فيه لم يَجِبْ الْمُسَمَّى
وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ أتى بِالْأَصْلِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى لِأَنَّ هذا شَأْنُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ له طَشْتًا مَوْصُوفًا مَعْرُوفًا فَضَرَبَ له كُوزًا
قال إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ وَيَصِيرُ الْكُوزُ لِلْعَامِلِ وَإِنْ شَاءَ أَخْذَهُ وأعطاه ( ( ( أعطاه ) ) ) أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ما سمى لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على الضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ صِفَةً فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْقُودَ عليه بِأَصْلِهِ وَخَالَفَ في وَصْفِهِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ
وَعَلَى هذا إذَا دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَحُوكَ له ثَوْبًا صَفِيقًا فَحَاكَ له ثَوْبًا رَقِيقًا أو شَرَطَ عليه أَنْ يَحُوكَ له ثَوْبًا رَقِيقًا فَحَاكَهُ صَفِيقًا أن صَاحِبَ الْغَزْلِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ غَزْلَهُ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ ما سمى
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا دَفَعَ خُفَّهُ إلَى خَفَّافٍ لِيُنَعِّلَهُ فَأَنْعَلَهُ بِنَعْلٍ لَا يُنَعِّلُ بمثله الْخَفَّافُ فَصَاحِبُ الْخُفِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُفَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ في عَمَلِهِ وَقِيمَةَ النَّعْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ما سمى وَإِنْ كان يُنَعِّلُ بمثله الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لم يَكُنْ جَيِّدًا
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ إذَا أَنَعْلَهُ بِمَا لَا يُنَعِّلُ بمثله الْخَفَّافُ فَلِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ رَأْسًا بَلْ أتى بِالْمَأْمُورِ بِهِ ابْتِدَاءً فَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا أَنْعَلَ الْخُفَّ
____________________

(4/216)


الْمَغْصُوبَ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَالْغَاصِبِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُفَّ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ تَثْبُتُ لِحَقِّ الْمَالِكِ فإن ( ( ( فإذا ) ) ) رضي بِالْأَخْذِ كان له ذلك وإذا أَخَذَ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ في الْعَمَلِ وقد أتى بِأَصْلِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا خَالَفَ في الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَهُ وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ وَلَا يُعْطِيَهُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ ذلك بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَوْصُوفٍ ولم يَأْتِ بِالصِّفَةِ وَيُعْطِيَهُ ما زَادَ النَّعْلَ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْخَفَّافِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ في الثَّوْبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِيَارُ في هذه الْمَسَائِلِ إلَى صَاحِبِ الْخُفِّ وَالثَّوْبِ لِأَنَّهُ صَاحِبٌ مَتْبُوعٌ وَالنَّعْلُ وَالصِّبْغُ تَبَعٌ فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى وَإِنْ كان يَفْعَلُ بمثله الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لم يَكُنْ جَيِّدًا لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى ما يَقَعُ عليه الِاسْمُ وقد وُجِدَ
وَلَوْ شَرَطَ عليه جَيِّدًا فَأَنْعَلَهُ بِغَيْرِ جَيِّدٍ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُفِّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخُفَّ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ وَقِيمَةَ ما زَادَ فيه وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ ما سمى لِأَنَّ الردىء ( ( ( الرديء ) ) ) من جِنْسِ الْجَيِّدِ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ
وَإِنْ كان الْخِلَافُ في الْقَدْرِ نحو ما ذَكَرَ محمد في الْأَصْلِ في رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ له سَبْعًا في أَرْبَعٍ فَخَالَفَ بِالزِّيَادَةِ أو بِالنُّقْصَانِ فَإِنْ خَالَفَ بِالزِّيَادَةِ على الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فإن الرَّجُلَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ وسلم الثَّوْبَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ له غَرَضُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في قَدْرِ الذِّرَاعِ تُوجِبُ نُقْصَانًا في الصِّفَةِ وَهِيَ الصَّفَاقَةُ فَيَفُوتُ غَرَضُهُ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ لِتَعَدِّيهِ عليه بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الذي سَمَّاهُ لِأَنَّهُ أتى بِأَصْلِ الْعَمَلِ الذي هو مَعْقُودٌ عليه وَإِنَّمَا خَالَفَ في الصِّفَةِ وَالْخِلَافُ في صِفَةِ الْعَمَلِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ من أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عليه كَمَنْ اشْتَرَى شيئا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا حتى كان له أَنْ يَأْخُذَهُ مع الْعَيْبِ وَإِنْ كان الْخِلَافُ في النُّقْصَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ له أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ من الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ وَذَكَرَ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ عليه أَجْرَ الْمِثْلِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ في الْقَدْرِ فَقَدْ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ من الثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ ليس فيها أَجْرٌ مُسَمًّى
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على عَمَلٍ مُقَدَّرٍ ولم يَأْتِ بِالْمُقَدَّرِ فَصَارَ كما لو عَقَدَ على نَقْلِ كُرٍّ من طَعَامٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ فَنَقَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ من الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ فَكَذَا هَهُنَا
وَإِنْ أَوْفَاهُ الْوَصْفَ وهو الصَّفَاقَةُ وَالذِّرَاعُ وزاد فيه فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ وَصَارَ الثَّوْبُ لِلصَّانِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى وَلَا يَزِيدُ لِلذِّرَاعِ الزَّائِدِ شيئا أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قد يَحْتَاجُ إلَى الثَّوْبِ الْقَصِيرِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّوِيلِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَلِأَنَّهُ إذَا زَادَ في طُولِهِ فَقَدْ اسْتَكْثَرَ من الْغَزْلِ فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَا أَجْرَ له في الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ فيها حَيْثُ عَمِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عليها
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا أَعْطَى صَبَّاغًا ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِعُصْفُرِ رُبُعِ الْهَاشِمِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِقَفِيزِ عُصْفُرٍ وَأَقَرَّ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ فإن رَبَّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الْعُصْفُرُ فيه مع الْأَجْرِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ مَشَايِخَنَا ذَكَرُوا تَفْصِيلًا فَقَالُوا إنَّ هذا على وَجْهَيْنِ إنْ كان صَبَغَهُ أَوَّلًا بِرُبُعِ الْهَاشِمِيِّ
ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى وما زَادَ لِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ في الثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالصِّبْغِ الْمَأْذُونِ فيه أَوَّلًا وهو رُبُعُ الْهَاشِمِيِّ فَقَدْ أوفى ( ( ( أوفاه ) ) ) الْمَعْقُودَ عليه وَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالصِّبْغِ الثَّانِي كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالرُّبُعِ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ سَلَّمَ له الصِّبْغَ الْمَعْقُودَ عليه فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى وَيُعْطِيهِ ما زَادَ الصِّبْغُ الثَّانِي فيه لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمَةٌ لِلصَّبَّاغِ في الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا بِرُبُعِ الْقَفِيزِ وَوَجَبَ له الْأَجْرُ لِأَنَّ الصِّبْغَ في حُكْمِ الْمَقْبُوضِ من وَجْهٍ لِحُصُولِهِ في ثَوْبِهِ لَكِنْ يُكْمِلُ الْقَبْضَ فيه لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَى يَدِهِ فَكَانَ مَقْبُوضًا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ له فَسْخُ الْقَبْضِ لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ وَيَضْمَنَ الْأَجْرَ
وَإِنْ كان صَبَغَهُ ابْتِدَاءً بِقَفِيزٍ فَلَهُ ما زَادَ الصِّبْغُ وَلَا أَجْرَ له لِأَنَّهُ لم يُوفِ بِالْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فيه فلم يَعْمَلْ الْمَعْقُودَ عليه فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا وَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ خِلَافَ ذلك وهو أَنَّ له أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيَغْرَمَ الْأَجْرَ وما زَادَ الْعُصْفُرُ فيه مُجْتَمِعًا كان أو مُتَفَرِّقًا لِأَنَّ الصِّبْغَ لَا يَتَشَرَّبُ
____________________

(4/217)


في الثَّوْبِ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ شيئا فَشَيْئًا فَيَسْتَوِي فيه الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ وَهِيَ التي فَاتَهَا شَرْطٌ من شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَحُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ هو ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُؤَاجِرِ في أَجْرِ الْمِثْلِ لَا في الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا فَاسِدًا لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ لم يَرْضَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِبَدَلٍ وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلِأَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ هو الْقِيمَةُ لِأَنَّ مَبْنَاهَا على الْمُعَادَلَةِ وَالْقِيمَةُ هِيَ الْعَدْلُ إلَّا أنها مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَيُعْدَلُ منها إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فإذا فَسَدَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ وهو أَجْرُ الْمِثْلِ هَهُنَا لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ على الْمُسَمَّى في عَقْدٍ فيه تَسْمِيَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُزَادُ وَيَجِبُ بَالِغًا ما بَلَغَ بِنَاءً على أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ شَرْعًا بِأَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِتَقْوِيمِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْعَاقِدَانِ ما قَوَّمَاهَا إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَوْ وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ على الْمُسَمَّى لَوَجَبَتْ بِلَا عَقْدٍ وَإِنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ بِلَا عَقْدٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فإن الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ بَالِغًا ما بَلَغَ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَالْأَعْيَانُ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَوَجَبَ كُلُّ قِيمَتِهَا وفي قَوْلِ زُفَرَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا كَالْأَعْيَانِ
هذا إذَا كان في الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ فيه تَسْمِيَةٌ فإنه يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا ما بَلَغَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ فيه تَسْمِيَةُ الْأَجْرِ لَا يُرْضَى بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ من غَيْرِ بَدَلٍ كان ذلك تَمْلِيكًا بِالْقِيمَةِ التي هِيَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ دَلَالَةً فَكَانَ تَقْوِيمًا لِلْمَنَافِعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إذْ هو قِيمَةُ الْمَنَافِعِ في الْحَقِيقَةِ وَلَا يَثْبُتُ في هذه الْإِجَارَةِ شَيْءٌ من الْأَحْكَامِ التي هِيَ من التَّوَابِعِ إلَّا ما يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ له فيه وَهِيَ كَوْنُهُ أَمَانَةً في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حتى لو هَلَكَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِحُصُولِ الْهَلَاكِ في قَبْضٍ مَأْذُونٍ فيه من قِبَلِ الْمُؤَاجِرِ
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْبَاطِلَةُ وَهِيَ التي فَاتَهَا شَرْطٌ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا حُكْمَ لها رَأْسًا لِأَنَّ ما لَا يَنْعَقِدُ فَوُجُودُهُ في حَقِّ الْحُكْمِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وهو تَفْسِيرُ الْبَاطِلِ من التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ في عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْبَدَلِ أو الْمُبْدَلِ وَالْإِجَارَةُ وَقَعَتْ صَحِيحَةً يُنْظَرُ إنْ كان اخْتِلَافُهُمَا قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ تَحَالَفَا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَيَتَنَاوَلُهَا الْحَدِيثُ
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا يَتَنَاوَلُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ وهو ما إذَا بَاعَ عَيْنًا بِمَنْفَعَةٍ وَاخْتَلَفَا فيها وإذا ثَبَتَ التَّحَالُفُ في نَوْعٍ بِالْحَدِيثِ ثَبَتَ في الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِنَتِيجَةِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّ التَّحَالُفَ قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مُوَافِقٌ الْأُصُولَ لِأَنَّ الْيَمِينَ في أُصُولِ الشَّرْعِ على الْمُنْكِرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ من وَجْهٍ وَمُدَّعٍ من وَجْهٍ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي على الْمُسْتَأْجِرِ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ وَالْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي على الْمُؤَاجِرِ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ بِمَا يَدَّعِي من الْأُجْرَةِ وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا من وَجْهٍ وَالْيَمِينُ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ في أُصُولِ الشَّرْعِ وَلِهَذَا جَرَى التَّحَالُفُ قبل الْقَبْضِ فَبَيْعُ الْعَيْنِ وَالتَّحَالُفُ هَهُنَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ثُمَّ إنْ كان الِاخْتِلَافُ في قَدْرِ الْبَدَلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ الزَّائِدَةِ وَإِنْ كان في قَدْرِ الْمُبْدَلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَاجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ تَسْلِيمِ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ
وإذا تَحَالَفَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أو إقْرَارٌ وَالْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِقْرَارَ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ يقضي بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُقَابِلُ الْحُجَّةَ
وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في الْبَدَلِ فَبَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في الْمُبْدَلِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ ادَّعَى الْمُؤَاجِرُ فَضْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ من الْأَجْرِ وَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ فَضْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّ من الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ قال الْمُؤَاجِرُ أَجَرْتُك هذه الدَّابَّةَ إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةٍ وقال الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الْكُوفَةِ بِخَمْسَةٍ أو قال الْمُؤَاجِرُ أَجَّرْتُكَ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ وقال الْمُسْتَأْجِرُ شهرين ( ( ( لشهرين ) ) ) بِخَمْسَةٍ فَالْأَمْرُ في التَّحَالُفِ وَالنُّكُولِ وَإِقَامَةِ أَحَدِهِمَا الْبَيِّنَةَ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْفِعْلِ الذي يَسْتَحِقُّهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَكُونُ إلَى الْكُوفَةِ بِعَشَرَةٍ وَشَهْرَيْنِ بِعَشَرَةٍ لِأَنَّ
____________________

(4/218)


بَيِّنَةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُؤَاجِرِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأَجْرِ وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ فَتُقْبَلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا على الزِّيَادَةِ التي تُثْبِتُهَا وَإِنْ كان اخْتِلَافُهُمَا بعدما اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ سَكَنَ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْضَ الْمُدَّةِ أو رَكِبَ الدَّابَّةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْضَ الْمَسَافَةِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا مَضَى مع يَمِينِهِ وَيَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْعَقْدَ على الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً على حَسَبِ حُدُوثِهَا شيئا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عليه مُبْتَدَأً فَكَانَ ما بَقِيَ من الْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ مُنْفَرِدًا بالعقد فَيَتَحَالَفَانِ فيه بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ على جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ لِلْحَالِ وَكُلُّ جُزْءٍ من الْمَبِيعِ ليس بِمَعْقُودٍ عليه مُبْتَدَأً إنَّمَا الْجُمْلَةُ مَعْقُودٌ عليها بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فإذا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ في قَدْرِ الْهَالِكِ يَسْقُطُ في الْبَاقِي
وَإِنْ كان اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْإِجَارَةِ أو بَعْدَ بُلُوغِ الْمَسَافَةِ التي اسْتَأْجَرَ إلَيْهَا لَا يَتَحَالَفَانِ فيه وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ في مِقْدَارِ الْبَدَلِ مع يَمِينِهِ وَلَا يَمِينَ على الْمُؤَاجِرِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ يُثْبِتُ الْفَسْخَ وَالْمَنَافِعُ الْمُنْعَدِمَةُ لَا تَحْتَمِلُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ
وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ في بَابِ الْبَيْعِ شَرْطُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ في الْمَبِيعِ الْهَالِكِ وَالْمَنَافِعُ هَهُنَا هَالِكَةٌ فَلَا يَثْبُتُ فيها التَّحَالُفُ وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَبِيعِ الْهَالِكِ وَبَيْنَ الْمَنَافِعِ الْهَالِكَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا على أَصْلِنَا وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ فإذا فُسِخَتْ الْإِجَارَةُ بِالتَّحَالُفِ تَبْقَى الْمَنَافِعُ مُسْتَوْفَاةً من غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا تَتَقَوَّمُ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فإذا فُسِخَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ يَبْقَى الْعَقْدُ مُتَقَوِّمًا بِنَفْسِهِ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَجِبُ عليه قِيمَتُهُ وَإِنَّمَا كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ عليه وَالْخِلَافُ مَتَى وَقَعَ في الِاسْتِحْقَاقِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَحِقِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في جِنْسِ الْأَجْرِ بِأَنْ قال الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْتُ هذه الدَّابَّةَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وقال الْآخَرُ بِدِينَارٍ فَالْحُكْمُ في التَّحَالُفِ وَالنُّكُولِ وَإِقَامَةِ أَحَدِهِمَا الْبَيِّنَةَ ما وَصَفْنَا فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْأُجْرَةَ حَقًّا له وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُثْبِتُ الْأُجْرَةَ حَقًّا له فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْمُؤَاجِرُ أَجَّرْتُكَ هذه الدَّابَّةَ إلَى الْقَصْرِ بِدِينَارٍ وقال الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الْكُوفَةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ إلَى الْكُوفَةِ بِدِينَارٍ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إلَى الْقَصْرِ وَقَعَ في الْبَدَلِ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وَتَثْبُتُ الْإِجَارَةُ إلَى الْقَصْرِ بِدِينَارٍ ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي من الْقَصْرِ إلَى الْكُوفَةِ بِخَمْسَةٍ لِأَنَّ الْقَصْرَ نِصْفُ الطَّرِيقِ وَالْمُؤَاجِرُ يَجْحَدُ هذه الْإِجَارَةَ فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِجَارَةِ أَوْلَى من النَّافِيَةِ
وقد رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ من رَجُلٍ دَارًا سَنَةً فَاخْتَلَفَا فَأَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ إحدى ( ( ( أحد ) ) ) عَشَرَ شَهْرًا منها بِدِرْهَمٍ وَشَهْرًا بِتِسْعَةٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ أَجَرَهَا بِعَشَرَةٍ قال فَإِنِّي آخُذُ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَضْلَ أُجْرَةٍ في أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وقد أَقَامَ على ذلك بَيِّنَةً فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فَأَمَّا الشَّهْرُ الثَّانِي عَشَرَ فَقَدْ أَقَرَّ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْمُؤَاجِرِ فيه بِفَضْلِ الْأُجْرَةِ فِيمَا ادَّعَى فَإِنْ صَدَّقَهُ على ذلك وَإِلَّا سَقَطَ الْفَضْلُ بِتَكْذِيبِهِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فقال رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَبَاءً وقال الْخَيَّاطُ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْطَعَهُ قَمِيصًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مع يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ وقال ابن أبي لَيْلَى الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ مع يَمِينِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فقال في مَوْضِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِمَا وقال في مَوْضِعٍ يَتَحَالَفَانِ فإذا حَلَفَا سَقَطَ الضَّمَانُ عن الْخَيَّاطِ وَسَقَطَ الْأَجْرُ
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ أَقَرَّ بِالْإِذْنِ بِالْقَطْعِ غير أَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ صِفَةٍ تُوجِبُ الضَّمَانَ وَتُسْقِطُ الْأَجْرَ وَالْخَيَّاطُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَنَا أَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ من قِبَلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ الْقَوْلُ في صِفَةِ الْإِذْنِ قَوْلَهُ وَلِهَذَا لو وَقَعَ الْخِلَافُ في أَصْلِ الْإِذْنِ بِالْقَطْعِ فقال صَاحِبُ الثَّوْبِ لم آذَنْ بِالْقَطْعِ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا قال لم آذَنْ بِقَطْعِهِ قَمِيصًا وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فيه قَطْعُ الْقَبَاءِ لَا مُطْلَقُ الْقَطْعِ وَلَا مَعْنَى لِأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ التَّحَالُفَ وَضْعٌ الفسخ ( ( ( للفسخ ) ) ) وَلَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ هَهُنَا فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي على الْخَيَّاطِ الْغَصْبَ وَالْخَيَّاطَ يَدَّعِي الْأَجْرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ فيه التَّحَالُفُ وَإِنْ كان له تَضْمِينُ الْخَيَّاطِ قِيمَةَ الثَّوْبِ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ
____________________

(4/219)


لَمَّا حَلَفَ على دَعْوَى الْخَيَّاطِ فَقَدْ صَارَ الْخَيَّاطُ بِقَطْعِهِ الثَّوْبَ لَا على الصِّفَةِ الْمَأْذُونِ فيها مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عليه فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ
أَمَّا اخْتِيَارُ أَخْذِ الثَّوْبِ فَلِأَنَّهُ أتى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عليه مع تَغَيُّرِ الصِّفَةِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ الرِّضَا بِهِ وَإِعْطَاؤُهُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ على الْوَصْفِ الذي أَمَرَ بِهِ وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْقَبَاءِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ بِأَنْ يَسُدَّ وَسَطَهُ وَأَزْرَارَهُ وَإِنَّمَا يُفَوِّتُ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ فَقَدْ وُجِدَ الْمَعْقُودُ عليه مع الْعَيْبِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حتى قالوا لو قَطَعَهُ سَرَاوِيلَ لم تَجِبْ له الْأُجْرَةُ لِاخْتِلَافِ مَنْفَعَةِ الْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ فلم يَأْتِ الْمَعْقُودُ عليه رَأْسًا
قال الْقُدُورِيُّ وَالرِّوَايَةُ بِخِلَافِ هذا فإن هِشَامًا رَوَى أَنَّ مُحَمَّدًا قال في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ له طَشْتًا مَوْصُوفًا فَضَرَبَهُ كُوزًا إنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ وَالْكُوزُ لِلْعَامِلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ ما سمى فَفِي السَّرَاوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَوَجْهُهُ ما مَرَّ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على الضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةُ صِفَةٌ له فَقَدْ وَافَقَ في أَصْلِ الْمَعْقُودِ عليه وَخَالَفَ في الصِّفَةِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ وَبِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَنْزِعَ له ضِرْسًا مُتَآكِلًا فَنَزَعَ ضِرْسًا مُتَآكِلًا فقال الْآمِرُ أَمَرْتُك بِغَيْرِ هذا بهذا الْأَجْرِ وقال الْمَأْمُورُ أَمَرْتنِي بِاَلَّذِي نَزَعْتُ فإن أَبَا حَنِيفَةَ قال في ذلك الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مع يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ خَاصَّةً فَكَانَ الْقَوْلُ في الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلَهُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ على ما وَصَفَ له بِالْعُصْفُرِ ثُمَّ اخْتَلَفَا في الْأَجْرِ فقال الصَّبَّاغُ عَمِلْته بِدِرْهَمٍ وقال رَبُّ الثَّوْبِ بِدَانَقَيْنِ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الصَّبَّاغِ وَإِنْ لم يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى ما زَادَ الْعُصْفُرُ في قِيمَةِ الثَّوْبِ فَإِنْ كان دِرْهَمًا أو أَكْثَرَ أَعْطَيْته دِرْهَمًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الصَّبَّاغُ ما صَبَغْته بِدَانَقَيْنِ وَإِنْ كان ما زَادَ في الثَّوْبِ من الْعُصْفُرِ أَقَلَّ من دَانَقَيْنِ أَعْطَيْته دَانَقَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ما صَبَغْته إلَّا بِدَانَقَيْنِ أَمَّا إذَا قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الصَّبَّاغِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَأَمَّا إذَا لم تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلِأَنَّ ما زَادَ الْعُصْفُرُ في قِيمَةِ الثَّوْبِ إذَا كان دِرْهَمًا أو أَكْثَرَ كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلصَّبَّاغِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ على دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ رضي بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ وإذا كان ما زَادَ الْعُصْفُرُ دَانَقَيْنِ كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِرَبِّ الثَّوْبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ من دَانَقَيْنِ لِأَنَّهُ رضي بِذَلِكَ
وَإِنْ كان يَزِيدُ في الثَّوْبِ نِصْفَ دِرْهَمٍ قال أَعْطَيْت الصَّبَّاغَ ذلك بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ ما صَبَغْته بِدَانَقَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى إذَا سَقَطَتْ لِلتَّعَارُضِ بِحُكْمِ الصَّبْغِ فَوَجَبَ قِيمَةُ الصِّبْغِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصَّارِ مع رَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا أن الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ ليس في الثَّوْبِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْقَصَّارِ فلم يُوجَدْ ما يَصْلُحُ حُكْمًا فَيُرْجَعَ إلَى قَوْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْقَصَّارَ يَدَّعِي عليه زِيَادَةَ ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ صِبْغٍ له قِيمَةٌ فَإِنْ كان الصِّبْغُ أَسْوَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مع يَمِينِهِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ صِبْغٍ يُنْقِصُ الثَّوْبَ
لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالدَّعْوَى لِلتَّعَارُضِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ الصِّبْغِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ له فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْمُسْتَحَقِّ عليه
وَلَوْ اخْتَلَفَ الصَّبَّاغُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فقال رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُك بِالْعُصْفُرِ
وقال الصَّبَّاغُ بِالزَّعْفَرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ في قَوْلِهِمْ جميعا
لِأَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ وَمِنْ هذا النَّوْعِ ما إذَا أَمَرَ الْمُسْتَعْمِلُ الصَّانِعَ بِالزِّيَادَةِ من عِنْدِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فقال في الْأَصْلِ في رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ في الْغَزْلِ رِطْلًا من عِنْدِهِ مِثْلَ غَزْلِهِ على أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَ الْغَزْلِ وَأُجْرَةَ الثَّوْبِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً فَاخْتَلَفَا بَعْدَ الْفَرَاغِ من الثَّوْبِ فقال الْحَائِكُ قد زِدْت وقال رَبُّ الثَّوْبِ لم تَزِدْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْغَزْلِ مع يَمِينِهِ على عَمَلِهِ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي على صَاحِبِ الثَّوْبِ الضَّمَانَ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ على عَمَلِهِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ على فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنْ حَلَفَ بريء وَإِنْ نَكَلَ عن الْيَمِينِ لَزِمَهُ مِثْلُ الْغَزْلِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ يقضي بها في هذا الْبَابِ فَإِنْ أَقَامَ الصَّانِعُ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ
وَلَوْ اتَّفَقَا أَنَّ غَزْلَ الْمُسْتَعْمَلِ كان مَنًّا وقال الصَّانِعُ قد زِدْت فيه رِطْلًا فَوُزِنَ الثَّوْبُ فَوُجِدَ زَائِدًا على ما دُفِعَ إلَيْهِ زِيَادَةً لم يُعْلَمْ أَنَّ مِثْلَهَا يَكُونُ من الدَّقِيقِ وَادَّعَى رَبُّ الثَّوْبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ من الدَّقِيقِ فالوقل ( ( ( فالقول ) ) ) قَوْلُ الصَّانِعِ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ يَدَّعِي
____________________

(4/220)


خِلَافَ الظَّاهِرِ وَإِنْ كان الثَّوْبُ مُسْتَهْلَكًا قبل أَنْ يُعْلَمَ وَزْنُهُ ولم يُقِرَّ الْمُسْتَعْمِلُ أَنَّ فيه ما قال الصَّانِعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي عليه الضَّمَانَ وَلَا ظَاهِرَ هَهُنَا يَشْهَدُ له فلم يُقْبَلْ قَوْلُهُ
وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةً وقال زِدْ عليها دِرْهَمَيْنِ قَرْضًا عَلَيَّ فَصُغْهُ قَلْبًا وَأَجْرُك دِرْهَمٌ فَصَاغَهُ وَجَاءَ بِهِ مَحْشُوًّا فَاخْتَلَفَا فقال الصَّائِغُ قد زِدْت عليه دِرْهَمَيْنِ وقال رَبُّ الْقَلْبِ لم تَزِدْ شيئا
قال مُحَمَّدٌ يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ الصَّائِغُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقَلْبَ وَأَخَذَ منه أُجْرَةَ خَمْسَةِ دَوَانِيقَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قضة ( ( ( فضة ) ) ) وَأَخَذَ الْقَلْبَ
أَمَّا التَّحَالُفُ فَلِأَنَّ الصَّائِغَ يَدَّعِي على صَاحِبِ الْقَلْبِ الْقَرْضَ وهو يُنْكِرُ فَيُسْتَحْلَفُ وَصَاحِبُ الْقَلْبِ يَدَّعِي على الصَّائِغِ اسْتِحْقَاقَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وهو يُنْكِرُ فَيُسْتَحْلَفُ وإذا بَطَلَ دَعْوَى الصَّائِغِ في الْقَلْبِ عُلِمَ أَنَّ الْوَزْنَ عَشَرَةٌ وَإِنَّمَا بَذَلَ صَاحِبُ الْقَلْبِ لِلصَّائِغِ دِرْهَمًا لِصِيَاغَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فإذا لم تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ تَلْزَمُهُ لِلْعَشَرَةِ خمس ( ( ( خمسة ) ) ) دَوَانِيقَ وَإِنَّمَا كان لِلصَّائِغِ أَنْ يَحْبِسَ الْقَلْبَ وَيُعْطِيَ صَاحِبَ الْقَلْبِ مِثْلَ فِضَّتِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَابِتَةٌ وَأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ عليها من غَيْرِ عِوَضِ الْقَرْضِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا من غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا ضَرَرَ على صَاحِبِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِثْلُ حَقِّهِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى نَدَّافٍ ثَوْبًا وَقُطْنًا يَنْدِفُ عليه وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ من عِنْدِهِ ما رَأَى ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ أَتَاهُ وقد نَدَفَ على الثَّوْبِ عِشْرِينَ أَسْتَارًا من قُطْنٍ فَاخْتَلَفَا فقال صَاحِبُ الثَّوْبِ دَفَعْت إلَيْك خَمْسَةَ عَشَرَ أَسْتَارًا من قُطْنٍ وَأَمَرْتُك أَنْ تَزِيدَ عليه عَشَرَةً وَتَنْقُصَ إنْ رَأَيْت فلم تَزِدْ إلَّا خَمْسَةَ أَسَاتِيرَ
وقال النَّدَّافُ دَفَعْت إلَيَّ عَشَرَةً وَأَمَرْتنِي أَنْ أَزِيدَ عَشَرَةً فَزِدْتهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّدَّافِ وَعَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ أَسَاتِيرَ من قُطْنٍ كما ادَّعَى لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَا يَدَّعِي على النَّدَّافِ مُخَالَفَةَ ما أَمَرَهُ بِهِ وَإِنَّمَا يَدَّعِي أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَسْتَارًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ النَّدَّافِ في مِقْدَارِهِ فَتَبْقَى الْعَشَرَةُ زِيَادَةً فَيَضْمَنُهَا صَاحِبُ الثَّوْبِ وَإِنْ كان صَاحِبُ الثَّوْبِ قال دَفَعْت إلَيْك خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَمَرْتُك أَنْ تَزِيدَ عليه خَمْسَةَ عَشَرَ
وقال النَّدَّافُ دَفَعْت إلَيَّ عَشَرَةً وَأَمَرْتنِي أَنْ أَزِيدَ عليه عَشَرَةً فَزِدْتُ عليه عَشَرَةً فَصَاحِبُ الثَّوْبِ في هذا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَدَّقَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ أَسَاتِيرَ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَمِثْلَ عَشَرَةِ أَسَاتِيرَ قُطْنٍ وكان الثَّوْبُ لِلنَّدَّافِ لِأَنَّ النَّدَّافَ يَزْعُمُ أَنَّهُ فَعَلَ ما أَمَرَهُ بِهِ وَصَاحِبَ الثَّوْبِ يَدَّعِي الْخِلَافَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّدَّافِ في مِقْدَارِ ما قَبَضَ
وقال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا ثَوْبًا لِيَقْطَعَهُ قَبَاءً مَحْشُوًّا وَدَفَعَ إلَيْهِ الْبِطَانَةَ وَالْقُطْنَ فَقَطَّعَهُ وَخَاطَهُ وَحَشَاهُ وَاتَّفَقَا على الْعَمَلِ والأجر ( ( ( والأجرة ) ) ) فإن الثَّوْبَ ثَوْبُ رَبِّ الثَّوْبِ وَالْقُطْنَ قُطْنُهُ غير أَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ إنْ قال إنَّ الْبِطَانَةَ لَيْسَتْ بِطَانَتِي فَالْقَوْلُ في ذلك قَوْلُ الْخَيَّاطِ مع يَمِينِهِ أَلْبَتَّةَ أَنَّ هذا بِطَانَتُهُ وَيَلْزَمُ رَبَّ الثَّوْبِ وَيَسَعُ رَبُّ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ الْبِطَانَةَ فَيَلْبَسُهَا لِأَنَّ الْبِطَانَةَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْخَيَّاطِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فيها ثُمَّ إنْ كانت بِطَانَةُ صَاحِبِ الثَّوْبِ حَلَّ له لُبْسُهَا وَإِنْ كانت غَيْرَهَا فَقَدْ رضي الْخَيَّاطُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ بَدَلَ بِطَانَتِهِ فَحَلَّ له لُبْسُهَا
وَرَوَى بِشْرٌ وابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ أَعْطَى حَمَّالًا مَتَاعًا لِيَحْمِلَهُ من مَوْضِعٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فقال رَبُّ الْمَتَاعِ ليس هذا مَتَاعِي وقال الْحَمَّالُ هو مَتَاعُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ مع يَمِينِهِ وَلَا ضَمَانَ عليه وَلَا يَلْزَمُ الْآمِرَ الْأَجْرُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَأْخُذَهُ لِأَنَّ الْمَتَاعَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْحَمَّالِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْمَتَاعِ لِأَنَّهُ لم يَعْتَرِفْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَإِنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ رَجَعَ عن قَوْلِهِ فَوَجَبَ عليه الْأَجْرُ قال وَالنَّوْعُ الْوَاحِدُ وَالنَّوْعَانِ في هذا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ في النَّوْعِ الْوَاحِدِ أَفْحَشُ وَأَقْبَحُ يُرِيدُ بهذا لو حَمَّلَهُ طَعَامًا أو زَيْتًا
وقال الْأَجِيرُ هذا طَعَامُكَ بِعَيْنِهِ وقال رَبُّ الطَّعَامِ كان طَعَامِي أَجْوَدَ من هذا فإن هذا يَفْحُشُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فيه قَوْلَ رَبِّ الطَّعَامِ وَيَبْطُلُ الْأَجْرُ وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَمَّالِ وَيَأْخُذُ الْأَجْرَ إنْ كان قد حَمَلَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَا نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ جاء بِشَعِيرٍ
وقال رَبُّ الطَّعَامِ كان طَعَامِي حِنْطَةً فَلَا أَجْرَ لِلْحَمَّالِ حتى يُصَدِّقَهُ وَيَأْخُذَهُ وَإِنَّمَا قال يَقْبُحُ في الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَمْلِكُ صَاحِبُ الطَّعَامِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّعِيرَ عِوَضًا عن طَعَامِهِ لِأَنَّ الْحَمَّالَ قد بَذَلَ له ذلك فإذا أَخَذَ الْعِوَضَ سَلِمَتْ له الْمَنْفَعَةُ فَأَمَّا في النَّوْعَيْنِ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّوْعَ الْآخَرَ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِالْبَيْعِ فما لم يُصَدِّقْهُ لَا يَسْتَحِقُّ عليه الْأَجْرَ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الصَّانِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ في أَصْلِ الْأَجْرِ كَالنَّسَّاجِ وَالْقَصَّارِ وَالْخَفَّافِ
____________________

(4/221)


وَالصَّبَّاغِ فقال رَبُّ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ عَمِلْتَهُ لي بِغَيْرِ شَرْطٍ وقال الصَّانِعُ لَا بَلْ عَمِلْتُهُ بِأُجْرَةِ دِرْهَمٍ أو اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّارِ مع الْمُسْتَأْجِرِ فقال رَبُّ الدَّارِ أَجَرْتُهَا مِنْك بِدِرْهَمٍ
وقال السَّاكِنُ بَلْ سَكَنْتهَا عَارِيَّةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ وَسَاكِنِ الدَّارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ مع يَمِينِهِ وَلَا أَجْرَ عليه وقال أبو يُوسُفَ إنْ كان الرَّجُلُ حُرًّا ثِقَةً فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِلَّا فَلَا
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان الرَّجُل انْتَصَبَ لِلْعَمَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ انْتَصَبَ لِلْعَمَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اتَّفَقَا على أَنَّهُمَا لم يَشْتَرِطَا الْأَجْرَ لَكِنَّ الصَّانِعَ قال إنِّي إنَّمَا عَمِلْت بِالْأَجْرِ وقال رَبُّ الثَّوْبِ ما شَرَطْت لَك شيئا فَلَا يَسْتَحِقُّ شيئا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإن انْتِصَابَهُ لِلْعَمَلِ وَفَتْحَهُ الدُّكَّانَ لِذَلِكَ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِالْأُجْرَةِ وَكَذَا إذَا كان حرا ( ( ( حريفه ) ) ) ثقة فَكَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَنَافِعَ على أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ولم يُوجَدْ أَمَّا إذَا اتَّفَقَا على أَنَّهُمَا لم يَشْتَرِطَا الْأَجْرَ فَظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا في الشَّرْطِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَثْبُتُ مع الِاخْتِلَافِ لِلتَّعَارُضِ فَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ ثُمَّ إنْ كان في الْمَصْنُوعِ عَيْنٌ قَائِمَةٌ لِلصَّانِعِ كَالصِّبْغِ الذي يَزِيدُ وَالنَّعْلِ يَغْرَمُ رَبُّ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ لِلصَّانِعِ ما زَادَ الصِّبْغُ وَالنَّعْلُ فيه لَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَنْتَهِي بِأَشْيَاءَ
منها الْإِقَالَةُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِقَالَةِ كَالْبَيْعِ
وَمِنْهَا مَوْتُ من وَقَعَ له الْإِجَارَةُ إلَّا لِعُذْرٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تبطل ( ( ( يبطل ) ) ) بِالْمَوْتِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ
وَالْكَلَامُ فيه على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ في كَيْفِيَّةِ انْعِقَادِ هذا الْعَقْدِ وهو أَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَنَا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً على حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ شيئا فَشَيْئًا وإذا كان كَذَلِكَ فما يَحْدُثُ من الْمَنَافِعِ في يَدِ الْوَارِثِ لم يَمْلِكْهَا الْمُورَثُ لِعَدَمِهَا وَالْمِلْكُ صِفَةُ الْمَوْجُودِ لَا الْمَعْدُومِ فَلَا يَمْلِكُهَا الْوَارِثُ إذْ الْوَارِثُ إنَّمَا يَمْلِكُ ما كان على مِلْكِ الْمُورَثِ فما لم يَمْلِكْهُ يَسْتَحِيلُ وِرَاثَتُهُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَلَكَهُ الْمُورَثُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ منه إلَى الْوَارِثِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْعَقْدِ وما يَحْدُثُ منها في يَدِ الْوَارِثِ لم يُعْقَدْ عليه رَأْسًا لِأَنَّهَا كانت مَعْدُومَةً حَالَ حَيَاةِ الْمُورَثِ وَالْوَارِثُ لم يَعْقِدْ عليها فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فيها لِلْوَارِثِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً لِلْحَالِ كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ كَذَا الْإِجَارَةُ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَجَرَ رَجُلَانِ دَارًا من رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَاجِرَيْنِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ في نَصِيبِهِ عِنْدَنَا وَتَبْقَى في نَصِيبِ الْحَيِّ على حَالِهَا لِأَنَّ هذا شُيُوعٌ طاريء ( ( ( طارئ ) ) ) وأنه لَا يُؤَثِّرُ في الْعَقْدِ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ من رَجُلٍ دَارًا فَمَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجِرِينَ فَإِنْ رضي الْوَارِثُ بِالْبَقَاءِ على الْعَقْدِ وَرَضِيَ الْعَاقِدُ أَيْضًا جَازَ وَيَكُونُ ذلك بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مبتدأ وَلَوْ مَاتَ الْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَقَعْ له وَإِنَّمَا هو عَاقِدٌ وَكَذَا لو مَاتَ الْأَبُ أو الْوَصِيُّ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو مَاتَ أبو الصَّبِيِّ في اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لَا تُنْقَضُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ لِلصَّبِيِّ وَالظِّئْرِ وَهُمَا قَائِمَانِ وَلَوْ مَاتَ الظِّئْرُ اُنْتُقِضَتْ الْإِجَارَةُ وَكَذَا لو مَاتَ الصَّبِيُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودٌ له
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ له وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِ من وَقَعَ له الْعَقْدُ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجَبِ الْعَقْدِ لِأَنَّ من وَقَعَ له إنْ كان هو الْمُؤَاجِرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ من مِلْكِهِ وَلَوْ بَقَّيْنَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتُوْفِيَتْ الْمَنَافِعُ من مِلْكِ غَيْرِهِ وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنْ كان هو الْمُسْتَأْجِرُ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ من مَالِهِ
وَلَوْ بَقَّيْنَا الْعَقْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتُحِقَّتْ الْأُجْرَةُ من مَالِ غَيْرِهِ وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ من لم يَقَعْ الْعَقْدُ له كَالْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ منه لَا يَقَعُ مُقْتَضِيًا اسْتِحْقَاقَ الْمَنَافِعِ وَلَا اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ من مِلْكِهِ فَإِبْقَاءُ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ في الْوَقْفِ إذَا عَقَدَ ثُمَّ مَاتَ لَا تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَقَعْ له فَمَوْتُهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَّةَ فَمَاتَ الْمُؤَاجِرُ في بَعْضِ الْمَفَازَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا أو يَحْمِلَ عليها إلَى مَكَّةَ أو إلَى أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ من الْمِصْرِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ هَهُنَا يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُسْتَأْجِرِ لِمَا فيه من تَعْرِيضِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ إلَى التَّلَفِ فَجُعِلَ
____________________

(4/222)


ذلك عُذْرًا في بَقَاءِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِجَارَةَ كما تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ تَبْقَى بِالْعُذْرِ
وَقَالُوا فِيمَنْ اكْتَرَى إبِلًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَمَاتَ الْجَمَّالُ في بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَهَا إلَى مَكَّةَ أو يَحْمِلَ عليها وَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْحُكْمَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ في الطَّرِيقِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ ما يَحْمِلُهُ وَيَحْمِلُ قُمَاشَهُ وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْوَرَثَةِ إذَا كَانُوا غُيَّبًا لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَفُوتُ من غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ في اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ نَظَرٌ من الْجَانِبَيْنِ فإذا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عليه في فَسْخِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ ذلك لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على أَنْ يَسْتَأْجِرَ من جَمَّالٍ آخَرَ ثُمَّ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ في الْأَصْلَحِ
فَإِنْ رَأَى بَيْعَ الْجِمَالِ وَحِفْظَ الثَّمَنِ لِلْوَرَثَةِ أَصْلَحَ فَعَلَ ذلك وَإِنْ رَأَى إمْضَاءَ الْإِجَارَةِ إلَى الْكُوفَةِ أَصْلَحَ فَعَلَ ذلك لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا مُحْتَاطًا وقد يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَحْوَطَ فَيَخْتَارُ ذلك قالوا وَالْأَفْضَلُ إذَا كان الْمُسْتَأْجِرُ ثِقَةً أَنْ يُمْضِيَ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ
وَالْأَفْضَلُ إذَا كان غير ثِقَةٍ أَنْ يَفْسَخَهَا فَإِنْ فَسَخَهَا وقد كان الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ سمع الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ عليها وَقَضَاهُ من ثَمَنِهَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا انْفَسَخَتْ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ إمْسَاكُ الْعَيْنِ حتى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَامَ القضاء ( ( ( القاضي ) ) ) مَقَامَ الْغَائِبِ فَنُصِّبَ له خَصْمًا وَسَمِعَ عليه الْبَيِّنَةَ
وَلَوْ مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَعَ له عَقْدُ الْإِجَارَةِ قبل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وفي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ زَرْعٌ لم يُسْتَحْصَدْ يُتْرَكُ ذلك في الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَيَكُونُ على الْمُسْتَأْجِرِ أو على وَرَثَتِهِ ما سمى من الْأَجْرِ لِأَنَّ في الْحُكْمِ بِالِانْفِسَاخِ وَقَلْعِ الزَّرْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ وفي الْإِبْقَاءِ من غَيْرِ عِوَضٍ ضَرَرًا بِالْوَارِثِ وَيُمْكِنُ تَوْفِيرُ الْحَقَّيْنِ من غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِبْقَاءِ الزَّرْعِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ بِالْأَجْرِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ حَقِيقَةً بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا بَقَّيْنَاهُ حُكْمًا فَأَشْبَهَ شُبْهَةَ الْعَقْدِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ تُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ كما لو اسْتَوْفَاهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَنَاوَلَتْ هذه الْمُدَّةَ فإذا مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى التَّرْكِ بِعِوَضٍ كان إيجَابُ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى أَوْلَى لِوُقُوعِ التَّرَاضِي بِخِلَافِ التَّرْكِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لم تَتَنَاوَلْ ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الْمُسَمَّى فَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ
وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فيه لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عن اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه بَعْدَ هَلَاكِهِ فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ حتى لو كان الْمُسْتَأْجَرُ عَبْدًا أو ثَوْبًا أو حُلِيًّا أو ظَرْفًا أو دَابَّةً مُعَيَّنَةً فَهَلَكَ أو هَلَكَ الثَّوْبُ الْمُسْتَأْجَرُ فيه لِلْخِيَاطَةِ أو لِلْقِصَارَةِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كانت الْإِجَارَةُ على دَوَابَّ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا فَسَلَّمَ إلَيْهِ دَوَابَّ فَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يَأْتِيَهُ بِغَيْرِ ذلك لِأَنَّهُ هَلَكَ ما لم يَقَعْ عليه الْعَقْدُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا لم تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَالْعَقْدُ يَقَعُ على مَنَافِعَ في الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا تُسَلَّمُ الْعَيْنُ لِيُقِيمَ مَنَافِعَهَا مَقَامَ ما في ذِمَّتِهِ فإذا هَلَكَ بَقِيَ ما في الذِّمَّةِ بِحَالِهِ فَكَانَ عليه أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهَا وقد ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ إشَارَةِ الرِّوَايَاتِ في الدَّارِ إذَا انْهَدَمَ كُلُّهَا أو انْقَطَعَ الْمَاءُ عن الرَّحَى أو الشُّرْبُ من الْأَرْضِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ أو يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى هذا أَيْضًا يُخَرَّجُ مَوْتُ الظِّئْرِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ بِهِ لِأَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ
وَمِنْهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ إلَّا لِعُذْرٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ إلَّا إذَا كان ثَمَّةَ عُذْرٌ بِأَنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وفي الْأَرْضِ زَرْعٌ لم يُسْتَحْصَدْ فإنه يُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ بِخِلَافِ ما إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وفي الْأَرْضِ رَطْبَةٌ أو غَرْسٌ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ لِأَنَّ في تَرْكِ الزَّرْعِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ وَالنَّظَرَ من الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ لِقَطْعِهِ غَايَةً مَعْلُومَةً فَأَمَّا الرَّطْبَةُ فَلَيْسَ لِقَطْعِهَا غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَوْ لم تُقْطَعْ لَتَعَطَّلَتْ الْأَرْضُ على صَاحِبِهَا فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَبِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا زَرَعَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ وَلَا يُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرٍ لِأَنَّ التَّرْكَ في الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عن الْمُسْتَأْجِرِ نَظَرٌ له وهو مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ لِأَنَّهُ زَرَعَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَأَمَّا الْغَاصِبُ فَظَالِمٌ مُتَعَدٍّ في الزَّرْعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ بِالتَّرْكِ مع ما أَنَّهُ هو الذي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ زَرَعَ أَرَاضِيَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ
وَمِنْهَا عَجْزُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ ما اسْتَأْجَرَ شيئا أَنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِجَارَةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ اُسْتُحِقَّتْ من كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَبِالْعَجْزِ يَبْطُلُ كَسْبُهُ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهَا من مَالِ الْمَوْلَى فَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ ما اسْتَأْجَرَ فَالْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ تَبْطُلُ وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْهِبَةِ في كَيْفِيَّةِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَسْبَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ عَجْزِهِ أَنَّ عِنْدَ أبي
____________________

(4/223)


يُوسُفَ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ مِلْكُهُ في الْحَقِيقَةِ على عَجْزِهِ أو عِتْقِهِ فَإِنْ عَجَزَ مَلَكَهُ الْمَوْلَى من الْأَصْلِ وَإِنْ عَتَقَ مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ من الْأَصْلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هو مِلْكُ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ إذَا عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى الْمَوْلَى كما يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ من الْمَيِّتِ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَمَّا وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى في الْكَسْبِ من حِينِ وُجُودِهِ صَارَ كَأَنَّ الْإِجَارَةَ وُجِدَتْ من الْمَوْلَى فَلَا تُنْتَقَضُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَلَمَّا كان الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فيه من طَرِيقِ الِانْتِقَالِ من الْمُكَاتَبِ عِنْدَ عَجْزِهِ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ صَارَ بِمَنْزِلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ من الْمَيِّت إلَى وَارِثِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْإِجَارَةِ كَذَا هذا
وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ في الْمُكَاتَبِ إذَا وُهِبَتْ له هِبَةٌ ثُمَّ عَجَزَ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَرْجِعُ وَسَنَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْهِبَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
____________________

(4/224)


يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ هذا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ صُورَةِ الِاسْتِصْنَاعِ وَمَعْنَاهُ وَإِلَى بَيَانِ جَوَازِهِ وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِهِ وَإِلَى بَيَانِ صِفَتِهِ
فَصْلٌ أَمَّا صُورَةُ الِاسْتِصْنَاعِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ إنْسَانٌ لِصَانِعٍ من خَفَّافٍ أو صَفَّارٍ أو غَيْرِهِمَا اعْمَلْ لي خُفًّا أو آنِيَةً من أَدِيمٍ أو نُحَاسٍ من عِنْدِك بِثَمَنِ كَذَا وَيُبَيِّنُ نَوْعَ ما يَعْمَلُ وَقَدْرَهُ وَصِفَتَهُ فيقول الصَّانِعُ نعم
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ هو مُوَاعَدَةٌ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ وقال بَعْضُهُمْ هو بَيْعٌ لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي فيه خِيَارٌ وهو الصَّحِيحُ بِدَلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ في جَوَازِهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ في الْعِدَاتِ وَكَذَا أَثْبَتَ فيه خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبِيَاعَاتِ وَكَذَا يَجْرِي فيه التَّقَاضِي وَإِنَّمَا يَتَقَاضَى فيه الْوَاجِبُ لَا الْمَوْعُودُ
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ عن هذا النَّوْعِ من الْبَيْعِ قال بَعْضُهُمْ هو عَقْدٌ على مَبِيعٍ في الذِّمَّةِ وقال بَعْضُهُمْ هو عَقْدٌ على مَبِيعٍ في الذِّمَّةِ شُرِطَ فيه الْعَمَلُ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الصَّانِعَ لو أَحْضَرَ عَيْنًا كان عَمِلَهَا قبل الْعَقْدِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ لَجَازَ وَلَوْ كان شَرْطُ الْعَمَلِ من نَفْسِ الْعَقْدِ لَمَا جَازَ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقَعُ على عَمَلٍ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا في الْمَاضِي
وَالصَّحِيحُ هو الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لِأَنَّ استصناع ( ( ( الاستصناع ) ) ) طَلَبُ الصُّنْعِ فما لم يُشْتَرَطْ فيه الْعَمَلُ لَا يَكُونُ اسْتِصْنَاعًا فَكَانَ مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلًا عليه وَلِأَنَّ الْعَقْدَ على مَبِيعٍ في الذِّمَّةِ يُسَمَّى سَلَمًا وَهَذَا الْعَقْدُ يُسَمَّى اسْتِصْنَاعًا وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي في الْأَصْلِ
وَأَمَّا إذَا أتى الصَّانِعُ بِعَيْنٍ صَنَعَهَا قبل الْعَقْدِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ فَإِنَّمَا جَازَ لَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَلْ بِعَقْدٍ آخَرَ وهو التَّعَاطِي بِتَرَاضِيهِمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا جَوَازُهُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا على وَجْهِ السَّلَمِ وقد نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِإِجْمَاعِ الناس على ذلك لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ
____________________

(5/2)


ذلك في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ نكير ( ( ( نكر ) ) ) وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على ضَلَالَةٍ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا تُرِكَ الْقِيَاسُ في دُخُولِ الْحَمَّامِ بِالْأَجْرِ من غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وَمِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يُسْتَعْمَلُ وفي قَطْعِهِ الشَّارِبَ لِلسِّقَاءِ من غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ الْمَشْرُوبِ وفي شِرَاءِ الْبَقْلِ وَهَذِهِ الْمُحَقَّرَاتُ كَذَا هذا وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَحْتَاجُ إلَى خُفٍّ أو نَعْلٍ من جِنْسٍ مَخْصُوصٍ وَنَوْعٍ مَخْصُوصٍ على قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مَصْنُوعًا فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَصْنِعَ فَلَوْ لم يَجُزْ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّهُ مَعْدُومٌ لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْمَوْجُودِ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَالْمُسْلَمِ فيه فلم يَكُنْ بَيْعَ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ على الْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّ فيه مَعْنَى عَقْدَيْنِ جَائِزَيْنِ وهو السَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ على مَبِيعٍ في الذِّمَّةِ وَاسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ يُشْتَرَطُ فيه الْعَمَلُ وما اشْتَمَلَ على مَعْنَى عَقْدَيْنِ جَائِزَيْنِ كان جَائِزًا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا بَيَانُ جِنْسِ الْمَصْنُوعِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فيه التَّعَامُلُ بين الناس من أَوَانِي الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ وَالْخِفَافِ وَالنِّعَالِ وَلُجُمِ الْحَدِيدِ لِلدَّوَابِّ وَنُصُولِ السُّيُوفِ وَالسَّكَاكِينِ وَالْقِسِيِّ وَالنَّبْلِ وَالسِّلَاحِ كُلِّهِ وَالطَّشْتِ وَالْقُمْقُمَةِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا يَجُوزُ في الثِّيَابِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُ وَإِنَّمَا جَوَازُهُ اسْتِحْسَانًا لِتَعَامُلِ الناس وَلَا تَعَامُلَ في الثِّيَابِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فيه أَجَلٌ فَإِنْ ضَرَبَ لِلِاسْتِصْنَاعِ أَجَلًا صَارَ سَلَمًا حتى يُعْتَبَرَ فيه شَرَائِطُ السَّلَمِ وهو قَبْضُ الْبَدَلِ في الْمَجْلِسِ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا سَلَّمَ الصَّانِعُ الْمَصْنُوعَ على الْوَجْهِ الذي شُرِطَ عليه في السَّلَمِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هذا ليس بِشَرْطٍ وهو اسْتِصْنَاعٌ على كل حَالٍ ضَرَبَ فيه أَجَلًا أو لم يَضْرِبْ وَلَوْ ضَرَبَ لِلِاسْتِصْنَاعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فيه الِاسْتِصْنَاعُ كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا أَجَلًا يَنْقَلِبُ سَلَمًا في قولهم ( ( ( قولهما ) ) ) جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِضَرْبِ الْأَجَلِ في الِاسْتِصْنَاعِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ لَا تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عن كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا أو يُقَالُ قد يُقْصَدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ وقد يُقْصَدُ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ فَلَا يَخْرُجُ الْعَقْدُ عن مَوْضُوعِهِ مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ مالا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ لِأَنَّ ما لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ لَا يُقْصَدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ فيه تَعْجِيلُ الْعَمَلِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ وَذَلِكَ بِالسَّلَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إذَا ضَرَبَ فيه أَجَلًا فَقَدْ أتى بِمَعْنَى السَّلَمِ إذْ هو عَقْدٌ على مَبِيعٍ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا وَالْعِبْرَةُ في الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا لِصُوَرِ الْأَلْفَاظِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَكَذَا الْإِجَارَةُ وَكَذَا النِّكَاحُ على أَصْلِنَا وَلِهَذَا صَارَ سَلَمًا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ كَذَا هذا وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا يَكُونُ في عَقْدٍ فيه مُطَالَبَةٌ وَلَيْسَ ذلك إلَّا السَّلَمُ إذْ لَا دَيْنَ في الِاسْتِصْنَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارَ الِامْتِنَاعِ من الْعَمَلِ قبل الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ إذَا صَارَ سَلَمًا يُرَاعَى فيه شَرَائِطُ السَّلَمِ فَإِنْ وُجِدَتْ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَصْنِعِ في الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ في الذِّمَّةِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلصَّانِعِ في الثَّمَنِ مِلْكًا غير لَازِمٍ على ما سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِصْنَاعِ فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ قبل الْعَمَلِ في الْجَانِبَيْنِ جميعا بِلَا خِلَافٍ حتى كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الِامْتِنَاعِ قبل الْعَمَلِ كَالْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فيه الْخِيَارُ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا قُلْنَا وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا لِتَعَامُلِ الناس فَبَقِيَ اللُّزُومُ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْعَمَلِ قبل أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ فَكَذَلِكَ حتى كان لِلصَّانِعِ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ شَاءَ كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعَقْدَ ما وَقَعَ على عَيْنِ الْمَعْمُولِ بَلْ على مِثْلِهِ في الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لو اشْتَرَى من مَكَان آخَرَ وسلم إلَيْهِ جَازَ وَلَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ وَأَرَادَ الْمُسْتَصْنِعُ أَنْ ينقض ( ( ( ينقص ) ) ) الْبَيْعَ ليس له ذلك وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ قبل الرُّؤْيَةِ فَهُوَ كَالْبَائِعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ قبل التَّسْلِيمِ كَذَا قال أبو يُوسُفَ فَأَمَّا إذَا أَحْضَرَ الصَّانِعُ الْعَيْنَ على الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَقَدْ سَقَطَ خِيَارُ الصَّانِعِ وَلِلْمُسْتَصْنِعِ الْخِيَارُ لِأَنَّ
____________________

(5/3)


الصَّانِعَ بَائِعٌ ما لم يَرَهُ فَلَا خِيَارَ له وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فمشترى ما لم يَرَهُ فَكَانَ له الْخِيَارُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه وَإِنْ كان مَعْدُومًا حَقِيقَةً فَقَدْ أُلْحِقَ بِالْمَوْجُودِ لِيُمْكِنَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ كان ثَابِتًا لَهُمَا قبل الْإِحْضَارِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فَالصَّانِعُ بِالْإِحْضَارِ أَسْقَطَ خِيَارَ نَفْسِهِ فَبَقِيَ خِيَارُ صَاحِبِهِ على حَالِهِ كَالْبَيْعِ الذي فيه شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ إذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَهُ إنه يَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ كَذَا هذا
هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا جميعا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الصَّانِعَ قد أَفْسَدَ مَتَاعَهُ وَقَطَعَ جِلْدَهُ وَجَاءَ بِالْعَمَلِ على الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ ( فَلَوْ كان لِلْمُسْتَصْنِعِ الِامْتِنَاعُ من أَخْذِهِ لَكَانَ فيه إضْرَارٌ بِالصَّانِعِ بِخِلَافِ ما إذَا قَطَعَ الْجِلْدَ ولم يَعْمَلْ فقال الْمُسْتَصْنِعُ لَا أُرِيدُ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْعَمَلَ يَقَعُ على الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ أو لا فلم يَكُنْ الِامْتِنَاعُ منه إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ فَثَبَتَ الْخِيَارُ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في تَخْيِيرِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ الضَّرَرِ عنه وإنه وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ في إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلصَّانِعِ ما شُرِعَ له الِاسْتِصْنَاعُ وهو دَفْعُ حَاجَةِ الْمُسْتَصْنِعِ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلصَّانِعِ فَكُلُّ ما فُرِّعَ عنه يَتْبَعُهُ من غَيْرِ الْمُسْتَصْنِعِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَةُ الْمُسْتَصْنِعِ
وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ أَنَّ الصَّانِعَ يَتَضَرَّرُ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ ضَرَرَ الْمُسْتَصْنِعِ بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ فَوْقَ ضَرَرِ الصَّانِعِ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ لِأَنَّ الْمَصْنُوعَ إذَا لم يُلَائِمْهُ وَطُولِبَ بِثَمَنِهِ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُ الْمَصْنُوعِ من غَيْرِهِ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ وَلَا يَتَعَذَّرُ ذلك على الصَّانِعِ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ وَانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ وَلِأَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ إذَا غَرِمَ ثَمَنَهُ ولم تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُ لم يَحْصُلْ ما شُرِعَ له الِاسْتِصْنَاعُ وهو انْدِفَاعُ حَاجَتِهِ فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِ الْخِيَارِ له وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَإِنْ سَلَّمَ إلَى حَدَّادٍ حَدِيدًا لِيَعْمَلَ له إنَاءً مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ أو جِلْدًا إلَى خَفَّافٍ لِيَعْمَلَ له خُفًّا مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ فيه لِأَنَّ هذا ليس بِاسْتِصْنَاعٍ بَلْ هو اسْتِئْجَارٌ فَكَانَ جَائِزًا فَإِنْ عَمِلَ كما أُمِرَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَإِنْ فسد ( ( ( أفسد ) ) ) فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ حَدِيدًا مثله لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْسَدَهُ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ حَدِيدًا له وَاِتَّخَذَ منه آنِيَةً من غَيْرِ إذْنِهِ وَالْإِنَاءُ لِلصَّانِعِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ
والله أعلم بالصواب
كِتَابُ الشُّفْعَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ وفي بَيَانِ ما يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَسْتَقِرُّ وفي بَيَانِ مايبطل بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ ما يُمْلَكُ بِهِ الْمَشْفُوعُ فيه وفي بَيَانِ طَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرْطِ التَّمَلُّكِ وفي بَيَانِ مايتملك بِهِ وفي بَيَانِ الْمُتَمَلِّكِ وفي بَيَانِ الْمُتَمَلَّكِ منه وفي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي وفي بَيَانِ الْحِيلَةِ في إبْطَالِ الشُّفْعَةِ وفي بَيَانِ أنها مَكْرُوهَةٌ أَمْ لَا
أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا في بَيَانِ مَاهِيَّةِ السَّبَبِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وجود ( ( ( وجوب ) ) ) الشُّفْعَةِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الشَّرِكَةُ في مِلْكِ الْمَبِيعِ وَالْخُلْطَةُ وَهِيَ الشَّرِكَةُ في حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْجِوَارُ وَإِنْ شِئْت قُلْتَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الشَّرِكَةُ وَالْجِوَارُ ثُمَّ الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ شَرِكَةٌ في مِلْكِ الْمَبِيعِ وَشَرِكَةٌ في حُقُوقِهِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وقال الشَّافِعِيُّ السَّبَبُ هو الشَّرِكَةُ في مِلْكِ الْمَبِيع لَا غَيْرُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ عِنْدَهُ بِالْخُلْطَةِ وَلَا بِالْجِوَارِ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إنَّمَا الشُّفْعَةُ في ما لم يُقْسَمْ فإذا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ فَصَدْرُ الحديث إثْبَاتُ الشُّفْعَةِ في غَيْرِ الْمَقْسُومِ وَنَفْيُهَا في الْمَقْسُومِ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ ما عَدَاهُ وَآخِرُهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَالْحُدُودُ بين الْجَارَيْنِ وَاقِعَةٌ وَالطُّرُقُ مَصْرُوفَةٌ فَكَانَتْ الشُّفْعَةُ مَنْفِيَّةً وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالِ الْمُشْتَرِي من غَيْرِ رِضَاهُ وَعِصْمَةُ مِلْكِهِ وَكَوْنُ التَّمَلُّكِ إضْرَارًا يَمْنَعُ من ذلك فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْأَخْذِ أَصْلًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ثُبُوتَهُ فِيمَا لم يُقْسَمْ بِالنَّصِّ غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ في الْمَقْسُومِ على الْأَصْلِ أو ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وهو ضَرَرُ الْقِسْمَةِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا لَازِمًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا
____________________

(5/4)


بِالشُّفْعَةِ فَأَمَّا ضَرَرُ الْجِوَارِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ هو مُمْكِنُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ وَالْمُقَابَلَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِهِ بِالشُّفْعَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ رسول اللَّهِ عن أَرْضٍ بِيعَتْ وَلَيْسَ لها شَرِيكٌ وَلَهَا جَارٌ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهَا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ وَالصَّقَبُ الْمُلَاصِقُ أَيْ أَحَقُّ بِمَا يَلِيهِ وَبِمَا يَقْرَبُ منه وَرُوِيَ الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِدَفْعِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ وَذَلِكَ مُتَوَقَّعُ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمُجَاوَرَةِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هُنَا دَلَالَةً وَتَعْلِيلُ النَّصِّ بِضَرَرِ الْقِسْمَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ بِضَرَرٍ بَلْ هِيَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَهِيَ ضَرَرٌ غَيْرُ وَاجِبِ الدَّفْعِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مَشْرُوعَةٌ وَلِهَذَا لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ في الْعُرُوضِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْقِسْمَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ يُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرَرِ بِالْمُقَابَلَةِ بِنَفْسِهِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى السُّلْطَانِ فَنَقُولُ وقد لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ وَلَوْ انْدَفَعَ فَالْمُقَابَلَةُ وَالْمُرَافَعَةُ في نَفْسِهَا ضَرَرٌ وَضَرَرُ الْجَارِ السُّوءِ يَكْثُرُ وُجُودُهُ في كل سَاعَةٍ فَيَبْقَى في ضَرَرٍ دَائِمٍ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ في صَدْرِهِ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عن الْمَقْسُومِ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لَا تَقْتَضِي نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَشَرًا مثله وَآخِرُهُ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّهُ عَلَّقَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُقُوطَ الشُّفْعَةِ بِشَرْطَيْنِ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يُتْرَكُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَعِنْدَهُ يَسْقُطُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وهو وُقُوعُ الْحُدُودِ وَإِنْ لم تُصْرَفْ الطُّرُقُ ثُمَّ هو مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ فإذا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَتَبَايَنَتْ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَتَبَاعَدَتْ فَلَا شُفْعَةَ أو لَا شُفْعَةَ مع وُجُودِ من لم يَنْفَصِلْ حَدُّهُ وَطَرِيقُهُ فَلَا شُفْعَةَ بِالْقِسْمَةِ كما لَا شُفْعَةَ بِالرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ في الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَكَانَ مَوْضِعَ الْإِشْكَالِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِيَزُولَ الْإِشْكَالُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ السَّبَبِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا يَعُمُّ حَالَ انْفِرَادِ الْأَسْبَابِ وَاجْتِمَاعِهَا
وَالثَّانِي يَخُصُّ حال ( ( ( حالة ) ) ) الِاجْتِمَاعِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْحَالَيْنِ جميعا فَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ لَا قَدْرُهَا وَأَصْلُ الْجِوَارِ لَا قَدْرُهُ حتى لو كان لِلدَّارِ شَرِيكٌ وَاحِدٌ أو جَارٌ وَاحِدٌ أَخَذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ كَثُرَ شَرِكَتُهُ وَجِوَارُهُ أو قَلَّ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في قِسْمَةِ الشُّفْعَةِ بين الشُّرَكَاءِ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وهو الشَّرِكَةُ أو الْجِوَارُ أنها تُقَسَّمُ على عَدَدِ الرؤوس لَا على قَدْرِ الشَّرِكَةِ وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ على قَدْرِ الشَّرِكَةِ في مِلْكِ الْمَبِيعِ حتى لو كانت الدَّارُ بين ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَلِآخَرِ سُدُسُهَا فَبَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ كانت الشُّفْعَةُ بين الْبَاقِينَ نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا على عَدَدِ الرؤس وَعِنْدَهُ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ على قَدْرِ الشَّرِكَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ من حُقُوقِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ في مَوْضِعِ الشَّرِكَةِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ وقد اسْتَوَيَا فيه فَيَسْتَوِيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ السَّبَبَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كان وَاحِدًا يَأْخُذُ كُلَّ الدَّارِ
____________________

(5/5)


بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ كان السَّبَبُ قَدْرَ الشَّرِكَةِ لَتَقَدَّرَ حَقُّ الْأَخْذِ بِقَدْرِهَا
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِدَفْعِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ وَالضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِأَخْذِ كل الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ فَدَلَّ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ في الشَّرِكَةِ هو أَصْلُ الشَّرِكَةِ وقد اسْتَوَيَا فيه فَبَعْدَ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الْكُلَّ دُونَ صَاحِبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكُلَّ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من صَاحِبِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ تَمَلُّكِ دَارٍ وَاحِدَةٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على الْكَمَالِ فَتُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِكَمَالِ السَّبَبِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ فإن من هَلَكَ عن ابْنَيْنِ كان مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ بُنُوَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ كل الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ في مَالٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ لِتَضَايُقِ الْمَحَلِّ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا فَكَذَا هذا
وَكَذَلِكَ إذَا كان لِدَارٍ واحد ( ( ( واحدة ) ) ) شَفِيعَانِ جَارَانِ جِوَارُهُمَا على التَّفَاوُتِ بِأَنْ كان جِوَارُ أَحَدِهِمَا بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدَّارِ وَجِوَارُ الْآخَرِ لِسُدُسِهَا كانت الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو أَصْلُ الْجِوَارِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا كان لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَأَسْقَطَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْكُلِّ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الْقِسْمَةُ لِلتَّزَاحُمِ وَالتَّعَارُضِ على ما بَيَّنَّا فإذا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا زَالَ التَّزَاحُمُ وَالتَّعَارُضُ فَظَهَرَ حَقُّ الْآخَرِ في الْكُلِّ فَيَأْخُذَ الْكُلَّ
وَكَذَلِكَ لو كان الشُّفَعَاءُ جَمَاعَةً فَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَأْخُذُوا الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الدار ( ( ( للدار ) ) ) شَفِيعَانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ فللحاضران ( ( ( فللحاضر ) ) ) أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ على الْكَمَالِ وُجِدَ في حَقِّهِ وقد تَأَكَّدَ حَقُّهُ بِالطَّلَبِ ولم يُعْرَفْ تَأَكُّدُ حَقِّ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَطْلُبَ أو يُعْرِضَ فلم يَقَعْ التَّعَارُضُ وَالتَّزَاحُمُ فَلَا يَمْنَعُ الْحَاضِرَ من اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ الثَّابِتِ الْمُتَأَكِّدِ بِحَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَكُّدَ وَالْعَدَمَ بَلْ يقضي له بِالْكُلِّ عَمَلًا بِكَمَالِ السَّبَبِ من غَيْرِ تَعَارُضٍ بِخِلَافِ ما إذَا كان لِرَجُلَيْنِ على رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَلَكَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَدُ صَاحِبَيْ الدِّينِ غَائِبٌ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ إلَى الْحَاضِرِ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي حَقَّ الْآخَرِ في التَّأَكُّدِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا على السَّوِيَّةِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّزَاحُمِ
وَكَذَلِكَ لو كان لِلدَّارِ شُفَعَاءُ بَعْضُهُمْ غَائِبٌ وَبَعْضُهُمْ حَاضِرٌ يقضي بِالدَّارِ بين الْحُضُورِ على عَدَدِ رؤسهم لِمَا قُلْنَا وَلَوْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ لِبَعْضٍ لم يَصِحَّ جَعْلُهُ في حَقِّ غَيْرِهِ وَسَقَطَ حَقُّ الْجَاعِلِ وَقُسِّمَتْ على عَدَدِ رؤوس من بَقِيَ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ لِأَنَّهُ ليس بِأَمْرٍ ثَابِتٍ في الْمَحَلِّ فَبَطَلَ الْجَعْلُ في حَقِّ غَيْرِهِ وَسَقَطَ حَقُّهُ لِكَوْنِ الْجَعْلِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَبَقِي كُلُّ الدَّارِ بين الْبَاقِينَ فَيُقَسِّمُونَهَا على عَدَدِ الرؤس لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ كان أَحَدُهُمْ حَاضِرًا فَقُضِيَ له بِكُلِّ الدَّارِ ثُمَّ جاء آخَرُ يقضي له بِنِصْفِ ما في يَدِ الْحَاضِرِ فَإِنْ جاء ثَالِثٌ يقضي له بِثُلُثِ ما في يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّزَاحُم لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في سَبَبِ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَتَأَكُّدِهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ على السَّوِيَّةِ
وَلَوْ أَخَذَ الْحَاضِرُ الْكُلَّ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ فقال له الْحَاضِرُ أنا أُسَلِّمُ لَك الْكُلَّ فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ أو تَدَعَ فَلَيْسَ له ذلك وَلِلَّذِي قَدِمَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى لِلْحَاضِرِ بِكُلِّ الدَّارِ تَضَمَّنَ قَضَاؤُهُ بُطْلَانَ حَقِّ الْغَائِبِ عن النِّصْفِ وَصَارَ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عليه في ضِمْنِ الْقَضَاءِ لِلْحَاضِرِ بِالْكُلِّ فَبَعُدَ ذلك وَإِنْ بَطَلَ الْقَضَاءُ لَكِنَّ الْحَقَّ بَعْدَمَا بَطَلَ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ وَلَوْ قَضَى بِالدَّارِ لِلْحَاضِرِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ إلَّا نِصْفَ الدَّارِ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَسَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَضَى الْقَاضِي لِلْحَاضِرِ بِكُلِّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّ الْغَائِبِ عن النِّصْفِ وَصَارَ هو مَقْضِيًّا عليه ضَرُورَةَ الْقَضَاءِ على الْمُشْتَرِي فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ في هذا النِّصْفِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَطَلَ حَقُّهُ في النِّصْفِ بِالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالشُّفْعَةِ لم يَكُنْ وَكَذَا يَسْتَوِي فيه الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَرَادَ الْغَائِبُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ بِرَدِّ الْحَاضِرِ بِالْعَيْبِ وَيَدَعَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ يَنْظُرُ إنْ كان الرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَهُ ذلك لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ مُطْلَقٌ فَكَانَ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ الشُّفْعَةِ فَيَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ كما يَأْخُذُ بِالْبَيْعِ المبتدأ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَأَطْلَقَ الْجَوَابَ ولم يُفَصِّلْ بَيْنَمَا إذَا كان الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ من مَشَايِخِنَا من قال ما ذُكِرَ من الْجَوَابِ مَحْمُولٌ على ما بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الرَّدَّ قبل الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ على أَصْلِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُف رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَمِنْهُمْ من قال يَسْتَقِيمُ على مَذْهَبِ الْكُلِّ لِأَنَّ رِضَا الشَّفِيعِ هَهُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا في التَّمْلِيكِ فَكَانَ رِضَاهُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ كان بِقَضَاءٍ فَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مُطْلَقٌ وَرَفْعُ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ
وَلَوْ أطلع الْحَاضِرُ على عَيْبٍ قبل أَنْ يقضي له بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لم يَقْضِ بِالشُّفْعَةِ لِلْحَاضِرِ لم يَبْطُلْ حَقُّ الْغَائِبِ بَلْ بقى في كل الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ لِمُزَاحَمَةِ الْحَاضِرِ في الْكُلِّ وَبِالتَّسْلِيمِ زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَظَهَرَ حَقُّ الْغَائِبِ في كل الدَّارِ
وَلَوْ رَدَّ الْحَاضِرُ الدَّارَ بِالْعَيْبِ بعدما قضى له بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ حَضَرَ شَفِيعَانِ أَخَذَا ثُلُثَيْ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ وَالْحُكْمُ في الإثنين وَالثَّلَاثِ سَوَاءٌ يَسْقُطُ حَقُّ الْغَائِبِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْحَاضِرِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لو كان الشَّفِيعُ الْحَاضِرُ اشْتَرَى الدَّارَ من الْمُشْتَرِي ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهَا بِالْبَيْعِ
____________________

(5/6)


الثَّانِي أَمَّا الْأَخْذُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ في الشُّفْعَةِ قد بَطَلَ بِالشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي لِكَوْنِ الشِّرَاءِ منه دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَزَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِسْمَةِ فَبَقِيَ حَقُّ الْغَائِبِ في كل الدَّارِ فَيَأْخُذُ الْكُلَّ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ بِخِلَافِ الشَّفِيعِ إذَا اشْتَرَى الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ من صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ بِالْإِقْدَامِ على الشِّرَاءِ وَلَا حَقَّ له قبل الشِّرَاءِ لِيَبْطُلَ بِهِ
وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وُجِدَ وَلَا حَقَّ لِلْحَاضِرِ في الشُّفْعَةِ لِصَيْرُورَتِهِ مُعْرِضًا بِالشِّرَاءِ فَيَظْهَرُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالْكُلِّ وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ شَفِيعًا لِلدَّارِ فَاشْتَرَاهَا الشَّفِيعُ الْحَاضِرُ منه ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي
أَمَّا أَخْذُ النِّصْفِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ لم يَثْبُتْ له حَقٌّ قبل الشِّرَاءِ حتى يَكُونَ بِشِرَائِهِ مُعْرِضًا عنه فإذا بَاعَهُ من الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ لم يَثْبُتْ لِلْغَائِبِ إلَّا مِقْدَارُ ما كان يَخُصُّهُ بِالْمُزَاحَمَةِ مع الْأَوَّلِ وهو النِّصْفُ
وَأَمَّا أَخْذُ الْكُلِّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي فَلِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِلْكُلِّ في الدَّارِ وقد بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ بِالشِّرَاءِ لِكَوْنِ الشِّرَاءِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَبَقِيَ حَقُّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْغَائِبِ في كل الدَّارِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِلتَّزَاحُمِ فَيَأْخُذُ الْغَائِبُ نِصْفَ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الْعَقْدِ الثَّانِي أَوْجَبَ لِلشَّفِيعِ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثُمَّ بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ عِنْدَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ولم يَتَعَلَّقْ بِإِقْدَامِهِ على الشِّرَاءِ الثَّانِي بِعَقْدِهِ حَقٌّ لِإِعْرَاضِهِ فَكَانَ لِلْغَائِبِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ فَبَاعَهَا من أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ عِنْدَ كل وَاحِدٍ من الْبَيْعَيْنِ فَكَانَ له الْخِيَارُ فَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْعُهْدَةُ عليه وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ الثَّانِي وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي من الْأَوَّلِ وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي تَمَّ الْبَيْعَانِ جميعا وَالْعُهْدَةُ على الثَّانِي غير أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ وَالدَّارُ في يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ حَاضِرًا أو غَائِبًا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ له ذلك حتى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَالثَّانِي هَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ عليه الرَّحْمَةُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ ولم يَحْكِ خِلَافًا
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَضْرَةُ الْأَوَّلِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ من الذي في يَدِهِ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَيُقَالُ له اتْبَعْ الْأَوَّلَ وَخُذْ منه أَلْفًا وَإِنْ كان الثَّانِي اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يُؤْخَذُ منه وَيَدْفَعُ إلَيْهِ أَلْفًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الدَّارِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِاسْتِيفَائِهِ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَخْذَ من غَيْرِ حَضْرَةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ على الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ على ما نَذْكُرهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقَوْلُهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ لَا حَقَّ في الْعَيْنِ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ حَقُّ التَّمْلِيكِ على الْمُشْتَرِي فَلَا بُدَّ من حَضْرَتِهِ وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي بَاعَ نِصْفَ الدَّارِ ولم يَبِعْ جَمِيعَهَا فَجَاءَ الشَّفِيعُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَخَذَ جَمِيعَ الدَّارِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في النِّصْفِ الثَّانِي من الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْجَمِيعِ وَشَرْطَهُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فإذا أَخَذَ الْكُلَّ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ في النِّصْفِ الثَّانِي من الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ على حَقِّ الشَّفِيعِ في قَدْرِ النِّصْفِ
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَلَهُ ذلك
لِأَنَّ شَرْطَ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الْبَيْعُ وُجِدَ في النِّصْفِ وَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ في النِّصْفِ الذي في يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي لم يَبِعْ الدَّارَ وَلَكِنَّهُ وَهَبَهَا من رَجُلٍ أو تَصَدَّقَ بها على رَجُلٍ وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ له أو الْمُتَصَدَّقُ عليه ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ له حَاضِرَانِ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ لَا بِالْهِبَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَقْدِ مُعَاوَضَةً من شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ على ما نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا بُدَّ من حَضْرَةِ الْمُشْتَرِي حتى لو حَضَرَ الشَّفِيعُ وَوَجَدَ الْمَوْهُوبَ له فَلَا خُصُومَةَ معه حتى يَجِدَ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَالثَّمَنُ لَلْمُشْتَرِي وَتَبْطُلُ الْهِبَةُ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي من غَيْرِ خِلَافٍ
وَأَمَّا الْكَرْخِيُّ فَقَدْ جَعَلَهُ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الذي في يَدِهِ الدَّارُ وهو الْمَوْهُوب له
____________________

(5/7)


لم يَكُنْ خَصْمًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ خَصْمًا كما في الْبَيْعِ وَلَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الدَّارِ مَقْسُومًا وَسَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ له ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ليس له ذلك وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ جَمِيعَ الدَّارِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أو يَدَعُ لِأَنَّ في أَخْذِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي وإذا أَخَذَ الْكُلَّ بَطَلَتْ الْهِبَةُ وكان الثَّمَنُ كُلُّهُ لَلْمُشْتَرِي لَا لِلْمَوْهُوبِ له
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ فَعَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ الثَّانِي ولم يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَأَخَذَهَا بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ كان بِأَلْفٍ فَلَيْسَ له أَنْ يَنْقُضَ أَخْذَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَقُّ التَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له لَا يُتَصَوَّرُ فَسَقَطَ حَقُّهُ في الشُّفْعَةِ في الْبَيْعِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له وَالثَّابِتُ ضَرُورَةً يَسْتَوِي فيه الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ
فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ ثُمَّ زَادَهُ في الثَّمَنِ أَلْفًا فَعَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْأَلْفَيْنِ ولم يَعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَ زِيَادَةٌ فَأَخَذَهَا بِأَلْفَيْنِ فإذا أَخَذَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَبْطَلَ الْقَاضِي الزِّيَادَةَ وَقَضَى له بِالْأَلْفِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ شَرْعًا في حَقِّ الشَّفِيعِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالزِّيَادَةِ قَضَاءً بِمَا ليس بِثَابِتٍ فَيُبْطِلُهَا الْقَاضِي وَإِنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَيْسَ له أَنْ يَنْقُضَ أَخْذَهُ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءٍ مبتدأ فَسَقَطَ حَقُّهُ في الشُّفْعَةِ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي حين اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ نَاقَضَهُ الْبَيْعَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ فَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِأَلْفَيْنِ ولم يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ لم يَكُنْ له أَنْ يَنْقُضَهُ سَوَاءٌ كان بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بَيْعَانِ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِمَا فإذا أَخَذَ بِأَحَدِهِمَا انْتَقَضَ الْآخَرُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وإذا كان لِلدَّارِ جَارَانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرُ حَاضِرٌ فَخَاصَمَ الْحَاضِرُ إلَى قَاضٍ لَا يَرَى الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ فَأَبْطَلَ شُفْعَتَهُ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَخَاصَمَهُ إلَى قَاضٍ يَرَى الشُّفْعَةَ قَضَى له بِجَمِيعِ الدَّارِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ صادفت ( ( ( صادف ) ) ) مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ وَبَطَلَتْ شُفْعَةُ الْحَاضِرِ فبقى حَقُّ الْغَائِبِ في كل الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ فَيَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ كان الْقَاضِي الْأَوَّلُ قال أَبْطَلْتُ كُلَّ الشُّفْعَةِ التي تَتَعَلَّقُ بهذا الْبَيْعِ لم تَبْطُلْ شُفْعَةُ الْغَائِبِ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وهو صَحِيحٌ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ على الْغَائِبِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إذَا اجْتَمَعَتْ يُرَاعَى فيها التَّرْتِيبُ فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى فَيُقَدَّمُ الشَّرِيكُ على الْخَلِيطِ وَالْخَلِيطُ على الْجَارِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الشَّرِيكُ أَحَقُّ من الْخَلِيطِ وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ من غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ في ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هو دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَأَذَاهُ وَسَبَبُ وُصُولِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى هو الِاتِّصَالُ وَالِاتِّصَالُ على هذه الْمَرَاتِبِ فَالِاتِّصَالُ بِالشَّرِكَةِ في عَيْنِ الْمَبِيعِ أَقْوَى من الِاتِّصَالِ بِالْخَلْطِ وَالِاتِّصَالُ بِالْخَلْطِ أَقْوَى من الِاتِّصَالِ بِالْجِوَارِ وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ وَجَبَتْ لِلْخَلِيطِ
وَإِنْ اجْتَمَعَ خَلِيطَانِ يُقَدَّمُ الْأَخَصُّ على الْأَعَمِّ وَإِنْ سَلَّمَ الْخَلِيطُ وَجَبَتْ لِلْجَارِ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُف أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ الْبَيْعِ كان لِلشَّرِيكِ لَا لِغَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ فإذا سَلَّمَ سَقَطَ الْحَقُّ أَصْلًا وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ سَبَبٌ صَالِحٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْبَعْضُ على الْبَعْضِ لِقُوَّةٍ في التَّأْثِيرِ على ما بَيَّنَّا فإذا سَلَّمَ الشَّرِيكُ الْتَحَقَتْ شَرِكَتُهُ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا لم تَكُنْ فَيُرَاعَى التَّرْتِيبُ في الْبَاقِي كما لو اجْتَمَعَتْ الْخُلْطَةُ وَالْجِوَارُ ابْتِدَاءً
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ دَارٌ بين رَجُلَيْنِ في سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ طَرِيقُهَا من هذه السِّكَّةِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَالشُّفْعَةُ لشريكة لِأَنَّ شريكته ( ( ( شركته ) ) ) في عَيْنِ الدَّارِ وَشَرِكَةَ أَهْلِ السِّكَّةِ في الْحُقُوقِ فَكَانَ الشَّرِيكُ في عَيْنِ الدَّارِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ فإذا سَلَّمَ فَالشُّفْعَةُ لِأَهْلِ السِّكَّةِ كُلِّهِمْ يَسْتَوِي فيه الْمُلَاصِقُ وَغَيْرُ الْمُلَاصِقِ لِأَنَّهُمْ كلهم خُلَطَاءُ في الطَّرِيقِ فَإِنْ سَلَّمُوا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ افذة ( ( ( الملاصق ) ) ) طريقها ( ( ( وعلى ) ) ) من هذه السِّكَّةِ باع أحدهما نصيبه فالشفعة لشريكة لأن شريكته في عين الدار وشركة أهل السكة في ( ( ( سكة ) ) ) الحقوق ( ( ( أخرى ) ) ) فكان الشريك ( ( ( نافذة ) ) ) في ( ( ( فبيعت ) ) ) عين ( ( ( دار ) ) ) الدار ( ( ( فيها ) ) ) أولى بالشفعة فإذا سلم فَالشُّفْعَةُ لِأَهْلِ السِّكَّةِ كلهم ( ( ( خاصة ) ) ) يستوي فيه ( ( ( خلطة ) ) ) الملاصق ( ( ( أهل ) ) ) وغير ( ( ( هذه ) ) ) الملاصق ( ( ( السكة ) ) ) لأنهم ( ( ( السفلى ) ) ) كلهم ( ( ( أخص ) ) ) خلطاء في الطريق ( ( ( السكة ) ) ) فإن ( ( ( العليا ) ) ) سلموا ( ( ( استوى ) ) ) فالشفعة للجار ( ( ( شفعتها ) ) ) فعتها أَهْلُ السِّكَّةِ الْعُلْيَا وَأَهْلُ السِّكَّةِ السُّفْلَى لِأَنَّ خُلْطَتَهُمْ في السِّكَّةِ الْعُلْيَا سَوَاءٌ فَيَسْتَوُونَ في الِاسْتِحْقَاقِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَهْلُ الدَّرْبِ يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ بِالطَّرِيقِ إذَا كان مِلْكَهُمْ أو كان فاء ( ( ( فناء ) ) ) غير مَمْلُوكٍ أَمَّا إذَا كان مِلْكًا لهم فَظَاهِرٌ
____________________

(5/8)


لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ في الطَّرِيقِ وَأَمَّا إذَا كان فِنَاءً غير مَمْلُوكٍ فَلِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ من غَيْرِهِمْ فَكَانَ في مَعْنَى الْمَمْلُوكِ وان كانت السِّكَّةُ نَافِذَةً فَبِيعَتْ دَارٌ فيها فَلَا شُفْعَةَ إلَّا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْعَامَّةَ إبَاحَةٌ مَعْنًى لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان مَمْلُوكًا فَهُوَ في حُكْمِ غَيْرِ النَّافِذِ وَالطَّرِيقُ النَّافِذُ الذي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ مالا يَمْلِكُ أَهْلُهُ سَدَّهُ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُ عَامَّةً فَيُشْبِهُ الْإِبَاحَةَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ النَّهْرُ إذَا كان صَغِيرًا يُسْقَى منه أَرَاضِي مَعْدُودَةٌ أو كُرُومٌ مَعْدُودَةٌ فَبِيعَ أَرْضٌ منها أو كَرْمٌ إن الشُّرَكَاءَ في النَّهْرِ كُلَّهُمْ شُفَعَاءُ يَسْتَوِي الْمُلَاصِقُ وَغَيْرُ الْمُلَاصِقِ لِاسْتِوَائِهِمْ في الْخُلْطَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ في الشُّرْبِ وَإِنْ كان النَّهْرُ كَبِيرًا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ بِمَنْزِلَةِ الشَّوَارِعِ
وَاخْتُلِفَ في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كان تَجْرِي فيه السُّفُنُ فَهُوَ كَبِيرٌ وَإِنْ كان لَا تَجْرِي فَهُوَ صَغِيرٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحُدَّ هذا بِحَدٍّ هو عِنْدِي على ما أَرَى حين يَقَعُ ذلك
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كان يُسْقَى منه مَرَاحَانِ أو ثَلَاثَةٌ أو بُسْتَانَانِ أو ثَلَاثَةٌ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ وما زَادَ على ذلك فَلَا كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رضي اللَّهُ عنه الِاخْتِلَافَ بين أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي لم يذكر خِلَافَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قال بَعْضُهُمْ إنْ كان شُرَكَاءُ النَّهْرِ بِحَيْثُ يُحْصَوْنَ فَهُوَ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ كَبِيرٌ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كَانُوا مِائَةً فما دُونَهُمْ فَهُوَ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من مِائَةٍ فَهُوَ كَبِيرٌ وقال بَعْضُهُمْ هو مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فَإِنْ رَآهُ صَغِيرًا قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِأَهْلِهِ وَإِنْ رَآهُ كَبِيرًا قَضَى بها لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ
وَلَوْ نَزَعَ من هذا النَّهْرِ نَهْرٌ آخَرُ فيه أَرْضُونَ أو بَسَاتِينُ وَكُرُومٌ فَبِيعَ أَرْضٌ أو بُسْتَانٌ شُرْبُهُ من هذا النَّهْرِ النَّازِعِ فَأَهْلُ هذا النَّهْرِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ من أَهْلِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِشُرْبِ النَّهْرِ النَّازِعِ فَكَانُوا أَوْلَى كما في السِّكَّةِ المتشعبة ( ( ( المنشعبة ) ) ) من سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَلَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ على النَّهْرِ الْكَبِيرِ كان أَهْلُهُ وَأَهْلُ النَّهْرِ النَّازِعِ في الشُّفْعَةِ سَوَاءً لِاسْتِوَائِهِمْ في الشُّرْبِ
قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَرَاحٍ وَاحِدٍ في وَسَطِ سَاقِيَةٍ جَارِيَةٍ شُرْبُ هذا الْقَرَاحِ منها من الْجَانِبَيْنِ فَبِيعَ الْقَرَاحُ فَجَاءَ شَفِيعَانِ أَحَدُهُمَا يَلِي هذه النَّاحِيَةَ في الْقَرَاحِ وَالْآخَرُ يَلِي الْجَانِبَ الْآخَرَ قال هُمَا شَفِيعَانِ في الْقَرَاحِ وَلَيْسَتْ السَّاقِيَةُ بِحَائِلَةٍ لِأَنَّ السَّاقِيَةَ من حُقُوقِ هذا الْقَرَاحِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا كَالْحَائِطِ الْمُمْتَدِّ وَلَوْ كانت هذه السَّاقِيَةُ بِجِوَارِ الْقَرَاحِ وَيَشْرَبُ منها أَلْفُ جَرِيبٍ من هذا الْقَرَاحِ فَأَصْحَابُ السَّاقِيَةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ من الْجَارِ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ في الشُّرْبِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال في دَارٍ بين رَجُلَيْنِ وَلِرَجُلٍ فيها طَرِيقٌ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من الدَّارِ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ من صَاحِبِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ في عَيْنِ الْعَقَارِ أَحَقُّ من الْخَلِيطِ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت الدَّارُ بين رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا حَائِطٌ بِأَرْضِهِ في الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الذي له شَرِكَةٌ في الْحَائِطِ نَصِيبَهُ من الدَّارِ وَالْحَائِطِ فَالشَّرِيكُ في الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ وَالشَّرِيكُ في الْحَائِطِ أَوْلَى بِالْحَائِطِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ في الْحَائِطِ ليس بِشَرِيكٍ في الدَّارِ بَلْ هو جَارٌ لِبَقِيَّةِ الدَّارِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ وَكَذَلِكَ دَارٌ بين رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا بِئْرٌ في الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الذي له شَرِكَةٌ في الْبِئْرِ نَصِيبَهُ من الدَّارِ وَالْبِئْرِ فَالشَّرِيكُ في الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ وَالشَّرِيكُ في الْبِئْرِ أَحَقُّ بِالْبِئْرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَ في الْبِئْرِ جَارٌ لِبَقِيَّةِ الدَّارِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ
وَكَذَلِكَ سُفْلٌ بين رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عُلُوٌّ عليه بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الذي له نَصِيبٌ في السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ نَصِيبَهُ فَلِشَرِيكِهِ في السُّفْلِ الشُّفْعَةُ في السُّفْلِ وَلِشَرِيكِهِ في الْعُلُوِّ الشُّفْعَةُ في الْعُلُوِّ وَلَا شُفْعَةَ لِشَرِيكِهِ في السُّفْلِ في الْعُلُوِّ وَلَا لِشَرِيكِهِ في الْعُلُوِّ في السُّفْلِ لِأَنَّ شَرِيكَهُ في السُّفْلِ جَارُ الْعُلُوِّ وَشَرِيكُهُ في حُقُوقِ الْعُلُوِّ وَإِنْ كان طَرِيقُ الْعُلُوِّ فيه ليس بِشَرِيكٍ له في الْعُلُوِّ وَالشَّرِيكُ في عَيْنِ الْبُقْعَةِ أو ما هو في مَعْنَى الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ وَالشَّرِيكُ في الْحُقُوقِ وَشَرِيكُهُ في الْعُلُوِّ جَارٌ لِلسُّفْلِ أو شَرِيكُهُ في الْحُقُوقِ إذَا كان طَرِيقُ الْعُلُوِّ في تِلْكَ الدَّارِ وَلَا شَرِكَةَ له في عَيْنِ الْبُقْعَةِ فَكَانَ الشَّرِيكُ في عَيْنِ الْبُقْعَةِ أَوْلَى
وَلَوْ كان لِرَجُلٍ عُلُوٌّ على دَارٍ وَطَرِيقُهُ فيها وَبَقِيَّةُ الدَّارِ لِآخَرَ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ الْعُلُوَّ بِطَرِيقِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ في الْعُلُوِّ وفي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ من شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا وَالْعُلُوُّ
____________________

(5/9)


مَنْقُولٌ فَلَا تَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ كما لَا تَجِبُ في سَائِرِ الْمَنْقُولَات
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُلُوَّ في مَعْنَى الْعَقَارِ لِأَنَّ حَقَّ الْبِنَاءِ على السُّفْلِ حَقٌّ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ الذي لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَقَارِ فيعطي حُكْمُهُ وَلَوْ كان طَرِيقُ هذا الْعُلُوِّ في دَارِ رَجُلٍ آخَرَ فَبِيعَ الْعُلُوُّ فَصَاحِبُ الدَّارِ التي فيها الطَّرِيقُ أَوْلَى بِشُفْعَةِ الْعُلُوِّ من صَاحِبِ الدَّارِ التي عليها الْعُلُوُّ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ التي فيها الطَّرِيقُ شَرِيكٌ في الْحُقُوقِ وَصَاحِبُ الدَّارِ التي عليها الْعُلُوُّ جَارٌ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ فَإِنْ سَلَّمَ صَاحِبُ الطَّرِيقِ الشُّفْعَةَ فَإِنْ لم يَكُنْ لِلْعُلُوِّ جَارٌ مُلَاصِقٌ أَخَذَهُ صَاحِبُ الدَّارِ التي عليها الْعُلُوُّ بِالْجِوَارِ لِأَنَّهُ جَارُهُ وَإِنْ كان لِلْعُلُوِّ جَارٌ مُلَاصِقٌ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ مع صَاحِبِ السُّفْلِ لَأَنَّهُمَا جَارَانِ وَإِنْ لم يَكُنْ جَارُ الْعُلُوِّ مُلَاصِقًا وَبَيْنَ الْعُلُوِّ وَبَيْنَ مَسْكَنِهِ طَائِفَةٌ من الدَّارِ فَلَا شُفْعَةَ له لِأَنَّهُ ليس بِجَارٍ
وَلَوْ بَاعَ صَاحِبُ السُّفْلِ السُّفْلَ كان صَاحِبُ الْعُلُوِّ شَفِيعًا لِأَنَّهُ جَارُهُ وَلَيْسَ شَرِيكَهُ وهو كَدَارَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ لِأَحَدِهِمَا خَشَبٌ على حَائِطِ الْآخَرِ إن صَاحِبَ الْخَشَبِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْجِوَارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْخَشَبِ شيئا وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ التي فيها طَرِيقُ الْعُلُوِّ فَصَاحِبُ الْعُلُوِّ أَوْلَى بِشُفْعَةِ الدَّارِ من الْجَارِ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ في الْحُقُوقِ فَكَانَ مُقَدَّمًا على الْجَارِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال في بَيْتٍ عليه غُرْفَتَانِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى وَلِكُلِّ غُرْفَةٍ طَرِيقٌ في دَارٍ أُخْرَى وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ في الطَّرِيقِ فَبَاعَ صَاحِبُ الْبَيْتِ الْأَوْسَطِ بَيْتَهُ وسلم صَاحِبُ الطَّرِيقِ فَالشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ وَلِصَاحِبِ السُّفْلِ جميعا لِاسْتِوَائِهِمَا في الجاور ( ( ( الجوار ) ) ) فَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ كانت الشُّفْعَةُ لِلْأَوْسَطِ دُونَ الْأَسْفَلِ لِأَنَّ الْجِوَارَ له لَا لِلْأَسْفَلِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال في دَارٍ فيها مَسِيلُ مَاءٍ لِرَجُلٍ آخَرَ فَبِيعَتْ الدَّارُ كانت له الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ لَا بِالشَّرِكَةِ وَلَيْسَ الْمَسِيلُ كَالشُّرْبِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَسِيلِ مُخْتَصٌّ بِمَسِيلِ الْمَاءِ لَا شَرِكَةَ لِلْآخَرِ فيه فَصَارَ كَحَائِطٍ لِصَاحِبِ إحْدَى الدَّارَيْنِ في الْأُخْرَى وَلَوْ أَنَّ حَائِطًا بين دَارَيْ رَجُلَيْنِ وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا فَصَاحِبُ الشِّرْكِ في الْحَائِطِ أَوْلَى بِالْحَائِطِ من الْجَارِ وَبَقِيَّةُ الدَّارِ يَأْخُذُهَا بِالْجِوَارِ مع الْجَارِ بَيْنَهُمَا هَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُف وَزُفَرَ رحمها ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الشَّرِيكَ في الْحَائِطِ أَوْلَى بِجَمِيعِ الدَّارِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّرِيكَ في الْحَائِطِ شَرِيكٌ في بَعْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ أَوْلَى من الْجَارِ الذي لَا شَرِكَةَ له كَالشَّرِيكِ في الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الشَّرِيكَ في الْحَائِطِ شَرِيكٌ لَكِنْ في بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ ما تَحْتَ الْحَائِطِ لَا في بَقِيَّةِ الدَّارِ بَلْ هو جَارٌ في بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ أَوْلَى بِمَا هو شَرِيكٌ فيه وَبَقِيَّةُ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَارِ الْآخَرِ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْجِوَارِ وَكَذَلِكَ الدَّارُ لِرَجُلٍ فيها بَيْتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَبَاعَ الرَّجُلُ الدَّارَ وَطَلَبَ الْجَارُ الشُّفْعَةَ وَطَلَبَهَا الشَّرِيكُ في الْبَيْتِ فَصَاحِبُ الشَّرِكَةِ في الْبَيْتِ أَوْلَى بِالْبَيْتِ وَبَقِيَّةُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
قال الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عن أبي يُوسُف أَنَّ الشَّرِيكَ في الْحَائِطِ أَوْلَى بِبَقِيَّةِ الدَّارِ من الْجَارِ لِمَا ذَكَرْنَا من تحقق ( ( ( تحقيق ) ) ) الشَّرِكَةِ في نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ قال وَعَنْ مُحَمَّدٍ مَسْأَلَةٌ تَدُلُّ على أَنَّ الشَّرِيكَ في الْحَائِطِ أَوْلَى فإنه قال في حَائِطٍ بين دَارَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عليه خَشَبَةٌ وَلَا يُعْلَم أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْخَشَبَةِ فَبِيعَتْ إحْدَى الدَّارَيْنِ قال فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَحَقُّ من الْجَارِ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَإِنْ لم يُقِمْ بَيِّنَةً لم أَجْعَلْهُ شَرِيكًا وَقَوْلُهُ أَحَقُّ من الْجَارِ أَيْ أَحَقُّ بِالْجَمِيعِ لَا بِالْحَائِطِ خَاصَّةً وَهَذَا هو مُقْتَضَى ظَاهِرِ هذا الْإِطْلَاقِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ اشْتَرَى حَائِطًا بِأَرْضِهِ ثُمَّ اشْتَرَى ما بَقِيَ من الدَّارِ ثُمَّ طَلَبَ جَارُ الْحَائِطِ الشُّفْعَةَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ فينهما فهو ( ( ( الحائط ) ) ) أحق من ( ( ( شفعة ) ) ) الجار لأنه ( ( ( فيما ) ) ) شريك وإن لم يقم بينة لم أجعله شريكا وقوله أحق من الجار أي أحق بالجميع لا بالحائط خاصة وهذا هو مقتضى ظاهر هذا الإطلاق
وروي عن أبي يوسف فيمن اشترى حائطا بأرضه ثم اشترى ما بَقِيَ من الدَّارِ ثم طلب جار ( ( ( يكن ) ) ) الْحَائِطُ الشُّفْعَةُ فله الشفعة فحب الطَّرِيقِ الشُّفْعَةُ في الطَّرِيقِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إذَا كان مُعَيَّنًا كان بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ على ما ذَكَرْنَا وَهَذَا على الرِّوَايَةِ التي تَقُولُ الشَّرِيكُ في الْحَائِطِ جَارٌ في بَقِيَّةِ الدَّارِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَأَنْوَاعٌ منها عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ وهو الْبَيْعُ أو ما هو في مَعْنَاهُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ
____________________

(5/10)


فِيمَا ليس بِبَيْعٍ وَلَا بِمَعْنَى الْبَيْعِ حتى لَا تَجِبَ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الأخذ بِالشُّفْعَةِ يَمْلِكُ على الْمَأْخُوذِ منه بِمِثْلِ ما مَلَكَ هو فإذا انْعَدَمَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَوْ أَخَذَ الشَّفِيعُ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِالْقِيمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ منه لم يَمْلِكْهُ بِالْقِيمَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْحَدَّ على التَّبَرُّعِ ليس بِمَشْرُوعٍ فَامْتَنَعَ الْأَخْذُ أَصْلًا وَإِنْ كانت الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَذَا بِنَاءٌ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عِنْدَنَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَعِنْدَهُ مُعَاوَضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَدَلَائِلُ هذا الْأَصْلِ في كِتَابِ الْهِبَةِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ وَهَبَ عَقَارًا من غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ له عَوَّضَهُ من ذلك دَارًا فَلَا شُفْعَةَ في الدَّارَيْنِ لَا في دَارِ الْهِبَةِ وَلَا في دَارِ الْعِوَضِ لِأَنَّ إعْطَاءَ دَارِ الْعِوَضِ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أنها اخْتَصَّتْ بِالْمَنْعِ من الرُّجُوعِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِوَضًا حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو وَهَبَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَعَوَّضَهُ بِخَمْسَةٍ جَازَ وَلَوْ كان عِوَضًا حَقِيقَةً لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِبًا دَلَّ أَنَّ الثَّانِيَ ليس بِعِوَضٍ عن الْأَوَّلِ حَقِيقَةً فلم يَكُنْ هذا مُعَاوَضَةً بَلْ كان هِبَةً مُبْتَدَأَةً فلم تَجِبْ بِهِ الشُّفْعَةُ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ في الدَّارِ التي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ سَوَاءٌ كان الصُّلْحُ على الدَّارِ عن إقْرَارٍ أو إنْكَارٍ أو سُكُوتٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
أَمَّا في الصُّلْحِ عن إقْرَارٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ المدعى مَلَكَ المدعي في حَقِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَكَانَتْ الدَّارُ التي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا عن مِلْكٍ ثَابِتٍ في حَقِّهِمَا جميعا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ في هذا الصُّلْحِ
وَأَمَّا في الصُّلْحِ عن إنْكَارِ فلأن عِنْدَ المدعى أَنَّهُ أَخَذَ الدَّارَ عِوَضًا عن مِلْكِهِ الثَّابِتِ فَكَانَ الصُّلْحُ مُعَاوَضَةً في حَقِّهِ وكان لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ وَكَذَا في الصُّلْحِ عن سُكُوتِ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ المدعى إنْ كان مُحِقًّا في دَعْوَاهُ كان بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا عن مِلْكِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان مُبْطِلًا كان عِوَضًا عن مِلْكِهِ في زَعْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ في زَعْمِهِ وَكَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الدَّارِ الْمُصَالَحِ عنها عن إقْرَارٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ في هذا الصُّلْحِ من الْجَانِبَيْنِ جميعا
وَأَمَّا عن إنْكَارٍ فَلَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ في زَعْمِ الْمُدَّعَى عليه أَنَّ الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ مِلْكُهُ وَإِنَّمَا بَذَلَ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ في حَقِّهِ فلم يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا منه بِالشُّفْعَةِ لِلْحَالِ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ المدعى في إقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على صَاحِبِ الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ كانت لَلْمُدَّعِي أو حَلَفَ الْمُدَّعَى عليه فَنَكَلَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً وَإِنْ لم تَقُمْ له الْحُجَّةُ فَلَا شُفْعَةَ له
وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الدَّارِ الْمُصَالَحِ عنها عن سُكُوتٍ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كان مُحِقًّا في دَعْوَاهُ كان الصُّلْحُ مُعَاوَضَةً فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كان مُبْطِلًا لم يَكُنْ مُعَاوَضَةً في حَقِّ الْمُدَّعَى عليه فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ مع الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ الْحُكْمَ كما لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَرْطِهِ لَا يَثْبُتُ مع وُجُودِ الشَّكِّ في شَرْطِهِ لِأَنَّ غير الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ
وَلَوْ كان بَدَلُ الصُّلْحِ مَنَافِعَ فَلَا شُفْعَةَ في الدَّارِ الْمُصَالَحِ عنها سَوَاءٌ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ أو إقْرَارٍ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ ليس بِعَيْنِ مَالٍ فلم يَكُنْ هذا الصُّلْحُ مُعَاوَضَةَ عَيْنِ الْمَالِ بِعَيْنِ الْمَالِ وَهَذَا من شَرَائِطِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ على ما نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ اصْطَلَحَا على أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعَى عليه الدَّارَ وَيُعْطِيَهُ دَارًا أُخْرَى فَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ تَجِبُ في كل وَاحِدَةٍ من الدَّارَيْنِ الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى لِأَنَّ الصُّلْحَ إذَا كان عن إنْكَارٍ كان الصُّلْحُ على مُعَاوَضَةِ دَارٍ بِدَارٍ وَإِنْ كان عن إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الدَّارَيْنِ جميعا لِأَنَّهُمَا جميعا مِلْكُ الْمُدَّعِي
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أو شَرْطٍ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الرَّدِّ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ ليس في مَعْنَى الْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ من غَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ بَلْ هو فَسْخٌ مَحْضٌ في حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعُ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ فَيَعُودُ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ فلم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ
وَكَذَا لو رَدَّ عليه بِعَيْبٍ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مُطْلَقٌ وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ ثَالِثٍ وَكَذَا الْإِقَالَةُ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ ثَالِثٍ وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الْقِسْمَةِ وَإِنْ كان فيها مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
____________________

(5/11)


بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فيها مَعْنَى الْإِقْرَارِ وَالتَّمْيِيزِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يجري فيها الْجَبْرُ فلم تَكُنْ مُعَاوَضَةً مُطْلَقَةً فَلَا تَجِبُ فيها الشُّفْعَةُ كما إذَا صَالَحَ عن دَمِ عَمْدٍ على دَارٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ
وَمِنْهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا تَجِبُ في مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ لأنه الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ ما تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي
فَلَوْ وَجَبَتْ في مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ بِالْقِصَاصِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَةِ الدَّارِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَيْضًا
لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لم يَتَمَلَّكْ بِهِ فَامْتَنَعَ التَّمَلُّكُ أَصْلًا
وَعَلَى هذا يخرج ما إذا صالح الشفعة تملك بمثل ما تملك به المشتري
فلو وجبت في معاوضة المال بغير المال فإما أن يأخذ بما تملك به المشتري ولا سبيل إليه لأنه تملك بالقصاص وإما أن يأخذ بقيمة الدار ولا سبيل إليه أيضا
لأن المشتري لم يتملك به فامتنع التملك أصلا
وعلى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا صَالَحَ عن دَمِ الْعَمْدِ على دَارٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشبعة ( ( ( الشفعة ) ) ) لِأَنَّ الْقِصَاصَ ليس بِمَالٍ فلم تُوجَدْ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
وَكَذَا لو صَالَحَ من جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ على دَارٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ صَالَحَ من جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ دُونَ الْقِصَاصِ على دَارٍ تَجِبُ فيها الشُّفْعَةُ بِالْأَرْشِ لِوُجُودِ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَكَذَا لو أَعْتَقَ عَبْدًا على دَارٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ ليس بِمَالٍ فلم تُوجَدْ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
وَمِنْهَا مُعَاوَضَةُ عَيْنِ الْمَالِ بِعَيْنِ الْمَالِ فَلَا تَجِبُ في مُعَاوَضَةِ عَيْنِ الْمَالِ بِمَا ليس بِعَيْنِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّمَلُّكَ بِمَا تَمَلَّكَهُ بِهِ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالتَّمَلُّكُ بِعَيْنِ الْمَالِ ليس تَمَلُّكًا بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ أَصْلًا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا جَعَلَ الدَّارَ مَهْرًا بِأَنْ تَزَوَّجَ على دَارٍ أو جَعَلَهَا بَدَلَ الْخُلْعِ بِأَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ على دَارٍ أو جَعَلَهَا أُجْرَةً في الْإِجَارَاتِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بِدَارٍ لِأَنَّ هذا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِجَارَةِ ثَبَتَ في الْمَنْفَعَةِ وَكَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ وهو الصَّحِيحُ على ما عُرِفَ في مَسَائِلِ النِّكَاحِ من الْخِلَافِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ في هذه الْمَوَاضِعِ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ في النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وفي الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ ما تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ تُقَامُ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ البعد ( ( ( العبد ) ) ) لِتَعَذُّرِ الْأَخْذِ بمثله إذْ لَا مِثْلَ له فَتَقُومُ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ كَذَا هَهُنَا وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ فَتُقَامُ قِيمَةُ الْعِوَضِ مَقَامَهُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ في الْأَصْلِ لَا قِيمَةَ لها على أُصُولِ أَصْحَابِنَا وَالْأَصْلُ فيها أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً لِأَنَّ الشَّيْءَ يُضْمَنُ بمثله في الْأَصْلِ وَالْعَرَضُ لَا يُمَاثِلُ الْعَيْنَ وَلِهَذَا قالوا أنها لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ إلَّا أنها تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِحَاجَةِ الناس فَبَقِيَ ما وَرَاءَ ذلك على الْأَصْلِ فَلَا يَظْهَرُ تَقَوُّمُهَا في حَقِّ الشَّفِيعِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على دَارٍ أَنْ تَرُدَّ الْمَرْأَةُ عليه أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ في شَيْءٍ من الدَّارِ عِنْدَ أبي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ الشُّفْعَةُ في حِصَّةِ الْأَلْفِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّارَ بَعْضُهَا مَهْرٌ وَبَعْضُهَا مَبِيعٌ فَلَئِنْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الشُّفْعَةِ في حِصَّةِ الْمَهْرِ أَمْكَنَ إيجَابُهَا في حِصَّةِ الْمَبِيعِ فَتَجِبُ في حِصَّتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الشُّفْعَةِ في حِصَّةِ الْمَبِيعِ إلَّا بَعْدَ قِسْمَةِ الدَّارِ وفي قِسْمَتِهَا تَقْوِيمُ الْمَنَافِعِ وَلَا قِيمَةَ لها إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ على ما بَيَّنَّا وَلِأَنَّ الْمَهْرَ في الدَّارِ هو الْأَصْلُ لِأَنَّهَا إنَّمَا دَفَعَتْ الْأَلْفَ لِتُسَلَّمَ لها الدَّارُ فإذا لم تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ في الْأَصْلِ فَكَيْفَ تَجِبُ في التَّابِعِ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ من الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ الْمَهْرِ أو تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ من الْمَرْأَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ تَجِبُ فيها الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هذا مَبِيعٌ مُبْتَدَأٌ فَتَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا على دَارٍ أو تَزَوَّجَهَا على غَيْرِ مُسَمًّى ثُمَّ فَرَضَ لها دَارِهِ مَهْرًا لَا تَجِبُ فيها الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْغَرَضَ منه ليس بِبَيْعٍ بَلْ هو تَقْدِيرُ الْمَهْرِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا أو ( ( ( وما ) ) ) ما هو بِمَعْنَاهُ فَإِنْ كان غَيْرُ ذلك فَلَا شُفْعَةَ فيه عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال مَالِكٌ رضي اللَّهُ عنه هذا ليس بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ في السُّفُنِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّفِينَةَ أَحَدُ الْمَسْكَنَيْنِ فَتَجِبُ فيها الشُّفْعَةُ كما تَجِبُ في الْمَسْكَنِ الْآخَرِ وهو الْعَقَارُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا شُفْعَةَ إلَّا في رَبْعٍ أو حَائِطٍ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ في الْعَقَارِ ما وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ مَسْكَنًا وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ على سَبِيلِ الدَّوَامِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا في الْعَقَارِ وَلَا تَجِبُ إلَّا في الْعَقَارِ أو ما في مَعْنَاهُ وهو الْعُلُوُّ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كان الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أو لَا يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَا وَالْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ وَالدُّورِ الصِّغَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا في عَقَارٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وهو
____________________

(5/12)


أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا وَجَبَتْ مَعْلُولَةً بِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَأَذَاهُ على سَبِيلِ اللُّزُومِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ على السَّوَاءِ وَعِنْدَهُ وَجَبَتْ مَعْلُولَةً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وهو ضَرَرُ الْقِسْمَةِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى ما لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهَذَا مع أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِمَنْعِ التَّعْدِيَةِ قد أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لم يُقْسَمْ من غَيْرِ فَصْلٍ وإذا بِيعَ سُفْلُ عَقَارٍ دُونَ عُلُوِّهِ أو عُلُوُّهُ دُونَ سُفْلِهِ أو بِيعَا جميعا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ
أَمَّا السُّفْلُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ عَقَارٌ وَأَمَّا الْعُلُوُّ بِدُونِ السُّفْلِ فَتَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ إذَا كان الْعُلُوُّ قَائِمًا اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ حَقَّ الْبِنَاءِ على السُّفْلِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ على سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَصَارَ بِمَعْنَى العقاء ( ( ( العقار ) ) ) فَتَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ
وَلَوْ انْهَدَمَ الْعُلُوُّ ثُمَّ بِيعَ السُّفْلُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عن أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا شُفْعَةَ له
ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ بَطَلَ فَحَقُّ الْبِنَاءِ قَائِمٌ وَأَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبُقْعَةِ على سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّأْبِيدِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبُقْعَةِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إمَّا بِالشَّرِكَةِ في الْمِلْكِ أو الْحُقُوقِ أو بِجِوَارِ الْمِلْكِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك أَمَّا الشَّرِكَةُ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ وَكَذَا الْجِوَارُ لِأَنَّ الْجِوَارَ كان بِالْبِنَاءِ وقد زَالَ الْبِنَاءُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ بَاعَ عُلُوًّا فَاحْتَرَقَ قبل التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ
هَكَذَا ذَكَرَ ولم يَحْكِ خِلَافًا من مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ من قال هذا قَوْلُهُ
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ في حَقِّ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَرْصَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ الْعَرْصَةَ مع الْبِنَاءِ فَاحْتَرَقَ الْبِنَاءُ
وَمِنْهَا زَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ عن الْمَبِيعِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ على الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ ما مَلَكَ بِهِ فإذا لم يَزُلْ مِلْكُ الْبَائِعِ اسْتَحَالَ تَمَلُّكُ الْمُشْتَرِي فَاسْتَحَالَ تَمَلُّكُ الشَّفِيعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الْمَبِيعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ حتى لو أَسْقَطَ خِيَارَهُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ زَالَ عن مِلْكِهِ من حِينِ وُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لَلْمُشْتَرِي تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عليه وَلَوْ كان الْخِيَارُ لَهُمَا لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِأَجْلِ خِيَارِ الْبَائِعِ وَلَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلَا شُفْعَةَ له لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وإنه يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ وَلَا شُفْعَةَ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ من جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ ابْتِدَاءً وَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ فَلَا شُفْعَةَ له لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لم يَزُلْ وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ في ذلك أَنْ لَا يَفْسَخَ وَلَا يُجِيزَ حتى يُجِيزَ الْبَائِعُ أو يُجَوِّزَ هو بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ له الشُّفْعَةُ وَخِيَارُ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ
وَمِنْهَا زَوَالُ حَقِّ الْبَائِعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في المشتري شِرَاءً فَاسِدًا لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ النَّقْضِ وَالرَّدِّ إلَى مِلْكِهِ رَدًّا لِلْفَسَادِ وفي إيجَابِ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ حتى لو سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ بِأَسْبَابٍ مُسْقِطَةٍ لِلْفَسْخِ كَالزِّيَادَةِ وَزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَنَحْوِ ذلك كان لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ قِيَامُ الْفَسْخِ وقد زَالَ كما لو بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ له ثُمَّ أَسْقَطَ الْخِيَارَ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ من الْوُجُوبِ وهو الْخِيَارُ فَكَذَا هذا
وَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا فَجَاءَ الشَّفِيعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ ثَابِتٌ عِنْدَ كل وَاحِدٍ من الْبَيْعَيْنِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ عِنْدَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشَرَائِطِهِ فَكَانَ له الْخِيَارُ غير أَنَّهُ إنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي أَخَذَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَخَذَ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ يوم الْقَبْضِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي تَمَلَّكَ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ صَحِيحٌ وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْمُسَمَّى وهو الثَّمَنُ وَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ تَمَلَّكَ الْمَبِيعَ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْقَبْضِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا فَبَنَى عليها إنه يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ
لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ في الْقَبْضِ قد زَالَ بِالْبِنَاءِ وَبَطَلَ فَزَالَ الْمَانِعُ من وُجُوبِ الشُّفْعَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لم يَبْطُلْ بِالْبِنَاءِ فَكَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمَرِيضِ إذَا بَاعَ الدَّارَ من وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ إنه لَا شُفْعَةَ له لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عَيْنًا من أَعْيَانِ مَالِهِ لِوَارِثِهِ فَاسِدٌ عِنْدَهُ إلَّا إذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ
وَإِنْ كان بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَا شُفْعَةَ له في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَّا إذَا أَجَازَ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ
وَلَوْ بَاعَهَا من أَجْنَبِيٍّ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا وَالْوَارِثُ شَفِيعُهَا لَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ عِنْدَهُ
____________________

(5/13)


أَيْضًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهَا من الْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِتَحَوُّلِ مِلْكِ الصَّفْقَةِ إلَيْهِ أو لِتَقْدِيرِ صَفْقَةٍ أُخْرَى مع الْوَارِثِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْوَارِثِ لِأَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ
هذا إذَا بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَأَمَّا إذَا بَاعَ وَحَابَى بِأَنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَإِنْ بَاعَهَا من الْوَارِثِ وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّ بَيْعَهَا من الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَاسِدٌ عِنْدَهُ فَبِالْمُحَابَاةِ أَوْلَى وَلَا شُفْعَةَ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَعِنْدَهُمَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَكِنْ يَدْفَعُ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ وَلَوْ بَاعَ من أَجْنَبِيٍّ فَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِتِلْكَ الصَّفْقَةِ بِالتَّحَوُّلِ إلَيْهِ أو بِصَفْقَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مُقَدَّرَةٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بَيْعًا من الْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ
وَسَوَاءٌ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أو لم يُجِيزُوا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مَحَلُّهَا الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ وَالشِّرَاءُ وَقَعَ نَافِذًا من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ قَدْرُ الثُّلُثِ وَهِيَ نَافِذَةٌ من الْأَجْنَبِيِّ فَلَغَتْ الْإِجَازَةُ في حَقِّ الْمُشْتَرِي فَتَلْغُو في حَقِّ الشَّفِيعِ أَيْضًا
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فيه
في رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ من الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ لَا شُفْعَةَ له
وفي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَصَايَا له الشُّفْعَةُ
وَهِيَ من مَسَائِلِ الْجَامِعِ تُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا مِلْكُ الشَّفِيعِ وَقْتَ الشِّرَاءِ في الدَّارِ التي يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ جِوَارُ الْمِلْكِ وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وجوب ( ( ( وجود ) ) ) الشَّرْطِ وَالِانْعِقَادُ أَمْرٌ زَائِدٌ على الْوُجُودِ فإذا لم يُوجَدْ عِنْدَ الْبَيْعِ كَيْفَ يَنْعَقِدُ سَبَبًا فَلَا شُفْعَةَ له بِدَارٍ يَسْكُنُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَلَا بِدَارٍ بَاعَهَا قبل الشِّرَاءِ وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا وَقَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ أو لم يَقْضِ على قَوْلِ من يُجِيزُ الْوَقْفَ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عنها لَا إلَى أَحَدٍ
وَمِنْهَا ظُهُورُ مِلْكِهِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا في الْحَقِيقَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الْحَقِّ لَا شَرْطُ ثُبُوتِهِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي كَوْنَ الدَّارِ التي يَشْفَعُ بها مَمْلُوكَةً لِلشَّفِيعِ أَنَّهُ ليس له أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ إنها دَارُهُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةِ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ كان ثَابِتًا لِلشَّفِيعِ في هذه الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وما ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ وَلِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ من رَأَى شيئا في يَدِ إنْسَانٍ حَلَّ له أَنْ يَشْهَدَ له بِالْمِلْكِ دَلَّ أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَكَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلشَّفِيعِ ظَاهِرًا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ على الْغَيْرِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَحُرِّيَّةِ الشُّهُودِ وَنَحْوِ ذلك وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى إلْزَامِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَظْهَرُ الْمِلْكُ في حَقِّ الْمُشْتَرِي
وَقَوْلُهُ الْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ قُلْنَا إنْ سَلِمَ ذلك فَالثَّابِتُ بِالْيَدِ مِلْكٌ يَظْهَرُ في حَقِّ الدَّفْعِ لَا في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ على الْغَيْرِ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ على الْمُشْتَرِي فَلَا يَكْفِي الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِظَاهِرِ الْيَدِ
وَذُكِرَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ ادَّعَى على آخَرَ دَارًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ هذه الدَّارَ كانت في يَدِ أبيه مَاتَ وَهِيَ في يَدِهِ أَنَّهُ يقضي له بِالدَّارِ فَإِنْ جاء يَطْلُبُ بها شُفْعَةَ دَارٍ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا لم يُقْضَ له بِالشُّفْعَةِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ لم يَجْعَلْ الْقَضَاءَ بِالْيَدِ قَضَاءً بِالْمِلْكِ على الْإِطْلَاقِ حَيْثُ لم يُوجِبْ بِهِ الشُّفْعَةَ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما ذُكِرَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال في حَائِطٍ بين دَارَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عليه خَشَبَةٌ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْخَشَبَةِ فَبِيعَتْ إحْدَى الدَّارَيْنِ أَنَّهُ إنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَحَقُّ من الْجَارِ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَإِنْ لم يُقِمْ بَيِّنَةً لم أَجْعَلْهُ شَرِيكًا لِأَنَّ مِلْكَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا لم يَثْبُتْ إلَّا بِظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْخَشَبَةِ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ بِمِثْلِ هذا الظَّاهِرِ لَا يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ قال وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ قبل الْبَيْعِ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا لم أَجْعَلْ له بهذا شُفْعَةً بِمَنْزِلَةِ دَارٍ في يَدِ رَجُلٍ أَقَرَّ أنها لِآخَرَ فَبِيعَتْ إلَى جَنْبِهَا دَارٌ فَطَلَبَ الْمُقَرُّ له الشُّفْعَةَ فَلَا شُفْعَةَ له حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْمَوْضِعَيْنِ جميعا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَيَظْهَرُ في حَقِّ الْمُقِرِّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وفي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَظْهَرُ في حَقِّ الْمُقَرِّ له خَاصَّةً وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمُشْتَرِي
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ في يَدِهِ دَارٌ عَرَفَ الْقَاضِي أنها له فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ دَارِهِ فقال الشَّفِيعُ بَعْدَ بَيْعِ الدَّارِ التي فيها الشُّفْعَةُ دَارِي هذه لِفُلَانٍ وقد بِعْتُهَا منه مُنْذُ سَنَةٍ وقال هذا في وَقْتٍ يَقْدِرُ على الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أو طَلَبِهَا لِنَفْسِهِ قال لَا شُفْعَةَ له في الدَّارِ حتى يُقِيمَ الْمُقَرُّ له بَيِّنَةً على الْمُشْتَرِي
أَمَّا الْمُقِرُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ له
____________________

(5/14)


لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له وَقْتَ الْبَيْعِ في الدَّارِ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ قَبْلَهُ
وَأَمَّا الْمُقَرُّ له فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ ليس بِثَابِتٍ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ على الْمُشْتَرِي
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ في إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَقَرَّ بِسَهْمٍ من الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ بَاعَ منه بَقِيَّةَ الدَّارِ أَنَّ الْجَارَ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكَ الْبَائِعِ في ذلك السَّهْمِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من خَطَّأَ الْخَصَّافَ في هذا وقال تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُشْتَرِي لم تَثْبُتْ إلَّا بِالْإِقْرَارِ من الْبَائِعِ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ الْجَارِ فَكَانَ على شُفْعَتِهِ وكان يَسْتَدِلُّ بِمَسْأَلَةِ الْحَائِطِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ مِلْكًا لِلشَّفِيعِ وَقْتَ الْبَيْعِ فَإِنْ كانت لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِاسْتِحَالَةِ تَمَلُّكِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ دار ( ( ( دارا ) ) ) وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا أَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا شُفْعَةَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ عنه بِالْبَيْعِ فَلَا تَثْبُتُ له الشُّفْعَةُ
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَكَذَا إذَا بَاعَ الْمَوْلَى دَارًا وَالْمَأْذُونُ شَفِيعُهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي وَشِرَاءُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من صَاحِبِهِ جَائِزٌ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ تَمَلُّكًا لِلْمَوْلَى وَتَمَلُّكُ الْمَوْلَى مُحَالٌ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَلِمَوْلَاهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لم يَقَعْ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ له وَكَذَا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا وَالْمَأْذُونُ شَفِيعُهَا فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إذَا بَاعَ أو اشْتَرَى دار ( ( ( دارا ) ) ) وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مع الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهُ على ما في يَدِهِ فَكَانَ في حَقِّ ما في يَدِهِ مُلْحَقًا بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا عَدَمُ الرِّضَا من الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ وَحُكْمِهِ فَإِنْ رضي بِالْبَيْعِ أو بِحُكْمِهِ فَلَا شُفْعَةَ له لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ له دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فإذا رضي بِالشِّرَاءِ أو بِحُكْمِهِ فَقَدْ رضي بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ الرِّضَا قد يَكُونُ صَرِيحًا وقد يَكُونُ دَلَالَةً
أَمَّا الصَّرِيحُ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَحْوَ أَنْ يَبِيعَ الشَّفِيعُ الدَّارَ الْمَشْفُوعَ فيها بِأَنْ وَكَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ بِبَيْعِهَا فَبَاعَهَا فَلَا شُفْعَةَ له لِأَنَّ بَيْعَ الشَّفِيعِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ وهو الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ دَارًا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ له أُخْرَى فَلَا شُفْعَةَ لِرَبِّ الدَّارِ سَوَاءٌ كان في الدَّارِ رِبْحٌ أو لم يَكُنْ
أَمَّا إذَا لم يَكُنْ فيها رِبْحٌ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ وَالرِّضَا بِالتَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ رِضًا بِالْبَيْعِ وَحُكْمِهِ ضَرُورَةً وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ وَإِنْ كان فيها رِبْحٌ
أَمَّا في حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا من وُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ في حصتها ( ( ( حصته ) ) )
وَأَمَّا في حِصَّةِ الْمُضَارِبِ فَلِأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ الْوُجُوبُ في حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلَوْ ثَبَتَ في حِصَّةِ الْمُضَارِبِ لَأَدَّى إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكًا لِلْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ
وَلَوْ كان الشَّفِيعُ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الدَّارِ الْمَشْفُوعِ فيها فَاشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ وَالشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ حتى لو اشْتَرَى الدَّارَ الْمَشْفُوعَ فيها ثُمَّ حَضَرَ شَفِيعٌ آخَرُ كان له أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ فَالشِّرَاءُ لِغَيْرِهِ لَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْوُجُوبَ أَوْلَى
وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ من الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ كان في يَدِهِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْأَخْذَ إذا ذَاكَ يَقَعُ لِرَبِّ الْمَالِ وقد وُجِدَ منه دَلَالَةُ الرِّضَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ وَلَوْ لم يَكُنْ في يَدِهِ وَفَاءٌ فَإِنْ لم يَكُنْ في الدَّارِ رِبْحٌ فَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ كان فيها رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ له نَصِيبًا في ذلك ولم يُوجَدْ منه الرِّضَا سقوط ( ( ( بسقوط ) ) ) حَقِّهِ
وَلَوْ اشْتَرَى أَجْنَبِيٌّ دَارًا إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ كان في يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ له فَيَمْلِكُ تَسْلِيمَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ وَفَاءٌ فَإِنْ كان في الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ جميعا لِأَنَّ الدَّارَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لم يَكُنْ فيها رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ
____________________

(5/15)


الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ خَاصَّةً وَالشُّفْعَةُ من حُقُوقِ الْمِلْكِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا بَاعَ الدَّارَ على أَنْ يَضْمَنَ له الشَّفِيعُ الثَّمَنَ من الْمُشْتَرِي فَضَمِنَ وهو حَاضِرٌ حتى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ من الْمُشْتَرِي دَلَالَةُ الرِّضَا بِالشِّرَاءِ وَحُكْمِهِ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ وَإِبْرَامَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا
وَكَذَا لو اشْتَرَى الْمُشْتَرِي الدَّارَ على أَنْ يَضْمَنَ الشَّفِيعُ الدَّرَكَ عن الْبَائِعِ فَضَمِنَ وهو حَاضِرٌ حتى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الدَّرَكَ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ وهو الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فلم تَجِبْ الشُّفْعَةُ وَأَمَّا إسْلَامُ الشَّفِيعِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَتَجِبُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فما ( ( ( فيما ) ) ) بَيْنَهُمْ وَلِلذِّمِّيِّ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّ هذا حَقُّ التَّمَلُّكِ على الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ منه وَالْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ في ذلك سَوَاءٌ لِأَنَّهُ من الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ
وَرُوِيَ عن شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِذِمِّيٍّ على مُسْلِمٍ فَكَتَبَ إلَى سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه فَأَجَازَهُ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَيَكُونُ ذلك إجْمَاعًا
وَلَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ دَارًا بِخَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أو مُسْلِمٌ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجِبُ بِنَاءً على أَنَّ ذلك ليس بِمَالٍ عِنْدَهُ أَصْلًا حتى لم يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ أَصْلًا وَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَعِنْدَنَا هو مَالٌ مُتَقَوِّمٌ في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاةِ لنا ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فَإِنْ كان الشَّفِيعُ ذِمِّيًّا أَخَذَ الدَّارَ بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَبِقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُمْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْخَلِّ وَالْخِنْزِيرُ ليس من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بَلْ من ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالشَّاةِ وَإِنْ كان مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْأَخْذَ تَمَلُّكٌ وَالْمُسْلِمُ ليس من أَهْلِ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَتَى تَعَذَّرَ عليه التَّمَلُّكُ بِالْعَيْنِ تَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ كما لو كان الشِّرَاءُ بِالْعَرَضِ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الْعَرَضِ كَذَا هذا
وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَمُعْتَقِ الْبَعْضِ وَالنِّسْوَانِ وللصبيان ( ( ( والصبيان ) ) ) وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَبْنِيٌّ على الْمِلْكِ وَهَؤُلَاءِ من أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لهم إلَّا أَنَّ الْخَصْمَ فِيمَا يَجِبُ لِلصَّبِيِّ أو عليه وَلِيُّهُ الذي يَتَصَرَّفُ في مَالِهِ من الْأَبِ وَوَصِيِّهِ وَالْجَدِّ لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ وَالْقَاضِي وَوَصِيِّ الْقَاضِي فإذا بِيعَتْ دَارٌ وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا كان لِوَلِيِّهِ أَنْ يُطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ وَيَأْخُذَ له لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ ذلك كما يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَلَا شُفْعَةَ لِلصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَالصَّبِيُّ على شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا حَقٌّ ثَبَتَ لِلصَّبِيِّ نَظَرًا فَإِبْطَالُهُ لَا يَكُونُ نَظَرًا في حَقِّهِ وَمِثْلُ هذا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالْعَفْوِ عن قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّبِيِّ على إنْسَانٍ وَالْإِبْرَاءِ عن كَفَالَتِهِ بِنَفْسٍ أو مَالٍ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمهم ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ فَتَسْلِيمُهُ امْتِنَاعٌ من الشِّرَاءِ وَلِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ من الشِّرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ من قال بِعْت هذا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ الصَّبِيِّ لَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الْقَبُولُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ في مَالِ الصَّبِيِّ على وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَصْلَحَةُ قد تَكُونُ في الشِّرَاءِ وقد تَكُونُ في تَرْكِهِ وَالْوَلِيُّ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُفَوَّضُ إلَيْهِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا سَكَتَ الْوَلِيُّ أو الْوَصِيُّ عن الطَّلَبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبْطُلُ وَذُكِرَ في نَوَادِرِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَابْنُهُ الصَّغِيرُ شَفِيعُهَا كان له أَنْ يَأْخُذَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ لم يَأْخُذْ وسلم لِنَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُنَافِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَلَّكَ بِعِوَضٍ وَلِهَذَا لو كان وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ لِغَيْرِهِ كان له أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْأَخْذَ لِابْنِهِ أَوْلَى وإذا مَلَكَ الْأَخْذَ مَلَكَ التَّسْلِيمَ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عن الْأَخْذِ
وَلَوْ بَاعَ دَارًا لِنَفْسِهِ وَابْنُهُ شَفِيعُهَا لم يَكُنْ له أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ وَالْبَيْعُ تَمْلِيكٌ فَيُنَافِي التَّمَلُّكَ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وإذا لم يَمْلِكْ الْأَخْذَ لم يَمْلِكْ التَّسْلِيمَ فلم يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ وَتَوَقَّفَ إلَى حِينِ بُلُوغِ الصَّبِيِّ كما إذَا لم يَكُنْ له وَلِيٌّ
وَأَمَّا الْوَصِيُّ إذَا اشْتَرَى دَارًا لِنَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا لم يَكُنْ له أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَالصَّغِيرُ على شُفْعَتِهِ وَكَذَا إذَا بَاعَ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّارَ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَبِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ يُرِيدُ تَمْلِيكَ ما مَلَكَهُ من الصَّغِيرِ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَ مَالِ الصَّغِيرِ إلَّا إذَا كان فيه نَفْعٌ ظَاهِرٌ له وإذا لم يَمْلِكْ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لم يَكُنْ سُكُوتُهُ عن الطَّلَبِ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ فَبَقِيَ حَقُّ الصَّغِيرِ
____________________

(5/16)


في الشُّفْعَةِ يَأْخُذُهُ إذَا بَلَغَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَسْتَقِرُّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إنه يَتَأَكَّدُ وَيَسْتَقِرُّ بِالطَّلَبِ وَالْكَلَامُ في الطَّلَبِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وَقْتِ الطَّلَبِ وفي بَيَانِ شُرُوطِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا وَقْتُهُ فَالطَّلَبُ نَوْعَانِ طَلَبُ مُوَاثَبَةٍ وَطَلَبُ تَقْرِيرٍ أَمَّا طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ فَوَقْتُهُ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ حتى لو سَكَتَ عن الطَّلَبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل الْعِلْمِ بِهِ لم تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ قبل وَقْتِ الطَّلَبِ فَلَا يَضُرُّهُ ثُمَّ عِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قد يَحْصُلُ بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ وقد يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ لَكِنْ هل يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فيه فقال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ أما الْعَدَدُ في الْمُخْبِرِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وأما الْعَدَالَةُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ حتى لو أخبره وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلًا كان أو فَاسِقًا حُرًّا أو عَبْدًا مَأْذُونًا بَالِغًا أو صَبِيًّا ذَكَرًا أو أُنْثَى فَسَكَتَ ولم يَطْلُبْ على فَوْرِ الْخَبَرِ على رِوَايَةِ الْأَصْلِ أو لم يَطْلُبْ في الْمَجْلِسِ على رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ صِدْقًا وَهَذَا على اخْتِلَافِهِمْ عن عَزْلِ الْوَكِيلِ وَعَنْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَعَنْ عَجْزِ الْمَوْلَى على ما نَذْكُرُ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ فَهُمَا يَقُولَانِ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ سَاقِطَا الِاعْتِبَارِ شَرْعًا في الْمُعَامَلَاتِ وَهَذَا من بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ هذا إخْبَارٌ فيه مَعْنَى الْإِلْزَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُلُ لو لم يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فيه أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ وهو الْعَدَدُ أو الْعَدَالَةُ
وَلَوْ أَخْبَرَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ بِنَفْسِهِ فقال قد اشْتَرَيْتُهُ فلم يَطْلُبْ شُفْعَتَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ الْمُشْتَرِي عَدْلًا كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ خَصْمٌ وَعَدَالَةُ الْخَصْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْخُصُومَاتِ وَقَالُوا في الْمُخَيَّرَةِ إذَا بَلَغَهَا التَّخْيِيرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُخْبِرِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِخْبَارَ عن التَّخْيِيرِ ليس في مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِخُلُوِّهِ عن إلْزَامِ حُكْمٍ فلم يُعْتَبَرْ فيه أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عن الْبَيْعِ في بَابِ الشُّفْعَةِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ على فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ إذَا كان قَادِرًا عليه حتى لو عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عن الطَّلَبِ مع الْقُدْرَةِ عليه بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ في رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ على الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُولِ ما لم يَقُمْ عن الْمَجْلِسِ أو يَتَشَاغَلْ عن الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه فَيُحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّ هذه الدَّارَ هل تَصْلُحُ بِمِثْلِ هذا الثَّمَنِ وَأَنَّهُ هل يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هذا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ أو لَا يَتَضَرَّرُ فَيَتْرُكَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّأَمُّلِ شَرْطُ الْمَجْلِسِ في جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ وَالْقَبُولُ كَذَا هَهُنَا
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إنَّمَا الشُّفْعَةُ كَنَشْطِ عِقَالٍ إنْ قُيِّدَ مَكَانَهُ ثَبَتَ وَإِلَّا ذَهَبَ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا الشُّفْعَةُ كَحَلِّ عِقَالٍ إنْ قُيِّدَ مَكَانَهُ ثَبَتَ وَإِلَّا فَاللَّوْمُ عليه وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ مُتَزَلْزِلٌ لِثُبُوتِهِ على خِلَافِ الْقِيَاسِ إذْ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ لِخَوْفِ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالطَّلَبِ على الْمُوَاثَبَةِ
وَأَمَّا الْإِشْهَادُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ حتى لو طَلَبَ على الْمُوَاثَبَةِ ولم يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْإِظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ على تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ في الطَّلَبِ أو لَا يُصَدِّقُ في الْفَوْرِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِظْهَارِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي على تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ لِأَنَّهُ شَرَطَ صِحَّةَ الطَّلَبِ
وَنَظِيرُهُ من أَخَذَ لُقَطَةً لِيَرُدَّهَا على صَاحِبِهَا فَهَلَكَتْ في يَدِهِ لَا ضَمَانَ عليه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِتَوْثِيقِ الْأَخْذِ لِلرَّدِّ على تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ عن الضَّمَانِ حتى لو صَدَّقَهُ صَاحِبُهَا في ذلك ثُمَّ طَلَبَ منه الضَّمَانَ ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هذا
وإذا طَلَبَ على الْمُوَاثَبَةِ فَإِنْ كان هُنَاكَ شُهُودٌ أَشْهَدَهُمْ وَتَوَثَّقَ الطَّلَبُ وَإِنْ لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ من يُشْهِدُهُ فَبَعَثَ في طَلَبِ شُهُودٍ لم تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لِإِظْهَارِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَكِنْ يَصِحُّ الْإِشْهَادُ على الطَّلَبِ على رِوَايَةِ الْفَوْرِ
____________________

(5/17)


فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ على الْفَوْرِ ضَرُورَةً وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَجْلِسِ إذَا قال وهو في الْمَجْلِسِ أدعو ( ( ( ادعوا ) ) ) إلي ( ( ( لي ) ) ) شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ فَجَاءَ الشُّهُودُ فَأَشْهَدَهُمْ صَحَّ وَتَوَثَّقَ الطَّلَبُ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَائِمٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِبَيْعِ الدَّارِ فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ قد ادَّعَيْتُ شُفْعَتَهَا أو سُبْحَانَ اللَّهِ قد ادَّعَيْتُ شُفْعَتَهَا فَهُوَ على شُفْعَتِهِ على رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ هذا يُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِهِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ عن الطَّلَبِ
وَكَذَا إذَا سَلَّمَ أو شَمَّتَ الْعَاطِسَ لِأَنَّ ذلك ليس بِعَمَلٍ يَدُلُّ على الْإِعْرَاضِ وَلِهَذَا لم يَبْطُلْ بِهِ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قال من ابْتَاعَهَا وَبِكَمْ بِيعَتْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَرْضَى بِمُجَاوَرَةِ إنْسَانٍ دُونَ غَيْرِهِ وقد تَصْلُحُ له الدَّارُ بِثَمَنٍ دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ السُّؤَالُ عن حَالِ الْجَارِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ من مُقَدِّمَاتِ الطَّلَبِ لَا إعْرَاضًا عنه وَهَذَا كُلُّهُ على رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ فَأَمَّا على رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ في هذه الْمَوَاضِعِ لانقاطع ( ( ( لانقطاع ) ) ) الْفَوْرِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ وهو في الصَّلَاةِ فَمَضَى فيها فَالشَّفِيعُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ في الْفَرْضِ أو في الْوَاجِبِ أو في السُّنَّةِ أو في النَّفْلِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ كان في الْفَرْضِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ قَطْعَهَا حَرَامٌ فَكَانَ مَعْذُورًا في تَرْكِ الطَّلَبِ وَكَذَا إذَا كان في الْوَاجِبِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَإِنْ كان في السُّنَّةِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ هذه السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ في مَعْنَى الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كانت السُّنَّةُ رَكْعَتَيْنِ أو أَرْبَعًا كَالْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ حتى لو أَخْبَرَ بَعْدَمَا صلى رَكْعَتَيْنِ فَوَصَلَ بِهِمَا الشَّفْعَ الثَّانِيَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبَةٍ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ الْبَيْعُ فَصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا لم تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ وَإِنْ صلى أَكْثَرَ من ذلك بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ فَصَارَ كَالرَّكْعَتَيْنِ وَالزِّيَادَةُ عليها لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمُخَيَّرَةِ إذَا كانت في صَلَاةِ النَّفْلِ فَزَادَتْ على رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَالْغَائِبُ إذَا عَلِمَ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ مِثْلُ الْحَاضِرِ في الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الطَّلَبِ الذي يَتَأَكَّدُ بِهِ الْحَقُّ وَعَلَى الْإِشْهَادِ الذي يَتَوَثَّقُ بِهِ الطَّلَبُ
وَلَوْ وَكَّلَ الْغَائِبُ رَجُلًا لِيَأْخُذَ له بِالشُّفْعَةِ فَذَلِكَ طَلَبٌ منه لِأَنَّ في التَّوْكِيلِ طَلَبًا وَزِيَادَةً وإذا طَلَبَ الْغَائِبُ على الْمُوَاثَبَةِ وَأَشْهَدَ فَلَهُ بَعْدَ ذلك من الْأَجَلِ مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ التي يَأْتِي إلَى حَيْثُ الْبَائِعُ أو الْمُشْتَرِي أو الدَّارُ لَا زِيَادَةَ عليه لِأَنَّ تَأْجِيلَ هذا الْقَدْرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِلزِّيَادَةِ
أَمَّا طَلَبُ التَّقْرِيرِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ على فَوْرِ الطَّلَبِ الْأَوَّلِ وَالْإِشْهَادِ عليه فإذا طَلَبَ على الْمُوَاثَبَةِ وَأَشْهَدَ على فَوْرِهِ ذلك شَخْصًا إلَى حَيْثُ الْبَائِعُ أو الْمُشْتَرِي أو الدَّارُ إذَا كان قَادِرًا عليه وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَلَبَ من الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ من الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ عِنْدَ الدَّارِ
أَمَّا الطَّلَبُ من الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا فَصَحَّ الطَّلَبُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَمَّا الطَّلَبُ عِنْدَ الدَّارِ فَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بها فَإِنْ سَكَتَ عن الطَّلَبِ من أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الدَّارِ مع الْقُدْرَةِ عليه بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهُ فَرَّطَ في الطَّلَبِ وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ من الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الدَّارِ وَلَا يَطْلُبُ من الْبَائِعِ لِأَنَّهُ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ يَدِهِ وَلَا مِلْكَ له فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لم يَطْلُبْ من الْمُشْتَرِي وَلَا عِنْدَ الدَّارَ وَشَخَصَ إلَى الْبَائِعِ لِلطَّلَبِ منه وَالْإِشْهَادِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ وفي الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا وَلَوْ تَعَاقَدَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في غَيْرِ الْمَوْضِعِ الذي فيه الدَّارُ فَلَيْسَ على الشَّفِيعِ أَنْ يَأْتِيَهُمَا وَلَكِنَّهُ يَطْلُبُ عِنْدَ الدَّارِ وَيُشْهِدُ عليه
لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كان بِجَنْبِ الدَّارِ وَالْعَاقِدَانِ غَائِبَانِ تَعَيَّنَتْ الدَّارُ للطب ( ( ( للطلب ) ) ) عِنْدَهَا وَالْإِشْهَادِ فَإِنْ لم يَطْلُبْ عِنْدَهَا وَشَخَصَ إلَى الْعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِوُجُودِ الْإِعْرَاضِ عن الطَّلَبِ هذا إذَا كان قَادِرًا على الطَّلَبِ من الْمُشْتَرِي أو الْبَائِعِ أو عِنْدَ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا كان هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كان بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مجوف ( ( ( مخوف ) ) ) أو أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ أو غَيْرُ ذلك من الْمَوَانِعِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إلَى أَنْ يَزُولَ الْحَائِلُ
وَأَمَّا الْإِشْهَادُ على هذا الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ كما ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَإِنَّمَا هو لِتَوْثِيقِهِ على تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كما في الطَّلَبِ الْأَوَّلِ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدِهِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْعَقَارُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالْإِشْهَادُ بِدُونِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الطَّلَبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه
____________________

(5/18)


عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ عن مُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّفِيعَ يقول طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا وأنا طَالِبُهَا
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يقول طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ فَحَسْبُ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فيه أَلْفَاظُ الطَّلَبِ بَلْ لو أتى بِلَفْظٍ يَدُلُّ على الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كان يَكْفِي نَحْوُ أَنْ يَقُولَ ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أو سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على الطَّلَبِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عليه سَوَاءٌ كان بِلَفْظِ الطالب ( ( ( الطلب ) ) ) أو بِغَيْرِهِ
وَأَمَّا حُكْمُ الطَّلَبِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ فَالشَّفِيعُ إذَا أتى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ اسْتَقَرَّ الْحَقُّ على وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حتى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قال إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إلَى الْقَاضِي في زَمَانٍ يَقْدِرُ فيه على الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ولم يؤقت فيه وَقْتًا وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي
وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ ولم يَطْلُبْ من غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عن الشَّفِيعِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عن الْإِنْسَانِ على وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ وفي إبْقَاءِ هذا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ خَوْفًا من النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَلَا بُدَّ من التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ فَقَدَّرْنَا بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ فإذا مَضَى شَهْرٌ ولم يَطْلُبْ من غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فرض ( ( ( فرط ) ) ) في الطَّلَبِ فبطل ( ( ( فتبطل ) ) ) شُفْعَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إن الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قد ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالٍ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ منه لَا يَكُونُ إبْطَالًا كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَقَوْلُهُ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ فإنه إذَا عَلِمَ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَمْتَنِعَ من الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ خَوْفًا من النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَلَئِنْ فَعَلَ فَهُوَ الذي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ ذلك إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَلِهَذَا لم يَبْطُلْ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِغَيْبَةِ الشَّفِيعِ وَلَا يُقَالُ إن فيه ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي بِالِامْتِنَاعِ من الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ودلالة ( ( ( دلالة ) ) )
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أو أَسْقَطْتُهَا أو أَبْرَأْتُكَ عنها أو سَلَّمْتُهَا وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيها اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عن الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذلك سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أو لم يَعْلَمْ بَعْدَ أَنْ كان بَعْدَ الْبَيْعِ لِأَنَّ هذا إسْقَاطُ الْحَقِّ صَرِيحًا وَصَرِيحُ الْإِسْقَاطِ يَسْتَوِي فيه الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ كَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عن الْحُقُوقِ بِخِلَافِ الْإِسْقَاطِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فإنه لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ ثَمَّةَ إلَّا الْعِلْمُ وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ بَعْدَ هذا وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قبل الْبَيْعِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ قبل وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ
وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ بِقَدْرٍ من الثَّمَنِ أو جِنْسٍ منه أو من فُلَانٍ فَسَلَّمَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ هل يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ فَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كان لَا يَخْتَلِفُ غَرَضُ الشَّفِيعِ في التَّسْلِيمِ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَإِنْ كان يَخْتَلِفُ غَرَضُهُ لم يَصِحَّ وهو على شُفْعَتِهِ لِأَنَّ غَرَضَهُ في التَّسْلِيمِ إذَا لم يَخْتَلِفْ بين ما أُخْبِرَ بِهِ وَبَيْنَ ما بِيعَ بِهِ وَقَعَ
____________________

(5/19)


التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَصَحَّ وإذا اخْتَلَفَ غَرَضُهُ في التَّسْلِيمِ لم يَقَعْ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فلم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفَيْنِ فَلَا شُفْعَةَ له لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ كان لِاسْتِكْثَارِهِ الثَّمَنَ فإذا لم تَصْلُحْ له بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَبِأَكْثَرِهِمَا أَوْلَى فَحَصَلَ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ
وَلَوْ أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بخمسائة ( ( ( بخمسمائة ) ) ) فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ لَا يَدُلُّ على التَّسْلِيمِ عِنْدَ قِلَّتِهِ فلم يَحْصُلْ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَقِيَ على شُفْعَتِهِ
وَلَوْ أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ كانت قِيمَتُهَا أَلْفًا أو أَكْثَرَ فَلَا شُفْعَةَ له وَإِنْ كانت أَقَلَّ فَهُوَ على شُفْعَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ له الشُّفْعَةُ في الْوَجْهَيْنِ جميعا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَاعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ هو الْأَصْلُ وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ قد تيسر ( ( ( يتيسر ) ) ) عليه جِنْسٌ وَيَتَعَذَّرُ عليه الْآخَرُ فلم يَقَعْ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَيَبْقَى على شُفْعَتِهِ كما لو أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِحِنْطَةٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ
وَلَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ في حَقِّ الثَّمَنِيَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ وَقِيمَتُهَا تُقَوَّمُ الْأَشْيَاءُ بها تَقْوِيمًا وَاحِدًا أَعْنِي أنها تُقَوَّمُ بهذا مَرَّةً وَبِذَاكَ أُخْرَى وأنما يَخْتَلِفَانِ في الْقَدْرِ لَا غَيْرُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قَدْرِ قِيمَتِهِمَا في الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ كما إذَا أَخْبَرَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِأَكْثَرَ أو بِأَقَلَّ على ما بَيَّنَّا كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِحِنْطَةٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ أو أَقَلُّ أو أَكَثْرُ لِأَنَّ هُنَاكَ اخْتَلَفَ إذْ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ على الْإِطْلَاقِ وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْغَرَضِ فلم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ
وَلَوْ أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِمَكِيلٍ أو بِمَوْزُونٍ سِوَى الدارهم ( ( ( الدراهم ) ) ) وَالدَّنَانِيرِ أو عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ فَالشُّفْعَةُ قَائِمَةٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ الذي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ إذَا كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بمثله وَأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْجِنْسِ الذي أُخْبِرَ بِهِ الشَّفِيعُ فَاخْتَلَفَ الْغَرَضُ
وَلَوْ أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِعَرَضٍ وما ليس من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ الْأَلْفِ أو أَكْثَرَ صَحَّ تَسْلِيمُهُ وَإِنْ كانت أَقَلَّ لم يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ وَلَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الشَّفِيعَ هَهُنَا يَأْخُذُ الدَّارَ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له وَقِيمَتُهُ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ رَاجِعًا إلَى الْقَدْرِ فَأَشْبَهَ الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ وَالْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةٍ على ما مَرَّ
وَلَوْ أُخْبِرَ بِشِرَاءِ نِصْفِ الدَّارِ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْجَمِيعَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَلَوْ أُخْبِرَ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ فَالتَّسْلِيمُ جَائِزٌ وَلَا شُفْعَةَ له
هذا هو الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ في الْفَصْلَيْنِ وقد رُوِيَ الْجَوَابُ فِيهِمَا على الْقَلْبِ وهو أَنَّ التَّسْلِيمَ في النِّصْفِ يَكُونُ تَسْلِيمًا في الْكُلِّ وَالتَّسْلِيمُ في الْكُلِّ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا في النِّصْفِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ النِّصْفِ لِعَجْزِهِ عن الثَّمَنِ وَمَنْ عَجَزَ عن الْقَلِيلِ كان عن الْكَثِيرِ أَعْجَزَ
فَأَمَّا الْعَجْزُ عن الْكَثِيرِ لَا يدل يَدُلُّ على الْعَجْزِ عن الْقَلِيلِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ في النِّصْفِ لِلِاحْتِرَازِ عن الضَّرَرِ وهو ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْكُلِّ فَاخْتَلَفَ الْغَرَضُ فلم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ فَبَقِيَ على شُفْعَتِهِ وإذا صَحَّ تَسْلِيمُ الْكُلِّ فَقَدْ سَلَّمَ الْبَعْضَ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ دَاخِلٌ في الْكُلِّ فَصَارَ بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ مُسَلِّمًا لِلنِّصْفِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فَكَانَ التَّسْلِيمُ بِدُونِ الْعَيْبِ تَسْلِيمًا مع الْعَيْبِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
ولو أُخْبِرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فَهُوَ على شُفْعَتِهِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْأَمْنِ عن الضَّرَرِ الأمن ( ( ( والأمن ) ) ) عن ضَرَرِ زَيْدٍ لَا يَدُلُّ على الْأَمْنِ عن ضَرَرِ عَمْرٍو لِتَفَاوُتِ الناس في الْجِوَارِ
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كان له أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ عَمْرٍو لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَصِيبَ زَيْدٍ لَا نَصِيبَ عَمْرٍو فَبَقِيَ له الشُّفْعَةُ في نَصِيبِهِ وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ حَطَّ عن الْمُشْتَرِي خَمْسَمِائَةٍ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْحَطَّ كان له الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كان بِخَمْسِمِائَةٍ فَصَارَ كما إذَا أُخْبِرَ أنها بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها بِيعَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَوْ لم يَقْبَلْ الْحَطَّ لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْحَطَّ لم يَصِحَّ إذَا لم يَقْبَلْ فلم يَتَبَيَّنْ أنها بِيعَتْ بِأَنْقَصَ من أَلْفٍ فلم تَجِبْ الشُّفْعَةُ
وَلَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ التي يَشْفَعُ بها بَعْدَ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي هل تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا وَإِمَّا إنْ كان فيه شَرْطُ الْخِيَارِ فَإِنْ كان بَاتًّا لَا يَخْلُو أما إنْ بَاعَ كُلَّ الدَّارِ وأما إنْ بَاعَ جزأ منها فَإِنْ بَاعَ كُلَّهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَقِّ هو جِوَارُ الْمِلْكِ وقد زَالَ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ هذا في مَعْنَى صَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ إبْطَالَ سَبَبِ الْحَقِّ إبْطَالُ الْحَقِّ فَيَسْتَوِي فيه الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ فَإِنْ رَجَعَتْ الدَّارُ إلَى مِلْكِهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ أو بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أو بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي فَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ قد بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ
وَكَذَلِكَ لو بَاعَهَا الشَّفِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِزَوَالِ سَبَبِ الْحَقِّ وهو جوار ( ( ( جواز ) ) ) الْمِلْكِ فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ فَلَا شُفْعَةَ له لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ بَعْدَمَا بَطَلَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَإِنْ بَاعَ جزأ من دَارِهِ فَإِنْ بَاعَ جزأ شَائِعًا منها فَلَهُ الشُّفْعَةُ بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ ما بَقِيَ يَصْلُحُ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ابْتِدَاءً فَأَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسَهْلُ من الإبتداء
وَإِنْ بَاعَ جزأ مُعَيَّنًا بَيْتًا أو حُجْرَةً فَإِنْ كان ذلك لَا يَلِي الدَّارَ التي فيها الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ وهو جِوَارُ الْمِلْكِ قَائِمٌ وَإِنْ كان مِمَّا يَلِي تِلْكَ الدَّارَ فَإِنْ اسْتَغْرَقَ حُدُودَ الدَّارِ التي فيها الشُّفْعَةُ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْجِوَارَ قد زَالَ وَإِنْ بَقِيَ من حَدِّهَا شَيْءٌ مُلَاصِقٌ لِمَا بَقِيَ من الدَّارِ فَهُوَ على شُفْعَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
____________________

(5/20)


هذا الْقَدْرَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِبَقَاءِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْلَى وَإِنْ كان فيه خِيَارُ الشَّرْطِ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وهو الشَّفِيعُ فَهُوَ على شُفْعَتِهِ ما لم يُوجِبْ الْبَيْعَ لِأَنَّ السَّبَبَ وهو جِوَارُ الْمِلْكِ قَائِمٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ فَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ كان ذلك منه نَقْضًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ في الْمَبِيعِ وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْخِيَارِ وَنَقْضٌ لِلْبَيْعِ وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِأَنَّ الدَّارَ خَرَجَتْ عن مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فَزَالَ سَبَبُ الْحَقِّ وهو جِوَارُ الْمِلْكِ
وَإِنْ كان الشَّفِيعُ شَرِيكًا وَجَارًا فَبَاعَ نَصِيبَهُ الذي يَشْفَعُ بِهِ كان له أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِأَنَّهُ إنْ بَطَلَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ وهو الشَّرِكَةُ فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ وهو الْجِوَارُ وَلِهَذَا اُسْتُحِقَّ بِهِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ أَوْلَى
وَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ من الشُّفْعَةِ على مَالٍ لم يَجُزْ الصُّلْحُ ولم يَثْبُتْ الْعِوَضُ وَبَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ
أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ في الْمَحَلِّ
لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فلم يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عنه فَبَطَلَ الصُّلْحُ ولم يَجِبْ الْعِوَضُ
وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ في الشُّفْعَةِ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لم يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ
لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ على العرض ( ( ( العوض ) ) ) بَلْ هو شَيْءٌ من الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عنه فَالْتَحَقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ
وَعَلَى هذا إذَا قال الزَّوْجُ لِلْمُخَيَّرَةِ اخْتَارِينِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فقالت اخْتَرْتُكَ لم يَجِبْ الْعِوَضُ وَبَطَلَ خِيَارُهَا
وَكَذَلِكَ الْعِنِّينُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ بَعْدَمَا أُخْبِرَتْ بِسَبَبِ الْعُنَّةِ اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ بِأَلْفٍ فقالت اخْتَرْتُ بَطَلَ خِيَارُهَا ولم يَجِبْ الْعِوَضُ وفي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إذَا أَسْقَطَهَا بِعِوَضٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ الْعِوَضُ وَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ كما في الشُّفْعَةِ وفي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ بِعِوَضٍ فَالِاعْتِيَاضُ إنْ لم يَصِحَّ فَالْإِسْقَاطُ صَحِيحٌ لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ على الْعِوَضِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ما رضي بِالسُّقُوطِ إلَّا بِعِوَضٍ ولم يَثْبُتْ الْعِوَضُ فَلَا يَسْقُطُ وَأَمَّا بُطْلَانُ الشُّفْعَةِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ من الشَّفِيعِ ما يَدُلُّ على رِضَاهُ بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ لِلْمُشْتَرِي وهو ثُبُوتُ الْمِلْكِ له لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا وَذَلِكَ نَحْوُ ما إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَتَرَكَ الطَّلَبَ على الْفَوْرِ من غَيْرِ عُذْرٍ أو قام عن الْمَجْلِسِ أو تَشَاغَلَ عن الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ مع الْقُدْرَةِ عليه دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ لِلدَّخِيلِ
وَكَذَا إذَا سَاوَمَ الشَّفِيعُ الدَّارَ من الْمُشْتَرِي أو سَأَلَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إيَّاهَا أو اسْتَأْجَرَهَا الشَّفِيعُ من الْمُشْتَرِي أو أَخَذَهَا مُزَارَعَةً أو مُعَامَلَةً وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالشِّرَاءِ لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا أَمَّا الْمُسَاوَمَةُ فَلِأَنَّهَا طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ
وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ لِأَنَّهَا تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَأَنَّهَا دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ وَالْأَخْذُ مُعَامَلَةً أو مُزَارَعَةً فَلِأَنَّهَا تَقْرِيرٌ لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ دَلِيلَ الرِّضَا بِمِلْكِهِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَيْثُ شَرَطَ هَهُنَا عِلْمَ الشَّفِيعِ بِالشِّرَاءِ لِبُطْلَانِ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَهُنَاكَ لم يَشْتَرِطْ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ السُّقُوطَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِسْقَاطُ تَصَرُّفٌ في نَفْسِ الْحَقِّ فيستدعي ثُبُوتُ الْحَقِّ لَا غَيْرُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عن الدُّيُونِ وَالسُّقُوطُ هَهُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهِيَ دَلَالَةُ الرِّضَا لَا بِالتَّصَرُّفِ في مَحَلِّ الْحَقِّ بَلْ في مَحَلٍّ آخَرَ وَالتَّصَرُّفُ في مَحَلٍّ آخَرَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ إذْ الرِّضَا بالشي ( ( ( بالشيء ) ) ) بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُحَالٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ في النِّصْفِ بطلب ( ( ( بطلت ) ) ) في الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ في النِّصْفِ بَطَلَ حَقُّهُ في النِّصْفِ الْمُسَلَّمِ فيه بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَبَطَلَ حَقُّهُ في النِّصْفِ الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ في الْكُلِّ وَلَوْ طَلَبَ نِصْفَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ هل يَكُونُ ذلك تَسْلِيمًا منه لِلشُّفْعَةِ في الْكُلِّ اخْتَلَفَ فيه أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قال أبو يُوسُفَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا وقال مُحَمَّدٌ يَكُونُ تَسْلِيمًا في الْكُلِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَقَ منه طَلَبُ الْكُلِّ بِالشُّفْعَةِ فلم يُسَلِّمْ له الْمُشْتَرِي فقال له حِينَئِذٍ أَعْطِنِي نِصْفَهَا على أَنْ أُسَلِّمَ لك النِّصْفَ الْبَاقِيَ فإن هذا لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ في النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ فيه مع الْقُدْرَةِ عليه وَذَا دَلِيلُ الرِّضَا فَبَطَلَ حَقُّهُ فيه فَيَبْطُلُ حَقُّهُ في النِّصْفِ الْمَطْلُوبِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ ما إذَا كان سَبَقَ منه الطَّلَبُ في الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ
____________________

(5/21)


في الْكُلِّ فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ في الْكُلِّ ولم يَكُنْ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلك أَعْطِنِي النِّصْفَ على أَنْ أُسَلِّمَ لك النِّصْفَ الْبَاقِيَ تَسْلِيمًا بِخِلَافِ ما إذَا قال ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْحَقَّ لم يَتَقَرَّرْ بَعْدُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ له في كل الدَّارِ وَالْحَقُّ إذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِسْقَاطِ ولم يُوجَدْ فَبَقِيَ كما كان إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عن هذا أَنَّهُ وُجِدَ منه الْإِسْقَاطُ في النِّصْفِ الذي لم يَطْلُبْهُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوُ أَنْ يَمُوتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ قبل الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَبْطُلُ وَلِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ ولقب ( ( ( ولغب ) ) ) الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشُّفْعَةِ هل يُوَرَّثُ عِنْدَنَا لَا يُوَرَّثُ وَعِنْدَهُ يُوَرَّثُ وَالْكَلَامُ فيه من الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ الْكَلَامِ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ من وَارِثِهِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ على الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَجْبُورٌ عليه في التَّمَلُّكِ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُمْلَكُ بِهِ الْمَشْفُوعُ فيه فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَشْفُوعُ فيه يُمْلَكُ بِالتَّمَلُّكِ وهو تَفْسِيرُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا مِلْكَ لِلشَّفِيعِ قبل الْأَخْذِ بَلْ له حَقُّ الْأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ قبل الْأَخْذِ لِلْمُشْتَرِي لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيه وهو الشِّرَاءُ فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَيَغْرِسَ وَيَهْدِمَ وَيَقْلَعَ وَيُؤَاجِرَ وَيَطِيبَ له الْأَجْرُ وَيَأْكُلَ من ثِمَارِ الْكَرْمِ وَنَحْوِ ذلك وَكَذَا له أَنْ يَبِيعَ وَيَهَبَ وَيُوصِيَ وإذا فَعَلَ يَنْفُذُ إلَّا أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ ذلك بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ سَابِقٌ على تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَيَمْتَنِعُ اللُّزُومُ وَلَوْ جَعَلَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا أو مَقْبَرَةً فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَنْقُضَ ما صَنَعَ الْمُشْتَرِي كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ كما لو بَاعَ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَفَذَ ولم يَلْزَمْ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ كَالْإِعْتَاقِ فَكَانَ نَفَاذُهَا لُزُومَهَا
وَلَنَا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِالْمَبِيعِ يَمْنَعُ من صَيْرُورَتِهِ مَسْجِدًا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ ما يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ يَمْنَعُ خُلُوصَهُ لِلَّهِ عز وجل فَيَمْنَعُ صَيْرُورَتَهُ مَسْجِدًا وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وهو جِوَارُ الْمِلْكِ أو الشَّرِكَةُ في مِلْكِ الْمَبِيعِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ هذه الدَّارِ فَطَالَبَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ وقضى له بها ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ يُقْضَى له بِالدَّارِ التي بِجِوَارِهِ وَيَمْضِي الْقَضَاءُ في الثَّانِيَةِ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا لِلشَّفِيعِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا لِلْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْجِوَارَ كان ثَابِتًا له وَقْتَ الْبَيْعِ وَالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ إلَّا أَنَّهُ بَطَلَ بَعْدَ ذلك بِأَخْذِ الشَّفِيعِ لِلدَّارِ بِالشُّفْعَةِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ جِوَارَ الْمِلْكِ لم يَكُنْ ثَابِتًا كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فقضى له بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ التي بها يَشْفَعُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كان الشَّفِيعُ جَارًا لِلدَّارَيْنِ فَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فيقضي له بِكُلِّ الدَّارِ الْأُولَى وَبِالنِّصْفِ من الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ جَارٌ خَاصٌّ لِلدَّارِ الْأُولَى فَيَخْتَصُّ بِشُفْعَتِهَا وهو مع الْمُشْتَرِي جَارَانِ لِلدَّارِ الثَّانِيَةِ فَيَشْتَرِكَانِ في شُفْعَتِهَا وَشِرَاءُ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ في الشُّفْعَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُقَرِّرُهُ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ ثُمَّ اشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ نِصْفَهَا الْآخَرَ فَخَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فيقضي له بِالشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ ثُمَّ خَاصَمَهُ الْجَارُ في الشُّفْعَتَيْنِ جميعا أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَلَا حَقَّ له في النِّصْفِ الثَّانِي لِأَنَّهُ جَارٌ لِلنِّصْفِ الْأَوَّلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي شَرِيكٌ عِنْدَ بَيْعِ النِّصْفِ الثَّانِي لِثُبُوتِ الْمِلْكِ له في النِّصْفِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ وَثُبُوتُ الْحَقِّ لِلشَّفِيعِ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فيه فَكَانَ شَرِيكًا عِنْدَ بَيْعِ النِّصْفِ الثَّانِي وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى نِصْفَهَا ثُمَّ اشْتَرَى نِصْفَهَا الْآخَرَ رَجُلٌ آخَرُ فلم يُخَاصِمْهُ فيه حتى أَخَذَ الْجَارُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ فَالْجَارُ أَحَقُّ بِالنِّصْفِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ قد بَطَلَ بِأَخْذِ الْجَارِ بِالشُّفْعَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُ في الشُّفْعَةِ
وَلَوْ وَرِثَ رَجُلٌ دَارًا فَبِيعَتْ دَارُ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمَوْرُوثَةُ وَطَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فإن الْمُسْتَحِقَّ يَأْخُذُ الدَّارَ الثَّانِيَةَ وَالْوَارِثُ أَحَقُّ بِالثَّالِثَةِ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّارَ التي يَشْفَعُ بها الْوَارِثُ كانت مِلْكَ الْمُسْتَحِقِّ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ حَقٍّ إذْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ جَارًا فَكَانَتْ الشُّفْعَةُ في الثَّانِيَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ وَالْوَارِثُ
____________________

(5/22)


يَكُونُ أَحَقَّ بِالثَّالِثَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ كان ثَابِتًا لِلْوَارِثِ عِنْدَ بَيْعِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ السَّبَبُ وهو جِوَارُ الْمِلْكِ ثَابِتًا له عِنْدَهُ ثُمَّ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الشُّفْعَةِ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ قِسْمَةَ الْمُشْتَرِي حتى لو اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ من رَجُلٍ مُشَاعًا وَقَاسَمَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ ليس لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهَا لِيَأْخُذَ نِصْفَهَا مُشَاعًا
سَوَاءٌ كانت قِسْمَتُهُ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ من تَمَامِ الْقَبْضِ
وَلِهَذَا لم تَصِحَّ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ وَالْقَبْضُ على التَّمَامِ لَا يَتَحَقَّقُ مع الشِّيَاعِ
وإذا كانت الْقِسْمَةُ من تَمَامِ الْقَبْضِ فَالشَّفِيعُ لَا يَمْلِكُ نَقْضَ الْقَبْضِ بِأَنْ اشْتَرَى دَارًا وَقَبَضَهَا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَهُ لِيَأْخُذَهَا من الْبَائِعِ لم يَمْلِكْ ذلك وإذا لم يَمْلِكْ نَقْضَ الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ نَقْضَ ما بِهِ تَمَامُ الْقَبْضِ وهو الْقِسْمَةُ بِخِلَافِ ما إذَا كانت الدَّارُ مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من رَجُلٍ فَقَاسَمَ الْمُشْتَرِي الشَّرِيكَ الذي لم يَبِعْ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ له أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ من جُمْلَةِ الْقَبْضِ لِأَنَّهَا من حُكْمِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ إذْ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ كما أَوْجَبَ الْمِلْكَ أَوْجَبَ الْقِسْمَةَ في الْمُشَاعِ وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ لم يَقَعْ مع هذا الْمُشْتَرِي الذي قَاسَمَ فلم تَكُنْ هذه الْقِسْمَةُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بَلْ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ نَقْضَهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الذي أَصَابَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ وَقَعَ نَصِيبُ الْمُشْتَرِي من جَانِبِ الشَّفِيعِ أو من جَانِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ له في النِّصْفِ المشتري وَالنِّصْفُ الذي أَصَابَ الْمُشْتَرِي هو الْمُشْتَرَى لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ
وَلَوْ وَقَعَ نَصِيبُ الْبَائِعِ من جَانِبِ الشَّفِيعِ فَبَاعَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قبل طَلَبِ الشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ الْأُولَى ثُمَّ طَلَبَ الشَّفِيعُ فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ الْأَخِيرَةِ جَعَلَ نِصْفَ الْبَائِعِ بين الشَّفِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى وَهِيَ نِصْفُ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مع الْمُشْتَرِي جَارَانِ لِنِصْفِ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعُ جَارٌ خَاصٌّ لِنِصْفِ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ بَدَأَ فَقَضَى لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى قَضَى له بِالْأَخِيرَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا قضي له بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى بَطَلَ حَقُّ جِوَارِ الْمُشْتَرِي فلم يَبْقَ له حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَرُدَّ الْمَشْفُوعَ فيه بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فيه لَمَّا كان يَثْبُتُ بِالتَّمَلُّكِ بِبَدَلٍ كان الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءً فَيُرَاعَى فيه أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ وَبَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ فَالتَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ إمَّا بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي وَإِمَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَمَّا التَّمَلُّكُ بِالتَّسْلِيمِ بِالْبَيْعِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي بِرِضَاهُ بِبَدَلٍ يبذله ( ( ( يبدله ) ) ) الشَّفِيعُ وهو الثَّمَنُ يُفَسِّرُ الشِّرَاءَ وَالشِّرَاءُ تَمَلُّكٌ
وَأَمَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّمَلُّكِ بِالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ وفي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ
وفي بَيَانِ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الذي كان بين الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي في الْمَشْهُورِ من قَوْلِهِمْ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ الْبَيْعُ لَا يُنْتَقَضُ بَلْ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ وقال بَعْضُهُمْ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الذي جَرَى بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَيَنْعَقِدُ لِلشَّفِيعِ بَيْعٌ آخَرُ كَأَنَّهُ كان من الْبَائِعِ إيجَابَانِ أَحَدُهُمَا مع الْمُشْتَرِي وَالْآخَرُ مع الشَّفِيعِ فإذا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ قَبِلَ الشَّفِيعُ الْإِيجَابَ الذي أُضِيفَ إلَيْهِ وَانْتَقَضَ ما أُضِيفَ إلَى الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْإِيجَابَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أو لم يَقْبَلْ
وَجْهُ قَوْلِ من قال بِالتَّحَوُّلِ لَا بِالِانْتِقَاضِ أَنَّ الْبَيْعَ لو انْتَقَضَ لَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ من شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فإذا انْتَقَضَ لم يَجِبْ فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ
وَجْهُ قَوْلِ من قال أَنَّهُ يُنْتَقَضُ نَصُّ مُحَمَّدٍ وَالْمَعْقُولُ وَالْأَحْكَامُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال انْتَقَضَ الْبَيْعُ فِيمَا بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ قبل الْقَبْضِ فَقَدْ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عن قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالْعَجْزُ عن قَبْضِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ لِخُلُوِّهِ عن الْفَائِدَةِ كما إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمِلْكَ قبل الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي لِوُجُودِ آثَارِ الْمِلْكِ في حَقِّهِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ تَحَوَّلْ الْمِلْكُ إلَى الشَّفِيعِ لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ المشتري ( ( ( للمشتري ) ) )
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ
____________________

(5/23)


فإن لِلشَّفِيعِ أَنْ يَرُدَّ الدَّارَ على من أَخَذَهَا منه بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وإذا رَدَّ عليه لَا يَعُودُ شِرَاءُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ تَحَوَّلَتْ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ لَعَادَ شِرَاءُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ التَّحَوُّلَ كان لِضَرُورَةِ مُرَاعَاةِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَمَّا رَدَّ فَقَدْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ الشِّرَاءُ وَلِأَنَّهَا لو تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ لَصَارَ الْمُشْتَرِي وَكِيلًا لِلشَّفِيعِ لِأَنَّ عَقْدَهُ يَقَعُ له وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ لِلشَّفِيعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا كان الْمُشْتَرِي رَآهَا قبل ذلك وَرَضِيَ بها لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ
وَكَذَلِكَ لو كان الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِلْحَالِ يَأْخُذُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَلَوْ تَحَوَّلَتْ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ لَأَخَذَهَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَكَذَا لو اشْتَرَاهَا على الْبَائِعَ برىء ( ( ( بريء ) ) ) من كل عَيْبٍ بها عِنْدَ الْبَيْعِ ثُمَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ فَوَجَدَ بها عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا على من أَخَذَهَا منه
وَلَوْ تَحَوَّلَتْ تِلْكَ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ لَمَا ثَبَتَ له حَقُّ الرَّدِّ كما لم يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي فَدَلَّتْ هذه الْمَسَائِلُ على أَنَّ شِرَاءَ الْمُشْتَرِي يُنْتَقَضُ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِشِرَاءٍ مبتدأ بَعْدَ إيجَابٍ مبتدأ مُضَافٍ إلَيْهِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ أَنَّ الْبَيْعَ لو انْتَقَضَ لَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِذَلِكَ الْعَقْدِ لِانْتِقَاضِهِ بَلْ بِعَقْدٍ مبتدأ مُقَرَّرٍ بين الْبَائِعِ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ على ما بَيَّنَّا تَقْرِيرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ منه وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ وَقَعَ على الْمُشْتَرِي فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى منه ثُمَّ إذَا أَخَذَ الدَّارَ من يَدِ الْبَائِعِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عليه وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ من الْبَائِعِ إنْ كان قد نَقَدَ وَإِنْ أَخَذَهَا من يَدِ الْمُشْتَرِي دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عليه لِأَنَّ الْعُهْدَةَ هِيَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ على من قَبَضَ الثَّمَنُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كان نَقَدَ الثَّمَنَ ولم يَقْبِضْ الدَّارَ حتى قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ من الْبَائِعِ وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَالْعُهْدَةُ على الْمُشْتَرِي
وَإِنْ كان لم يَنْقُدْ دَفَعَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَالْعُهْدَةُ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا كان نَقَدَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ لَا يَقَعُ على الْبَائِعِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له وَلَا بُدَّ أَيْضًا لِبُطْلَانِ حَقِّ الْحَبْسِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ بَلْ يَقَعُ على الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ الثَّمَنُ له وَالْعُهْدَةُ عليه وإذا كان لم يَنْقُدْ فَلِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ من قَبْضِ الدَّارِ إلَّا بِدَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ فَكَانَتْ الْعُهْدَةُ على الْبَائِعِ وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ فَحَضْرَةُ الْمَقْضِيِّ عليه لِأَنَّ الْقَضَاءَ على الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ فَلَا بُدَّ من حَضْرَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ أَمَّا الْبَائِعُ فَبِالْيَدِ وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَبِالْمِلْكِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْضِيًّا عليه فَيُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُمَا لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءٌ على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ
وَأَمَّا إنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَضْرَةُ الْبَائِعِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ويكتفي بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ عن الْمَبِيعِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَذَا حَضْرَةُ الشَّفِيعِ أو وَكِيلِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ له بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ على الْغَائِبِ كما لَا يَجُوزُ فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا ثُمَّ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ وَلَا يَقِفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ له على التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَالشِّرَاءُ الصَّحِيحُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ
وَأَمَّا وَقْتُ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ فَوَقْتُهُ وَقْتُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بها فإذا طَالَبَهُ بها الشَّفِيعُ يَقْضِي الْقَاضِي له بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ حَضَرَ الثَّمَنُ أو لَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الدَّارَ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ من الشَّفِيعِ
وَكَذَا الْوَرَثَةُ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ
فَإِنْ أَبَى أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ الْقَاضِي
لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالِامْتِنَاعِ من إيفَاءِ حَقٍّ وَاجِبٍ عليه فَيَحْبِسُهُ وَلَا يَنْقُضُ الشُّفْعَةَ كَالْمُشْتَرِي إذَا امْتَنَعَ من إيفَاءِ الثَّمَنِ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ وَإِنْ طَلَبَ أَجَلًا لِنَقْدِ الثَّمَنِ أَجَّلَهُ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّقْدُ لِلْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ فيها من النَّقْدِ فيهمله ( ( ( فيمهله ) ) ) وَلَا يَحْبِسُهُ
لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ بِالْمَطْلِ ولم يَظْهَرْ مَطْلُهُ
فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ ولم يَنْقُدْ حَبَسَهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ حتى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الْمَالَ فَإِنْ طَلَبَ أَجَلًا أَجَّلَهُ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ولم يَقْضِ له بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ أَبَى الشَّفِيعُ أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ وَهَذَا عِنْدِي ليس بِاخْتِلَافٍ على الْحَقِيقَةِ وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ قبل إحْضَارِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ حتى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الْمَالَ لَا يَدُلُّ على أَنَّهُ ليس له أَنْ يَقْضِيَ بَلْ هو إشَارَةٌ إلَى نَوْعِ احْتِيَاطٍ
____________________

(5/24)


وَاخْتِيَارُ الْأَوَّلِ لَا تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ لَا يَنْبَغِي إلَّا في مِثْلِهِ وَلِهَذَا لو قضي جَازَ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ نَصَّ عليه مُحَمَّدٌ وَلَيْسَ ذلك لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِمَذْهَبِ الْمُخَالِفِ في الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ بِشَرِيطَةِ اعْتِقَادِ إصَابَتِهِ فيه وَإِفْضَاءِ اجْتِهَادِهِ إلَيْهِ وقد أَطْلَقَ الْقَضِيَّةَ في النَّفَاذِ من غَيْرِ هذا الشَّرْطِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ على التَّحْقِيقِ ثُمَّ إنْ ثَبَتَ الْخِلَافُ
فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عن الشَّفِيعِ وَالْقَضَاءُ قبل إحْضَارِ الثَّمَنِ يَتَضَمَّنُ الضَّرَرَ بِالْمُشْتَرِي لِاحْتِمَالِ إفْلَاسِ الشَّفِيعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عن الْإِنْسَانِ بِإِضْرَارِ غَيْرِهِ مُتَنَاقِضٌ فَلَا يقضي قبل الْإِحْضَارِ وَلَكِنْ يُؤَجِّلُهُ يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةً إنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ تَمْكِينًا له من نَقْدِ الثَّمَنِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا الْمَشْفُوعَ فيه بِمُقْتَضَى الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ كان اشْتَرَاهُ منه وَالتَّمَلُّكُ بِالشِّرَاءِ لَا يَقِفُ على إحْضَارِ الثَّمَنِ كما في الشِّرَاءِ المبتدأ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لو ضَرَبَ له الْقَاضِي أَجَلًا فقال له إنْ لم تَأْتِ بِالثَّمَنِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَلَا شُفْعَةَ لك فلم يَأْتِ بِهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ
وَكَذَا إذَا قال الشَّفِيعُ إنْ لم أُعْطِكَ الثَّمَنَ إلَى وَقْتِ كَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ من الشُّفْعَةِ لِأَنَّ هذا تَعْلِيقُ إسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ بِالشَّرْطِ وَالْإِسْقَاطَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ شَرْطِ التَّمَلُّكِ فَالتَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ له شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا رِضَا الْمُشْتَرِي أو قَضَاءُ الْقَاضِي لِأَنَّ تَمَلُّكَ مَالِ الْغَيْرِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ في الشَّرْعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أو بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَثْبُتُ التَّمَلُّكُ بِدُونِهِمَا
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ التَّمَلُّكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَإِنْ تَضَمَّنَ ليس له أَنْ يَتَمَلَّكَ لِأَنَّ في التَّفْرِيقِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي وهو ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ مُتَنَاقِضٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ المشتري بِالشُّفْعَةِ دُونَ بعض ( ( ( بعضه ) ) ) أَنَّهُ هل يَمْلِكُ ذلك فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ المشتري لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مُمْتَازًا عن الْبَعْضِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ اشْتَرَى دَارًا وَاحِدَةً فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْبَعْضِ أو يَأْخُذَ الْجَانِبَ الذي يَلِي الدَّارَ دُونَ الْبَاقِي ليس له ذلك بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْكُلَّ أو يَدَعُ لِأَنَّهُ لو أَخَذَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمِلْكَ له في كل الدَّارِ ثَبَتَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَكَانَ أَخْذُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا فَلَا يَمْلِكُهُ الشَّفِيعُ وَسَوَاءٌ اشْتَرَى وَاحِدٌ من وَاحِدٍ أو وَاحِدٌ من اثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ حتى لو أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ ليس له لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ أو لم يَقْبِضْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ قبل الْقَبْضِ وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ من الْمُشْتَرِي نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّمَلُّكَ قبل الْقَبْضِ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّفْرِيقِ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ يَقَعُ على الْبَائِعِ وقد خَرَجَ نَصِيبُهُ عن مِلْكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَرَرُ التَّفْرِيقِ وهو ضَرَرُ الشَّرِكَةِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَقَعُ على الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُهْدَةَ عليه وَفِيهِ تفريق ( ( ( تفرق ) ) ) مِلْكِهِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَبِمِلْكِ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ تَفْرِيقَ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ من رَجُلٍ حرا ( ( ( دارا ) ) ) فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْأَخْذَ هُنَا لَا يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ حَصَلَتْ مُتَفَرِّقَةً وَقْتَ وُجُودِهَا إذْ الْمِلْكُ في نَصِيبِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ فلم تَتَّحِدْ الصَّفْقَةُ فَلَا يَقَعُ الْأَخْذُ تَفْرِيقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَهُ وَسَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَبْضِ أو قَبْلَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ ليس لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ قبل الْقَبْضِ إلَّا الْكُلَّ وَبَعْدَ الْقَبْضِ له أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ أَخْذَ الْبَعْضِ قبل الْقَبْضِ يَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الْيَدِ على الْبَائِعِ وَالتَّمَلُّكُ قبل الْقَبْضِ لَا يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ يَقَعُ على الْبَائِعِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لو أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ حِصَّتَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ليس له ذلك
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ حَصَلَتْ مُتَفَرِّقَةً من الِابْتِدَاءِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قبل الْأَخْذِ وَقَوْلُهُ فيه تَفْرِيقُ الْيَدِ وهو الْقَبْضُ مَمْنُوعٌ فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالشُّفْعَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ الْيَدَ حتى لو نَقَدَ الثَّمَنَ ليس له أَنْ يَقْبِضَ أَحَدَ النِّصْفَيْنِ ما لم يَنْقُدْ الْآخَرَ كيلا يَتَفَرَّقَ الْقَبْضُ وَسَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ نِصْفٍ ثَمَنًا على حِدَةٍ أو سَمَّى لِلْجُمْلَةِ ثَمَنًا وَاحِدًا فَالْعِبْرَةُ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَتَعَدُّدِهَا لَا لِاتِّحَادِ الثَّمَنِ وَتَعَدُّدِهِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من التَّفْرِيقِ هو الضَّرَرُ وَالضَّرَرُ
____________________

(5/25)


يَنْشَأُ عن اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ لَا عن اتِّحَادِ الثَّمَنِ وَسَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي عَاقِدًا لِنَفْسِهِ أو لِغَيْرِهِ في الْفَصْلَيْنِ جميعا حتى لو وَكَّلَ رَجُلَانِ جميعا رَجُلًا وَاحِدًا بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ من رَجُلَيْنِ فَجَاءَ الشَّفِيعُ ليس له أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ فَاشْتَرَيَا من وَاحِدٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ ما اشْتَرَاهُ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ وَكَذَا لو كان الْوُكَلَاءُ عَشَرَةً اشْتَرَوْا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ من وَاحِدٍ أو من اثْنَيْنِ أو من ثَلَاثَةٍ
قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ في هذا إلَى الْمُشْتَرِي وَلَا أَنْظُرُ إلَى الْمُشْتَرَى له وهو نَظَرٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ من حُقُوقِ الْبَيْعِ وَأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِاتِّحَادِ الْوَكِيلِ وَتَعَدُّدِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ كان المشتري بَعْضُهُ مُمْتَازًا عن الْبَعْضِ بِأَنْ اشْتَرَى دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَإِنْ كان شَفِيعًا لَهُمَا جميعا فَلَيْسَ له ذلك وَلَكِنْ يَأْخُذُهُمَا جميعا أو يَدَعُهُمَا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَن
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَانِعَ من أَخْذِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ هو لُزُومُ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِانْفِصَالِ كل وَاحِدَةٍ من الدَّارَيْنِ عن الْأُخْرَى
وَلَنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الدَّارَيْنِ بِقَبُولٍ وَاحِدٍ فَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ تَفْرِيقَهَا كما في الدَّارِ الْوَاحِدَةِ وَقَوْلُهُ ليس فيه ضَرَرُ الشَّرِكَةِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ فيه ضَرَرٌ آخَرُ وهو أَنَّ الْجَمْعَ بين الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ في الصَّفْقَةِ مُعْتَادٌ فِيمَا بين الناس فَلَوْ ثَبَتَ له حَقُّ أَخْذِ أَحَدِهِمَا لَأَخَذَ الْجَيِّدَ فَيَتَضَرَّرُ له الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الرَّدِيءَ لَا يشتري وَحْدَهُ بِمِثْلِ ما يشتري مع الْجَيِّدِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَسَوَاءٌ كانت الدَّارَانِ مُتَلَاصِقَتَيْنِ أو مُتَفَرِّقَتَيْنِ في مِصْرٍ وَاحِدٍ أو مِصْرَيْنِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى في الْجَانِبَيْنِ فَإِنْ كان الشَّفِيعُ شَفِيعًا لأحداهما دُونَ الْأُخْرَى وَوَقَعَ الْبَيْعُ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَهَلْ له أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ روى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ليس له أَنْ يَأْخُذَ إلَّا التي تُجَاوِرُهُ بِالْحِصَّةِ
وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في الدَّارَيْنِ الْمُتَلَاصِقَيْنِ إذَا كان الشَّفِيعُ جَارًا لأحدهما ( ( ( لإحداهما ) ) ) أَنَّهُ ليس له الشُّفْعَةُ إلَّا فِيمَا يَلِيهِ وَكَذَا قال مُحَمَّدٌ في الْأَقْرِحَةِ الْمُتَلَاصِقَةِ وَوَاحِدٌ منها يَلِي أَرْضَ إنْسَانٍ وَلَيْسَ بين الْأَقْرِحَةِ طَرِيقٌ وَلَا نَهْرٌ إنَّمَا هِيَ مُنْسَاةٌ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ له إلَّا في الْقَرَاحِ الذي يَلِيهِ خَاصَّةً
وَكَذَلِكَ في الْقَرْيَةِ إذَا بِيعَتْ بِدُورِهَا وَأَرَاضِيهَا أَنَّ لِكُلِّ شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ الْقَرَاحَ الذي يَلِيهِ خَاصَّةً وروي الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ في ذلك كُلِّهِ بِالشُّفْعَةِ
قال الْكَرْخِيُّ رِوَايَةُ الْحَسَنِ تَدُلُّ على أَنَّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ كان مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ رَجَعَ عن ذلك فَجَعَلَهُ كَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وهو الْجِوَارُ وُجِدَ في أَحَدِهِمَا وهو ما يَلِيهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَخْذَ أَحَدِهِمَا وَالصَّفْقَةُ وَإِنْ وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً وَلَكِنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ فيه حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالْآخَرُ لم يَثْبُتْ فيه حَقُّ الشُّفْعَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ما ثَبَتَ فيه الْحَقُّ كما إذَا اشْتَرَى عَقَارًا أو مَنْقُولًا صَفْقَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَأْخُذُ الْعَقَارَ خَاصَّةً كَذَا هذا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَإِنْ وُجِدَ فِيمَا يَلِيهِ دُونَ الْبَاقِي لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِهِ خَاصَّةً بِدُونِ الْبَاقِي لِمَا فيه من تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَيَأْخُذُ ما يَلِيهِ قَضِيَّةً لِلسَّبَبِ وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ ضَرُورَةَ التَّحَرُّزِ عن تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُتَمَلَّكُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ثَمَنُ المشتري لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له كالزروعات ( ( ( كالمزروعات ) ) ) وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذلك فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بمثله لِأَنَّ فيه تَحْقِيقَ مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ إذْ هو تَمْلِيكٌ بِمِثْلِ ما تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له يَأْخُذُ بِقِيمَتِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْخُذُ بِقِيمَةِ المشتري
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى من الثَّمَنِ هو الْأَصْلُ في الشَّرِيعَةِ كما في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَهَهُنَا تَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالْمُسَمَّى فَصَارَ إلَى قِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَقَارِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُمَلِّكُ بِمِثْلِ ما تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان الثَّمَنُ الذي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كان الْأَخْذُ بِهِ تَمَلُّكًا بِالْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَإِنْ لم يَكُنْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كان الْأَخْذُ بِقِيمَتِهِ تَمَلُّكًا بِالْمِثْلِ مَعْنًى لِأَنَّ قِيمَتَهُ مِقْدَارُ مَالِيَّتِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ لِهَذَا سُمِّيَتْ قِيمَتُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ فَكَانَ مثله مَعْنًى وَأَمَّا قِيمَةُ الدَّارِ فَلَا تَكُونُ مِثْلَ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَالتَّمَلُّكُ بها لَا يَكُونُ تَمَلُّكًا بِالْمِثْلِ فَلَا
____________________

(5/26)


يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ تَبَايَعَا دَارًا بِدَارٍ فَلِشَفِيعِ كل وَاحِدَةٍ من الدَّارَيْنِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ الدَّارَ لَيْسَتْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِمِثْلِهَا فَيَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما لو اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ ولم يَتَقَابَضَا حتى هَلَكَ الْعَرَضُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ وَكَذَلِكَ لو كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ الدَّارَ ولم يُسَلِّمْ الْعَرَضَ حتى هَلَكَ
أَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فِيمَا بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْعَرَضَ مَبِيعٌ إذا الْمَبِيعُ في الْأَصْلِ ما يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في الْبَيْعِ والغرض ( ( ( والعرض ) ) ) يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في الْبَيْعِ فَكَانَ مَبِيعًا وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْهَلَاكِ فلم يَكُنْ في إبْقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ
وَأَمَّا بَقَاءُ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه قِيمَةُ الْعَرَضِ لَا عَيْنُهُ وَالْقِيمَةُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ في حَقِّهِ فَكَانَ بَقَاءُ الْعَرَضِ في حَقِّ الشَّفِيعِ وَهَلَاكُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ الشَّفِيعُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَا بِمَا أَعْطَى بَدَلًا من الْوَاجِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُمَلِّكُ بِمِثْلِ ما تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي تَمَلَّكَ الْمَبِيعَ بِالْمُسَمَّى وهو الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِهِ حتى لو اشْتَرَى الدَّارَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ثُمَّ دَفَعَ مَكَانَهَا عَرَضًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا بِالْعَرَضِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ هِيَ الْوَاجِبَةُ بِالْعَقْدِ
وَأَمَّا الْعَرَضُ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ بِعَقْدٍ آخَرَ وهو الِاسْتِبْدَالُ فلم يَكُنْ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ عَرَضًا ابْتِدَاءً ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَكَانَ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ لَا بِالْعَرَضِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ في الثَّمَنِ فَالزِّيَادَةُ لَا تَلْزَمُ الشَّفِيعَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ ما وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ في حَقِّ الشَّفِيعِ لِانْعِدَامِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً إلَّا أنها جُعِلَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا فَلَا يَظْهَرُ الْوُجُودُ في حَقِّ الشَّفِيعِ فلم تَكُنْ الزِّيَادَةُ ثَمَنًا في حَقِّهِ بَلْ كانت هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بها الشُّفْعَةُ كَالْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ
وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ عن الْمُشْتَرِي أو أَبْرَأَهُ عن الْبَعْضِ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَظْهَرُ في حَقِّ الشَّفِيعِ كان الْعَقْدَ ما وَرَدَ إلَّا على هذا الْقَدْرِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فإن الْتِحَاقَهَا لَا يَظْهَرُ في حَقِّ الشَّفِيعِ لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ في تَصْحِيحِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا في حَقِّ الشَّفِيعِ ضَرَرًا بِهِ وَلَا ضَرَرَ عليه في الْحَطِّ وَلَوْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ لِأَنَّ حَطَّ كل الثَّمَنِ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لو الْتَحَقَ لَبَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فلم يَصِحَّ الْحَطُّ في حَقِّ الشَّفِيعِ وَالْتَحَقَ في حَقِّهِ بِالْعَدَمِ فَيَأْخُذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ لِأَنَّ حَطَّ كل الثَّمَنِ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَصَحَّ في حَقِّ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان إبْرَاءً له عن الثَّمَنِ
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ مُضِيَّ الْأَجَلِ فَأَخَذَ عِنْدَ ذلك وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَهَا لِلْحَالِّ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْبَيْعِ وَالْأَجَلُ لم يَجِبْ بِالْبَيْعِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لم يُوجَدْ في حَقِّ الشَّفِيعِ وَلِهَذَا لم يَثْبُتْ خِيَارُ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْطِ ولم يُوجَدْ من الشَّفِيعِ وَكَذَا الْبَرَاءَةُ عن الْعَيْبِ لَا تَثْبُتُ في حَقِّ الشَّفِيعِ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِالشَّرْطِ ولم يُوجَدْ مع الشَّفِيعِ كَذَا هذا وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ من الْأَخْذِ في الْحَالِّ لِأَنَّ الشَّفِيعَ غَيْرُ مَجْبُورٍ على الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ
وَلَوْ اخْتَارَ الشَّفِيعُ أَخْذَ الدَّارِ بِثَمَنٍ حَالٍّ كان الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ على الْمُشْتَرِي إلَى أَجَلٍ لِأَنَّ الْأَخْذَ من الْمُشْتَرِي منه بِمَنْزِلَةِ التَّمَلُّكِ المبتدأ كَأَنَّهُ اشْتَرَى منه فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ على حَالِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ على حَالِهِ إلَى أَجَلِهِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في شِرَاءِ الدَّارِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَنَّهُ يَجِبُ على الشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ عنه عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ فَإِنْ سَكَتَ إلَى حِينِ مَحِلِّ الْأَجَلِ فَذَلِكَ تَسْلِيمٌ منه ثُمَّ رَجَعَ وقال إذَا طَلَبَ عِنْدَ حَلِّ الْأَجَلِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لم يَطْلُبْ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ وَقْتَ الطَّلَبِ هو وَقْتُ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ لَا وَقْتَ حَلِّ الْأَجَلِ فَقَدْ أَخَّرَهُ عن وَقْتِهِ من غَيْرِ عُذْرٍ فَبَطَلَ الْحَقُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّلَبَ لَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِتَأْكِيدِ الْحَقِّ وَاسْتِقْرَارِهِ وَالتَّأْكِيدُ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ بَلْ لِإِمْكَانِ الْأَخْذِ وَلَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ قبل حِلِّ الْأَجَلِ فَلَهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ قبل حِلِّهِ أَيْضًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُتَمَلَّكُ بِالشُّفْعَةِ فَاَلَّذِي يَتَمَلَّكُهُ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ هو الذي مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ سَوَاءٌ مَلَكَهُ أَصْلًا أو تَبَعًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَقْتَ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ وَذَلِكَ تحو ( ( ( نحو ) ) ) الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ
____________________

(5/27)


وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ وَالزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِالشُّفْعَةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ ما يَثْبُتُ له فيه حَقُّ الشُّفْعَةِ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ في الْعَقَارِ لَا في الْمَنْقُولِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَنْقُولَةٌ فلم يَثْبُتْ فيها الْحَقُّ فَلَا تُتَمَلَّكُ بِالشُّفْعَةِ وَخَاصَّةً الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لِأَنَّهُمَا مَبِيعَانِ وَمَقْصُودَانِ لَا يَدْخُلَانِ في الْعَقْدِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فلم يَثْبُتْ الْحَقُّ فِيهِمَا لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا
وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ إذَا ثَبَتَ في الْعَقَارِ يَثْبُتُ فِيمَا هو تَبَعٌ له لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَابِعَةٌ لِلْعَقَارِ حَالَةَ الِاتِّصَالِ أَمَّا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فَظَاهِرَانِ لِأَنَّ قِيَامَهُمَا بِالْأَرْضِ
وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لِأَنَّ قِيَامَ الزَّرْعِ وَقِيَامَ الثَّمَرِ بِالشَّجَرِ وَقِيَامَ الشَّجَرِ بِالْأَرْضِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بواسط ( ( ( بواسطة ) ) ) الشَّجَرِ فَيَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهِمَا تَبَعًا فَيَمْلِكُهُمَا بِالشُّفْعَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ في الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ مع وُجُودِ التَّبَعِيَّةِ حَقِيقَةً بِالنَّصِّ وهو ما سَنَرْوِي في كِتَابِ الْبُيُوعِ عن سَيِّدِنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من بَاعَ نَخْلًا قد أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ فما دَامَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ معه بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَكَذَا له أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مع الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ بَقْلًا كان الزَّرْعُ أو مُسْتَحْصَدًا إذَا كان مُتَّصِلًا فَأَمَّا إذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لِلشَّفِيعِ عليه وَإِنْ كان عَيْنُهُ قائما ( ( ( قائمة ) ) ) سَوَاءٌ كان الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أو الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ في هذه الْأَشْيَاءِ إنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ مَعْلُولًا بِالتَّبَعِيَّةِ وقد زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَالِ الِاتِّصَالِ فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فيه إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهَلْ يَسْقُطُ عن الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ هذا لَا يَخْلُو أما إنْ كان مِمَّا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وأما إنْ كان مِمَّا لَا يَدْخُلُ فيه إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنْ كان مِمَّا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ كَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ يُنْظَرُ إنْ كان زَوَالُ الِاتِّصَالِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ احْتَرَقَ الْبِنَاءُ أو غَرِقَ أو جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَكَذَلِكَ لو انْهَدَمَتْ الدَّارُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَيْنُ النَّقْضِ أو هَلَكَ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَفَرَّقَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال إنْ احْتَرَقَ أو غَرِقَ ولم يَبْقَ منه شَيْءٌ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ
وَإِنْ انْهَدَمَ يَسْقُطُ عن الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما إذَا انْهَدَمَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو الْأَجْنَبِيِّ لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ هُنَاكَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مُتَّصِلًا فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَعَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَهَهُنَا يُعْتَبَرُ مُنْفَصِلًا سَاقِطًا وَيَسْقُطُ ذلك الْقَدْرُ من الثَّمَنِ
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ والاتباع لَا حِصَّةَ لها من الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ وهو الاتلاف وَالْقَبْضُ ولم يُوجَدْ وَلِهَذَا لو احْتَرَقَ أو غَرِقَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان زَوَالُ الِاتِّصَالِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو أجنبى بِأَنْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ أو قُطِعَ الشَّجَرُ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بالاتلاف فَصَارَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْعَبْدِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ على الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَعَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْقِطُ حِصَّةَ الْبِنَاءِ فَصَارَ مَضْمُونًا عليه بِفِعْلِهِ وهو الْهَدْمُ وَالْهَدْمُ صَادَفَهُ وهو مَبْنِيٌّ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مَبْنِيًّا بِخِلَافِ ما إذَا انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ على رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ انْهَدَمَ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ يوم الِانْهِدَامِ وَلَوْ لم يَهْدِمْ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ لَكِنَّهُ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كان أَحَقَّ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَأْخُذُ وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ في الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ بَاعَ الْبِنَاءَ وَحَقُّ الشَّفِيعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ فَكَانَ سبيل ( ( ( سبيلا ) ) ) من إبْطَالِ الْبَيْعِ كما لو بَاعَ الْأَصْلَ وهو الْأَرْضُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ له أَنْ يَأْخُذَ وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ كما قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ كَالثَّمَرِ وَالزَّرْعِ يُسْقِطُ عن الشَّفِيعِ حِصَّتَهُ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان زَوَالُ الِاتِّصَالِ بِصُنْعِ الْعَبْدِ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ أو غَرِقَ أو انْهَدَمَ على رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَبِيعٌ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها تَبَعًا لَا مَقْصُودًا بِالتَّسْمِيَةِ والاتباع ما لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ ولم يُوجَدْ فَأَمَّا الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ مَقْصُودٌ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّهُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَإِنْ هَلَكَ يَهْلِكْ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِنَفْسِهِ أو بِالِاسْتِهْلَاكِ لِمَا قُلْنَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْعَقْدِ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْحِصَّةَ بِالْعَقْدِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْعَقْدِ فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ
____________________

(5/28)


الْأَرْضِ وَعَلَى قِيمَةِ الزَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ كَيْفَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْعَقْدِ مَفْصُولًا مَجْذُوذًا أَمْ قَائِمًا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الزَّرْعِ وهو بَقْلٌ مَفْصُولٌ وَمَجْذُوذٌ فَيَسْقُطُ عنه ذلك الْقَدْرُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ قَائِمًا فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ وَفِيهَا الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَتُقَوَّمُ وَلَيْسَ فيها الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ فَيَسْقُطُ عن الشَّفِيعِ ما بين ذلك
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الزَّرْعَ دخل في الْعَقْدِ وهو مُتَّصِلٌ وَيَثْبُتُ الْحَقُّ فيه وهو مُنْفَصِلٌ وَكَذَا الثَّمَرُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا على صِفَةِ الِاتِّصَالِ على أَنَّ في اعْتِبَارِ حَالَةِ الِانْفِصَالِ اضرارا بِالشَّفِيعِ إذْ ليس لِلْمَفْصُولِ وَالثَّمَرِ الْمَجْذُوذِ كَثِيرُ قِيمَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الشَّفِيعُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن حَقَّ الشَّفِيعِ إنَّمَا سَقَطَ زَوَالِ الِاتِّصَالِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مُنْفَصِلًا لَا مُتَّصِلًا
وَكَذَا لو كانت الْأَرْضُ مَبْذُورَةً ولم يَطْلُعْ الزَّرْعُ بَعْدُ ثُمَّ طَلَعَ ففصله ( ( ( فقصله ) ) ) الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الْبَذْرِ وَعَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ فَيَسْقُطُ قَدْرُ قِيمَةِ الْبَذْرِ عن الثَّمَنِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقَوَّمُ الْأَرْضُ مَبْذُورَةً وَغَيْرَ مَبْذُورَةٍ فَيَسْقُطُ عنه ما بَيْن ذلك إذَا آجَرَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ مع الشَّجَرِ بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَبَقِيَتْ الثَّمَرَةُ في يَدِ الْبَائِعِ هل يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الثَّمَرَةَ لَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ له
وَلَوْ كان الْبَائِعُ أَتْلَفَ الثَّمَرَةَ قبل أَنْ يَأْخُذَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَ الثَّمَرَةَ فَقَدْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ بِخِلَافِ ما إذَا كان الشَّفِيعُ أَخَذَ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ هُنَاكَ حَصَلَ بِرِضَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ كان ثَابِتًا في الْمَأْخُوذِ وَأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ فَكَانَ التَّفْرِيقُ هُنَاكَ لِضَرُورَةِ حَقٍّ ثَابِتٍ لَازِمٍ شَرْعًا فَكَانَ الْمُشْتَرِي رَاضِيًا بِهِ وَالتَّفْرِيقُ الْمَرَضِيُّ بِهِ لَا يُوجِبُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كانت هذه الْأَشْيَاءُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ مُتَّصِلَةً بِالْعَقَارِ وَدَامَ الِاتِّصَالُ إلَى وَقْتِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ أو زَالَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَأَمَّا إذَا لم تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ وَوُجِدَتْ بَعْدَهُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنْ كان الْحَادِثُ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فيه تَبَعًا وهو الثَّمَرُ بِأَنْ وَقَعَ الْبَيْعُ وَلَا ثَمَرَ في الشَّجَرِ ثُمَّ أَثْمَرَ بَعْدَهُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فما دَامَ مُتَّصِلًا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ مع الْأَرْضِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ الْبَيْعِ فيه تَبَعًا لِثُبُوتِهِ في الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الشَّجَرِ فَكَانَ مَبِيعًا تَبَعًا فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ تَبَعًا سَوَاءٌ حَدَثَ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو في يَدِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْجُودَةٌ في الْحَالَيْنِ فَإِنْ زَالَ الِاتِّصَالُ
فَحَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنْ كان حَدَثَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَسَوَاءٌ كان زَوَالُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وهو قَائِمٌ بَعْدَ الزَّوَالِ أو هَالِكٌ أو كان زَوَالُهُ بِفِعْلِ أَحَدٍ
أَمَّا إذَا كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وهو قَائِمٌ أو هَالِكٌ لِأَنَّهُ كان تَبَعًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ ولم يَرِدْ عليه فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مَقْصُودًا وَالتَّبَعُ لَا يَصِيرُ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِدُونِهِ
وَأَمَّا إذَا كان الزول ( ( ( الزوال ) ) ) بِصُنْعِ الْعَبْدِ بِأَنْ جده ( ( ( جذه ) ) ) الْمُشْتَرِي وهو قَائِمٌ أو هَالِكٌ فَلِأَنَّهُ لم يَرِدْ عليه الْعَقْدُ وَلَا الْقَبْضُ وَإِنْ كان حَدَثَ في يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كان الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وهو قَائِمٌ أو هَالِكٌ فَكَذَلِكَ أَخَذَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مَقْصُودًا فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ يَسْقُطُ عن الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْصُودًا بالاتلاف وَإِنْ كان الْحَادِثُ مِمَّا لم يَثْبُتْ فيه حُكْمُ الْبَيْعِ رَأْسًا لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا بِأَنْ بَنَى الْمُشْتَرِي بنا ( ( ( بناء ) ) ) أو غَرَسَ أو زَرَعَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ يقضي له بِشُفْعَةِ الْأَرْضِ وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على قَلْعِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَتَسْلِيمِ السَّاحَةِ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا إذَا كان في الْقَلْعِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ بِالثَّمَنِ والبنا ( ( ( والبناء ) ) ) وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَإِنْ شَاءَ أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي على الْقَلْعِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على قَلْعِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِثَمَنِهَا وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا غير مَقْلُوعٍ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لو زَرَعَ في الْأَرْضِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على قَلْعِهِ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ إدْرَاكَ الزَّرْعِ ثُمَّ يقضي له بِالشُّفْعَةِ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في الْجَبْرِ على النَّقْضِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي وهو إبْطَالُ تَصَرُّفِهِ في مِلْكِهِ وَفِيمَا قُلْنَا مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ
أَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَظَاهِرٌ لِأَنَّ فيه صِيَانَةَ حَقِّهِ عن الْإِبْطَالِ وَأَمَّا جَانِبُ الشَّفِيعِ فَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْبِنَاءَ بِقِيمَتِهِ وَأَخْذُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ لَا ضَرَرَ فيه على أَحَدٍ
وَجْهُ ظَاهِرِ
____________________

(5/29)


الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ كان مُتَعَلِّقًا بِالْأَرْضِ قبل الْبِنَاءِ ولم يَبْطُلْ ذلك بِالْبِنَاءِ بَلْ بَقِيَ فإذا قضى له بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ صَارَ ذلك الْحَقُّ مِلْكًا له فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ مِلْكِهِ إلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِالنَّقْضِ فَيُؤْمَرُ بِالنَّقْضِ وَلِهَذَا أُمِرَ الناصب ( ( ( الغاصب ) ) ) وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالنَّقْضِ كَذَا هذا قَوْلُهُ في النَّقْضِ ضَرَرٌ بِالْمُشْتَرِي قُلْنَا أن كان فيه ضَرَرٌ بِهِ فَهُوَ الذي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ بَنَى على مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ وَلَوْ أَخَذَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ وَبَنَى عليها ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَأُمِرَ الشَّفِيعُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ فإن الشَّفِيعَ يَرْجِعُ على الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ عليه بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ إنْ كان أَخَذَ منه وَلَا على الْبَائِعِ أَيْضًا إنْ كان أَخَذَ منه في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عليه
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي وَلَوْ كان اشْتَرَاهُ لَرَجَعَ عليه كَذَا إذَا أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ له الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ في الشِّرَاءِ لِوُجُودِ الْغُرُورِ من الْبَائِعِ وَضَمَانِ السَّلَامَةِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ كُلَّ بَائِعٍ مُخَيِّرٌ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبِيعُ منك ( ( ( ملك ) ) ) نَفْسِهِ وَشَارِطٌ سَلَامَةَ ما يبني فيه دَلَالَةً فإذا لم يُسَلِّمْ يَدْفَعُ بِحُكْمِ الضَّمَانِ الْمَشْرُوطِ دَلَالَةً إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ في الْحَقِيقَةِ وَلَا غُرُورَ من الْمُشْتَرِي في حَقِّ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ على التَّمَلُّكِ منه وَحَقُّ الرُّجُوعِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ على الْمُخْتَارِ لَا على الْمَجْبُورِ كَالْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ إذَا اشْتَرَاهَا رَجُلٌ فَأَخَذَهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالثَّمَنِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ من يَدِهِ وقضى عليه بِالْعُقْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ فإنه يَرْجِعُ على الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الذي دَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عليه بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَمِثْلُهُ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالشِّرَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فإن الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ على بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِصَيْرُورَتِهِ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ وَلَا غُرُورَ من الْمُشْتَرِي من الْحَرْبِيِّ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا في التَّمَلُّكِ عليه بِمَا أَخَذَهُ من الْحَرْبِيِّ كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُتَمَلَّكُ منه الشخص ( ( ( الشقص ) ) ) الْمَشْفُوعُ فيه فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ من الذي في يَدِهِ إنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ أَخَذَهُ منه وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَالْعُهْدَةُ عليه وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَالْعُهْدَةُ عليه سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي عَاقِدًا لِنَفْسِهِ أو لِغَيْرِهِ بِأَنْ كان وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ وَقَبَضَ الدَّارَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهَا من يَدِ الْوَكِيلِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ لم يَشْتَرِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا اشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ فلم يَكُنْ هو خَصْمًا بَلْ الْخَصْمُ الْمُوَكِّلُ فَلَا يَأْخُذُ منه وَلَكِنْ يُقَالُ له سَلِّمْ الدَّارَ إلَى الْمُوَكِّلِ فإذا سَلَّمَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ منه
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشُّفْعَةَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وإنها رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ في الْحُقُوقِ أَصْلٌ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فَكَانَ خَصْمَ الشَّفِيعِ فَيَأْخُذُ الدَّارَ منه بِالثَّمَنِ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عليه وَإِنْ كان الْوَكِيلُ سَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُوَكِّلِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فإنه يَأْخُذُ الدَّارَ من الْمُوَكِّلِ وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عليه وَلَا خُصُومَةَ لِلشَّفِيعِ مع الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ زَالَتْ يَدُهُ عن الدَّارِ فَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ لِلشَّفِيعِ مع الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا غير أَنَّ الدَّارَ إذَا كانت في يَدِ الْبَائِعِ لم يَكُنْ خَصْمًا ما لم يَحْضُرْ الْمُشْتَرِي وإذا كانت في يَدِ الْوَكِيلِ يَكُونُ خَصْمًا وَإِنْ لم يَحْضُرْ الْمُوَكِّلُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّوْكِيلِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَالْبَائِعُ ليس بِقَائِمٍ مَقَامَ الْمُشْتَرِي لِانْعِدَامِ ما يُوجِبُ ذلك
وَلَوْ قال الْمُشْتَرِي قبل أَنْ يُخَاصِمَهُ الشَّفِيعُ في الشُّفْعَةِ إنَّمَا اشْتَرَيْتُ لِفُلَانٍ وسلم إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ أَقَرَّ قبل أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِلشَّفِيعِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ فَصَارَ كما لو كانت الْوَكَالَةُ مَعْلُومَةً وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَمَا خَاصَمَهُ الشَّفِيعُ لم تَسْقُطْ الْخُصُومَةُ عنه لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هذا الْإِقْرَارِ لِصَيْرُورَتِهِ خَصْمًا لِلشَّفِيعِ فَلَا يُقْبَلُ في إبْطَالِ حَقِّهِ
وَلَوْ أَقَامَ بينه أَنَّهُ قال قبل الشِّرَاءِ إنَّمَا اشْتَرَى لِفُلَانٍ لم تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ
لِأَنَّ هذه الْبَيِّنَةَ لو صَدَقَتْ لم تَدْفَعْ الْخُصُومَةَ عنه لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بها إلَّا الشِّرَاءُ لِفُلَانٍ وَبِهَذَا لَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أنها لَا تُقْبَلُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَتُقْبَلُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ حتى يَحْضُرَ الْمُقَرُّ له
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ اخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فَاخْتِلَافُهُمَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الثَّمَنِ وأما أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَبِيعِ وأما أَنْ يَرْجِعَ إلَى صِفَةِ الْمَبِيعِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو أما أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ في جِنْسِ الثَّمَنِ
وأما أَنْ يَقَعَ في قَدْرِهِ
وأما يَقَعَ في صِفَتِهِ وَإِنْ وَقَعَ في الْجِنْسِ بِأَنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ بِمِائَةِ دِينَارٍ وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ
____________________

(5/30)


بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عليه التَّمَلُّكَ بهذا الْجِنْسِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْرَفُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ من الشَّفِيعِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وُجِدَ منه لَا من الشَّفِيعِ فَكَانَ أَعْرَفَ بِهِ من الشَّفِيعِ فَيَرْجِعُ في مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ إلَيْهِ
وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ في قَدْرِ الثَّمَنِ بِأَنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ بِأَلْفَيْنِ وقال الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ وَعَلَى الشَّفِيعِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي التَّمَلُّكَ على الْمُشْتَرِي بهذا الْقَدْرِ من الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ
وَلَوْ صَدَّقَ الْبَائِعُ الشَّفِيعَ بِأَنْ قال بِعْتُ بِأَلْفٍ يُنْظَرُ في ذلك إنْ كان الْبَائِعُ ما قَبَضَ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِالْأَلْفِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ أو في يَدِ الْمُشْتَرِي إذَا لم يَكُنْ نَقَدَ الثَّمَنَ
لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا لم يَكُنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ عليه بِتَمْلِيكِهِ فَيَرْجِعُ في مِقْدَارِ ما مَلَكَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ
وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ لو وَقَعَ بِأَلْفٍ كما قَالَهُ الْبَائِعُ أَخَذَ الشَّفِيعُ
وَإِنْ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ كما قَالَهُ الْمُشْتَرِي كان قَوْلُ الْبَائِعِ بِعْتُ بِأَلْفٍ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ عن الْمُشْتَرِي وَحَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ يَصِحُّ وَيَظْهَرُ في حَقِّ الشَّفِيعِ على ما مَرَّ
وَإِنْ كان الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ لم يَبْقَ له حَقٌّ في الْمَبِيعِ أَصْلًا وَصَارَ أَجْنَبِيًّا فَالْتُحِقَ تَصْدِيقُهُ بِالْعَدَمِ وَقِيلَ إنَّهُ يراعي التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ في تَصْدِيقِ الْبَائِعِ فَإِنْ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ بِأَنْ قال بِعْتُ الدَّارَ بِأَلْفٍ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِأَلْفٍ وَإِنْ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِأَنْ قال قَبَضْتُ الثَّمَنَ وهو الْأَلْفُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ فقال بِعْتُ بِأَلْفٍ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ قَبَضْتُ الثَّمَنَ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِقَوْلِهِ فَلَا يُصَدَّقُ وإذا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَدْ صَارَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في مِقْدَارِ الثَّمَنِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كان في يَدِ الْبَائِعِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كان في يَدِ الْبَائِعِ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ عليه فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ في مِقْدَارِ الثَّمَنِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ مع الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ وَالدَّارُ في يَدِ الْبَائِعِ أو الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ لم يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ في ذلك قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْبَائِعُ مع الْمُشْتَرِي يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ وَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ الدَّارَ بِمَا قال الْبَائِعُ إنْ شَاءَ
أَمَّا التَّحَالُفُ وَالتَّرَادُّ فِيمَا بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِقَوْلِهِ عليه السلام إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَأَمَّا أَخْذُ الشَّفِيعِ بِقَوْلِ الْبَائِعِ إنْ شَاءَ فَلِأَنَّهُ إذَا لم يَقْبِضْ الثَّمَنَ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ عليه فَكَانَ الْقَوْلُ في مِقْدَارِ الثَّمَنِ في حَقِّ الشَّفِيعِ
قَوْلُهُ وَإِنْ كان الْبَائِعُ قد قَبَضَ الثَّمَنَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا على ما بَيَّنَّا هذا إذَا لم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ لَا لِلشَّفِيعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كما إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في مِقْدَارِ الثَّمَنِ فقال الْبَائِعُ بِعْتُ بِأَلْفَيْنِ
وقال الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ وَأَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا إن الزِّيَادَةَ التي تُظْهِرُهَا إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لَا مُعَارِضَ لها فَتُقْبَلُ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ لِخُلُوِّهَا عن الْمُعَارِضِ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْقَبُولِ في الْكُلِّ فَتُقْبَلُ في الْكُلِّ ضَرُورَةً
وَالثَّانِي إن الْبَيِّنَةَ الْمُظْهِرَةَ للزياة ( ( ( للزيادة ) ) ) مُثْبِتَةٌ وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ وَالْمُثْبِتُ يَتَرَجَّحُ على النَّافِي وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه طَرِيقَتَانِ إحْدَاهُمَا ذَكَرَهَا أبو يُوسُفَ لِأَبِي حَنِيفَةَ ولم يَأْخُذْ بها
وَالثَّانِيَةُ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ وَأَخَذَ بها أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعِي هَهُنَا هو الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ على الْخُصُومَةِ في الشُّفْعَةِ بَلْ إذَا تَرَكَهَا تَرَكَ وَالْمُشْتَرِي مَجْبُورٌ على التَّمَلُّكِ عليه بِحَيْثُ لو تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يَتْرُكُ فَكَانَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا هو الشَّفِيعُ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ حُجَّتَهُ
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ من حُجَجِ الشَّرْعِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بها ما أَمْكَنَ وَهَهُنَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ في حَقِّ الشَّفِيعِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ وُجِدَ عَقْدَانِ أحدها ( ( ( أحدهما ) ) ) بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ في حَقِّ الشَّفِيعِ وَإِنْ كان يُوجِبُ ذلك في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كان له أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِأَلْفٍ دَلَّ أَنَّ الْبَيْعَيْنِ قَائِمَانِ في حَقِّ الشَّفِيعِ وَأَنَّ الْفَسْخَ الْأَوَّلَ في حَقِّهِمَا فَأَمْكَنَ تَقْدِيرُ عَقْدَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَمَّا على الطَّرِيقِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ هو
____________________

(5/31)


الْمُدَّعِي فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ حُجَّتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على الْخُصُومَةِ وَالْمُشْتَرِي مَجْبُورٌ عليها وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ على ما بَيَّنَّا
وَأَمَّا على الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ عَقْدَيْنِ ههنا ( ( ( هنا ) ) ) مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ الْعَقْدُ وَاحِدًا وَالتَّرْجِيحُ بِجَانِبِ الْبَائِعِ لِانْفِرَادِ بَيِّنَتِهِ بِإِظْهَارِ فَضْلٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ ولم يَتَقَابَضَا حتى هَلَكَ الْعَرَضُ وانقض ( ( ( وانتقض ) ) ) الْبَيْعُ فِيمَا بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أو كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ الدَّارَ ولم يُسَلِّمْ الْعَرَضَ حتى هل ( ( ( هلك ) ) ) وَانْتَقَضَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَقِيَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْبَائِعُ في قِيمَةِ الْعَرَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عليه التَّمَلُّكَ بهذا الْقَدْرِ من الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ على قِيَاسِ الْعِلَّةِ التي ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ انْفَرَدَتْ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةٍ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ على قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَخَذَ بِهِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ عَقْدَيْنِ هَهُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على عَرَضٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا في قِيمَةِ ما وَقَعَ عليه الْعَقْدُ فَكَانَ الْعَقْدُ وَاحِدًا فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ فَيُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا وهو بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِانْفِرَادِهَا بِإِظْهَارِ الْفَضْلِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على قِيَاسِ ما عَلَّلَ له مُحَمَّدٌ
وَأَمَّا على قِيَاسِ ما عَلَّلَ له أبو يُوسُفَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ هو الْمُدَّعِي وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ حتى سَقَطَ عن الشَّفِيعِ قَدْرُ قِيمَتِهِ من الثَّمَنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَهَذَا لَا يَخْلُو
أما إن اخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَاتَّفَقَا على قِيمَةِ السَّاحَةِ وأما إن اخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالسَّاحَةِ جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْبِنَاءِ لَا غَيْرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي على الْمُشْتَرِي زِيَادَةً في السُّقُوطِ وهو يُنْكِرُ وَإِنْ اخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالسَّاحَةِ جميعا فإن السَّاحَةَ تُقَوَّمُ السَّاعَةَ وَالْقَوْلُ في قِيمَةِ الْبِنَاءِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي
أَمَّا تَقَوُّمُ السَّاحَةِ السَّاعَةَ فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَتِهَا لِلْحَالِ فَيُسْتَدَلُّ بِالْحَالِ على الْمَاضِي وَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُ الْحَالِ في الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عن حَالِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ قال أبو يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا في الْقِيَاسِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِاخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا له في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَطَرِيقُ أبي يُوسُفَ أَنَّ الشَّفِيعَ هو الْمُدَّعِي وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَهَذَا مَوْجُودٌ هَهُنَا وَطَرِيقُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيرِ عَقْدَيْنِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُنْعَدِمٌ هُنَا فَيُعْمَلُ بِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَهِيَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِانْفِرَادِهَا بِإِظْهَارِ زِيَادَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْحُلُولَ في الثَّمَنِ أَصْلٌ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ فَالْمُشْتَرِي يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلِأَنَّ الْعَاقِدَ أَعْرَفُ بِصِفَةِ الثَّمَنِ من غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ فَالشَّفِيعُ يَدَّعِي عليه شَرْطَ التَّأْجِيلِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَبِيعِ فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِيمَا وَقَعَ عليه الْبَيْعُ أَنَّهُ وَقَعَ عليه بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ بِصَفْقَتَيْنِ
نَحْوُ ما إذَا اشْتَرَى دَارًا فقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ الْعَرْصَةَ على حِدَةٍ بِأَلْفٍ وَالْبِنَاءَ بِأَلْفٍ وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهُمَا جميعا بِأَلْفَيْنِ وَالدَّارُ لي بِبُنْيَانِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ لِأَنَّ إفْرَادَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالصَّفْقَةِ حَالَةَ الِاتِّصَالِ ليس بِمُعْتَادٍ بَلْ الْعَادَةُ بَيْعُهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلشَّفِيعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ في الْعَرْصَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في الْبِنَاءِ تَبَعًا له حَالَةَ الِاتِّصَالِ وَشَرْطُ الْوُجُوبِ هو الشِّرَاءُ وقد أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ أَمْرٍ وهو تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الشَّفِيعِ أو بِبَيِّنَةٍ ولم تُوجَدْ
وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ
وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ ولم يؤقتا وَقْتًا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا
لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ اسْتِحْقَاقٍ وهو اسْتِحْقَاقُ الْبِنَاءِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ بَاعَهُمَا بِصَفْقَتَيْنِ ثُمَّ بَاعَهُمَا
____________________

(5/32)


بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَيِّهِمَا شَاءَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ صَفْقَةٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى زِيَادَةِ الصَّفْقَةِ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى زِيَادَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وقال أبو يُوسُفَ إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ في الدَّارِ
وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهَا وَالْبِنَاءُ فيها إن الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِشِرَاءِ الْبِنَاءِ وَالشَّفِيعُ يَدَّعِي عليه اسْتِحْقَاقَ الْبِنَاءِ وهو يُنْكِرُ
وَلَوْ اشْتَرَى دَارَيْنِ وَلَهُمَا شَفِيعٌ مُلَاصِقٌ فقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وأنا شَرِيكُكَ في الثَّانِيَةِ وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلِي الشُّفْعَةُ فِيهِمَا جميعا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ فِيهِمَا جميعا وهو الْجِوَارُ على سَبِيلِ الْمُلَاصَقَةِ وقد أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو شِرَاؤُهُمَا إلَّا أَنَّهُ بِدَعْوَى تَفْرِيقِ يَدَّعِي الْبُطْلَانَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَشَرْطِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَلَوْ قال الْمُشْتَرِي وُهِبَ لي هذا الْبَيْتُ مع طَرِيقِهِ من هذه الدَّارِ ثُمَّ اشْتَرَيْتُ بَقِيَّتَهَا وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَ الْكُلَّ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِيمَا أَقَرَّ أَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا شُفْعَةَ له فِيمَا ادَّعَى من الْهِبَةِ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الْجِوَارُ وَوُجِدَ شَرْطُهُ وهو الشِّرَاءُ بإقراره ( ( ( بإقرار ) ) ) فَهُوَ بِدَعْوَى الْهِبَةِ يُرِيدُ بُطْلَانَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَلَا يُصَدَّقُ وَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِيمَا أَقَرَّ بِشِرَائِهِ وَلَا شُفْعَةَ له في الْمَوْهُوبِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ على الْمَوْهُوبِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْهِبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الِاسْتِحْقَاقِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَطَلَبَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ فقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ نِصْفًا ثُمَّ نِصْفًا فَلَكَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ وقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَ الْكُلَّ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلِيَ الْكُلُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ في الْكُلِّ كان مَوْجُودًا وفقد ( ( ( وقد ) ) ) أَقَرَّ بِشَرْطِ الثُّبُوتِ وهو الشِّرَاءُ وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا زَائِدًا وهو تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَلَا يُقْبَلُ ذلك منه إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ رُبُعًا ثُمَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فَلَكَ الرُّبُعُ فقال الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَ ثَلَاثَةَ أرضاع ( ( ( أرباع ) ) ) ثُمَّ رُبُعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ لِأَنَّ السَّبَبَ كان مَوْجُودًا وقد أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِشِرَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا زَائِدًا وهو سَبْقُ الشِّرَاءِ في الرُّبُعِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ صَفْقَةً وَاحِدَةً وقال الشَّفِيعُ اشْتَرَيْتُ نِصْفًا ثُمَّ نِصْفًا فَأَنَا آخُذُ النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْكُلَّ أو يَدَعُ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يُرِيدُ تَفْرِيقَ الصِّفَةِ وَفِيهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْبَيْعِ فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا في الْبَتَاتِ وَالْخِيَارِ أو في الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ بِأَنْ اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ فقال الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي الْبَيْعُ كان بِخِيَارِ الْبَائِعِ ولم يُمْضِ فَلَا شُفْعَةَ لك وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ الْخِيَارَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَعَلَى الشَّفِيعِ الْبَيِّنَةُ إن كان البيع بَاتًّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَرُوِيَ عن أبي ويوسف ( ( ( يوسف ) ) ) رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الشَّفِيعِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّ الْبَتَاتَ أَصْلٌ في الْبَيْعِ وَالْخِيَارَ فيه عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ من يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذلك بِقَوْلِهِمَا كان فيه خِيَارٌ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَجِبُ في بَيْعٍ فيه خِيَارٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ
وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَقُومُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَكَانَا أَعْرَفَ بِصَفْقَتِهِ من الشَّفِيعِ
وَالرُّجُوعُ في كل بَابٍ إلَى من هو أَعْرَفُ بِهِ
وَلِهَذَا لو تَصَادَقَا على أَنَّ الثَّمَنَ كان دَنَانِيرَ وَالشَّفِيعُ يَدَّعِي أَنَّهُ كان دَرَاهِمَ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا
كَذَا هذا
وَلَوْ كان الْبَائِعُ غَائِبًا وَالدَّارُ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ منه فقال الْمُشْتَرِي كان لِلْبَائِعِ فيه خِيَارٌ وَكَذَّبَهُ الشَّفِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَيَيْنِ
وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَادَّعَى الْبَائِعُ الْخِيَارَ وقال الْمُشْتَرِي لم يَكُنْ فيه خِيَارٌ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبَائِعَ بِدَعْوَى الْخِيَارِ مُنْكِرٌ لِلْبَيْعِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ في حَقِّ الْحُكْمِ وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ
____________________

(5/33)


عن مِلْكِهِ وَالْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ يَدَّعِيَانِ الزَّوَالَ عن مِلْكِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ كما لو وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ في أَصْلِ الْعَقْدِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِاشْتِرَاطِهِمَا فَالْبَائِعُ بِدَعْوَى الْخِيَارِ يَدَّعِي الِاشْتِرَاطَ على الْمُشْتَرِي وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كما لو ادَّعَى الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ التَّعْجِيلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا أَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطٍ يُوجَدُ من الْبَائِعِ وهو مُنْكِرٌ لِلشَّرْطِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَذَا هذا بِخِلَافِ ما لو أَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ زَوَالَ مِلْكِهِ ولم يَدَّعِ على الْمُشْتَرِي فِعْلًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ فقال الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي كان الْبَيْعُ فَاسِدًا فَلَا شُفْعَةَ لك وقال الشَّفِيعُ كان جَائِزًا ولى الشُّفْعَةُ فَهُوَ على اخْتِلَافِهِمْ في شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَاقِدَيْنِ وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ
وفي رِوَايَةٍ عن أبي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ وَلَهُ الشُّفْعَةُ فَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ في الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا في الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ من يَدَّعِي الصِّحَّةَ كَذَا هذا وَالْجَامِعُ أَنَّ الصِّحَّةَ أَصْلٌ في الْعَقْدِ وَالْفَسَادَ عَارِضٌ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِ اخْتِلَافَهُمْ في هذا بِاخْتِلَافِهِمْ في الْبَتَاتِ وَالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَالْجَامِعُ أَنَّ الشَّفِيعَ بِدَعْوَى الْبَتَاتِ وَالصِّحَّةِ يَدَّعِي عَلَيْهِمَا حَقَّ التَّمْلِيكِ وَهُمَا بِدَعْوَى الْخِيَارِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرَانِ ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا وَكَذَا هُمَا أَعْرَفُ بِصِفَةِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ مِنْهُمَا لِقِيَامِهِ بِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ في ذلك قَوْلَهُمَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْحِيلَةِ في إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ حِيَلًا بَعْضُهَا يَعُمُّ الشُّفَعَاءَ كُلَّهُمْ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ كُلَّ الشُّفَعَاءِ فَنَحْوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهَا بِأَنْ كانت قِيمَتُهَا أَلْفًا فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفَيْنِ وَيَنْقُدَ من الثَّمَنِ أَلْفًا إلَّا عَشَرَةً ثُمَّ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي من الْبَائِعِ عَرَضًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ فَتَحْصُلُ الدَّارُ لِلْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ لَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ إلَّا بِأَلْفَيْنِ وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَيْسَتْ بِمُسْقِطَةٍ لِلشُّفْعَةِ شَرْعًا لَكِنَّهَا مَانِعَةٌ من الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ وَيَلْتَزِمَ الضَّرَرَ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ بَعْضَ الشُّفَعَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَبِيعَ دَارًا إلَّا ذِرَاعًا منها في طُولِ الْحَدِّ الذي يَلِي دَارَ الشَّفِيعِ فَالشَّفِيعُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ إما في قَدْرِ الذِّرَاع فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وهو الْبَيْعُ وإما فِيمَا وَرَاءَ ذلك فَلِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو الْجِوَارُ
وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ الْبَائِعُ الْحَائِطَ الذي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَارِ مع أَصْلِهِ لِلْمُشْتَرِي مَقْسُومًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ أو يَهَبَ له من الْأَرْضِ قَدْرَ ذِرَاعٍ من الْجَانِبِ الذي يَلِي دَارَ الشَّفِيعِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعَ منه الْبَقِيَّةَ بِالثَّمَنِ فَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ لَا في الْمَوْهُوبِ وَلَا في الْمَبِيعِ أَمَّا في الْمَوْهُوبِ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وهو الْبَيْعُ وَأَمَّا في الْمَبِيعِ فَلِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الْجِوَارُ
وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ نِصْفَيْنِ فَيَبِيعَ الْحَائِطَ بِأَصْلِهِ أَوَّلًا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ثُمَّ يَبِيعَ بَقِيَّةَ الدَّارِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ شَرْعًا فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو الْجِوَارُ وَلَا يَأْخُذُ الْحَائِطَ عَادَةً لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ وَالْأَرْضَ في صَفْقَتَيْنِ فَيَبِيعَ من الدَّارِ بِنَاهَا وَمِنْ الْأَرْضِ أَشْجَارَهَا أَوَّلًا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ ثُمَّ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ في الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ شَرْعًا لِانْفِرَادِهِمَا بِالصَّفْقَةِ وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ عَادَةً لِيَضْمَنَ تَكْثِيرَ الثَّمَنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ نِصْفَيْنِ فَيَبِيعُ عُشْرًا منها بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ثُمَّ يَبِيعَ الْبَقِيَّةَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْعُشْرَ بِثَمَنِهِ عَادَةً لِمَا فيه من الضَّرَرِ وَلَا شُفْعَةَ له في تِسْعَةِ أَعْشَارِهَا شَرْعًا لِأَنَّهُ حين اشْتَرَى الْبَقِيَّةَ كان شَرِيكَ الْبَائِعِ بِالْعُشْرِ وَالشَّرِيكُ في الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ وَالْخَلِيطِ وَهَذَا النَّوْعُ من الْحِيلَةِ لَا يَصْلُحُ لِلشَّرِيكِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كان شَرِيكًا له أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْبُقْعَةِ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ أَيْضًا وَلَوْ كانت الدَّارُ لِصَغِيرٍ فَلَا تُبَاعُ بَقِيَّةُ الدَّارِ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذْ هو بَيْعُ مَالِ الصَّغِيرِ بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ مِقْدَارُ ما يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ عَادَةً وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ ذلك فَالسَّبِيلُ فيه أَنْ تُبَاعَ بَقِيَّةُ الدَّارِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ
وَمِنْهَا ما ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ بِسَهْمٍ من الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَبِيعَ بَقِيَّةَ الدَّارِ منه فَلَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ أَمَّا في الْقَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الْبَيْعُ وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذلك فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكَ الْبَائِعِ في ذلك السَّهْمِ وَالشَّرِيكُ في الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ وَالْخَلِيطِ
وَمِنْ
____________________

(5/34)


مَشَايِخِنَا من كان يُفْتِي بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ في هذه الصُّورَةِ ويخطىء ( ( ( ويخطئ ) ) ) الْخَصَّافَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في السَّهْمِ الْمُقَرِّ بِهِ لم تَثْبُتْ إلَّا بإقراره ( ( ( بإقرار ) ) ) فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ الشَّفِيعِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ في كَرَاهَةِ الْحِيلَةِ لِلْإِسْقَاطِ وَعَدَمِهَا فَالْحِيلَةُ أما إنْ كانت بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وأما إنْ كانت قبل الْوُجُوبِ فَإِنْ كانت بَعْدَ الْوُجُوبِ قِيلَ إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ صَالَحْتُكَ على كَذَا كَذَا دِرْهَمًا على أَنْ تُسَلِّمَ لي شُفْعَتَكَ فَيَقْبَلَ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَا يَسْتَحِقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ أو يَقُولَ له اشْتَرِ الدَّارَ مِنِّي بِكَذَا فَيَقُولَ اشْتَرَيْتُ فَتَبْطُلَ شُفْعَتُهُ وَنَحْوُ ذلك وَإِنْ كانت قبل الْوُجُوبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُكْرَهُ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تُكْرَهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن شَرْعَ الْحِيلَةِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الشُّفْعَةِ وَفِيهِ إبْطَالُ هذا الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْحِيلَةَ قبل الْوُجُوبِ مَنْعٌ من الْوُجُوبِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَهَذَا جَائِزٌ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ فإن الْمُشْتَرِيَ يَمْنَعُ حُدُوثَ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ في الْمَبِيعِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وهو الشِّرَاءُ وَكَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَسَائِرُ التَّمْلِيكَاتِ
وقد خُرِّجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا إبْطَالٌ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ إبْطَالَ الشَّيْءِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ضَرَرٌ وَالْحَقُّ هَهُنَا لم يَثْبُتْ بَعْدَ ذلك فَلَا تَكُونُ الْحِيلَةُ إبْطَالًا له بَلْ هو مَنْعٌ من الثُّبُوتِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَأَنَّهُ جَائِزٌ فما ذَكَرَهُ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هو الْحُكْمُ المر ( ( ( المروي ) ) ) وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتِيَاطًا وَالْأَصْلُ في شَرْعِ الْحِيلَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قِصَّةِ سَيِّدِنَا أَيُّوبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ نَحْتَاجُ في هذا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ من الْحَيَوَانَاتِ وَإِلَى بَيَانِ الْمَكْرُوهِ منها وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ حِلِّ الْأَكْلِ في الْمَأْكُولِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَحْرُمُ أَكْلُهُ من أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَيَوَانُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعِيشُ في الْبَحْرِ وَنَوْعٌ يَعِيشُ في الْبَرِّ أَمَّا الذي يَعِيشُ في الْبَحْرِ فَجَمِيعُ ما في الْبَحْرِ من الْحَيَوَانِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ إلَّا السَّمَكَ خَاصَّةً فإنه يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا ما طَفَا منه وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ وقال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ أنه يَحِلُّ أَكْلُ ما سِوَى السَّمَكِ من الضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ وَحَيَّةِ الْمَاءِ وَكَلْبِهِ وَخِنْزِيرِهِ وَنَحْوِ ذلك لَكِنْ بِالذَّكَاةِ وهو قَوْلُ اللَّيْثِ بن سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا في إنْسَانِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ جَمِيعُ ذلك من غَيْرِ ذَكَاةٍ وَأَخْذُهُ ذَكَاتَهُ وَيَحِلُّ أَكْلُ السَّمَكِ الطَّافِي
أَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَهُمْ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ على ما سِوَى السَّمَكِ من حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَلَالًا وَبِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حين سُئِلَ عن الْبَحْرِ فقال هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَصَفَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ بِالْحِلِّ من غَيْرِ فَصْلٍ بين السَّمَكِ وَغَيْرِهِ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } وَالضُّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ وَالْحَيَّةُ وَنَحْوُهَا من الْخَبَائِثِ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ سُئِلَ عن ضُفْدَعٍ يُجْعَلُ شَحْمُهُ في الدَّوَاءِ فَنَهَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن قَتْلِ الضَّفَادِعِ وَذَلِكَ نهى عن أَكْلِهِ وروى أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عنه فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَبِيثَةٌ من الْخَبَائِثِ وَلَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الصَّيْدِ الْمَذْكُورِ هو فِعْلُ الصَّيْدِ وهو الِاصْطِيَادُ لِأَنَّهُ هو الصَّيْدُ حَقِيقَةً لَا الْمِصْيَدُ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلِ الصَّيْدِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفِعْلِ يَكُونُ مَجَازًا وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عن حَقِيقَةِ اللَّفْظِ من غَيْرِ دَلِيلٍ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ وَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ إمَّا لِطَيَرَانِهِ أو لِعَدْوِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ حَالَةَ الِاصْطِيَادِ لَا بَعْدَ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ صَارَ لَحْمًا بَعْدَهُ ولم يَبْقَ صَيْدًا حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ وهو التَّوَحُّشُ وَالِامْتِنَاعُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ عُطِفَ عليه قَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا } وَالْمُرَادُ منه الِاصْطِيَادُ من الْمُحْرِمِ لَا أَكْلُ الصَّيْدِ لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ إذَا لم يَصْطَدْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ في الْآيَةِ
____________________

(5/35)


على إبَاحَةِ الْأَكْلِ بَلْ خَرَجَتْ لِلْفَصْلِ بين الِاصْطِيَادِ في الْبَحْرِ وَبَيْنَ الِاصْطِيَادِ في الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُرَادُ من قَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ السَّمَكُ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ فُسِّرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ منها السَّمَكُ وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ على السَّمَكِ وَتَخْصِيصِهِ بِمَا تَلَوْنَا من الْآيَةِ وَرَوَيْنَا من الْخَبَرِ
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الطَّافِي فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ ما صِيدَ منه وما لم يُصَدْ وَالطَّافِي لم يُصَدْ فَيَتَنَاوَلُهُ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في صِفَةِ الْبَحْرِ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَأَحَقُّ ما يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَيْتَةِ الطَّافِي لِأَنَّهُ الْمَيِّتُ حَقِيقَةً وَبِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ فَسَّرَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَيْتَةَ بِالسَّمَكِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الطَّافِي وَغَيْرِهِ
وَلَنَا ما روى عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن أَكْلِ الطَّافِي
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا تَبِيعُوا في أَسْوَاقِنَا الطَّافِيَ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال ما دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ وما وَجَدْتَهُ يَطْفُو على الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ له فيها لِأَنَّ الْمُرَادَ من قَوْله تَعَالَى { وَطَعَامُهُ } ما قَذَفَهُ الْبَحْرُ إلَى الشَّطِّ فَمَاتَ كَذَا قال أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَذَلِكَ حلالا ( ( ( حلال ) ) ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُ ليس بِطَافٍ إنَّمَا الطَّافِي اسْمٌ لِمَا مَاتَ في الْمَاءِ من غَيْرِ آفَةٍ وَسَبَبٍ حَادِثٍ وَهَذَا مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وهو قَذْفُ الْبَحْرِ فَلَا يَكُونُ طَافِيًا وَالْمُرَادُ من الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ الطَّافِي لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ السَّمَكُ الطَّافِي الذي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا هو الذي يَمُوتُ في الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ منه سَوَاءٌ عَلَا على وَجْهِ الْمَاءِ أو لم يَعْلُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ في الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ من غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هو الذي يَمُوتُ في الْمَاءِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَيَعْلُو على وَجْهِ الْمَاءِ فَإِنْ لم يعلو ( ( ( يعل ) ) ) يَحِلُّ
وَالصَّحِيحُ هو الْحَدُّ الْأَوَّلُ وَتَسْمِيَتُهُ طَافِيًا لِعُلُوِّهِ على وَجْهِ الْمَاءِ عَادَةً
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ في السَّمَكِ إذَا كان بَعْضُهَا في الْمَاءِ وَبَعْضُهَا على الْأَرْضِ إنْ كان رَأْسُهَا على الْأَرْضِ أُكِلَتْ وَإِنْ كان رَأْسُهَا أو أَكْثَرُهُ في الْمَاءِ لم تُؤْكَلْ لِأَنَّ رَأْسَهَا مَوْضِعُ نَفَسِهَا فإذا كان خَارِجًا من الْمَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وإذا كان في الْمَاءِ أو أَكْثَرُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ في الْمَاءِ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَقَالُوا في سَمَكَةٍ ابْتَلَعَتْ سَمَكَةً أُخْرَى أنها تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَلَوْ مَاتَ من الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكَدَرِ الْمَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَكَدَرَ الْمَاءِ ليس من أَسْبَابِ الْمَوْتِ ظَاهِرًا فلم يُوجَدْ الْمَوْتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ يُوجِبُ الْمَوْتَ ظَاهِرًا وغالبا فَلَا يُؤْكَلُ وفي رِوَايَةٍ يُؤْكَلُ لِأَنَّ هذه أَسْبَابُ الْمَوْتِ في الْجُمْلَةِ فَقَدْ وُجِدَ الْمَوْتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فلم يَكُنْ طَافِيًا فَيُؤْكَلُ وَيَسْتَوِي في حِلِّ الْأَكْلِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ من الْجِرِّيثِ والمار ( ( ( والمارماهي ) ) ) ما هي وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ في إبَاحَةِ السَّمَكِ لَا يَفْصِلُ بين سَمَكٍ وَسَمَكٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما إبَاحَةُ الْجِرِّيثِ وَالسَّمَكِ الذَّكَرِ ولم يُنْقَلْ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَأَمَّا الذي يَعِيشُ في الْبَرِّ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ ما ليس له دَمٌ أَصْلًا وما ليس له دَمٌ سَائِلٌ وما له دَمٌ سَائِلٌ مِثْلُ الْجَرَادِ وَالزُّنْبُورِ وَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْعَضَّابَةِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَالْبُغَاثَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا الْجَرَادَ خَاصَّةً لِأَنَّهَا من الْخَبَائِثِ لِاسْتِبْعَادِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ إيَّاهَا وقد قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } إلَّا أَنَّ الْجَرَادَ خُصَّ من هذه الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ فَبَقِيَ على ظَاهِرِ الْعُمُومِ
وَكَذَلِكَ ما ليس له دَمٌ سَائِلٌ مِثْلُ الْحَيَّةِ وَالْوَزَغِ وَسَامِّ أَبْرَصَ وَجَمِيعِ الْحَشَرَاتِ وَهَوَامِّ الْأَرْضِ من الْفَأْرِ وَالْقُرَادِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ وَابْنِ عِرْسٍ وَنَحْوِهَا
وَلَا خِلَافَ في حُرْمَةِ هذه الْأَشْيَاءِ إلَّا في الضَّبِّ فإنه حَلَالٌ عَنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَاحْتَجَّ بِمَا روي عن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال ? < أَكَلْت على مَائِدَةِ رسول اللَّهِ لَحْمَ ضَبٍّ > ?
وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما عن النبي أَنَّهُ قال إنَّهُ لم يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أكله وَلَا أُحَرِّمُهُ وَهَذَا نَصٌّ على عَدَمِ الْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِشَارَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ الطَّبِيعِيَّةِ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثِ } وَرُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
____________________

(5/36)


أهدى إلَيْهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ أَنْ يَأْكُلَهُ فَجَاءَتْ سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أَنْ تُطْعِمَهَا إيَّاهُ فقال لها رسول اللَّهِ أَتُطْعِمِينَ ما لَا تَأْكُلِينَ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ لِمَا أَنَّ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ عَافَتْهُ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَمَا مَنَعَ من التَّصَدُّقِ بِهِ كَشَاةِ الْأَنْصَارِ أنه لَمَّا امْتَنَعَ من أَكْلِهَا أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بها وَلِأَنَّ الضَّبَّ من جُمْلَةِ الْمُسُوخِ وَالْمُسُوخُ مُحَرَّمَةٌ كَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ فِيمَا قِيلَ
وَالدَّلِيلُ عليه ما روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن الضَّبِّ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ في الْأَرْضِ وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هذا منها وَهَكَذَا روى عن بَعْضِ أَصْحَابِ رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال كنا في بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَنَزَلْنَا في أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضَّبَابِ فَنَصَبْنَا الْقُدُورَ وَكَانَتْ الْقُدُورُ تَغْلِي إذا جاء النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فقال ما هذا قُلْنَا الضَّبُّ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ هذا منها فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْقُدُورِ
وما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وما رَوَيْنَا فَهُوَ خَاطِرٌ وَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى وما له دَمٌ سَائِلٌ نَوْعَانِ مُسْتَأْنِسٌ وَمُسْتَوْحِشٌ
أَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ من الْبَهَائِمِ فَنَحْوُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيها دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا منها وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وَاسْمُ الْأَنْعَامِ يَقَعُ على هذه الْحَيَوَانَاتِ بِلَا خِلَافٍ بين أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا تَحِلُّ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وَحُكِيَ عن بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِمَارِ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز وجل { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ } ولم يذكر الْحَمِيرَ الْإِنْسِيَّةَ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي وقال إنَّهُ فنى مَالِي ولم يَبْقَ لي إلَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ من سَمِينِ مَالِكَ فَإِنِّي إنَّمَا كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن جَلَّالِ الْقَرْيَةِ وَرُوِيَ عن جَوَالِّ الْقُرَى بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَرُوِيَ فَإِنَّمَا قَذِرْتُ لَكُمْ جَالَّةُ الْقَرْيَةِ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَرَوَى أبو حَنِيفَةَ عن نَافِعٍ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال نهى رسول اللَّهِ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ عن لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه قال لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وهو يُفْتِي الناس في الْمُتْعَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يوم خَيْبَرَ فَرَجَعَ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن ذلك وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يوم خَيْبَرَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ رضي اللَّهُ عنه يُنَادِي أن رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَاكُمْ عن لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْزٌ وَرُوِيَ فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَقَبِلُوهَا وَعَمِلُوا بها وَظَهَرَ الْعَمَلُ بها
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اُخْتُصَّ منها أَشْيَاءُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فيها فَيَخْتَصُّ الْمُتَنَازَعُ فيه بِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ مع ما أَنَّ ما رَوَيْنَا من الْأَخْبَارِ مَشْهُورَةٌ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ المشهور ( ( ( المشهود ) ) ) وَعَلَى أَنَّ في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها وَقْتَ نُزُولِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْفِعْلِ هو الْحَالُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها ثُمَّ حَرَّمَ ما حَرَّمَ بَعْدُ
على أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ على لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ ما تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَأَمَّا ما كانت حُرْمَتُهُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُسَمَّى مُحَرَّمًا على الْإِطْلَاقِ بَلْ نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا فَنَقُولُ بِوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ عن أَكْلِهَا عَمَلًا مع التَّوَقُّفِ في اعْتِقَادِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ من سَمِينِ مَالِكَ أَيْ من أَثْمَانِهَا كما يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ أَيْ ثَمَنَ عَقَارِهِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذلك إطْلَاقًا لِلِانْتِفَاعِ بِظُهُورِهَا بِالْإِكْرَاءِ كما يُحْمَلُ على شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قبل التَّحْرِيمِ فَانْفَسَخَ بِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا
فَإِنْ قِيلَ ما رَوَيْتُمْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ عله الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن أَكْلِ الْحُمُرِ يوم خَيْبَرَ لِأَنَّهَا كانت غَنِيمَةً من الْخُمُسِ أو لِقِلَّةِ الظَّهْرِ أو لِأَنَّهَا كانت جَلَّالَةً فَوَقَعَ التَّعَارُضُ وَالْجَوَابُ أَنَّ شيئا من ذلك لَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجُنْدُ لَا يَخْرُجُ منه الْخُمْسُ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
____________________

(5/37)


أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ يوم خَيْبَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ في الظَّهْرِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَصَّ النَّهْيَ بِالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْحُمُرِ بَلْ يُوجَدُ في غَيْرِهَا
وَأَمَّا لَحْمُ الْخَيْلِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يُكْرَهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْرَهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ على عَهْدِ رسول اللَّهِ
وَرُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نهى رسول اللَّهِ عن لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ في الْخَيْلِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال أَطْعَمَنَا رسول اللَّهِ لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عن لُحُومِ الْحُمُرِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال كنا قد جَعَلْنَا في قُدُورِنَا لَحْمَ الْخَيْلِ وَلَحْمَ الْحِمَارِ فنهان ( ( ( فنهانا ) ) ) النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ نَأْكُلَ لَحْمَ الْحِمَارِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْكُلَ لَحْمَ الْخَيْلِ
وَعَنْ سَيِّدَتِنَا أَسْمَاءَ بِنْتِ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنهما أنها قالت نَحَرْنَا فَرَسًا على رسول اللَّهِ فَأَكَلْنَاهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً }
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ما حُكِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فإنه رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عن لَحْمِ الْخَيْلِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وقال ولم يَقُلْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِتَأْكُلُوهَا فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا وَتَمَامُ هذا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْعَامَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَنَافِعَهَا وَبَالَغَ في ذلك بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيها دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
وَكَذَا ذَكَرَ فِيمَا بَعْدَ هذه الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُتَّصِلًا بها مَنَافِعَ الْمَاءِ الْمُنْزَلِ من السَّمَاءِ وَالْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَحْرِ على سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانَ شِفَاءٍ لَا بَيَانَ كِفَايَةٍ وَذَكَرَ في هذه الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ولم يذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس فيها مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى ما ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ كان هُنَاكَ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى ما ذَكَرْنَا لم يُحْتَمَلْ أَنْ لَا نَذْكُرُهَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بها على سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَقَوْلُهُ عز وجل { ويحل ( ( ( يحل ) ) ) لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } وَلَحْمُ الْخَيْلِ ليس بِطَيِّبٍ بَلْ هو خَبِيثٌ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ لَا تَسْتَطِيبُهُ بَلْ تَسْتَخْبِثُهُ حتى لَا تَجِدَ أَحَدًا تُرِكَ بِطَبْعِهِ إلَّا وَيَسْتَخْبِثُهُ وَيُنَقِّي طَبْعَهُ عن أَكْلِهِ وَإِنَّمَا يَرْغَبُونَ في رُكُوبِهِ إلا يَرْغَبُ طَبْعُهُ فِيمَا كان مَجْبُولًا عليه وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جاء بِإِحْلَالِ ما هو مُسْتَطَابٌ في الطَّبْعِ لَا بِمَا هو مُسْتَخْبَثٌ وَلِهَذَا لم يَجْعَلْ الْمُسْتَخْبَثَ في الطَّبْعِ غِذَاءَ الْيُسْرِ وَإِنَّمَا جَعَلَ ما هو مُسْتَطَابٌ بَلَغَ في الطِّيبِ غَايَتُهُ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَمَّا كان يَوْمُ خَيْبَرَ أَصَابَ الناس مَجَاعَةٌ فَأَخَذُوا الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ فَذَبَحُوهَا فَحَرَّمَ رسول اللَّهِ لُحُومَ الْحُمُرِ الأنسية وَلُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ وَحَرَّمَ الْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ
وَعَنْ خَالِدِ بن الْوَلِيدِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نهى رسول اللَّهِ عن أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ
وَعَنْ الْمِقْدَامِ بن مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال حُرِّمَ عَلَيْكُمْ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَخَيْلُهَا وَهَذَا نَصٌّ على التَّحْرِيمِ وَعَنْ رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ فَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ ولو صَلَحَتْ لِلْأَكْلِ لَقَالَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَيْلُ لِأَرْبَعَةٍ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلِ وِزْرٌ وَلِرَجُلٍ طَعَامٌ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْبَغْلَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وهو وَلَدُ الْفَرَسِ فَلَوْ كانت أُمُّهُ حَلَالًا لَكَانَ هو حَلَالًا أَيْضًا لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ لِأَنَّهُ منها وهو كَبَعْضِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ حِمَارَ وَحْشٍ لو نزى على حِمَارَةٍ أَهْلِيَّةٍ فَوَلَدَتْ لم يُؤْكَلْ وَلَدُهَا وَلَوْ نَزَا حِمَارٌ أَهْلِيٌّ على حِمَارَةٍ وَحْشِيَّةٍ وَوَلَدَتْ يُؤْكَلُ وَلَدُهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ في الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ دُونَ الْفَحْلِ فلما كان لَحْمُ الْفَرَسِ حَرَامًا كان لَحْمُ الْبَغْلِ كَذَلِكَ
وما رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عن جَابِرٍ وما في رِوَايَةِ سَيِّدَتِنَا أَسْمَاءَ رضي اللَّهُ عنها يُحْتَمَل أَنَّهُ كان ذلك في الْحَالِ التي كان يُؤْكَلُ فيها الْحُمُرُ لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا نهى عن أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ يوم خَيْبَرَ وَكَانَتْ الْخَيْلُ تُؤْكَلُ في ذلك الْوَقْتِ ثُمَّ حُرِّمَتْ يَدُلُّ عليه ما رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قال ما عَلِمْنَا الْخَيْلَ أُكِلَتْ إلَّا في حِصَارٍ

____________________

(5/38)


وَعَنْ الْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول اللَّهِ يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ في مغازيم ( ( ( مغازيهم ) ) ) فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا في حَالِ الضَّرُورَةِ كما قال الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أو يُحْمَلُ على هذا عَمَلًا بِالدَّلِيلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ أو يَتَرَجَّحُ الْحَاظِرُ على الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا حُجَجُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِ الْخَيْلِ
وَأَمَّا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ولم يُطْلَقْ التَّحْرِيمُ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ في الْبَابِ وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ فَكُرِهَ أَكْلُ لَحْمِهِ احْتِيَاطًا لِبَابِ الْحُرْمَةِ
وَأَمَّا الْمُتَوَحِّشُ منها نَحْوُ الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِ الْوَحْشِ وَإِبِلِ الْوَحْشِ فَحَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ }
وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَيُحِلُّ لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ }
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { كُلُوا من طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ } وَلُحُومُ هذه الْأَشْيَاءِ من الطَّيِّبَاتِ فَكَانَ حَلَالًا
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ رسول اللَّهِ يوم خَيْبَرَ عن لُحُومِ الْحُمُرِ فقال الْأَهْلِيَّةُ فَقِيلَ نعم فَدَلَّ قَوْلُ رسول اللَّهِ على اخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ وقد ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ في الْأَهْلِيَّةِ الْحُرْمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فَكَانَ حُكْمُ الْوَحْشِيَّةِ الْحِلَّ ضَرُورَةً
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من فِهْرٍ جاء إلَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وهو بِالرَّوْحَاءِ وَمَعَ الرَّجُلِ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقَرَهُ فقال هذه رَمْيَتِي يا رَسُولَ اللَّهِ وَهِيَ لك فَقَبِلَهُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَرَ سَيِّدَنَا أبو ( ( ( أبا ) ) ) بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَسَمَهُ بين الرِّفَاقِ وَالْحَدِيثُ وَإِنْ وَرَدَ في حِمَارِ الْوَحْشِ لَكِنَّ إحْلَالَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ إحْلَالٌ لِلظَّبْيِ وَالْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ وَالْإِبِلِ الْوَحْشِيِّ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ ليس من جِنْسِهِ من الْأَهْلِيِّ ما هو حَلَالٌ بَلْ هو حَرَامٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ من جِنْسِهَا من الْأَهْلِيِّ ما هو حَلَالٌ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْحِلِّ
وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ من السِّبَاعِ وهو الْكَلْبُ وَالسِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ فَلَا يَحِلُّ وَكَذَلِكَ الْمُتَوَحِّشُ منها الْمُسَمَّى بِسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وهو كُلُّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ لِمَا رُوِيَ في الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن أَكْلِ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه قال قال رسول اللَّهِ كُلُّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ حَرَامٌ فَذُو النَّابِ من سِبَاعِ الْوَحْشِ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالثَّعْلَبِ وَالسِّنَّوْرِ الْبَرِّيِّ وَالسِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ وَالدَّلَقِ وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ أنها مُحَرَّمَةٌ إلَّا الضَّبُعَ فإنه حَلَالٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَطَاءٍ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال في الضَّبُعِ كَبْشٌ فَقُلْت له أَهُوَ صَيْدٌ فقال نعم فَقُلْت يُؤْكَلُ فقال نعم فَقُلْت أَسَمِعْتَهُ من رسول اللَّهِ فقال نعم
وَلَنَا أَنَّ الضَّبُعَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الحديث الْمَشْهُورِ وما رُوِيَ ليس بِمَشْهُورٍ فَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى على أَنَّ ما رَوَيْنَا مُحَرِّمٌ وما رَوَاهُ مُحَلِّلٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي على الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال كنا عِنْدَ رسول اللَّهِ فَأَهْدَى له أَعْرَابِيٌّ أَرْنَبَةً مَشْوِيَّةً فقال لِأَصْحَابِهِ كُلُوا
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن صَفْوَانَ أو صَفْوَانَ بن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال أَصَبْت أرنبين ( ( ( أرنبتين ) ) ) فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ وَسَأَلْتُ عن ذلك رَسُولَ اللَّهِ فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا وَذُو الْمِخْلَبِ من الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالْبَاشَقِ وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّعَّابِ وَالنَّسْرِ وَالْعُقَابِ وما أَشْبَهَ ذلك فَيَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن كل ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ نهى عن كل ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كل نَابٍ من الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةِ روى بِكَسْرِ الثَّاءِ وَفَتْحِهَا من الْجُثُومِ وهو تَلَبُّدُ الطَّائِرِ الذي من عَادَتِهِ الْجُثُومُ على غَيْرِهِ لِيَقْتُلَهُ وهو السِّبَاعُ من الطَّيْرِ فَيَكُونُ نَهْيًا على أَكْلِ كل ذير ( ( ( طير ) ) ) هذا عَادَتُهُ وَبِالْفَتْحِ هو الصَّيْدُ الذي يَجْثُمُ عليه طَائِرٌ فَيَقْتُلُهُ فَيَكُونُ نَهْيًا عن أَكْلِ كل طَيْرٍ قَتَلَهُ طَيْرٌ آخَرُ بِجُثُومِهِ عليه
وَقِيلَ بِالْفَتْحِ هو الذي يرمي حتى يَجْثُمَ فَيَمُوتَ وما لَا مِخْلَبَ له من الطَّيْرِ فَالْمُسْتَأْنِسُ منه كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْمُتَوَحِّشُ كَالْحَمَامِ وَالْفَاخِتَةِ وَالْعَصَافِيرِ والقبج وَالْكُرْكِيِّ وَالْغُرَابِ الذي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَالْعَقْعَقِ وَنَحْوِهَا حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ من الْحَيَوَانَاتِ فَيُكْرَهُ أَكْلُ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَهِيَ التي الْأَغْلَبُ من أَكْلِهَا النَّجَاسَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان الْغَالِبُ من أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ
____________________

(5/39)


يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَيَنْتُنُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الْجَلَّالَةِ أَنْ تُشْرَبَ أَلْبَانُهَا لِأَنَّ لَحْمَهَا إذَا تَغَيَّرَ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا وما رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن أَنْ يُحَجَّ عليها وَأَنْ يُعْتَمَرَ عليها وَأَنْ يغزي وَأَنْ يُنْتَفَعَ بها فِيمَا سِوَى ذلك فَذَلِكَ مَحْمُولٌ على أنها انتنت في نَفْسِهَا فَيَمْتَنِعُ من اسْتِعْمَالِهَا حتى لَا يَتَأَذَّى الناس بِنَتِنِهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شرخه ( ( ( شرحه ) ) ) مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بها من الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا وَتُعْلَفَ فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ وما ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَدُ لِأَنَّ النَّهْيَ ليس لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهَا بَلْ لِعَارِضٍ جَاوَرَهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بها حَلَالًا في ذَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ عنه لِغَيْرِهِ ثُمَّ ليس لِحَبْسِهَا تَقْدِيرٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كان أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا يُوَقِّتُ في حَبْسِهَا وقال تُحْبَسُ حتى تَطِيبَ وهو قَوْلُهُمَا أَيْضًا
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أنها تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وروي ابن رُسْتُمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عن مُحَمَّدٍ في النَّاقَةِ الْجَلَّالَةِ والشاة وَالْبَقَرِ الْجَلَّالِ أنها إنَّمَا تَكُونُ جَلَّالَةً إذَا تفتت ( ( ( تفتتت ) ) ) وَتَغَيَّرَتْ وَوُجِدَ منها رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَهِيَ الْجَلَّالَةُ حِينَئِذٍ لَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَبَيْعُهَا وَهِبَتُهَا جَائِزٌ
هذا إذَا كانت لَا تَخْلِطُ وَلَا تَأْكُلُ إلَّا الْعَذِرَةَ غَالِبًا فَإِنْ خَلَطَتْ فَلَيْسَتْ جَلَّالَةً فَلَا تُكْرَهُ لِأَنَّهَا لَا تَنْتُنُ وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الدَّجَاجِ المحلى وَإِنْ كان يَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةَ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ عليه أَكْلُ النَّجَاسَةِ بَلْ يَخْلِطُهَا بِغَيْرِهَا وهو الْحَبُّ فَيَأْكُلُ ذَا وَذَا
وَقِيلَ إنَّمَا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتُنُ كما يَنْتُنُ الْإِبِلُ وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّتَنِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا في جَدْيٍ ارْتَضَعَ بِلَبَنِ خِنْزِيرٍ حتى كَبِرَ أنه لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِأَنَّ لَحْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَنْتُنُ
فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْكَرَاهَةَ في الْجَلَّالَةِ لِمَكَانِ التَّغَيُّرِ وَالنَّتْنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ
وَلِهَذَا إذَا خَلَطَتْ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ وُجِدَ تَنَاوُلُ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهَا لَا تَنْتُنُ فَدَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنَّتْنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُحْبَسَ الدَّجَاجُ حتى يَذْهَبَ ما في بَطْنِهَا من النَّجَاسَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَذَلِكَ على طَرِيقِ التَّنَزُّهِ وهو رِوَايَةُ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أنها تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذلك لِلْخَبَرِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ما في جَوْفِهَا من النَّجَاسَةِ يَزُولُ في هذه الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ويكره الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ لِمَا روى عن عُرْوَةَ عن أبيه أَنَّهُ سُئِلَ عن أَكْلِ الْغُرَابِ فقال من يَأْكُلُ بَعْدَ ما سَمَّاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاسِقًا عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَمْسٌ من الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهَا الْجِيَفُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا كَالْجَلَّالَةِ وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ
هَكَذَا رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عن أبي يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ عن أَكْلِ الْغُرَابِ فَرَخَّصَ في غُرَابِ الزَّرْعِ وَكَرِهَ الْغُدَافَ فَسَأَلْتُهُ عن الْأَبْقَعِ فَكَرِهَ ذلك وَإِنْ كان غُرَابًا يَخْلِطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَأْكُلُ الْحَبَّ لَا يُكْرَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ قال وَإِنَّمَا يُكْرَهُ من الطَّيْرِ ما لَا يَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ وَلَا بَأْسَ بِالْعَقْعَقِ لِأَنَّهُ ليس بِذِي مِخْلَبٍ وَلَا من الطَّيْرِ الذي لَا يَأْكُلُ إلَّا الْحَبَّ كَذَا روي أبو يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَكْلِ الْعَقْعَقِ فقال لَا بَأْسَ بِهِ فَقُلْت إنَّهُ يَأْكُلُ الْجِيَفَ فقال إنَّهُ يَخْلِطُ فَحَصَلَ من قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ ما يَخْلِطُ من الطُّيُورِ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالدَّجَاجِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ شَرْطِ حِلِّ الْأَكْلِ في الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ فَشَرْطُ حِلِّ الْأَكْلِ في الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ هو الذَّكَاةُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِدُونِهَا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } إلَى قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وما أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا ما ذَكَّيْتُمْ } اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذَّكِيَّ من الْمُحَرَّمِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ
ثُمَّ الْكَلَامُ في الذَّكَاةِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الذَّكَاةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ من الذَّكَاةِ وما يُكْرَهُ منها فَالذَّكَاةُ نَوْعَانِ نوعان اختياري ( ( ( اختيارية ) ) ) وَضَرُورِيَّةٌ أَمَّا الِاخْتِيَارِيَّةُ فَرُكْنُهَا الذَّبْحُ فِيمَا يُذْبَحُ من الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَالنَّحْرُ فِيمَا يُنْحَرُ وهو الْإِبِلُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الذَّبْحِ وَالنَّحْرُ لَا يَحِلُّ بِدُونِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ في الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَأَنَّهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بأحلال الطَّيِّبَاتِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ }
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيُحِلُّ لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } وَلَا يَطِيبُ إلَّا بِخُرُوجِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ
____________________

(5/40)


وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فيها قَائِمٌ وَلِذَا لَا يَطِيبُ مع قِيَامِهِ وَلِهَذَا يَفْسُدُ في أَدْنَى مُدَّةِ ما يَفْسُدُ في مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ لِمَا قُلْنَا وَالذَّبْحُ هو فرى الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ ما بين اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّكَاةُ ما بين اللَّبَّةِ وَاللِّحْيَةِ أَيْ مَحَلُّ الذَّكَاةِ ما بين اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وروى الذَّكَاةُ في الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَالنَّحْرُ فرى الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ آخِرُ الْحَلْقِ وَلَوْ نُحِرَ ما يُذْبَحُ وَذُبِحَ ما يُنْحَرُ يَحِلُّ لِوُجُودِ فرى الْأَوْدَاجِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ السُّنَّةَ في الْإِبِلِ النَّحْرُ وفي غَيْرِهَا الذَّبْحُ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ في الْإِبِلِ النَّحْرَ وفي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } قِيلَ في التَّأْوِيلِ أَيْ انْحَرْ الْجَزُورَ وقال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } وقال تَعَالَى { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَالذِّبْحُ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وهو الْكَبْشُ الذي فدى بِهِ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ أو سَيِّدُنَا إِسْحَاقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا على اخْتِلَافِ أَصْلِ الْقِصَّةِ في ذلك
وَكَذَا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ فَدَلَّ أَنَّ ذلك هو السُّنَّةُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ وقال بَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَدَلَّ ذلك على أَنَّ النَّحْرَ في الْإِبِلِ هو السُّنَّةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الذَّكَاةِ إنَّمَا هو الْأَسْهَلُ على الْحَيَوَانِ وما فيه نَوْعُ رَاحَةٍ له فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ عن النبي قال إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ على كل شَيْءٍ فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وإذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وَالْأَسْهَلُ في الْإِبِلِ النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عن اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهُ من خَلْفِهَا وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ جَمِيعُ حَلْقِهَا لَا يَخْتَلِفُ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نَحَرْنَا مع رسول اللَّهِ الْبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ أَيْ وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على الْأَوَّلِ فَكَانَ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي كَقَوْلِنَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَالْجَوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فيه وَمَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ على عَادَةِ الْعَرَبِ في الشَّيْءِ إذَا عُطِفَ على غَيْرِهِ وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ عليه لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ في الْمَعْطُوفِ أو لَا يُوجَدُ عَادَةً أَنْ يُضْمَرَ الْمُتَعَارَفُ الْمُعْتَادُ كما قال الشَّاعِرُ وَلَقِيت زَوْجَك في الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا أَيْ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا
وقال آخَرُ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وماءا ( ( ( وماء ) ) ) بَارِدًا أَيْ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَسَقَيْتُهَا ماءا ( ( ( ماء ) ) ) بَارِدًا لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّقَلُّدَ أو لَا يُتَقَلَّدُ عَادَةً وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ بَلْ يُسْقَى
كَذَا هَهُنَا الذَّبْحُ في الْبَقَرِ هو الْمُعْتَادُ فَيُضْمَرُ فيه فَصَارَ كَأَنَّهُ قال نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاء رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ذَبَحَ الْبَدَنَةَ لَا تَحِلُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ في الْبَدَنَةِ بِالنَّحْرِ بِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } فإذا ذَبَحَ فَقَدْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَحِلُّ
وَلَنَا ما روى عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ما أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالنَّحْرِ في الْبَدَنَةِ ليس لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَإِفْرَاءِ الْأَوْدَاجِ وقد وُجِدَ ذلك وَلَا بَأْسَ في الْحَلْقِ كُلِّهِ أَسْفَلِهِ أو أَوْسَطِهِ أو أَعْلَاهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّكَاةُ ما بين اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّكَاةُ في الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ
من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخرام ( ( ( إخراج ) ) ) الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَتَطْيِيبُ اللَّحْمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ في الْحَلْقِ كُلِّهِ
ثُمَّ الْأَوْدَاجُ أَرْبَعَةٌ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ فإذا فَرَى ذلك كُلَّهُ فَقَدْ أتى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا وَسُنَنِهَا وَإِنْ فَرَى الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وهو ثَلَاثَةٌ منها أَيُّ ثَلَاثَةٍ كانت وَتَرَكَ وَاحِدًا يَحِلُّ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ حتى يُقْطَعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْعِرْقَيْنِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ حتى يُقْطَعَ من كل وَاحِدٍ من الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُهُ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قُطِعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ حُلَّ إذَا اُسْتُوْعِبَ قَطْعُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الذَّبْحَ إزَالَةُ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ عَادَةً وقد تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ وَالْحَيَاةُ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ من سَائِرِ الْعُرُوقِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من الذَّبْحِ إزَالَةُ الْمُحَرَّمِ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَطْعِ الْوَدَجِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْأَكْثَرُ من كل وَاحِدٍ من الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ وهو خُرُوجُ الدَّمِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ما يَخْرُجُ
____________________

(5/41)


بِقَطْعِ الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن كُلَّ وَاحِدٍ من الْعُرُوقِ يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ ما يُقْصَدُ بِهِ الْآخَرُ لِأَنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى النَّفَسِ وَالْمَرِيءَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالْوَدَجَيْنِ مجري الدَّمِ فإذا قُطِعَ أَحَدُ الْوَدَجَيْنِ حَصَلَ بِقَطْعِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وإذا تُرِكَ الْحُلْقُومُ ولم يَحْصُلْ بِقَطْعِ ما سِوَاهُ الْمَقْصُودُ منه وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ قَطَعَ الْأَكْثَرَ من الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِيمَا بنى على التَّوْسِعَةِ في أُصُولِ الشَّرْعِ وَالذَّكَاةُ بُنِيَتْ على التَّوْسِعَةِ حَيْثُ يكتفي فيها بِالْبَعْضِ بِلَا خِلَافٍ بين الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْكَيْفِيَّةِ فَيُقَامُ الْأَكْثَرُ فيها مَقَامَ الْجَمِيعِ وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ جَزُورٍ أو بَقَرَةٍ أو شَاةٍ بِسَيْفِهِ وَأَبَانَهَا وَسَمَّى فَإِنْ كان ضَرَبَهَا من قِبَلِ الْحُلْقُومِ تُؤْكَلْ وقد أَسَاءَ
أَمَّا حِلُّ الآكل فَلِأَنَّهُ أتى بِفِعْلِ الذَّكَاةِ وهو قَطْعُ الْعُرُوقِ وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِأَنَّهُ زَادَ في أَلَمِهَا زِيَادَةً لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا في الذَّكَاةِ فَيُكْرَهُ ذلك وَإِنْ ضَرَبَهَا من الْقَفَا فَإِنْ مَاتَتْ قبل الْقَطْعِ بِأَنْ ضَرَبَ على التَّأَنِّي وَالتَّوَقُّفِ لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قبل الذَّكَاةِ فَكَانَتْ مَيْتَةً وَإِنْ قَطَعَ الْعُرُوقَ قبل موته ( ( ( موتها ) ) ) تُؤْكَلْ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ وَهِيَ حَيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذلك لِأَنَّهُ زَادَ في أَلَمِهَا من غَيْرِ حَاجَةٍ وَإِنْ أَمْضَى فِعْلَهُ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ تُؤْكَلُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهَا بِالذَّكَاةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ذَبَحَ بِالْمَرْوَةِ أو بِلِيطَةِ الْقَصَبِ أو بِشِقَّةِ الْعَصَا أو غَيْرِهَا من الْآلَاتِ التي تَقْطَعُ إنه يَحِلُّ لِوُجُودِ مَعْنَى الذَّبْحِ وهو فَرْيُ الْأَوْدَاجِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْآلَةَ على ضَرْبَيْنِ آلَةٌ تَقْطَعُ وَآلَةٌ تَفْسَخُ وَاَلَّتِي تَقْطَعُ نَوْعَانِ حَادَّةٌ وَكَلِيلَةٌ أَمَّا الْحَادَّةُ فَيَجُوزُ الذَّبْحُ بها حَدِيدًا كانت أو غير حَدِيدٍ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ الذَّبْحِ بِدُونِ الْحَدِيدِ ما رُوِيَ عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَحَدَنَا أَصَابَ صَيْدًا وَلَيْسَ معه سِكِّينٌ أَيُذَكِّي بِمَرْوَةِ أو بِشِقَّةِ الْعَصَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى
وروى أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه ذَبَحَتْ شَاةً بِمَرْوَةِ فَسَأَلَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ عن ذلك فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بِالْحَدِيدِ وَالْجَوَازُ ليس لِكَوْنِهِ من جِنْسِ الْحَدِيدِ بَلْ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِيدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْحَدِيدِ الذي لَا حَدَّ له فإذا وُجِدَ مَعْنَى الْحَدِّ في الْمَرْوَةِ وَاللِّيطَةِ جَازَ الذَّبْحُ بِهِمَا وَأَمَّا الْكَلِيلَةُ فَإِنْ كانت تَقْطَعُ يَجُوزُ لِحُصُولِ مَعْنَى الذَّبْحِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فيه من زِيَادَةِ إيلَامٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَلِهَذَا أَمَرَ رسول اللَّهِ بِتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ وَإِرَاحَةِ الذَّبِيحَةِ وَكَذَلِكَ إذَا جُرِحَ بِظُفْرٍ مَنْزُوعٍ أو سِنٍّ مَنْزُوعٍ جَازَ الذَّبْحُ بِهِمَا وَيُكْرَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت إلَّا ما كان من سِنٍّ أو ظُفُرٍ فإن الظُّفُرَ مدي الْحَبَشَةِ وَالسِّنَّ عَظْمٌ من الْإِنْسَانِ اسْتَثْنَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ من الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْإِبَاحَةِ يَكُونُ حَظْرًا وَعُلِّلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِ الظُّفُرِ مُدَى الْحَبَشَةِ وَكَوْنِ السِّنِّ عَظْمَ الْإِنْسَانِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِنْكَارِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ فَقَدْ وَجَدَ الذَّبْحَ بِهِمَا فَيَجُوزُ كما لو ذَبَحَ بِالْمَرْوَةِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ السِّنُّ الْقَائِمُ وَالظُّفْرُ الْقَائِمُ لِأَنَّ الْحَبَشَةَ إنَّمَا كانت تَفْعَلُ ذلك لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ وَذَاكَ بِالْقَائِمِ لَا بِالْمَنْزُوعِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إلَّا ما كان قَرْضًا بِسِنٍّ أو حَزًّا بِظُفْرٍ وَالْقَرْضُ إنَّمَا يَكُونُ بِالسِّنِّ الْقَائِمِ
وَأَمَّا الْآلَةُ التي تَفْسَخُ فَالظُّفْرُ الْقَائِمُ وَالسِّنُّ الْقَائِمُ وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ بِهِمَا بالاجماع وَلَوْ ذَبَحَهُمَا كان مَيْتَةً لِلْخَبَرِ الذي رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الظُّفْرَ وَالسِّنَّ إذَا لم يَكُنْ مُنْفَصِلًا فَالذَّابِحُ يَعْتَمِدُ على الذَّبِيحِ فَيُخْنَقُ وَيَنْفَسِخُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ حتى قالوا لو أَخَذَ غَيْرُهُ يَدَهُ فَأَمَرَّ يَدَهُ كما أَمَرَّ السِّكِّينَ وهو سَاكِتٌ يَجُوزُ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْجَنِينُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَبْحِ أُمِّهِ إنْ خَرَجَ حَيًّا فذكى يَحِلُّ وَإِنْ مَاتَ قبل الذَّبْحِ لَا يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَإِنْ لم يَكُنْ كَامِلَ الْخَلْقِ لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُضْغَةِ وَإِنْ كان كَامِلَ الْخَلْقِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا يُؤْكَلُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الْأُمِّ وَيُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَالْحُكْمُ في التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا يُشْتَرَطُ له عِلَّةٌ على حِدَةٍ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } وَالْجَنِينُ مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فيه وَالْمَيْتَةُ ما لَا حَيَاةَ فيه فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ
فَإِنْ قِيلَ الْمَيْتَةُ اسْمٌ لزوال ( ( ( لزائل ) ) ) الْحَيَاةِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْحَيَاةِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ في الْجَنِينِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحَيَاةِ ليس بِشَرْطٍ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَيِّتِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذلك
____________________

(5/42)


فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان حَيًّا فَمَاتَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ فَيُحَرَّمُ احْتِيَاطًا وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ في الْحَيَاة فَيَكُونُ له أَصْلٌ في الذَّكَاةِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ أَصْلٌ في الْحَيَاةِ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ وَلَوْ كان تَبَعًا لِلْأُمِّ في الْحَيَاةِ لَمَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ زَوَالِ الْحَيَاةِ عن الْأُمِّ وإذا كان أَصْلًا في الْحَيَاةِ يَكُونُ أَصْلًا في الذَّكَاةِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّهُ إذَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ لم يَكُنْ ذَبْحُ الْأُمِّ سَبَبًا لِخُرُوجِ الدَّمِ عنه إذْ لو كان لَمَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ إذْ الْحَيَوَانُ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ بِدُونِ الدَّمِ عَادَةً فَبَقِيَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فيه وَلِهَذَا إذَا جُرِحَ يَسِيلُ منه الدَّمُ وَأَنَّهُ حُرِّمَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَمًا مَسْفُوحًا وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بين لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَيَحْرُمُ لَحْمُهُ أَيْضًا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ بِنَصْبِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ مَعْنَاهُ كَذَكَاةِ أُمِّهِ إذْ التَّشْبِيهُ قد يَكُونُ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ وقد يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ قال اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
وقال عز شَأْنُهُ { يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه من الْمَوْتِ } أَيْ كَنَظَرِ الْمَغْشِيِّ عليه وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ تَشْبِيهَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا في الِافْتِقَارِ إلَى الذَّكَاةِ وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ تَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ أَيْضًا قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات ( ( ( السموات ) ) ) وَالْأَرْضُ } أَيْ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ فكيون ( ( ( فيكون ) ) ) حُجَّةً عَلَيْكُمْ
وَيُحْتَمَلُ الْكِنَايَةُ كما قالوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ مع أَنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لو كان ثَابِتًا لَاشْتَهَرَ وإذا خَرَجَتْ من الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ بَيْضَةٌ تُؤْكَلُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أو لم يَشْتَدَّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا لم يَشْتَدَّ قِشْرُهَا فَهِيَ من أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَحْرُمُ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وإذا اشْتَدَّ قِشْرُهَا فَقَدْ صَارَ شيئا آخَرَ وهو مُنْفَصِلٌ عن الدَّجَاجَةِ فَيَحِلُّ
وَلَنَا أَنَّهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ في نَفْسِهِ مُودَعٌ في الطَّيْرِ مُنْفَصِلٌ عنه ليس من أَجْزَائِهِ فَتَحْرِيمُهَا لَا يَكُونُ تَحْرِيمًا له كما إذَا اشْتَدَّ قِشْرُهَا وَلَوْ مَاتَتْ شَاةٌ وَخَرَجَ من ضَرْعِهَا لَبَنٌ يُؤْكَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُؤْكَلُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جميعا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْكَلُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يُؤْكَلُ لِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنَّ لَكُمْ في الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ من بين فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من وُجُوهٍ أحدهما ( ( ( أحدها ) ) ) أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَشُوبَهُ شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ وَالْحَرَامُ لَا يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ
وَالثَّالِثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ إذْ الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْمِنَّةِ وَالْمِنَّةُ بِالْحَلَالِ لَا بِالْحَرَامِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الأنفحة إذَا كانت مَائِعَةً وَإِنْ كانت صُلْبَةً فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُؤْكَلُ وَتُسْتَعْمَلُ في الْأَدْوِيَةِ كُلِّهَا وَعِنْدَهُمَا يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْكَلُ أَصْلًا
وَأَمَّا الِاضْطِرَارِيَّةُ فَرُكْنُهَا الْعَقْرُ وهو الْجَرْحُ في أَيِّ مَوْضِعٍ كان وَذَلِكَ في الصَّيْدِ وما هو في مَعْنَى الصَّيْدِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ إذَا لم يَكُنْ مَقْدُورًا وَلَا بُدَّ من إخْرَاجِ الدَّمِ لِإِزَالَةِ الْمُحَرَّمِ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ على ما بَيَّنَّا فَيُقَامُ سَبَبُ الذَّبْحِ مَقَامَهُ وهو الْجَرْحُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الشَّرْعِ من إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ كما يُقَامُ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا أو مُتَوَرِّكًا مَقَامَ الْحَدَثِ وَنَحْوُ ذلك
وَكَذَلِكَ ما نَدَّ من الأبل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عليها صَاحِبُهَا لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الصَّيْدِ وَإِنْ كان مُسْتَأْنِسًا
وقد رُوِيَ أَنَّ بعير ( ( ( بعيرا ) ) ) أند ( ( ( ند ) ) ) على عَهْدِ رسول اللَّهِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَقَتَلَهُ فقال رسول اللَّهِ إنَّ لِهَذِهِ الأبل أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فإذا غَلَبَكُمْ منها شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ في الصَّحْرَاءِ أو في الْمِصْرِ فَذَكَاتُهُمَا الْعَقْرُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عن أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِمَا
قال مُحَمَّدٌ وَالْبَعِيرُ الذي نَدَّ على عَهْدِ رسول اللَّهِ كان بِالْمَدِينَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَدَّ الْبَعِيرِ في الصَّحْرَاءِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ في هذا الْحُكْمِ
وَأَمَّا الشَّاةُ فَإِنْ نَدَّتْ في الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عليها وَإِنْ نَدَّتْ في الْمِصْرِ لم يَجُزْ عَقْرُهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا إذْ هِيَ لَا تَدْفَعُ عن نَفْسِهَا فَكَانَ الذَّبْحُ مَقْدُورًا عليه فَلَا يَجُوزُ الْعَقْرُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ من الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كما في التُّرَابِ مع الْمَاءِ وَالْأَشْهُرِ
____________________

(5/43)


مع الْأَقْرَاءِ وَغَيْرِ ذلك
وَكَذَلِكَ ما وَقَعَ منها في قَلِيبٍ فلم يُقْدَرْ على إخْرَاجِهِ وَلَا على مَذْبَحِهِ وَلَا مَنْحَرِهِ فإن ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ الصَّيْدِ لِكَوْنِهِ في مَعْنَاهُ لِتَعَذُّرِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ
وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى في الْبَعِيرِ إذَا صَالَ على رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وهو يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ إذَا كان لَا يَقْدِرُ على أَخْذِهِ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ إذَا كان لَا يَقْدِرُ على أَخْذِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فَجَعَلَ الصِّيَالَ منه كَنَدِّهِ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ عن أَخْذِهِ فَيَعْجَزُ عن نَحْرِهِ فَيُقَامُ الْجَرْحُ فيه مَقَامَ النَّحْرِ كما في الصَّيْدِ ثُمَّ لَا خِلَافَ في الِاصْطِيَادِ بِالسَّهْمِ وَالرُّمْحِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ إذَا لم يَجْرَحْ لَا يَحِلُّ
وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا خَرَقَ فَكُلْ وأن أَصَابَهُ بِعَرَضٍ فَلَا تَأْكُلْ فإنه وَقِيذٌ
وَأَمَّا الِاصْطِيَادُ بِالْجَوَارِحِ من الْحَيَوَانَاتِ إمَّا بِنَابٍ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا بِالْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَنَحْوِهِمَا فَكَذَلِكَ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ إذَا لم يَجْرَحْ لَا يَحِلُّ حق ( ( ( حتى ) ) ) لو خَنَقَ أو صَدَمَ ولم يَجْرَحْ ولم يَكْسِرْ عُضْوًا منه لَا يَحِلُّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَلْبَ يَأْخُذُ الصَّيْدَ على حَسْبِ ما يَتَّفِقُ له فَقَدْ يَتَّفِقُ له الْأَخْذُ بِالْجَرْحِ وقد يَتَّفِقُ بِالْخَنْقِ وَالصَّدْمِ وَالْحَالُ حَالُ الضَّرُورَةِ فَيُوَسَّعُ الْأَمْرُ فيه وَيُجْعَلُ الخندق ( ( ( الخنق ) ) ) وَالصَّدْمُ كَالْجَرْحِ كما وُسِّعَ في الذَّبْحِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ } وَهِيَ من الْجِرَاحَةَ فَيَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْجَرْحِ وَلِأَنَّ الرُّكْنَ هو إخْرَاجُ الدَّمِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ في حَالِ الْقُدْرَةِ وفي حَالِ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ لِكَوْنِهِ سَبَبًا في خُرُوجِ الدَّمِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في الْخَنْقِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ في صَيْدِ الْمِعْرَاضِ إذَا خَرَقَ فَكُلْ وان أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تأكله ( ( ( تأكل ) ) ) فإنه وَقِيذٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال ما أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَهُوَ وَقِيذٌ وما أَصَبْت بِحَدِّهِ فَكُلْ أَرَادَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ على الْجَرْحِ وَعَدَمِ الْجَرْحِ وَسَمَّى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غير الْمَجْرُوحِ وَقِيذًا وأنه حَرَامٌ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالْمَوْقُوذَةُ } وَلِأَنَّهَا مُنْخَنِقَةٌ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَالْمُنْخَنِقَةُ } فَإِنْ لم يَجْرَحْهُ ولم يَخْنُقْهُ وَلَكِنَّهُ كَسَرَ عُضْوًا منه فَمَاتَ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لم يُحْكَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيه شَيْءٌ مُصَرِّحٌ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ وَأَطْلَقَ أَنَّهُ إذَا لم يُجْرَحْ لم يُؤْكَلْ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وقال أبو يُوسُفَ إذَا جَرَحَ بِنَابٍ أو مِخْلَبٍ أو كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ فَقَدْ جَعَلَ الْكَسْرَ جِرَاحَةَ باطنة فَيُلْحَقُ بِالْجِرَاحَةِ لِظَاهِرِهِ في حُكْمٍ بُنِيَ على الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْأَصْلَ هو الذَّبْحُ وَإِنَّمَا أُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِخُرُوجِ الدَّمِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ في الْكَسْرِ فَلَا يُقَامُ مَقَامَهُ وَلِهَذَا لم يَقُمْ الْخَنْقُ مَقَامَهُ وقد قالوا إذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ فَإِنْ وَصَلَ إلَى اللَّحْمِ فَأَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا تَفْرِيعٌ على رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْجَرْحِ وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً ولم يَسِلْ منها دَمٌ قِيلَ وَهَذَا قد يَكُونُ في شَاةٍ اعْتَلَفَتْ الْعُنَّابَ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال أبو الْقَاسِم الصَّفَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تأكل ( ( ( تؤكل ) ) ) لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما فَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَكُلْ يُؤْكَلُ بِشَرْطِ إنْهَارِ الدَّمِ ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ الذَّبْحَ لم يُشْرَطْ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَحِلُّ
وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَالْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ لِوُجُودِ الذَّبْحِ وهو فرى الْأَوْدَاجِ وأنه سَبَبٌ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَادَةً لَكِنَّهُ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَصَارَ كَالدَّمِ الذي اُحْتُبِسَ في بَعْضِ الْعُرُوقِ عن الْخُرُوجِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قَطَعَ من إلية الشَّاةِ قِطْعَةً أو من فَخِذِهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْمُبَانُ وَإِنْ ذُبِحَتْ الشَّاةُ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ حُكْمَ الذَّكَاةِ لم يَثْبُتْ في الْجُزْءِ الْمُبَانِ وَقْتَ الْإِبَانَةِ لِانْعِدَامِ ذَكَاةِ الشَّاةِ لِكَوْنِهَا حَيَّةً وَقْتَ الْإِبَانَةِ وَحَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ كان الْجُزْءُ مُنْفَصِلًا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَظْهَرُ في الْجُزْءِ الْمُنْفَصِلِ
وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقْطَعُونَ قِطْعَةً من إلية الشَّاةِ وَمِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ فَيَأْكُلُونَهَا فلما بُعِثَ النبي الْمُكَرَّمُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَاهُمْ عن ذلك فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما أُبِينَ من الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ وَالْجُزْءُ الْمَقْطُوعُ مُبَانٌ من حَيٍّ وَبَائِنٌ منه فَيَكُونُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ إذَا قُطِعَ ذلك من صَيْدٍ لم يُؤْكَلْ الْمَقْطُوعُ وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ ذلك لِمَا قُلْنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤْكَلُ إذَا مَاتَ الصَّيْدُ بِذَلِكَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قُطِعَ فَتَعَلَّقَ الْعُضْوُ بِجِلْدِهِ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ من التَّعَلُّقِ لَا يُعْتَبَرُ
____________________

(5/44)


فَكَانَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كان مُتَعَلِّقًا بِاللَّحْمِ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْمُتَعَلِّقَ بِاللَّحْمِ من جُمْلَةِ الْحَيَوَانِ وَذَكَاةُ الْحَيَوَانِ تَكُونُ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ النِّصْفَانِ عِنْدَنَا جميعا وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لِأَنَّهُ وَجَدَ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ لِكَوْنِهَا مُتَّصِلَةً من الْقَلْبِ بِالدِّمَاغِ فَأَشْبَهَ الذَّبْحَ فَيُؤْكَلُ الْكُلُّ وَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّ من النِّصْفِ فَمَاتَ فَإِنْ كان مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَا يُؤْكَلُ الْمُبَانُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُؤْكَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَرْحَ في الصَّيْدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَهُوَ ذَكَاةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ وَإِنَّهَا سَبَبُ الْحِلِّ كَالذَّبْحِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي ما أُبِينَ من الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ وَالْمَقْطُوعُ مُبَانٌ من الْحَيِّ فَيَكُونُ مَيِّتًا وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْجَرْحَ الذي اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ ذَكَاةٌ في الصَّيْدِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ عن الْمَحَلِّ وَعِنْدَ الْإِبَانَةِ الْمَحَلُّ كان حَيًّا فلم يَقَعْ الْفِعْلُ ذَكَاةً له وَعِنْدَمَا صَارَ ذَكَاةً كان الْجُزْءُ مُنْفَصِلًا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَلْحَقُ الْجُزْءَ الْمُنْفَصِلَ وَإِنْ كان مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِوُجُودِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ فَكَانَ الْفِعْلُ حَالَ وُجُودِهِ ذَكَاةً حَقِيقَةً فَيَحِلُّ بِهِ الْكُلُّ وَإِنْ ضَرَبَ رَأْسَ صَيْدٍ فَأَبَانَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا أو عَرْضًا يوكل كُلُّهُ في قَوْلِ أبي حينفة ( ( ( حنيفة ) ) ) وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يوكل النِّصْفُ الْبَائِنُ ويوكل ما بَقِيَ من الصَّيْدِ
وَالْأَصْلُ فيه ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوْدَاجَ مُتَّصِلَةٌ بِالدِّمَاغِ فَتَصِيرُ مَقْطُوعَةً بِقَطْعِ الرَّأْسِ وكان أبو يُوسُفَ على هذا ثُمَّ ظَنَّ أنها لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا يَلِي الْبَدَنَ من الرَّأْسِ وَإِنْ كان الْمُبَانُ أَكْثَرَ من النِّصْفِ فَكَذَلِكَ يوكل الْكُلُّ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْعُرُوقَ فلم يَكُنْ ذلك ذَبْحًا بَلْ كان جَرْحًا وَأَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْمُبَانَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الذَّكَاةِ فَأَنْوَاعُ بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالِاضْطِرَارِيَّة وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَمَّا الذي يَعُمُّهُمَا فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ وَالسَّكْرَانُ الذي لَا يَعْقِلُ لِمَا نَذْكُرُ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنْ كان الصَّبِيُّ يَعْقِلُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عليه تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَكَذَا السَّكْرَانُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أو كِتَابِيًّا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ
أَمَّا ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وما أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { وما ذُبِحَ على النُّصُبِ } أَيْ لِلنُّصُبِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ التي يَعْبُدُونَهَا
وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ فَلِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غير نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى على الذَّبِيحَةِ من شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا لِمَا نَذْكُرُ ولم يُوجَدْ
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ على الدِّينِ الذي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْوَثَنِيِّ الذي لَا يُقَرُّ على دِينِهِ وَلَوْ كان الْمُرْتَدُّ غُلَامًا مُرَاهِقًا لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ أبي حينفة ( ( ( حنيفة ) ) ) وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُؤْكَلُ بِنَاءً على أَنَّ رِدَّتَهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَصِحُّ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَالْمُرَادُ منه ذَبَائِحُهُمْ إذْ لو لم يَكُنِ الْمُرَادُ ذلك لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعْنًى لِأَنَّ غير الذَّبَائِحِ من أَطْعِمَةِ الْكَفَرَةِ مَأْكُولٌ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الطَّعَامِ يَقَعُ على الذَّبَائِحِ كما يَقَعُ على غَيْرِهَا لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَطَعَّمُ وَالذَّبَائِحُ مِمَّا يُتَطَعَّمُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ اطلاق اسْمِ الطَّعَامِ فَيَحِلُّ لنا أَكْلُهَا وَيَسْتَوِي فيه أَهْلُ الْحَرْبِ منهم وَغَيْرُهُمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
وَكَذَا يَسْتَوِي فيه نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ إلى دِينِ النَّصَارَى إلَّا أَنَّهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
وقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ عز شَأْنُهُ { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ }
وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما تُؤْكَلُ وَقَرَأَ قَوْلَهُ عز وجل { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإنه منهم } وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ التي تَلَاهَا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه دَلِيلٌ على أَنَّهُمْ من أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ قال عز وجل { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } أَيْ من أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَلِمَةُ من لِلتَّبْعِيضِ إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ من النَّصَارَى في بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا يُخْرِجُهُمْ عن كَوْنِهِمْ نَصَارَى كَسَائِرِ النَّصَارَى فَإِنْ انْتَقَلَ الْكِتَابِيُّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ من الْكَفَرَةِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لو انْتَقَلَ إلَى ذلك الدِّينِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَالْكِتَابِيُّ أَوْلَى
وَلَوْ انْتَقَلَ غَيْرُ الْكِتَابِيِّ من الْكَفَرَةِ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ
وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِ وَدِينِهِ فيه أنه ينظر إلى حاله ودينه وَقْتِ ذَبِيحَتِهِ دُونَ ما سِوَاهُ وَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ من انْتَقَلَ من مِلَّةِ يُقَرُّ عليها يُجْعَلُ كَأَنَّهُ من أَهْلِ تِلْكَ الْمِلَّةِ من الْأَصْلِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ
____________________

(5/45)


النِّكَاحِ وَالْمَوْلُودُ بين كِتَابِيٍّ وَغَيْرِ كِتَابِيٍّ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَيُّهُمَا كان الْكِتَابِيُّ الْأَبُ أو الْأُمُّ عِنْدَنَا
قال مَالِكٌ يُعْتَبَرُ الْأَبُ فَإِنْ كان كِتَابِيًّا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ رَأْسًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ جَعْلَ الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْكِتَابِيِّ مِنْهُمَا أَوْلَى لِأَنَّهُ خَيْرُهُمَا دِينًا بِالنِّسْبَةِ فَكَانَ بِاتِّبَاعِهِ اياه أَوْلَى
وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا تُؤْكَلُ وَاخْتِلَافُ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ في الصَّابِئِينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ هُمْ
وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ النِّكَاحِ
ثُمَّ إنَّمَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إذَا لم يُشْهَدْ ذَبْحُهُ ولم يُسْمَعْ منه شَيْءٌ أو سُمِعَ وَشُهِدَ منه تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَسْمَعْ شيئا يُحْمَلُ على أَنَّهُ قد سَمَّى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَرَّدَ التَّسْمِيَةَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ كما بِالْمُسْلِمِ
وَلَوْ سُمِعَ منه ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ عَنَى بِاَللَّهِ عز وجل الْمَسِيحَ عليه السلام قالوا تُؤْكَلُ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ تَسْمِيَةً هِيَ تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِينَ
إلَّا إذَا نَصَّ فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي هو ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَلَا تَحِلُّ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَقُولُونَ ما يَقُولُونَ فقال رضي اللَّهُ عنه قد أَحَلَّ اللَّهُ ذَبَائِحَهُمْ وهو يَعْلَمُ ما يَقُولُونَ فَأَمَّا إذَا سُمِعَ منه أَنَّهُ سَمَّى الْمَسِيحَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْدَهُ أو سَمَّى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَمَّى الْمَسِيحَ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ
كَذَا رَوَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه ولم يُرْوَ عنه غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِقَوْلِهِ عز وجل { وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ } وَهَذَا أُهِلّ لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل بِهِ فَلَا يُؤْكَلُ
وَمَنْ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أُكِلَ صَيْدُهُ الذي صَادَهُ بِالسَّهْمِ أو بِالْجَوَارِحِ وَمَنْ لَا فَلَا
ولأن أَهْلِيَّةَ الْمُذَكِّي شَرْطٌ في نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالِاضْطِرَارِيَّةِ جميعا
وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ حَالَةَ الذِّكْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ انها شَرْطٌ حَالَةَ الذِّكْرِ وَالسَّهْوِ حتى لَا يُحِلَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا عِنْدَهُ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
أَمَّا الْكَلَام مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ } أَمَرَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ انه لَا يَجِدُ فِيمَا أوحى إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ لم يَدْخُلْ فيها فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَا يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ الْمُحَرَّمُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها ثُمَّ حُرِّمَ بَعْدَ ذلك مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه } لِأَنَّهُ قِيلَ إنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً
وَلَوْ كان مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ مُحَرَّمًا لَكَانَ وَاجِدًا له فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ كما اسْتَثْنَى الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ في حَقِّ الْعَمَلِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّى أكل ( ( ( كل ) ) ) ما لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه فِسْقًا بِقَوْلِهِ عز وجل { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وَلَا فِسْقَ إلَّا بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَلَا تُحْمَلُ إلَّا على الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ في سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَنَّ الْعَامَّ لَا يُخَصُّ بِالسَّبَبِ عِنْدَنَا بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ مع ما أَنَّ الْحَمْلَ على ذلك حَمْلٌ على التَّكْرَارِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثَبَتَتْ بِنُصُوصٍ أُخَرَ وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { وما ذُبِحَ على النُّصُبِ } فَالْحَمْلُ على ما قَالَهُ يَكُونُ حَمْلًا على ما قُلْنَا وَيَكُونُ حَمْلًا على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ فَكَانَ أَوْلَى
وَقَوْلُهُ عز وجل { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَلَوْ لم يَكُنْ شَرْطًا لَمَا وَجَبَ
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنهما قال سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عن صَيْدِ الْكَلْبِ فقال ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ ولم يَأْكُلْ منه فَكُلْهُ فإن أَخْذَهُ ذَكَاتُهُ فَإِنْ وَجَدْتَ عِنْدَ كَلْبِكَ غَيْرَهُ فَحَسِبْتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ معه وقد قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ لِأَنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى على كَلْبِكَ ولم تَذْكُرْهُ على كَلْبِ غَيْرِك نهى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن الْأَكْلِ وَعَلَّلَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَدَلَّ أنها شَرْطٌ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَفِيهَا أَنَّهُ كان يَجِدُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ فيها فَاحْتُمِلَ أَنَّهُ كان كَذَلِكَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وُجِدَ تَحْرِيمُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ بَعْدَ ذلك لِمَا تَلَوْنَا كما كان لَا يَجِدُ تَحْرِيمَ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ وَتَحْرِيمَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ عِنْدَ نُزُولِهَا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذلك بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ أو غَيْرِ مَتْلُوٍّ على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا ما يُرْوَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فمروى على طَرِيقِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ
____________________

(5/46)


في إبْطَال حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْكِتَابِ على أَنَّ الْمَذْكُورَ فيها من جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى الْمَيْتَةُ فما الدَّلِيلُ على أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ليس بِمَيْتَةٍ بَلْ هو مَيْتَةٌ عِنْدَنَا مع أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أوحى إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ على مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ ما ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ولم يُوجَدْ ذلك في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كان الِاخْتِلَافُ بين أَهْلِ الدِّيَانَةِ وَإِنَّمَا نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا أو مُحَرَّمًا في حَقِّ الِاعْتِقَادِ قَطْعًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ على الْإِبْهَامِ أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ عز وجل من هذا النَّهْيِ فَهُوَ حَقٌّ لَكِنَّا نَمْتَنِعُ عن أَكْلِهِ احْتِيَاطًا وهو تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ في حَقِّ الْعَمَلِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ احْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمَّا كانت وَاجِبَةً حَالَةَ الْعَمْدِ فَكَذَا حَالَةَ النِّسْيَانِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالْحَظْرَ كَالْخَطَأِ حتى كان النَّاسِي والخاطىء ( ( ( والخاطئ ) ) ) جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَقْلًا وَلِهَذَا اسْتَوَى الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ في تَرْكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا من الشَّرَائِطِ وَالْكَلَامُ في الصَّلَاةِ عَمْدًا أو سَهْوًا عِنْدَكُمْ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رَاشِدِ بن سعيد ( ( ( سعد ) ) ) عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ سمي أو لم يُسَمِّ ما لم يَتَعَمَّدْ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قال عز وجل { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } أَيْ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ فِسْقٌ وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَكُونُ فِسْقًا وَكَذَا كُلُّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَفِيهَا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ من الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا سَهْوًا
وَالثَّانِي أَنَّ النَّاسِيَ لم يَتْرُكْ التَّسْمِيَةَ بَلْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عز وجل وَالذِّكْرُ قد يَكُونُ بِاللِّسَانِ وقد يَكُونُ بِالْقَلْبِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ من أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عن ذِكْرِنَا } وَالنَّاسِي ذَاكِرٌ بِقَلْبِهِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن رَجُلٍ ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عليه فقال رضي اللَّهُ عنه اسْمُ اللَّهِ عز وجل في قَلْبِ كل مُسْلِمٍ فَلْيَأْكُلْ
وَعَنْهُ رِوَايَةٍ أُخْرَى قال إنَّ الْمُسْلِمَ ذَكَرَ اللَّهَ في قَلْبِهِ وقال كما لَا يَنْفَعُ الإسم في الشِّرْكِ لَا يَضُرُّ النِّسْيَانُ في الْإِسْلَامِ وَعَنْهُ رضي اللَّهُ عنه في رِوَايَةٍ أُخْرَى قال في الْمُسْلِمِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فإذا ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يسمى فَكُلْ وإذا ذَبَحَ الْمَجُوسِيُّ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَطْعَمْهُ
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه سُئِلَ عن هذا فقال إنَّمَا هِيَ عِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ ذَاكِرٌ فَكَانَتْ ذَبِيحَتُهُ مَذْكُورَ التَّسْمِيَةِ فَلَا تَتَنَاوَلُهَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْفَعُ التَّكْلِيفَ وَلَا يَدْفَعُ الْحَظْرَ حتى لم يُجْعَلْ عُذْرًا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ على ما ضُرِبَ من الْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ النِّسْيَانُ جُعِلَ عُذْرًا مَانِعًا من التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ ولم يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لِأَنَّهُ لو لم يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ
وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَالْأَصْلُ فيه إن من لم يُعَوِّدْ نَفْسَهُ فِعْلًا يُعْذَرُ في تَرْكِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ سَهْوًا لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عن الْعَادَةِ التي هِيَ طَبِيعَةٌ خَامِسَةٌ خَطْبٌ صَعْبٌ وَأَمْرٌ أَمَرُّ فَيَكُونُ النِّسْيَانُ فيه غَالِبَ الْوُجُودِ فَلَوْ لم يُعْذَرْ لَلَحِقَهُ الْحَرَجُ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا لم يُعَوِّدْ نَفْسَهُ
مِثَالُهُ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ من الصَّائِمِ سَهْوًا جُعِلَ عُذْرًا في الشَّرْعِ حتى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ عَوَّدَ نَفْسَهُ ذلك ولم يُعَوِّدْهَا ضِدَّهُ وهو الْكَفُّ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ولم يُجْعَلْ ذلك عُذْرًا في المصلى لِأَنَّهُ لم يُعَوِّدْ نَفْسَهُ ذلك في كل زَمَانٍ بَلْ في وَقْتٍ مَعْهُودٍ وهو الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ خُصُوصًا في حَالِ الصَّلَاةِ التي تُخَالِفُ أَوْقَاتَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فيها في غَايَةِ النُّدْرَةِ فلم يُجْعَلْ عُذْرًا
وَالْكَلَامُ في الصَّلَاةِ من هذا الْقَبِيلِ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ من ذلك عَادَةً فَكَانَ النِّسْيَانُ فيها نَادِرًا فلم يُجْعَلْ عُذْرًا وَكَذَلِكَ تَرْكُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ سَهْوًا لِأَنَّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ يَكُونُ بها وَتَرْكُهَا سَهْوًا عِنْدَ تَصْمِيمِ الْعَزْمِ على الشُّرُوعِ فيها مِمَّا يَنْدُرُ فلم يُعْذَرْ
وَكَذَا تَرْكُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ سَهْوًا لِأَنَّ الْمُسْلِمَ على اسْتِعْدَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِهَا عَادَةً فَالشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ من غَيْرِ طَهَارَةٍ سَهْوًا يَكُونُ نَادِرًا فَلَا يُعْذَرُ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرٌ لم يُعَوِّدْهُ الذَّابِحُ نَفْسَهُ لِأَنَّ الذَّبْحَ على مَجْرَى الْعَادَةِ يَكُونُ من الْقَصَّابِينَ وَمِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لم يُعَوِّدُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ عز وجل فَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ منهم سَهْوًا لَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ بَلْ يَغْلِبُ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الْمُوَفِّقُ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ حَالَةَ الذِّكْرِ من شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا فَبَعْدَ ذلك يَقَعُ الْكَلَامُ في بَيَانِ رُكْنِ التَّسْمِيَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ وَقْتِ التَّسْمِيَةِ أَمَّا رُكْنُهَا فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عز وجل أَيِّ اسْمٍ كان لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه إنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }
____________________

(5/47)


من غَيْرِ فَصْلٍ بين اسْمٍ وَاسْمٍ وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه } لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ اسْمًا من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يَكُنْ الْمَأْكُولُ مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه فلم يَكُنْ مُحَرَّمًا وَسَوَاءٌ قَرَنَ بِالِاسْمِ الصِّفَةَ بِأَنْ قال اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَجَلُّ اللَّهَ أَعْظَمُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ اللَّهَ الرَّحِيمَ وَنَحْوُ ذلك أو لم يَقْرِنْ بِأَنْ قال اللَّهَ أو الرَّحْمَنَ أو الرَّحِيمَ أو غير ذلك لِأَنَّهُ الْمَشْرُوطُ بِالْآيَةِ عز شَأْنُهُ وقد وُجِدَ وَكَذَا في حديث عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنهما إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فَكُلْ من غَيْرِ فَصْلٍ بين اسْمٍ وَاسْمٍ
وَكَذَا التَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّسْبِيحُ سَوَاءٌ كان جَاهِلًا بِالتَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ أو عَالِمًا بها لِمَا قُلْنَا وَهَذَا ظَاهِرٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا في الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أو الْحَمْدِ لِلَّهِ أو سُبْحَانَ اللَّهِ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَتَصِحُّ بها عِنْدَهُ فَيَحْتَاجُ هو إلَى الْفَرْقِ
وَالْفَرْقُ له أَنَّ الشَّرْعَ ما وَرَدَ هُنَاكَ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهَهُنَا وَرَدَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كانت التَّسْمِيَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ أو بِالْفَارِسِيَّةِ أو أَيِّ لِسَانٍ كان وهو لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو يُحْسِنُهَا كَذَا روي بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لو أَنَّ رَجُلًا سَمَّى على الذَّبِيحَةِ بِالرُّومِيَّةِ أو بِالْفَارِسِيَّةِ وهو يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو لَا يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ ذلك عن التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا عن الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في اعْتِبَارِهِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَيَسْتَوِي في الذَّبْحِ التَّكْبِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ من طَرِيقِ الْأَوْلَى فَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَهُمَا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بين التَّكْبِيرِ وَالتَّسْمِيَةِ حَيْثُ قَالَا في التَّسْمِيَةِ أنها جَائِزَةٌ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءٌ كان يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو لَا يُحْسِنُ وفي التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ بِالْعَجَمِيَّةِ إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هَهُنَا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُوجَدُ بِكُلِّ لِسَانٍ وَالشَّرْطُ هُنَاكَ لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ
نَفَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَبُولَ بِدُونِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ وَلَا يُوجَدُ ذلك بِغَيْرِ لَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ من الذَّابِحِ حتى لو سَمَّى غَيْرُهُ وَالذَّابِحُ سَاكِتٌ وهو ذَاكِرٌ غَيْرُ نَاسٍ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه } أَيْ لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه من الذَّابِحِ فَكَانَتْ مَشْرُوطَةً فيه
وَمِنْهَا أَنْ يُرِيدَ بها التَّسْمِيَةَ على الذَّبِيحَةِ فإن من أَرَادَ بها التَّسْمِيَةَ لِافْتِتَاحِ الْعَمَلِ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عليه في الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عليه إلَّا وَأَنْ يُرَادَ بها التَّسْمِيَةُ على الذَّبِيحَةِ
وَعَلَى هذا إذَا قال الْحَمْدُ لِلَّهِ ولم يُرِدْ بِهِ الْحَمْدَ على سَبِيلِ الشُّكْرِ لَا يَحِلُّ وَكَذَا لو سَبَّحَ أو هَلَّلَ أو كَبَّرَ ولم يُرِدْ بِهِ التَّسْمِيَةَ على الذَّبِيحَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَصْفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنَزُّهِ عن صِفَاتِ الْحُدُوثِ لَا غَيْرُ لَا يَحِلُّ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا تَجْرِيدُ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن اسْمِ غَيْرِهِ وَإِنْ كان اسْمَ النبي حتى لو قال بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ الرَّسُولِ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }
وَقَوْلِ النبي مَوْطِنَانِ لَا أُذْكَرُ فِيهِمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ وَعِنْدَ الذَّبْحِ وَقَوْلِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَذْكُرُونَ مع اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرَهُ فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ بِالتَّجْرِيدِ وَلَوْ قال بِسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ فَإِنْ قال وَمُحَمَّدٍ بِالْجَرِّ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ في اسْمِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ اسْمَ غَيْرِهِ وَإِنْ قال مُحَمَّدٌ بِالرَّفْعِ يَحِلُّ لِأَنَّهُ لم يَعْطِفْهُ بَلْ اسْتَأْنَفَ فلم يُوجَدْ الْإِشْرَاكُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْوَصْلِ من حَيْثُ الصُّورَةُ فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْحَرَامِ فَيُكْرَهُ
وَإِنْ قال وَمُحَمَّدًا بِالنَّصْبِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَحِلُّ لِأَنَّهُ ما عَطَفَ بَلْ اسْتَأْنَفَ إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ في الْإِعْرَابِ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ انْتِصَابَهُ بِنَزْعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قال وَمُحَمَّدٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِشْرَاكِ فَلَا يَحِلُّ هذا إذَا ذَكَرَ الْوَاوَ فَإِنْ لم يذكر بِأَنْ قال بِسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ فإنه يَحِلُّ كَيْفَمَا كان لِعَدَمِ الشركة ( ( ( شركه ) ) )
وَمِنْهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمَهُ على الْخُلُوصِ وَلَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الدُّعَاءِ حتى لو قال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي لم يَكُنْ ذلك تَسْمِيَةً لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ الْمَحْضُ فَلَا يَكُونُ تَسْمِيَةً كما لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا وفي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ كما في التَّكْبِيرِ
أَمَّا وَقْتُ التَّسْمِيَةِ فَوَقْتُهَا في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَقْتُ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عليه إلَّا بِزَمَانٍ قَلِيلٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه }
____________________

(5/48)


وَالذَّبْحُ مُضْمَرٌ فيه مَعْنَاهُ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عليه من الذَّبَائِحِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى على الذَّبِيحَةِ إلَّا وَقْتَ الذَّبْحِ وَكَذَا قِيلَ في تَأْوِيلِ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ أن الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فِيهِمَا أَيْ فَكُلُوا مِمَّا ذُبِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عليه وما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُبِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عليه فَكَانَ وَقْتُ التَّسْمِيَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَقْتَ الذَّبْحِ
وَأَمَّا الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيَّةُ فَوَقْتُهَا وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ لَا وَقْتُ الْإِصَابَةِ لِقَوْلِ النبي لِعَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنه حين سَأَلَهُ عن صَيْدِ الْمِعْرَاضِ وَالْكَلْبِ إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فَكُلْ وَإِنْ أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فَكُلْ
وَقَوْلُهُ عليه أَيْ على الْمِعْرَاضِ وَالْكَلْبِ وَلَا تَقَعُ التَّسْمِيَةُ على السَّهْمِ وَالْكَلْبِ إلَّا عِنْدَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ فَكَانَ وَقْتُ التَّسْمِيَةِ فيها هو وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَالْمَعْنَى هَكَذَا يَقْتَضِي وهو أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَالشَّرَائِطُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا حَالَ وُجُودِ الرُّكْنِ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِهَا يَصِيرُ الرُّكْنُ عِلَّةً كما في سَائِرِ الْأَرْكَانِ مع شَرَائِطِهَا هو الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَالرُّكْنُ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هو الذَّبْحُ وفي الِاضْطِرَارِيَّةِ هو الْجَرْحُ وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الرَّامِي وَالْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا السَّهْمُ وَالْكَلْبُ آلَةُ الْجَرْحِ وَالْفِعْلُ يُضَافُ إلَى مُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ وَقْتَ الذَّبْحِ وَالْجَرْحِ وهو وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَيْسَتْ من صُنْعِ الْعَبْدِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا بَلْ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عز وجل يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ هو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الْعَبْدِ وَمَقْدُورُ الْعَبْدِ ما يَقُومُ بِمَحَلِّ قُدْرَتِهِ وهو نَفْسُهُ وَذَلِكَ هو الرَّمْيُ السَّابِقُ وَالْإِرْسَالُ السَّابِقُ فَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُمَا على أَنَّ الْإِصَابَةَ قد تَكُونُ وقد لَا تَكُونُ فَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ التَّسْمِيَةِ عليها
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما روي بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قال لو أَنَّ رَجُلًا اضجع شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى ثُمَّ بَدَا له فَأَرْسَلَهَا وَأَضْجَعَ أُخْرَى فَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لم يُجْزِهِ ذلك وَلَا تُؤْكَلُ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ على الذَّبِيحَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَسَمَّى فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا على صَيْدٍ فَأَخْطَأَ فَأَخَذَ غير الذي أَرْسَلَهُ عليه فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ على السَّهْمِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ
وَذُكِرَ في الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ الذَّابِحَ يَذْبَحُ الشَّاتَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فيسمى على الْأُولَى وَيَدَعُ التَّسْمِيَةَ على غَيْرِ ذلك عَمْدًا قال يَأْكُلُ الشَّاةَ التي سَمَّى عليها وَلَا يَأْكُلُ ما سِوَى ذلك لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى عليها ثُمَّ أَلْقَى السِّكِّينَ وَأَخَذَ سِكِّينًا آخَرَ فَذَبَحَ بِهِ يُؤْكَلُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ تَقَعُ على الْمَذْبُوحِ لَا على الْآلَةِ وَالْمَذْبُوحُ وَاحِدٌ فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْآلَةِ بِخِلَافِ ما إذَا سَمَّى على سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ تَقَعُ على السَّهْمِ لَا على المرمى إلَيْهِ
وقد اخْتَلَفَ السَّهْمُ فَالتَّسْمِيَةُ على أَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ تَسْمِيَةً على الْآخَرِ وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى عليها فَكَلَّمَهُ إنْسَانٌ فَأَجَابَهُ أو اسْتَسْقَى مَاءً فَشَرِبَ أو أَخَذَ السكن ( ( ( السكين ) ) ) فَإِنْ كان قَلِيلًا ولم يَكْثُرْ ذلك منه ثُمَّ ذَبَحَ على تِلْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ وَإِنْ تَحَدَّثَ وَأَطَالَ الحديث أو أَخَذَ في عَمَلٍ آخَرَ أو حَدَّ شَفْرَتَهُ أو كانت الشَّاةُ قَائِمَةً فَصَرَعَهَا ثُمَّ ذَبَحَ لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ زَمَانَ ما بين التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ إذَا كان يَسِيرًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ سَمَّى مع الذَّبْحِ وإذا كان طَوِيلًا يَقَعُ فَاصِلًا بين التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمَّى في يَوْمٍ وَذَبَحَ في يَوْمٍ آخَرَ فلم تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ مُتَّصِلَةً بِهِ وَلَوْ سَمَّى ثُمَّ انْقَلَبَتْ الشَّاةُ وَقَامَتْ من مَضْجَعِهَا ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى مَضْجَعِهَا فَقَدْ انْقَطَعَتْ التَّسْمِيَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا رَمَى صَيْدًا ولم يُسَمِّ مُتَعَمِّدًا ثُمَّ سَمَّى بَعْدَ ذلك أو أَرْسَلَ كَلْبًا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ مُتَعَمِّدًا فلما مَضَى الْكَلْبُ في تَبَعِ الصَّيْدِ سَمَّى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لم تُوجَدْ وَقْتَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَكَذَا لو مَضَى الْكَلْبُ إلَى الصَّيْدِ فَزَجَرَهُ وَسَمَّى وَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ أنه لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا تبع ( ( ( اتبع ) ) ) الْكَلْبُ الصَّيْدَ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ أَنْ يُرْسِلَهُ أَحَدٌ ثُمَّ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ إنْ انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ وَإِنْ لم يَنْزَجِرْ لَا يُؤْكَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ رَمَى أو أَرْسَلَ وهو مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ أو كان حَلَالًا فَأَحْرَمَ قبل الْإِصَابَةِ وَأَخَذَ الصَّيْدَ يَحِلُّ وَلَوْ كان مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ وَسَمَّى لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الرَّمْيِ
____________________

(5/49)


وَالْإِرْسَالِ كما بَيَّنَّا فتراعي الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَ ذلك
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَنْبَنِي شَرْطُ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وهو بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي من الشَّرَائِطِ التي تَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُذَكِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُذَكِّي فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَهَذَا في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ دُونَ الِاخْتِيَارِيَّةِ حتى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْبَرِّ وَسَمَّى لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عن قَتْلِ الصَّيْدِ لِحَقِّ الْإِحْرَامِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أَيْ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدُ إلَّا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ من الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ إلَى آخِرِهِ { غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { غير مُحِلِّي الصَّيْدِ } وَإِنَّمَا يستثني الشَّيْءُ من الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَجُعِلَ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْإِبَاحَةِ تَحْرِيمٌ فَكَانَ اصْطِيَادُ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمًا فَكَانَ صَيْدُهُ مَيْتَةً كَصَيْدِ الْمَجُوسِيِّ سَوَاءٌ اصْطَادَ بِنَفْسِهِ أو أصطيد له بِأَمْرِهِ لِأَنَّ ما صِيدَ له بِأَمْرِهِ فَهُوَ صَيْدُهُ مَعْنًى وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُسْتَأْنَسِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ خُصَّ بِالصَّيْدِ فَبَقِيَ غَيْرُهُ على عُمُومِ الْإِبَاحَةِ وَيَحِلُّ له صَيْدُ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } وقد مَرَّ ذلك
وَأَمَّا الذي يَرْجِعْ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ فَمِنْهَا تَعْيِينُ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذلك في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ إلَى الصَّيْدِ لِأَنَّ الشَّرْطَ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى على الذَّبِيحِ لِمَا تَلَوْنَا من الْآيَاتِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ بِالتَّسْمِيَةِ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا كان وَاجِبًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَالتَّعْيِينُ في الصَّيْدِ ليس بِمَقْدُورٍ لِأَنَّ الصَّائِدَ قد يَرْمِي وَيُرْسِلُ على قَطِيعٍ من الصَّيْدِ وقد يَرْمِي وَيُرْسِلُ على حِسِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ وَاجِبًا وَالْمُسْتَأْمَنُ مَقْدُورٌ فَيَكُونُ وَاجِبًا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ذَبَحَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى يَظُنُّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى تُجْزِي عنهما لم تُؤْكَلْ وَلَا بُدَّ من أَنْ يُجَدِّدَ لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ تَسْمِيَةً على حِدَةٍ وَلَوْ رَمَى سَهْمًا فَقَتَلَ بِهِ من الصَّيْدِ اثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ كَلْبًا أو بَازِيًا وسمي فَقَتَلَ من الصَّيْدِ اثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَجِبُ عِنْدَ الْفِعْلِ وهو الذَّبْحُ فإذا تَجَدَّدَ الْفِعْلُ تُجَدَّدُ التَّسْمِيَةُ فَأَمَّا الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ فَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ فَتُجْزِي فيه تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَوِزَانُ الصَّيْدِ من الْمُسْتَأْنَسِ ما لو أَضْجَعَ شَاتَيْنِ وَأَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَيْهِمَا مَعًا أَنَّهُ تجزىء في ذلك تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ كما في الصَّيْدِ
فَإِنْ قِيلَ هَلَّا جَعَلَ ظَنَّهُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ على الشَّاةِ الْأُولَى تجزىء عن الثَّانِيَةِ عُذْرًا كَنِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا ليس من بَابِ النِّسْيَانِ بَلْ من الْجَهْلِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْجَهْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ ليس بِعُذْرٍ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ
أَلَا تَرَى أَنَّ من ظَنَّ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ فَأَكَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ فَإِنْ نَظَرَ إلَى جَمَاعَةٍ من الصَّيْدِ فَرَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى وَتَعَمَّدَهَا ولم يَتَعَمَّدْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَأَصَابَ منها صَيْدًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَظَرَ إلَى غَنَمِهِ فقال بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ أَخَذَ وَاحِدَةً فَأَضْجَعَهَا وَذَبَحَهَا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا وَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ تُجْزِيهِ لَا توكل لِأَنَّهُ لم يُسَمِّ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالشَّرْطُ هو التَّسْمِيَةُ على الذَّبِيحَةِ وَذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَفْسِهِ لَا عِنْدَ النَّظَرِ وَتَعْيِينُ الذَّبِيحَةِ مَقْدُورٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا وَتَعْيِينُ الصَّيْدِ بِالرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ مُتَعَذَّرٌ لِمَا بَيَّنَّا فلم يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا
وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِعَيْنِهِ أو أَرْسَلَ الْكَلْبَ أو الْبَازِيَ على صَيْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ غَيْرَهُ يوكل وَكَذَا لو رَمَى ظَبْيًا فَأَصَابَ طَيْرًا أو أَرْسَلَ على ظَبْيٍ فَأَخَذَ طَيْرًا لِأَنَّ التَّعْيِينَ في الصَّيْدِ ليس بِشَرْطٍ
وَمِنْهَا قِيَامُ أَصْلِ الْحَيَاةِ في الْمُسْتَأْمَنِ وَقْتَ الذَّبْحِ قَلَّتْ أو كَثُرَتْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يكتفي بِقِيَامِ أَصْلِ الْحَيَاةِ بَلْ تُعْتَبَرُ حَيَاةً مَقْدُورَةً كَالشَّاةِ الْمَرِيضَةِ وَالْوَقِيذَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَجَرِيحَةِ السَّبُعِ إذَا لم يَبْقَ فيها إلَّا حَيَاةٌ قَلِيلَةٌ عُرِفَ ذلك بِالصِّيَاحِ أو بِتَحْرِيكِ الذَّنَبِ أو طَرْفِ الْعَيْنِ أو التَّنَفُّسِ
وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ فَلَا يَدُلُّ على الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كان يَخْرُجُ كما يَخْرُجُ من الْحَيِّ الْمُطْلَقِ فإذا ذَبَحَهَا وَفِيهَا قَلِيلُ حَيَاةٍ على الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا توكل عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنه أَنَّهُ أن كان
____________________

(5/50)


يَعْلَمُ أنها لَا تَعِيشُ مع ذلك فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كان يَعْلَمُ أنها تَعِيشُ مع ذلك فَذَبَحَهَا تُؤْكَلُ وفي رِوَايَةٍ قال إنْ كان لها من الْحَيَاةِ مِقْدَارُ ما تَعِيشُ بِهِ أَكْثَرَ من نِصْفِ يَوْمٍ فَذَبَحَهَا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان لم يَبْقَ من حَيَاتِهَا إلَّا قَدْرُ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ بَعْدَ الذَّبْحِ أو أَقَلُّ فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك تُؤْكَلُ وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُفَسَّرًا فقال أن على قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ لم يَبْقَ مَعَهَا إلَّا الِاضْطِرَابَ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهَا فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ وَإِنْ كانت تَعِيشُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ أو كَنِصْفِهِ حَلَّتْ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنه إذَا لم يَكُنْ لها حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ على الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا كانت مَيْتَةً مَعْنًى فَلَا تَلْحَقُهَا الذَّكَاةُ كَالْمَيْتَةِ حَقِيقَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا ما ذَكَّيْتُمْ } اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المذكي من الْجُمْلَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَهَذِهِ مُذَكَّاةٌ لِوُجُودِ فرى الْأَوْدَاجِ مع قِيَامِ الْحَيَاةِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ
وَأَمَّا الصَّيْدُ إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ أو الْكَلْبُ فَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَإِنْ ذَكَّاهُ يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا كَيْفَ ما كان سَوَاءٌ كانت فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ أو لم تَكُنْ وَخَرَجَ الْجُرْحُ من أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً في حَقِّهِ وَصَارَ ذَكَاتُهُ الذَّبْحَ في الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ ذَكَاةً مُطْلَقَةً فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ وقد وُجِدَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَيَاةِ فَصَارَ مذكي
وَعَلَى أَصْلِهِمَا لَا حَاجَةَ إلَى الذَّبْحِ لِأَنَّهُ صَارَ مذكي بِالْجُرْحِ فَالذَّبْحُ بَعْدَ ذلك لَا يَضُرُّ إنْ كان لَا يَنْفَعُ وَإِنْ لم يُذَكِّهِ وهو قَادِرٌ على ذَبْحِهِ فَتَرَكَهُ حتى مَاتَ فَإِنْ كانت فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ ذَكَاتَهُ تَحَوَّلَتْ من الْجُرْحِ إلَى الذَّبْحِ فإذا لم يُذْبَحْ كان مَيْتَةً وَإِنْ كانت حَيَاتُهُ غير مُسْتَقِرَّةٍ يُؤْكَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَإِنْ قَلَّتْ من غَيْرِ ذَكَاةٍ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْنَسِ عِنْدَهُ
وَالْفَرْقُ له أَنَّ الرَّمْيَ وَالْإِرْسَالَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْجُرْحُ كان ذَكَاةً في الصَّيْدِ فَلَا تُعْتَبَرُ هذه الْحَيَاةُ بَعْدَ وُجُودِ الذَّكَاةِ ولم تَتَقَوَّمْ ذَكَاةٌ في المستأمن ( ( ( المستأنس ) ) ) فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ هذا الْقَدْرِ من الْحَيَاةِ لِتَحَقُّقِ الذَّكَاةِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ لَكِنْ على اخْتِلَافِ تَفْسِيرِهِمَا لِلْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَغَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ على ما ذَكَرْنَا في الْمُسْتَأْمَنِ هَكَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الصَّيْدِ مِثْلَ قَوْلِهِ في الْمُسْتَأْنَسِ على أَنَّ قَوْلَهُ يَجِبُ الذَّبْحُ في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يَحِلُّ بِدُونِهِ سَوَاءٌ كانت الْحَيَاةُ مُسْتَقِرَّةً أو غير مُسْتَقِرَّةٍ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ له على قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَإِنْ مَاتَ قبل أَنْ يَقْدِرَ على ذَبْحِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أو لِعَدَمِ آلَةِ الذَّكَاةِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ اسْتِحْسَانًا أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحُرْمَةِ قِيَاسٌ وَمِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ من جَعَلَ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ مَذْهَبَنَا أَيْضًا وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ يَدُهُ عليه فَقَدْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ صيد ( ( ( صيدا ) ) ) الزوال ( ( ( لزوال ) ) ) مَعْنَى الصَّيْدِ وهو التَّوَحُّشُ وَالِامْتِنَاعُ فَيَزُولُ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِالصَّيْدِ وهو اعْتِبَارُ الْجُرْحِ ذَكَاةً وَصَارَ كَالشَّاةِ إذَا مَرِضَتْ وَمَاتَتْ في وَقْتٍ لَا يَتَّسِعُ لِذَبْحِهَا أنها لَا تُؤْكَلُ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الذَّبْحَ هو الْأَصْلُ في الذَّكَاةِ وَإِنَّمَا يُقَامُ الْجُرْحُ مَقَامَهُ خَلَفًا عنه وقد وُجِدَ شَرْطٌ بِخِلَافِهِ وهو الْعَجْزُ عن الْأَصْلِ فَيُقَامُ الْخَلَفُ مَقَامَهُ كما في سَائِرِ الْأَخْلَافِ مع أُصُولِهَا
وقال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لو جَرَحَهُ السَّهْمُ أو الْكَلْبُ فَأَدْرَكَهُ لَكِنْ لم يَأْخُذْهُ حتى مَاتَ فَإِنْ كان في وَقْتٍ لو أَخَذَهُ يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ فلم يَأْخُذْهُ حتى مَاتَ لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ الذَّبْحَ صَارَ مَقْدُورًا عليه فَخَرَجَ الْجُرْحُ من أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ أَكَلَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَأْخُذْهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ من ذَبْحِهِ لو أَخَذَهُ بَقِيَ ذَكَاتُهُ الْجُرْحُ السَّابِقُ وَدَلَّتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جميعا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ أَخَذَ وَهَهُنَا لم يَأْخُذْ وما يَصْنَعُ بِالْأَخْذِ إذَا لم يَقْدِرْ على ذَكَاتِهِ
وَجَوَابُ الْقِيَاسِ عن هذا أَنَّ حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ لَا عِبْرَةَ بها لِأَنَّ الناس مُخْتَلِفُونَ في ذلك فإن منهم من يَتَمَكَّنُ من الذَّبْحِ في زَمَانٍ قَلِيلٍ لِهِدَايَتِهِ في ذلك وَمِنْهُمْ من لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا في زَمَانٍ طَوِيلٍ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فيه فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْحُكْمِ على حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وهو ثُبُوتُ الْيَدِ مَقَامَهَا كما في السَّفَرِ مع الْمَشَقَّةِ وَغَيْرِ ذلك
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عن أبي يُوسُفَ لو أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ شَاةً نِصْفَيْنِ ثُمَّ أن رَجُلًا فَرَى أَوْدَاجَهَا وَالرَّأْسُ يَتَحَرَّكُ أو شَقَّ بَطْنَهَا فَأَخْرَجَ ما في جَوْفِهَا وَفَرَى رَجُلٌ آخَرُ الْأَوْدَاجَ فإن هذا لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ
____________________

(5/51)


قَاتِلٌ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا على وَجْهَيْنِ إنْ كانت الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لم تُؤْكَلْ الشَّاةُ وَإِنْ كانت مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَتْ لِأَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ في الذَّبْحِ مُتَّصِلَةٌ من الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ فإذا كانت الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ قَطَعَهَا فَحَلَّتْ وَإِنْ كانت مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فلم يَقْطَعْهَا فلم تَحِلَّ
وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ بَعْدَ الذَّبْحِ فِيمَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّبْحِ فَهَلْ هو من شَرَائِطِ الْحِلِّ فَلَا رِوَايَةَ فيه وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا التَّحَرُّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ هل هو شَرْطُ ثُبُوتِ الْحِلِّ فَلَا رِوَايَةَ فيه أَيْضًا عن أَصْحَابِنَا
وَذُكِرَ في بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ لَا بُدَّ من أَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا التَّحَرُّكُ وَإِمَّا خُرُوجُ الدَّمِ فَإِنْ لم يُوجَدْ لَا يَحِلُّ كَأَنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَامَةَ الْحَيَاةِ وَقْتَ الذَّبْحِ فإذا لم يُوجَدْ لم تُعْلَمْ حَيَاتُهُ وَقْتَ الذَّبْحِ فَلَا يَحِلُّ وقال بَعْضُهُمْ أن عُلِمَ حَيَّاتُهُ وَقْتَ الذَّبْحِ بِغَيْرِ التَّحَرُّكِ يَحِلُّ وَإِنْ لم يَتَحَرَّكْ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا خَرَجَ منه الدَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الذَّكَاةَ الإضطرارية وهو أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنْ كان لَا يوكل وَيَكُونُ مَيْتَةً سَوَاءٌ كان الْمُذَكِّي مُحْرِمًا أو حَلَالًا لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ بِالْقَتْلِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ مُحَرَّمٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى قال اللَّهُ تَعَالَى { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس من حَوْلِهِمْ }
وقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في صِفَةِ الْحَرَمِ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَالْفِعْلُ في الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لَا يَكُونُ ذَكَاةً وَسَوَاءٌ كان مَوْلِدُهُ الْحَرَمَ أو دخل من الْحِلِّ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْحَرَمِ في الْحَالَيْنِ فَيَكُونُ صَيْدَ الْحَرَمِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ما يُصْطَادُ بِهِ من الْجَوَارِحِ من الْحَيَوَانَاتِ من ذِي النَّابِ من الباع ( ( ( السباع ) ) ) وَذِي الْمِخْلَبِ من الطَّيْرِ مُعَلَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ أَيْ الِاصْطِيَادُ بِمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَمَّا يَحِلُّ لهم الِاصْطِيَادُ بِهِ من الْجَوَارِحِ أَيْضًا مع ما ذَكَرَ في بَعْضِ الْقِصَّةِ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ أَتَاهُ نَاسٌ فَقَالُوا مَاذَا يَحِلُّ لنا من هذه الْأُمَّةِ التي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ } الْآيَةَ فَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اعْتِبَارُ الشَّرْطَيْنِ وَهُمَا الْجُرْحُ وَالتَّعْلِيمُ حَيْثُ قال عز شَأْنُهُ { وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ } لِأَنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ التي تَجْرَحُ مَأْخُوذٌ من الْجُرْحِ
وَقِيلَ الْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أَيْ كَسَبْتُمْ وَالْحَمْلُ على الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ حَمْلٌ على الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّهَا بِالْجِرَاحَةِ تَكْسِبُ وقَوْله تَعَالَى { مُكَلِّبِينَ } قرىء ( ( ( قرئ ) ) ) بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالْخَفْضِ صَاحِبُ الْكَلْبِ يُقَالُ كَلَّابٌ وَمُكَلِّبٌ وَبِالنَّصْبِ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ وَقِيلَ الْمُكَلِّبَيْنِ بِالْخَفْضِ الْكِلَابُ التي يُكَالِبْنَ الصَّيْدَ أَيْ يَأْخُذْنَهُ عن شِدَّةٍ فَالْكَلْبُ هو الأخذ عن شِدَّةٍ وَمِنْهُ الْكَلُّوبُ لِلْآلَةِ التي يُؤْخَذُ بها الْحَدِيدُ
وَقَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { تُعَلِّمُونَهُنَّ } أَيْ تُعَلِّمُونَهُنَّ لَيُمْسِكْنَ الصَّيْدَ لَكُمْ وَلَا يَأْكُلْنَ منه وَهَذَا حَدُّ التَّعْلِيمِ في الْكَلْبِ عِنْدَنَا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على أَنَّ كَوْنَ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا شَرْطٌ لِإِبَاحَةِ أَكْلِ صَيْدِهِ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُ صَيْدِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ
وإذا ثَبَتَ هذا الشَّرْطُ في الْكَلْبِ بِالنَّصِّ ثَبَتَ في كل ما هو في مَعْنَاهُ من كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ كَالْفَهْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ بِالتَّعْلِيمِ إذْ الْمُعَلَّمُ هو الذي يَعْمَلُ لِصَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ لِصَاحِبِهِ وَيُمْسِكُ على صَاحِبِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إلَى صَاحِبِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى الْمُرْسِلِ لِذَلِكَ شُرِطَ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ حَدِّ التَّعْلِيمِ في الْجَوَارِحِ من ذِي النَّابِ كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ وَذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَنَحْوِهِ
أَمَّا تَعْلِيمُ الْكَلْبِ فَهُوَ أَنَّهُ إذَا أُرْسِلَ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وإذا أَخَذَهُ أَمْسَكَهُ على صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلُ منه شيئا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعْلِيمُهُ أَنْ يَتْبَعَ الصَّيْدَ إذَا أُرْسِلَ وَيُجِيبَ إذَا دعى وهو أَحَدُ قول ( ( ( قولي ) ) ) الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لو أَخَذَ صَيْدًا فَأَكَلَ منه لَا يُؤْكَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُؤْكَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن كَوْنَهُ مُعَلَّمًا إنَّمَا شُرِطَ لِلِاصْطِيَادِ فَيُعْتَبَرُ حَالَةَ الِاصْطِيَادِ وَهِيَ حَالَةُ الِاتِّبَاعِ فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ عن الِاصْطِيَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ في الْحَدِّ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز وجل { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حَدَّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ وما هو في مَعْنَاهُ ما قُلْنَا وهو الْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ منه لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّعْلِيمِ ثُمَّ أَبَاحَ أَكْلَ ما أَمْسَكَ عَلَيْنَا فَكَانَ هذا إشَارَةً إلَى أَنَّ
____________________

(5/52)


التَّعْلِيمَ هو أَنْ يُمْسِكَ عَلَيْنَا الصَّيْدَ وَلَا يَأْكُلَ منه
يُقَرِّرُهُ إن اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ أَكْلَ صَيْدِ الْمُعَلَّمِ من الْجَوَارِحِ الْمُمْسِكِ على صَاحِبِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ تَرْكُ الْأَكْلِ من حَدِّ التَّعْلِيمِ وكان ما أَكَلَ منه حَلَالًا لَاسْتَوَى فيه الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ وَالْمُمْسِكُ على صَاحِبِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَطْلُبُ الصَّيْدَ وَيُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ حتى يَمُوتَ أن أَرْسَلْتَ عليه وَأَغْرَيْتَهُ إلَّا الْمُعَلَّمَ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَنَّهُ قال قُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ فما يَحِلُّ لنا منها فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحِلُّ لَكُمْ ما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ ما ( ( ( مما ) ) ) عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مِمَّا عَلَّمْتُمُوهُنَّ من كَلْبٍ أو بَازٍ وَذَكَرْتُمْ اسْمَ اللَّهِ عليه قُلْت فَإِنْ قَتَلَ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا قَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه فَكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ على نَفْسِهِ فَقُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ خَالَطَ كِلَابَنَا كِلَابٌ أُخْرَى
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنْ خَالَطَتْ كِلَابَكَ كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى على كَلْبِكَ ولم تَذْكُرْهُ كَلْبِ غَيْرِكَ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ فَلَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قال إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ وإذا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ لِأَنَّ الْكَلْبَ يستطيع ( ( ( تستطيع ) ) ) أَنْ تَضْرِبَهُ وَالصَّقْرَ لَا وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ فَلَا تَأْكُلْ وَاضْرِبْهُ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ وَقَتْلَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا الْكَلْبُ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ إذَا أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْعَامِلَ لِنَفْسِهِ يَكُونُ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَالْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ منه وهو حَدُّ التَّعْلِيمِ
وَالثَّانِي أَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ هو تَبْدِيلُ طَبْعِهِ وَفِطَامِهِ عن الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِإِمْسَاكِ الصَّيْدِ لِصَاحِبِهِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ منه لِأَنَّ الْكَلْبَ وَنَحْوَهُ من السِّبَاعِ من طِبَاعِهِمْ أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الصَّيْدَ فَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يَصْبِرُونَ على أَنْ لَا يَتَنَاوَلُوا منه فإذا أَخَذَ وَاحِدٌ منهم الصَّيْدَ ولم يَتَنَاوَلْ منه دَلَّ أَنَّهُ تَرَكَ عَادَتَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ ولم يَأْكُلْ منه فإذا أَكَلَ منه دَلَّ أَنَّهُ على عَادَتِهِ سَوَاءٌ اتَّبَعَ الصَّيْدَ إذَا أغرى وَاسْتَجَابَ إذَا دعى أو لَا لِأَنَّهُ أَلُوفٌ في الْأَصْلِ يُجِيبُ إذَا دعى وَيَتَّبِعُ إذَا أغرى فَلَا يَصْلُحُ ذلك دَلِيلًا على تَعَلُّمِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيمِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَا قُلْنَا وهو أَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ على صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلَ منه ثُمَّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا تَوْقِيتَ في تَعْلِيمِهِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ صَيْدًا ولم يَأْكُلْ منه هل يَصِيرُ مُعَلَّمًا أَمْ يَحْتَاجُ فيه إلَى التَّكْرَارِ وكان يقول إذَا كان مُعَلَّمًا فَكُلْ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَهَكَذَا رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ عن أبي يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما حَدُّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ قال أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا يَأْكُلُ ما يَصِيدُ أَوَّلًا وَلَا الثَّانِيَ وَلَوْ أَكَلَ الثَّالِثَ وما بَعْدَهُ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَاهُ بِالثَّلَاثِ فَقَالَا إذَا أَخَذَ صَيْدًا فلم يَأْكُلْ ثُمَّ صَادَ ثَانِيًا فلم يَأْكُلْ ثُمَّ صَادَ ثَالِثًا فلم يَأْكُلْ فَهَذَا مُعَلَّمٌ فَأَبُو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عنه إنَّمَا رَجَعَ في ذلك إلَى أَهْلِ الصِّنَاعَةِ ولم يُقَدِّرْ فيه تَقْدِيرًا لِأَنَّ حَالَ الْكَلْبِ في الْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ يَخْتَلِفُ فَقَدْ يُمْسِكُ لِلتَّعْلِيمِ وقد يُمْسِكُ لِلشِّبَعِ فَفَوَّضَ ذلك إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ أَصْلَ التَّكْرَارِ دَلَالَةَ التَّعَلُّمِ لِأَنَّ الشِّبَعَ لَا يَتَّفِقُ في كل مَرَّةٍ فَدَلَّ تَكْرَارُ التَّرْكِ على التَّعْلِيمِ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا التَّكْرَارَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ لِمَا أَنَّ الثَّلَاثَ مَوْضُوعَةٌ لِإِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ أَصْلُهُ قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مع الْعَبْدِ الصَّالِحِ حَيْثُ قال له في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ إنْ سَأَلْتُك على شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قد بَلَغْتَ من لَدُنِّي عُذْرًا
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من اتَّجَرَ في شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فلم يَرْبَحْ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إذَا صَارَ مُعَلَّمًا في الظَّاهِرِ على اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ وَصَادَ بِهِ صَاحِبُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذلك فما صَادَ قبل ذلك لَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ منه إنْ كان بَاقِيًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وعن ( ( ( وعند ) ) ) أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يوكل كُلُّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن أَكَلَ الْكَلْبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مع التَّعَلُّمِ لِفَرْطِ الْجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّسْيَانِ لِأَنَّ الْمُعَلَّمَ قد يَنْسَى فَلَا يَحْرُمُ ما تَقَدَّمَ من الصَّيُودِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عَلَامَةَ التَّعَلُّمِ لَمَّا كانت تَرْكَ الْأَكْلِ فإذا أَكَلَ بَعْدَ ذلك عُلِمَ أَنَّهُ لم يَكُنْ مُعَلَّمًا وإن إمْسَاكَهُ لم يَكُنْ لِصَيْرُورَتِهِ مُعَلَّمًا
____________________

(5/53)


بَلْ لِشِبَعِهِ في الْحَالِ إذْ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ قد يُمْسِكُهُ بِشِبَعِهِ لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِأَكْلِهِ بَعْدَ ذلك على أَنَّ إمْسَاكَهُ في الْوَقْتِ الذي قَبْلَهُ كان على غَيْرِ حَقِيقَةِ التَّعْلِيمِ أو يَحْتَمِلُ ذلك فَلَا تَحِلُّ مع الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من حَمَلَ جَوَابَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على ما إذَا كان زَمَانُ الْأَكْلِ قَرِيبًا من زَمَانِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ فَالْأَكْلُ يَدُلُّ على عَدَمِ التَّعَلُّمِ وَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلشِّبَعِ لَا لِلتَّعْلِيمِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْقَصِيرَةَ لَا تَتَحَمَّلُ النِّسْيَانَ في مِثْلِهَا فإذا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أنه يُؤْكَلُ ما بَقِيَ من الصَّيُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ لِلنِّسْيَانِ لَا لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ لِوُجُودِ مُدَّةٍ لَا يَنْدُرُ النِّسْيَانُ في مِثْلِهَا إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عنه مُطْلَقٌ عن هذا التَّفْصِيلِ وَإِطْلَاقُ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يوكل على كل حَالٍ وَالْوَجْهُ ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن النِّسْيَانَ لَا يَنْدُرُ عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ فَنَقُولُ من تَعَلَّمَ حِرْفَةً بِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ رُبَّمَا يَدْخُلُهَا خَلَلٌ كَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّمْيِ إذَا تَرَكَهَا صَاحِبُهَا مُدَّةً طَوِيلَةً فلما أَكَلَ وَحِرْفَتُهُ تَرْكُ الْأَكْلِ دَلَّ أَنَّهُ لم يَكُنْ تَعَلَّمَ الْحِرْفَةَ من الْأَصْلِ وَأَنَّهُ إنَّمَا لم يَأْكُلْ قبل ذلك لَا لِلتَّعَلُّمِ بَلْ لِشِبَعِهِ في الْحَالِ فَلَا تَحِلُّ صُيُودُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ
وَأَمَّا في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مُسْتَأْنَفٍ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْأَكْلِ أَنَّهُ لم يَكُنْ مُعَلَّمًا وإن تَرْكَ الْأَكْلِ لم يَكُنْ لِلتَّعَلُّمِ بَلْ لِشِبَعِهِ لِلْحَالِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لم يَتَعَلَّمْ كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نسى وَكَيْفَ ما كان لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مُبْتَدَأٍ وَتَعْلِيمِهِ في الثَّانِي بِمَا بِهِ تَعْلِيمُهُ في الْأَوَّلِ وقد ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه
وَلَوْ جَرَحَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَوَلَغَ في دَمِهِ يوكل لِأَنَّهُ قد أَمْسَكَ الصَّيْدَ على صَاحِبِهِ لَكَانَ لَا يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ من غَايَةِ تَعَلُّمِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ الْخَبِيثَ وَأَمْسَكَ الطَّيِّبَ على صَاحِبِهِ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ في رَجُلٍ أَرْسَلَ كَلْبَهُ على صَيْدٍ وهو مُعَلَّمٌ فَأَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَأَكَلَ منه ثُمَّ اتَّبَعَ آخَرَ فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه قال لَا يُؤْكَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ دَلَّ على عَدَمِ التَّعَلُّمِ أو على النِّسْيَانِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذلك فَإِنْ أَخَذَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ صَيْدًا فَأَخَذَهُ منه صَاحِبُهُ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْكَلْبِ من الصَّيْدِ قِطْعَةً فَأَلْقَاهَا إلَى الْكَلْبِ فَأَكَلَهَا الْكَلْبُ فَهُوَ على تَعَلُّمِهِ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالَ أَخْذِهِ الصَّيْدَ فَأَكْلُهُ بِإِطْعَامِ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَقْدَحُ في التَّعَلُّمِ مع ما أَنَّ من عَادَةِ الصَّائِدِ بِالْكَلْبِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ أَنْ يُطْعِمَهُ من لَحْمِهِ تَرْغِيبًا له على الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ أَكْلُهُ بِإِطْعَامِهِ دَلِيلًا على عَدَمِ التَّعَلُّمِ
وَكَذَلِكَ لو كان صَاحِبُ الْكَلْبِ أَخَذَ الصَّيْدَ من الْكَلْبِ ثُمَّ وَثَبَ الْكَلْبُ على الصَّيْدِ فَأَخَذَ منه قِطْعَةً فَأَكَلَهَا وهو في يَدِ صَاحِبِهِ فإنه على تَعَلُّمِهِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ ثُبُوتِ يَدِ الْآدَمِيِّ عليه بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ من غَيْرِهِ فَلَا يَقْدَحُ في التَّعْلِيم
وَكَذَلِكَ قالوا لو سَرَقَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ بَعْدَ دَفْعِهِ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذلك لِلْجُوعِ لِأَنَّ هذا الْأَكْلَ لم يَدْخُلْ في التَّعْلِيمِ وَإِنْ أُرْسِلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ على صَيْدٍ فَتَبِعَهُ فَنَهَشَهُ فَقَطَعَ منه قِطْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذلك فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه شيئا لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْأَكْلَ منه في حَالِ الِاصْطِيَادِ دَلِيلٌ على عَدَمِ التَّعَلُّمِ فَإِنْ نَهَشَهُ فَأَلْقَى منه بَضْعَةً وَالصَّيْدُ حَيٌّ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذلك فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه شيئا يوكل لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه ما يَدُلُّ على عَدَمِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَطَعَ منه قطعة لِيُثْخِنَهُ فَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبُ الْكَلْبِ الصَّيْدَ من الْكَلْبِ بعدما قَطَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْكَلْبُ بَعْدَ ذلك فَمَرَّ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ فَأَكَلَهَا يوكل صَيْدُهُ لِأَنَّهُ لو أَكَلَ من نَفْسِ الصَّيْدِ في هذه الْحَالَةِ لَا يَضُرُّ فإذا أَكَلَ مِمَّا بَانَ منه أَوْلَى وَإِنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ فَنَهَشَهُ فَأَخَذَ منه بِضْعَةً فَأَكَلَهَا وهو حَيٌّ فَانْفَلَتَ الصَّيْدُ منه ثُمَّ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا آخَرَ في فَوْرِهِ فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه ذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال أَكْرَهُ أَكْلَهُ لِأَنَّ الْأَكْلَ في حَالَةِ الِاصْطِيَادِ يَدُلُّ على عَدَمِ التَّعْلِيمِ فَلَا يوكل ما اصْطَادَهُ بَعْدَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا تَعْلِيمُ ذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي أو نَحْوِهِ فَهُوَ أَنْ يُجِيبَ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ حتى لو أَخَذَ الصَّيْدَ فَأَكَلَ منه فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ صَيْدِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ
وَالْفَرْقُ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ التَّعَلُّمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ وَالطَّبْعِ وَالْبَازِي من عَادَتِهِ التَّوَحُّشُ من الناس وَالتَّنَفُّرُ منهم بِطَبْعِهِ فألفه بِالنَّاسِ وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ يَكْفِي دَلِيلًا على تَعَلُّمِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ فإنه أَلُوفٌ بِطَبْعِهِ يَأْلَفُ بِالنَّاسِ وَلَا يَتَوَحَّشُ منهم فَلَا يَكْفِي هذا الْقَدْرُ دَلِيلَ التَّعَلُّمِ في حَقِّهِ فَلَا بُدَّ من زِيَادَةِ أَمْرٍ وهو تَرْكُ
____________________

(5/54)


الْأَكْلِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْبَازِيَ إنَّمَا يُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْأَكْلِ عن جد ( ( ( حد ) ) ) التَّعْلِيمِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْكَلْبَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ بِالضَّرْبِ لِأَنَّ جُثَّتَهُ تَتَحَمَّلُ الضَّرْبَ وَالْبَازِي لَا لِأَنَّ جُثَّتَهُ لَا تَتَحَمَّلُ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إذَا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ وَمِنْهَا الأرسال أو الزَّجْرُ عِنْدَ عَدَمِهِ على وَجْهٍ يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذلك وهو الْكَلْبُ وما في مَعْنَاهُ حتى لو تَرَسَّلَ بِنَفْسِهِ ولم يَزْجُرْهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ الذي قَتَلَهُ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ في صَيْدِ الْجَوَارِحِ أَصْلٌ لِيَكُونَ الْقَتْلُ وَالْجُرْحُ مُضَافًا إلَى الْمُرْسِلِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِهِ يُقَامُ الزَّجْرُ مُقَامَ الِانْزِجَارِ فِيمَا يَحْتَمِلُ قِيَامَ ذلك مَقَامَهُ فإذا لم يُوجَدْ فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ فَلَا يَحِلُّ
وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَسَمَّى فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ لَا يوكل صَيْدُهُ وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَاتَّبَعَ الصَّيْدَ ثُمَّ زَجَرَهُ فَانْزَجَرَ لَا يوكل صَيْدُهُ وَلَوْ لم يُرْسِلْهُ أَحَدٌ وَانْبَعَثَ بِنَفْسِهِ فَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى فَانْزَجَرَ يوكل صَيْدُهُ وَإِنْ لم يَنْزَجِرْ لَا يوكل وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ هو الْأَصْلُ وَالزَّجْرُ كَالْخَلَفِ عنه وَالْخَلَفُ يُعْتَبَرُ حَالَ عَدَمِ الْأَصْلِ لَا حَالَ وُجُودِهِ فَفِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وُجِدَ الْأَصْلُ فَلَا يُعْتَبَرُ الْخَلَفُ إلَّا أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمُرْسِلُ من أَهْلِ الْإِرْسَالِ فَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ وفي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا فَلَا يُؤْكَلُ وفي الْمَسْأَلَةِ الرابعة ( ( ( الثالثة ) ) ) لم يُوجَدْ الْأَصْلُ فَيُعْتَبَرُ الْخَلَفُ فَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ إنْ الزجر ( ( ( انزجر ) ) ) وَإِنْ لم يَنْزَجِرْ لَا يوكل لِأَنَّ الزَّجْرَ بِدُونِ الِانْزِجَارِ لَا يَصْلُحُ خَلَفًا عن الْإِرْسَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ يُرْسَلُ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ إرْسَالٍ وَلَا زَجْرٍ
وَلَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى وَزَجَرَهُ رَجُلٌ ولم يُسَمِّ على زَجْرِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ يوكل لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْإِرْسَالِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ عند ( ( ( عنده ) ) ) وَأَصْلٌ آخَرُ لِتَخْرِيجِ هذه الْمَسَائِلِ ما ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ إذَا وُجِدَ الصَّرِيحُ وإذا لم يُوجَدْ تُعْتَبَرُ فَفِي المسال ( ( ( المسائل ) ) ) الثَّلَاثِ وُجِدَ من الْكَلْبِ صَرِيحُ الطَّاعَةِ بِالْإِرْسَالِ حَيْثُ عَدَا بِإِرْسَالِهِ وَانْزِجَارُهُ طَاعَةً لِلزَّاجِرِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ في مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ وفي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ لم يُوجَدْ الصَّرِيحُ فَاعْتُبِرَتْ الدَّلَالَةُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ بَقِيَّةُ الْمَسَائِلِ وَمِنْهَا الْإِرْسَالِ وهو أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْكَلْبِ أو الْبَازِي الصَّيْدَ في حَالِ فَوْرِ الْإِرْسَالِ لَا في حَالِ انْقِطَاعِهِ حتى لو أَرْسَلَ الْكَلْبَ أو الْبَازِيَ على صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَخَذَ صَيْدًا وَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ على فَوْرِهِ ذلك وَقَتَلَهُ ثُمَّ وَثُمَّ يُؤْكَلُ ذلك كُلُّهُ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لم يَنْقَطِعْ فَكَانَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ مع ما بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْيِينَ ليس بِشَرْطٍ في الصَّيْدِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَكَانَ أَخْذُ الْكَلْبِ أو الْبَازِي الصَّيْدَ في فَوْرِ الْإِرْسَالِ كَوُقُوعِ السَّهْمِ بِصَيْدَيْنِ فَإِنْ أَخَذَ صَيْدًا وَجَثَمَ عليه طَوِيلًا ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لم يوكل إلَّا بِإِرْسَالٍ مُسْتَقْبَلٍ أو بِزَجْرِهِ وَتَسْمِيَةٍ على وَجْهٍ يَنْزَجِرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لَبُطْلَانِ الْفَوْرِ
وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أو بَازَهُ على صَيْدٍ فَعَدَلَ عن الصَّيْدِ يَمْنَةً أو يَسْرَةً وَتَشَاغَلَ بِغَيْرِ طَلَبٍ الصَّيْدِ وَفَتَرَ عن سَنَنِهِ ذلك ثُمَّ تَبِعَ صَيْدًا آخَرَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا بِإِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ أو أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ وَيُسَمِّيَ فَيَنْزَجِرَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لِأَنَّهُ لَمَّا تَشَاغَلَ بِغَيْرِ طَلَبِ الصَّيْدِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ فإذا صَادَ صَيْدًا بَعْدَ ذلك فَقَدْ تَرَسَّلَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ إلَّا أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان الذي أَرْسَلَ فَهْدًا وَالْفَهْدُ إذَا أُرْسِلَ كَمِنَ وَلَا يَتَّبِعُ حتى يَسْتَمْكِنَ فَيَمْكُثُ سَاعَةً ثُمَّ يَأْخُذُ الصَّيْدَ فَيَقْتُلَهُ فإنه يُؤْكَلُ
وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا أُرْسِلَ فَصَنَعَ كما يَصْنَعُ الْفَهْدُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ ما صَادَ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِرْسَالِ لم يَنْقَطِعْ بِالْكُمُونِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْمُنُ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّيْدِ فَكَانَ ذلك من أَسْبَابِ الِاصْطِيَادِ وَوَسِيلَةً إلَيْهِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ كَالْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ وَكَذَلِكَ الْبَازِي إذَا أُرْسِلَ فَسَقَطَ على شَيْءٍ ثُمَّ طَارَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فإنه يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ على شَيْءٍ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّيْدِ فَكَانَ سُقُوطُهُ بِمَنْزِلَةِ كُمُونِ الْفَهْدِ
وَكَذَلِكَ الرَّامِي إذَا رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فما أَصَابَهُ في سَنَنِهِ ذلك وَوَجْهِهِ أُكِلَ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى في سَنَنِهِ فلم يَنْقَطِعْ حُكْمُ الرَّمْيِ فَكَانَ ذَهَابُهُ بِقُوَّةِ الرَّامِي فَكَانَ قَتْلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ فَيَحِلُّ فَإِنْ أَصَابَ وَاحِدًا ثُمَّ نَفَذَ إلَى آخَرَ وَآخَرَ أُكِلَ الْكُلُّ لِمَا قُلْنَا مع ما أَنَّ تَعْيِينَ الصَّيْدِ ليس بِشَرْطٍ فَإِنْ أَمَالَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى يَمِينًا أو شِمَالًا فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ لم يوكل لِأَنَّ السَّهْمَ إذَا تَحَوَّلَ عن سَنَنِهِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الرَّمْيِ فَصَارَتْ الأصابة بِغَيْرِ فِعْلِ الرَّامِي فَلَا يَحِلُّ كما لو كان على جَبْلٍ سَيْفٌ فَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ على صَيْدٍ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ
____________________

(5/55)


لَا يوكل كَذَا هذا
فَإِنْ لم تُرْدِهِ الرِّيحُ عن وَجْهِهِ ذلك أُكِلَ الصَّيْدُ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى في وَجْهِهِ كان مُضِيُّهُ بِقُوَّةِ الرَّامِي وَإِنَّمَا الرِّيحُ إعانته وَمَعُونَةُ الرِّيحِ السَّهْمَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَصَابَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ وَهِيَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَدَفَعَتْهُ لَكِنَّهُ لم يَتَغَيَّرْ عن وَجْهِهِ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فإنه يوكل لِأَنَّهُ مَضَى في وَجْهِهِ وَمَعُونَةُ الرِّيحِ إذَا لم تَعْدِلْ السَّهْمَ عن وَجْهِهِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَلَا يُعْتَبَرُ ولو أَصَابَ السَّهْمُ حَائِطًا أو صَخْرَةً فَرَجَعَ فَأَصَابَ صَيْدًا فإنه لَا يوكل لِأَنَّ فِعْلَ الرَّامِي انْقَطَعَ وَصَارَتْ الْإِصَابَةُ في غَيْرِ جِهَةِ الرَّمْيِ فَإِنْ مَرَّ السَّهْمُ بين الشَّجَرِ فَجَعَلَ يُصِيبُ الشَّجَرَ في ذلك الْوَجْهِ لَكِنَّ السَّهْمَ على سَنَنِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ فإنه يوكل فَإِنْ رَدَّهُ شَيْءٌ من الشَّجَرِ يَمْنَةً أو يَسْرَةً لَا يوكل لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ مَرَّ السَّهْمُ فحجشه ( ( ( فجحشه ) ) ) حَائِطٌ وهو على سَنَنِهِ ذلك فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ أُكِلَ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّامِي لم يَنْقَطِعْ وَإِنَّمَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ وَالْحَائِطَ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِرْسَالِ لَا يَنْقَطِعُ بِالتَّغَيُّرِ عن سَنَنِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا إلَّا إذَا رَجَعَ من وَرَائِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى رَجُلٌ آخَرُ بِسَهْمٍ وَسَمَّى فَأَصَابَ السَّهْمُ الْأَوَّلُ السَّهْمَ الثَّانِيَ قبل أَنْ يُصِيبَ الصَّيْدَ فَرَدَّهُ عن وَجْهِهِ ذلك فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ فإنه لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ السَّهْمُ الثَّانِي عن سَنَنِهِ انْقَطَعَ حُكْمُ الرَّمْيِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ
قال الْقُدُورِيُّ وَهَذَا مَحْمُولٌ على أَنَّ الرَّامِيَ الثَّانِيَ لم يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وهو لم يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ فَلَا يَحِلُّ فَأَمَّا إذَا كان الثَّانِي رَمَى لِلِاصْطِيَادِ فَيَحِلُّ أَكْلُ الصَّيْدِ وهو لِلثَّانِي لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَإِنْ لم يَقْصِدْهُ بِالرَّمْيِ وَتَعْيِينُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ ليس بِشَرْطٍ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَيْدًا بِسَهْمٍ فَأَصَابَا الصَّيْدَ جميعا وَوَقَعَتْ الرَّمْيَتَانِ بِالصَّيْدِ مَعًا فَمَاتَ فإنه لَهُمَا وَيُؤْكَلُ أَمَّا حِلُّ الْأَكْلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُ الصَّيْدِ لَهُمَا فَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَتَسَاوَيَا فيه فَيَتَسَاوَيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الْأَوَّلِ فَوَقَذَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤْكَلُ وَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ في أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الرَّمْيِ حَالُ الرَّمْيِ أو حَالُ الْإِصَابَةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرُ حَالُ الرَّمْيِ وَعِنْدَ زُفَرَ حَالُ الْإِصَابَةِ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لَمَّا كان حَالَ الرمى عِنْدَنَا فَقَدْ وُجِدَ الرَّمْيُ مِنْهُمَا وَالصَّيْدُ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّهْمِ الثَّانِي حَظْرٌ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ سَهْمَهُ أَخْرَجَهُ من حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَصَارَ السَّهْمُ الثَّانِي كَأَنَّهُ وَقَعَ بصد ( ( ( بصيد ) ) ) مَمْلُوكٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّمْيِ في حَقِّ الْحِلِّ وَالْإِصَابَةِ في حَقِّ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْحِلَّ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ وَالْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ وَلَمَّا كان الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْإِصَابَةِ عِنْدَهُ فَقَدْ أَصَابَهُ الثَّانِي وَالصَّيْدُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَمَنْ رمي إلَى شَاةٍ فَقَتَلَهَا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاعْتِبَارُ حَالُ الْإِصَابَةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَقِفُ ثُبُوتُهُ على الْإِصَابَةِ فإنه لو لم يُصِبْ لَا يَمْلِكُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هو وَقْتُ الْإِصَابَةِ
وَلَنَا أَنَّ حَالَ الرَّمْيِ هو الذي يَفْعَلُهُ وَالتَّسْمِيَةُ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ فِعْلِهِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّمْيِ وَكَذَلِكَ أن رمي أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ قبل إصَابَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ كَرَمْيِهِمَا مَعًا في الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ رَمْيَ الثَّانِي وُجِدَ وَالصَّيْدُ مُمْتَنِعٌ فَصَارَ كما لو رَمَيَا مَعًا فَإِنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الْأَوَّلِ ولم يُخْرِجْهُ من الِامْتِنَاعِ فَأَصَابَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ إذَا لم يُخْرِجْهُ عن حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَفِعْلُ الِاصْطِيَادِ وُجِدَ من الثَّانِي وَلِلْأَوَّلِ تَسَبُّبٌ في الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَنْ أَثَارَ صَيْدًا وَأَخَذَهُ غَيْرُهُ أَنَّ الصَّيْدَ يَكُونُ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان سَهْمُ الْأَوَّلِ وَقَذَهُ وَأَخْرَجَهُ عن الِامْتِنَاعِ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الثَّانِي فَهَذَا على وُجُوهٍ إنْ مَاتَ من الْأَوَّلِ أَكَلَ وَعَلَى الثَّانِي ضَمَانُ ما نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ لِأَنَّ السَّهْمَ الْأَوَّلَ وَقَعَ بِهِ وهو صَيْدٌ فإذا قَتَلَهُ حَلَّ وقد مَلَكَهُ الْأَوَّلُ بِالْإِصَابَةِ فَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ نَقْصٌ في مِلْكِ الْأَوَّلِ فَيَضْمَنُهَا الثَّانِي
وَإِنْ مَاتَ من الْجِرَاحَةِ الثَّانِيَةِ لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ الثَّانِيَ رمي إلَيْهِ وهو غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ وَيَضْمَنُ الثَّانِي ما نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دخل في مِلْكِ الْغَيْرِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ لِأَنَّهُ أُتْلِفَ بِفِعْلِهِ إلَّا أَنَّهُ غَرِمَ نُقْصَانَ الْجُرْحِ الثَّانِي فَلَا يَضْمَنُهُ ثَانِيًا وَالْجُرْحُ الْأَوَّلُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَالِكِ لِلصَّيْدِ فَلَا يَضْمَنُهُ الثَّانِي
وَإِنْ مَاتَ من الْجِرَاحَتَيْنِ لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ أَحَدَ الرَّمْيَيْنِ حَاظِرٌ وَالْآخَرَ مُبِيحٌ فَالْحُكْمُ لِلْحَاظِرِ احْتِيَاطًا وَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ وهو الْجِرَاحَةُ الْمُخْرِجَةُ له من الِامْتِنَاعِ وَعَلَى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ ما نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهُ مَاتَ بفعلهما ( ( ( بفعلها ) ) ) فَسَقَطَ نِصْفُ
____________________

(5/56)


الضَّمَانِ وَثَبَتَ نِصْفُهُ وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ يَضْمَنُهَا الثَّانِي لِأَنَّهَا حَصَلَتْ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ على شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ حين أَخْرَجَهُ من الْإِبَاحَةِ إلَى الْحَظْرِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لم يَعْلَمْ بأ ( ( ( بأي ) ) ) الجراحتن ( ( ( الجراحتين ) ) ) مَاتَ فَهُوَ كما لو عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من الجراحتن ( ( ( الجراحتين ) ) ) سَبَبُ الْقَتْلِ في الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ عز ( ( ( جل ) ) ) وجل ( ( ( وعز ) ) ) أَعْلَمُ
وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا على صد ( ( ( صيد ) ) ) وَسَمَّى فَأَدْرَكَ الْكَلْبُ الصد ( ( ( الصيد ) ) ) فَضَرَبَهُ فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَانِيًا فَقَتَلَهُ أَكَلَ وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ على صَيْدٍ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ الْكَلْبُ الْآخَرُ فَقَتَلَهُ فإنه يُؤْكَلُ لِأَنَّ هذا لَا يَدْخُلُ في تَعْلِيمِ الْكَلْبِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمَ بِتَرْكِ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ على صَيْدٍ فَضَرَبَهُ كَلْبُ أَحَدِهِمَا فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ كَلْبُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ فإنه يُؤْكَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جُرْحَ الْكَلْبِ بَعْدَ الْجُرْحِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ عنه فَلَا يُوجِبَ الْحَظْرَ فَيُؤْكَلُ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ جِرَاحَةَ كَلْبِهِ أَخْرَجَتْهُ عن حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَصَارَ مِلْكًا له فَجِرَاحَةُ كَلْبِ الثَّانِي لَا تُزِيلُ مِلْكَهُ عنه
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ وَالرَّمْيُ على الصَّيْدِ وَإِلَيْهِ حتى لو أَرْسَلَ على غَيْرِ صَيْدٍ أو رَمَى إلَى غَيْرِ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الإرسل ( ( ( الإرسال ) ) ) إلَى غَيْرِ الصَّيْدِ وَالرَّمْيِ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ اصْطِيَادًا فَلَا يَكُونُ قَتْلُ الصَّيْدِ وَجَرْحُهُ مُضَافًا إلَى الْمُرْسَلِ وَالرَّامِي فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبَاحَةُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا سمع حِسًّا فَظَنَّهُ صَيْدًا فَأَرْسَلَ عليه كَلْبَهُ أو بَازَهُ أو رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ صَيْدًا أو بَانَ له أَنَّ الْحِسَّ الذي سَمِعَهُ لم يَكُنْ حِسَّ صَيْدٍ وَإِنَّمَا كان شَاةً أو بَقَرَةً أو آدَمِيًّا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الذي أَصَابَهُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ على ما ليس بِصَيْدٍ ورمي إلَى ما ليس بِصَيْدٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا من الْفِقْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى آدَمِيٍّ أو شَاةٍ أو بَقَرَةٍ وهو يَعْلَمُ بِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَا هذا
وَإِنْ كان الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يُؤْكَلُ سَوَاءٌ كان ذلك الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ أو غَيْرِ مَأْكُولٍ بَعْدَ أَنْ كان الْمُصَابُ صَيْدًا مَأْكُولًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ إنْ كان ذلك الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا لَا يُؤْكَلُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كان حِسَّ ضَبُعٍ يُؤْكَلُ الصَّيْدُ وَإِنْ كان حِسَّ خِنْزِيرٍ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن السَّبُعَ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَالرَّمْيُ إلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ كما لو كان حِسَّ آدَمِيٍّ فَرَمَى إلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا
وَلَنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ إلَى الصَّيْدِ اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ مَأْكُولًا كان الصَّيْدُ أو غير مَأْكُولٍ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ إبَاحَةُ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ لِأَنَّ حِلَّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْسَالِ فإذا كان الْإِرْسَالُ حَلَالًا يَثْبُتُ حِلُّهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِحِلِّ الْإِرْسَالِ حِلُّ حُكْمِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِالْفِعْلِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْإِرْسَالِ هو قَصْدُ الصَّيْدِ
فَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وقد قَصَدَ الصَّيْدَ حَلَالًا كان أو حَرَامًا بِخِلَافِ ما إذَا كان الْحِسُّ حِسَّ آدَمِيٍّ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ على الْآدَمِيِّ ليس بِاصْطِيَادٍ فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إذْ لَا يَتَعَلَّقُ حِلُّ الصَّيْدِ بِمَا ليس بِاصْطِيَادٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لم يُوجَدْ منه قَصْدُ الصَّيْدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في فَصْلِهِ بين سَائِرِ السِّبَاعِ وَبَيْنَ الْخِنْزِيرِ أَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ حتى لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرْسَالِ عليه وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَأَمَّا سَائِرُ السِّبَاعِ فَجَائِزُ الِانْتِفَاعِ بها في غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ فَكَانَ الْإِرْسَالُ إلَيْهَا مُعْتَبَرًا وَإِنْ سمع حِسًّا وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ أو غَيْرِهِ فَأَرْسَلَ فَأَصَابَ صَيْدًا لم يُؤْكَلْ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ اسْتَوَى الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ احْتِيَاطًا
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ فِيمَنْ رَمَى خِنْزِيرًا أَهْلِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا قال لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ الْأَهْلِيَّ ليس بِصَيْدٍ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ وَالِامْتِنَاعِ فَكَانَ الرَّمْيُ إلَيْهِ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِلُّ الصَّيْدِ وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا وقد قالوا فِيمَنْ سمع حِسًّا فَظَنَّهُ آدَمِيًّا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ الْحِسَّ نَفْسَهُ فإذا هو صَيْدٌ أَكَلَ لِأَنَّهُ رمي إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُعَيَّنِ وهو الصَّيْدُ فَصَحَّ
وَنَظِيرُهُ ما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ وَأَشَارَ إلَيْهَا هذه الْكَلْبَةُ طَالِقٌ أنها تَطْلُقُ وَبَطَلَ الِاسْمُ وَقَالُوا لو رَمَى طَائِرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ المرمى إلَيْهِ ولم يَعْلَمْ أَوَحْشِيٌّ أو مُسْتَأْنَسٌ أُكِلَ الصَّيْدُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الطَّيْرِ التَّوَحُّشُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حتى يُعْلَمَ الِاسْتِئْنَاسُ
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ دَاجِنٌ تَأْوِي الْبُيُوتَ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ لِأَنَّ الدَّاجِنَ يَأْوِيهِ الْبَيْتُ وَتَثْبُتُ الْيَدُ عليه فَكَانَ الرَّمْيُ إلَيْهِ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ كَذَا هذا
وَقَالُوا لو رَمَى بَعِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا
____________________

(5/57)


وَذَهَبَ الْبَعِيرُ فلم يَعْلَمْ أَنَادٌّ أو غَيْرُ نَادٍّ لم يُؤْكَلْ الصَّيْدُ حتى يَعْلَمَ أَنَّ الْبَعِيرَ كان نَادًّا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْإِبِلِ الِاسْتِئْنَاسُ فَيُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ حتى يَظْهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ رَمَى سَمَكَةً أو جَرَادَةً فَأَصَابَ صَيْدًا فقال في رِوَايَةٍ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ لَا ذَكَاةَ لَهُمَا وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ من جُمْلَةِ الصَّيْدِ وَإِنْ كان لَا ذَكَاةَ له وَقَالُوا لو أَرْسَلَ كَلْبَهُ على ظَبْيٍ مُوثَقٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ الْمُوثَقَ ليس بِصَيْدٍ لِعَدَمِ مَعْنَى الصَّيْدِ فيه وهو الِامْتِنَاعُ فَأَشْبَهَ شَاةً وَلَوْ أَرْسَلَ بَازَهُ على ظَبْيٍ وهو لَا يَصِيدُ الظَّبْيَ فَأَصَابَ صَيْدًا لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ هذا إرْسَالٌ لم يُقْصَدْ بِهِ الِاصْطِيَادُ فَصَارَ كَمَنْ أَرْسَلَ كَلْبًا على قَتْلِ رَجُلٍ فَأَصَابَ صَيْدًا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ ذُو النَّابِ الذي يَصْطَادُ بِهِ من الْجَوَارِحِ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَإِنْ كان مُحَرَّمَ الْعَيْنِ وهو الْخِنْزِيرُ فَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ لِأَنَّ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ مُحَرَّمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالِاصْطِيَادُ بِهِ انْتِفَاعٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ
وَأَمَّا ما سِوَاهُ من ذِي النَّابِ من السباع فقد قال أصحابنا جميعا كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ وَذِي نَابٍ عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ ولم يَكُنْ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَصِيدَ بِهِ كان صَيْدُهُ حَلَالًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ }
وَقَالُوا في الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ أنه لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ بِهِمَا لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهِمَا بَلْ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّعَلُّمِ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَقِيلَ إنَّ من عَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا إذَا أَخَذَا صَيْدًا لَا يَأْكُلَانِهِ في الْحَالِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِ الْأَكْلِ فِيهِمَا على التَّعَلُّمِ حتى لو تُصُوِّرَ تَعْلِيمُهُمَا يَجُوزُ
وَذَكَر هِشَامُ وقال سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن الذِّئْبِ إذَا عُلِّمَ فَصَادَ فقال هذا أَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَإِنْ كان فَلَا بَأْسَ بِهِ وقال سَأَلْتُهُ عن صَيْدِ ابْنِ عِرْسٍ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ فَكُلْ مِمَّا صَادَ فصار ( ( ( فصاد ) ) ) الْأَصْلُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ ما لَا يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ من الْجَوَارِحِ إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يُعَلَّمَ أَنَّ تَلَفَ الصَّيْدِ بِإِرْسَالٍ أو رَمْيٍ هو سَبَبُ الْحِلِّ من حَيْثُ الظَّاهِرِ فَإِنْ شَارَكَهُمَا مَعْنًى أو سَبَبٌ يَحْتَمِلُ حُصُولَ التَّلَفِ بِهِ وَالتَّلَفُ بِهِ مِمَّا لَا يُفِيدُ الْحِلُّ لَا يُؤْكَلُ إلَّا إذَا كان ذلك الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُصُولُ التَّلَفِ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ فَقَدْ اُحْتُمِلَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ إنْ أَكَلَ عَسَى أَنَّهُ أَكَلَ الْحَرَامَ فَيَأْثَمُ وَإِنْ لم يَأْكُلْ فَلَا شَيْءَ عليه وَالتَّحَرُّزُ عن الضَّرَرِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لِوَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ رضي اللَّهُ عنه الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ وقال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما ما اُجْتُمِعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ في شَيْءٍ إلَّا وقد غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا رَمَى صَيْدًا وهو يَطِيرُ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ على جَبَلٍ ثُمَّ سَقَطَ منه على الْأَرْضِ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وهو تَفْسِيرُ الْمُتَرَدِّي لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ من الرَّمْيِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ عن الْجَبَلِ
وَكَذَلِكَ لو كان على جَبَلٍ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ منه شَيْءٌ على الْجَبَلِ ثُمَّ سَقَطَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو كان على سَطْحٍ فَأَصَابَهُ فَهَوَى فَأَصَابَ حَائِطَ السَّطْحِ ثُمَّ سَقَطَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو كان على نَخْلَةٍ أو شَجَرَةٍ فَسَقَطَ منها على جِذْعِ النَّخْلَةِ أو نَدَّ من الشَّجَرَةِ ثُمَّ سَقَطَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو وَقَعَ على رُمْحٍ مَرْكُوزٍ في الْأَرْضِ وَفِيهِ سِنَانٌ فَوَقَعَ على السِّنَانِ ثُمَّ وَقَعَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو نَشِبَ فيه السِّنَانُ فَمَاتَ عليه أو أَصَابَ سَهْمُهُ صَيْدًا فَوَقَعَ في الْمَاءِ فَمَاتَ فيه لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِالرَّمْيِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمَوْجُودَةِ بَعْدَهُ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال وَإِنْ وَقَعَ في الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ بَيَّنَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ وَعَلَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا من احْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ وهو وُقُوعُهُ في الْمَاءِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ بَعْلَةٍ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَلَوْ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَوَقَعَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُؤْكَلَ لِجَوَازِ مَوْتِهِ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ على الْأَرْضِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عن وُقُوعِ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ على الْأَرْضِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ هذا الِاحْتِمَالُ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى في الصَّيْدِ إذَا وَقَعَ على صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ أو انْقَطَعَ رَأْسُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ قال الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ الشَّهِيدُ الْمَرْوَزِيِّ وَهَذَا خِلَافُ جَوَابِ الْأَصْلِ
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وعني بِهِ أَنَّهُ خِلَافُ عُمُومِ جَوَابِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ لو وَقَعَ على أجرة مَوْضُوعَةٍ في الْأَرْضِ أُكِلَ ولم يَفْصِلْ بين أَنْ يَكُونَ انْشَقَّ بَطْنُهُ أو لم يَنْشَقْ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْكَلَ في الْحَالَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بين الْحَالَيْنِ من حَيْثُ أن
____________________

(5/58)


لو انْشَقَّ بَطْنُهُ أو انْقَطَعَ رَأْسُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْتَهُ بهذا السَّبَبِ لَا بِالرَّمْيِ فَكَانَ احْتِمَالُ مَوْتِهِ بِالرَّمْيِ احْتِمَالَ خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يُعْتَبَرُ وإذا لم يَنْشَقَّ ولم يَنْقَطِعْ فَمَوْتُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من السَّبَبَيْنِ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا على السَّوَاءِ إلَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ غَيْرُ مُمَكِّنٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ مَوْتِهِ بِسَبَبِ الْعَارِضِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ في الْمُنْتَقَى تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ إذَا لم يَنْشَقَّ بَطْنُهُ أو لم يَنْقَطِعْ رَأْسُهُ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ وَيُجْعَلُ الْمُقَيَّدُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا
وَلَوْ وَقَعَ على حَرْفِ آجُرَّةٍ أو حَرْفِ حَجَرٍ ثُمَّ وَقَعَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ لم يُؤْكَلْ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كانت الْآجُرَّةُ مُنْطَرِحَةً على الْأَرْضِ فَوَقَعَ عليها ثُمَّ مَاتَ أَكَلَ لِأَنَّ الْآجُرَّةُ الْمُنْطَرِحَةَ كَالْأَرْضِ فَوُقُوعُهُ عليها كَوُقُوعِهِ على الْأَرْضِ وَلَوْ وَقَعَ على جَبَلٍ فَمَاتَ عليه أُكِلَ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَهُ على الْجَبَلِ كَاسْتِقْرَارِهِ على الْأَرْضِ
وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لو رَمَى صَيْدًا على قلة ( ( ( قمة ) ) ) جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ حتى صَارَ لَا يَتَحَرَّكُ ولم يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْخُذَهُ فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ وَوَقَعَ لم يَأْكُلْهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن كَوْنِهِ صَيْدًا بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ لِخُرُوجِهِ عن حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَالرَّمْيُ الثَّانِي لم يُصَادِفْ صَيْدًا فلم يَكُنْ ذَكَاةً له فَلَا يُؤْكَلُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اجْتَمَعَ على الصَّيْدِ مُعَلَّمٌ وَغَيْرُ مُعَلَّمٍ أو مُسَمًّى عليه وَغَيْرُ مُسَمًّى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِاجْتِمَاعِ سَبَبَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ولم يُعْلَمْ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ فَاتَّبَعَ الْكَلْبَ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَكِنَّهُ لم يُرْسِلْهُ أَحَدٌ ولم يَزْجُرْهُ بَعْدَ انْبِعَاثِهِ أو سَبُعٌ من السِّبَاعِ أو ذُو مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّمَ فَيُصَادُ بِهِ فَرَدَّ الصَّيْدَ عليه وَنَهَشَهُ أو فَعَلَ ما يَكُونُ مَعُونَةً لِلْكَلْبِ الْمُرْسَلِ فَأَخَذَهُ الْكَلْبُ الْمُرْسَلُ وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ رَدَّ الْكَلْبِ وَنَهْشَهُ مُشَارَكَةٌ في الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ مُشَارَكَةَ الْمُعَلَّمِ وغير الْمُعَلَّمِ وَالْمُسَمَّى عليه غير الْمُسَمَّى عليه بِخِلَافِ ما إذَا رَدَّ عليه آدَمِيٌّ أو بَقَرَةٌ أو حِمَارٌ أو فَرَسٌ أو ضَبٌّ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ ليس من بَابِ الِاصْطِيَادِ فَلَا يُزَاحِمُ الِاصْطِيَادَ في الْإِبَاحَةُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ تَبِعَ الْكَلْبَ الْأَوَّلَ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ولم يَرُدَّ عليه ولم يُهَيَّبْ الصَّيْدَ وَلَكِنَّهُ اشْتَدَّ عليه وكان الذي أَخَذَ وَقَتَلَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّهُمَا ما اشْتَرَكَا في الِاصْطِيَادِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَنَةِ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَلْحَقَ الْمُرْسِلُ أو الرَّامِي الصَّيْدَ أو من يَقُومُ مَقَامَهُ قبل التَّوَارِي عن عَيْنِهِ أو قبل انْقِطَاعِ الطَّلَبِ منه إذَا لم يَدْرِك ذَبْحَهُ فَإِنْ تَوَارَى عن عَيْنِهِ وَقَعَدَ عن طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ لم يُؤْكَلْ فَأَمَّا إذَا لم يَتَوَارَ عنه أو تَوَارَى لَكِنَّهُ لم يَقْعُدْ عن الطَّلَبِ حتى وَجَدَهُ يُؤْكَلُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّيْدَ مَاتَ من جِرَاحَةِ كَلْبِهِ أو من سَهْمِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِالشَّكِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ على حِمَارٍ وَحْشٍ عَقِيرٍ فَتَبَادَرَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فقال دَعُوهُ فَسَيَأْتِي صَاحِبُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ من فِهْرٍ فقال هذه رَمِيَّتِي يا رَسُولَ اللَّهِ وأنا في طَلَبِهَا وقد جَعَلْتُهَا لك فَأَمَرَ رسول اللَّهِ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَسَمَهُ بين الرِّفَاقِ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ ذلك لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه في الصَّيْدِ فإن الْعَادَةَ أَنَّ السَّهْمَ إذَا وَقَعَ بِالصَّيْدِ تَحَامَلَ فَغَابَ وإذا أَصَابَ الْكَلْبَ الْخَوْفُ منه غَابَ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا ذلك لَأَدَّى ذلك إلَى انْسِدَادِ بَابِ الصَّيْدِ وَوُقُوعِ الصَّيَّادِينَ في الْحَرَجِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَيْبَةِ التي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنها إذَا لم يُوجَدْ من الصَّائِدِ تَفْرِيطٌ في الطَّلَبِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ وَعِنْدَ قُعُودِهِ عن الطَّلَبِ لَا ضَرُورَةَ فَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَيْدًا فقال له من أَيْنَ لَك هذا فقال رَمْيَتُهُ بِالْأَمْسِ وَكُنْت في طَلَبِهِ حتى هَجَمَ عَلَيَّ اللَّيْلُ فَقَطَعَنِي عنه ثُمَّ وَجَدْتُهُ الْيَوْمَ وَمِزْرَاقِي فيه فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنه غَابَ عَنْكَ وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَ الْهَوَامِّ أَعَانَكَ عليه لَا حَاجَةَ لي فيه بَيَّنَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ وعليه ( ( ( وعلة ) ) ) الْحُكْمِ وهو ما ذَكَرْنَا من احْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فيه إذَا لم يَقْعُدْ عن الطَّلَبِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك فقال كُلْ ما أَصْمَيْتَ وَدَعْ ما أَنْمَيْتَ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الأصماء ما عَايَنَهُ وَالْإِنْمَاءُ ما تَوَارَى عنه
وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الأصماء ما لم يَتَوَارَ على بَصَرِكَ وَالْإِنْمَاءُ ما تَوَارَى عن بَصَرِك إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ الطَّلَبُ مَقَامَ الْبَصَرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَعَدَ عن طَلَبِهِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لو كان طَلَبَهُ لَأَدْرَكَهُ حَيًّا فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً فَلَا يَحِلُّ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَقْعُدْ عن طَلَبِهِ لِأَنَّهُ لم يُدْرِكْهُ حَيًّا فَبَقِيَ الْجُرْحُ ذَكَاةً له وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا
____________________

(5/59)


ما يُسْتَحَبُّ من الذَّكَاةِ وما يُكْرَهُ منها فَمِنْهَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بِالنَّهَارِ وَيُكْرَهُ بِاللَّيْلِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن الْأَضْحَى لَيْلًا وَعَنْ الْحَصَادِ لَيْلًا وهو كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوهٍ
أحدهما ( ( ( أحدها ) ) ) أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ أَمْنٍ وَسُكُونٍ وَرَاحَةٍ فَإِيصَالُ الْأَلَمِ في وَقْتِ الرَّاحَةِ يَكُونُ أَشَدَّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ من أَنْ يخطىء ( ( ( يخطئ ) ) ) فَيَقْطَعُ يَدَهُ وَلِهَذَا كُرِهَ الْحَصَادُ بِاللَّيْلِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ في الذَّبْحِ لَا تَتَبَيَّنُ في اللَّيْلِ فَرُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي قَطْعَهَا
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ في الذَّبْحِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَكُونَ ذلك بِآلَةٍ حَادَّةٍ من الْحَدِيدِ كَالسِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِ ذلك وَيُكْرَهُ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ وَبِالْكَلِيلِ من الْحَدِيدِ لِأَنَّ السُّنَّةَ في ذَبْحِ الْحَيَوَانِ ما كان أَسْهَلَ على الْحَيَوَانِ وَأَقْرَبَ إلَى رَاحَتِهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ كَتَبَ الْإِحْسَانَ على كل شَيْءٍ فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وإذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَلْيَشُدَّ قَوَائِمَهُ وَلْيُلْقِهِ على شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَلْيُوَجِّهْهُ نحو الْقِبْلَةِ وَلِيُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عليه وَالذَّبْحُ بِمَا قُلْنَا أَسْهَلُ على الْحَيَوَانِ وَأَقْرَبُ إلَى رَاحَتْهُ
وَمِنْهَا التَّذْفِيفُ في قَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَيُكْرَهُ الْإِبْطَاءُ فيه لِمَا رَوَيْنَا عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال وَلِيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وَالْإِسْرَاعُ نَوْعُ رَاحَةٍ له
وَمِنْهَا الذَّبْحُ في الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّحْرُ في الْإِبِلِ وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ من ذلك لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذلك من قِبَلِ الْحُلْقُومِ وَيُكْرَهُ من قِبَلِ الْقَفَا لِمَا مَرَّ
وَمِنْهَا قَطْعُ الْأَوْدَاجِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا فيه من إبْطَاءِ فَوَاتِ حَيَاتِهِ
وَمِنْهَا الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَلَا يُبْلَغُ بِهِ النُّخَاعَ وهو الْعِرْقُ الْأَبْيَضُ الذي يَكُونُ في عَظْمِ الرَّقَبَةِ وَلَا يُبَانُ الرَّأْسُ وَلَوْ فَعَلَ ذلك يُكْرَهُ لِمَا فيه من زِيَادَةِ إيلَامٍ من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا وفي الحديث أَلَا لَا تَنْخَعُوا الذَّبِيحَةَ وَالنَّخْعُ الْقَتْلُ الشَّدِيدُ حتى يَبْلُغَ النُّخَاعَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالذَّبِيحَةُ مُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا إذَا ذَبَحُوا اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ فإنه رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قال كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِالذَّبِيحَةِ الْقِبْلَةَ
وَقَوْلُهُ كَانُوا كِنَايَةً عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمْ إلَى الْأَوْثَانِ فَتُسْتَحَبُّ مُخَالَفَتُهُمْ في ذلك بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ التي هِيَ جِهَةُ الرَّغْبَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ من فُلَانٍ وَإِنَّمَا يقول ذلك بَعْدَ الْفَرَاغِ من الذَّبْحِ أو قبل الِاشْتِغَالِ بِالذَّبْحِ هَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عن حَمَّادٍ عن إبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ اُدْعُ بِالتَّقَبُّلِ قبل الذَّبْحِ إنْ شِئْت أو بَعْدَهُ
وقد رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ وَعِنْدَ الذَّبْحِ وَرَوَيْنَا عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ وَلَوْ قال ذلك لَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّهُ ما ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ على سَبِيلِ الاشراك لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ التَّجْرِيدَ من حَيْثُ الصُّورَةُ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدِهِمَا عن نَفْسِهِ وَالْآخَرِ عن أُمَّتِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ليس فيه أَنَّهُ ذَكَرَ مع اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ نَفْسَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو أُمَّتَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَحَّى أَحَدَهُمَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ عنه وَضَحَّى الْآخَرَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ عن أُمَّتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ وَيُكْرَهُ له بَعْدَ الذَّبْحِ قبل أَنْ تَبْرُدَ أَنْ يَنْخَعَهَا أَيْضًا وهو أَنْ يَنْحَرَهَا حتى يَبْلُغَ النُّخَاعَ وَأَنْ يَسْلُخَهَا قبل أَنْ تَبْرُدَ لِأَنَّ فيه زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنْ نَخَعَ أو سَلَخَ قبل أَنْ تَبْرُدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ الذَّبْحِ بِشَرَائِطِهِ وَيُكْرَهُ جَرُّهَا بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ لِأَنَّهُ الحاق زِيَادَةِ أَلَمٍ بها من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا في الذَّكَاةِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ سِيرِينَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ شَاةً لِيَذْبَحَهَا سَوْقًا عَنِيفًا فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قال له سُقْهَا إلَى الْمَوْتِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا أُمَّ لك وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا وَيُحِدَّ الشَّفْرَةَ بين يَدَيْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وهو يُحِدُّ الشَّفْرَةَ وَهِيَ تُلَاحِظُهُ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَدِدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ أَلَا حَدَدْتَ الشَّفْرَةَ قبل أَنْ تُضْجِعَهَا وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا وقد أَضْجَعَ شَاةً وَوَضَعَ رِجْلَهُ على صَفْحَةِ وَجْهِهَا وهو يُحِدُّ الشَّفْرَةَ فَضَرَبَهُ
____________________

(5/60)


بِالدِّرَّةِ فَهَرَبَ الرَّجُلُ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تَعْرِفُ الْآلَةَ الْجَارِحَةَ كما تَعْرِفُ الْمَهَالِكَ فَتَتَحَرَّزُ عنها فإذا أَحَدَّ الشَّفْرَةَ وقد أَضْجَعَهَا يَزْدَادُ أَلَمُهَا وَهَذَا كُلُّهُ لَا تَحْرُمُ بِهِ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّ النَّهْيَ عن ذلك ليس لِمَعْنًى في الْمَنْهِيِّ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ من زِيَادَةِ أَلَمٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَكَانَ النَّهْيُ عنه لِمَعْنًى في غَيْرِ الْمَنْهِيِّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ وَالِاصْطِيَادِ بِقَوْسٍ مَغْصُوبٍ وَنَحْوِ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَحْرُمُ أَكْلُهُ من أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ فَاَلَّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ منه سَبْعَةٌ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَالذَّكَرُ والأنثييان ( ( ( والأنثيان ) ) ) وَالْقُبُلُ وَالْغُدَّةُ وَالْمَثَانَةُ وَالْمَرَارَةُ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَيُحِلُّ لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ } وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ السَّبْعَةُ مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً
وَرُوِيَ عن مُجَاهِدٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كَرِهَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من الشَّاةِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْقُبُلَ وَالْغُدَّةَ وَالْمَرَارَةَ وَالْمَثَانَةَ وَالدَّمَ فَالْمُرَادُ منه كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَمَعَ بين الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ الدَّمِ في الْكَرَاهَةِ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُحَرَّمٌ وَالْمَرْوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال الدَّمُ حَرَامٌ وَأَكْرَهُ السِّتَّةَ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَرَامِ على الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَسَمَّى ما سِوَاهُ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ ما ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَحُرْمَةُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ قد ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وهو النَّصُّ الْمُفَسَّرُ من الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } إلَى قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ } وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا على حُرْمَتِهِ فَأَمَّا حُرْمَةُ ما سِوَاهُ من الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فما ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ أو بِظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ أو الحديث لِذَلِكَ فَصَلَ بَيْنَهُمَا في الِاسْمِ فَسَمَّى ذلك حَرَامًا وَذَا مَكْرُوهًا وَاَللَّهُ عز اسْمُهُ أَعْلَمُ
كِتَابُ الِاصْطِيَادِ قد بَيَّنَّا في كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ ما يُؤْكَلُ من الْحَيَوَانَاتِ وما يَحْرُمُ أَكْلُهُ منها وما يُكْرَهُ وَالْآنَ نُبَيِّنُ في كِتَابِ الِاصْطِيَادِ ما يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ وما لَا يُبَاحُ وَمَنْ يُبَاحُ له الِاصْطِيَادُ وَمَنْ لَا يُبَاحُ له فَقَطْ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُبَاحُ اصْطِيَادُ ما في الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ وما لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ غير أَنَّ ما يَحِلُّ أَكْلُهُ يَكُونُ اصْطِيَادُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ وما لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ يَكُونُ اصْطِيَادُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَظْمِهِ أو لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِ إلَّا صَيْدَ الْحَرَمِ فإنه لَا يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ إلَّا الْمُؤْذِيَ منه لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } وَقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في صَيْدِ الْحَرَمِ في حَدِيثٍ فيه طُولٌ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَخَصَّ منه الْمُؤْذِيَاتِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَمْسٌ من الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَيُبَاحُ اصْطِيَادُ ما في الْبَحْرِ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ وَلَا يُبَاحُ اصْطِيَادُ ما في الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا } وَالْفَصْلُ بين صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَغَيْرِ ذلك من الْمَسَائِلِ بَيَّنَّاهُ في كِتَابِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ
كِتَابُ التَّضْحِيَةِ يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ هذا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ صِفَةِ التَّضْحِيَةِ وإنها ( ( ( أنها ) ) ) وَاجِبَةٌ أو لَا وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لو كانت وَاجِبَةً وَإِلَى بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَإِلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وَإِلَى بَيَانِ مَحَلِّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِلَى بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ قبل التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وما يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أو تَنْزِيهٍ
أَمَّا صِفَةُ التَّضْحِيَةِ فَالتَّضْحِيَةُ نَوْعَانِ وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ وَالْوَاجِبُ منها أَنْوَاعٌ منها ما يَجِبُ على الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ
وَمِنْهَا ما يَجِبُ على الْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ وَمِنْهَا ما يَجِبُ على الْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ
أَمَّا الذي يَجِبُ على الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَالْمَنْذُورُ بِهِ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ شَاةً أو بدنه أو هذه الشَّاةَ أو هذه الْبَدَنَةَ أو قال جَعَلْت هذه الشَّاةَ ضَحِيَّةً أو أُضْحِيَّةً وهو غَنِيٌّ أو فَقِيرٌ لِأَنَّ هذه قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ من جِنْسِهَا إيجَابٌ وهو هَدْيُ الْمُتْعَةِ والقرآن والاحصار وَفِدَاءُ إسْمَاعِيلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقِيلَ هذه الْقُرْبَةُ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ التي لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ من جِنْسِهَا إيجَابٌ من الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا وَالْوُجُوبُ بِسَبَبِ
____________________

(5/61)


النَّذْرِ يَسْتَوِي فيه الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَإِنْ كان الْوَاجِبُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ كَالنَّذْرِ بِالْحَجِّ أَنَّهُ يَصِحُّ من الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ جميعا
وَأَمَّا الذي يَجِبُ على الْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ فَالْمُشْتَرِي لِلْأُضْحِيَّةِ إذَا كان الْمُشْتَرِي فَقِيرًا بِأَنْ اشْتَرَى فَقِيرٌ شَاةً يَنْوِي أَنْ يُضَحِّيَ بها
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجِبُ وهو قَوْلُ الزَّعْفَرَانِيِّ من أَصْحَابِنَا وَإِنْ كان غَنِيًّا لَا يَجِبُ عليه بِالشِّرَاءِ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الْإِيجَابَ من الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي لَفْظًا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ وَالشِّرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةَ لَا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونُ إيجَابًا وَلِهَذَا لم ين ( ( ( يكن ) ) ) إيجَابًا من الْغَنِيِّ
وَلَنَا أَنَّ الشِّرَاءَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِمَّنْ لَا أُضْحِيَّةَ عليه يَجْرِي مَجْرَى الْإِيجَابِ وهو النَّذْرُ بِالتَّضْحِيَةِ عُرْفًا لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى لِلْأُضْحِيَّةِ مع فَقْرِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَحِّي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال جَعَلْت هذه الشَّاةَ أُضْحِيَّةً بِخِلَافِ الْغَنِيِّ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ عليه بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ شِرَاؤُهُ لِلْأُضْحِيَّةِ إيجَابًا بَلْ يَكُونُ قصد ( ( ( قصدا ) ) ) إلَى تَفْرِيغِ ما في ذِمَّتِهِ وَلَوْ كان في مِلْكِ إنْسَانٍ شَاةٌ فَنَوَى أَنْ يُضَحِّيَ بها أو اشْتَرَى شَاةً ولم يَنْوِ الْأُضْحِيَّةَ وَقْتَ الشِّرَاءِ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ ذلك أَنْ يُضَحِّيَ بها لَا يَجِبُ عليه سَوَاءٌ كان غَنِيًّا أو فَقِيرًا لِأَنَّ النِّيَّةَ لم تُقَارِنْ الشِّرَاءَ فَلَا تُعْتَبَرُ
وَأَمَّا الذي يَجِبُ على الْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ فما يَجِبُ من غَيْرِ نَذْرٍ وَلَا شِرَاءٍ لِلْأُضْحِيَّةِ بَلْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ وَإِحْيَاءً لِمِيرَاثِ الْخَلِيلِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حين أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عز اسْمُهُ بِذَبْحِ الْكَبْشِ في هذه الْأَيَّامِ فِدَاءً عن وَلَدِهِ وَمَطِيَّةً على الصِّرَاطِ وَمَغْفِرَةً لِلذُّنُوبِ وَتَكْفِيرًا لِلْخَطَايَا على ما نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها لَا تَجِبُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحُجَّةُ هذه الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ كُتِبَتْ على ولم تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ والوتر ( ( ( الوتر ) ) ) وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى وَرُوِيَ ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ وَذَكَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأُضْحِيَّةَ وَالسُّنَّةُ غَيْرُ الْوَاجِبِ في الْعُرْفِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَرُوِيَ عن أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قد يَرُوحُ على أَلْفُ شَاةٍ وَلَا أضحى بِوَاحِدَةٍ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ جَارِي أنها وَاجِبَةٌ وَلِأَنَّهَا لو كانت وَاجِبَةً لَكَانَ لَا فَرْقَ فيها بين الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ في الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ثُمَّ لَا تَجِبُ على الْمُسَافِرِ فَلَا تَجِبُ على الْمُقِيمِ
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْبُدْنَ بَعْدَهَا وَقِيلَ صَلِّ الصُّبْحَ بِجَمْعٍ وَانْحَرْ بِمِنًى وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَمَتَى وَجَبَ على النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجِبُ على الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْأُمَّةِ
فَإِنْ قِيلَ قد قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَانْحَرْ } أَيْ ضَعْ يَدَيْكَ على نَحْرِكَ في الصَّلَاةِ وَقِيل اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِكَ في الصَّلَاةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَمْلَ على الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ وَالْحَمْلُ على الثَّانِي حَمْلٌ على التَّكْرَارِ لِأَنَّ وَضْعَ الْيَدِ على النَّحْرِ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الصَّلَاةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ من شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ شَرْعًا بِدُونِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرًا بِهِ فَحَمْلُ قَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَانْحَرْ } عليه يَكُونُ تَكْرَارًا وَالْحَمْلُ على ما قُلْنَاهُ يَكُونُ حَمْلًا على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ فَكَانَ أَوْلَى
وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّضْحِيَةِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عن الْقَرِينَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في حَقِّ الْعَمَلِ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال على أَهْلِ كل بَيْتٍ في كل عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ
وعلى كَلِمَةُ إيجَابٍ ثُمَّ نُسِخَتْ الْعَتِيرَةُ فَثَبَتَتْ الْأَضْحَاةُ وروى عنه عليه السلام أَنَّهُ قال من لم يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ على تَرْكِ الْأُضْحِيَّةَ وَلَا وَعِيدَ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من ذَبَحَ قبل الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ وَمَنْ لم يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ أَمَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةَ وَإِعَادَتِهَا إذَا ذُبِحَتْ قبل الصَّلَاةِ وَكُلُّ ذلك دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةٌ وَالْوُجُوبُ هو الْقُرْبَةُ في الْقُرُبَاتِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ أن الْأُضْحِيَّةَ لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ عَلَيْنَا وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَفَرْقُ ما بين الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَفَرْقِ ما بين السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوْلُهُ هِيَ لكن ( ( ( لكم ) ) ) سُنَّةٌ أن ثَبَتَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ إذْ السُّنَّةُ تنبيء عن الطَّرِيقَةِ أو السِّيرَةِ وَكُلُّ ذلك لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ=

ج14. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587


وَأَمَّا حَدِيثُ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ لِعَدَمِ غِنَاهُمَا لَمَّا كان لَا يَفْضُلُ رِزْقُهُمَا الذي كان في بَيْتِ الْمَالِ عن كِفَايَتِهِمَا والغني شَرْطُ الْوُجُوبِ في هذا النَّوْعِ وَقَوْلُ أبي مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مع ما أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان عليه دَيْنٌ فَخَافَ على جَارِهِ لو ضَحَّى أَنْ يَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةَ مع قِيَامِ الدَّيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُجُوبِ الْفَرْضَ إذْ هو الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ فَخَافَ على جَارِهِ اعْتِقَادَ الْفَرْضِيَّةِ لو ضَحَّى فَصَانَ اعْتِقَادَهُ بِتَرْكِ الْأُضْحِيَّةَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو يُحْمَلُ على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُسَافِرِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ فيه ضَرُورَةً لَا تُوجَدُ في حَقِّ الْمُقِيمِ على ما نَذْكُرُ في بَيَانِ الشَّرَائِطِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ وَذَلِكَ في أَيَّامِ النَّحْرِ وهو مُوسِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاتَيْنِ عِنْدَنَا شَاةٌ لِأَجْلِ النَّذْرِ وَشَاةٌ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا إذَا عني بِهِ الأخبار عن الْوَاجِبِ عليه بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال لَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ هذه الصِّيغَةَ حَقِيقَتُهَا لِلْإِخْبَارِ فَيَكُونُ اخبارا عَمَّا وَجَبَ عليه إيجاب ( ( ( بإيجاب ) ) ) الشَّرْعِ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى
وَلَنَا أَنَّ هذه الصِّيغَةَ في عُرْفِ الشَّرْعِ جُعِلَتْ إنْشَاءً كَصِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الأخبار فَيُصَدَّقُ في حُكْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز شَأْنُهُ وَلَوْ قال ذلك قبل أَيَّامِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِشَاتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَحْتَمِلُ الأخبار عن الْوَاجِبِ إذْ لَا وُجُوبَ قبل الْوَقْتِ والأخبار عن الْوَاجِب وَلَا وَاجِبَ يَكُونُ كَذِبًا فَتَعَيَّنَ الْإِنْشَاءُ مُرَادًا بها
وَكَذَلِكَ لو قال ذلك وهو مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ في أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاتَيْنِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ وَقْتَ النَّذْرِ أُضْحِيَّةٌ وَاجِبَةٌ عليه فَلَا يَحْتَمِلُ الأخبار فَيُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وهو الْإِنْشَاءُ فَوَجَبَ عليه أُضْحِيَّةٌ بِنَذْرِهِ وَأُخْرَى بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لِوُجُودِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وهو الْغِنَى
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَأُضْحِيَّةُ الْمُسَافِرِ وَالْفَقِيرِ الذي لم يُوجَدْ منه النَّذْرُ بِالتَّضْحِيَةِ وَلَا الشِّرَاءُ لِلْأُضْحِيَّةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ
فَصْل وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَمَّا في النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَشَرَائِطُ أَهْلِيَّةِ النَّذْرِ وقد ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ النَّذْرِ
وَأَمَّا النَّوْعِ الثَّالِثِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ على الْكَافِرِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْقُرَبِ وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْإِسْلَامِ في جَمِيعِ الْوَقْتِ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ حتى لو كان كَافِرًا في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَسْلَمَ في آخِرِهِ تَجِبُ عليه لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَفْضُلُ عن أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَيَكْفِي في وُجُوبِهَا بَقَاءُ جُزْءٍ من الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَجِبُ على الْعَبْدِ وَإِنْ كان مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ أو مُكَاتَبًا لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِمِلْكِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عليه زَكَاةٌ وَلَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا من أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ بَلْ يكتفي بِالْحُرِّيَّةِ في آخِرِ جُزْءٍ من الْوَقْتِ حتى لو أُعْتِقَ في آخِرِ الْوَقْتِ وَمَلَكَ نِصَابًا تَجِبُ عليه الْأُضْحِيَّةُ لِمَا قُلْنَا في شَرْطِ الْإِسْلَامِ
وَمِنْهَا الْإِقَامَةُ فَلَا تَجِبُ على الْمُسَافِرِ لِأَنَّهَا لَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ وَلَا في كل زَمَانٍ بَلْ بِحَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَالْمُسَافِرُ لَا يَظْفَرُ بِهِ في كل مَكَان في وَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليه لَاحْتَاجَ إلَى حَمْلِهِ مع نَفْسِهِ وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى أو احْتَاجَ إلَى تَرْكِ السَّفَرِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ بَلْ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهَا فَكَانَ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَقْتًا لادائها فَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ شَيْءٌ لِلْحَالِ يُؤَدِّيهَا إذَا وَصَلَ إلَى الْمَالِ وَكَذَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ فَإِيجَابُهَا عليه لَا يُوقِعُهُ في الْحَرَجِ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالزَّكَاةِ وهو الصَّحِيحُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كانت تَتَوَقَّفُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ لَكِنَّهَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ فَلَا يَكُونُ في الْوُجُوبِ عليه حَرَجٌ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال وَلَا تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ على الْحَاجِّ وَأَرَادَ بِالْحَاجِّ الْمُسَافِرَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَتَجِبُ عليهم الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ حَجُّوا لِمَا روي نَافِعٌ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَخْلُفُ لِمَنْ لم يَحُجَّ من أَهْلِهِ أَثْمَانَ الضَّحَايَا لِيُضَحُّوا عنه تَطَوُّعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِيُضَحُّوا عن أَنْفُسِهِمْ لَا عنه فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مع الِاحْتِمَالِ وَلَا تُشْتَرَطُ الْإِقَامَةُ في جَمِيعِ الْوَقْتِ حتى لو كان مُسَافِرًا في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَقَامَ في آخِرِهِ تَجِبُ عليه لِمَا بَيَّنَّا في شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ
وَلَوْ كان مُقِيمًا في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ في آخِرِهِ لَا تَجِبُ عليه لِمَا ذَكَرْنَا هذا إذَا سَافَرَ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ أُضْحِيَّةً فَإِنْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ سَافَرَ ذَكَرَ في الْمُنْتَقَى أَنَّ له بَيْعَهَا وَلَا يضحى بها وَهَكَذَا
____________________

(5/63)


روى عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَبِيعُهَا من الْمَشَايِخِ من فَصَلَ بين الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فقال إنْ كان مُوسِرًا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ما أَوْجَبَ بهذا الشِّرَاءِ شيئا على نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ اسقاط الْوَاجِبِ عن نَفْسِهِ فإذا سَافَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ عليه فَكَانَ له أَنْ يَبِيعَهَا كما لو شَرَعَ في الْعِبَادَةِ على ظَنِّ أنها عليه ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها لَيْسَتْ عليه أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ كان مُعْسِرًا يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عليه وَلَا تَسْقُطَ عنه بِالسَّفَرِ لِأَنَّ هذا إيجَابٌ من الْفَقِيرِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِالسَّفَرِ كما لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَالْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ كَذَا هَهُنَا وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ قالوا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا الْغِنَى لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من وَجَدَ سَعَةً فَلْيُضَحِّ شَرَطَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّعَةَ وَهِيَ الْغِنَى وَلِأَنَّا أَوْجَبْنَاهَا بِمُطْلَقِ الْمَالِ
وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْوَاجِبُ جَمِيعَ مَالِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الغني وهو أَنْ يَكُونَ في مِلْكِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ أو عِشْرُونَ دِينَارًا أو شَيْءٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذلك سِوَى مَسْكَنِهِ وما يَتَأَثَّثُ بِهِ وَكِسْوَتِهِ وَخَادِمِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وما لَا يستغنى عنه وهو نِصَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وقد ذَكَرْنَاهُ وما يَتَّصِلُ بِهِ من الْمَسَائِلِ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ
وَلَوْ كان عليه دَيْنٌ بِحَيْثُ لو صَرَفَ إلَيْهِ بَعْضَ نِصَابِهِ لَا يَنْقُصُ نِصَابُهُ لَا تَجِبُ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةَ أَوْلَى لِأَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ وَالْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ وَالْفَرْضُ فَوْقَ الْوَاجِبِ وَكَذَا لو كان له مَالٌ غَائِبٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ في أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَقْتَ غَيْبَةِ الْمَالِ حتى تَحِلَّ له الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فانها تَجِبُ عليه لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُ الزَّكَاةِ وَهَذِهِ قُرْبَةٌ مُوَقَّتَةٌ فَيُعْتَبَرُ الْغِنَى في وَقْتِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا في جَمِيعِ الْوَقْتِ حتى لو كان فَقِيرًا في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَيْسَرَ في آخِرِهِ يَجِبُ عليه لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَزَكَّاهَا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ حَضَرَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ وَمَالُهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ لَا رِوَايَةَ فيه
وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ تَجِبُ عليه الْأُضْحِيَّةُ لِأَنَّ النِّصَابَ وَإِنْ انْتَقَصَ لَكِنَّهُ انْتَقَصَ بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ هِيَ قُرْبَةٌ فَيُجْعَلُ قَائِمًا تَقْدِيرًا حتى لو صَرَفَ خَمْسَةً منها إلَى النَّفَقَةِ لَا تَجِبُ لِانْعِدَامِ الصَّرْفِ إلَى جِهَةِ القرابة ( ( ( القربة ) ) ) فَكَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَا يَجِبُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُوسِرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَاعَتْ حتى انْتَقَصَ نِصَابُهُ وَصَارَ فَقِيرًا فَجَاءَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَلَيْسَ عليه أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً أُخْرَى لِأَنَّ النِّصَابَ نَاقِصٌ وَقْتَ الْوُجُوبِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ وهو الْغِنَى فَلَوْ أَنَّهُ وَجَدَهَا وهو مُعْسِرٌ وَذَلِكَ في أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَيْسَ عليه أَنْ يُضَحِّيَ بها لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَلَوْ ضَاعَتْ ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى وهو مُوسِرٌ فَضَحَّى بها ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى وهو مُعْسِرٌ لم يَكُنْ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ لِمَا قُلْنَا وَجَمِيعُ ما ذَكَرْنَا من الشُّرُوطِ يَسْتَوِي فيها الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَهُمَا
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلَيْسَا من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ هُمَا من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ حتى تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ في مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حتى لو ضَحَّى الْأَبُ أو الصَّبِيُّ من مَالِهِمَا لَا يُضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُضْمَنُ وهو على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ ذُكِرَتْ هُنَالِكَ
وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ من قال لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْأُضْحِيَّةَ أنها لَا تَجِبُ في مَالِهِمَا لِأَنَّ الْقُرْبَةَ في الْأُضْحِيَّةَ هِيَ إرَاقَةُ الدَّمِ وإنها إتْلَافٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى إتْلَافِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالتَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ تَطَوُّعٌ وَلَا يَجُوزُ ذلك في مَالِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرُ في الْعَادَةِ لَا يَقْدِرُ على أَنْ يَأْكُلَ جَمِيعَ اللَّحْمِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْوُجُوبِ رَأْسًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ وَتَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللَّحْمِ لِمَا قُلْنَا لَكِنْ يَأْكُلُ منها الصَّغِيرُ وَيَدَّخِرُ له قَدْرَ حَاجَتِهِ وَيَبْتَاعُ بِالْبَاقِي ما يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ كَابْتِيَاعِ الْبَالِغِ بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةَ ما يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ في الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ فَإِنْ كان مَجْنُونًا في أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان مُفِيقًا يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ
وَقِيلَ أن حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ كيف ما كان ومن بَلَغَ من الصِّغَارِ في أَيَّامِ النَّحْرِ وهو مُوسِرٌ يَجِبُ عليه بِإِجْمَاعٍ بين أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ من الْحُرِّ في آخِرِ الْوَقْتِ لَا في أَوَّلِهِ كما لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ وَحُرِّيَّتُهُ وَإِقَامَتُهُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَجِبُ على الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عن عَبْدِهِ وَلَا عن وَلَدِهِ الْكَبِيرِ في وُجُوبِهَا عليه من مَالِهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ رِوَايَتَانِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أنها تَجِبُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَفْعَلَ ذلك وَأَطْلَقَ
____________________

(5/64)


الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما يَدُلُّ على الْوُجُوبِ فإنه قال وَيَجِبُ على الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عن أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْؤُهُ فإذا وَجَبَ عليه أَنْ يُضَحِّيَ عن نَفْسِهِ فَكَذَا عن وَلَدِهِ وَلِهَذَا وَجَبَ عليه أَنْ يُؤَدِّيَ عنه صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَلِأَنَّ له على وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وِلَايَةً كَامِلَةً فَيَجِبُ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فإنه لَا وِلَايَةَ له عليه
وَجْهُ ظاهرة الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ على الْإِنْسَانِ شَيْءٌ على غَيْرِهِ خُصُوصًا في الْقُرُبَاتِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى } وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { لها ما كَسَبَتْ } وَلِهَذَا لم تَجِبْ عليه عن عَبْدِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ إلَّا أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ خُصَّتْ عن النُّصُوصِ فَبَقِيَتْ الْأُضْحِيَّةَ على عُمُومِهَا وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُنَاكَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عليه وقد وُجِدَ في الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ السَّبَبُ الرَّأْسَ هَهُنَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِدُونِهِ وَكَذَا لَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْعَبْدِ وَأَمَّا الْوُجُوبُ عليه من مَالِهِ لِوَلَدِ وَلَدِهِ إذَا كان أَبُوهُ مَيِّتًا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُضَحِّيَ عنه
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا على رِوَايَتَيْنِ كما قالوا في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وقد مَرَّ وَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَأَمَّا الْمِصْرُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ على الْمُقِيمِينَ في الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَيَّامُ النَّحْرِ فَلَا تَجِبُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ الموقتة لَا تَجِبُ قبل أَوْقَاتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ يَوْمُ الْأَضْحَى وهو الْيَوْمُ الْعَاشِرُ من ذِي الْحِجَّةِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ من الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ من الثَّانِي عَشَرَ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيَّامُ النَّحْرِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ الْعَاشِرُ من ذِي الْحِجَّةِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وسيدنا ( ( ( وابن ) ) ) عُمَرَ وَأَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذلك من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمْعِ فإذا طَلَعَ الْفَجْرُ من الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَدْ دخل وَقْتُ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ
ثُمَّ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ بَعْدَ ذلك شَرَائِطُ أُخَرُ نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شاءا ( ( ( شاء ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ وُجِدَتْ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا كما تَجِبُ الصَّلَاةُ بِدُخُولِ وَقْتِهَا ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ شَرَائِطُ جَوَازِ أَدَائِهَا جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها أنها تَجِبُ في وَقْتِهَا جوابا ( ( ( وجوبا ) ) ) مُوَسَّعًا وَمَعْنَاهُ أنها تَجِبُ في جُمْلَةِ الْوَقْتِ غير عَيْنٍ كوجود ( ( ( كوجوب ) ) ) الصَّلَاةِ في وَقْتِهَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ ضَحَّى من عليه الْوَاجِبُ كان مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ سَوَاءٌ كان في أَوَّلِ الْوَقْتِ أو وَسَطِهِ أو آخِرِهِ كَالصَّلَاةِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما وجوب ( ( ( وجب ) ) ) في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غير عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ الذي أَدَّى فيه الْوُجُوبَ أو آخِرِ الْوَقْتِ كما في الصَّلَاةِ وهو الصَّحِيحُ من الْأَقَاوِيلِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا لم يَكُنْ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ صَارَ أَهْلًا في آخِرِهِ بِأَنْ كان كَافِرًا أو عَبْدًا أو فَقِيرًا أو مسافر ( ( ( مسافرا ) ) ) في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَسْلَمَ أو أُعْتِقَ أو أَيْسَرَ أو أَقَامَ في آخِرِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه وَلَوْ كان أَهْلًا في أَوَّلِهِ ثُمَّ لم يَبْقَ أَهْلًا في آخِرِهِ بِأَنْ ارْتَدَّ أو أَعْسَرَ أو سَافَرَ في آخِرِهِ لَا يَجِبُ عليه
وَلَوْ ضَحَّى في أَوَّلِ الْوَقْتِ وهو فَقِيرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ في آخِر الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْأُضْحِيَّةَ عِنْدَنَا وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا ليس عليه الْإِعَادَةُ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَيْسَرَ في آخِرِ الْوَقْتِ تَعَيَّنَ آخِرَ الْوَقْتِ لِلْوُجُوبِ عليه وَتَبَيَّنَ أَنَّ ما أَدَّاهُ وهو فَقِيرٌ كان تَطَوُّعًا فَلَا يَنُوبُ عن الْوَاجِبِ
وما رُوِيَ عن الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ أنها نَفْلٌ مَانِعٌ من الْوُجُوبِ في آخِرِ الْوَقْتِ فَاسِدٌ عُرِفَ فَسَادُهُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَوْ كان ميسرا ( ( ( موسرا ) ) ) في جَمِيعِ الْوَقْتِ فلم يُضَحِّ حتى مضي الْوَقْتُ ثُمَّ صَارَ فَقِيرًا صَارَ قِيمَةُ شَاةٍ صَالِحَةٍ لِلْأُضْحِيَّةِ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ يَتَصَدَّقُ بها مَتَى وَجَدَهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قد تَأَكَّدَ عليه بِآخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَقْرِهِ بَعْدَ ذلك كَالْمُقِيمِ إذَا مَضَى عليه وَقْتُ الصَّلَاةِ ولم يُصَلِّ حتى سَافَرَ لَا يَسْقُطُ عنه شَطْرُ الصَّلَاةِ وَكَالْمَرْأَةِ إذَا مَضَى عليها وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ لَا يَسْقُطُ عنها فَرْضُ الْوَقْتِ حتى يَجِبَ عليها الْقَضَاءُ إذَا طَهُرَتْ من حَيْضِهَا كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ مَاتَ الْمُوسِرُ في أَيَّامِ النَّحْرِ قبل أَنْ يضحى سَقَطَتْ عنه الْأُضْحِيَّةُ وفي الْحَقِيقَةِ لم تَجِبْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ الْأَدَاءِ أو في آخِرِ الْوَقْتِ فإذا مَاتَ قبل الْأَدَاءِ مَاتَ قبل أَنْ تَجِبَ عليه كَمَنْ مَاتَ في وَقْتِ الصَّلَاةِ قبل أَنْ
____________________

(5/65)


يُصَلِّيَهَا أَنَّهُ مَاتَ وَلَا صَلَاةَ عليه كَذَا هَهُنَا
وَعَلَى هذا تُخْرِجُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوسِرَ إذَا وُلِدَ له وَلَدٌ في آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه أَنْ يَذْبَحَ عنه وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا أَنَّهُ كما يَجِبُ على الْإِنْسَانِ إذَا كان مُوسِرًا أَنْ يَذْبَحَ عن نَفْسِهِ يَجِبُ عليه أَنْ يَذْبَحَ عن وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ وُلِدَ وَقْتَ تَأَكُّدِ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ له وَلَدٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ من يَوْمِ الْفِطْرِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عليه صَدَقَةُ فِطْرِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ منه وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ وهو مُوسِرٌ ثُمَّ أنها مَاتَتْ أو سُرِقَتْ أو ضَلَّتْ في أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ في جُمْلَةِ الْوَقْتِ والمشتري لم يَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ وهو من أَهْلِ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ إلَّا إذَا كان عَيَّنَهَا بِالنَّذْرِ بِأَنْ قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ وهو مُوسِرٌ أو مُعْسِرٌ فَهَلَكَتْ أو ضَاعَتْ أَنَّهُ تَسْقُطُ عنه التَّضْحِيَةُ بِسَبَبِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ مُعَيَّنٌ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِهَلَاكِهِ كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ عِنْدَنَا غير أَنَّهُ إنْ كان النَّاذِرُ مُوسِرًا تَلْزَمُهُ شَاةٌ أُخْرَى بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا بِالنَّذْرِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَاشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَهَلَكَتْ في أَيَّامِ النَّحْرِ أو ضَاعَتْ سَقَطَتْ عنه وَلَيْسَ عليه شَيْءٌ آخَرُ لِمَا ذَكَرْنَا إن الشِّرَاءَ من الْفَقِيرِ لِلْأُضْحِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فإذا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ عنه وَلَيْسَ عليه شَيْءٌ آخَرُ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لِفَقْدِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وهو الْيَسَارُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُوسِرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَلَّتْ فَاشْتَرَى شَاةً أُخْرَى لِيُضَحِّيَ بها ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى في الْوَقْتِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا فَإِنْ ضَحَّى بِالْأُولَى أَجْزَأهُ وَلَا تَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِالْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عليه غَيْرُ ذلك سَوَاءٌ كانت قِيمَةُ الْأُولَى أَكْثَرَ من الثَّانِيَةِ أو أَقَلَّ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سَاقَتْ هَدْيًا فَضَاعَ فَاشْتَرَتْ مَكَانَهُ آخَرَ ثُمَّ وَجَدَتْ الْأَوَّلَ فَنَحَرَتْهُمَا ثُمَّ قالت الْأَوَّلُ كان يجزيء عَنِّي فَثَبَتَ الْجَوَاز بِقَوْلِهَا وَالْفَضِيلَةُ بِفِعْلِهَا رضي اللَّهُ عنها وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ في ذِمَّتِهِ ليس إلَّا بالتضحية ( ( ( التضحية ) ) ) بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ وقد ضَحَّى
وَإِنْ ضَحَّى بِالثَّانِيَةِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتْ عنه الْأُضْحِيَّةُ وَلَيْسَ عليه أَنْ يُضَحِّيَ بِالْأُولَى لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ بها لم تَجِبْ بِالشِّرَاءِ بَلْ كانت الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةً في ذِمَّتِهِ بِمُطْلَقِ الشَّاةِ فإذا ضَحَّى بِالثَّانِيَةِ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ بها بِخِلَافِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْأُضْحِيَّةِ إذَا ضَحَّى بِالثَّانِيَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِالْأُولَى أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ وَجَبَ عليه التَّضْحِيَةُ بِالْأُولَى أَيْضًا بِعَيْنِهَا فَلَا يَسْقُطُ بِالثَّانِيَةِ بِخِلَافِ الْمُوسِرِ فإنه لَا يَجِبُ عليه التَّضْحِيَةُ بِالشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ في ذِمَّتِهِ وقد أَدَّاهُ بِالثَّانِيَةِ فَلَا تَجِبُ عليه التَّضْحِيَةُ بِالْأُولَى
وَسَوَاءٌ كانت الثَّانِيَةُ مِثْلَ الْأُولَى في الْقِيمَةِ أو فَوْقَهَا أو دُونَهَا لِمَا قُلْنَا غير أنها إنْ كانت دُونَهَا في الْقِيمَةِ يَجِبُ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ ما بين الْقِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ له هذه الزِّيَادَةُ سَالِمَةً من الْأُضْحِيَّةَ فَصَارَ كَاللَّبَنِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ لم يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ ضَحَّى بِالْأُولَى أَيْضًا وهو في أَيَّامِ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتْ عنه الصَّدَقَةُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَجِب خَلَفًا عن فَوَاتِ شَيْءٍ من شَاةِ الْأُضْحِيَّةَ فإذا أَدَّى الْأَصْلَ في وَقْتِهِ سَقَطَ عنه الْخَلَفُ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه لَا تُجْزِيهِ التَّضْحِيَةُ إلَّا بِالْأُولَى لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ كَالْوَقْفِ وَلَوْ لم يَذْبَحْ الثَّانِيَةَ حتى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى ذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في الْأَضَاحِيّ أَنَّ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَفْضَلِهِمَا وَلَا يَذْبَحَ وَذَكَرَ فيها أَنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لم يَجِبْ عليه في آخِرِ الْوَقْتِ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ فإذا خَرَجَ الْوَقْتُ تَحَوَّلَ الْوَاجِبُ من الْإِرَاقَةِ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ وهو مُعْسِرٌ أو كان مُوسِرًا فَانْتَقَصَ نِصَابُهُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ ثُمَّ ضَلَّتْ فَلَا شَيْءَ عليه وَلَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ آخَرُ أَمَّا الْمُوسِرُ فَلِفَوَاتِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلِهَلَاكِ مَحَلِّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا حتى لو تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الشَّاةِ أو قِيمَتِهَا في الْوَقْتِ لَا يَجْزِيهِ عن الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ تَعَلَّقَ بِالْإِرَاقَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوُجُوبَ إذ تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ كما في الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فإن الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ من النِّصَابِ
وَلَوْ أَدَّى من مَالِ آخَرَ جَازَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ ليس جزأ من النِّصَابِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَلْ الْوَاجِبُ مُطْلَقُ الْمَالِ وقد أدى وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كان الْوَاجِبُ أَدَاءَ جُزْءٍ من النِّصَابِ لَكِنْ من حَيْثُ أنه مَالٌ لَا من حَيْثُ أنه جُزْءٌ من النِّصَابِ لِأَنَّ مَبْنَى وُجُوبِ
____________________

(5/66)


الزَّكَاةِ على التَّيْسِيرِ وَالتَّيْسِيرُ في الْوُجُوبِ من حَيْثُ أنه مَالٌ لَا من حَيْثُ أنه الْعَيْنُ وَالصُّورَةُ وَهَهُنَا الْوَاجِبُ في الْوَقْتِ إرَاقَةُ الدَّمِ شَرْعًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ الْوُجُوبُ على مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَبِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أنها تَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ قال النبي أَغْنُوهُمْ عن الْمَسْأَلَةِ في مِثْلِ هذا الْيَوْمِ وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بإداء الْقِيمَةِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أن تجزىء فيها النِّيَابَةُ فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُضَحِّيَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فتجزىء ( ( ( فتجزئ ) ) ) فيها النِّيَابَةُ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَلِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ على مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ بِنَفْسِهِ خُصُوصًا النِّسَاءَ فَلَوْ لم تَجُزْ الِاسْتِنَابَةُ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَسَوَاءٌ كان الْمَأْذُونُ مُسْلِمًا أو كِتَابِيًّا حتى لو أَمَرَ مُسْلِمٌ كِتَابِيًّا أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ يَجْزِيهِ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ من أَهْلِ الذَّكَاةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْقُرْبَةِ لِنَفْسِهِ فَتُكْرَهُ إنَابَتُهُ في إقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كان الأذن نَصًّا أو دَلَالَةً حتى لو اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَجَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ فَأَضْجَعَهَا وَشَدَّ قَوَائِمَهَا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَذَبَحَهَا من غَيْرِ أَمْرِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنْ يَضْمَنَ الذَّابِحُ قِيمَتَهَا وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال الشَّافِعِيُّ يَجْزِيهِ عن الْأُضْحِيَّةَ وَيَضْمَنُ الذَّابِحُ
أَمَّا الْكَلَامُ مع زُفَرَ فَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَجْزِي عن صَاحِبِهَا وَيَضْمَنُ الذَّابِحُ كما لو غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وهو وَجْهُ الشَّافِعِيِّ في وُجُوبِ الضَّمَانِ على الذَّابِحِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِلذَّبْحِ وَعَيَّنَهَا لِذَلِكَ فإذا ذَبَحَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ حَصَلَ غَرَضُهُ وَأَسْقَطَ عنه مُؤْنَةَ الذَّبْحِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رضي بِذَلِكَ فَكَانَ مؤذنا ( ( ( مأذونا ) ) ) فيه دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ وَيُجْزِيهِ عن الْأُضْحِيَّةَ كما لو أَذِنَ له بِذَلِكَ نَصًّا وَبِهِ تَبَيَّنَ وَهِيَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ عن الْأُضْحِيَّةَ وَيَضْمَنُ الذَّابِحُ لِأَنَّ كَوْنَ الذَّبْحِ مَأْذُونًا فيه يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ كما لو نَصَّ على الأذن وَكَمَا لو بَاعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا وَلَوْ لم يَرْضَ بِهِ وَأَرَادَ الضَّمَانَ يَقَعُ عن الْمُضَحِّي وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُضَحِّيَ ما وُكِّلَ بِشِرَائِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ مُوَكِّلِهِ ذَكَرَهُ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْإِمْلَاءِ فَإِنْ ضَحَّى جَازَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ أَعَانَهُ على ذلك فَوَجَدَ الْإِذْنَ منه دَلَالَةً إلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ يَضْمَنَهُ فَلَا يَجْزِي عنه
وَعَلَى هذا إذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ منها ( ( ( منهما ) ) ) أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ عن نَفْسِهِ أَنَّهُ يجزى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّتَهُ عنه اسْتِحْسَانًا وَيَأْخُذُهَا من الذَّابِحِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ رَاضِيًا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً فَيَقَعُ الذَّبْحُ عنه وَنِيَّةُ صَاحِبِهِ تَقَعُ لَغْوًا حتى لو تَشَاحَّا وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الضَّمَانَ تَقَعُ الْأُضْحِيَّةُ له وَجَازَتْ عنه لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ على ما نَذْكُرُهُ في الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَذَكَرَ هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ في نَوَادِرِهِ في رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا أُضْحِيَتَيْنِ فَذَبَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ غَلَطًا عن نَفْسِهِ وَأَكَلَهَا
قال يجزيء ( ( ( يجزي ) ) ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقَوْلِنَا وَيُحَلِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَإِنْ تَشَاحَّا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ شَاتِهِ فَإِنْ كان قد انْقَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ يَتَصَدَّقْ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ أَمَّا جَوَازُ إحْلَالِهِمَا فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطْعِمَهَا لِصَاحِبِهِ ابْتِدَاءً قبل الْأَكْلِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِأَنَّ من أَتْلَفَ لَحْمَ الْأُضْحِيَّةَ يَضْمَنُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تدل ( ( ( بدل ) ) ) عن اللَّحْمِ فَصَارَ كما لو بَاعَهُ قال وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عن الْبَقَرَةِ إذَا ذَبَحَهَا سَبْعَةٌ في الْأُضْحِيَّةَ أَيَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا جُزَافًا أو وَزْنًا قال بَلْ وَزْنًا قال قُلْت فَإِنْ اقْتَسَمُوهَا مُجَازَفَةً وَحَلَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قال أَكْرَهُ ذلك قال قُلْت فما تَقُولُ في رَجُلٍ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ فَرَجَحَ أَحَدُهُمَا فَحَلَّلَ صَاحِبُهُ الرُّجْحَانَ قال هذا جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا يُقْسَمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وهو الدِّرْهَمُ الصَّحِيحُ
أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ مُجَازَفَةً فَلِأَنَّ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَاللَّحْمُ من الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مُجَازَفَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ
وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ التَّحْلِيلِ فَلِأَنَّ الرِّبَوِيَّ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِالتَّحْلِيلِ وَلِأَنَّهُ في مَعْنَى الْهِبَةِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ بِخِلَافِ ما إذَا رَجَحَ الْوَزْنُ وَمِنْهَا أنها تُقْضَى إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا وَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أنها مَضْمُونَةٌ بِالْقَضَاءِ في الْجُمْلَةِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما تُقْضَى بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ وُجُوبَهَا في الْوَقْتِ أما لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ أو لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ أو لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ إنَّمَا تَجِبُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَانَ الْأَصْلُ فيها أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى الدَّوَامِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إلَّا
____________________

(5/67)


أَنَّ الْأَدَاءَ في السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ في جَمِيعِ السَّنَةِ تَيْسِيرًا على الْعِبَادِ فَضْلًا من اللَّهِ عز وجل وَرَحْمَةً كما أقيام ( ( ( أقيم ) ) ) صَوْمُ شَهْرٍ في السَّنَةِ مَقَامَ جَمِيعِ السَّنَةِ وَأُقِيمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَقَامَ الصَّلَاةِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فإذا لم يُؤَدِّ في الْوَقْتِ بَقِيَ الْوُجُوبُ في غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْمَعْنَى الذي له وَجَبَتْ في الْوَقْتِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ أنها لَا تُقْضَى بِالْإِرَاقَةِ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تُعْقَلُ قُرْبَةً وَإِنَّمَا جُعِلَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَاقْتَصَرَ كَوْنُهَا قُرْبَةً على الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ فَلَا تُقْضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ثُمَّ قَضَاؤُهَا قد يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً وقد يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ فَإِنْ كان أَوْجَبَ التَّضْحِيَةَ على نَفْسِهِ بِشَاةٍ بِعَيْنِهَا فلم يُضَحِّهَا حتى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ يَتَصَدَّقْ بِعَيْنِهَا حَيَّةً لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَمْوَالِ التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بها لَا بِالْإِتْلَافِ وهو الْإِرَاقَةُ إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ إلَى الْإِرَاقَةِ مُقَيَّدًا في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ حتى يَحِلَّ تَنَاوُلُ لَحْمِهِ لِلْمَالِكِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لِكَوْنِ الناس أَضْيَافَ اللَّهِ عز شَأْنُهُ في هذا الْوَقْتِ فإذا مَضَى الْوَقْتُ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وهو التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ سَوَاءٌ كان مُوسِرًا أو مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الْمُعْسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بها فلم يُضَحِّ حتى مَضَى الْوَقْتُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِلْأُضْحِيَّةِ من الْفَقِيرِ كَالنَّذْرِ بِالتَّضْحِيَةِ وَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال هذا الْجَوَابُ في الْمُعْسِرِ لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ من الْمُعْسِرِ تَتَعَيَّنُ لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَمَّا من الْمُوسِرِ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ له التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ أُخْرَى في الْوَقْتِ مع بَقَاءِ الْأُولَى وَتَسْقُطُ عنه الْأُضْحِيَّةُ وَالصَّحِيحُ أنها تَتَعَيَّنُ من الْمُوسِرِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا فإن مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ عَقِيبَ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَوْلُنَا
وَوَجْهُهُ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ قَارَنَتْ الْفِعْلَ وهو الشِّرَاءُ فَأَوْجَبَتْ تَعْيِينَ الْمُشْتَرِي لِلْأُضْحِيَّةِ إلَّا أَنَّ تَعْيِينَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِغَيْرِهَا كَتَعْيِينِ النِّصَابِ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ منه لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِ وَتَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ لَا يُزَاحِمُهُ غَيْرُهُ فإذا ضَحَّى بِغَيْرِهِ أو أَدَّى الزَّكَاةَ من غَيْرِ النِّصَابِ لم يَبْقَ الْأَوَّلُ مُتَعَيَّنًا فَكَانَتْ الشَّاةُ مُتَعَيَّنَةٌ لِلتَّضْحِيَةِ ما لم يُضَحِّ بِغَيْرِهَا كَالزَّكَاةِ وَإِنْ كان لم يُوجِبْ على نَفْسِهِ وَلَا اشْتَرَى وهو مُوسِرٌ حتى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ تَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ إذَا لم يُوجِبْ ولم يَشْتَرِ لم يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ لِلْأُضْحِيَّةِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عليه إرَاقَةُ دَمِ شَاةٍ فإذا مَضَى الْوَقْتُ قبل أَنْ يَذْبَحَ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا قُلْنَا انْتَقَلَ الْوَاجِبُ من الْإِرَاقَةِ وَالْعَيْنِ أَيْضًا لِعَدَمِ التَّعْيِينِ إلَى الْقِيمَةِ وهو قِيمَةُ شَاةٍ يَجُوزُ ذَبْحُهَا في الْأُضْحِيَّةَ
وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَسْقُطُ عنه التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ أو بِقِيمَتِهَا لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ ذلك دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ عنه لِفَقْرِهِ بَعْدَ ذلك وَلَوْ وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ فلم يَتَصَدَّقْ وَلَكِنْ ذَبَحَهَا يَتَصَدَّقُ وَيُجْزِيهِ ذلك إنْ لم يُنْقِصْهَا الذَّبْحُ وَإِنْ نَقَصَهَا يَتَصَدَّقْ بِاللَّحْمِ وَقِيمَةِ النُّقْصَانِ وَلَا يَحِلُّ له أَنْ يَأْكُلَ منها وَإِنْ أَكَلَ منها شيئا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بها لِمَا يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ
وَكَذَلِكَ لو أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بها لَا يَأْكُلُ منها إذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا أو في وَقْتِهَا فَهُوَ سَوَاءٌ
وَمَنْ وَجَبَتْ عليه الْأُضْحِيَّةُ فلم يُضَحِّ حتى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُتَصَدَّقَ عنه بِقِيمَةِ شَاةٍ من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى الْوَقْتُ فَقَدْ وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ شَاةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى تخليصه ( ( ( تخليص ) ) ) نَفْسِهِ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَالْوَصِيَّةُ طَرِيقُ التَّخْلِيصِ فَيَجِبُ عليه أَنْ يُوصِيَ كما في الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يضحي عنه ولم يُسَمِّ شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا غير ذلك ولم يُبَيِّنْ الثَّمَنَ أَيْضًا جَازَ وَيَقَعُ على الشَّاةِ بِخِلَافِ ما إذَا وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُضَحِّيَ عنه ولم يُسَمِّ شيئا وَلَا ثَمَنًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ من الْجَهَالَةِ شيئا لَا تَحْتَمِلُهُ الْوَكَالَةُ فإن الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُولِ وَلِلْمَجْهُولِ تَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَشْتَرِيَ له شَاةً بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَيُضَحِّيَ عنه إنْ مَاتَ فَمَاتَ وَثُلُثُهُ أَقَلُّ من ذلك فإنه يُضَحِّي عنه بِمَا يَبْلُغُ الثُّلُثَ على قِيَاسِ الْحَجِّ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عنه بِمِائَةٍ وَثُلُثُهُ أَقَلُّ من مِائَةٍ فإنه يَحُجُّ بِمِائَةٍ بِخِلَافِ الْعِتْقِ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عنه عَبْدٌ بِمِائَةٍ وَثُلُثُهُ أَقَلُّ أن عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ عنه بِمَا بَقِيَ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَالٍ مُقَدَّرٍ فِيمَا هو قُرْبَةٌ فَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا أَمْكَنَ كما في الْحَجِّ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَصْرِفَ الْوَصِيَّةِ في الْعِتْقِ هو الْعَبْدُ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وهو أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِائَةً فإذا اشْتَرَى بِأَقَلَّ
____________________

(5/68)


كان هذا غير ما أَوْصَى بِهِ فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةَ فإن الْمَصْرِفَ ثَمَّةَ هو اللَّهُ عز شَأْنُهُ فَسَوَاءٌ كان قِيمَةُ الشَّاةِ أَقَلَّ أو مِثْلَ ما أَوْصَى بِهِ يَكُون الْمَصْرِفُ وَاحِدًا وَالْمَقْصُودُ بِالْكُلِّ وَاحِدٌ وهو الْقُرْبَةُ وَذَلِكَ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنَّ وُجُوبَهَا نَسَخَ كُلَّ دَمٍ كان قَبْلَهَا من الْعَقِيقَةِ وَالرَّجَبِيَّةِ وَالْعَتِيرَةِ كَذَا حَكَى أبو بَكْرٍ الْكَيْسَانِيُّ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال قد كانت في الْجَاهِلِيَّةِ ذَبَائِحُ يَذْبَحُونَهَا
ومنها الْعَقِيقَةُ كانت في الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُونَ في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَنَسَخَهَا ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ فَمَنْ شَاءَ فَعَلَ وَمِنْ شَاءَ لم يَفْعَلْ
وَمِنْهَا شَاةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا في رَجَبٍ تدعي الرَّجَبِيَّةُ كان أَهْلُ الْبَيْتِ يَذْبَحُونَ الشَّاةَ فَيَأْكُلُونَ وَيَطْبُخُونَ وَيَطْعَمُونَ فَنَسَخَهَا ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ
وَمِنْهَا الْعَتِيرَةُ كان الرَّجُلُ إذَا وَلَدَتْ له النَّاقَةُ أو الشَّاةُ ذَبَحَ أَوَّلَ وَلَدٍ تَلِدُهُ فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا كُلُّهُ كان يُفْعَلُ في الْجَاهِلِيَّةِ فَنَسَخَهُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ وَقِيلَ في تَفْسِيرِ الْعَتِيرَةِ كان الرَّجُلُ من الْعَرَبِ إذَا نَذَرَ نَذْرًا أَنَّهُ إذَا كان كَذَا أو بَلَغَ شَاةَ كَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ من كل عشرة ( ( ( عشر ) ) ) منها كَذَا في رَجَبٍ وَالْعَقِيقَةُ الذَّبِيحَةُ التي تُذْبَحُ عن الْمَوْلُودِ يوم أُسْبُوعِهِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا انْتِسَاخَ هذه الدِّمَاءِ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ كان قَبْلَهُ وَنَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبْحٍ كان قَبْلَهَا وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ كان قَبْلَهُ
وَالظَّاهِرُ أنها قالت ذلك سَمَاعًا من رسول اللَّهِ لِأَنَّ انْتِسَاخَ الْحُكْمِ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ وَمِنْهُمْ من رَوَى هذا الحديث مَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كانت قَبْلَهَا وَكَذَا قال أَهْلُ التَّأْوِيلِ في قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بين يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لم تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } إنَّ ما أُمِرُوا بِهِ من تَقْدِيمِ على النَّجْوَى مع رسول اللَّهِ نُسِخَ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { وَآتُوا الزَّكَاةَ }
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْعَقِيقَةِ فَمَنْ شَاءَ فَعَلَ وَمَنْ شَاءَ لم يَفْعَلْ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ كَوْنَهُ سُنَّةً
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا يَعُقُّ عن الْغُلَامِ وَلَا عن الْجَارِيَةِ وَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ كانت فَضْلًا وَمَتَى نُسِخَ الْفَضْلُ لَا يَبْقَى إلَّا الْكَرَاهَةُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُمَا كَانَا من الْفَرَائِضِ لَا من الْفَضَائِلِ فإذا نُسِخَتْ مِنْهُمَا الْفَرْضِيَّةُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ بِهِمَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ عن الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَقَّ عن الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي اللَّهُ عنهما كَبْشًا كَبْشًا وَإِنَّا نَقُولُ أنها كانت ثُمَّ نُسِخَتْ بِدَمِ الْأُضْحِيَّةَ بِحَدِيثِ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةَ كُلَّ دَمٍ كان قَبْلَهَا وَالْعَقِيقَةُ كانت قَبْلَهَا كَالْعَتِيرَةِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه سُئِلَ عن الْعَقِيقَةِ فقال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْعُقُوقَ من شَاءَ فَلْيَعُقَّ عن الْغُلَامِ شَاتَيْنِ وَعَنْ الجارة ( ( ( الجارية ) ) ) شَاةً وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْعَقِيقَةِ سُنَّةً لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ الْعَقَّ بِالْمَشِيئَةِ وَهَذَا إمارة الْإِبَاحَةِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ على بَيَانِ جِنْسِ الْمَحَلِّ الذي يُقَامُ منه الْوَاجِبُ وَنَوْعِهِ وَجِنْسِهِ وَسِنِّهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ أَمَّا جِنْسُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ من الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ الْغَنَمِ أو الْإِبِلِ أو الْبَقَرِ وَيَدْخُلُ في كل جِنْسٍ نَوْعُهُ وَالذَّكَرُ والانثي منه وَالْخَصِيُّ وَالْفَحْلُ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ على ذلك وَالْمَعْزُ نَوْعٌ من الْغَنَمِ وَالْجَامُوسُ نَوْعٌ من الْبَقَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُضَمُّ ذلك إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ في بَابِ الزَّكَاةِ وَلَا يَجُوزُ في الْأَضَاحِيّ شَيْءٌ من الْوَحْشِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ لم يَرِدْ بِالْإِيجَابِ إلَّا في الْمُسْتَأْنَسِ فَإِنْ كان مُتَوَلِّدًا من الْوَحْشِيِّ والأنسي فَالْعِبْرَةُ بِالْأُمِّ فَإِنْ كانت أَهْلِيَّةً يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا حتى أن الْبَقَرَةَ الْأَهْلِيَّةَ إذَا نَزَا عليها ثَوْرٌ وَحْشِيٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فإنه يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِهِ
وَإِنْ كانت الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً وَالثَّوْرُ أَهْلِيًّا لم يَجُزْ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْوَلَدِ الْأُمُّ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عن الْأُمِّ وهو حَيَوَانٌ مُتَقَوِّمٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ وَلَيْسَ يَنْفَصِلُ من الْأَبِ إلَّا مَاءٌ مَهِينٌ لَا حَظْرَ له وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْأَبِ في بَنِي آدَمَ تَشْرِيفًا لِلْوَلَدِ وَصِيَانَةً له عن الضَّيَاعِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْأُمِّ
وَقِيلَ إذَا نَزَا ظَبْيٌ على شَاةٍ أَهْلِيَّةٍ فَإِنْ وَلَدَتْ شَاةً تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بها وَإِنْ وَلَدَتْ ظَبْيًا لَا تَجُوزُ وَقِيلَ إنْ وَلَدَتْ الرَّمَكَةُ من حِمَارٍ وَحْشِيٍّ حِمَارًا لَا يُؤْكَلُ وَإِنْ وَلَدَتْ فَرَسًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْفَرَسِ وَإِنْ ضَحَّى بِظَبْيَةٍ وَحْشِيَّةٍ أُلِّفَتْ أو بِبَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ أُلِّفَتْ لم يَجُزْ لِأَنَّهَا
____________________

(5/69)


وَحْشِيَّةٌ في الْأَصْلِ وَالْجَوْهَرِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِعَارِضٍ نَادِرٍ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا سِنُّهُ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ من الْأُضْحِيَّةَ إلَّا الثَّنِيَّ من كل جِنْسٍ إلَّا الْجَذَعَ من الضَّأْنِ خَاصَّةً إذَا كان عَظِيمًا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يَعِزَّ على أَحَدِكُمْ فَيَذْبَحَ الْجَذَعَ في الضَّأْنِ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال يُجْزِي الْجَذَعُ من الضَّأْنِ عَمَّا يُجْزِي فيه الثَّنِيُّ من الْمَعْزِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَشَمَّ قُتَارًا فقال ما هذا فَقَالُوا أُضْحِيَّةُ أبي بُرْدَةَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَجَاءَ أبو بُرْدَةَ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ خَيْرٌ من شَاتَيْ لَحْمٍ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عن أَحَدٍ بَعْدَكَ وروى عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال خَطَبَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يوم عِيدٍ فقال إنَّ أَوَّلَ نُسُكِكُمْ هذه الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ فَقَامَ إلَيْهِ خَالِي أبو بُرْدَةَ بن دينار ( ( ( نيار ) ) ) فقال يا رَسُولَ اللَّهِ كان يَوْمُنَا نَشْتَهِي فيه اللَّحْمَ فَعَجَّلْنَا فَذَبَحْنَا فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَبْدِلْهَا فقال يا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاعِزٌ جَذَعٌ فقال هِيَ لك وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ
وروى أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِغَنَمٍ جِذَاعٍ فلم تَنْفُقْ معه فذكر ذلك لِأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه فقال سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ من الضَّأْنِ وَرُوِيَ الْجَذَعُ السَّمِينُ من الضَّأْنِ فلما سمع الناس هذا الحديث انْتَهَبُوهَا أَيْ تَبَادَرُوا إلَى شِرَائِهَا وَتَخْصِيصُ هذه الْقُرْبَةِ بِسِنٍّ دُونَ سِنٍّ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ فَيُتَّبَعُ ذلك
وَأَمَّا مَعَانِي هذه الْأَسْمَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قالوا الْجَذَعُ من الْغَنَمِ ابن سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالثَّنِيُّ منه ابن سَنَةٍ وَالْجَذَعُ من الْبَقَرِ ابن سَنَةٍ وَالثَّنِيُّ بن سَنَتَيْنِ وَالْجَذَعُ من الْإِبِلِ ابن أَرْبَعِ سِنِينَ وَالثَّنِيُّ منها ابن خَمْسٍ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ في الثَّنِيِّ من الْإِبِلِ ما تَمَّ له أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَ في الْخَامِسَةِ وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ في الْأَضَاحِيّ الْجَذَعُ ابن ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ أو تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَالثَّنِيُّ من الشَّاةِ وَالْمَعْزِ ما تَمَّ له حَوْلٌ وَطَعَنَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمِنْ الْبَقَرِ ما تَمَّ له حَوْلَانِ وَطَعَنَ في السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَمِنْ الْإِبِلِ ما تَمَّ له خَمْسُ سِنِينَ وَطَعَنَ في السَّنَةِ السَّادِسَةِ وَتَقْدِيرُ هذه الْأَسْنَانِ بِمَا قُلْنَا لِمَنْعِ النُّقْصَانِ لَا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ حتى لو ضَحَّى بِأَقَلَّ من ذلك سِنًّا لَا يَجُوزُ وَلَوْ ضَحَّى بِأَكْثَرَ من ذلك يَجُوزُ وَيَكُونُ أَفْضَلَ وَلَا يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةَ حَمَلٌ وَلَا جَدْيٌ وَلَا عِجْلٌ وَلَا فَصِيلٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالْأَسْنَانِ التي ذكرنا ( ( ( ذكرناها ) ) ) وَهَذِهِ لَا تُسَمَّى بها وَأَمَّا قَدْرُهُ فَلَا يَجُوزُ الشَّاةُ وَالْمَعْزُ إلَّا عن وَاحِدٍ وَإِنْ كانت عَظِيمَةً سَمِينَةً تُسَاوِي شَاتَيْنِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يضحي بِهِمَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ في الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَنْ لَا يَجُوزَ فِيهِمَا الِاشْتِرَاكُ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ في هذا الْبَابِ إرَاقَةُ الدَّمِ وإنها لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ ذلك بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ في الْغَنَمِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عن نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَمَّنْ لَا يَذْبَحُ من أُمَّتِهِ فَكَيْفَ ضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عن أُمَّتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِأَجْلِ الثَّوَابِ وهو أَنَّهُ جَعَلَ ثَوَابَ تَضْحِيَتِهِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأُمَّتِهِ لَا للأجزاء وَسُقُوطِ التَّعَبُّدِ عَنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ بَعِيرٌ وَاحِدٌ وَلَا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ عن أَكْثَرَ من سَبْعَةٍ
وَيَجُوزُ ذلك عن سَبْعَةٍ أو أَقَلَّ من ذلك وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يجزىء ( ( ( يجزي ) ) ) ذلك عن أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ زَادُوا على سَبْعَةٍ وَلَا يُجْزِي عن أَهْلِ بَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ من سَبْعَةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبَدَنَةُ تُجْزِي عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِي عن سَبْعَةٍ
وَعَنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه قال نَحَرْنَا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ من غَيْرِ فَصْلٍ بين أَهْلِ بَيْتٍ وَبَيْتَيْنِ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا عن أَكْثَرَ من وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْبَةَ في الذَّبْحِ وَأَنَّهُ فِعْلُ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ عن سَبْعَةٍ مُطْلَقًا فَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ بِمَنْزِلَةِ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِسَبْعِ شِيَاهٍ عن سَبْعَةٍ سَوَاءٌ كَانُوا من أَهْلِ بَيْتٍ أو بَيْتَيْنِ فَكَذَا الْبَقَرَةُ
وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ فقال الْبَقَرَةُ لَا تَجُوزُ عن أَكْثَرَ من سَبْعَةٍ فَأَمَّا الْبَعِيرُ فإنه يَجُوزُ عن عَشَرَةٍ وَرَوَوْا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْبَدَنَةُ تُجْزِي عن عَشَرَةٍ وَنَوْعٌ من الْقِيَاسِ يُؤَيِّدُهُ وهو أَنَّ الْإِبِلَ أَكْثَرُ قِيمَةً من الْبَقَرِ وَلِهَذَا فُضِّلَتْ الْإِبِلُ على الْبَقَرِ
____________________

(5/70)


في بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ فَتَفْضُلُ في الْأُضْحِيَّةَ أَيْضًا
وَلَنَا أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا اخْتَلَفَتْ في الظَّاهِرِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ جَوَازَهُ عن سَبْعَةٍ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ وفي الزِّيَادَةِ اخْتِلَافٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ عليه أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ
وَأَمَّا ما ذَكَرُوا من الْقِيَاسِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ في هذا الْبَابِ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيمَا هو مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ ليس من الْفِقْهِ وَلَا شَكَّ في جَوَازِ بَدَنَةٍ أو بَقَرَةٍ عن أَقَلَّ من سَبْعَةٍ بِأَنْ اشتراك ( ( ( اشترك ) ) ) اثْنَانِ أو ثَلَاثَةٌ أو أَرْبَعَةٌ أو خَمْسَةٌ أو سِتَّةٌ في بَدَنَةٍ أو بَقَرَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ السُّبْعُ فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الانصباء في الْقَدْرِ أو اخْتَلَفَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ النِّصْفُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِآخَرَ السُّدُسُ بَعْدَ أَنْ لَا يَنْقُصَ عن السُّبْعِ
وَلَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ في خَمْسِ بَقَرَاتٍ أو في أَكْثَرَ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم في كل بَقَرَةٍ سُبُعَهَا وَلَوْ ضَحَّوْا بِبَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُمْ فَالْأَكْثَرُ أَوْلَى وَلَوْ اشْتَرَكَ ثَمَانِيَةٌ في سَبْعِ بَقَرَاتٍ لم يُجْزِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ بَيْنَهُمْ على ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم أَنْقَصُ من السُّبْعِ
وَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا عَشَرَةً أو أَكْثَرَ فَهُوَ على هذا وَلَوْ اشْتَرَكَ ثَمَانِيَةٌ في ثَمَانِيَةٍ من الْبَقَرِ فَضَحَّوْا بها لم تُجْزِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ على ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ وَكَذَلِكَ إذَا كان الْبَقَرُ أَكْثَرَ لم تُجْزِهِمْ وَلَا رِوَايَةَ في هذه الْفُصُولِ وَإِنَّمَا قِيلَ أنه لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَلَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ في سَبْعِ شِيَاهٍ بَيْنَهُمْ فَضَحَّوْا بها الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُجْزِئَهُمْ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ على سَبْعَةِ أَسْهُمٍ وفي الِاسْتِحْسَانِ بجزيهم ( ( ( يجزيهم ) ) ) وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى اثْنَانِ شَاتَيْنِ لِلتَّضْحِيَةِ فَضَحَّيَا بِهِمَا بِخِلَافِ عَبْدَيْنِ بين اثْنَيْنِ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَانِ فَأَعْتَقَاهُمَا عن كَفَّارَتَيْهِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ تَجْتَمِعُ في الشَّاتَيْنِ وَلَا تَجْتَمِعُ في الرَّقِيقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ في الشَّاةِ وَلَا يُجْبَرُ في الرَّقِيقِ أَلَا تَرَى أنها لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في الْأَوَّلِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ وَالْمَذْكُورُ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عن الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ وَسَنَذْكُرُهَا في بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَهِيَ التَّضْحِيَةُ فَهِيَ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعُمُّ ذَبْحَ كل حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ وَنَوْعٌ يَخُصُّ التَّضْحِيَةَ أَمَّا الذي يَعُمُّ ذَبْحَ كل حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَأَمَّا الذي يَخُصُّ التَّضْحِيَةَ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى من عليه التَّضْحِيَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى من عليه التَّضْحِيَةُ فَمِنْهَا نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ لَا تُجْزِي بِدُونِهَا لِأَنَّ الذَّبْحَ قد يَكُونُ لِلَّحْمِ وقد يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قربه بِدُونِ النِّيَّةِ
قال النبي لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ له وَالْمُرَادُ منه عَمَلٌ هو قربه وَلِلْقُرْبَةِ جِهَاتٌ من الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَغَيْرِهِ من الْمَحْظُورَاتِ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ
وقال النبي إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرىء ما نَوَى وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ ما نَوَى بِقَلْبِهِ كما في الصَّلَاةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عليها
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُشَارِكَ الْمُضَحِّيَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ من لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا فَإِنْ شَارَكَ لم يَجُزْ عن الْأُضْحِيَّةَ وَكَذَا هذا في سَائِرِ الْقُرَبِ سِوَى الْأُضْحِيَّةَ إذَا شَارَكَ الْمُتَقَرِّبَ من لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ لم يَجُزْ عن الْقُرْبَةِ كما في دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَغَيْرِ ذلك وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ حتى لو اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ في بَعِيرٍ أو بَقَرَةٍ كلهم يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ الْأُضْحِيَّةَ أو غَيْرَهَا من وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَّا وَاحِدٌ منهم يُرِيدُ اللَّحْمَ لَا يُجْزِي وَاحِدًا منهم من الْأُضْحِيَّةَ وَلَا من غَيْرِهَا من وُجُوهِ الْقُرَبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُجْزِي
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَصِيرُ قربه من كل وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لَا بنيها ( ( ( بنية ) ) ) صَاحِبِهِ فَعَدَمُ النِّيَّةِ من أَحَدِهِمْ لَا يَقْدَحُ في قُرْبَةِ الْبَاقِينَ
وَلَنَا أَنَّ الْقُرْبَةَ في إرَاقَةِ الدَّمِ وإنها لَا تَتَجَزَّأُ لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ فَإِنْ لم يَقَعْ قُرْبَةً من الْبَعْضِ لَا يَقَعُ قُرْبَةً من الْبَاقِينَ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَلَوْ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ الْأُضْحِيَّةَ أو غَيْرَهَا من الْقُرَبِ أَجْزَأَهُمْ سَوَاءٌ كانت الْقُرْبَةُ وَاجِبَةً أو تَطَوُّعًا أو وَجَبَتْ على الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ جِهَاتُ الْقُرْبَةِ أو اخْتَلَفَتْ بِأَنْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهُمْ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَبَعْضُهُمْ هدى الْإِحْصَارِ وَبَعْضُهُمْ كَفَّارَةَ شَيْءٍ أَصَابَهُ في إحْرَامِهِ وَبَعْضُهُمْ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَبَعْضُهُمْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال
____________________

(5/71)


زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اتَّفَقَتْ جِهَاتُ الْقُرْبَةِ بِأَنْ كان الْكُلُّ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْقِيَاسَ يَأْبَى الِاشْتِرَاكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ فِعْلٌ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عن جِهَةٍ وَبَعْضُهُ عن جِهَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ لَا بَعْضَ له إلَّا عِنْدَ الِاتِّحَادِ فَعِنْدَ الِاتِّحَادِ جُعِلَتْ الْجِهَاتُ كَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَا يُمْكِنُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فيه مَرْدُودًا إلَى الْقِيَاسِ
وَلَنَا أَنَّ الْجِهَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُورَةً فَهِيَ في الْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْكُلِّ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ عز شَأْنُهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ الْعَقِيقَةَ عن وَلَدٍ وُلِدَ له من قَبْلُ لِأَنَّ ذلك جِهَةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بِالشُّكْرِ على ما أَنْعَمَ عليه من الْوَلَدِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في نَوَادِرِ الضَّحَايَا ولم يذكر ما إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ الْوَلِيمَةَ وَهِيَ ضِيَافَةُ التَّزْوِيجِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَامُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ على نِعْمَةِ النِّكَاحِ وقد وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ فإذا قَصَدَ بها الشُّكْرَ أو إقَامَةَ السُّنَّةِ فَقَدْ أَرَادَ بها التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ عز شَأْنُهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال لو كان هذا من نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ وَهَكَذَا قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ كان أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذِمِّيًّا كِتَابِيًّا أو غير كِتَابِيٍّ وهو يُرِيدُ اللَّحْمَ أو أَرَادَ الْقُرْبَةَ في دِينِهِ لم يُجْزِهِمْ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْكَافِرَ تَتَحَقَّقُ منه الْقُرْبَةُ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَكَانَ مُرِيدًا لِلَّحْمِ وَالْمُسْلِمُ لو أَرَادَ اللَّحْمَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَالْكَافِرُ أَوْلَى وكذلك إذَا كان أَحَدُهُمْ عَبْدًا أو مُدَبَّرًا وَيُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ هذه الْقُرْبَةِ فَكَانَ نَصِيبُهُ لَحْمًا فَيَمْتَنِعُ الْجَوَازُ أَصْلًا وَإِنْ كان أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُضَحِّي عن مَيِّتٍ جَازَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ في بَدَنَةٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قبل الذَّبْحِ فَرَضِيَ وَرَثَتُهُ أَنْ يُذْبَحَ عن الْمَيِّتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمْ فَقَدْ سَقَطَ عنه الذَّبْحُ وَذَبْحُ الْوَارِثِ لَا يَقَعُ عنه إذْ الْأُضْحِيَّةُ عن الْمَيِّتِ لَا تَجُوزُ فَصَارَ نَصِيبُهُ اللَّحْمَ وَأَنَّهُ يُمْنَعُ من جَوَازِ ذَبْحِ الْبَاقِينَ من الْأُضْحِيَّةَ كما لو أَرَادَ أَحَدُهُمْ اللَّحْمَ في حَالِ حَيَاتِهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ عن الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَصَدَّقَ عنه وَيُحَجُّ عنه وقد صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا عن نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَمَّنْ لَا يَذْبَحُ من أُمَّتِهِ وَإِنْ كان منهم من قد مَاتَ قبل أَنْ يَذْبَحَ فَدَلَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَجُوزُ أَنْ يُتَقَرَّبَ عنه فإذا ذُبِحَ عنه صَارَ نَصِيبُهُ لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ ذَبْحِ الْبَاقِينَ
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بها ثُمَّ أَشْرَكَ فيها بَعْدَ ذلك قال هِشَامٌ سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال أَكْرَهُ ذلك وَيُجْزِيهِمْ أَنْ يَذْبَحُوهَا عَنْهُمْ قال وَكَذَلِكَ قَوْلُ أبي يُوسُفَ قال قُلْت لِأَبِي يُوسُفَ وَمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُشْرِكَ فيها قال لَا أَحْفَظُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيها شيئا وَلَكِنْ لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا
وقال في الْأَصْلِ قال أَرَأَيْت في رَجُلٍ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بها عن نَفْسِهِ فَأَشْرَكَ فيها بَعْدَ ذلك ولم يُشْرِكْهُمْ حتى اشْتَرَاهَا فَأَتَاهُ إنْسَانٌ بَعْدَ ذلك فَأَشْرَكَهُ حتى اسْتَكْمَلَ يَعْنِي أَنَّهُ صَارَ سَابِعَهُمْ هل يُجْزِي عَنْهُمْ قال نعم اُسْتُحْسِنَ وَإِنْ فَعَلَ ذلك قبل أَنْ يَشْتَرِيَهَا كان أَحْسَنَ وَهَذَا مَحْمُولٌ على الغنى إذَا اشْتَرَى بَقَرَةً لِأُضْحِيَّتِهِ لِأَنَّهَا لم تَتَعَيَّنْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بها وَإِنَّمَا يُقِيمُهَا عِنْدَ الذَّبْحِ مَقَامَ ما يَجِبُ عليه أو وَاجِبٌ عليه فَيَخْرُجُ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ فِيمَا يُقِيمُهُ فيه فَيَجُوزُ اشْتِرَاكُهُمْ وفيها ( ( ( فيها ) ) ) وَذَبْحُهُمْ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِيُضَحِّيَ بها فَقَدْ وَعَدَ وَعْدًا فَيُكْرَهُ أَنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ
فَأَمَّا إذَا كان فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يُشْرِكَ فيها لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا على نَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ فَلَا يَسْقُطُ عنه ما أَوْجَبَهُ على نَفْسِهِ
وقد قالوا في مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ إذَا أَشْرَكَ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ لم يذكر ذلك مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَفَعَ إلَى حَكِيمِ بن حِزَامٍ دِينَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاةً فَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ إلَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ فقال له عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَارَكَ اللَّهُ في صَفْقَةِ يَمِينِكَ وَأَمَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يضحي بِالشَّاةِ وَيُتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ لِمَا أَنَّهُ قَصَدَ إخْرَاجَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ كَذَا هَهُنَا
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ مُقَارِنَةً لِلتَّضْحِيَةِ كما في بَابِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ في الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقِرَانِ إلَّا لِضَرُورَةٍ كما في بَابِ الصَّوْمِ لِتَعَذُّرِ قِرَانِ النِّيَّةِ لِوَقْتِ الشُّرُوعِ لِمَا فيه من الْحَرَجِ
وَمِنْهَا إذْنُ صَاحِبِ
____________________

(5/72)


الْأُضْحِيَّةَ بِالذَّبْحِ إمَّا نَصًّا أو دَلَالَةً إذَا كان الذَّابِحُ غَيْرَهُ فَإِنْ لم يُوجَدْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِلِ وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ فإذا لم يُوجَدْ لَا يَقَعُ له
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا غَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بها عن صَاحِبِهَا من غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَضْجَعَهَا وَشَدَّ قَوَائِمَهَا في أَيَّامِ النَّحْرِ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَذَبَحَهَا جَازَ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ منه دَلَالَةً لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَهُوَ أنها لَا تَجُوزُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْوَقْتَ كما هو شَرْطُ الْوُجُوبِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ لأخذ ( ( ( لأحد ) ) ) أَنْ يُضَحِّيَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي من الْيَوْمِ الْأَوَّلِ من أَيَّامِ النَّحْرِ وَيَجُوزُ بَعْدَ طُلُوعِهِ وسواء ( ( ( سواء ) ) ) كان من أَهْلِ الْمِصْرِ أو من أَهْلِ الْقُرَى غير أَنَّ لِلْجَوَازِ في حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ شَرْطًا زَائِدًا وهو أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عليه عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا مَضَى من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما صلى فيه رسول اللَّهِ صَلَاةَ الْعِيدِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ لم يُصَلِّ الْإِمَامُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من ذَبَحَ قبل الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَوَّلُ نُسُكِنَا في يَوْمِنَا هذا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ
وروى عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في حديث الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي اللَّهُ عنه من كان مِنْكُمْ ذَبَحَ قبل الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هِيَ غُدْوَةٌ أَطْعَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ
فَقَدْ رَتَّبَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّبْحَ على الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ فَلَا يَثْبُتُ التَّرْتِيبُ في حَقِّهِمْ وَإِنْ أَخَّرَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ حتى يَتَنَصَّفَ النَّهَارُ فَإِنْ اشْتَغَلَ الْإِمَامُ فلم يُصَلِّ الْعِيدَ أو تَرَكَ ذلك مُتَعَمِّدًا حتى زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ في الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ في الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ في الْأَدَاءِ لَا في الْقَضَاءِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِنْ كان يُصَلِّي في الْمِصْرِ في مَوْضِعَيْنِ بِأَنْ كان الْإِمَامُ قد خَلَّفَ من يُصَلِّي بِضَعَفَةِ الناس في الْجَامِعِ وَخَرَجَ هو بِالْآخَرِينَ إلَى الْمُصَلَّى وهو الْجَبَّانَةُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا صلى أَهْلُ أَحَدِ المسجد ( ( ( المسجدين ) ) ) أَيُّهُمَا كان جَازَ ذَبْحُ الْأَضَاحِيّ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا صلى أَهْلُ أحد ( ( ( المسجد ) ) ) المسجدين فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَمَّا كانت شَرْطًا لِجَوَازِ الْأُضْحِيَّةَ في حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ فَاعْتِبَارُ صَلَاةِ أَهْلِ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ وَاعْتِبَارُ صَلَاةِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ بَلْ يُحْكَمُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ احْتِيَاطًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْطَ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالصَّلَاةُ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ تُجْزِي عن صَلَاةِ الْعِيدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لو اقْتَصَرُوا عليها جَازَ وَيَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَجَازَ وَكَذَا في الحديث الذي رَوَيْنَا تَرْتِيبُ الذَّبْحِ على الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وقد وُجِدَتْ وَلَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ قبل أَهْلِ الْمَسْجِدِ ولم يُذْكَرْ هذا في الْأَصْلِ وَقِيلَ لَا رِوَايَةَ في هذا
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ فيه قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كما إذَا صلى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ منهم من قال يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا جَائِزًا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْأَصْلَ في صَلَاةِ الْعِيدِ صَلَاةُ من في الْجَبَّانَةِ وَإِنَّمَا يُصَلِّي من يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ لِعُذْرٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَمِنْهُمْ من أَثْبَتَ فيه الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ كما في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَوَجْهُهَا ما ذَكَرْنَا
وَمِنْهُمْ من قال لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِصَلَاةِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ حتى يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ في الْمَسْجِدِ هِيَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ إلَى الْجَبَّانَةِ لِضَرُورَةِ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَتَّسِعُ لهم فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ
وَلَوْ ذَبَحَ وَالْإِمَامُ في خِلَالِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا إذَا ضَحَّى قبل أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَوْ ذَبَحَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قبل السَّلَامِ قالوا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ كما لو كان في خِلَالِ الصَّلَاةِ
وَعَلَى قيام ( ( ( قياس ) ) ) قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ خُرُوجَ الْمُصَلِّي من الصَّلَاةِ بِصِفَةٍ فَرْضٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا ليس بِفَرْضٍ وَلَوْ ضَحَّى قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ من الْخُطْبَةِ أو قبل الْخُطْبَةِ جَازَ لِأَنَّ النبي رَتَّبَ الذَّبْحَ على الصَّلَاةِ لَا على الْخُطْبَةِ فِيمَا رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْخُطْبَةِ وَلَوْ صلى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَذَبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعِيدَ
____________________

(5/73)


الصَّلَاةَ من الْغَدِ وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعِيدَ الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْأُضْحِيَّةَ وَقَعَتَا قبل الْوَقْتِ فلم يَجُزْ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ كان على غَيْرِ وُضُوءٍ فَإِنْ عُلِمَ ذلك قبل أَنْ يَتَفَرَّقَ الناس يُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَهَلْ يَجُوزُ ما ضَحَّى قبل الْإِعَادَةِ
ذُكِرَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بَعْدَ صَلَاةٍ يُجِيزُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وهو الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عِنْدَهُ فَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً عِنْدَهُ فَعَلَى هذا يُعِيدُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ وَلَا يُعِيدُ الْقَوْمُ وَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا
وَذُكِرَ في اخْتِلَافِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ وَلَا يَجُوزُ ما ضَحَّى قبل إعَادَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ تَفَرَّقَ الناس عن الْإِمَامِ ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ ذلك فَقَدْ ذَكَرَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُعَادُ وقد جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عن الْمُضَحِّي لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قد جَازَتْ في قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَتَرْكُ إعَادَتِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِ الناس أَحْسَنُ من أَنْ يُنَادِيَ الناس أَنْ يَجْتَمِعُوا ثَانِيًا وهو أَيْسَرُ من أَنَّهُ تَبْطُلُ أَضَاحِيهِمْ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُعَادُ الْأُضْحِيَّةُ وَلَا تُعَادُ بِهِمْ الصَّلَاةُ لِأَنَّ إعَادَةَ الْأُضْحِيَّةَ أَيْسَرُ من إعَادَةِ الصَّلَاةِ وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ يُنَادِي بِهِمْ حتى يَجْتَمِعُوا وَيُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ
قال الْبَلْخِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلَى هذا الْقِيَاسِ لَا تُجْزِي ذَبِيحَةُ من ذَبَحَ قبل إعَادَةِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ قد زَالَتْ فَتُجْزِي ذَبِيحَةُ من ذَبَحَ في قَوْلِهِمْ جميعا وَسَقَطَتْ عَنْهُمْ الصَّلَاةُ وَلَوْ شَهِدَ نَاسٌ عِنْدَ الْإِمَامِ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ وبعد ما زَالَتْ الشَّمْسُ إن ذلك الْيَوْمَ هو الْعَاشِرُ من ذِي الْحِجَّةِ جَازَ لهم أَنْ يُضَحُّوا وَيَخْرُجُ الْإِمَامُ من الْغَدِ فَيُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ
وَإِنْ عُلِمَ في صَدْرِ النَّهَارِ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ فَشُغِلَ الْإِمَامُ عن الْخُرُوجِ أو غَفَلَ فلم يَخْرُجْ ولم يَأْمُرْ أَحَدًا يُصَلِّي بِهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُضَحِّيَ حين يُصَلِّي الْإِمَامُ إلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ فإذا زَالَتْ قبل أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ ضَحَّى الناس وَإِنْ ضَحَّى أَحَدٌ قبل ذلك لم يَجُزْ
وَلَوْ صلى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَذَبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّ يوم الْعِيدِ كان بِالْأَمْسِ جَازَتْ الصَّلَاةُ وَجَازَ لِلرَّجُلِ أُضْحِيَّتُهُ وَلَوْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ في مِصْرٍ ولم يَكُنْ لها إمَامٌ من قِبَلِ السُّلْطَانِ يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فَالْقِيَاسُ في ذلك أَنْ يَكُونَ وَقْتُ النَّحْرِ في ذلك الْمِصْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يوم النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى التي لَا يصلي فيها وَلَكِنْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ نَحْرِهِمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ من يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لو كان حَاضِرًا كان عليهم أَنْ يُصَلُّوا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ أَدَاؤُهَا الْعَارِضُ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْأَصْلِ كما لو كان الْإِمَامُ حَاضِرًا فلم يُصَلِّ لِعَارِضِ أَسْبَابٍ من مَرَضٍ أو غَيْرِ ذلك وَهُنَاكَ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ كَذَا هَهُنَا وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ من يَوْمِ عَرَفَةَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ذلك الْيَوْمَ كان يوم النَّحْرِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الذَّبْحَ حَصَلَ في وَقْتِهِ فَيُجْزِيهِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان من عليه الْأُضْحِيَّةُ في الْمِصْرِ وَالشَّاةُ في الْمِصْرِ فَإِنْ كان هو في الْمِصْرِ وَالشَّاةُ في الرُّسْتَاقِ أو في مَوْضِعٍ لَا يصلي فيه وقد كان أَمَرَ أَنْ يُضَحُّوا عنه فَضَحَّوْا بها بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُجْزِيهِ وَعَلَى عَكْسِهِ لو كان هو في الرُّسْتَاقِ وَالشَّاةُ في الْمِصْرِ وقد أَمَرَ من يُضَحِّي عنه فَضَحَّوْا بها قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا لَا تجيزه ( ( ( تجزيه ) ) ) وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ في هذا مَكَانُ الشَّاةِ لَا مَكَانُ من عليه هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عليه الرَّحْمَةُ في النَّوَادِرِ وقال إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى مَحَلِّ الذَّبْحِ وَلَا أَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ المذبوع ( ( ( المذبوح ) ) ) عنه وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الذي يَكُونُ فيه الذَّبْحُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الذي يَكُونُ فيه الْمَذْبُوحُ عنه وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ هو الْقُرْبَةُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ فِعْلِهَا لَا مَكَانُ الْمَفْعُولِ عنه وَإِنْ كان الرَّجُلُ في مِصْرٍ وَأَهْلُهُ في مِصْرٍ آخَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عنه رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ مَكَانَ الذَّبِيحَةِ فقال يَنْبَغِي لهم أَنْ لَا يُضَحُّوا عنه حتى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الذي فيه أَهْلُهُ وَإِنْ ضَحَّوْا عنه قبل أَنْ يُصَلِّيَ لم يُجْزِهِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ انْتَظَرْتُ الصَّلَاتَيْنِ جميعا وَإِنْ شَكُّوا في وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ انْتَظَرْتُ بِهِ الزَّوَالَ فَعِنْدَهُ لَا يَذْبَحُونَ عنه حتى يُصَلُّوا في الْمِصْرَيْنِ جميعا وَإِنْ وَقَعَ لهم الشَّكُّ في وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ لم يَذْبَحُوا حتى تَزُولَ الشَّمْسُ فإن ( ( ( فإذا ) ) ) زَالَتْ ذَبَحُوا عنه
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ فِيمَا قُلْنَا اعْتِبَارَ الْحَالَيْنِ حَالَ الذَّبْحِ وَحَالَ الْمَذْبُوحِ عنه فَكَانَ أَوْلَى وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقُرْبَةَ في الذَّبْحِ وَالْقُرُبَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ يُعْتَبَرُ وَقْتُهَا في حَقِّ فَاعِلِهَا لَا في حَقِّ الْمَفْعُولِ عنه وَيَجُوزُ الذَّبْحُ في أَيَّامِ النَّحْرِ نهارها ( ( ( نهرها ) ) ) وَلَيَالِيهَا وَهُمَا لَيْلَتَانِ لَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّانِي وَهِيَ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَلَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي
____________________

(5/74)


عَشَرَ وَلَا يَدْخُلُ فيها لَيْلَةُ الْأَضْحَى وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ من ذِي الْحِجَّةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ وَذِكْرُ الْأَيَّامِ يَكُونُ ذِكْرَ اللَّيَالِي لُغَةً قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ في موضع ( ( ( قصة ) ) ) آخر ( ( ( زكريا ) ) ) { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } وقال عز شَأْنُهُ في قصة ( ( ( موضع ) ) ) زكريا ( ( ( آخر ) ) ) عليه الصلاة والسلام { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّهُ لم يَدْخُلْ فيها لليلة ( ( ( الليلة ) ) ) الْعَاشِرَةُ من ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَتْبَعَهَا النَّهَارُ الْمَاضِي وهو يَوْمُ عَرَفَةَ بِدَلِيلِ أَنَّ من أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ كما لو أَدْرَكَ النَّهَارَ وهو يَوْمُ عَرَفَةَ فإذا جُعِلَتْ تَابِعَةً لِلنَّهَارِ الْمَاضِي لَا تَتْبَعُ النَّهَارَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَا تَدْخُلُ في وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَتَدْخُلُ اللَّيْلَتَانِ بَعْدَهَا غير أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِاللَّيْلِ لَا لِأَنَّهُ ليس بِوَقْتِ لِلتَّضْحِيَةِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا سَلَامَةُ الْمَحَلِّ عن الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ فَلَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَهِيَ التي لَا تَقْدِرُ تَمْشِي بِرِجْلِهَا إلَى الْمَنْسَكِ وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ التي لَا تُنْقِي وَهِيَ الْمَهْزُولَةُ التي لَا نِقْيَ لها وهو الْمُخُّ وَمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاَلَّتِي لَا أُذُنَ لها في الْخِلْقَةِ
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عن ذلك فقال أَيَكُونُ ذلك فَإِنْ كان لَا يُجْزِي وَيُجْزِي السَّكَّاءُ وَهِيَ صَغِيرَةُ الْأُذُنِ وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعَةُ إحْدَى الإذنين بِكَمَالِهَا وَاَلَّتِي لها أُذُنٌ وَاحِدَةٌ خِلْقَةً
وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ هذه الشُّرُوطِ ما روى عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يقول لَا تُجْزِي من الضَّحَايَا أَرْبَعٌ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ التي لَا تُنْقِي
وروى عن النبي أَنَّهُ قال اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهُمَا عن الْآفَاتِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى أَنْ يضحي بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ وَلَوْ ذَهَبَ بَعْضُ هذه الْأَعْضَاءِ دُونَ بَعْضٍ من الْأُذُنِ والآلية وَالذَّنَبِ وَالْعَيْنِ
ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُنْظَرُ فَإِنْ كان الذَّاهِبُ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ وَإِنْ كان يَسِيرًا لَا يُمْنَعُ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه إذْ الْحَيَوَانُ لَا يَخْلُو عنه عَادَةً فَلَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَضَاقَ الْأَمْرُ على الناس وَوَقَعُوا في الْحَرَجِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عنه في الْأَصْلِ وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ إنْ كان ذَهَبَ الثُّلُثُ أو أَقَلُّ جَازَ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ وَرَوَى أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كان ذَهَبَ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان أَقَلَّ من ذلك جَازَ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال قَوْلِي مِثْلُ قَوْلِك
وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان الْبَاقِي أَكْثَرَ من الذَّاهِبِ يَجُوزُ
وَإِنْ كان أَقَلَّ منه أو مثله لَا يَجُوزُ
وَرَوَى أبو عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ الرُّبُعُ لم يُجْزِهِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في رِوَايَتِهِ عنه في الْأَصْلِ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ مع قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو إحْدَى الرِّوَايَاتِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ فما كان مُضَافُهُ أَقَلَّ منه يَكُونُ كَثِيرًا وما كان أَكْثَرَ منه يَكُونُ قَلِيلًا إلَّا أَنَّهُ قد قال بِعَدَمِ الْجَوَازِ إذَا كَانَا سَوَاءً احْتِيَاطًا لِاجْتِمَاعِ جِهَةِ الْجَوَازِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقَاءَ الْأَكْثَرِ لِلْجَوَازِ ولم يُوجَدْ
وروى عن النبي أَنَّهُ نهى عن الْعَضْبَاءِ وقال ( ( ( قال ) ) ) سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ الْعَضْبَاءُ التي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا فَقَدْ اعْتَبَرَ النبي الْأَكْثَرَ وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ كَثِيرًا فَلِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْكَثِيرِ في كَثِيرٍ من الْمَوَاضِعِ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْحَلْقِ في حَقِّ الْمُحْرِمِ فَفِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى
وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ كَثِيرًا فَلِقَوْلِ النبي في بَابِ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ الثلث كَثِيرٌ جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثُّلُثَ كَثِيرًا مُطْلَقًا وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ قَلِيلًا فَاعْتِبَارُهُ بِالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ ولم يُجَوِّزْ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ فَدَلَّ أَنَّهُ إذَا لم يَزِدْ على الثُّلُثِ لَا يَكُونُ كَثِيرًا وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ التي لَا أَسْنَانَ لها فَإِنْ كانت تَرْعَى وَتَعْتَلِفُ جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كان لَا يَمْنَعُهَا عن الِاعْتِلَافِ تُجْزِيهِ وَإِنْ كان يَمْنَعُهَا عن الِاعْتِلَافِ إلَّا أَنْ يَصُبَّ في جَوْفِهَا صَبًّا لم تُجْزِهِ وقال أبو يُوسُفَ في قَوْلٍ لَا تُجْزِي سَوَاءٌ اعْتَلَفَتْ أو لم تَعْتَلِفْ وفي قَوْلٍ إنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَسْنَانِهَا لَا تُجْزِي كما قال في الْأُذُنِ والإلية وَالذَّنَبِ وفي قَوْلٍ إنْ بَقِيَ من أَسْنَانِهَا قَدْرُ ما تَعْتَلِفُ تُجْزِي وَإِلَّا فَلَا وَتَجُوزُ الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ إلَّا إذَا كان ذلك يَمْنَعُهَا عن الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ فَلَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى
____________________

(5/75)


هَلَاكِهَا فَكَانَ عَيْبًا فَاحِشًا
وَتَجُوزُ الْجَرْبَاءُ إذَا كانت سَمِينَةً فَإِنْ كانت مَهْزُولَةً لَا تَجُوزُ وَتُجْزِي الْجَمَّاءُ وَهِيَ التي لَا قَرْنَ لها خِلْقَةً وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ تُجْزِي لِمَا روى أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه سُئِلَ عن القران ( ( ( القرن ) ) ) فقال لَا يَضُرُّك
أَمَرَنَا رسول اللَّهِ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ
وروى أَنَّ رَجُلًا من هَمَذَانَ جاء إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فقال يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْبَقَرَةُ عن كَمْ قال عن سَبْعَةٍ ثُمَّ قال مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ قال لَا ضَيْرَ ثُمَّ قال عَرْجَاءُ فقال إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ ثُمَّ قال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَمَرَنَا رسول اللَّهِ أنا نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ فَإِنْ بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ لَا تَجْزِيهِ وَالْمُشَاشُ رؤس الْعِظَامِ مِثْلُ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَتُجْزِي الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مشقوفة ( ( ( مشقوقة ) ) ) الْأُذُنِ طُولًا
وما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ فَالْخَرْقَاءُ هِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ وَالْمُقَابَلَةُ هِيَ التي يُقْطَعُ من مَقْدَمِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَا يُبَانُ بَلْ يُتْرَكُ مُعَلَّقًا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يُفْعَلَ ذلك بِمُؤَخَّرِ الْأُذُنِ من الشَّاةِ فَالنَّهْيُ في الشَّرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ مَحْمُولٌ على النَّدْبِ وفي الْخَرْقَاءِ على الْكَثِيرِ على اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ في حَدِّ الْكَثِيرِ على ما بَيَّنَّا وَلَا بَأْسَ بِمَا فيه سِمَةٌ في أُذُنِهِ لِأَنَّ ذلك لَا يُعَدُّ عَيْبًا في الشَّاةِ أو ( ( ( ولأنه ) ) ) لأنه عَيْبٌ يَسِيرٌ لِأَنَّ السِّمَةَ لَا يَخْلُو عنها الْحَيَوَانُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنها
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ أُضْحِيَّةً وَهِيَ سَمِينَةٌ فَعَجِفَتْ عِنْدَهُ حتى صَارَتْ بِحَيْثُ لو اشْتَرَاهَا على هذه الْحَالَةِ لم تُجْزِهِ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا أَجْزَأَتْهُ لِأَنَّ الْمُوسِرَ تَجِبُ عليه الْأُضْحِيَّةُ في ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا أَقَامَ ما اشْتَرَى لها مَقَامَ ما في الذِّمَّةِ فإذا نَقَصَتْ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ ما في الذِّمَّةِ فَبَقِيَ ما في ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ
وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَا أُضْحِيَّةَ في ذِمَّتِهِ فإذا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لِلْقُرْبَةِ فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا حتى لو كان الْفَقِيرُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أُضْحِيَّةً لَا تَجُوزُ هذه الأنها ( ( ( لأنها ) ) ) وَجَبَتْ عليه بِإِيجَابِهِ فَصَارَ كَالْغَنِيِّ الذي وَجَبَتْ عليه بِإِيجَابِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ
وَلَوْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ أَعْوَرَتْ عِنْدَهُ وهو مُوسِرٌ أو قُطِعَتْ أُذُنُهَا كُلُّهَا أو أَلْيَتُهَا أو ذَنَبُهَا أو انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فلم تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْشِيَ لَا تُجْزِي عنه وَعَلَيْهِ مَكَانَهَا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ
وَكَذَلِكَ إذا مَاتَتْ عِنْدَهُ أو سُرِقَتْ وَلَوْ قَدَّمَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَاضْطَرَبَتْ في الْمَكَانِ الذي يَذْبَحُهَا فيه فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا على مَكَانِهَا أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ إذَا انْقَلَبَتْ منه الشَّفْرَةُ فَأَصَابَتْ عَيْنَهَا فَذَهَبَتْ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هذا عَيْبٌ دَخَلَهَا قبل تَعْيِينِ الْقُرْبَةِ فيها فَصَارَ كما لو كان قبل حَالِ الذَّبْحِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ من اضْطِرَابِهَا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لو عَالَجَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَكُسِرَتْ أو أَعْوَرَتْ فَذَبَحَهَا ذلك الْيَوْمَ أو من الْغَدِ فَإِنَّهَا تُجْزِي لِأَنَّ ذلك النُّقْصَانَ لَمَّا لم يُعْتَدُّ بِهِ في الْحَالِ لو ذَبَحَهَا فَكَذَا في الثَّانِي كَالنُّقْصَانِ الْيَسِيرِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَالثَّانِي مِلْكُ الْمَحَلِّ وهو أَنْ يَكُونَ المضحي مِلْكَ من عليه الْأُضْحِيَّةُ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَلَا قُرْبَةَ في الذَّبْحِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بها عن نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَا عن صَاحِبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ عن التَّضْحِيَةِ وَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِمَا قُلْنَا وَإِنْ ضَمَّنَهُ صَاحِبُهَا قِيمَتَهَا حَيَّةً فَإِنَّهَا تُجْزِي عن الذَّابِحِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ من وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِنَادِ فَصَارَ ذَابِحًا شَاةً هِيَ مِلْكُهُ فَتُجْزِيهِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا تُجْزِي عن الذَّابِحِ أَيْضًا بِنَاءً على أَنَّ المضمومات ( ( ( المضمونات ) ) ) تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُمْلَكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْغَصْبِ وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ كان اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَحَّاهَا عن نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في الشَّاةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بها فَضَحَّى بها ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ مَذْبُوحَةً لَا تُجْزِي عن وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى ما دَامَ في أَيَّامِ النَّحْرِ وآن مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ تِلْكَ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ وَالْعَدَمَ بِمَنْزِلَةٍ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ بَاعَهَا حَيْثُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ قد صَحَّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ فَيَجِبُ عليه
____________________

(5/76)


التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا عليه وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا جَازَ الذَّبْحُ عِنْدَنَا كما في الْغَصْبِ
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً يُضَحِّي بها الْمُسْتَوْدَعُ عن نَفْسِهِ يوم النَّحْرِ فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ وَرَضِيَ بها فَأَخَذَهَا فَإِنَّهَا لَا تُجْزِي الْمُسْتَوْدَعَ من أُضْحِيَّتِهِ بِخِلَافِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هَهُنَا هو الذَّبْحُ وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ وهو الذَّبْحُ فَكَانَ الذَّبْحُ مُصَادِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَا يُجْزِيهِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فإنه كان ضَامِنًا قبل الذَّبْحِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو الْغَصْبُ السَّابِقُ فَعِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ أو أَدَائِهِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ له من وَقْتِ السَّبَبِ وهو الْغَصْبُ فَالذَّبْحُ صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَجَازَ
وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ في الْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةِ بِأَنْ اسْتَعَارَ نَاقَةً أو ثَوْرًا أو بَعِيرًا أو اسْتَأْجَرَهُ فَضَحَّى بِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عن الْأُضْحِيَّةَ سَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمَالِكُ أو ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ في يَدِهِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا بِالذَّبْحِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ وَلَوْ كان مَرْهُونًا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا له من وَقْتِ الْقَبْضِ كما في الْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من فَصَّلَ في الرَّهْنِ تَفْصِيلًا لَا بَأْسَ بِهِ فقال إنْ كان قَدْرُ الرَّهْنِ مِثْلَ الدَّيْنِ أو أَقَلَّ منه يَجُوزُ فَأَمَّا إذَا كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ كان بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً فَفِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ إنَّمَا يَضْمَنُهُ بِالذَّبْحِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بَيْعًا فَاسِدًا فَقَبَضَهَا فَضَحَّى بها جَازَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ في الِاسْتِرْدَادِ فَإِنْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ على الْمُضَحِّي وَإِنْ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً فَعَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عن نَفْسِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا مقدار ( ( ( بمقدار ) ) ) الْقِيمَةِ التي وَجَبَتْ عليه
وَكَذَلِكَ لو وُهِبَ له شَاةٌ هِبَةً فَاسِدَةً فَضَحَّى بها فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ وَيَأْكُلُ منها وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا وَاسْتَرَدَّ قِيمَةَ النُّقْصَانِ وَيَضْمَنُ الْمَوْهُوبُ له قِيمَتَهَا فيتضدق ( ( ( فيتصدق ) ) ) بها إذَا كان بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ لو وُهِبَ شَاةً من رَجُلٍ في مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَضَحَّى بها الْمَوْهُوبُ له فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤا اسْتَرَدُّوا عَيْنَهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ شاؤا ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهَا فَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ لِأَنَّ الشَّاةَ كانت مَضْمُونَةً عليه فإذا رَدَّهَا فَقَدْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عن نَفْسِهِ كما قُلْنَا في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بِثَوْبٍ فَضَحَّى بها الْمُشْتَرِي قم ( ( ( ثم ) ) ) وَجَدَ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الشَّاةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُضَحِّي وَيَجُوزُ له الْأَكْلُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا نَاقِصَةً مَذْبُوحَةً فَبَعْدَ ذلك يَنْظُرُ ان كانت قِيمَةُ الثَّوْبِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِالثَّوْبِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِالثَّوْبِ وَإِنْ كانت قِيمَةُ الشَّاةِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّ الشَّاةَ كانت مَضْمُونَةً عليه فَيَرُدُّ ما أَسْقَطَ الضَّمَانَ عن نَفْسِهِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِثَمَنِ ذلك القدر ( ( ( القعد ) ) ) من قِيمَتِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا
وَلَوْ وَجَدَ بِالشَّاةِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَرَدَّ الثَّمَنَ وَيَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لم يُوجِبْ حِصَّةَ النُّقْصَانِ على نَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ وَرَدَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بها لِأَنَّ ذلك النُّقْصَانَ لم يَدْخُلْ في الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا دخل في الْقُرْبَةِ ما ذُبِحَ وقد ذُبِحَ نَاقِصًا إلَّا في جَزَاءِ الصَّيْدِ فإنه يَنْظُرُ إنْ لم يَكُنْ مع هذا الْعَيْبِ عَدْلًا لِلصَّيْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِمَا نَذْكُرُ
وَلَوْ وُهِبَ لِرَجُلٍ شَاةٌ فَضَحَّى بها الْمَوْهُوبُ له أَجْزَأَتْهُ عن الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كما لو مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بها ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ في هبتة فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس له ذلك بِنَاءً على أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَهُ فإذا ذَبَحَهَا الْمَوْهُوبُ له عن أُضْحِيَّتِهِ أو أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فيها كما لو أَعْتَقَ الْمَوْهُوبُ له الْعَبْدَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ عن الوجوع ( ( ( الرجوع ) ) ) كَذَا هَهُنَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ له ذلك لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَا يَجِبُ على المضحى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ
لِأَنَّ الشَّاةَ لم تَكُنْ مَضْمُونَةً عليه فَصَارَ في الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ وَلَوْ وَهَبَهَا أو اسْتَهْلَكَهَا لَا شَيْءَ عليه
هذا وَلَوْ كان هذا في جَزَاءِ الصَّيْدِ أو في كَفَّارَةِ الحلف ( ( ( الحلق ) ) ) أو في مَوْضِعٍ يَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فإذا رَجَعَ الْوَاهِبُ في الْهِبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَاجِبٌ عليه فَصَارَ كما إذَا اسْتَهْلَكَهَا وَلِأَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ فيها فَصَارَ كَأَنَّهُ هو الذي دَفَعَ إلَيْهِ وَالرُّجُوعُ في الْهِبَةِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ سَوَاءٌ في هذا الْفَصْلِ يَفْتَرِقُ الْجَوَابُ بين ما يَجِبُ صَدَقَةً وَبَيْنَ ما لَا يَجِبُ
____________________

(5/77)


وفي الْفُصُولِ الْأُوَلِ يَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ وَهَبَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ شَاةً لانسان وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ له فَضَحَّاهَا ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ من مَرَضِهِ ذلك وَلَا مَالَ له غَيْرَهَا فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤا ضَمَّنُوا الْمَوْهُوبَ له ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَإِنْ شاؤا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَإِنْ ضَمَّنُوهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ على الْمَوْهُوبِ له لِأَنَّهَا لو كانت مَغْصُوبَةً فَضُمِّنَ قِيمَتَهَا لَا شَيْءَ عليه غير ذلك فَهَذِهِ أَوْلَى وَإِنْ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ الْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ له قد ضَمِنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً ثُمَّ سَقَطَ عنه ثُلُثُ قِيمَتِهَا حَيَّةً يَأْخُذُ الْوَرَثَةُ منه ثُلُثَيْ الشَّاةِ مَذْبُوحَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِذَلِكَ وقضي دَيْنًا عليه بِثُلُثَيْ الشَّاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا شَيْءَ عليه إلَّا ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَمَّا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَقَدْ أبرأوا ( ( ( أبرءوا ) ) ) الْمَوْهُوبَ له من فَضْلِ ما بين ثلثيه ( ( ( ثلثي ) ) ) قِيمَتِهَا حَيَّةً إلَى ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً فَلَا يَجِبُ على الْمَوْهُوبِ له إلَّا ثُلُثَا قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً
وَهَكَذَا ذَكَرَ في نَوَادِرِ الضَّحَايَا عن مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤا ضَمِنُوا ثُلُثَيْ قِيمَةِ الشَّاةِ وَسَلَّمُوا له لَحْمَهَا وَإِنْ شاؤا أَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا وَكَانُوا شُرَكَاءَهُ فيها فَإِنْ ضَمِنُوا ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ أَجْزَأَتْ عنه الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ شَارَكُوهُ فيها وَأَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً وقد أَجْزَأَتْ عنه من قِبَلِ أَنَّهُ ذَبَحَهَا وهو يَمْلِكُهَا وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ قبل التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وما يُكْرَهُ أَمَّا الذي هو قبل التَّضْحِيَةِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْبِطَ الْأُضْحِيَّةَ قبل أَيَّامِ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ لِمَا فيه من الِاسْتِعْدَادِ لِلْقُرْبَةِ واظهار الرَّغْبَةِ فيها فَيَكُونُ له فيه أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَأَنْ يُقَلِّدَهَا وَيُجَلِّلَهَا اعْتِبَارًا بِالْهَدَايَا وَالْجَامِعُ أَنَّ ذلك يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا قال اللَّه تَعَالَى { ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا من تَقْوَى الْقُلُوبِ } وَأَنْ يَسُوقَهَا إلَى الْمَنْسَكِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا عَنِيفًا وان لَا يَجُرَّ بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ كما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الذَّبَائِحِ
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا أو يَجُزَّ صُوفَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِجُزْءٍ من أَجْزَائِهَا قبل إقَامَةِ الْقُرْبَةِ فيها كما لَا يَحِلُّ له الأنتفاع بِلَحْمِهَا إذَا ذَبَحَهَا قبل وَقْتِهَا وَلِأَنَّ الْحَلْبَ وَالْجَزَّ يُوجِبُ نَقْصًا فيها وهو مَمْنُوعٌ عن ادخال النَّقْصِ في الْأُضْحِيَّةَ
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال هذا في الشَّاةِ الْمَنْذُورِ بها بِعَيْنِهَا من الْمُعْسِرِ أو الْمُوسِرِ أو الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْأُضْحِيَّةِ من الْمُعْسِرِ
فَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ من الْمُوسِرِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَجُزَّ صُوفَهَا لِأَنَّ في الْأَوَّلِ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بها بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَقُومُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مَقَامَهَا وإذا تَعَيَّنَتْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بها بِتَعْيِينِهِ لَا يَجُوزُ له الرُّجُوعُ في جُزْءٍ منها وفي الثَّانِي لم تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوَاجِبُ في ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بها ما في ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَكَانَتْ جَائِزَةَ الذَّبْحِ لَا وَاجِبَةَ الذَّبْحِ
وَالْجَوَابُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْقُرْبَةِ إلَى أَنْ يُقَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بها ما دَامَتْ مُتَعَيَّنَةٌ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ له لَحْمُهَا إذَا ذَبَحَهَا قبل وَقْتِهَا
فَإِنْ كان في ضَرْعِهَا لَبَنٌ وهو يَخَافُ عليها إنْ لم يَحْلُبْهَا نَضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حتى يَتَقَلَّصَ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْحَلْبِ وَلَا وَجْهَ لِإِبْقَائِهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخَافُ عليها الْهَلَاكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَعَيَّنَ نَضْحُ الضَّرْعِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ لِيَنْقَطِعَ اللَّبَنُ فَيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ فَإِنْ حَلَبَ تَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ من شَاةٍ مُتَعَيِّنَةٍ لِلْقُرْبَةِ ما أُقِيمَتْ فيها الْقُرْبَةُ فَكَانَ الْوَاجِبُ هو التَّصَدُّقُ بِهِ كما لو ذُبِحَتْ قبل الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بمثله لِأَنَّهُ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ وَيُكْرَهُ له بَيْعُهَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَاعَ جَازَ فيقول أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَغَيْرُ ذلك من الشَّرَائِطِ فَيَجُوزُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا رُوِيَ عنه أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُهَا على أَصْلِهِمَا فَعَلَيْهِ مَكَانَهَا مِثْلُهَا أو أَرْفَعُ منها فَيُضَحِّي بها فَإِنْ فَعَلَ ذلك فَلَيْسَ عليه شَيْءٌ آخَرُ
وَإِنْ اشْتَرَى دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ ما بين الْقِيمَتَيْنِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقِيمَةِ حتى لو بَاعَ الْأُولَى بِأَقَلَّ من قِيمَتِهَا وَاشْتَرَى الثَّانِيَةَ بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهَا وَثَمَنُ الثَّانِيَةِ أَكْثَرُ من ثَمَنِ الْأُولَى يَجِبُ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْأُولَى فَإِنْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَلَدًا يُذْبَحُ وَلَدُهَا مع الْأُمِّ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال أَيْضًا وَإِنْ بَاعَهُ يَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعَيَّنَتْ لِلْأُضْحِيَّةِ وَالْوَلَدُ يَحْدُثُ على وَصْفِ الْأُمِّ في الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَسْرِي إلَى
____________________

(5/78)


الْوَلَدِ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال هذا في الْأُضْحِيَّةَ الْمُوجَبَةِ بِالنَّذْرِ كَالْفَقِيرِ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَوَلَدَتْ لَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا لِأَنَّ في الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وفي الثَّانِي لم يَتَعَيَّنْ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا فَكَذَا وَلَدُهَا
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال كان أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يججب ( ( ( يجب ) ) ) ذَبْحُ الْوَلَدُ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لم يَسْرِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَانَ كَجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا فَإِنْ ذَبَحَهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ وَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَأْكُلُهُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يَذْبَحَهُ وقال بَعْضُهُمْ أنه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ذَبَحَهُ أَيَّامَ النَّحْرِ وَأَكَلَ منه كَالْأُمِّ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ فَإِنْ أَمْسَكَ الْوَلَدَ حتى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ فَاتَ ذَبْحُهُ فَصَارَ كَالشَّاةِ الْمَنْذُورَةِ
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى إذَا وَضَعَتْ الْأُضْحِيَّةُ فَذَبَحَ الْوَلَدَ يوم النَّحْرِ قبل الْأُمِّ أَجْزَأَهُ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ يوم الْأَضْحَى قبل أَنْ يَعْلَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الصِّغَارَ تَدْخُلُ في الْهَدَايَا وَيَجِبُ ذَبْحُهَا
وَلَوْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ تَعَلَّقَ بِوَلَدِهَا من الْحُكْمِ ما يَتَعَلَّقُ بها فَصَارَ كما لو فَاتَ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ
وَيُكْرَهُ له رُكُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَاسْتِعْمَالُهَا وَالْحَمْلُ عليها فَإِنْ فَعَلَ فَلَا شَيْءَ عليه إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقَصَهَا ذلك فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنُقْصَانِهَا
وَلَوْ آجَرَهَا صَاحِبُهَا لِيُحْمَلَ عليها
قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ ما نَقَصَهَا الْحَمْلُ فإنه ذَكَرَ في الْمُنْتَقَى في رَجُلٍ أَهْدَى نَاقَةً ثُمَّ آجَرَهَا ثُمَّ حَمَلَ عليها فإن صَاحِبَهَا يَغْرَمُ ما نَقَصَهَا ذلك وَيَتَصَدَّقُ بِالْكِرَاءِ كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا الذي هو في حَالِ التَّضْحِيَةِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى من عليه التَّضْحِيَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ فما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الذَّبَائِحِ وهو أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هو الذَّبْحُ في الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالنَّحْرُ في الْإِبِلِ وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ من ذلك وَقَطْعُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا وَالتَّذْفِيفُ في ذلك وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ من الْحُلْقُومِ لَا من الْقَفَا
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى من عليه التَّضْحِيَةُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ عليه لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَمُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ من تَوْلِيَتِهَا غَيْرَهُ كَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ منها نَيِّفًا وَسِتِّينَ بيده الشَّرِيفَةِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ أَعْطَى الْمُدْيَةَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه فَنَحَرَ الْبَاقِينَ وَهَذَا إذَا كان الرَّجُلُ يُحْسِنُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عليه فَأَمَّا إذَا لم يُحْسِنْ فَتَوْلِيَتُهُ غَيْرَهُ فيه أَوْلَى
وقد رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نَحَرْتُ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فلم أَشُقَّ عليها فَكِدْتُ أُهْلِكُ نَاسًا لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَهَا إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً وأولى من هو أَقْدَرُ على ذلك مِنِّي
وفي حديث أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ قال أَنَسٌ فَرَأَيْت النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا أَيْ على جَوَانِبِ عُنُقِهِمَا وهو يَذْبَحُهُمَا بيده عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَذَبَحَ الْأَوَّلَ
فقال بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هذا عن مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ذَبَحَ الْآخَرَ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اللَّهُمَّ هذا عَمَّنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لي بِالْبَلَاغِ
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ حَالَ الذَّبْحِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وإذا لم يَذْبَحْ بِنَفْسِهِ يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَأْمُرَ مُسْلِمًا فَإِنْ أَمَرَ كِتَابِيًّا يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الذَّبْحَ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي عليه السلام قال أسيدتنا ( ( ( لسيدتنا ) ) ) فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ قُومِي فَاشْهَدِي ضَحِيَّتَكِ فإنه يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ من دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ أَمَا أنه يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ في مِيزَانِك وَسَبْعُونَ ضِعْفًا فقال أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي اللَّهُ عنه يا نَبِيَّ اللَّهِ هذا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أهل ( ( ( أصل ) ) ) لِمَا خُصُّوا بِهِ من الْخَيْرِ أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فقال هذا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً
وفي حديث عِمْرَانَ بن الحصين ( ( ( حصين ) ) ) رضي اللَّهُ عنه قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فإنه يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ من دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ وَقُولِي إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ له وَأَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ له وَبِذَلِكَ أُمِرْت وأنا من الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَيْنَا وان يَقُولَ ذلك قبل التَّسْمِيَةِ أو بَعْدَهَا
لِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه قال ضَحَّى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ فقال حين وَجَّهَهُمَا وَجَّهَتْ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ
____________________

(5/79)


السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك عن مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ
وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن الْمُعَتِّمِ الْكِنَانِيِّ قال خَرَجْتُ مع سَيِّدِنَا عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه يوم الْأَضْحَى إلَى عِيدٍ فلما صلى قال يا قَنْبَرٌ أَدْنِ مِنِّي أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ فَأَخَذَ بيده فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ قال وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وما أنا من الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ له وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا من الْمُسْلِمِينَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ من عَلِيٍّ فَذَبَحَهُ ثُمَّ دَعَا بِالثَّانِي فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذلك
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَرِّدَ التَّسْمِيَةَ عن الدُّعَاءِ فَلَا يَخْلِطَ مَعَهَا دُعَاءً وَإِنَّمَا يَدْعُو قبل التَّسْمِيَةِ أو بَعْدَهَا وَيُكْرَهُ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ أَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَعْظَمَهَا لِأَنَّهَا مَطِيَّةُ الْآخِرَةِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا على الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ وَمَهْمَا كانت الْمَطِيَّةُ أَعْظَمَ وَأَسْمَنَ كانت على الْجَوَازِ على الصِّرَاطِ أَقْدَرَ وَأَفْضَلُ الشَّاءِ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا أَمْلَحَ أَقْرَنَ موجوأ ( ( ( موجوءا ) ) ) لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ موجوأين ( ( ( موجوءين ) ) ) عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ وَالْأَقْرَنُ الْعَظِيمُ الْقَرْنِ وَالْأَمْلَحُ الْأَبْيَضُ وَرُوِيَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال دَمُ الْعَفْرَاءِ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَ دَمِ السَّوْدَاوَيْنِ وَإِنَّ أَحْسَنَ اللَّوْنِ عِنْدَ اللَّهِ الْبَيَاضُ وَاَللَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ وَالْمَوْجُوءُ قِيلَ هو مَدْقُوقُ الْخُصْيَتَيْنِ وَقِيلَ هو الخضي ( ( ( الخصي ) ) ) كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه رُوِيَ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن التَّضْحِيَةِ بِالْخَصِيِّ فقال ما زَادَ في لَحْمِهِ أَنْفَعُ مِمَّا ذَهَبَ من خُصْيَتَيْهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ هو الْيَوْمُ الْأَوَّلُ من أَيَّامِ النَّحْرِ لِمَا رَوَيْنَا عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى الْخَيْرِ وقد مَدَحَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ الْمُسَارِعِينَ إلَى الْخَيْرَاتِ السَّابِقِينَ لها بِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لها سَابِقُونَ } وقال عز شَأْنُهُ { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ } أَيْ إلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ شَأْنُهُ أَضَافَ عبادة في هذه الْأَيَّامِ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ من بَابِ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ إلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ بِالنَّهَارِ ويكهر ( ( ( ويكره ) ) ) أَنْ تَكُونَ بِاللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ وَأَفْضَلُ من وَقْتِ التَّضْحِيَةِ لِأَهْلِ السَّوَادِ ما بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَكَامَلُ آثَارُ أَوَّلِ النَّهَارِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ فما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الذَّبَائِحِ وهو أَنْ تَكُونَ آلَةُ الذَّبْحِ حَادَّةً من الْحَدِيدِ
وَأَمَّا الذي هو بَعْدَ الذَّبْحِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَدْرَ ما يَبْرُدُ وَيَسْكُنُ من جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَتَزُولُ الْحَيَاةُ عن حميع ( ( ( جميع ) ) ) جَسَدِهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ وَيَسْلُخَ قبل أَنْ يَبْرُدَ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الذَّبَائِحِ
وَلِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةَ أَنْ يَأْكُلَ من أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا منها } وَلِأَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ في هذه الْأَيَّامِ كَغَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ من ضِيَافَةِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدِّمَاءَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ منه بِالْإِجْمَاعِ وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه بِالْإِجْمَاعِ وَنَوْعٌ اُخْتُلِفَ فيه
فالأول ( ( ( الأول ) ) ) دَمُ الْأُضْحِيَّةَ نَفْلًا كان أو وَاجِبًا مَنْذُورًا كان أو وَاجِبًا مُبْتَدَأً
وَالثَّانِي دَمُ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَدَمُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ على الْإِحْرَامِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِ ذلك من الْجِنَايَاتِ وَدَمُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ
وَالثَّالِثُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَعِنْدَنَا يُؤْكَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ ثُمَّ كُلُّ دَمٍ يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه لَا يَجِبُ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ إذْ لو وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ لَمَا جَازَ له أَنْ يَأْكُلَ منه وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه يَجِبُ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ إذْ لو لم يَجِبْ لادى إلَى التَّسْيِيبِ وَلَوْ هَلَكَ اللَّحْمُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَان عليه في النَّوْعَيْنِ جميعا
أَمَّا في النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا في الثَّانِي في فلانة هَلَكَ عن غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ إنْ كان من النَّوْعِ الثَّانِي يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَعَيِّنًا لِلتَّصَدُّقِ بِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بها وَإِنْ كان من النَّوْعِ الْأَوَّلِ لَا يَغْرَمُ شيئا وَلَوْ بَاعَهُ نَفَذَ سَوَاءٌ كان من النَّوْعِ الْأَوَّلِ أو الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ
وَيُسْتَحَبُّ له أَنْ يَأْكُلَ من أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فَكُلُوا منها وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا ضَحَّى أحدكم فَلْيَأْكُلْ من أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمْ منه غَيْرَهُ وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ حين ضَحَّى بِالْكَبْشَيْنِ يا قَنْبَرٌ خُذْ لي من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضْعَةً وَتَصَدَّقْ بِهِمَا بجلودهما ( ( ( بجل ) ) ) وبرؤوسهما ( ( ( ودهما ) ) ) وَبِأَكَارِعِهِمَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لِأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا منها وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ }
____________________

(5/80)


وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَكُلُوا منها وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }
وَقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا منها وَادَّخِرُوا فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ ما قُلْنَا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ ضِيَافَةِ اللَّهِ عز وجل بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَيُنْدَبُ اشراك الْكُلِّ فيها وَيُطْعِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ جميعا لِكَوْنِ الْكُلِّ أَضْيَافَ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ في هذه الْأَيَّامِ وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ مِنْهُمَا جميعا وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ جَازَ وَلَوْ حَبَسَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ في الاراقة
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَتَطَوُّعٌ وَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ النَّهْيَ عن ذلك كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رُوِيَ عن النبي عليه السلام أَنَّهُ قال إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَلَا فَأَمْسِكُوا ما بَدَا لَكُمْ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الدافة ( ( ( الرأفة ) ) ) دُونَ حَضْرَةِ الْأَضْحَى إلا أن إطْعَامَهَا وَالتَّصَدُّقَ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا عِيَالٍ وَغَيْرَ مُوَسَّعِ الْحَالِ فإن الْأَفْضَلَ له حِينَئِذٍ أَنْ يدعيه ( ( ( يدعه ) ) ) لِعِيَالِهِ وَيُوسِعَ بِهِ عليهم ولأن حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ عِيَالِهِ مُقَدَّمَةٌ على حَاجَةِ غَيْرِهِ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِغَيْرِك وَلَا يَحِلُّ بَيْعُ جِلْدِهَا وَشَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَأَطْرَافِهَا وَرَأْسِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَلَبَنِهَا الذي يَحْلُبُهُ منها بَعْدَ ذَبْحِهَا بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَلَا أَنْ يعطى أَجْرَ الْجَزَّارِ وَالذَّابِحِ منها لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ له
وَرُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِي أجر ( ( ( أجرا ) ) ) الجزار ( ( ( لجزار ) ) ) منها وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قال إذَا ضَحَّيْتُمْ فَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ ضَحَايَاكُمْ وَلَا جُلُودَهَا وَكُلُوا منها وَتَمَتَّعُوا وَلِأَنَّهَا من ضِيَافَةِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ التي أَضَافَ بها عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَبِيعَ من طَعَامِ الضِّيَافَةِ شيئا فَإِنْ بَاعَ شيئا من ذلك نَفَذَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قبل الذَّبْحِ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ ذَهَبَتْ عنه فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وهو الْبَيْعُ فَلَا يَخْلُو عن خُبْثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ في بَيْتِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ سِقَاءً أو فَرْوًا أو غير ذلك لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها اتَّخَذَتْ من جِلْدِ أُضْحِيَّتِهَا سِقَاءً
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا فَكَذَا بِجِلْدِهَا
وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هذه الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مع بَقَاءِ عَيْنِهِ من مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ والمتخل ( ( ( والمنخل ) ) ) لِأَنَّ الْبَدَلَ الذي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مع بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مع بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
كِتَابُ النَّذْرِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ النَّذْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَرُكْنُ النَّذْرِ هو الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عليه وهو قَوْلُهُ لِلَّهِ عز شَأْنُهُ عَلَيَّ كَذَا أو على كَذَا أو هذا هَدْيٌ أو صَدَقَةٌ أو مَالِي صَدَقَةٌ أو ما أَمْلِكُ صَدَقَةٌ وَنَحْوُ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ
وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الرُّكْنِ أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ فَشَرَائِطُ الْأَهْلِيَّةِ منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ من الشَّرَائِعِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَكَذَا بِالنَّذْرِ إذْ الْوُجُوبُ عِنْدَ
____________________

(5/81)


وُجُودِ الصِّيغَةِ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ إذْ ليس لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَاب وَإِنَّمَا الصِّيغَةُ عَلَمٌ على إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْكَافِرِ حتى لو نَذَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْذُورِ بِهِ قُرْبَةً شَرْطُ صِحَّةِ النَّذْرِ وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ النَّاذِرِ فَلَيْسَتْ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَيَصِحُّ نَذْرُ الْمَمْلُوكِ ثُمَّ إنْ كان الْمَنْذُورُ بِهِ من الْقُرَبِ الدِّينِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا يَجِبُ عليه لِلْحَالِ وَلَوْ كان من الْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَنَحْوِ ذلك يَجِبُ عليه بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَلَوْ قال إنْ اشْتَرَيْتُ هذه الشَّاةَ فَهِيَ هَدْيٌ أو إنْ اشْتَرَيْتُ هذا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ لم يَلْزَمْهُ حتى يُضِيفَهُ إلَى ما بَعْدَ الْعِتْقِ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقد ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَأَمَّا الطَّوَاعِيَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كما في الْيَمِينِ وَكَذَا الْجِدُّ وَالْهَزْلُ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَنْذُورِ بِهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ في نَفْسِهِ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ شَرْعًا كَمَنْ قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ لَيْلًا أو نَهَارًا أَكَلَ فيه وَكَالْمَرْأَةِ إذَا قالت لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي لِأَنَّ اللَّيْلَ ليس مَحِلَّ الصَّوْمِ وَالْأَكْلَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حَقِيقَةً وَالْحَيْضَ مُنَافٍ له شَرْعًا إذْ الطَّهَارَةُ عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطُ وُجُودِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ
وَلَوْ قالت لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ في غَدٍ أو قالت لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ يوم يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ في يَوْمٍ حَاضَتْ فيه لَا شَيْءَ عليها عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليها قَضَاءُ ذلك الْيَوْمِ وَهِيَ من مَسَائِلِ الصَّوْمِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ فَقَدِمَ في النَّهَارِ أَنَّهُ إنْ قَدِمَ قبل الزَّوَالِ أو قبل أَنْ يَتَنَاوَلَ شيئا من الْمُفْطِرَاتِ يَلْزَمُهُ صَوْمُهُ وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ أو بَعْدَ ما تَنَاوَلَ شيئا من الْمُفْطِرَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَوْمَ يَوْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يُوجَدُ فيه قُدُومُ فُلَانٍ وَلَا عِلْمَ له بهذا الْيَوْمِ قبل الْقُدُومِ وَلَا دَلِيلَ الْعِلْمِ وَلَا وُجُوبَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِدُونِ الْعِلْمِ أو دَلِيلِهِ لِأَنَّ ما ثَبَتَ أَدَاؤُهُ على قَصْدِ الْمُؤَدِّي في تَحْصِيلِهِ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ أو دَلِيلِ الْعِلْمِ فلم يَجِبْ الصَّوْمُ ما لم يُوجَدْ الْيَوْمُ الْمَوْصُوفُ وَلَا وُجُودَ إلَّا بِالْقُدُومِ فَصَارَ الْوُجُوبُ على هذا التَّخْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِالْقُدُومِ وَوُجُوبُ صَوْمِ يَوْمٍ لم تَزُلْ فيه الشَّمْسُ ولم يَتَنَاوَلْ شيئا من الْمُفْطِرَاتِ مُتَصَوَّرٌ كما لو أَنْشَأَ النَّذْرَ فَوَجَبَ عليه لِلْحَالِ وَلَا تَصَوُّرَ له بَعْد التَّنَاوُلِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ فَقَدِمَ بعدما أَكَلَ أو بَعْدَ الزَّوَالِ حَنِثَ في يَمِينِهِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ في بَابِ النَّذْرِ يَجِبُ الْفِعْلُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من الْعَبْدِ فَصَارَ هذا وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ على السَّوَاءِ
وَأَمَّا في بَابِ الْيَمِينِ فَالْفِعْلُ في نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ الْوَاجِبُ هو الِامْتِنَاعُ عن هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى عز شَأْنُهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِعْلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْبِرِّ وَحُصُولُ الْبِرِّ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الِامْتِنَاعِ عن الْهَتْكِ فَوُجُوبُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمُ فَكَانَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْبِرِّ وَالِامْتِنَاعِ ثَابِتًا قبل وُجُودِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ وهو الْقُدُومُ فَوَجَبَ عليه الْبِرُّ من أَوَّلِ وُجُودِ هذا الْيَوْمِ الذي حَلَفَ أَنْ يَصُومَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ له بِهِ عِلْمٌ فإذا لم يَصُمْ بِأَنْ أَكَلَ أو امْتَنَعَ من النَّذْرِ حتى زَالَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ في يَمِينِهِ لِفَوَاتِ الْبِرِّ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا ليس بِقُرْبَةٍ رَأْسًا كَالنَّذْرِ بِالْمَعَاصِي بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عز شَأْنُهُ عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أو أَقْتُلَ فُلَانًا أو أَضْرِبَهُ أو أَشْتُمَهُ وَنَحْوَ ذلك لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلِهِ من نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا يَعْصِهِ وَلِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ وَوُجُوبُ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ وَكَذَا النَّذْرُ بِالْمُبَاحَاتِ من الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذلك لِعَدَمِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِعْلًا وَتَرْكًا وَكَذَا لو قال عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي لِأَنَّ الطَّلَاقَ ليس بِقُرْبَةٍ فَلَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ
فيه كَلَامٌ نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْأَذَانِ وَبِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذلك وَإِنْ كانت قُرَبًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبٍ مَقْصُودَةً وَيَصِحُّ النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْإِحْرَامِ بِهِمَا وَالْعِتْقِ وَالْبَدَنَةِ والهدى والإعتكاف وَنَحْوُ ذلك لِأَنَّهَا قُرَبٌ مَقْصُودَةٌ
____________________

(5/82)


وقد قال النبي من نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ
وقال من نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ بِمَا سَمَّى إلَّا أَنَّهُ خُصَّ منه الْمُسَمَّى الذي ليس بقربه أَصْلًا وَاَلَّذِي ليس بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من أَصَّلَ في هذا أَصْلًا فقال ما له أَصْلٌ في الْفُرُوضِ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ما سِوَى الِاعْتِكَافِ من الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا له أَصْلٌ في الْفُرُوضِ وَالِاعْتِكَافُ له أَصْلٌ أَيْضًا في الْفُرُوضِ وهو الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وما لَا أَصْلَ له في الْفُرُوضِ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَة وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهَا وَعُلِّلَ بِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ الْعَبْدِ فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يوم النَّحْرِ أو أَيَّامَ التَّشْرِيقِ يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَيُفْطِرُ وَيَقْضِي
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ
لَهُمَا أنه نَذْرٌ بِمَا هو مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِ الصَّوْمِ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَنْهِيًّا عنه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا لَا تَصُومُوا في هذه الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَالْمَنْهِيُّ عنه يَكُونُ مَعْصِيَةً وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الصَّوْمَ في هذه الْأَيَّامِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ
وَلَنَا أَنَّهُ نَذْرٌ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَصِحُّ النَّذْرُ كما لو نَذَرَ بِالصَّوْمِ في غَيْرِ هذه الْأَيَّامِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَبَرًا عن اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ الصَّوْمُ لي وأنا أَجْزِي بِهِ من غير فصل
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ سَبَبُ التَّقْوَى وَالشُّكْرِ وَمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الصَّائِمَ في زَمَانِ الصَّوْمِ يَتَّقِي الْحَلَالَ فَالْحَرَامُ أَوْلَى وَيَعْرِفُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ عليه بِمَا تَجَشَّمَ من مَرَارَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَيَحْمِلُهُ ذلك على الشُّكْرِ وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْفُقَرَاءِ لَمَّا عَرَفَ قَدْرَ مُقَاسَاةِ المبتلي بِالْجُوعِ وَالْفَقْرِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ في الصَّوْمِ في هذه الْأَيَّامِ وأنها مَعَانٍ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا وَالنَّهْيُ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا لِمَا فيه من التَّنَاقُضِ فَيُحْمَلُ على غَيْرِ مُجَاوِرٍ له صِيَانَةً لِحُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى عن التَّنَاقُضِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا فَصْلُ الشُّرُوعِ وَالْقَضَاءِ فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْطَارِ لِأَنَّ لُزُومَ الْإِتْمَامِ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ المؤدي عن الْإِبْطَالِ لِأَنَّ إبْطَالَ الْعَمَلِ حَرَامٌ وَهَهُنَا صَاحِبُ الْحَقِّ وهو اللَّهُ تَعَالَى جَلَّتْ عَظَمَتُهُ رضي بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فَلَا يَحْرُمُ الْإِبْطَالُ فَلَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ ضَرُورَةُ لُزُومِ الْإِتْمَامِ فإذا لم يَلْزَمْ لَا يَجِبُ
وَلَوْ قال على الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أو إلَى الْكَعْبَةِ أو إلَى مَكَّةَ أو إلَى بَكَّةَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ لِرُكُوبِهِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَكَانَ نَوْعَانِ مَكَانٌ يَصِحُّ الدُّخُولُ فيه بِغَيْرِ إحْرَامٍ وهو ما سِوَى الْحَرَمِ كَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ على صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِمَا من سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمَاكِنِ وَمَكَانٌ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فيه بِغَيْرِ إحْرَامٍ وهو الْحَرَمُ وَالْحَرَمُ مُشْتَمِلٌ على مَكَّةَ وَمَكَّةُ على الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ على الْكَعْبَةِ فَالنَّاذِرُ إمَّا أَنْ يُسَمَّى في النَّذْرِ الْكَعْبَةَ أو بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى أو مَكَّةَ أو بَكَّةَ أو الْحَرَمَ أو الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْأَفْعَالُ التي يُوجِبُهَا على نَفْسِهِ شِبْهَ أَلْفَاظِ الْمَشْيِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَالذَّهَابِ وَالْإِيَابِ فَإِنْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ شيئا من هذه الْأَفْعَالِ وَأَضَافَهُ إلَى مَكَان يَصِحُّ دُخُولُهُ فيه بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ التحويل ( ( ( التحول ) ) ) من مَكَان إلَى مَكَان وَذَا ليس بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا ليس بِقُرْبَةٍ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رسول اللَّهِ فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ لَك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ مِائَتَيْ رَكْعَةٍ في مِائَةِ مَسْجِدٍ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلِّي في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فلم يُصَحِّحْ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَذْرَهَا بِالصَّلَاةِ في كل مَسْجِدٍ وَالنَّذْرُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فإن الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا أو لَأُسَافِرَنَّ أو غَيْرَهُمَا من الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَقِفُ انْعِقَادُهَا على كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عليه قُرْبَةً بَلْ يَنْعَقِدُ على الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ النَّذْرِ وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ شَيْءٍ من هذه الْأَفْعَالِ إلَى الْمَكَانِ الذي لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فيه بِغَيْرِ إحْرَامٍ يُنْظَرُ فَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ ما سِوَى الْمَشْيِ إلَيْهِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ التَّحَوُّلَ من مَكَان إلَى مَكَان ليس بِقُرْبَةٍ في نَفْسِهِ وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ الْمَشْيِ إلَيْهِ فَإِنْ ذَكَر سِوَى ما ذَكَرْنَا من الْأَمْكِنَةِ من الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ
____________________

(5/83)


وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ بِأَنْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ وَغَيْرِهَا من الْمَسَاجِدِ التي في الْحَرَمِ لَا يَصِحّ نَذْرُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ذَكَر الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ اللَّهِ عز شَأْنُهُ أو مَكَّةَ أو بَكَّةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ من شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً وَلَا قُرْبَةَ في نَفْسِ الْمَشْيِ وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ في الْإِحْرَامِ وَإِنَّهُ ليس بِمَذْكُورٍ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ سِوَى لَفْظِ الْمَشْيِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ كِنَايَةٌ عن الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ يَسْتَعْمِلُونَهُ لِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ من غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فيه وَجْهُ الكتابة ( ( ( الكناية ) ) ) بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ كِنَايَةً عن الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَالْإِحْرَامُ يَكُونُ بِالْحِجَّةِ أو بِالْعُمْرَةِ فَيَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّهَا ما جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بها وَالْمُعْتَبَرُ في الْبَابِ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ وَلَا عُرْفَ هُنَاكَ فَيَلْزَمُهُ ذلك مَاشِيًا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ وَفِيهِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ من حَسَنَاتِ الْحَرَمِ قِيلَ وما حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ فَجَازَ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَصِفَةِ التَّتَابُعِ في الصَّوْمِ فَيَمْشِي حتى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ من أَرْكَانِ الْحَجِّ إلَّا أَنَّ له أَنْ يَرْكَبَ وَيَذْبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُخْتَ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنهما نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عن تَعْذِيبِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا
وما رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ فقال إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ الْبَيْتَ مَاشِيَةً غير مُخْتَمِرَةٍ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن تَعْذِيبِ أُخْتِك فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وفي بَعْضِهَا أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى حَافِيَةً حَاسِرَةً فذكر ذلك عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عن عَنَاءِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَتُحْرِمْ إنْ شَاءَتْ بِحَجَّةٍ وَإِنْ شَاءَتْ بِعُمْرَةٍ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من جَعَلَ على نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ وَرَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً رَوَاهُ في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا اسْتَوَى فيه لَفْظُ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الْأَلْفَاظِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الآخر يُقَالُ فُلَانٌ مَشَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى الْكَعْبَةِ وَإِلَى مَكَّةَ وَإِلَى بَكَّةَ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أو الْحَرَمِ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْحَرَمَ مُشْتَمِلٌ على الْبَيْتِ وَعَلَى مَكَّةَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَّةَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ بِإِيجَابِ الْمَشْيِ الْمُضَافِ إلَى مَكَان ماء لِمَا ذكرنا أَنَّ الْمَشْيَ ليس بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ إذْ هو انْتِقَالٌ من مَكَان إلَى مَكَان فَلَيْسَ في نَفْسِهِ قُرْبَةً وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا عليه الْإِحْرَامَ في لَفْظِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّه أو إلَى الْكَعْبَةِ أو إلَى مَكَّةَ أو إلَى بَكَّةَ لِلْعُرْفِ حَيْثُ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ ذلك كِنَايَةً عن الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ ولم يَتَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ غَيْرِهَا من الْأَلْفَاظِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَشَى إلَى مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الْحَرَمِ أو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كما يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْكِنَايَةُ يُتْبَعُ فيها عَيْنُ اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمَجَازِ فإنه يراعي فيه الْمَعْنَى اللَّازِمُ الْمَشْهُورُ في مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ ثَابِتَةٌ بِالِاصْطِلَاحِ كَالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ فَيُتَّبَعُ فيها الْعُرْفُ وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ وَلَوْ قال عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وهو يَنْوِي مَسْجِدًا من مَسَاجِدِ اللَّهِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ على أَنَّ الظَّاهِرَ أن كانت إرَادَةُ الْكَعْبَةِ من هذا الْكَلَامِ لَا غير لَكِنَّ هذا أَمْرٌ بَيْنِهِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكْتَفِي فيه بِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ قال أنا أُحْرِمُ أو أنا مُحْرِمٌ أو أُهْدِي أو أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ فإنه نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِيجَابُ كَقَوْلِنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أنه يَكُونُ تَوْحِيدًا وَكَقَوْلِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ أَنَّهُ يَكُونُ شَهَادَةً فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَإِنْ نَوَى أَنْ يَعِدَ من نَفْسِهِ عِدَةً وَلَا يُوجِبَ شيئا كان عِدَةً وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْعِدَةَ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في الْعِدَاتِ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ
____________________

(5/84)


فَهُوَ على الْوَعْدِ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فيه فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عليه
هذا إذَا لم يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ فَإِنْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ قال إنْ فَعَلَتْ كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَهُوَ على الْوُجُوهِ التي بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا وَإِنْ نَوَى الْوَعْدَ يَكُونُ وَعْدًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ فَهُوَ على الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْعِدَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشُّرُوطِ وَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَعَلَّقُ بها فَالْمَعْرِفَةُ إلَى الْإِيجَابِ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ولم تُوجَدْ الْقَرِينَةُ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ إن هذا اللَّفْظَ في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّرْطِ على الْوَعْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْإِيجَابَ وفي الْمُعَلَّقِ يَقَعُ على الْإِيجَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْوَعْدَ
وَلَوْ قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي أو أَذْبَحَ وَلَدِي يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وهو نَحْرُ الْبَدَنَةِ أو ذَبْحُ الشَّاةِ وَالْأَفْضَلُ هو الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الشَّاةُ وَإِنَّمَا يَنْحَرُ أو يَذْبَحُ في أَيَّامِ النَّحْرِ سَوَاءٌ كان في الْحَرَمِ أو لَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ نَذْرُهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هو مَعْصِيَةٌ وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحٍ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ النبي من نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى وَالْمُرَادُ من الْحَدِيثَيْنِ النَّذْرُ بِمَا هو طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وقد نَذَرَ بِمَا هو طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِمَا هو خَلَفٌ عنه وهو ذَبْحُ الشَّاةِ فَيَصِحُّ النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ على وَجْهٍ يُظْهِرُ أَثَرَ الْوُجُوبِ في الشَّاةِ التي هِيَ خَلَفٌ عنه كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ خَلَفًا عن الصَّوْمِ وَدَلِيلُ ما قُلْنَا الْحَدِيثُ وَضَرْبٌ من الْمَعْقُولِ
أَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُ النبي أنا ابن الذَّبِيحَيْنِ أَرَادَ أَوَّلَ آبَائِهِ من الْعَرَبِ وهو سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَآخِرَ آبَائِهِ حَقِيقَةً وهو عبد اللَّهِ بن عبد الْمُطَّلِبِ سَمَّاهُمَا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَبِيحَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا ما كَانَا ذَبِيحَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَا ذَبِيحَيْنِ تَقْدِيرًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِقِيَامِ الْخَلَفِ مَقَامَ الْأَصْلِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِنَذْرِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عن القرب ( ( ( التقرب ) ) ) بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَحْقِيقًا فلم يَكُنْ ذلك مُرَادًا من النَّذْرِ وهو قَادِرٌ على ذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ الْخَلَفِ وهو ذَبْحُ الشَّاةِ فَكَانَ هذا نَذْرًا بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ ما هو خَلَفٌ عنه حَقِيقَةً كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالنَّذْرِ وَقَعَ لِلْوَاجِبِ على سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ بِالْإِيجَابِ الْمُضَافِ إلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { إنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } على أَنَّ هذا حُكْمٌ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الذَّبْحِ لَا بِلَفْظِ الْقَتْلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ لِأَنَّ لَفْظَ الْقَتْلِ لَا يُسْتَعْمَلُ في تَفْوِيتِ الْحَيَاةِ على سَبِيلِ الْقُرْبَةِ وَالذَّبْحُ يُسْتَعْمَلُ في ذلك
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَذَرَ بِقَتْلِ شَاةٍ لَا يَلْزَمُهُ وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِهَا لَزِمَهُ وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ نَفْسِهِ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
وَذُكِرَ في نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَلَدِ وَلَدِهِ ذُكِرَ في شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَالِدَيْهِ أو جَدِّهِ أو جَدَّتِهِ يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ
وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا مع اتِّفَاقِهِمَا في الْوَلَدِ لِاخْتِلَافِهِمَا في الْمَعْنَى في الْوَلَدِ فالمعني في الْوَلَدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هو أَنَّهُ نَذْرٌ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَبْحِ ما هو أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ وَهَذَا المعني يُوجَدُ في الْوَالِدَيْنِ وَلَا يُوجَدُ في الْعَبْدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى في الْوَلَدِ أَنَّ النَّذْرَ بِذَبْحِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هو من مَكَاسِبِهِ وَالْوَلَدُ في مَعْنَى الْمَمْلُوكِ له شَرْعًا
قال النبي إنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ من كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ من كَسْبِهِ فَعَدَّى الْحُكْمَ إلَى الْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً وهو الْعَبْدُ وَإِلَى النَّفْسِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ لِكَوْنِهِمَا في مَعْنَى الْمَمْلُوكِ له ولم يُعَدِّ إلَى الْوَالِدَيْنِ لِانْعِدَامِ هذا الْمَعْنَى
وَعَلَى هذا الْقِيَاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَذْرُ الْجَدِّ بِذَبْحِ الْحَافِدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ وإذا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ الْهَدْيَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بين الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إنْ شَاءَ أهدى شَاةً وَإِنْ شَاءَ بَقَرَةً وَإِنْ شَاءَ إبِلًا وَأَفْضَلُهَا أَعْظَمُهَا لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ على كل وَاحِدٍ منهم
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ بَدَنَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ بين شَيْئَيْنِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْإِبِلُ أَفْضَلُ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَانَةِ يَقَعُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَعَلَيْهِ الْإِبِلُ خَاصَّةً لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ يَقَعُ عليه خَاصَّةً وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا ما يَجُوزُ في الْأَضَاحِيِّ وهو الثَّنِيُّ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْجَذَعُ من الضَّأْنِ إذَا كان ضَخْمًا
وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ الذي أَوْجَبَ إلَّا في الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
____________________

(5/85)


ولم يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْبَيْتِ بَلْ الْبُقْعَةَ التي هو فيها وَهِيَ الْحَرَمُ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُرَاقُ في الْبَيْتِ وَالْمُرَادُ من قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } نَفْسُ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا أَضَافَهُ إلَى الْبَيْتِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يهدي إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا وَمَكَانُ الْهَدَايَا هو الْحَرَمُ وَلَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بها وَلَا بِشَيْءٍ منها إلَّا في حَالِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا وَيَضْمَنُ ما نَقَصَ رُكُوبُهُ عليها وَهَذِهِ من مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الذَّبْحَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أو بِقِيمَتِهِ على فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَإِنْ كان مِمَّا يُذْبَحُ ذَبَحَهُ في الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ على فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ على فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ جَازَ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ
وَلَوْ أَوْجَبَ بَدَنَةً فَذَبَحَهَا في الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ على الْفُقَرَاءِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ ذَبَحَ في غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ على الْفُقَرَاءِ جَازَ عن نَذْرِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَهَذِهِ من مَسَائِلِ الْحَجِّ وَلَوْ قال ما أَمْلِكُ هدى أو قال ما أَمْلِكُ صَدَقَةٌ يُمْسِكُ بَعْضَ مَالِهِ وَيُمْضِي الْبَاقِيَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْهَدْيَ وَالصَّدَقَةَ إلَى جَمِيعِ ما يَمْلِكُهُ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ من جِنْسِ أَمْوَالِهِ وَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ بَعْضَهُ لِأَنَّهُ لو تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عليه فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ
وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ فَكَانَ له أَنْ يُمْسِكَ مِقْدَارَ ما يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَكْتَسِبَ فإذا اكْتَسَبَ ما لا تَصَدَّقَ بمثله لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مع كَوْنِهِ وَاجِبَ الْإِخْرَاجِ عن مِلْكِهِ لِجِهَةِ الصَّدَقَةِ فَكَانَ عليه عِوَضُهُ كَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عليه
وَلَوْ قال مَالِي صَدَقَةٌ فَهَذَا على الْأَمْوَالِ التي فيها الزَّكَاةُ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَلَا يَدْخُلُ فيه ما لَا زَكَاةَ فيه فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْعُرُوضِ التي لَا يَقْصِدُ بها التِّجَارَةَ وَالْعَوَامِلَ وَأَرْضَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فيها وَلَا فَرْقَ بين مِقْدَارِ النِّصَابِ وما دُونَهُ لِأَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وَيُعْتَبَرُ فيه الْجِنْسُ لَا الْقَدْرُ وَلِهَذَا قالوا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وَإِنْ لم تَكُنْ وَاجِبَةً فَإِنْ قَضَى دِينَهُ بِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بمثله لِمَا ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الذي ذَكَرنَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْخُلُ فيه جَمِيعُ الْأَمْوَالِ كما في فَصْلِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ كما أَنَّ الْمِلْكَ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ كَالْمِلْكِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ في الْكُلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ وَإِنَّمَا وُجِدَ من الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ الدَّالِ على إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْإِيجَابُ الْمُضَافُ إلَى الْمَالِ من اللَّهِ تَعَالَى في الْأَمْرِ وهو الزَّكَاةُ في قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } وَنَحْوُ ذلك تَعَلَّقَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَذَا في النَّذْرِ
وقد قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إذَا حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا وَلَا نِيَّةَ له وَلَيْسَ له مَالُ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ يَحْنَثُ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ ذلك
وقال أبو يُوسُفَ وَلَا أَحْفَظُ عن أبي حَنِيفَةَ إذَا نَوَى بهذا النَّذْرِ جَمِيعَ ما يَمْلِكُ دَارُهُ تَدْخُلُ في نَذْرِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ وقال أبو يُوسُفَ وَيَجِبُ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا دُونَ النِّصَابِ وَلَا أَحْفَظُهُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوَجْهُ ما ذَكَرْنَا وإذا كانت له ثَمَرَةٌ عُشْرِيَّةٌ أو غَلَّةٌ عُشْرِيَّةٌ تَصَدَّقَ بها في قَوْلِهِمْ لِأَنَّ هذا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وهو الْعُشْرُ
وقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ في النَّذْرِ وقال أبو يُوسُفَ يَتَصَدَّقُ بها لِأَبِي يُوسُفَ أنها من جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ التي يَتَعَلَّقُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بها فَتَدْخُلُ في النَّذْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ بها وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ منها فَلَا تَدْخُلُ
قال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ على نَفْسِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ ولم يُسَمِّ فَعَلَيْهِ ذلك فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً لم يُجْزِهِ لِأَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْإِيجَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ما أَوْجَبَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِعَدَدٍ من الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى بَعْضِهِمْ إلَّا على التَّفْرِيقِ في الْأَيَّامِ فَكَذَا النَّذْرُ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ على الْمَسَاكِينِ فَتَصَدَّقَ بها على وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كان الْمَذْكُورُ فيها جَمِيعَ الْمَسَاكِينُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } كَذَلِكَ النَّذْرُ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هذا الْمِسْكِينَ هذا
____________________

(5/86)


الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ فَأَعْطَى ذلك الطَّعَامَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَالٍ مُتَعَيَّنٍ لَا يَتَعَيَّنُ فيها الْمِسْكِينُ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ الْمَالَ صَارَ هو الْمَقْصُودَ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعْطِيَ الذي عَيَّنَهُ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ وهو لَا يَنْوِي أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ إنَّمَا نَوَى أَنْ يُطْعِمَ وَاحِدًا ما يَكْفِي عَشْرَةً أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ مِقْدَارَ ما يُطْعِمُ عَشْرَةً فَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ يوم يَقْدَمُ فُلَانٌ ثُمَّ قال إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَكَلَّمَ فُلَانًا وَقَدِمَ فُلَانٌ أَجْزَأَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ عنهما جميعا وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ ذلك وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا سَمَّى يَوْمًا بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ مَعًا وَجَبَتْ بِالْإِيجَابَيْنِ جميعا لِأَنَّ اجْتِمَاعَ سَبَبَيْنِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ فَإِنْ وُجِدَا على التَّعَاقُبِ وَجَبَ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ نَظِيرُهُ إذَا قال لِعَبْدِهِ إنْ دخل زَيْدٌ هذه الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قال إنْ دَخَلَهَا عَمْرٌو فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنْ دَخَلَا مَعًا عَتَقَ الْعَبْدُ بِالْإِيجَابَيْنِ وَإِنْ دَخَلَا على التَّعَاقُبِ عَتَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَكَلَّمَ فُلَانًا وَجَبَ عليه أَنْ يَتَصَدَّقَ بها لِأَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ التَّصَدُّقَ بها فَيَجِبُ عليه ذلك فَإِنْ أَعْطَى ذلك من كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أو من زَكَاةِ مَالِهِ فَعَلَيْهِ لِنَذْرِهِ مِثْلُ ما أَعْطَى لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى تَعَيَّنَ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ النَّذْرِ ولم يَتَعَيَّنْ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ الزَّكَاةِ فإذا أَخْرَجَهُ بِحَقٍّ لم يَتَعَيَّنْ فيه صَارَ مُسْتَهْلِكًا له فَيَضْمَنُ مثله كما لو أَنْفَقَهُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِثَالَ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عن النَّذْرَيْنِ فَجَازَ عنهما
وَلَوْ قال إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يوم الْخَمِيسِ ثُمَّ صَامَ يوم الْخَمِيسِ عن قَضَاءِ رَمَضَانَ أو كَفَّارَةِ يَمِينٍ أو تَطَوُّعًا فَقَدِمَ فُلَانٌ يَوْمئِذٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ يَوْمٌ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه صَوْمُ ذلك الْيَوْمِ عن جِهَةِ النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وهو قُدُومُ فُلَانٍ فيه فإذا صَامَ عن غَيْرِهِ فَقَدْ مَنَعَ وُقُوعَهُ عن النَّذْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدِمَ بَعْدَمَا أَكَلَ فَيَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخِرَ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ وَلَوْ كان أَرَادَ بهذا الْقَوْلِ الْيَمِينَ لم يَحْنَثْ في يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وهو صَوْمُ الْيَوْمِ الذي حَلَفَ على صَوْمِهِ
وَجِهَاتُ الصَّوْمِ لم تَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ
وَلَوْ كان قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ الظُّهْرِ لم يَكُنْ عليه قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الظُّهْرِ لم يَجِبْ الصَّوْمُ عن النَّذْر كما لو أَنْشَأَ النَّذْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فقال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هذا الْيَوْمَ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ قبل الزَّوَالِ في يَوْمٍ قد أَكَلَ فيه فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ لِأَنَّ الْقُدُومَ حَصَلَ في زَمَانٍ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ فيه وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الصَّوْمُ لِوُجُودِ الْمُنَافِي له وهو الْأَكْلُ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النَّذْرِ كما لو أَوْجَبَ ثُمَّ أَكَلَ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الشَّهْرَ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ فَقَدِمَ في رَمَضَانَ فَصَامَهُ في رَمَضَانَ أَجْزَأَ عن رَمَضَانَ وَلَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ في حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فلم يَتَعَلَّقْ بهذا النَّذْرِ حُكْمٌ وَلَا كَفَّارَةَ عليه إنْ كان أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ لِتَحَقُّقِ الْبِرِّ وهو الصَّوْمُ وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ على الصَّوْمِ دُونَ غَيْره وقد صَامَ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَطَوَّعَا لِقُدُومِهِ وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَصَامَهُ عن كَفَّارَةِ يَمِينٍ ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ ذلك الْيَوْمَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَالْكَفَّارَةُ
أَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ نَذْر أَنْ يَصُومَ ذلك الْيَوْمَ لِلْقُدُومِ وَذَلِكَ الْيَوْمُ غَيْرُ معين ( ( ( متعين ) ) ) لِصَوْمِ الْكَفَّارَةِ فإذا صَامَ عن جِهَةٍ يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ لها لَزِمَهُ الْقَضَاءُ
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِأَنَّهُ لم يَحْلِفْ على مُطْلَقِ الصَّوْمِ بَلْ على أَنْ يَصُومَ عن الْقُدُومِ فإذا صَامَ عن غَيْرِهِ لم يُوجَدْ الْبِرُّ فَيَحْنَثُ وَلَوْ كان في رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عليه وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الصَّوْمِ فيه لِغَيْرِهِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فيه فَلِأَنَّهُ لم يَصُمْ لِمَا حَلَفَ عليه فلم يُوجَدْ الْبِرُّ وَإِنْ صَامَهُ يَنْوِي الشُّكْرَ على قُدُومِ فُلَانٍ وَلَا يَنْوِي رَمَضَانَ بَرَّ في يَمِينِهِ وَأَجْزَأَهُ عن رَمَضَانَ
أَمَّا الْجَوَازُ عن رَمَضَانَ فَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يُعْتَبَرُ فيه تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِكَوْنِ الزَّمَانِ مُتَعَيِّنًا له فَوَقَعَ عنه
وَأَمَّا بِرُّهُ في يَمِينِهِ فَلِأَنَّهُ حَلَفَ علي الصَّوْمِ بِجِهَةٍ وقد قَصْد تِلْكَ الْجِهَةَ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ عن غَيْرِهِ حُكْمًا من غَيْرِ قَصْدٍ وَلَوْ قال لِلَّهِ على أَنْ أَصُومَ هذا الْيَوْمَ شَهْرًا فإنه يَصُومُ ذلك الْيَوْمَ حتى يَسْتَكْمِلَ منه ثَلَاثِينَ يَوْمًا فإنه تَعَذَّرَ حَمْلُهُ على ظَاهِرِهِ إذْ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لَا يُوجَدُ شَهْرًا لِأَنَّهُ إذَا مَضَى لَا يَعُودُ ثَانِيًا فَيُحْمَلُ على الْتِزَامِ صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسَمَّى
____________________

(5/87)


بِذَلِكَ الْيَوْمِ الذي هو فيه من الِاثْنَيْنِ أو الْخَمِيسِ كُلَّمَا تَجَدَّدَ إلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ شَهْرًا ثَلَاثِينَ يَوْمًا حَمْلًا لِلْكَلَامِ على وَجْهِ الصِّحَّةِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هذا الشَّهْرَ يَوْمًا نُظِرَ إلَى ذلك الشَّهْرِ أَنَّهُ رَجَبٌ أو شَعْبَانُ أو غَيْرُهُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رجب ( ( ( رجبا ) ) ) أو شَعْبَانَ في وَقْتٍ من الْأَوْقَاتِ إذْ الشَّهْرُ لَا يُوجَدُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على ظَاهِرِهِ وقد قَصَدَ تَصْحِيحَ نَذْرِهِ فَيُحْمَلُ على وَجْهٍ يَصِحُّ وهو حَمْلُ الْيَوْمِ على الْوَقْتِ وقد يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَيُرَادُ بِهِ مُطَلَّقُ الْوَقْتِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بين الناس } وقال تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ } وَيُقَالُ في الْعُرْفِ يَوْمًا لنا وَيَوْمًا عَلَيْنَا على إرَادَةِ مُطْلَقِ الْوَقْتِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هذا الْيَوْمَ غَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الذي قال فيه هذا الْقَوْلَ إنْ قال ذلك قبل الزَّوَالِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ ما يَنْقُضُ صَوْمَهُ وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ غَدًا لِأَنَّهُ رَكَّبَ اسْمًا على اسْمٍ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ فَبَطَلَ التَّرْكِيبُ لِأَنَّهُ يَكُونُ إيجَابَ صَوْمِ هذا الْيَوْمِ غَدًا وَهَذَا الْيَوْمُ لَا يُوجَدُ في غَدٍ فَلَا يَكُونُ الْغَدُ ظَرْفًا له بَطَلَ قَوْلُهُ غَدًا وَبَقِيَ قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هذا الْيَوْمَ فَيُنْظَرُ في ذلك الْيَوْمِ فَإِنْ كان قَابِلًا لِلْإِيجَابِ صَحَّ وَإِلَّا بَطَل بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْيَوْمَ قد يُعْتَدُّ بِهِ عن مُطْلَقِ الْوَقْتِ
وَأَمَّا الْغَدُ فَلَا يَصْلُحُ عِبَارَةً عن مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَلَا يُعَبَّر بِهِ إلَّا عن عَيْنِ الْغَدِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا الْيَوْمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ غَدًا وَقَوْلُهُ الْيَوْمَ حَشْوٌ من كَلَامِهِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَوْمَ الْغَدِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ ولم يَصِحَّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ رَكَّبَهُ على الْغَدِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ فَبَطَلَ لِأَنَّ صَوْمَ غَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ في الْيَوْمِ فلغى قَوْلُهُ الْيَوْمَ وَبَقِيَ قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ غَدًا لم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ أَمْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَامَ فيه لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ ثَانِيًا فَبَطَلَ الِالْتِزَامُ فيه فَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ غَدًا لِأَنَّهُ لم يُوجِبْ صَوْمَ غَدٍ وَإِنَّمَا جَعَلَ الْغَدَ ظَرْفًا لِلْأَمْسِ وأنه لَا يصح ( ( ( يصلح ) ) ) ظَرْفًا له فلغت ( ( ( فلغيت ) ) ) تَسْمِيَةُ الْغَدِ أَيْضًا وَالْأَصْلُ في هذا النَّوْعِ أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ يَبْطُلُ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرنَا وإذا بَطَلَ هذا يُنْظَرُ إلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَإِنْ صَلَحَ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا كَذَا يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ له فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ فَانْصَرَفَ إلَى أَقَلِّ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فيها وَإِنْ نَوَى شيئا فَهُوَ على ما نَوَى يَوْمًا كان أو أَكْثَرَ لِأَنَّ حَمْلَ هذا اللَّفْظِ على التَّكْرَارِ جَائِزٌ في اللُّغَةِ يُقَالُ صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ وإذا جَازَ هذا فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فعلمت ( ( ( فعملت ) ) ) نِيَّتُهُ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ على الْإِكْمَالِ بِحَرْفِ النَّسَقِ فَحُمِلَ على أَقَلِّ ذلك وَأَقَلُّهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَإِنْ كانت له نِيَّةٌ فَهُوَ على ما نَوَى وَاحِدًا أو أَكْثَرَ لِأَنَّ هذا مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ يُقَالُ صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ له كان عليه صَوْمُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوِمًا لِأَنَّ الْبِضْعَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عن ثَلَاثَةٍ فما فَوْقَهَا إلَى تَمَامِ الْعَقْدِ وهو عَشْرَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ وَنَحْوُ ذلك فإذا لم يَكُنْ له نِيَّةٌ صُرِفَ إلَى أَقَلِّهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سِنِينَ فَهُوَ على ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةُ هذا الِاسْمِ بِيَقِينٍ وَلَوْ قال السِّنِينَ فَهُوَ على عَشْرِ سِنِينَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا على الْأَبَدِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ صَوْمُ الشُّهُورِ فَهُوَ على عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا لم يَكُنْ له نِيَّةٌ وَعِنْدَهُمَا على اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا
وَلَوْ قال صَوْمُ شهر ( ( ( شهور ) ) ) فَهُوَ على ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا هذا في الْأَيَّامِ وَأَيَّامًا مُنَكَّرًا وَمُعَرَّفًا وَعِنْدَهُمَا الْمُعَرَّفُ يَقَعُ على الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ
وقد ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الإيمان
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمَعِ هذا الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ كل يَوْمِ جُمُعَةٍ في ذلك الشَّهْرِ إذَا لم يَكُنْ له نِيَّةٌ لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ في ظَاهِرِ الْعَادَةِ عَيْنُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ أَيَّامَ الْجُمُعَةِ سَبْعَةٌ في تَعَارُفِ الناس
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمُعَةٍ فَإِنْ كانت له نِيَّةٌ فَهُوَ على ما نَوَى إنْ نَوَى عَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أو نَوَى أَيَّامَهَا لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَحْتَمِلُ كلاهما ( ( ( كليهما ) ) ) وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ فَهُوَ على أَيَّامِهَا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ في أَغْلِبْ الْعَادَاتِ أَيَّامُهَا وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ نَذَرَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ من صَلَاةٍ أو صَوْمٍ فقال رَجُلٌ آخَرُ على مِثْلُ ذلك يَلْزَمُهُ
وَكَذَا إذَا قال عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لي طَالِقٌ إذَا دَخَلْتُ الدَّارَ فقال رَجُلٌ آخَرُ على مِثْلُ ذلك إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ثُمَّ
____________________

(5/88)


دخل الثَّانِي الدَّارَ فإنه يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ
ثُمَّ قال أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي فإن الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عليها وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ من قال الطَّلَاقُ عَلَيَّ وَاجِبٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وكان أَصْحَابُنَا بِالْعِرَاقِ يَقُولُونَ فِيمَنْ قال الطَّلَاقُ لي لَازِمٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعُرْفِ الناس أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وكان محمد بن سَلَمَةَ يقول إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِكُلِّ حَالٍ
وَحَكَى الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عن عَلِيِّ بن أَحْمَدَ بن نصير ( ( ( نصر ) ) ) بن يحيى عن مُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ قال الْمَسْأَلَةُ على الْخِلَافِ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إذَا قال الطَّلَاقُ لي لَازِمٌ أو عَلَيَّ وَاجِبٌ لم يَقَعْ وقال مُحَمَّدٌ يَقَعُ في قَوْلِهِ لَازِمٌ وَلَا يَقَعُ في قَوْلِهِ وَاجِبٌ
وَحَكَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ قال أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هذه أو أَلْزَمْتُ نَفْسِي عِتْقَ عَبْدِي هذا قال إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ فَهُوَ وَاقِعٌ وَإِلَّا لم يَلْزَمْهُ
وَكَذَلِكَ لو قال أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هذه إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ أو عِتْقَ عَبْدِي هذا فَدَخَلَ الدَّارَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إنْ نَوَى ذلك وَإِنْ لم يَنْوِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ إن الْوُقُوعَ لِلْعَادَةِ وَالْعَادَةُ في اللُّزُومِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ على إرَادَةِ الْإِيقَاعِ وَلَا عَادَةَ في الْإِيجَابِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِلْزَامُ وَالْإِيجَابُ لِلنَّذْرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْتِزَامُ حُكْمِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فَيَقِفُ على النِّيَّةِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ لِأَنَّهُ ليس بِقُرْبَةٍ فَبَطَلَ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ إذَا قال رَجُلٌ امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ ثَلَاثًا ورقيقة أَحْرَارٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ إنْ دخل هذه الدَّارَ فقال زَيْدٌ نعم كان كَأَنَّهُ قد حَلَفَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ نعم جَوَابٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَيَتَضَمَّنُ إضْمَارَ ما خَرَجَ جَوَابًا له كما في قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا } قالوا نعم تَقْدِيرُهُ نعم وَجَدْنَا ما وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا وَكَالشُّهُودِ إذَا قرأوا ( ( ( قرءوا ) ) ) على الْمَشْهُودِ عليه كِتَابَ الْوَثِيقَةِ فَقَالُوا نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فيه فقال نعم إنَّ لهم أَنْ يَشْهَدُوا لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ نعم اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا في الْكِتَابِ وَلَوْ لم يَكُنْ قال نعم وَلَكِنَّهُ قال أَجَزْتُ ذلك فَهَذَا لم يخلف ( ( ( يحلف ) ) ) على شَيْءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَجَزْتُ ليس بِإِيجَابٍ وَالْتِزَامٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
فَإِنْ قال قد أَجَزْتُ ذلك على أن دَخَلْتُ الدَّارَ أو قال قد أَلْزَمْتُ نَفْسِي ذلك إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ كان لَازِمًا له لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ما قَالَهُ فَلَزِمَهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قال امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ فقال زَيْدٌ قد أَجَزْت لَزِمَهُ الطَّلَاقُ
وَكَذَلِكَ لو قال قد رَضِيت ما قال أو أَلْزَمْتُهُ نَفْسِي لِأَنَّ هذا ليس بِيَمِينٍ بَلْ هو إيقَاعٌ فَيَقِفُ على الْإِجَازَةِ فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَحْتَاجُ إلَى الِالْتِزَامِ لِيَجُوزَ على الْحَالِفِ وَيَنْفُذَ عليه فَلَا بُدَّ من لَفْظِ الِالْتِزَامِ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قال إنْ بِعْتُ هذا الْمَمْلُوكَ من زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ فقال زَيْدٌ قد أَجَزْتُ ذلك أو رَضِيت ذلك ثُمَّ اشْتَرَاهُ لم يَعْتِقْ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ في غَيْرِ مِلْكِهِ فلم يَحْنَثْ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِجَازَةِ حُكْمٌ لِأَنَّ الْبَائِعَ لم يُوَقِّتْ الْيَمِينَ وَإِنَّمَا حَلَفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ
وَلَوْ كان الْبَائِعُ قال إنْ اشْتَرَى زَيْدٌ هذا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فقال نعم ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عليه لِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَعْقِدْ الْيَمِينَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى مُلْكِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ عاقد ( ( ( عاقدا ) ) ) اليمين ( ( ( ليمين ) ) ) مَوْقُوفَةٍ وقد أَجَازَهَا من وُقِفَتْ عليه فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بها
وقال ابْن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ لو أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فقال آخَرُ عَلَيَّ مِثْلُ ذلك فإن هذا لَا يَلْزَمُ الثَّانِيَ وَكَذَلِكَ لو قال عَلَيَّ مِثْلُ هذا الطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ مِثْلُ ذلك إيجَابُ الطَّلَاقِ على نَفْسِهِ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ
وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ فقال آخَر عَلَيَّ مِثْلُ ذلك إنْ دَخَلْتُهَا فَإِنْ دَخَلَهَا الثَّانِي لم يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ الطَّلَاقَ إنْ دخل الدَّارَ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ لِأَنَّهُ ليس بِقُرْبَةِ فَإِنْ أَرَادَ بهذا الْإِيجَابِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ حتى تَطْلُقَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ حتى مَاتَ أَحَدُهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ النَّذْرَ إذَا أُرِيد بِهِ الْيَمِينُ صَارَ كَأَنَّهُ قال لا ( ( ( لأطلقنها ) ) ) طلقتها وَلَوْ قال ذلك لَا يَحْنَثُ حتى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا كَذَا هذا
وَلَوْ قال عَبْدِي هذا حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هذه الدَّارَ فقال آخَرُ عَلَيَّ مِثْلُ ذلك إنْ دَخَلْتُ هذه الدَّارَ فَدَخَلَ الثَّانِي لم يَعْتِقْ عَبْدُهُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ عِتْقًا غير مُعَيَّنٍ فَكَانَ له أَنْ يَخْرُجَ منه بِشِرَاءِ عَبْدٍ يَعْتِقُهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِعَبِيدِهِ الْمَوْجُودِينَ لَا مَحَالَةَ وإذا لم يَتَعَلَّقْ بِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ في ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ لو لَزِمَهُ لم يَكُنْ ذلك مِثْلَ ما فَعَلَهُ احلالف ( ( ( الحالف ) ) )
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قال لِلَّهِ على نَسَمَةٌ إنْ دَخَلْتُ هذه الدَّارَ فقال آخَرُ عَلَيَّ مِثْلُ ذلك إنْ دَخَلْتُ فَهَذَا لَازِمُ لِلْأَوَّلِ وَلَازِمٌ لِلثَّانِي أَيُّهُمَا دخل لَزِمَهُ نَسَمَةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ
____________________

(5/89)


عِتْقًا في ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ بِالنَّذْرِ وإذا أَوْجَبَ آخَر مثله وَجَبَ عليه بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ثَمَّةَ ما أَوْجَبَ الْعِتْقَ بَلْ عَلَّقَ فَلَا يَكُونُ على الثَّانِي إيجَابٌ لِأَنَّهُ ليس بِمِثْلٍ
وَلَوْ قال كُلُّ مالي هَدْيٌ وقال آخَرُ وَعَلَيَّ مِثْلُ ذلك فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِهِ سَوَاءٌ كان أَقَلَّ من مَالِ الْأَوَّلِ أو أَكْثَرَ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مِثْلَ قَدْرِهِ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُ ذلك إنْ كان مَالُ الثَّانِي أَكْثَرَ وَإِنْ كان مَالُ الثَّانِي أَقَلَّ يَلْزَمُهُ في ذِمَّتِهِ تَمَامُ مَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِيجَابِ يُضَافُ إلَى هَدْيِ جَمِيعِ مَالِهِ كما أَوْجَبَ الْأَوَّلُ فإذا أَرَادَ الْقَدْرَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ فَيُحْمَلُ عليه
فَإِنْ قال رَجُلٌ كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُ إلَى سَنَةٍ فَهُوَ هَدْيٌ فقال آخَرُ على مِثْلُ ذلك لم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الثَّانِيَ لم يُضِفْ الْهَدْيَ إلَى الْمِلْكِ فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ بِالْإِضْمَارِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ إذَا كان مَالًا مَمْلُوكَ النَّاذِرِ وَقْتَ النَّذْرِ أو كان النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أو إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ حتى لو نَذَرَ بِهَدْيِ ما لَا يَمْلِكُهُ أو بصدقه مالا يَمْلِكُهُ لِلْحَالِ لَا يَصِحُّ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ إلَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمِلْكِ أو إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ قال كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا استقبل فَهُوَ هَدْيٌ أو قال فَهُوَ صَدَقَةٌ أو قال كُلَّمَا اشْتَرَيْته أو أَرِثُهُ فَيَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ عز وجل { وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ من الصَّالِحِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } دَلَّتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ على صِحَّةِ النَّذْرِ الْمُضَافِ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِنَذْرِهِ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ وقد لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ وَالْمُؤَاخَذَةُ على تَرْك الْوَفَاءِ بِهِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا في النَّذْرِ الصَّحِيحِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَفْرُوضًا وَلَا وجابا ( ( ( واجبا ) ) ) فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِشَيْءٍ من الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كان فَرْضَ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ أو فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا بِشَيْءٍ من الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ كان عَيْنًا كَالْوِتْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُمْرَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ أو على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَتَجْهِيزِ الموتي وَغُسْلِهِمْ وَرَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ إيجَابَ الْوَاجِبِ لَا يُتَصَوَّرُ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نفسه ( ( ( نفس ) ) ) الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عن الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ دَخَلَهُ أَبْطَلَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ النَّذْرِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ
الْأَوَّلُ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَالنَّاذِرُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ نَذَرَ وَسَمَّى أو نَذَرَ ولم يُسَمِّ فَإِنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كان مسؤولا ( ( ( مسئولا ) ) ) } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } وَالنَّذْرُ نَوْعُ عَهْدٍ من النَّاذِرُ مع اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ وَقَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ الْعُهُودِ وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } إلَى قَوْله تَعَالَى { بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ } أَلْزَمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ حَيْثُ أَوْعَدَ على تَرْكِ الْوَفَاءِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النبي من نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ وَقَوْلُهُ من نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ وَقَوْلُهُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَالنَّاذِرُ شَرَطَ الْوَفَاءَ بِمَا نَذَرَ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَوْعٍ من الْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ التي له رُخْصَةُ تَرْكِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْمُعَاقَبَةِ الْحَمِيدَةِ وَهِيَ نَيْلُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالسَّعَادَةُ الْعُظْمَى في دَارِ الْكَرَامَةِ وَطَبْعُهُ لَا يُطَاوِعُهُ على تَحْصِيلِهِ بَلْ يَمْنَعُهُ عنه لِمَا فيه من الْمَضَرَّةِ الْحَاضِرَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ وَلَا ضَرُورَةَ في التَّرْكِ فَيَحْتَاجُ إلَى اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُخْرِجُهُ عن رُخْصَةِ التَّرْكِ وَيُلْحِقُهُ بِالْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ على التَّحْصِيلِ خَوْفًا من مَضَرَّةِ التَّرْكِ فَيُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّذْر الذي فيه تَسْمِيَةٌ هو وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى
وَسَوَاءٌ كان النَّذْرُ مُطْلَقًا أو مُقَيَّدًا أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قال إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ لِلَّهِ حَجٌّ أو عُمْرَةٌ أو صَوْمٌ أو صَلَاةٌ أو ما أَشْبَهَ ذلك من الطَّاعَاتِ حتى لو فَعَلَ ذلك يَلْزَمُهُ الذي جَعَلَهُ على نَفْسِهِ ولم يُجْزِ عنه كَفَّارَةٌ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أن عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عنه بِالْكَفَّارَةِ كما إذَا قال إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أو إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ كَذَا وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ بِأَنْ قال إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا أو قال إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ
____________________

(5/90)


كَذَا يَخْرُجُ عنه بِالْكَفَّارَةِ وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ وَفَّى بِالنَّذْرِ وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَمُّونَ هذا يَمِينَ الْغَصْبِ
وَرَوَى عَامِرٌ عن عَلِيِّ بن مَعْبَد عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عن ذلك وقال يجزي فيه كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ رَجَعَ عن ( ( ( إلى ) ) ) الْكَفَّارَةِ في آخِرِ عُمُرِهِ فإنه رُوِيَ عن عبد الْعَزِيزِ بن خَالِدٍ أَنَّهُ قال قَرَأْت على أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ الْأَيْمَانِ فلما انْتَهَيْت إلَى هذه الْمَسْأَلَةِ قال قِفْ فإن من رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الْكَفَّارَةِ قال فَخَرَجْت حَاجًّا فلما رَجَعْتُ وَجَدْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ قد مَاتَ فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بن أَبَانَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عن الْكَفَّارَةِ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عليه الْوَفَاءَ بِمَا سَمَّى وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ وَسَيِّدَتِنَا حَفْصَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عليه الْكَفَّارَةَ
احتج ( ( ( واحتج ) ) ) من قال بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا يَمِينٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَهَذَا كَذَلِكَ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ اليمينوهذا نَصٌّ وَلِأَنَّ هذا في مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصِدَ من الْيَمِينِ بِاَللَّهِ الِامْتِنَاعُ من الْمَحْلُوفِ عليه أو تَحْصِيلُهُ خَوْفًا من لُزُومِ الْحِنْثِ وَهَذَا مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّهُ إنْ قال إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ فَقَدْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ من تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَإِنْ قال إنْ لم أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ فَقَدْ قَصَدَ تَحْصِيلَ الشَّرْطِ وَكُلُّ ذلك خَوْفًا من الْحِنْثِ فَكَانَ في مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ
وَلَنَا قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ { وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ } الْآيَةَ وَغَيْرُهَا من نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ عَامًّا مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُطْلَقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ هو فِعْلُ ما تَنَاوَلَهُ النَّذْرُ لَا الْكَفَّارَةُ لأن الْأَصْلَ اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ تَنْجِيزًا كان أو تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ وَالْمُتَصَرِّف أَوْقَعَهُ نَذْرًا عليه عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وهو إيجَابُ الطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا إيجَابُ الْكَفَّارَةِ
وَاحْتَجَّ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في ذلك وقال الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ يُؤَدِّي إلَى وُجُوبِ الْقَلِيلِ بِإِيجَابِ الْكَثِيرِ وَوُجُوبِ الْكَثِيرِ بِإِيجَابِ الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ لو قال ان فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أو إطْعَامُ أَلْفِ مِسْكِينٍ لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
وَلَوْ قال إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ أو إطْعَامُ مِسْكَيْنِ لَزِمَهُ اطعام عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أو صَوْمُ ثَلَاثَةٍ وَلَا حُجَّةَ لهم بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بها الْيَمِينُ بِاَللَّهِ عز شَأْنُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ ما نَفَاهُ بِيَمِينِ اللَّغْوِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّتْ كِبْرِيَاؤُهُ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَالْمُرَادُ من النَّفْيِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَذَا في الْإِثْبَاتِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على النَّذْرِ الْمُبْهَمِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ هذا في مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَمْنُوعٌ بِأَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ صَرِيحٌ في الْإِيجَابِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ليس بِصَحِيحٍ في الْإِيجَابِ وَكَذَا الْكَفَّارَةُ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ عَزّ اسْمُهُ الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ وَلَيْسَ في الْحِنْثِ هَهُنَا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا فيه إيجَابُ الطَّاعَةِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
ثُمَّ الْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هو كَالتُّرَابِ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ وَالْأَشْهُرُ حَالَ عَدَمِ الأقراء حتى لو نَذَرَ الشَّيْخُ الْفَانِي بِالصَّوْمِ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَامَ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ أَيْضًا النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجِبُ ذَبْحُ الشَّاةِ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عن تَحْقِيقِ الْقُرْبَةِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَقِيقَةً لم يَعْجِزْ عن تَحْقِيقِهَا بِذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ خَلَفَهُ وهو الشَّاةُ كما في الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَنْذُورِ بِهِ إذَا كان متعينا ( ( ( معينا ) ) ) بِأَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ فَهَلْ هو من حُكْمِ النَّذْرِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ النَّاذِرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ قال ذلك وَنَوَى النَّذْرَ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ أو نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا أو لم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ أو نَوَى الْيَمِينَ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ أو نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ
____________________

(5/91)


نَذْرًا أو نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جميعا فَإِنْ لم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ أو نَوَى النَّذْرَ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ أو نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ أو نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جميعا كان نَذْرًا وَيَمِينًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا بَلْ إذَا بَقِيَ نَذْرًا لَا يَكُونُ يَمِينًا وإذا صَارَ يَمِينًا لم يَبْقَ نَذْرًا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ حَقِيقَةً وَتَحْتَمِلُ الْيَمِينَ مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا يكون ( ( ( بكون ) ) ) كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفِّ عن فِعْلٍ أو الْإِقْدَامِ عليه فإذا بَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً لم يَثْبُتْ الْمَجَازُ وإذا انْقَلَبَ مَجَازًا لم تَبْقَ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا بَيْنَهُمَا من التَّنَافِي إذْ الْحَقِيقَةُ من الْأَسَامِي ما تَقَرَّرَ في الْمَحَلِّ الذي وُضِعَ له وَالْمَجَازُ ما جَاوَزَ مَحَلَّ وَضْعِهِ وَانْتَقَلَ عنه إلَى غَيْرِهِ لِضَرْبِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ مُتَقَرِّرًا في مَحَلِّهِ وَمُنْتَقِلًا عنه إلَى غَيْرِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ فيه مَعْنَى الْيَمِينِ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِإِيجَابِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وفي الْيَمِينِ وُجُوبُ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عليه إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ ما وُضِعَتْ لِذَلِكَ بَلْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَوُجُوبُ الْفِعْلِ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا ما وُضِعَتْ لِذَلِكَ وإذا كان وُجُوبُ الْفِعْلِ فيها لِغَيْرِهِ لم يَكُنْ الْفِعْلُ وَاجِبًا في نَفْسِهِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ في الْأَفْعَالِ كُلِّهَا وَاجِبَةً كانت أو مَحْظُورَةً أو مُبَاحَةً وَلَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ إلَّا فِيمَا لِلَّهِ تَعَالَى من جِنْسِهِ إيجَابٌ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ لِتَغَايُرِ الْوَاجِبَيْنِ لِأَنَّ صَلَاةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَتْ بِنَذْرِهِ فَتَتَغَايَرُ الْوَاجِبَاتُ ولم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عليه إذَا لم يَكُنْ وَاجَبًا في نَفْسِهِ كان في نَفْسِهِ نَفْلًا كَأَنْ اقْتَدَى الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ في نَفْسِهِ وَالْمَحْلُوفَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ فَلَا شَكَّ إن ما كان وَاجِبًا في حَقِّ نَفْسِهِ كان في حَقِّ غَيْرِهِ وَاجِبًا فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ وهو الْوُجُوبُ لِغَيْرِهِ مَوْجُودًا في النَّذْرِ فَكَانَ كُلُّ نَذْرٍ فيه مَعْنَى الْيَمِينِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ بِوُجُوبِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ عن وُجُوبِهِ في حَقِّ غَيْرِهِ فإذا نَوَاهُ فَقَدْ اعْتَبَرَهُ فَصَارَ نَذْرًا وَيَمِينًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ليس هذا من بَابِ الْجَمْعِ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في لَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَجَازَ ما جَاوَزَ مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا وَهَذَا ليس من هذا الْقَبِيلِ بَلْ هو من جَعْلِ ما ليس بِمُعْتَبَرٍ في مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ مع وُجُودِهِ وَتَقَرُّرِهِ مُعْتَبَرًا بِالنِّسْبَةِ فلم يَكُنْ من بَابِ الْمَجَازِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِمَالُ لَفْظٍ وَاحِدٍ على مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ إن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ على مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ على ما ذَكَرنَا في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَالْمَكَاتِبِ
وَأَمَّا النَّذْرُ الذي لَا تَسْمِيَةَ فيه فَحُكْمُهُ وُجُوبُ ما نَوَى إنْ كان النَّاذِرُ نَوَى شيئا سَوَاءٌ كان مُطْلَقًا عن شَرْطٍ أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قال لِلَّهِ على نَذْرٌ أو قال إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أو صَلَاةً أو حَجًّا أو عُمْرَةً لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ في الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ وفي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا تُجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا على ما بَيَّنَّا وَإِنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ غير أَنَّهُ إنْ كان مُطْلَقًا يَحْنَثُ لِلْحَالِ وَإِنْ كان مُعَلَّقًا بِشَرْطِ يَحْنَثُ عِنْدَ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ عليه السلام النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالْمُرَادُ منه النَّذْرُ الْمُبْهَمُ الذي لَا نِيَّةَ لِلنَّاذِرِ فيه وَسَوَاءٌ كان الشَّرْطُ الذي عَلَّقَ بِهِ هذا النَّذْرَ مُبَاحًا أو مَعْصِيَةً بِأَنْ قال إنْ صُمْتُ أو صَلَّيْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَيَجِبُ عليه أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عن يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها فَلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ
وَلَوْ نَوَى في النَّذْرِ الْمُبْهَمِ صِيَامًا ولم يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ وفي الْمُعَلَّقِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنْ نَوَى طَعَامًا ولم يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ من حِنْطَةٍ لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ له نِيَّةٌ لَكَانَ عليه كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ وإن كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فلما نَوَى بِهِ الصِّيَامَ انْصَرَفَ إلَى صِيَامِ الْكَفَّارَةِ وهو صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَانْصَرَفَ الاطعام إلَى طَعَامِ الْكَفَّارَةِ وهو إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
وَلَوْ قال لِلَّهِ على صَدَقَةٌ فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ فَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةٌ فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ لِأَنَّ ذلك أَدْنَى ما وَرَدَ
____________________

(5/92)


الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّذْرُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ فإذا لم يَنْوِ شيئا يَنْصَرِفُ إلَى أَدْنَى ما وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ في الشَّرْعِ
وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِ هذا الْحُكْمِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أو مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَالْمَنْذُورُ لَا يَخْلُو إما أن كان قُرْبَةً بَدَنِيَّةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وإما أن كان مَالِيَّةً كَالصَّدَقَةِ فَإِنْ كان النَّذْرُ مُطْلَقًا عن الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَوَقْتُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وهو وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ هو وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ فَيَجِبُ عليه في الْحَالِ مُطْلَقًا عن الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مُطْلَقًا فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مُطْلَقًا
وَإِنْ كان مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ نحو أَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أو إنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَلِلَّهِ على أَنْ أَصُومَ شَهْرًا أو أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أو أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ وَنَحْوَ ذلك فَوَقْتُهُ وَقْتُ الشَّرْطِ فما لم يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ فَعَلَ ذلك قبل وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ نَفْلًا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وَهَذَا لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ هو إثْبَاتُ النَّذْرِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالشَّرْطِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَجِبُ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ قَبْلَهُ وهو النَّذْرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ على الشَّرْطُ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَدَاءً قبل الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَلَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قبل الْحِنْثِ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ السلام ( ( ( والسلام ) ) ) الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَإِنْ كان مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ في مَوْضِعِ كَذَا أو أَتَصَدَّقَ على فُقَرَاءِ بَلَدِ كَذَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ في غَيْرِ ذلك الْمَكَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا في الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ الْأَدَاءَ في مَكَان مَخْصُوصٍ فإذا أَدَّى في غَيْرِهِ لم يَكُنْ مُؤَدِّيًا ما عليه فَلَا يَخْرُجُ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهُ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ في غَيْرِهِ كَالنَّحْرِ في الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيِ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
كَذَا ما أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى من النَّذْرِ هو التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ عز وجل فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَذْرِهِ إلَّا ما هو قُرْبَةٌ وَلَيْسَ في عَيْنِ الْمَكَانِ وَإِنَّمَا هو مَحَلُّ أَدَاءِ الْقُرْبَةِ فيه فلم يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً فَلَا يَدْخُلُ الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عنه بِمَنْزِلَةٍ
وَإِنْ كان مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رجب ( ( ( رجبا ) ) ) أو أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يوم كَذَا أو أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ في يَوْمِ كَذَا فَوَقْتُ الْوُجُوبِ في الصَّدَقَةِ هو وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ في قَوْلِهِمْ جميعا حتى يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا على الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَاخْتُلِفَ في الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ قال أبو يُوسُفَ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ وَقْتُ مَجِيءِ الْوَقْتِ حتى يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ على الْوَقْتِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَلَا يَجُوزُ في قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ ما شُرِعَ في الْوَقْتِ نَفْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّذْرَ بِمَا ليس بِمَشْرُوعٍ نَفْلًا وفي وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ كَصَوْمِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ وَالنَّاذِرُ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ الصَّوْمَ في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَجِبُ عليه قبل مَجِيئِهِ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لها بِالْوَقْتِ بَلْ بِالْمَالِ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فيه لَغْوًا بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ قبل الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النَّذْرُ فَكَانَ الْأَدَاءُ قبل الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ
وَالدَّلِيلُ على تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قبل الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ على الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ بِالنُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } وقَوْله تَعَالَى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا } وَنَحْوُ ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا خِدْمَةَ الْمَوْلَى وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ وَالتَّبَرُّعُ من الْعَبْدِ على الْمَوْلَى مُحَالٌ وَالْعُبُودِيَّةُ دَائِمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ عليه دَائِمًا وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ وَالنِّعْمَةُ دَائِمَةٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا دَائِمًا حَسْبَ دَوَامِ النِّعْمَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فإذا نَذَرَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَالْمُسَافِرِ إذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَصَامَ سَقَطَ عنه الْفَرْضُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه هو الصَّوْمُ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له تَرْكُهُ لِعُذْرِ السَّفَرِ فإذا صَامَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَةَ فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى كان الشُّرُوعُ في نَفْلِ الْعِبَادَةِ اللُّزُومَ في الْحَقِيقَةِ بِمَا ذَكَرنَا من الدَّلَائِلِ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَ فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَذَا في النَّذْر
وَالثَّانِي أَنَّهُ وجه سَبَب الْوُجُوب لِلْحَالِ وهو
____________________

(5/93)


النَّذْر وَإِنَّمَا الْأَجَل تَرْفِيهٌ يُتَرَفَّهُ بِهِ في التَّأْخِيرِ فإذا عَجَّلَ فَقَدْ أَحْسَنَ في إسْقَاطِ الْأَجَلِ فَيَجُوزُ كما في الْإِقَامَةِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ إيجَابٍ أَعْنِي قَوْلَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ وَالْأَصْلُ في كُلّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ في زَمَانِ اعْتِبَارِهِ فيه فِيمَا يَقْتَضِيه في وَضْعِ اللُّغَةِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ إلَى غَيْرِ ما وُضِعَ له إلَّا بِدَلِيلِ قَاطِعٍ أو ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إبْطَالِ هذه الصِّيغَةِ وَلَا إلَى تَغْيِيرِهَا وَلَا دَلِيلَ سِوَى ذِكْرِ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قد يُذْكَرُ لِلْوُجُوبِ فيه كما في بَابِ الصَّلَاةِ وقد يُذْكَرُ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ كما في الْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةِ وقد يُذْكَرُ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كما في وَقْتِ الْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَوْلِ في بَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ في نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ صِيغَةِ الْإِيجَابِ الموجودة ( ( ( الموجود ) ) ) لِلْحَالِ مع الِاحْتِمَالِ فَبَقِيَتْ الصِّيغَةُ مُوجِبَةً وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كيلا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هذا ليس بِإِيجَابِ صَوْمِ رَجَبٍ عَيْنًا بَلْ هو إيجَابُ صَوْمٍ مُقَدَّرٍ بِالشَّهْرِ أَيَّ شَهْرٍ كان فَكَانَ ذِكْرُ رَجَبٍ لِتَقْرِيرِ الْوَاجِبِ لَا لِلتَّعْيِينِ فَأَيُّ شَهْرٍ اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِهِ تَعَيَّنَ ذلك الشَّهْرُ لِلْوُجُوبِ فيه وَإِنْ لم يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ إلَى رَجَبٍ تَعَيَّنَ رَجَبٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فيه فَكَانَ تَعْيِينُ كل شَهْرٍ قبل رَجَبٍ بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ وَتَعْيِينُ رَجَبٍ بِمَجِيئِهِ قبل اتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِشَهْرٍ قَبْلَهُ كان ( ( ( كما ) ) ) في بَابِ الصَّلَاةِ أنها تَجِبُ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ عين ( ( ( معين ) ) ) وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِالشُّرُوعِ إنْ شَرَعَ فيها وَإِنْ لم يَشْرَعْ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَعَيَّنَ آخِرُ الْوَقْتِ لِلْوُجُوبِ وهو الصَّحِيحُ من الْأَقَاوِيلِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَمَا في النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عن الْوَقْتِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ عن الْوَقْتِ من قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا أنها تَجِبُ في مُطْلَقِ الْوَقْتِ في غَيْرِ عين ( ( ( تعيين ) ) ) وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ إمَّا بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ وَإِمَّا بِآخِرِ الْعُمُرِ إذَا صَارَ إلَى حَالٍ لو لم يُؤَدَّ لَفَاتَ بِالْمَوْتِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِهِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن أُضِيفُ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ وَإِمَّا أن أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَإِنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَا نِيَّةَ له فَحُكْمُهُ هو حُكْمُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عن الْوَقْتِ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ في ذلك أَنَّ حُكْمَهُ وُجُوبُ الْفِعْلِ على الْفَوْرِ أَمْ على التَّرَاخِي حَكَى الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ على الْفَوْرِ
وَرَوَى ابن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بين أَصْحَابِنَا في الْحَجِّ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجِبُ على الْفَوْرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ على التَّرَاخِي وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ مِثْلُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُ على التَّرَاخِي وَتَفْسِيرُ الْوَاجِبِ على التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ في جُزْءٍ من عُمُرِهِ غَيْرِ عين ( ( ( معين ) ) ) وَإِلَيْهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فيه تَعَيَّنَ ذلك الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِنْ لم يَشْرَعْ يَتَضَيَّقْ الْوُجُوبُ في آخِرِ عُمُرِهِ إذَا بَقِيَ من آخِرِ عُمُرِهِ قَدْرُ ما يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فيه بِغَالِبِ ظَنِّهِ حتى لو مَاتَ قبل الْأَدَاءِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقٌ عن الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَكَذَلِكَ النَّذْرُ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقَةٌ عن الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَكَذَا سَبَبُ الْوُجُوبِ وهو النَّذْرُ وُجِدَ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ على وَفْقِ السَّبَبِ فَيَجِبُ عليه أَنْ يَصُومَ شَهْرًا من عُمُرِهِ غير عين ( ( ( معين ) ) ) وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ الفوات ( ( ( الفوت ) ) ) لو لم يَصُمْ فَيَضِيقُ الْوَقْتُ حِينَئِذٍ
وَكَذَا حُكْمُ الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا وَلَا نِيَّةَ له وَهَذَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالْكَلَامِ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الذي يَلِي الْيَمِينَ
وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِأَنْ آجر دَارِهِ أو عَبْدَهُ شَهْرًا فإنه يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الذي يَلِي الْعَقْدَ لِأَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى شَهْرٍ مُنْكَرٍ وَالصَّرْفُ إلَى الشَّهْرِ الذي يَلِي النَّذْرَ يُعَيِّنُ الْمُنْكَرَ وَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُنْكَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ هو الْأَصْلُ وقد قام دَلِيلُ التَّعْيِينِ في بَابِ الْيَمِينِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ مَنْعُ نَفْسِهِ عن الْكَلَامِ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عن الْكَلَامِ مع غَيْرِهِ لِإِهَانَتِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى ذلك الْحَالِ وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ لِلْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَالْحَاجَةُ قَائِمَةٌ عَقِيبَ الْعَقْدِ فَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْعِقْدِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَيَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُبْهَمِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَيِّنِ وَلَوْ نَوَى شَهْرًا مُعَيَّنًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عليه ثُمَّ في النَّذْرِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ أنه إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلِاعْتِكَافِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَكِفَ مُتَتَابِعًا في النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جميعا لِأَنَّ الْإِيجَابَ في النَّوْعَيْنِ حَصَلَ مُطْلَقًا عن صِفَةِ التَّتَابُعِ إلَّا أَنَّ في
____________________

(5/94)


ذَات الِاعْتِكَافِ ما يُوجِبُ التَّتَابُعَ وهو كَوْنُهُ لَبْثًا على الدَّوَامِ فَكَانَ مَبْنَاهُ على الِاتِّصَالِ وَاللَّيَالِي وَالنُّهُرُ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ فَلَا بُدَّ من التَّتَابُعِ وَمَبْنَى الصَّوْمِ ليس على التَّتَابُعِ بَلْ على التَّفْرِيقِ لِمَا بين كل يَوْمَيْنِ ما لَا يَصْلُحُ له وهو اللَّيْلُ فَبَقِيَ له الْخِيَارُ وَإِنْ أُضِيف إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَصُومَ غَدًا يَجِبُ عليه صَوْمُ الْغَدِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا ليس له رُخْصَةُ التَّأْخِيرِ من غَيْرِ عُذْرٍ
وَكَذَا إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فلم يَصُمْ فِيمَا سَبَقَ من الشُّهُورِ على رَجَبٍ حتى هَجَمَ رَجَبٌ لَا يَجُوزُ له التَّأْخِيرُ من غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ إذَا لم يَصُمْ قَبْلَهُ حتى جاء رَجَبٌ تَعَيَّنَ رَجَبٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فيه التَّضْيِيقِ فَلَا يُبَاحُ له التَّأْخِيرُ
وَلَوْ صَامَ رجب ( ( ( رجبا ) ) ) وَأَفْطَرَ منه يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَلَكِنَّهُ يَقْضِي ذلك الْيَوْم من شَهْرٍ آخَرَ بِخِلَافِ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا أو قال أَصُومَ شَهْرًا وَنَوَى التَّتَابُعَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ وَصَحَّ الْإِيجَابُ لِأَنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ لِمَا يَلْحَقُهُ بِمُرَاعَاتِهَا من زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ وَهِيَ صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَرَدَ الشَّرْعُ بها في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ الإفطار ( ( ( والإفطار ) ) ) وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ كما الْتَزَمَ فإذا تَرَكَ فلم يَأْتِ بِالْمُلْتَزَمِ فَيَسْتَقْبِلُ كما في صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ
فَأَمَّا هَهُنَا فما أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا وَإِنَّمَا وَجَبَ عليه التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ مُتَجَاوِرَةٌ فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ ما أَفْطَرَ كما لو أَفْطَرَ يَوْمًا من رَمَضَانَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ وَإِنْ كان صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلِأَنَّا لو أَلْزَمْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصَّوْمِ في غَيْرِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ النَّذْرُ وَلَوْ أَتَمَّ وَقَضَى يَوْمًا لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ في الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ هذا أَوْلَى
وَلَوْ أَفْطَرَ رجب ( ( ( رجبا ) ) ) كُلَّهُ قَضَى في شَهْرٍ آخَرَ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عن وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عليه وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ النَّذْرِ بِإِيجَابِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِيجَابِ الْمُبْتَدَأِ وما أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ على عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لَا يَسْقُطُ عنه إلَّا بِالْأَدَاءِ أو بِالْقَضَاءِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ الْكَلَامُ في الْكَفَّارَاتِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِهَا وفي بَيَانِ وُجُوبِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَفَّارَاتُ الْمَعْهُودَةُ في الشَّرْعِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ وَالْكُلُّ وَاجِبَةٌ إلَّا أَنَّ أَرْبَعَةً منها عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَوَاحِدَةٌ منها عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ
أَمَّا الْأَرْبَعَةُ التي عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَالْكَفَّارَةُ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ وقال جَلَّ شَأْنُهُ في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } أَيِّ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ وقال تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً من اللَّهِ } أَيْ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَعَلَيْهِ ذلك وَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِأَنَّ صِيغَتَهُ وَإِنْ كانت صِيغَةَ الْخَبَرِ لَكِنْ لو حُمِلَ على الْخَبَرِ لَأَدَّى إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِ من لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ فَيُحْمَلُ على الْإِيجَابِ وَالْأَمْرُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَثِيرُ النَّظِيرِ في الْقُرْآنِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } أَيْ لِيُرْضِعْنَ وقال عز شَأْنُهُ { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ وَنَحْوُ ذلك
وقال اللَّهُ تَعَالَى في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } أَيْ فَعَلَيْهِمْ ذلك لِمَا
____________________

(5/95)


قُلْنَا
وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَلَا ذِكْرَ لها في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسَّنَةِ وهو ما رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال يا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَاذَا صَنَعْتَ فقال وَاقَعْتُ امْرَأَتِي في شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أَعْتِقْ رَقَبَةً قال ليس عِنْدِي ما أَعْتِقُ فقال له صلى الله عليه وسلم صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قال لَا أَسْتَطِيعُ فقال له عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فقال لَا أَجِدُ ما أُطْعِمُ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِعِرْقٍ فيه خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا من تَمْرٍ فقال خُذْهَا وَفَرِّقْهَا على الْمَسَاكِينِ فقال أَعَلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجَ مِنِّي وَاَللَّهِ ما بَيْن لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فقال له النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْهَا وَأَطْعِمْ عِيَالَك تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا قال ذلك تَبَسَّمَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْهَا وَأَطْعِمْ عِيَالَك تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَك فَقَدْ أَمَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِعْتَاقِ ثُمَّ بِالصَّوْمِ ثُمَّ بِالْإِطْعَامِ وَمُطَلَّقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ على الْوُجُوبِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هذه الْأَنْوَاعِ فَلِوُجُوبِهَا كَيْفِيَّتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبٌ على التَّعْيِينِ مُطْلَقًا وَبَعْضَهَا على التَّخْيِيرِ مُطْلَقًا وَبَعْضَهَا على التَّخْيِيرِ في حَالٍ وَالتَّعْيِينِ في حَالٍ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ التَّحْرِيرُ على التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَالْوَاجِبُ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ ما هو الْوَاجِبُ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَزِيَادَةُ الْإِطْعَامِ إذَا لم يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَكَذَا الْوَاجِبُ في كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيها أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا غير عَيْنٍ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْحَالِفِ يُعَيِّنُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ أمرأ بِوَاحِدٍ منها غَيْرِ عَيْنٍ وَلِلْمَأْمُورِ خِيَارُ التَّعْيِينِ
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يَكُونُ أَمْرًا بِالْكُلِّ على سَبِيلِ الْبَدَلِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً على أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَعْرُوفٍ يُذْكَرُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ كلمه أو إذَا دَخَلَتْ بين أَفْعَالٍ يُرَادُ بها وَاحِدٌ منها لَا الْكُلُّ في الْإِخْبَارِ وَالْإِيجَابِ جميعا يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ أو عَمْرٌو وَيُرَادُ بِهِ مَجِيءُ أَحَدِهِمَا وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ بِعْ هذا أو هذا وَيَكُونُ تَوْكِيلًا بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ يَكُونُ عُدُولًا عن مقضى ( ( ( مقتضى ) ) ) اللُّغَةِ وَلِدَلَائِلَ أُخَرَ عُرِفَتْ في أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنْ لم يَجِدْ شيئا من ذلك فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ على التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ }
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ على التَّرَاخِي هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عن الْوَقْتِ حتى لَا يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا وَمَعْنَى الْوُجُوبِ على التَّرَاخِي هو أَنْ يَجِبَ في جُزْءٍ من عُمُرِهِ غَيْرِ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا أو في آخِرِ عُمُرِهِ بِأَنْ أَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ على ظَنِّهِ أَنَّهُ لو لم يُؤَدِّ فيه لَفَاتَ فإذا أَدَّى فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ وَإِنْ لم يُؤَدِّ حتى مَاتَ أَثِمَ لِتَضْيِيقِ الْوُجُوبِ عليه في آخِرِ الْعُمُرِ وَهَلْ يُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ يُنْظَرُ إنْ كان لم يُوصِ لَا يُؤْخَذُ وَيَسْقُطُ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا كَالزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ
ولن تَبَرَّعَ عنه وَرَثَتُهُ جَازَ عنه في الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَأَطْعَمُوا في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أو كِسْوَتُهُمْ وفي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ أَطْعَمُوا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلَا يُجْبَرُونَ عليه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقُوا عنه لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْإِعْتَاقِ عن الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا أَنْ يَصُومُوا عنه لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَجْرِي فيه النِّيَابَةُ
وقد رُوِيَ عن النبي عليه السلام أَنَّهُ قال لَا يَصُومُ أَحَدٌ عن أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عن أَحَدٍ وَإِنْ كان أَوْصَى بِذَلِكَ يُؤْخَذُ من ثُلُثِ مَالِهِ فَيُطْعِمُ الْوَصِيُّ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى فَقَدْ بَقِيَ مِلْكُهُ في ثُلُثِ مَالِهِ وفي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إنْ بَلَغَ ثُلُثُ مَالِهِ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ لم يَبْلُغْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ فيها وَإِنْ أَوْصَى لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ
____________________

(5/96)


وَلَا يَجُوزُ الْفِدَاءُ عنه بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ في نَفْسِهِ بَدَلٌ وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ له بَدَلٌ
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُطْعِمَ عنه عَشَرَةَ مَسَاكِينَ عن كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ثُمَّ مَاتَ فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةً ثُمَّ مَاتُوا يَسْتَأْنِفُ فَيُغَدِّي وَيُعَشِّي غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَفْرِيقِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ على شَخْصَيْنِ لِمَا نَذْكُرُ وَلَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ شيئا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إذْ لَا صُنْعَ له في الْمَوْتِ
وَلَوْ قال أَطْعِمُوا عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ غَدَاءً وَعَشَاءً ولم يُسَمِّ كَفَّارَةً فَغَدَّوْا عَشَرَةً ثُمَّ مَاتُوا يُعَشُّوا عَشَرَةً غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لم يَأْمُرْ بِذَلِكَ على وَجْهِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يُسَمِّ كَفَّارَةً فَكَانَ سَبَبُهُ النَّذْرَ فَجَازَ التَّفْرِيقُ وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ كل نَوْعٍ فَكُلُّ ما هو شَرْطُ انْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ هذه الْكَفَّارَةِ من الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِهَا لِأَنَّ الشُّرُوطَ كُلَّهَا شُرُوطُ الْعِلَلِ عِنْدَنَا وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالظِّهَارِ وَالصَّوْمِ وَالْجِنَايَاتِ وَمِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا الْقُدْرَةُ على أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَهَذَا شَرْطٌ مَعْقُولٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ فِعْلٍ بِدُونِ الْقُدْرَةِ عليه غير أَنَّ الْوَاجِبَ إذَا كان مُعَيَّنًا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ على أَدَائِهِ عَيْنًا كما في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ فَلَا يَجِبُ التَّحْرِيرُ فيها إلَّا إذَا كان وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ وهو أَنْ يَكُونَ له فَضْلُ مَالٍ على كِفَايَتِهِ يُؤْخَذُ بِهِ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا يَجِبُ عليه التَّحْرِيرُ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَمَ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فَلَوْ لم يَكُنْ الْوُجُودُ شَرْطًا لِوُجُوبِ التَّحْرِيرِ وكان يَجِبُ عليه وَجَدَ أو لم يَجِدْ لم يَكُنْ لِشَرْطِ عَدَمِ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ مَعْنًى فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُودِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فإذا كان في مِلْكِهِ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ يَجِبُ عليه تَحْرِيرُهَا سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ حَقِيقَةً فَكَذَا إذَا لم يَكُنْ في مِلْكِهِ عَيْنُ رَقَبَةٍ وَلَهُ فَضْلُ مَالٍ على كِفَايَتِهِ يَجِبُ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا من حَيْثُ الْمَعْنَى
فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له فَضْلُ مَالٍ على قَدْرِ كِفَايَةِ ما يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الرَّقَبَةِ وَلَا في مِلْكِهِ عَيْنُ الرَّقَبَةِ لَا يَجِبُ عليه التَّحْرِيرُ لِأَنَّ قَدْرَ الْكَفَّارَةِ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْمُسْتَحِقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَالْمَاءِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِلشُّرْبِ في السَّفَرِ حتى يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَإِنْ كان مَوْجُودًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ لَمَّا كان مُسْتَحِقَّ الصَّرْفِ إلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا كَذَا هذا
وَإِنْ كان الْوَاجِبُ وَاحِدًا منها كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ على أَدَاءِ الْوَاجِبِ على الْإِبْهَامِ وهو أَنْ يَكُونَ في مِلْكِهِ فَضْلٌ على كِفَايَةِ ما يَجِدُ بِهِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا مَعْنًى أو يَكُونُ في مِلْكِهِ وَاحِدٌ من الْمَنْصُوصِ عليه عَيْنًا من عَبْدٍ صَالِحٍ لِلتَّكْفِيرِ أو كِسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أو إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا حَقِيقَةً
وَكَذَا لَا يَجِبُ الصِّيَامُ وَلَا الْإِطْعَامُ فِيمَا لِلطَّعَامِ فيه مُدْخَلٌ إلَّا على الْقَادِرِ عليها ( ( ( عليهما ) ) ) لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ على الْعَاجِزِ مُمْتَنِعٌ وَلِقَوْلِهِ عز اسْمُهُ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ { فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ لِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فَدَلَّ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الصَّوْمِ شَرْطٌ لِوُجُوبِهِ وَلَا يَجِبُ على الْعَبْدِ في الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا إلَّا الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إلَّا عليه لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ في نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ شيئا
وَلَوْ أَعْتَقَ عنه مَوْلَاهُ أو أَطْعَمَ أو كَسَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَكَذَا المستسعي في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ
وَمِنْهَا الْعَجْزُ عن التَّحْرِيرِ عَيْنًا في الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فيها لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابَعَيْنِ } أَيْ من لم يَجِدْ رَقَبَةً
شَرَطَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى عَدَمَ وُجُودِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ مع الْقُدْرَةِ على التَّحْرِيرِ
وَأَمَّا في كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَالْعَجْزُ عن الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فيها لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } أَيْ فَمَنْ لم يَجِدْ وَاحِدًا منها فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ مع الْقُدْرَةِ على وَاحِدٍ منها
وَأَمَّا الْعَجْزُ عن الصِّيَامِ فَشَرْطٌ لِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِيمَا لِلْإِطْعَامِ فيه مَدْخَلٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } أَيْ من لم يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَا يَجِبُ الْإِطْعَام مع اسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في إن الْمُعْتَبَرَ هو الْقُدْرَةُ وَالْعَجْزُ وَقْتَ الْوُجُوبِ أَمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقْتَ الْأَدَاءِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ حتى لو كان
____________________

(5/97)


مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ ثُمَّ أُعْسِرَ جَازَ له الصَّوْمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ كان على الْقَلْبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً فَيُعْتَبَرُ فيها وَقْتُ الْوُجُوبِ كَالْحَدِّ فإن الْعَبْدَ إذَا زنا ثُمَّ أُعْتِقَ يُقَامُ عليه حَدُّ الْعَبِيدِ
وَالدَّلِيلُ على أنها وَجَبَتْ عُقُوبَةً أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الْجِنَايَةُ من الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ وَالْحِنْثِ وَتَعْلِيقُ الْوُجُوبِ بِالْجِنَايَةِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ مُؤَثِّرٍ فَيُحَالُ عليه وَرُبَّمَا قالوا هذا ضَمَانٌ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيُعْتَبَرُ فيه حَالُ الْوُجُوبِ كَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ لها بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ فَيُعْتَبَرُ فيها وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ كَالصَّلَاةِ بِأَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ في الصِّحَّةِ فَقَضَاهَا في الْمَرَضِ قَاعِدًا أو بِالْإِيمَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ
وَالدَّلِيلُ على أنها عِبَادَةٌ وإن لها بَدَلًا أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عن التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ وَبَدَلُ الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ وَكَذَا يُشْتَرَطُ فيها النِّيَّةُ وأنها لَا تُشْتَرَطُ إلَّا في الْعِبَادَاتِ
وإذا ثَبَتَ أنها عِبَادَةٌ لها بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ فيها وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ إذَا أَيْسَرَ قبل الشُّرُوعِ في الصِّيَامِ أو قبل تَمَامِهِ فَقَدْ قَدَرَ على الْمُبْدَلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَيَبْطُلُ الْبَدَلُ وَيَنْتَقِلُ الْأَمْرُ إلَى الْمُبْدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قبل الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ أو بَعْدَهُ قبل الْفَرَاغِ منها عِنْدَنَا وَكَالصَّغِيرَةِ إذَا اعْتَدَّتْ بِشَهْرٍ ثُمَّ حَاضَتْ أنه يَبْطُلُ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَيَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى الْحَيْضِ وإذا أُعْسِرَ قبل التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَقَدْ عَجَزَ عن الْمُبْدَلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَقَدَرَ على تَحْصِيلِهِ بِالْبَدَلِ كَوَاجِدِ الْمَاءِ إذَا لم يَتَوَضَّأْ حتى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ بَلْ يَجِبُ عليه ذلك كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْحَدَّ ليس بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بَلْ هو عُقُوبَةٌ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ
وَكَذَا لَا بَدَلَ له لِأَنَّ حَدَّ الْعَبِيدِ ليس بَدَلًا عن حَدِّ الْأَحْرَارِ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَدُّ الْعَبِيدُ مع الْقُدْرَةِ على حَدِّ الْأَحْرَارِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ مع الْقُدْرَةِ على الْمُبْدَلِ كَالتُّرَابِ مع الْمَاءِ وَغَيْرِ ذلك بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إذَا وَجَبَتْ على الْإِنْسَانِ وهو مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ أو مُسَافِرٌ ثُمَّ أَقَامَ أنه يُعْتَبَرُ في قَضَائِهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ بَدَلًا عن صَلَاةِ الْمُقِيمِ وَلَا صَلَاةَ الْمُقِيمِ بَدَلٌ عن صَلَاةِ الْمُسَافِرِ بَلْ صَلَاةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَاهُمَا مع الْقُدْرَةِ على الْأُخْرَى وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ليس بِعِبَادَةٍ وَكَذَا السِّعَايَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عن الضَّمَانِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُخَيَّرٌ عِنْدَهُمْ بين التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَلَا يُخَيَّرُ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في الشَّرِيعَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْجِنَايَةُ فَمَمْنُوعٌ بَلْ سَبَبُ وُجُوبِهَا ما هو سَبَبُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ إذْ هِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّوْبَةِ وَإِنَّمَا الْجِنَايَةُ شَرْطٌ كما في التَّوْبَةِ هذا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ من مَشَايِخِنَا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وَجَبَ عليه التَّحْرِيرُ أو أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِأَنْ كان مُوسِرًا ثُمَّ أُعْسِرَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ ولوكان مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ لم يُجْزِهِ الصَّوْمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُهُ في الْأَوَّلِ وَيُجْزِئُهُ في الثَّانِي لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِوَقْتِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا لَا لِوَقْتِ الْوُجُوبِ وهو في الْأَوَّلِ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْأَدَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّوْمِ وَوُجُوبِهِ وهو عَدَمُ الرَّقَبَةِ فَجَازَ بَلْ وَجَبَ وفي الثَّانِي لم يُوجَدْ الشَّرْطُ فلم يَجُزْ وَعِنْدَهُ لَمَّا كان الْمُعْتَبَرُ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَيُرَاعَى وُجُودُ الشَّرْطِ لِلْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ ولم يُوجَدْ في الْأَوَّلِ وَوُجِدَ في الثَّانِي
وَلَوْ شَرَعَ في الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ قبل تَمَامِهِ لم يَجُزْ صَوْمُهُ ذَكَرَ هذا في الْأَصْلِ بَلَغَنَا ذلك عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدَرَ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْبَدَلُ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ ذلك الْيَوْمِ فَلَوْ أَفْطَرَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْضِي وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الصَّوْمِ وهو من شَرَعَ في صَوْمٍ على ظَنِّ أَنَّهُ عليه ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس عليه فَالْأَفْضَلُ له أَنْ يُتِمَّ الصَّوْمَ وَلَوْ أَفْطَرَ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْضِي على صَوْمِهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ في بَابِ الْكَفَّارَاتِ لِوَقْتِ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ وَوَقْتُ الْوُجُوبِ كان مُعْسِرًا وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ الْإِتْمَامِ جَازَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ قَدَرَ الْمُبْدَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يَبْطُلُ الْبَدَلَ بِخِلَافِ الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ على الصَّوْمِ أنه تَبْطُلُ الْفِدْيَةُ وَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ هو الذي لَا تُرْجَى له الْقُدْرَةُ على الصَّوْمِ فإذا قَدَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ شَيْخًا فَانِيًا وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ مُطْلَقٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِثْلٍ لِلصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَتْ بَدَلًا ضَرُورِيًّا وقد ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَبَطَلَتْ الْقُدْرَةُ
____________________

(5/98)


فَأَمَّا الصَّوْمُ فَبَدَلٌ مُطَلَّقٌ فَلَا يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ على الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ كل نَوْعٍ فَلِجَوَازِ هذه الْأَنْوَاعِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْكُلَّ فَنِيَّةُ الْكَفَّارَةِ حتى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدِهِمَا في بَيَانِ أَنَّ نِيَّةَ الْكَفَّارَةِ شَرْطُ جَوَازِهَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ النِّيَّةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْفِيرَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى صَوْمُ الْكَفَّارَةِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَلَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عن كَفَّارَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عنهما جميعا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عن كل كَفَّارَةٍ مِنْهُمَا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ ولم يُوجَدْ وَهَلْ يَجُوزُ عن إحْدَاهُمَا فَالْكَفَّارَتَانِ الْوَاجِبَتَانِ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا إنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ
فَإِنْ وَجَبَتَا من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً يَنْوِي عنهما جميعا لَا يَجُوزُ عن إحْدَاهُمَا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ
وَإِنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ كَظِهَارَيْنِ أو قَتْلَيْنِ يَجُوزُ عن إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَالتَّوْزِيعِ هل تَقَعُ مُعْتَبَرَةً أَمْ تَقَعُ لَغْوًا فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا مُعْتَبَرَةٌ في الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَغْوٌ فِيهِمَا جميعا
وَأَمَّا في الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فَهِيَ لَغْوٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ مُعْتَبَرَةٌ قِيَاسًا
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أن الْكَفَّارَاتِ على اخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَنِيَّةُ التَّعْيِينِ في الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِمَا ذكرنا
وَلَنَا أَنَّ التَّعْيِينَ في الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ مُحْتَاجًا إلَيْهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَصَادَفَتْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَصَحَّتْ وَمَتَى صَحَّتْ أَوْجَبَتْ انْقِسَامَ عَيْنِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ على كَفَّارَتَيْنِ فَيَقَعُ عن كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَا عن هذه وَلَا عن تِلْكَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْكَفَّارَتَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَنَعَمْ من حَيْثُ هُمَا كَفَّارَةٌ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَقَدْرًا وَصِفَةً أَمَّا السَّبَبُ فَلَا شَكَّ فيه وَأَمَّا الْقَدْرُ فإن الطَّعَامَ يَدْخُلُ في إحْدَاهُمَا وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَلَا يَدْخُل في الْأُخْرَى وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ
وَأَمَّا الصِّفَةُ فإن الرَّقَبَةَ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُطْلَقَةٌ عن صِفَةِ الْإِيمَانِ وفي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بها وإذا اخْتَلَفَا من هذه الْوُجُوهِ كان التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَصَادَفَتْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَصَحَّتْ فَانْقَسَمَ عِتْقُ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا فلم يَجُزْ عن إحْدَاهُمَا حتى لو كانت الرَّقَبَةُ كَافِرَةً وَتَعَذَّرَ صَرْفُهَا إلَى الْكَفَّارَةِ لِلْقَتْلِ انْصَرَفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى الظِّهَارِ وَجَازَتْ عنه كَذَا قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ
وَنَظِيرُهُ ما إذَا جَمَعَ بين امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا أو أُمِّهَا أو أُخْتِهَا وَتَزَوَّجَهُمَا في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كَانَتَا فَارِغَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةً وَالْأُخْرَى فَارِغَةً يَجُوزُ نِكَاحُ الْفَارِغَةِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ بين أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ الْقِيَاسِ في ذلك أَنَّهُ أَوْقَعَ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ عن كَفَّارَتَيْنِ على التَّوْزِيعِ وَالِانْقِسَامِ فَيَقَعُ عن كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِتْقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ عن وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عليه عن كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ ولم يُوجَدْ وَبِهَذَا لم يَجُزْ عن إحْدَاهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَلَنَا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ لم تُصَادِفْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا الْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ إذْ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ إلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فإذا اتَّحَدَ الْجِنْسُ لم تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ فَتَقَعُ عن وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كما في قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا كان عليه صَوْمُ يَوْمَيْنِ فَصَامَ يَوْمًا يَنْوِي قَضَاءَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ ما عليه كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ فَلَا تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ بَلْ تُعْتَبَرُ وَمَتَى اُعْتُبِرَتْ يَقَعْ عن كل جِنْسٍ نِصْفُ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ عنه كما إذَا كان عليه صَوْمُ يَوْمٍ من قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمُ يَوْمٍ من كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَنَوَى من اللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا عنهما كانت نِيَّةُ التَّوْزِيعِ مُعْتَبَرَةً حتى لَا يَصِيرَ صَائِمًا عن أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الِانْقِسَامَ يَمْنَعُ من ذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا من حِنْطَةٍ عن ظِهَارَيْنِ لم يَجُزْ إلَّا عن أَحَدِهِمَا في قَوْل أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وقال مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عنهما وقال زُفَرُ لَا يُجْزِئُهُ
____________________

(5/99)


عنهما
وَكَذَلِكَ لو أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا عن يَمِينَيْنِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كانت الْكَفَّارَتَانِ من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ فِيهِمَا بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ من أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْكَفَّارَتَيْنِ إذَا كَانَتَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ بَلْ تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ هَهُنَا ويبقي أَصْلُ النِّيَّةِ وهو نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ يَدْفَعُ سِتِّينَ صَاعًا إلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا من غَيْرِ تَعْيِينِ أَنَّ نِصْفَهُ عن هذا وَنِصْفَهُ عن ذَاكَ وَلَوْ لم يُعَيَّنْ لم يَجُزْ إلَّا عن أَحَدِهِمَا كَذَا هذا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يقول أن نِيَّةَ التَّعْيِينِ إنَّمَا تَبْطُلُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فيها وَهَهُنَا في التعين ( ( ( التعيين ) ) ) فَائِدَةٌ وَهِيَ جَوَازُ ذلك عن الْكَفَّارَتَيْنِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا وَيَقُولُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا يَكُونُ عن كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ وَلِهَذَا قال إذَا أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عنهما لَا يَجُوزُ عن وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْكَفَّارَتَانِ من جِنْسَيْنِ لِأَنَّهُ قد صَحَّ من أَصْلِ أَصْحَابِنَا جميعا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُعْتَبَرَةٌ وإذا صَحَّ التَّعْيِينُ والمؤدي يَصْلُحُ عنهما جميعا وَقَعَ المؤدي عنهما فَجَازَ عنهما جميعا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ النِّيَّةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنْ لم تُقَارِنْ الْفِعْلَ رَأْسًا أو لم تُقَارِنْ فِعْلَ التَّكْفِيرِ بِأَنْ تَأَخَّرَتْ عنه لم يَجُزْ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلِ وَإِيقَاعِهِ على بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ ذلك إلَّا إذَا كانت مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ وَالْإِرَادَةُ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ كَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّ بها يَصِيرُ الْفِعْلُ اخْتِيَارِيًّا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أو ابْنَهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عن كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أو ظِهَارِهِ أو إفْطَارِهِ أو قَتْلِهِ أَجُزْأَهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِيَهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً على أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عِنْدَنَا فإذا اشْتَرَاهُ نَاوِيًا عن الْكَفَّارَةِ فَقَدْ قَارَنَتْ النِّيَّةُ الْإِعْتَاقَ فَجَازَ وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ وَالشِّرَاءُ شَرْطٌ فلم تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَجُوزُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشِّرَاءَ ليس بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا شَكَّ في انْتِفَائِهَا لِأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ ما وَضَعَ الشِّرَاءَ لِلْإِعْتَاقِ
وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَدْعِي الْمُشَابَهَةَ في الْمَعْنَى اللَّازِمِ الْمَشْهُورِ في مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَلَا مُشَابَهَةَ هَهُنَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ تَمَلُّكٌ وَالْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَبَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ
وَلَنَا ما رَوَى أبو دَاوُد في سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدًا إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ سَمَّاهُ مُعْتَقًا عَقِيبَ الشِّرَاءِ وَلَا فِعْلَ منه بَعْدَ الشِّرَاءِ فَعُلِمَ أَنَّ الشِّرَاءَ وَقَعَ إعْتَاقًا منه عَقَلْنَا وَجْهَ ذلك أو لم نَعْقِلْ فإذا نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ فَجَازَ وَقَوْلُهُمَا الشِّرَاءُ ليس بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً مَمْنُوعٌ بَلْ هو إعْتَاقٌ لَكِنْ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا وَضْعِيَّةٌ وَالْحَقَائِقُ أَنْوَاعٌ وَضْعِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ وَعُرْفِيَّةٌ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ له أو أَوْصَى له بِهِ فَقَبِلَهُ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ فَقَارَنَتْ النِّيَّةُ فِعْلَ الْإِعْتَاقِ وَإِنْ وَرِثَهُ نَاوِيًا عن الْكَفَّارَةِ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ من غَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا فلم يُوجَدْ قِرَانُ النِّيَّةِ الْفِعْلَ فَلَا يَجُوزُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قال لِعَبْدِ الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ نَاوِيًا عن الْكَفَّارَةِ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ الشِّرَاءِ يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ ولم تُقَارِنْهُ النِّيَّةُ حتى لو قال إنْ اشْتَرَيْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ عن كَفَّارَةِ يَمِينِي أو ظِهَارِي أو غَيْرِ ذلك يُجْزِيهِ لِقِرَانِ النِّيَّةِ كَلَامَ الْإِعْتَاقِ
وَلَوْ قال إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ عن ظِهَارِي ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك ما اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عن كَفَّارَةِ قَتْلِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَهُوَ حُرٌّ عن الظِّهَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا قال إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عن كَفَّارَةِ قَتْلِي فَقَدْ أَرَادَ فَسْخَ الْأَوَّلِ وَالْيَمِينُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَكَذَلِكَ لو قال إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ تَطَوُّعًا ثُمَّ قال إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عن ظِهَارِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ كان تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ بِالْأَوَّلِ عَلَّقَ عِتْقَهُ تَطَوُّعًا بِالشِّرَاءِ ثُمَّ أَرَادَ بِالثَّانِي فَسْخَ الْأَوَّلِ وَالْيَمِينُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَأَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَيَبْدَأُ بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ بِالْكِسْوَةِ ثُمَّ بِالتَّحْرِيرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بَدَأَ بِالْإِطْعَامِ في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وقد قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابدؤا ( ( ( ابدءوا ) ) ) بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَنَقُولُ لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْإِطْعَامِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ ما يُطْعَمُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ الطَّعَامُ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْإِطْعَامِ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا أنه يَجُوزُ فيه التَّمْلِيكُ وهو طَعَامُ الْإِبَاحَةِ وهو مَرْوِيٌّ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلِ مُحَمَّدِ بن كَعْبٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وقال الْحَكَمُ وَسَعِيدُ بن
____________________

(5/100)


جُبَيْرٍ لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمْلِيكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّمْلِيكَ ليس بِشَرْطٍ الجواز ( ( ( لجواز ) ) ) الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا بَلْ الشَّرْطُ هو التَّمْكِينُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّمْلِيكُ من حَيْثُ هو تَمْكِينٌ لَا من حَيْثُ هو تَمْلِيكٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّمْلِيكُ شَرْطُ الْجَوَازِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن التَّكْفِيرَ مَفْرُوضٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ من الْإِتْيَانِ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَكْلِيفَ ما لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ وَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ ليس له قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمِسْكَيْنِ من الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هو الْمُقَدَّرُ إذْ الْفَرْضُ هو التَّقْدِيرُ يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ } أَيْ قَدَّرْتُمْ فَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ ليس بِمُقَدَّرٍ وَلِأَنَّ الْمُبَاحَ له يَأْكُلُ على مِلْكِ الْمُبِيحِ فَيَهْلَكُ الْمَأْكُولُ على مِلْكِهِ وَلَا كَفَّارَةَ بِمَا يَهْلَكُ في مِلْكِ الْمُكَفِّرِ وَبِهَذَا شَرَطَ التَّمْلِيكَ في الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ
وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَالْإِطْعَامُ في مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ من الْمَطْعَمِ لَا التَّمْلِيكِ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } وَالْمُرَادُ بِالْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ لَا التَّمْلِيكُ
وقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَالْمُرَادُ منه الْإِطْعَامُ على وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وهو الْأَمْرُ الْمُتَعَارَفُ بين الناس يُقَالُ فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ أَيْ يَدْعُو الناس إلَى طَعَامِهِ
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَإِنَّمَا يُطْعِمُونَ على سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ بَلْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ في ذلك التَّمْلِيكُ فَدَلَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ هو التَّمْكِينُ من التَّطَعُّمِ إلَّا أَنَّهُ إذَا مَلَكَ جَازَ لِأَنَّ تَحْتَ التَّمْلِيكِ تَمْكِينًا لِأَنَّهُ إذَا مَلَّكَهُ فَقَدْ مَكَّنَّهُ من التَّطَعُّمِ وَالْأَكْلِ فَيَجُوزُ من حَيْثُ هو تَمْكِينٌ وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ على ما قُلْنَا لِأَنَّهُ قال إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ الْحَاجَةُ وَاخْتِصَاصُ الْمِسْكِينِ لِلْحَاجَةِ إلَى أَكْلِ الطَّعَامِ دُونَ تَمَلُّكِهِ تَعُمُّ الْمِسْكِينَ وَغَيْرَهُ فَكَانَ في إضَافَةِ الْإِطْعَامِ إلَى الْمَسَاكِينِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ هو الْفِعْلُ الذي يَصِيرُ الْمِسْكِينُ بِهِ مُتَمَكِّنًا من التَّطَعُّمِ لَا التملك ( ( ( التمليك ) ) ) بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فيه طَعَامُ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ هُنَاكَ لم يَرِدْ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَالْأَدَاءِ قال اللَّهُ تَعَالَى في الزَّكَاةِ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وقال تَعَالَى في الْعُشْرِ { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ }
وقال النبي في صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَدُّوا عن كل حُرٍّ وَعَبْدٍ الحديث وَالْإِيتَاءُ وَالْأَدَاءُ يشعر أن بِالتَّمْلِيكِ على أَنَّ الْمُرَادَ من الْإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ في النَّصِّ إنْ كان هو التَّمْلِيكَ كان النَّصُّ مَعْلُولًا بِدَفْعِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّمْكِينِ على طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ بَلْ أَوْلَى من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْجُوعِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ من التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى الدَّفْعِ وَالسَّدِّ بِتَمْلِيكِ الْحِنْطَةِ إلَّا بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ وَإِلَّا بَعْدَ تَحَمُّلِ مُؤَنٍ فَكَانَ الْإِطْعَامُ على طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ من التَّمْلِيكِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلسَّيِّئَةِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ من الشَّهْوَةِ التي لم يُؤْذَنْ له فيها حَيْثُ لم يَفِ بِالْعَهْدِ الذي عَهِدَ مع اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ فَخَرَجَ فِعْلُهُ مَخْرَجَ نَاقِضِ الْعَهْدِ وَمُخْلِفِ الْوَعْدِ فَجُعِلَتْ كَفَّارَتُهُ بِمَا تَنْفِرُ عنه الطِّبَاعُ وَتَتَأَلَّمُ وَيَثْقُلُ عليها لِيَذُوقَ أَلَمَ إخْرَاجِ مَالِهِ الْمَحْبُوبِ عن مِلْكِهِ فَيُكَفِّرُ ما أَعْطَى نَفْسَهُ من الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ من وَجْهٍ أُذِنَ له فيها وَمَعْنَى تَأَلُّمِ الطَّبْعِ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَسَاكِينِ وَجَمْعَهُمْ على الطَّعَامِ وَخِدْمَتَهُمْ وَالْقِيَامَ بين أَيْدِيهمْ أَشَدُّ على الطَّبْعِ من التَّصَدُّقِ عليهم لِمَا جُبِلَ طَبْعُ الْأَغْنِيَاءِ على النُّفْرَةِ من الْفُقَرَاءِ وَمِنْ الِاخْتِلَاطِ مَعَهُمْ وَالتَّوَاضُعِ لهم فَكَانَ هذا أَقْرَبَ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّكْفِيرِ فَكَانَ تَجْوِيزُ التَّمْلِيكِ تَكْفِيرًا تجويزا ( ( ( تجويز ) ) ) لِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ تَكْفِيرًا من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْكَفَّارَةَ مَفْرُوضَةٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ فَنَقُولُ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عز شَأْنُهُ فَرَضَ هذا الْإِطْعَامَ وَعُرِفَ الْمَفْرُوضُ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْأَهْلُ مَعْلُومًا وَالْمَعْلُومُ من طَعَامِ الْأَهْلِ هو طَعَامُ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ على أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَقَدْرُهُ الْكَفَّارَةُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْرُوضًا كَطَعَامِ الْأَهْلِ فَيُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الطَّعَامَ يَهْلَكُ على مِلْكِ الْمُكَفِّرِ فَلَا يَقَعُ عن التَّكْفِيرِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ كما صَارَ مَأْكُولًا فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عنه إلَّا أَنَّهُ يَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا يَكْفِي لِصَيْرُورَتِهِ كَفَّارَةً كَالْإِعْتَاقِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ ما يُطْعَمُ فَالْمِقْدَارُ في التَّمْلِيكِ هو نِصْفُ صَاعٍ
____________________

(5/101)


من حِنْطَةٍ أو صَاعٌ من شَعِيرٍ أو صَاعٌ من تَمْرٍ كَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنهم
وَذُكِرَ في الْأَصْلِ بَلَغَنَا عن سَيِّدِنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِيَرْفَأَ مَوْلَاهُ أني أَحْلِفُ على قَوْمٍ لَا أُعْطِيهِمْ ثُمَّ يَبْدُو لي فَأُعْطِيهِمْ فإذ ( ( ( فإذا ) ) ) أنا فَعَلْت ذلك فأطعم عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ من حِنْطَةٍ أو صَاعًا من تَمْرٍ وَبَلَغَنَا عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ من حِنْطَةٍ وَبِهِ قال جَمَاعَةٌ من التَّابِعِينَ سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بن جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وهو قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنْ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ من حِنْطَةٍ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز اسْمُهُ { من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَالْمُدُّ ليس من الْأَوْسَطِ بَلْ أَوْسَطُ طَعَامِ الْأَهْلِ يَزِيدُ على الْمُدِّ في الْغَالِبِ وَلِأَنَّ هذه صَدَقَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِقُوتِ مِسْكِينٍ لِيَوْمٍ فَلَا تَنْقُصُ عن نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأَذَى فَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا من حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عليهم مُدًّا مُدًّا فَإِنْ لم يَقْدِرْ عليهم اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ إن لِكُلِّ مِسْكِينٍ في التَّمْلِيكِ مُدًّا فَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ من ذلك وَيَجُوزُ في التَّمْلِيكِ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ وَيُعْتَبَرُ فيه تَمَامُ الْكَيْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْقِيمَةُ كَالْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ حِنْطَةٌ إلَّا أَنَّهُ فُرِّقَتْ أَجْزَاؤُهَا بِالطَّحْنِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ تَقْرِيبٌ إلَى الْمَقْصُودِ منها فَلَا تُعْتَبَرُ فيه الْقِيمَةُ وَيُعْتَبَرُ في تَمْلِيكِ النصوص ( ( ( المنصوص ) ) ) عليه تَمَامُ الْكَيْلِ وَلَا يَقُومُ الْبَعْضُ مَقَامَ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إذَا كان أَقَلَّ من كَيْلِهِ حتى لو أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ من تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ من حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عليه فَيَقَعُ عن نَفْسِهِ لَا عن غَيْرِهِ فَأَمَّا الْأَرُزُّ وَالذُّرَةُ والجاورس ( ( ( والجاروس ) ) ) فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ في الْكَيْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه وَإِنَّمَا جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا عُيِّنَّ الْمَنْصُوصُ عليه وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ والإبدال كما في الزَّكَاةِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بازطعام ( ( ( بالإطعام ) ) ) بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْقِيمَةِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ إطْعَامَ الْمِسْكِينِ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَتَمَكَّنُ الْمِسْكِينُ بِهِ من التَّطَعُّمِ في مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا تحصيل ( ( ( يحصل ) ) ) بِتَمْلِيكِ الْقِيمَةِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْقِيمَةِ من الْفَقِيرِ إطْعَامًا له فَيَتَنَاوَلُ النَّصُّ وجواز ( ( ( جواز ) ) ) التَّمْلِيكِ من حَيْثُ هو تَمْكِينٌ لَا من حَيْثُ هو تَمْلِيكٌ على ما مَرَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ إنْ كان اسْمًا لِلتَّمْلِيكِ فَجَوَازُهُ مَعْلُولٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ وهو الْمَسْأَلَةُ عَرَفَنَا ذلك بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَضَرْبٍ من الِاسْتِنْبَاطِ على ما بَيَّنَّا وَالْقِيمَةُ في دَفْعِ الْحَاجَةِ مِثْلُ الطَّعَامِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ الطَّعَامِ يَكُونُ وُرُودًا بِجَوَازِ الْقِيمَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ أَقْرَبُ إلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ من تَمْلِيكِ عَيْنِ الطَّعَامِ لأن بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى ما يَخْتَارُهُ من الْغِذَاءِ الذي اعْتَادَ الِاغْتِذَاءَ بِهِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يَحْمِلُ مَكْرُوهَ الطَّبْعِ بِإِزَاءِ ما نَالَ من الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ حَقًّا لِلْمِسْكِينِ فَمَتَى أَخْرَجَ من عليه الطَّعَامُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بَدَلَهُ وَقَبِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ عن طَوْعٍ فَقَدْ اسْتَبْدَلَ حَقَّهُ بِهِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ هذا الِاسْتِبْدَالِ بِمَنْزِلَةِ التَّنَاوُلِ في سَائِرِ الْحُقُوقِ
وَأَمَّا الْمِقْدَارُ في طَعَامِ الْإِبَاحَةِ فَأَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بن زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يُطْعِمُهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً وقال الْحَسَنُ وَجْبَةً وَاحِدَةً
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل عَرَّفَ هذا الْإِطْعَامَ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَذَلِكَ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً كَذَا هذا وَلِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ شَأْنُهُ ذَكَرَ الْأَوْسَطَ وَالْأَوْسَطُ ماله حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ وَأَقَلُّ عَدَدٍ له حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ ثَلَاثَةٌ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا الْوَسَطُ في صِفَاتِ الْمَأْكُولِ من الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ
وَالثَّانِي الْوَسَطُ من حَيْثُ الْمِقْدَارُ من السَّرَفِ وَالْقَتْرِ
وَالثَّالِثُ الْوَسَطُ من حَيْثُ أَحْوَالُ الْأَكْلِ من مَرَّةٍ وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثِ مَرَّاتٍ في يَوْمٍ وَاحِدٍ ولم يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا بِسَمْعِيٍّ تَعْيِينُ بَعْضِ هذه الْأَنْوَاعِ فَيُحْمَلُ على الْوَسَطِ من الْكُلِّ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ وهو أَكْلَتَانِ في يَوْمٍ بين الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالسَّرَفِ وَالْقَتْرِ وَلِأَنَّ أَقَلَّ الْأَكْلِ في يَوْمٍ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وهو الْمُسَمَّى بِالْوَجْبَةِ وهو في وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى زَوَالِ يَوْمِ الثَّانِي منه وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وفي نِصْفِ الْيَوْمِ وَالْوَسَطَ مَرَّتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً وهو الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ في الدُّنْيَا وفي الْآخِرَةِ أَيْضًا قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أَهْلِ الْجَنَّةِ { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا }
____________________

(5/102)


فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْإِطْعَامِ على الْمُتَعَارَفِ
وَكَذَلِكَ إذَا غَدَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ أو عَشَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ أو غَدَّاهُمْ غَدَاءَيْنِ أو عَشَّاهُمْ عَشَاءَيْنِ أو سَحَّرَهُمْ سَحُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَكْلَتَانِ مَقْصُودَتَانِ فإذا غَدَّاهُمْ في يَوْمَيْنِ أو عَشَّاهُمْ في يَوْمَيْنِ كان كَأَكْلَتَيْنِ في يَوْمٍ وَاحِدٍ مَعْنًى إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ ذلك في عَدَدٍ وَاحِدٍ حتى لو غَدَّى عَدَدًا وَعَشَّى عَدَدًا آخَرَ لم يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ في حَقِّ كل مِسْكِينٍ أَكْلَتَانِ
وَلِهَذَا لم يَجُزْ مِثْلُهُ في التَّمْلِيكِ بِأَنْ فَرَّقَ حِصَّةَ مِسْكِينٍ على مِسْكِينَيْنِ فَكَذَا في التَّمْكِينِ وَسَوَاءٌ كان الطَّعَامُ مَأْدُومًا أو غير مأدم ( ( ( مأدوم ) ) ) حتى لو غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا بِلَا إدَامٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمَأْدُومِ وَغَيْرِهِ وقد أَطْعَمَ وَلِأَنَّ اللَّهَ عز شَأْنُهُ عَرَّفَ الْإِطْعَامَ على وَجْهِ الْإِبَاحَةِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ وَذَلِكَ قد يَكُونُ مَأْدُومًا وقد يَكُونُ غير مَأْدُومٍ فَكَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو أَطْعَمَ خبزا ( ( ( خبز ) ) ) لشعير ( ( ( الشعير ) ) ) أو سَوِيقًا أو تَمْرًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ ذلك قد يُؤْكَلُ وَحْدَهُ في طَعَامِ الْأَهْلِ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا غَدَاءً وَعَشَاءً أَجْزَأَهُ من إطْعَامِ مَسَاكِينَ وَإِنْ لم يَأْكُلْ إلَّا رَغِيفًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هو الْكِفَايَةُ وَالْكِفَايَةُ قد تَحْصُلُ بِرَغِيفٍ وَاحِدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ فَإِنْ مَلَّكَهُ الْخُبْزَ بِأَنْ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ فَإِنْ كان يَعْدِلُ ذلك فيمة ( ( ( قيمة ) ) ) نِصْفِ صَاعٍ من حِنْطَةٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لم يَعْدِلْ لم يُجْزِهِ لِأَنَّ الْخُبْزَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه فَكَانَ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لو غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ في يَوْمٍ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مُدًّا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ حَالَ الِانْفِرَادِ كَذَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَلِأَنَّ الْغَدَاءَ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ وَالْمُدَّ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَتِهِ فَقَدْ حَصَلَتْ له كِفَايَةُ يَوْمٍ فَيَجُوزُ فَإِنْ أَعْطَى غَيْرَهُمْ مُدًّا مُدًّا لم يَجُزْ لِأَنَّهُ فَرَّقَ طَعَامَ الْعَشَرَةِ على عِشْرِينَ فلم يَحْصُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم مِقْدَارُ كِفَايَتِهِ وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَى قِيمَةَ الْعَشَاءِ فُلُوسًا أو ( ( ( ودراهم ) ) ) دراهم أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقِيمَةَ في الْكَفَّارَةِ تَقُومُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَقُومُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ المنصرف ( ( ( المصروف ) ) ) إلَيْهِ الطَّعَامُ
فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الْغَنِيِّ عن الْكَفَّارَةِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَلَوْ كان له مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ له مُطَالِبٌ من جِهَةِ الْعِبَادِ يَجُوزُ إطْعَامُهُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ إيَّاهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ وَهَذَا في إطْعَامِ الْإِبَاحَةِ حتى لو غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ صَبِيٌّ أو فَوْقَ ذلك لم يَجُزْ وَعَلَيْهِ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ { من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَذَلِكَ ليس من أَوْسَطِ ما يُطْعَمُ حتى لو كان مُرَاهِقًا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فَيَحْصُلُ الْإِطْعَامُ من أَوْسَطِ ما يُطْعَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكَهُ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِ صَرْفٌ إلَى نَفْسِهِ فلم يَجُزْ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ من الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُهُمْ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ من وَجْهٍ وَلِهَذَا لم يَجُزْ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ لِمَا اقْتَرَفَ من الذَّنْبِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مُنَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى هَوَاهَا بِغَيْرِ إذْنٍ من الْآذِنِ وهو اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ فَفَرَضَ عليهم الْخُرُوجَ عن الْمَعْصِيَةِ بِمَا تَتَأَلَّمُ النَّفْسُ وَيَنْفِرُ عنه الطَّبْعُ لِيُذِيقَ نَفْسَهُ الْمَرَارَةَ بِمُقَابَلَةِ إعْطَائِهَا من الشَّهْوَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِإِطْعَامِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَأَلَّمُ بِهِ بَلْ تَمِيلُ إلَيْهِ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ نُزُولَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ بِهِمْ وَبِحَيْثُ يَجْتَهِدُ كُلٌّ في دَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْهُمْ مِثْلَ الدَّفْعِ عن نَفْسِهِ
وَلَوْ أَطْعَمَ أَخَاهُ أو أُخْتَهُ وهو فَقِيرٌ جَازَ لِأَنَّ هذا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَدَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَلَوْ أَطْعَمَ وَلَدَهُ أو غَنِيًّا على ظَنِّ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ أو فَقِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَجْزَأَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وهو على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَرِهَ لهم غُسَالَةَ أَيْدِي الناس وَعَوَّضَهُمْ بِخُمْسِ الْخُمْسِ من الْغَنِيمَةِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ على ظَنِّ أَنَّهُ ليس
____________________

(5/103)


بِهَاشِمِيٍّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ زَوْجًا أو زَوْجَةً له لِأَنَّ ما شُرِعَ له الْكَفَّارَةُ هو تَأَلُّمُ الطَّبْعِ وَنِفَارُهُ بِالْبَذْلِ وَالْإِخْرَاجِ لَا يُوجَدُ بين الزَّوْجَيْنِ لِمَا يُوجَدُ الْبَذْلُ بَيْنَهُمَا شَهْوَةً وَطَبِيعَةً وَيَكُونُ التَّنَاكُحُ لِمِثْلِهِ في الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ على ما رُوِيَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَعَلَى ما وُضِعَ النِّكَاحُ لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالْبَذْلِ وَدَفْعِ الشُّحِّ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخِرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ فَتَتَمَكَّنُ التهمة في الشَّهَادَةِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا وَإِنْ كان مُسْتَأْمَنًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ نَهَانَا عن الْبِرِّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عن الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ من دِيَارِكُمْ } وَلِأَنَّ في الدَّفْعِ إلَى الْحَرْبِيِّ إعَانَةً له على الْحِرَابِ مع الْمُسْلِمِينَ وقد قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَيَجُوزُ إعْطَاءُ فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ من الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذلك إلَّا الزَّكَاةَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا النُّذُورُ وَالتَّطَوُّعُ وَدَمُ الْمُتْعَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذه صَدَقَةٌ وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْكَافِرِ كَالزَّكَاةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ وَالتَّطَوُّعُ ليس بِوَاجِبٍ أَصْلًا وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِ الْمُتْعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ في الْإِرَاقَةِ
وَلَهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه الْحَرْبِيَّ بِمَا تَلَوْنَا فَبَقِيَ الذِّمِّيُّ على عُمُومِ النَّصِّ فَكَانَ بنبغي ( ( ( ينبغي ) ) ) أَنْ يَجُوزَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ خُصَّتْ بِقَوْلِ النبي لِمُعَاذٍ حين بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ خُذْهَا من أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا في فُقَرَائِهِمْ
أَمَرَ عليه السلام بِرَدِّ الزَّكَاةِ إلَى من أَمَرَ بِالْأَخْذِ من أَغْنِيَائِهِمْ والمؤخوذ ( ( ( والمأخوذ ) ) ) منه الْمُسْلِمُونَ فَكَذَا الْمَرْدُودُ عليهم
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ من أَغْنِيَائِهِمْ وَأَرُدَّهَا في فُقَرَائِهِمْ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ما ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ لِدَفْعِ الْمَسْكَنَةِ وَالْمَسْكَنَةُ مَوْجُودَةٌ في الْكَفَرَةِ فَيَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ كما يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْمُسْلِمِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عليهم بَعْضُ ما يُرَغِّبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَحْمِلُهُمْ عليه وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَجَبَتْ بِمَا اخْتَارَ من إعْطَاءِ النَّفْسِ شَهْوَتَهَا فِيمَا لَا يَحِلُّ له فَتَكُونُ كَفَّارَتُهَا بِكَفِّ النَّفْسِ عن شَهْوَتِهَا فِيمَا يَحِلُّ له وَبَذْلِ ما كان في طَبْعِهِ مَنْعُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى الْكَافِرِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا ما وَجَبَتْ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ بَلْ بِحَقِّ الشُّكْرِ
أَلَا تَرَى أنها تَجِبُ بِلَا كَسْبٍ من جِهَةِ الْعَبْدِ وَحَقُّ الشُّكْرِ الانفاق في طَاعَةِ الْمُنْعِمِ والمصرف ( ( ( والصرف ) ) ) إلَى الْمُؤْمِنِ إنْفَاقٌ على من يَصْرِفُهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ فَيَخْرُجُ مَخْرَجَ الْمَعُونَةِ على الطَّاعَةِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الشُّكْرِ على الْكَمَالِ وَالْكَافِرُ لَا يَصْرِفُهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّكْرِ على التَّمَامِ فَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فما عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا بَلْ تَكْفِيرًا لِإِعْطَاءِ النَّفْسِ شَهْوَتَهَا بِإِخْرَاجِ ما في شَهْوَتِهَا الْمَنْعُ وَهَذَا الْمَعْنَى في الصَّرْفِ إلَى الْكَافِرِ مَوْجُودٌ على الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ صُورَةً في الْإِطْعَامِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً
قال أَصْحَابُنَا ليس بِشَرْطٍ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ حتى لو دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَصْوُعٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ في عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلُّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ أو غَدَّى مِسْكِينًا وَاحِدًا أو عَشَّاهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَجْزَأَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عن وَاحِدٍ
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } نَصَّ على عَدَدِ الْعَشَرَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ على ما دُونَهُ كَسَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ في الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَنَحْوِ ذلك
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مسكن ( ( ( مسكين ) ) ) وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً في يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّ في النَّصِّ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ قد يَكُونُ بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وقد يَكُونُ بِأَنْ يَكْفِيَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ سَوَاءٌ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أو لَا فإذا أَطْعَمَ مِسْكِينًا واحد ( ( ( واحدا ) ) ) عَشَرَةَ أَيَّامٍ قَدْرَ ما يَكْفِي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَقَدْ وُجِدَ إطْعَامَ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ فَخَرَجَ عن الْعُهْدَةِ على أَنَّ مَعْنَى إطْعَامِ مَسَاكِينَ إنْ كان هو بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَكِنَّ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ على هذا التَّفْسِيرِ قد يَكُونُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةً من الْمَسَاكِينِ عَدَدًا في يَوْمٍ وَاحِدٍ أو في عَشَرَةِ أَيَّامٍ وقد يَكُونُ مَعْنًى لَا صُورَةً وهو أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا في عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ لِدَفْعِ الْجَوْعَةِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ وَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ جَوْعَةٌ وَمَسْكَنَةٌ على حِدَةٍ لِأَنَّ الْجُوعَ يَتَجَدَّدُ وَالْمَسْكَنَةُ تَحْدُثُ في كل يَوْمٍ وَدَفْعُ عَشْرِ جَوْعَاتٍ عن مِسْكِينٍ
____________________

(5/104)


وَاحِدٍ في عَشَرَةِ أَيَّامٍ في مَعْنَى دَفْعِ عَشْرِ جَوْعَاتٍ عن عَشَرَةِ مَسَاكِينَ في يَوْمٍ وَاحِدٍ أو في عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَكَانَ هذا إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مَعْنًى فَيَجُوزُ
وَنَظِيرُ هذا ما رُوِيَ في الِاسْتِنْجَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ثُمَّ لو اسْتَنْجَى بِالْمَدَرِ أو بِحَجَرٍ له ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ منه وهو التَّطْهِيرُ كَذَا هذا وَلِأَنَّ ما وَجَبَتْ له هذه الْكَفَّارَةُ يَقْتَضِي سُقُوطَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وهو ما ذَكَرْنَا من إذَاقَةِ النَّفْسِ مَرَارَةَ الدَّفْعِ وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتَكْفِيرِ ما أَتْبَعَهَا هَوَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى مُنَاهَا كما خَالَفَ اللَّهَ عز وجل في فِعْلِهِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى في بَذْلِ هذا الْقَدْرِ من الْمَالِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لَا في مُرَاعَاةِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ صُورَةً بِخِلَافِ ذِكْرِ الْعَدَدِ في بَابِ الْحَدِّ وَالْعِدَّةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ وَهَهُنَا مَعْقُولٌ على ما بَيَّنَّا
وَبِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ إقَامَةُ الْوَاحِدِ فيها في يَوْمَيْنِ أو في دَفْعَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَعْنَى الذي يَحْصُلُ بِالْعَدَدِ لَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وهو انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ وَمَنْفَعَةُ التَّصْدِيقِ وَنَفَاذُ الْقَوْلِ على ما نَذْكُرهُ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَهَهُنَا مَعْنَى التَّكْفِيرِ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ وَسَدُّ الْمَسْكَنَةِ لَا يَخْتَلِفُ لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا إذَا دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ في يَوْمٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً أو دَفَعَاتٍ فَلَا رِوَايَةَ فيه وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا لَا يَجُوزُ إلَّا عن وَاحِدٍ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يَقْتَضِي الْجَوَازَ على الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ في حَقِّ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِدَلِيلٍ كما صَارَ مَخْصُوصًا في حَقِّ بَعْضِ الْمَسَاكِينِ من الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ وَلَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ في الطَّعَامِ هو طَعَامُ الْإِبَاحَةِ إذْ هو الْمُتَعَارَفُ في اللُّغَةِ وهو التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ لِدَفْعِ الْجُوعِ وَإِزَالَةِ الْمَسْكَنَةِ وفي الْحَاصِلِ دَفْعُ عَشْرِ جَوْعَاتٍ وَهَذَا في وَاحِدٍ في حَقِّ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ فَلَا بُدَّ من تَفْرِيقِ الدَّفْعِ على الْأَيَّامِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ كما في رَمْيِ الْجِمَارِ أَنَّهُ إذَا رَمَى بالحصا ( ( ( بالحصى ) ) ) مُتَفَرِّقًا جَازَ وَلَوْ رَمَى مُجْتَمِعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ إلَّا عن وَاحِدَةٍ وَوُجِدَ في مَسْأَلَتِنَا فَجَازَ
وَكَذَلِكَ لو غَدَّى رَجُلًا وَاحِدًا عِشْرِينَ يَوْمًا أو عَشَّى رَجُلًا وَاحِدًا في رَمَضَانَ عِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لَمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ عِنْدَهُ شَرْطٌ ولم يُوجَدْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَالْكَلَامُ فيها في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ قَدْرِهَا وفي بَيَانِ صِفَتِهَا وفي بَيَانِ مَصْرِفِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَدْنَى الْكِسْوَةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قَمِيصٌ أو رِدَاءٌ أو كِسَاءٌ أو مِلْحَفَةٌ أو جُبَّةٌ أو قَبَاءٌ أو إزَارٌ كَبِيرٌ وهو الذي يَسْتُرُ الْبَدَنَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكِسْوَةَ ولم يذكر فيه التَّقْدِيرَ فكلما يُسَمَّى لَابِسُهُ مُكْتَسِيًا يُجْزِي ومالا فَلَا وَلَابِسُ ما ذَكَرْنَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا فَيُجْزِي عن الْكَفَّارَةِ وَلَا تُجْزِي الْقَلَنْسُوَةُ وَالْخُفَّانِ وَالنَّعْلَانِ لِأَنَّ لَابِسَهُمَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا إذَا لم يَكُنْ عليه ثَوْبٌ وَلَا هِيَ تُسَمَّى كِسْوَةً في الْعُرْفِ
وَأَمَّا السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فيها روي الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَعْطَى مِسْكِينًا قَبَاءً أو كِسَاءً أو سَرَاوِيلَ أو عِمَامَةً سَابِغَةً يَجُوزُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُجْزِي السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ وهو رِوَايَةٌ عن مُحَمَّدٍ في الْإِمْلَاءِ
وَرَوَى هِشَامٌ رضي ( ( ( رحمه ) ) ) اللَّهُ عنه أَنَّ السَّرَاوِيلَ تُجْزِيهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ في الْعِمَامَةِ لِأَنَّ في رِوَايَةِ الْحَسَنِ شَرَطَ في الْعِمَامَةِ أَنْ تَكُونَ سَابِغَةً فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ فيها على ما إذَا لم تَكُنْ سَابِغَةً وَهِيَ أَنْ لَا تَكْفِيَ تَقْمِيصَ وَاحِدٍ
وَأَمَّا السَّرَاوِيلُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ تَجُوزُ فيه الصَّلَاةُ فَيُجْزِي عن الْكَفَّارَةِ كَالْقَمِيصِ وَوَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ وَهِيَ التي صَحَّحَهَا الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا عُرْفًا وَعَادَةً بَلْ يُسَمَّى عُرْيَانًا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْكِسْوَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إذَا كَسَا امْرَأَةً فإنه يَزِيدُ فيه الْخِمَارَ وَهَذَا اعْتِبَارُ جَوَازِ الصَّلَاةِ في الْكِسْوَةِ على ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ رَأْسَهَا عَوْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهَا مع إنكشافه ( ( ( انكشافها ) ) ) وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لم يُجْزِهِ من الْكِسْوَةِ وَلَكِنَّهُ يُجْزِي من الطَّعَامِ عِنْدَنَا إذَا كان يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ من حِنْطَةٍ
أَمَّا عَدَمُ جَوَازِهِ من الْكِسْوَةِ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هو الْكِسْوَةُ وَنِصْفُ ثَوْبٍ لَا يُسَمَّى كِسْوَةً لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ عن كِسْوَةٍ رَدِيئَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ بَدَلًا عن نَفْسِهِ
وَأَمَّا جَوَازُهُ عن الطَّعَامِ إذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجُوزُ بَدَلًا عن الْكِسْوَةِ عِنْدَنَا كما تَجُوزُ بَدَلًا
____________________

(5/105)


عن الطَّعَامِ وَالْوَجْهُ فيه على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الطَّعَامِ وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْبَدَلِيَّةِ
قال أبو يُوسُفَ تُشْتَرَطُ وَلَا تُجْزِي الْكِسْوَةُ عن الطَّعَامِ إلَّا بِالنِّيَّةِ قال مُحَمَّدٌ لَا تُشْتَرَطُ وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ كَافِيَةٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْوَاجِبَ عليه ليس إلَّا التَّكْفِيرُ فَيَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّكْفِيرِ وقد وُجِدَتْ فَيُجْزِيهِ كما لو أَعْطَى الْمَسَاكِينَ دَرَاهِمَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ وَتَبْلُغُ قِيمَةَ الطَّعَامِ جَازَتْ عن الطَّعَامِ وَلَوْ كانت لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الطَّعَامِ وَتَبْلُغُ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ جَازَتْ عن الْكِسْوَةِ من غَيْرِ نِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ كَذَا هذا
وهذا ( ( ( وجه ) ) ) قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن المؤدي يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عن نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَكْمِيلُهُ بِضَمِّ الْبَاقِي إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ بَدَلًا إلَّا بِجَعْلِهِ بَدَلًا وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لها عن نَفْسِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليها فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِلْبَدَلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ
وَكَذَلِكَ لو كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ قَلَنْسُوَةً أو خُفَّيْنِ أو نَعْلَيْنِ لم يُجْزِهِ في الْكِسْوَةِ وَأَجْزَأَهُ في الطَّعَامِ إذَا كان يُسَاوِيهِ في الْقِيمَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا بَيْنَهُمْ كَثِيرَ الْقِيمَةِ نَصِيبُ كل مِسْكِينٍ منهم أَكْثَرُ من قِيمَةِ ثَوْبٍ لم يُجْزِهِ في الْكِسْوَةِ وَأَجْزَأَهُ في الطَّعَامِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِسْوَةَ مَنْصُوصٌ عليها فَلَا تَكُونُ بَدَلًا عن نَفْسِهَا وَتَصْلُحُ بَدَلًا عن غَيْرِهَا كما لو أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ رُبْعَ صَاعٍ من حِنْطَةٍ وَذَلِكَ يُسَاوِي صَاعًا من تَمْرٍ أَنَّهُ لَا يجزيء ( ( ( يجزي ) ) ) عن الطَّعَامِ وَإِنْ كان مُدٌّ من حِنْطَةٍ يُسَاوِي ثَوْبًا يُجْزِي عن الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الطَّعَامَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً عن الثَّوْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً عن الطَّعَامِ لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَعْضُهُ عن بَعْضٍ بِخِلَافِ الطعامن ( ( ( الطعام ) ) ) مع الْكِسْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ ذَاتًا وَمَقْصُودًا فَجَازَ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ
وَكَذَا لو أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ دَابَّةً أو عَبْدًا وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ جَازَ في الْكِسْوَةِ وَإِنْ لم تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ وَبَلَغَتْ قِيمَةَ الطَّعَامِ أَجْزَأَهُ عنه عِنْدَنَا لِأَنَّ دَفْعَ الْبَدَلِ في بَابِ الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا
قال أبو يُوسُفَ لو أَنَّ رَجُلًا عليه كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَأَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ من حِنْطَةٍ وَمِسْكِينًا صَاعًا من شَعِيرٍ وَمِسْكِينًا ثَوْبًا وَغَدَّى مِسْكِينًا وَعَشَّاهُ لم يُجْزِهِ ذلك حتى يُكْمِلَ عَشَرَةً من أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الْكَفَّارَةَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ من الْإِطْعَامِ أو الْكِسْوَةِ أو التَّحْرِيرِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { أو كِسْوَتُهُمْ } وَأَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهَا فَلَا تُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا لِأَنَّهُ يَكُونُ نَوْعًا رَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ إذَا اخْتَارَ الطَّعَامَ جَازَ له أَنْ يُعْطِيَ مِسْكِينًا حِنْطَةً وَمِسْكِينًا شَعِيرًا وَمِسْكِينًا تَمْرًا لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ
وَلَوْ أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ من تَمْرٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ لم يُجْزِ إلَّا عن نَفْسِهِ بِقَدْرِهِ لِأَنَّ التَّمْرَ مَنْصُوصٌ عليه في الْإِطْعَامِ كَالْبُرِّ فَلَا يُجْزِي أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ كما لَا يَجُوزُ الثَّمَنُ عن التَّمْرِ وَيُجْزِي التَّمْرُ عن الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْمَقْصُودِ من الْآخَرِ فَجَازَ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عن الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْكِسْوَةِ فَهِيَ أنها لَا تَجُوزُ إلَّا على سَبِيلِ التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَدَفْعِ حَاجَةِ الْحَرِّ والبر ( ( ( والبرد ) ) ) وَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَمْلِيكٍ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ إلَّا بِهِ فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَلِدَفْعِ حَاجَةِ الْجُوعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطَّعْمِ لِأَنَّ حَقَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْقِيمَةِ عن الْكِسْوَةِ كما يَجُوزُ عن الطَّعَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ دَفَعَ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ في عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَنَا وعن ( ( ( وعند ) ) ) الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا عن مِسْكِينٍ وَاحِدٍ كما في الْإِطْعَامِ
وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ على وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فَإِنْ أَخْرَجَ ذلك على وَجْهِ الْمَنْصُوصِ عليه لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْجَبَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَخْرَجَهُ على وَجْهِ الْقِيمَةِ فَإِنْ كان الطَّعَامُ أَرْخَصَ من الْكِسْوَةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كانت الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ من الطَّعَامِ لم يَجْزِهِ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ تَمْلِيكٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عن الطَّعَامِ ثُمَّ إذَا كانت قِيمَةُ الْكِسْوَةِ مِثْلَ قِيمَةِ الطَّعَامِ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّعَامَ وَإِنْ كانت أَغْلَى فَقَدْ أَخْرَجَ قِيمَةَ الطَّعَامِ وَزِيَادَةً فَجَازَ وَصَارَ كما لو أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ وَأَدَّى قِيمَةَ طَعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ وَأَدَاءُ قِيمَةِ طَعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ أو أَكْثَرَ جَائِزٌ عِنْدَنَا كَذَا هذا
وإذا كانت قِيمَةُ الْكِسْوَةِ أَرْخَصَ من قِيمَةِ الطَّعَامِ لَا يَكُونُ الطَّعَامُ بَدَلًا عنه لِأَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ ليس بِتَمْلِيكٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ التَّمْلِيكِ وهو الْكِسْوَةُ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَقُومُ مَقَامَ ما هو فَوْقَهُ وَلَوْ أَعْطَى خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا خَمْسَةً جَازَ وَجَعَلَ أَغْلَاهُمَا ثَمَنًا بَدَلًا عن أَرْخَصِهِمَا ثَمَنًا أَيُّهُمَا كان لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ فَجَازَ أَنْ
____________________

(5/106)


يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَدَلًا عن الْآخَرِ
وَأَمَّا مَصْرِفُ الْكِسْوَةِ فَمَصْرِفُهَا هو مَصْرِفُ الطَّعَامِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا التَّحْرِيرُ فَلِجَوَازِهِ عن التَّكْفِيرِ شَرَائِطُ تَخْتَصُّ بِهِ فَمِنْهَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ حتى لو أَعْتَقَ إنْسَانٌ عَبْدَهُ عن كَفَّارَةِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَجَازَ ذلك الْغَيْرُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَقَعَ عنه فَلَا تُوقَفُ على غَيْرِهِ وَكَذَا لو قال لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدُك عن كَفَّارَتِي فَأَعْتَقَ لم يَجُزْ عن كَفَّارَتِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ
وَلَوْ قال أَعْتِقْ عَبْدَكَ على أَلْفِ دِرْهَمٍ عن كَفَّارَةِ يَمِينِي فَأَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عن الْآخَرِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عن الْمَأْمُورِ
وَلَوْ قال أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عن كَفَّارَةِ يَمِينِي ولم يذكر الْبَدَلَ لم يُجْزِهِ عن الْكَفَّارَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عن الْآمِرِ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في كِتَابِ الْوَلَاءِ فَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ إن هُنَاكَ يُجْزِيهِ عن الْكَفَّارَةِ وَإِنْ لم يذكر الْبَدَلَ وَعَنْ الْإِعْتَاقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا
وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ هِبَةٌ وَلَا جَوَازَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ الْقَبْضُ في الْإِعْتَاقِ وَوُجِدَ في الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الْفَقِيرِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُكَفِّرِ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةً لِلْمُعْتِقِ وهو أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِلْكَ الْمُعْتِقِ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَمِنْهَا حُصُولُ كَمَالِ الْعِتْقِ لِلرَّقَبَةِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ الْمُطْلَقَ مُضَافًا إلَى الرَّقَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عن الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ إعْتَاقَ عَبْدَيْنِ بين رَجُلَيْنِ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الْعِتْقِ في شَخْصَيْنِ فَلَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقٌ كَامِلٌ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْمِلْكِ له في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْوَاجِبُ عليه صَرْفُ عِتْقٍ كَامِلٍ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فإذا فَرَّقَهُ لَا يَجُوزُ كما لو أَعْطَى طَعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ إلَى مِسْكِينَيْنِ بِخِلَافِ شَاتَيْنِ بين رَجُلَيْنِ ذَكَّيَاهُمَا عن نُسُكَيْهِمَا أَجْزَأَهُمَا
لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في النُّسُكِ جَائِزَةٌ إذَا أصاب ( ( ( صاب ) ) ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ شَاةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِسَبْعَةٍ فَكَانَ الشَّرْطُ في بَابِ النُّسُكِ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ شَاةٍ وقد وُجِدَ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وهو مُوسِرٌ أو مُعْسِرٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عن الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ كان مُوسِرًا يَجُوزُ وَإِنْ كان مُعْسِرًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ على الْعَبْدِ إذَا كان مُعْسِرًا فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ وإذا كان مُوسِرًا لَا سِعَايَةَ على الْعَبْدِ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةَ الرِّقِّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُطْلَقًا وَالتَّحْرِيرُ تَخْلِيصٌ عن الرِّقِّ فيتقضي ( ( ( فيقتضي ) ) ) كَوْنَ الرَّقَبَةِ مَرْقُوقَةً مُطْلَقَةً وَنُقْصَانُ الرِّقِّ فَوَاتُ جُزْءٍ منه فَلَا تَكُونُ الرَّقَبَةُ مَرْقُوقَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَكُونُ تَحْرِيرُهَا مُطْلَقًا فَلَا يَكُونُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ تَحْرِيرُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عن الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِنُقْصَانِ رِقِّهِمَا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ من وَجْهٍ أو حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ حتى امْتَنَعَ تَمْلِيكُهَا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا
وَأَمَّا تَحْرِيرُ الْمُكَاتَبِ عن الْكَفَّارَةِ فَجَائِزٌ اسْتِحْسَانًا إذَا كان لم يُؤَدِّ شيئا من بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ كان أَدَّى شيئا من بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُهُ عن الْكَفَّارَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ عَجَزَ عن أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كان أَدَّى شيئا من بَدَلِ الْكِتَابَةِ أو لم يُؤَدِّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَمِلْكُ الْمَوْلَى من الْمُكَاتَبِ زَائِلٌ إذْ الْمِلْكُ عِبَارَةٌ عن الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ على التَّصَرُّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ من الِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِفْرَاشِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ زَائِلَةٌ عن الْمَوْلَى في حَقِّ الْمُكَاتَبِ فإنه لَا يَمْلِكُ شيئا من ذلك عليه وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ لو قال كُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ لَا يَدْخُلُ فيه الْمُكَاتَبُ وَكَذَا لو وُطِئَتْ الْمُكَاتَبَةُ بِشُبْهَةٍ كان الْعُقْرُ لها لَا لِلْمَوْلَى وإذا جني على الْمُكَاتَبِ كان الإرش له لَا لِلْمَوْلَى فَدَلَّ أَنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ فَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عن الْكَفَّارَةِ وَلِهَذَا تُسَلَّمُ له الْأَوْلَادُ وَالْإِكْسَابُ وَلَا يُسَلَّمُ ذلك بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ
وَلَنَا لِبَيَانِ أَنَّ الْمِلْكَ مِلْكُ الْمَوْلَى النَّصُّ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُ النبي الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَالْعَبْدُ الْمُضَافُ إلَى الْعِبَادِ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكِ من بَنِي آدَمَ في عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَلِهَذَا لو قال كُلُّ عَبْدٍ لي فَهُوَ حُرٌّ دخل فيه الْمُكَاتَبُ وَاَللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فإنه لو أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ أو أَبْرَأهُ الْمَوْلَى عن الْبَدَلِ يَعْتِقُ وَلَا يعتق ( ( ( عتق ) ) ) فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ على لِسَانِ رسول اللَّهِ

____________________

(5/107)


وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ كان ثَابِتًا له فيه قبل الْعَقْدِ العارض ( ( ( والعارض ) ) ) ليس إلَّا لَفْظُ الْكِتَابَةِ وَلَيْسَ فيه ما ينبىء عن زَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُسْتَعْمَل في الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وفي الْكِتَابَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَشَيْءٌ من ذلك لَا ينبيء عن زَوَالِ الْمِلْكِ فَيَبْقَى الْمِلْكُ على ما كان قبل الْعَقْدِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْمِلْكَ هو الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ على التَّصَرُّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَلْمَوْلَى فَمَمْنُوعٌ أَنَّ الْمِلْكَ هو الْقُدْرَةُ بَلْ هو اخْتِصَاصُ الملك ( ( ( المالك ) ) ) بالملوك ( ( ( بالمملوك ) ) ) فَمِلْكُ الْعَيْنِ هو اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ بِالْعَيْنِ وَكَوْنُهُ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ من غَيْرِهِ ثُمَّ قد يَظْهَرُ أَثَرُهُ في جَوَازِ التَّصَرُّفَاتِ وقد لَا يَظْهَرُ مع قِيَامِهِ في نَفْسِهِ لِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ في الْمَحِلِّ حَقًّا مُحْتَرَمًا كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَإِنَّمَا لَا يَدْخُلُ في إطْلَاقِ قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ لَا لِخَلَلٍ في الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فيه كما بَيَّنَّا بَلْ لِخَلَلٍ في الْإِضَافَةِ لِكَوْنِهِ حُرًّا يَدًا فلم يَدْخُلْ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ حتى لو نَوَى يَدْخُلُ وَسَلَامَةُ الْأَوْلَادِ والاكساب مَمْنُوعَةٌ في الْفَرْعِ وَالرِّوَايَةُ فِيمَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ أو أَبْرَأَهُ عنها كَذَا قال أُسْتَاذُ أُسْتَاذِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلِيُّ بن مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيُّ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا سَلَامَةَ الْإِكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ السَّلَامَةَ تَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ بَلْ تَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ الْمَوْجُودِ في حَالِ الْكِتَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه بَدَلُ الْكِتَابَةِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَسْقُطُ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِهِ
وَأَمَّا إذَا كان أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَعْتَقَهُ عن الْكَفَّارَةِ فَمَمْنُوعٌ على رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
أما التَّخْرِيجُ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَدْ حَصَلَ لِلْمَوْلَى عِوَضًا عن بَعْضِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ في مَعْنَى الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ وَذَا لَا يجزيء عن التَّكْفِيرِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عن كَفَّارَةٍ ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ عنها أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ فلم يَتَطَرَّقْ إلَى الرِّقِّ نُقْصَانٌ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَالْعِتْقُ وَإِنْ كان مُتَجَزِّئًا وَحَصَلَ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَكِنْ النُّقْصَانُ حَصَلَ مَصْرُوفًا إلَى الْكَفَّارَةِ في رِقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ لِاسْتِحْقَاقِهِ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ بِتَخْرِيجِهِ إلَى الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ حين ما أَعْتَقَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ كان النِّصْفُ الْآخَرُ على مِلْكِهِ فَأَمْكَنَ صَرْفُ النُّقْصَانِ إلَى الْكَفَّارَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ النِّصْفَ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْكَامِلِ وهو ما اُنْتُقِصَ منه ثُمَّ أَعْتَقَ الْبَقِيَّةَ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ ما إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ وهو مُوسِرٌ فَضَمَّنَهُ صَاحِبُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ أنه لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ نُقْصَانًا في النِّصْفِ الْبَاقِي وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ صَرَفَ ذلك النُّقْصَانَ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له في ذلك النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ ولم يَقَعْ عن الْكَفَّارَةِ ثُمَّ بَعْدَ أَدَاءِ النِّصْفِ الْبَاقِي صَرَفَهُ إلَى الْكَفَّارَةِ وهو نَاقِصٌ فَيَصِيرُ في الْحَقِيقَةِ مُعْتِقًا عن الْكَفَّارَةِ عَبْدًا إلَّا قَدْرَ النُّقْصَانِ
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَيَجُوزُ في الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ إعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقَ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانُ الرِّقِّ في الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ جَازَ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا في الرِّقِّ فَكَانَ كَامِلَ الرِّقِّ وَإِنَّمَا وَجَبَ عليه حَقٌّ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الذَّاتِ وهو أَنْ لَا يَكُونَ جِنْسٌ من أَجْنَاسِ مَنَافِعِ أَعْضَائِهَا فَائِتًا لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ كانت الذَّاتُ هَالِكَةً من وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَجُوزُ عن الْكَفَّارَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أُعْتِقَ عَبْدًا مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أو الرِّجْلَيْنِ أو مَقْطُوعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ من جَانِبٍ وَاحِدٍ أو يَابِسَ الشِّقِّ مَفْلُوجًا أو مُقْعَدًا أو زَمِنًا أو أَشَلَّ الْيَدَيْنِ أو مَقْطُوعَ الْإِبْهَامَيْنِ من الْيَدَيْنِ أو مَقْطُوعَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ من كل يَدٍ سِوَى الْإِبْهَامَيْنِ أو أَعْمَى أو مَفْقُودَ الْعَيْنَيْنِ أو مَعْتُوهًا مَغْلُوبًا أو أَخْرَسَ أَنْ لَا يَجُوزَ عن الْكَفَّارَةِ لِفَوَاتِ جِنْسٍ من أَجْنَاسِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَشَلَلِهِمَا وَقَطْعِ الْإِبْهَامَيْنِ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامَيْنِ يَذْهَبُ بِقُوَّةِ الْيَدِ فَكَانَ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ من كل يَدٍ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ تَفُوتُ بِهِ وَمَنْفَعَةَ الْمَشْي بِقَطْعِ الرِّجْلَيْنِ وَبِقَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ من جَانِبٍ وَالزَّمَانَةِ وَالْفَلِجِ وَمَنَعَهُ النَّظَرَ بالعمي وَفَقْءِ الْعَيْنَيْنِ وَمَنْفَعَةَ الْكَلَامِ بِالْخَرَسِ وَمَنْفَعَةَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ
وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْأَعْوَرِ وَمَفْقُودِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْأَعْشَى
____________________

(5/108)


وَمَقْطُوعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ أو رِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَمَقْطُوعِ يَدٍ وَرَجُلٍ من خِلَافٍ وَأَشَلَّ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَمَقْطُوعِ الاصبعين من كل يَدٍ سِوَى الْإِبْهَامَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْخُنْثَى وَالْأَمَةِ والرتقاء ( ( ( الرتقاء ) ) ) وَالْقَرْنَاءِ وما يَمْنَعُ من الْجِمَاعِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ في هذه الْأَعْضَاءِ قَائِمَةٌ وَيَجُوزُ مَقْطُوعِ الْأُذُنَيْنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السَّمْعِ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا الْأُذُنُ الشَّاخِصَةُ لِلزِّينَةِ وَكَذَا مَقْطُوعِ الْأَنْفِ أن الْفَائِتَ هو الْجَمَالُ
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الشَّمِّ فَقَائِمَةٌ وَكَذَا إذا ( ( ( ذاهب ) ) ) هب شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ لِأَنَّ الشَّعْرَ لِلزِّينَةِ وَكَذَا مَقْطُوعِ الشَّفَتَيْنِ إذَا كان يَقْدِرُ على الْأَكْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا عُدِمَتْ الزِّينَةُ وَلَا يجزيء سَاقِطُ الْأَسْنَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على الْأَكْلِ فَفَاتَتْ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ
وَأَمَّا الْأَصَمُّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِفَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ بِالصَّمَمِ وَإِنَّمَا ينقص ( ( ( ينتقص ) ) ) لِأَنَّ ما من أَصَمًّ إلَّا وَيَسْمَعُ إذَا بُولِغَ في الصِّيَاحِ إلَّا إذَا كان أَخْرَسَ كَذَا قِيلَ فَلَا يَفُوتُ بِالصَّمَمِ أَصْلُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ يُنْتَقَصُ وَنُقْصَانُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ وَقِيلَ هذا إذَا كان في إذنه وَقْرٌ فَأَمَّا إذَا كان بِحَالٍ لو جُهِرَ بِالصَّوْتِ في أُذُنِهِ لَا يَسْمَعُ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ أَعْتَقَ جَنِينًا لم يَجْزِهِ عن الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كان وُلِدَ بَعْدَ يَوْمِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَالْجَنِينُ لَا يُسَمَّى رَقَبَةً وَلِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كان بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ شَاقًّا على الْبَدَنِ فإذا قَابَلَهُ عِوَضٌ لَا يَشُقُّ عليه إخْرَاجُهُ عن مِلْكِهِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إنَّمَا تَجِبُ لِإِذَاقَةِ النَّفْسِ مَرَارَةَ زَوَالِ الْمِلْكِ بِمُقَابِلَةِ ما اسْتَوْفَتْ من الشَّهَوَاتِ في غَيْرِ حِلِّهَا وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إذَا كان بِعِوَضٍ لِأَنَّ الزَّائِلَ إلَى عِوَضٍ قَائِمٌ مَعْنًى فَلَا يَتَحَقَّقُ ما وُضِعَتْ له هذه الْكَفَّارَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ على مَالٍ عن كَفَّارَتِهِ أنه لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَبْرَأهُ بَعْدَ ذلك عن الْعِوَضِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَقَعَ لَا عن جِهَةِ التَّكْفِيرِ وَمَضَى على وَجْهٍ فَلَا يَنْقَلِبُ كَفَّارَةً بَعْدَ ذلك كما لو أَعْتَقَ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ كان الْعَبْدُ بين رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وهو مُعْسِرٌ عن كَفَّارَتِهِ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ في نَفْسِهِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَصِيرُ في مَعْنَى الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ وَلَوْ كان في رَقَبَةِ الْعَبْدِ دَيْنٌ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى عن كَفَّارَتِهِ فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ أَجْزَأَهُ عن الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عن الرِّقِّ وَإِنَّمَا هِيَ لِدَيْنٍ لَزِمَ الْعَبْدَ قبل الْحُرِّيَّةِ فَيَسْعَى وهو حُرٌّ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ الْإِعْتَاقِ عن الْكَفَّارَةِ
وَكَذَا لو أَعْتَقَ عَبْدًا رَهْنًا فَسَعَى الْعَبْدُ في الدَّيْنِ فإنه يَرْجِعُ على الْمَوْلَى وَيَجُوزُ عن الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بَدَلَ الرِّقِّ لِأَنَّهَا ما وَجَبَتْ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْإِعْتَاقِ لِحُصُولِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ وَإِنَّمَا هِيَ لِدَيْنٍ لَزِمَهُ عن الْمَوْلَى وَإِنْ كان مُوسِرًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ أَيْضًا على ما بَيَّنَّا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا نِصْفُهُ عِنْدَهُ لِتَجْزِيَ الْعِتْقَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَكَامَلُ وَلَا يَتَكَامَلُ الْمِلْكُ فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِمُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ وَيَسَارُ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا فَعَرِيَ الْإِعْتَاقُ عن الْعِوَضِ فَجَازَ
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا في مَرَضِ مَوْتِهِ عن الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَ له مَالٌ غَيْرُهُ لم يَجْزِهِ عن الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ يُعْتِقُ ثُلُثَهُ وَيَسْعَى في ثُلُثَيْهِ فَيَصِيرُ بَعْضُهُ بِبَدَلٍ وَبَعْضُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فلم يَجُزْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْحِنْثُ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْيَمِينِ قبل الْحِنْثِ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ
وَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ
وَأَمَّا الْمَوْتُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ حتى يَجُوزَ التَّكْفِيرُ فيها بَعْدَ الْجَرْحِ قبل الْمَوْتِ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بين الْكَفَّارَتَيْنِ في كِتَابِ الأيمان وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ وَيَسْتَوِي في التَّحْرِيرِ الرَّقَبَةُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِإِطْلَاقِ اسْمِ الرَّقَبَةِ في النُّصُوصِ
فَإِنْ قِيلَ الصَّغِيرُ لَا مَنَافِعَ لِأَعْضَائِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ عن الْكَفَّارَةِ كَالذِّمِّيِّ وَكَذَا لَا يَجْزِي إطْعَامُهُ عن الْكَفَّارَةِ فَكَذَا إعْتَاقُهُ فَالْجَوَابُ عن الْأَوَّلِ أَنَّ أَعْضَاءَ الصَّغِيرِ سَلِيمَةٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ وَهِيَ بعرض ( ( ( بغرض ) ) ) أَنْ تَصِيرَ قَوِيَّةً فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ وَهَذَا لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَعْضَاءِ إذَا كانت ثَابِتَةً يَشُقُّ عليه إخْرَاجُهُ عن مِلْكِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَشُقُّ عليه إخْرَاجُ فَائِتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَذَا جَائِزٌ فَهَذَا أَوْلَى
وَأَمَّا إطْعَامُهُ عن الْكَفَّارَةِ فَجَائِزٌ على طَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ على ذسبيل ( ( ( سبيل ) ) ) الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ أَكْلًا مُعْتَادًا وَيَسْتَوِي
____________________

(5/109)


فيه الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ وَالْكَافِرَةُ وَكَذَا في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ فيها إلَّا الْمُؤْمِنَةَ بِالْإِجْمَاعِ وقال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه لَا يَجُوزُ في الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا إلَّا الْمُؤْمِنَةَ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُطْلَقٌ عن قَيْدِ أَيْمَانِ الرَّقَبَةِ وَالنَّصَّ لوارد ( ( ( الوارد ) ) ) في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الْأَيْمَانِ فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطْلَقَ على المفيد ( ( ( المقيد ) ) ) وَنَحْنُ أَجْرَيْنَا الْمُطْلَقَ على إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدَ على تَقْيِيدِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْمُطْلَقَ في مَعْنَى الْمُجْمَلِ وَالْمُقَيَّدَ في مَعْنَى الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلُ يُحْمَلُ على الْمُفَسَّرِ وَيَصِيرُ النَّصَّانِ في مَعْنًى كَنَصِّ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ وَلِهَذَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ في بَابِ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ حتى شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِوُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ والأسامة لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَشُرِطَ التَّتَابُعُ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ وهو أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ ضَرْبُ النُّصُوصِ بَعْضِهَا في بَعْضٍ وَجَعْلُ النَّصَّيْنِ كَنَصٍّ وَاحِدٍ مع إمْكَانِ الْعَمَلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ
وَالثَّانِي طَرِيقُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وهو أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ نَسْخٌ لِلْإِطْلَاقِ لِأَنَّ بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ الْمُقَيَّدِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ بَلْ يُنْسَخُ حُكْمُهُ وَلَيْسَ النَّسْخُ إلَّا بَيَانَ مُنْتَهَى مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
وَقَوْلُهُ الْمُطْلَقُ في مَعْنَى الْمُجْمَلِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ وَالْمُطْلَقُ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ إذْ هو اسْمٌ لِمَا يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وفي الْمَوْضِعِ الذي حُمِلَ إنَّمَا حُمِلَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا فَيَخْرُجُ على الْبَيَانِ وَعَلَى النَّاسِخِ وَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بين مَشَايِخِنَا أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بَيَانٌ أو نَسْخٌ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ لَا ضَرُورَةَ فَلَا يُحْمَلُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ الإيمان في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ثَبَتَ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أن تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةِ الأيمان في بَابِ الْقَتْلِ ما وَجَبَ بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذُّنُوبِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ في الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَ الْمُؤَاخَذَةَ في الْخَطَأِ بِدُعَاءِ النبي عليه أَشْرَفُ التَّحِيَّةِ رَبّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا أن نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا
وقال النبي عليه السلام رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ لِسَلَامَةِ نَفْسِهِ في الدُّنْيَا عن الْقِصَاصِ وفي الْآخِرَةِ عن الْعِقَابِ لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عن الْوُقُوعِ في الْخَطَأِ مَقْدُورٌ في الْجُمْلَةِ بِالْجَهْدِ وَالْجَدِّ وَالتَّكَلُّفِ فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَالتَّحْرِيرُ في الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ إذَا لم يُعْرَفْ ارْتِفَاعُ الْمُؤَاخَذَةِ الثَّابِتَةِ هَهُنَا فَوَجَبَ التَّحْرِيرُ فِيهِمَا تَكْفِيرًا فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ
فَإِنْ قِيلَ إذَا حَنِثَ في يَمِينِهِ خَطَأً كان التَّحْرِيرُ شُكْرًا على ما قُلْتُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ على الْقَتْلِ في إيجَابِ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ في هذه الصُّورَةِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَحْرِيرَ الْمُؤْمِنِ جُعِلَ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ سَلَامَةُ الْحَيَاةِ في الدُّنْيَا مع ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ في الْآخِرَةِ
وفي بَابِ الْيَمِينِ النِّعْمَةُ هِيَ ارْتِفَاعُ الْمُؤَاخَذَةِ في الْآخِرَةِ فَحَسْبُ إذْ ليس ثَمَّةَ مُوجِبٌ دُنْيَوِيٌّ يُسْقِطُ عنه فَكَانَتْ النِّعْمَةُ في بَابِ الْقَتْلِ فَوْقَ النِّعْمَةِ في بَابِ الْيَمِينِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ يَجِبُ على قَدْرِ النِّعْمَةِ كَالْجَزَاءِ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الشُّكْرِ إلَّا من عَلِمَ مِقْدَارَ النِّعْمَةِ وهو اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا تُمْكِنُ الْمُقَايَسَةُ في هذه الصُّورَةِ أَيْضًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ فَأَمَّا التَّحْرِيرُ فَجَمِيعُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِهِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِهِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ وما ليس بِشَرْطٍ الجواز ( ( ( لجواز ) ) ) التَّحْرِيرِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ في تِلْكَ الْكَفَّارَاتِ إلَّا إيمان الرَّقَبَةِ خَاصَّةً فإنه شَرْطُ الْجَوَازِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا كَمَالُ الْعِتْقِ قبل الْمَسِيسِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه خَاصَّةً حتى لو أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ وطىء ثُمَّ أَعْتَقَ ما بَقِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فلم يُوجَدْ تَحْرِيرٌ كَامِلٌ قبل الْمَسِيسِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَقَدْرُ الصَّوْمِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَكَذَا
____________________

(5/110)


في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ لِحَدِيثِ كَعْبِ بن عُجْرَةَ رضي اللَّهُ عنه ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْحَجِّ وفي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِهِ
وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ هذه الصِّيَامَات فَلِجَوَازِ صِيَامِ الْكَفَّارَةِ شَرَائِطُ مَخْصُوصَةٌ منها النِّيَّةُ من اللَّيْلِ حتى لَا يَجُوزَ بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ عَيْنٍ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ النِّيَّةِ من اللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الصَّوْمِ
وَمِنْهَا التَّتَابُعُ في غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عليه في هذه الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثَةِ قال اللَّهُ تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) في كَفَّارَتَيْ الْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وقال النبي لِلْأَعْرَابِيِّ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِخِلَافِ صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِهِ من غَيْرِ شَرْطِ التَّتَابُعِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ }
وَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَيُشْتَرَطُ فيه التَّتَابُعُ أَيْضًا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ هو الخيار ( ( ( بالخيار ) ) ) إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } من غَيْرِ شَرْطِ التَّتَابُعِ
وَلَنَا قِرَاءَةُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما < فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ > وَقِرَاءَتُهُ كانت مَشْهُورَةً في الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ لِقَبُولِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إيَّاهَا تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إنْ لم يَقْبَلُوهَا في كَوْنِهَا قُرْآنًا فَكَانَتْ مَشْهُورَةً في حَقِّ حُكْمِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إيَّاهَا في حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَالزِّيَادَةُ على الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَيَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَكَذَا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَفْطَرَ في خِلَالِ الصَّوْمِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّوْمَ سَوَاءٌ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أو لِعُذْرِ مَرَضٍ أو سَفَرٍ لِفَوْتِ شَرْطِ التَّتَابُعِ
وَكَذَلِكَ لو أَفْطَرَ يوم الْفِطْرِ أو يوم النَّحْرِ أو أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فإنه يَسْتَقْبِلُ الصِّيَامَ سَوَاءٌ أَفْطَرَ في هذه الْأَيَّامِ أو لم يُفْطِرْ لِأَنَّ الصَّوْمَ في هذه الْأَيَّامِ لَا يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ ما في ذِمَّتِهِ لِأَنَّ ما في ذِمَّتِهِ كَامِلٌ وَالصَّوْمَ في هذه الْأَيَّامِ نَاقِصٌ لِمُجَاوَرَةِ الْمَعْصِيَةِ إيَّاهُ وَالنَّاقِصُ لَا يَنُوبُ عن الْكَامِلِ
وَلَوْ كانت امْرَأَةٌ فَصَامَتْ عن كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ في رَمَضَانَ أو عن كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَحَاضَتْ في خِلَالِ ذلك لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ لَا تَحِيضُ فِيهِمَا فَكَانَتْ مَعْذُورَةً وَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ أَيَّامَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْحَيْضِ بِمَا قَبْلَهُ حتى لو لم تُصَلِّي وَأَفْطَرَتْ يَوْمًا بَعْدَ الْحَيْضِ اسْتَقْبَلَتْ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ التَّتَابُعَ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَوْ نَفِسَتْ تَسْتَقْبِلُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ لَا نِفَاسَ فِيهِمَا
وَلَوْ كانت في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَحَاضَتْ في خِلَالِ ذلك تَسْتَقْبِلُ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا حَيْضَ فيها فَلَا ضَرُورَةَ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ التي لم يُظَاهِرْ منها بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أو بِاللَّيْلِ عَامِدًا أو نَاسِيًا أو أَكَلَ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا لَا يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لم يَفْسُدْ فلم يَفُتْ شَرْطُ التَّتَابُعِ
وَمِنْهَا عَدَمُ الْمَسِيسِ في الشَّهْرَيْنِ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ سَوَاءٌ فَسَدَ الصَّوْمُ أو لَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ الشَّرْطُ عَدَمُ فَسَادِ الصَّوْمِ حتى لو جَامَعَ امْرَأَتَهُ التي ظَاهَرَ منها بِاللَّيْلِ عَامِدًا أو نَاسِيًا أو بِالنَّهَارِ نَاسِيًا اسْتَقْبَلَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَمْضِي على صَوْمِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا الْجِمَاعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ كما لو جَامَعَ امْرَأَةً أُخْرَى ثُمَّ ظَاهَرَ منها وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا مَسِيسَ فِيهِمَا بِقَوْلِهِ { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فإذا جَامَعَ في خِلَالِهِمَا فلم يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَلَوْ جَامَعَهَا بِالنَّهَارِ عَامِدًا اسْتَقْبَلَ بِالِاتِّفَاقِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِوُجُودِ الْمَسِيسِ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ لِوُجُودِ فَسَادِ الصَّوْمِ
وَأَمَّا وُجُوبُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَرَّقَ لاطلاق قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } من غَيْرِ فَصْلٍ
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ في كَفَّارَتَيْ الظِّهَارِ والافطار فَالْكَلَامُ في جَوَازِهِ صِفَةً وَقَدْرًا وَمَحَلًّا كَالْكَلَامِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وقد ذَكَرْنَاهُ وَعَدَمُ الْمَسِيسِ في خِلَالِ الْإِطْعَامِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو جَامَعَ في خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يَشْتَرِطْ ذلك في هذه الْكَفَّارَةِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } من غَيْرِ شَرْطِ تَرْكِ الْمَسِيسِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ من الْوَطْءِ قَبْلَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَقْدِرَ على الصَّوْمِ أو الِاعْتِكَافِ فَتَنْتَقِلُ الْكَفَّارَةُ إلَيْهِمَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَطْءَ كان حَرَامًا على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الظِّهَارِ

____________________

(5/111)


وَالْكَلَامُ في الْإِطْعَامِ في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ كَالْكَلَامِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إلَّا في عَدَدِ من يُطْعَمُ وَهُمْ سِتَّةُ مَسَاكِينَ لِحَدِيثِ كَعْبِ بن عُجْرَةَ رضي اللَّهُ عنه فَأَمَّا في الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ وَالْمَحَلِّ فَلَا يَخْتَلِفَانِ حتى يَجُوزَ فيه التَّمْلِيكُ وَالتَّمْكِينُ وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ فيها إلَّا التَّمْلِيكُ كَذَا حَكَى الشي ( ( ( الشيخ ) ) ) الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِلَافَ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ مع أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَوَازَ التَّمْكِينِ في طَعَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ إذْ هو في عُرْفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِتَقْدِيمِ الطَّعَامِ على وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّصُّ وَرَدَ هَهُنَا بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ
وَلَهُمَا أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ وأنها تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ فَوْقَ ما يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ على ما بَيَّنَّا وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُ الْقِيمَةِ وَإِنْ فُسِّرَتْ الصَّدَقَةُ بثلاثة ( ( ( بثلاث ) ) ) أَصْوُعٍ في حديث كَعْبِ بن عُجْرَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَلَوْ وَجَبَ عليه كَفَّارَةُ يَمِينٍ فلم يَجِدْ ما يُعْتِقُ وَلَا ما يَكْسُو وَلَا ما يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ على الصَّوْمِ فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ عن صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لم يَجُزْ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْبَدَلَ لَا يَكُونُ له بَدَلٌ فإذا عَجَزَ عن الْبَدَلِ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَصْلِ وهو أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ
وَإِنْ كان عليه كَفَّارَةُ الْقَتْلِ أو الظِّهَارِ أو الْإِفْطَارِ ولم يَجِدْ ما يُعْتِقُ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ على الصَّوْمِ وَلَا يَجِدُ ما يُطْعِمُ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ يَتَأَخَّرُ الْوُجُوبُ إلَى أَنْ يَقْدِرَ على الْإِعْتَاقِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَعَلَى الْإِعْتَاقِ أو الْإِطْعَامِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ على الْعَاجِزِ مُحَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَسْمَاءِ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُسْكِرَةِ وفي بَيَانِ مَعَانِيهَا وفي بَيَانِ أَحْكَامِهَا وفي بَيَانِ حَدِّ السُّكْرِ
أَمَّا أَسْمَاؤُهَا فَالْخَمْرُ وَالسَّكَرُ وَالْفَضِيخُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالطِّلَاءُ وَالْبَاذِقُ وَالْمُنَصَّفُ وَالْمُثَلَّثُ وَالْجُمْهُورِيُّ وقد يُسَمَّى أبو سُقْيَا وَالْخَلِيطَانِ وَالْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعَ
أَمَّا بَيَانُ مَعَانِي هذه الْأَسْمَاءِ أَمَّا الْخَمْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ من مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غلا ( ( ( غلى ) ) ) وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ وَهَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ مَاءُ الْعِنَبِ إذَا غلا ( ( ( غلى ) ) ) وَاشْتَدَّ فَقَدْ صَارَ خَمْرًا وَتَرَتَّبَ عليه أَحْكَامُ الْخَمْرِ قَذَفَ بِالزَّبَدِ أو لم يَقْذِفْ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرُّكْنَ فيها مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ فَلَا يَصِيرُ خَمْرًا بِدُونِهِ
وَأَمَّا السَّكَرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ من مَاءِ الرُّطَبِ إذَا غلا ( ( ( غلى ) ) ) وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أو لم يَقْذِفْ على الِاخْتِلَافِ وَأَمَّا الْفَضِيخُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ من مَاءِ الْبُسْرِ الْمَنْضُوخِ وهو الْمَدْقُوقُ إذَا غلا ( ( ( غلى ) ) ) وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أو لَا على الِاخْتِلَاف
وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ من مَاءِ الزَّبِيبِ الْمَنْقُوعِ في الْمَاءِ حتى خَرَجَتْ حَلَاوَتُهُ إلَيْهِ وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أو لَا على الْخِلَافِ
وَأَمَّا الطِّلَاءُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَطْبُوخِ من مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ من الثُّلُثَيْنِ وَصَارَ مُسْكِرًا وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْبَاذَقِ وَالْمُنَصَّفِ لِأَنَّ الْبَاذَقَ هو الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ من مَاءِ الْعِنَبِ وَالْمُنَصَّفُ هو الْمَطْبُوخُ من مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ نِصْفُهُ وبقى النِّصْفُ وَقِيلَ الطِّلَاءُ هو الْمُثَلَّثُ وهو الْمَطْبُوخُ من مَاءِ الْعِنَبِ حتى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ مُعَتَّقًا وَصَارَ مُسْكِرًا وَأَمَّا الْجُمْهُورِيُّ فَهُوَ الْمُثَلَّثُ يُصَبُّ الْمَاءُ بعدما ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ قَدْرَ الذَّاهِبِ وهو الثُّلُثَانِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيَصِيرُ مُسْكِرًا
وَأَمَّا الْخَلِيطَانِ فَهُمَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ أو الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ إذَا خُلِطَا وَنُبِذَا حتى غَلَيَا وَاشْتَدَّا
وَأَمَّا الْمِزْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الذُّرَةِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَأَمَّا الْجِعَّةُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا
وَأَمَّا الْبِتْعُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْعَسَلِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا هذا بَيَانُ مَعَانِي هذه الْأَسْمَاء وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ هذه الْأَشْرِبَةِ أَمَّا الْخَمْرُ فَيَتَعَلَّقُ بها أَحْكَامٌ
منها أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَيَسْتَوِي في الْحُرْمَةِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا
وَالدَّلِيلُ على أنها مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَمْرَ بِكَوْنِهَا رِجْسًا وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُوصَفُ بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً في نَفْسِهَا وَقَوْلُهُ عز من قَائِلٍ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ } الْآيَةُ فَدَلَّ
____________________

(5/112)


على حُرْمَةِ السُّكْرِ فَحُرِّمَتْ عَيْنُهَا وَالسُّكْرُ منها
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ من كل شَرَابٍ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ شُرْبَهَا عِنْدَ شرورة ( ( ( ضرورة ) ) ) الْعَطَشِ أو لِإِكْرَاهٍ قَدْرَ ما تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ قَلِيلِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ الْمَحْضِ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ بِالضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذلك وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بها لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يَجْعَلْ شِفَاءَنَا فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَيَحْرُمُ على الرَّجُلِ أَنْ يَسْقِيَ الصَّغِيرَ الْخَمْرَ فإذا سَقَاهُ فَالْإِثْمُ عليه دُونَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُهُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وهو نَصُّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ فَكَانَ مُنْكَرُ الْحُرْمَةِ مُنْكَرًا لِلْكِتَابِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُحَدُّ شَارِبُهَا قَلِيلًا أو كَثِيرًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عنه تَعَالَى عَنْهُمْ على ذلك وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِالْمَاءِ إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عليها حتى زَالَ طَعْمُهَا وَرِيحُهَا لَا يَجِبْ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كانت لِلْخَمْرِ فَقَدْ بَقِيَ اسْمُ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهَا وإذا كانت الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ الْمَمْزُوجِ بِالْخَمْرِ لِمَا فيه من أَجْزَاءِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَكَذَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْخَمْرِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَوْ شَرِبَهَا يَجِبُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَوْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عليه إلَّا إذَا سَكِرَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَمَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فيه نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُنَصَّفَ وإذا سَكِرَ منه يَجِبُ حَدُّ السُّكْرِ كما في الْمُنَصَّفِ وَيَحْرُمُ شُرْبُهُ لِمَا فيه من أَجْزَاءِ الْخَمْرِ وَمَنْ وُجِدَ منه رَائِحَةُ الْخَمْرِ أو قَاءَ خَمْرًا لَا حَدَّ عليه لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ مع الِاحْتِمَالِ وَلَا حَدَّ على أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ سَكِرُوا من الْخَمْرِ لِأَنَّهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمْ وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا سَكِرُوا لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وَمِنْهَا أَنَّ حَدَّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ مُقَدَّرٌ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً في الْأَحْرَارِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَقِيَاسِهِمْ على حَدِّ الْقَذْفِ حتى قال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إذَا سَكِرَ هَذَى وإذا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ وَبِأَرْبَعِينَ في الْعَبِيدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْحَدِّ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَا قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ }
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْرُمُ على الْمُسْلِمِ تملكيها ( ( ( تمليكها ) ) ) وَتَمَلُّكُهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ من الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذلك لِأَنَّ كُلَّ ذلك انْتِفَاعٌ بِالْخَمْرِ وأنها مُحَرَّمَةُ الِانْتِفَاعِ على الْمُسْلِمِ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال يا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد أَنْزَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَمَنْ كَتَبَ هذه الأية وَعِنْدَهُ شَيْءٌ منها فَلَا يَشْرَبْهَا وَلَا يبيعها ( ( ( يبعها ) ) ) فَسَكَبُوهَا في طُرُقِ الْمَدِينَةِ إلَّا أنها تُوَرَّثُ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْمَوْرُوثِ ثَبَتَ شَرْعًا من غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ ذلك من بَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ وَالْخَمْرُ إنْ لم تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مَالٌ عِنْدَنَا فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ في الْجُمْلَةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا إذَا كانت لِمُسْلِمٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كانت مَالًا في حَقِّهِ وَإِتْلَافُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ كانت لِذِمِّيٍّ يَضْمَنْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْغَصْبِ
وَمِنْهَا أنها نَجِسَةٌ غَلِيظَةٌ حتى لو أَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهَا رِجْسًا في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ { رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } وَلَوْ بَلَّ بها الحنظة ( ( ( الحنطة ) ) ) فَغُسِلَتْ وَجُفِّفَتْ وَطُحِنَتْ فَإِنْ لم يُوجَدْ منها طَعْمُ الْخَمْرِ وَرَائِحَتُهَا يَحِلَّ أَكْلُهُ وَإِنْ وُجِدَ لَا يَحِلَّ لِأَنَّ قِيَامَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ وَزَوَالَهَا دَلِيلُ زَوَالِهَا وَلَوْ سُقِيَتْ بَهِيمَةٌ منها ثُمَّ ذُبِحَتْ فَإِنْ ذُبِحَتْ سَاعَةَ سُقِيَتْ بِهِ تَحِلَّ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّهَا في أَمْعَائِهَا بَعْدُ فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ مَضَى عليها يَوْمٌ أو أَكْثَرُ تَحِلَّ مع الْكَرَاهَةِ لِاحْتِمَالِ أنها تَفَرَّقَتْ في الْعُرُوقِ وَالْأَعْصَابِ
وَمِنْهَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَلِّ بِلَا خِلَافِ لِقَوْلِهِ عليه السلام نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ من الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فيها مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه حتى لو بَقِيَ فيها بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلِ الْحُمُوضَةِ فيها لِأَنَّ من أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَصِيرَ من مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فيه فَكَذَا الْخَمْرُ لَا يَصِيرُ خَلًّا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فيه وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ خمورا ( ( ( خمرا ) ) ) بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ وَيَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَلِيَّةِ فيه هذا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا فأماإذا خَلَّلَهَا
____________________

(5/113)


صَاحِبُهَا بِعِلَاجٍ من خَلٍّ أو مِلْحٍ أو غَيْرِهِمَا فَالتَّخْلِيلُ جَائِزٌ وَالْخَلُّ حَلَالٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ وَإِنْ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ من مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كانت عِنْدَ أبي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خُمُورٌ لِأَيْتَامٍ فَجَاءَ إلَى رسول اللَّهِ وقال ما نَصْنَعُ بها يا رَسُولَ اللَّهِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرِقْهَا فقال أبو طَلْحَةَ أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نَصَّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على النَّهْيِ عن التَّخْلِيلِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّ في الِاشْتِغَالِ بِالتَّخْلِيلِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ في الْفَسَادِ ويتجنس ( ( ( ويتنجس ) ) ) الظَّاهِرُ منه ضَرُورَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ ما إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ فَيَحِلُّ فَحَقَّقَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّخْلِيلَ وَأَثْبَتَ حِلَّ الْخَلِّ شَرْعًا وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا اسْتِدْلَالًا بِمَا إذَا أَمْسَكَهَا حتى تَخَلَّلَتْ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ أَنَّ بهذا الصُّنْعِ صَارَ الْمَائِعُ حَامِضًا بِحَيْثُ لَا يَبِينُ في الذَّوْقِ أَثَرُ الْمَرَارَةِ فَلَا يَخْلُو أما إنْ كان ذلك لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ مع بَقَائِهَا في ذَاتِهَا وأما إنْ كان لِتَغَيُّرِ الْخَمْرِ من الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لأنها لَا حُمُوضَةَ في الْمِلْحِ لِتَغَلُّبِ الْمَرَارَةِ وَكَذَا بِإِلْقَاءِ حُلْوٍ قَلِيلٍ يَصِيرُ حَامِضًا في مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ لَا تَتَخَلَّلُ بِنَفْسِهَا عَادَةً وَالْقَلِيلُ لَا يَغْلِبُ الْكَثِيرَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ بِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَادَةَ على أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْخَلِّ يُغَيِّرُهَا من الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ في مِثْلِ هذا الزَّمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اكْتِسَابَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَكُلُّ ذلك مَشْرُوعٌ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قال أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نعم فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ على أَنَّهُ يُحْمَلُ على النَّهْيِ عن التَّخْلِيلِ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ وهو دَفْعُ عَادَةِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَكَانَتْ بُيُوتُهُمْ لَا تَخْلُو عن خَمْرٍ وفي الْبَيْتِ غِلْمَانٌ وجواري ( ( ( وجوار ) ) ) وَصِبْيَانٌ وَكَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَصَارَ عَادَةً لهم وَطَبِيعَةً وَالنُّزُوعُ عن الْعَادَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ فَقَيِّمُ الْبَيْتِ إنْ كان يَنْزَجِرُ عن ذلك دِيَانَةً فَقَلَّ ما يَسْلَمُ الْأَتْبَاعُ عنها لو أَمَرَ بِالتَّخْلِيلِ إذْ لَا يَتَخَلَّلُ من سَاعَتِهَا بَلْ بَعْدَ وَقْتٍ مُعْتَبَرٍ فَيُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وقد انْعَدَمَ ذلك الْمَعْنَى في زَمَانِنَا لِيُقَرَّرَ التَّحْرِيمُ وَيَأْلَفَ الطَّبْعُ تَحْرِيمَهَا حَمَلْنَاهُ على هذا دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عن الدَّلِيلِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ ليس فِيمَا قُلْنَاهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ في الْفَسَادِ
وَقَوْلُهُ تَنْجِيسُ الظَّاهِرِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ نعم لَكِنْ لِحَاجَةٍ وَإِنَّهُ لَجَائِزٌ كَدَبْغِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ لَا فَرْقَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بين ما إذَا أَلْقَى فيها شيئا قَلِيلًا من الْمِلْحِ أو السَّمَكِ أو الْخَلِّ أو كَثِيرًا حتى تَحِلَّ في الْحَالَيْنِ جميعا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان الْخَلُّ كَثِيرًا لَا يَحِلُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُلْقَى من الْخَلِّ إذَا كان قَلِيلًا فَهَذَا تَخْلِيلٌ لِظُهُورِ الْحُمُوضَةِ فيها بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ فَأَمَّا إذَا كان كَثِيرًا فَهَذَا ليس بِتَخْلِيلٍ بَلْ هو تَغْلِيبٌ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ فَصَارَ كما لو أَلْقَى فيها كَثِيرًا من الْحَلَاوَاتِ حتى صَارَ حُلْوًا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَلْ يَتَنَجَّسُ الْكُلُّ فَكَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ كُلَّ ذلك تَخْلِيلٌ أَمَّا إذَا كان قَلِيلًا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا كان كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالسَّمَكِ لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِانْعِدَامِ الْحُمُوضَةِ فِيهِمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ وفي الْكَثِيرِ يَكُونُ أَسْرَعَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّكَرُ وَالْفَضِيخُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الْخَمْرُ من هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَأَشَارَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ وَاَلَّتِي هَهُنَا هو الْمُسْتَحِقُّ لِاسْمِ الْخَمْرِ فَكَانَ حَرَامًا
وَسُئِلَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه عن التَّدَاوِي بِالسَّكَرِ فقال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال السَّكَرُ هِيَ الْخَمْرُ ليس لها كُنْيَةٌ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عن نَقِيعِ الزَّبِيبِ قال الْخَمْرُ أَحْيَتْهَا
أَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ أَنَّ إيقَاعَ الزَّبِيبِ في الْمَاءِ إحْيَاءٌ لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ إذَا نُقِعَ في الْمَاءِ يَعُودُ عِنَبًا فَكَانَ نَقِيعُهُ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ وَلِأَنَّ هذا لَا يُتَّخَذُ إلَّا لِلسُّكْرِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قال { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ منه سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَذْكِيرِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ على
____________________

(5/114)


شُكْرِهَا فَيَدُلُّ على حِلِّهَا فَالْجَوَابُ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بها
وَالثَّانِي إنْ لم تَكُنْ مَنْسُوخَةً فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذلك خَرَجَ مَخْرَجَ التَّغْيِيرِ أَيْ إنَّكُمْ تَجْعَلُونَ ما أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى من ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ التي هِيَ حَلَالٌ بَعْضَهَا حَرَامًا وهو الشَّرَابُ وَالْبَعْضَ حَلَالًا وهو الدِّبْسُ وَالزَّبِيبُ وَالْخَلُّ وَنَحْوُ ذلك
نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ من رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ منه حَرَامًا وَحَلَالًا } وَعَلَى هذا كانت الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ على الْحَرَامِ لَا على الْحَلَالِ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَلَكِنْ يُضَلَّلُ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ منها لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ من الْخَمْرِ ولم يُوجَدْ بِالسُّكْرِ لِأَنَّ حُرْمَةَ السُّكْرِ من كل شَرَابٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وهو نَصُّ الكتابة ( ( ( الكتاب ) ) ) الْعَزِيزِ قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِالسُّكْرِ من كل شَرَابٍ فَكَانَتْ حرم ( ( ( حرمة ) ) ) السُّكْرِ من كل شَرَابٍ ثَابِتَةً بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيز كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا جَمَعَ رسول اللَّهِ بَيْن الْحُرْمَتَيْنِ في قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ من كل شَرَابٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما أَرَادَ بِهِ أَصْلَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ ذلك لَا يَقِفُ على السُّكْرِ في كل شَرَابٍ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ منه الْحُرْمَةُ الْكَامِلَةُ التي لَا شُبْهَةَ فيها كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَكَذَا جَمَعَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه بَيْنَهُمَا في الْحَدِّ فقال فِيمَا أَسْكَرَ من النَّبِيذِ ثَمَانُونَ وفي الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ثَمَانُونَ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ مع الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن مَحَلَّ الْبَيْعِ هو الْمَالُ وَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ولم يُوجَدْ فَلَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْخَمْرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أن الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فيه بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فيه قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وما كَانُوا مُهْتَدِينَ } وقد وُجِدَ هَهُنَا لِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ مَرْغُوبٌ فيها وَالْمَالُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فيه إلَّا الْخَمْرَ مع كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فيها لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا وَالنَّصُّ وَرَدَ بِاسْمِ الْخَمْرِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ
وَمِنْهَا حُكْمُ نَجَاسَتِهَا فَقَدْ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أنها لو أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا كَالْخَمْرِ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ وَرُوِيَ أنها لَا تَمْنَعُ أَصْلًا لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ إنَّمَا تثبت ( ( ( ثبتت ) ) ) بِالشَّرْعِ بِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ } فَيَخْتَصُّ بِاسْمِ الْخَمْرِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فيها الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ كما في النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كانت مُحَرَّمَةَ الِانْتِفَاعِ لَكِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حتى لَا يُكَفَّرَ مُسْتَحِلُّهَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ منها فَأَوْجَبَ ذلك خِفَّةً في نَجَاسَتِهَا هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ النِّيءِ من عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَطْبُوخِ
منها أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وهو الْبَاذَقُ أو ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وهو الْمُنَصَّفُ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ وهو قَوْلُ حَمَّادِ بن أبي سُلَيْمَانَ وَيَصِحُّ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ من الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ فَالْحَرَامُ فيه بَانَ وهو ما زَادَ على الثُّلُثِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الزَّائِدَ على الثُّلُثِ حَرَامٌ ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بن يَاسِرٍ رضي اللَّهُ عنه إنِّي أُتِيت بِشَرَابٍ من الشَّامِ طُبِخَ حتى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ فَمُرْ من قِبَلَك فَلْيَتَوَسَّعُوا من أَشْرِبَتِهِمْ نَصَّ على أَنَّ الزَّائِدَ على الثُّلُثِ حَرَامٌ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ ما لم يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَالْقُوَّةُ الْمُسْكِرَةُ فيه قَائِمَةٌ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا منهم وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ ما لم يَسْكَرْ وإذا شكر ( ( ( سكر ) ) ) حُدَّ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ لِمَا مَرَّ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عن أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ على ما ذَكَرْنَا
هذا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ فَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كما هو فَقَدْ حَكَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حتى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ
____________________

(5/115)


وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حتى لو طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ
وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ من نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُمَا فَيَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا السُّكْرُ منه وهو طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ وفي رِوَايَةٍ قال لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ لَا أَشْرَبُ منه وَالْحُجَجُ تُذْكَرُ في الثلث ( ( ( المثلث ) ) ) فَأَبُو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمُنَصَّفِ من عَصِيرِ الْعِنَبِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ طَبْخَ الْعَصِيرِ على هذا الْحَدِّ وهو أَنْ يَذْهَبَ أَقَلُّ من ثُلُثَيْهِ لَا أَثَرَ له في الْعَصْرِ لِأَنَّ بَعْدَ الطَّبْخِ بَقِيَتْ فيه قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تُرِكَ يَغْلِي وَيَشْتَدُّ من غَيْرِ أَنْ يُخْلَطَ بِغَيْرِهِ كما كان قبل الطَّبْخِ لم يُعْمَلْ فيه هذا النَّوْعُ من الطَّبْخِ فَبَقِيَ على حَالِهِ بِخِلَافِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ لِأَنَّهُ ليس فيه قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تُرِكَ على حَالِهِ وَلَا يُخْلَطُ بِهِ الْمَاءُ لم يَحْتَمِلْ الْغَلَيَانَ أَصْلًا كَعَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا طبح ( ( ( طبخ ) ) ) حتى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَالْمَاءُ يَغْلِي وَيُسْكِرُ إذَا خُلِطَ فيه الْمَاءُ وإذا لم يَكُنْ مُسْكِرًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ بِالطَّبْخِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ على ما ذَكَرْنَا وَإِلَى هذا أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه فِيمَا رَوَيْنَا عنه من قَوْلِهِ يَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ يَعْنِي إذَا كان يَغْلِي بِنَفْسِهِ من غَيْرِ صَبِّ الْمَاءِ عليه فَقَدْ بَقِيَ سُلْطَانُهُ وإذا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَغْلِي بِنَفْسِهِ بِأَنْ طُبِخَ حتى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ سُلْطَانُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ الْمَدْقُوقُ في الْمَاءِ ثُمَّ طُبِخَ نَقِيعُهُ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَأَمَّا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ كما هو وَصُفِّيَ مَاؤُهُ ثُمَّ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حتى يَذْهَبَ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ وَوَجْهُهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ إنْقَاعَ الزَّبِيبِ إحْيَاءٌ لِلْعِنَبِ فَلَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُهُ إلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في ذلك أَدْنَى طَبْخَةٍ لِأَنَّهُ زَبِيبٌ انْتَفَخَ بِالْمَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُثَلَّثُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ ما دَامَ حُلْوًا لَا يُسْكِرُ يَحِلُّ شُرْبُهُ
وَأَمَّا الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي على الطَّاعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما
وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ كَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَمَالِي وقال لو أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ وَقُعُودُهُ لِذَلِكَ وَالْمَشْيُ إلَيْهِ حَرَامٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ما رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال كُلُّ مُسْكِرٍ من عَصِيرِ الْعِنَبِ إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِكَوْنِهِ مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ وَمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ يُوجَدُ في سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وأبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما احْتَجَّا بِحَدِيثِ رسول اللَّهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَمَّا الْحَدِيثُ فما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِ الْآثَارِ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أتى بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ لِشِدَّتِهِ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عليه وَشَرِبَ منه
وَأَمَّا الْآثَارُ فَمِنْهَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَشْرَبُ النَّبِيذَ الشَّدِيدَ وَيَقُولُ إنَّا لتنحر ( ( ( لننحر ) ) ) الْجَزُورَ وأن الْعِتْقَ منها لِآلِ عُمَرَ وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا النَّبِيذُ الشَّدِيدُ
وَمِنْهَا ما رَوَيْنَا عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بن يَاسِرٍ رضي اللَّهُ عنهما أني أُتِيتُ بِشَرَابٍ من الشَّامِ طُبِخَ حتى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ فَمُرْ من قِبَلَكَ فَلْيَتَوَسَّعُوا من أَشْرِبَتِهِمْ نَصَّ على الْحِلِّ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى وهو زَوَالُ الشِّدَّةِ الْمُسْكِرَةِ بِقَوْلِهِ وَيَذْهَبُ رِيحُ جُنُونِهِ وَنَدَبَ إلَى الشُّرْبِ بِقَوْلِهِ فَلْيَتَوَسَّعُوا من أَشْرِبَتِهِمْ
وَمِنْهَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ تعالى عنه أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا فَسَقَاهُمْ فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ فَحَدَّهُ فقال الرَّجُلُ تَسْقِينِي ثُمَّ تَحِدُّنِي فقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا أَحِدُّكَ لِلسُّكْرِ وروى هذا الْمَذْهَبُ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تعالى عنهما أَنَّهُ قال حين سُئِلَ عن النَّبِيذِ اشْرَبْ الْوَاحِدَ والإثنين وَالثَّلَاثَةَ فإذا خِفْت السُّكْرَ فَدَعْ
وإذا ثَبَتَ الْإِحْلَالُ من هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيقِهِمْ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلِهَذَا عَدَّ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إحْلَالَ الْمُثَلَّثِ من شَرَائِطِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فقال في
____________________

(5/116)


بَيَانِهَا أَنْ يُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ وَيُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ وَأَنْ يَرَى الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ وَأَنْ لَا يَحْرُمَ نَبِيذَ الْخَمْرِ لِمَا أَنَّ في الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ تَفْسِيقَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَالْكَفُّ عن تَفْسِيقِهِمْ وَالْإِمْسَاكُ عن الطَّعْنِ فِيهِمْ من شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ
وَأَمَّا ما وَرَدَ من الْأَخْبَارِ فَفِيهَا طَعْنٌ ثُمَّ بها تَأْوِيلٌ ثُمَّ قَوْلٌ بِمُوجَبِهَا أَمَّا الطَّعْنُ فإن يحيى بن مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قد رَدَّهَا وقال لَا تَصِحُّ عن النبي عليه السلام وهو من نَقَلَةِ الْأَحَادِيثِ فَطَعْنُهُ يُوجِبُ جَرْحًا في الْحَدِيثَيْنِ
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ أنها مَحْمُولَةٌ على الشُّرْبِ لِلتَّلَهِّي تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْكِرَ عِنْدَنَا حَرَامٌ وهو القدم ( ( ( القدح ) ) ) الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ ما يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْكَارُ وأنه يَحْصُلُ بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ وهو حَرَامٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْأَحَادِيثِ أن ثَبَتَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ هذه الْأَشْرِبَةَ خَمْرٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فيها وهو صِفَةُ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ قُلْنَا اسْمُ الْخَمْرِ لِلنِّيءِ من مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا حَقِيقَةٌ وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازٌ لِأَنَّ مَعْنَى الاسكار وَالْمُخَامَرَةِ فيه كَامِلٌ وفي غَيْرِهِ من الْأَشْرِبَةِ نَاقِصٌ فَكَانَ حَقِيقَةً له مَجَازًا لِغَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لو كان حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَرَكًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إسما عَامًّا لا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ شَرْطَ الِاشْتِرَاكِ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى فَالِاسْمُ المسترك ( ( ( المشترك ) ) ) ما يَقَعُ على مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ كَاسْمِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا وَهَهُنَا ما اخْتَلَفَ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ من شَرْطِ الْعُمُومِ أَنْ تَكُونَ أَفْرَادُ الْعُمُومِ مُتَسَاوِيَةً في قَبُولِ الْمَعْنَى الذي وُضِعَ له اللَّفْظُ لَا مُتَفَاوِتَةً ولم يُوجَدْ التَّسَاوِي هَهُنَا وإذا لم يَكُنْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْجُمْهُورِيُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ لِأَنَّهُ مُثَلَّثٌ يَرِقُّ بِصَبِّ الْمَاءِ عليه ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِئَلَّا يَفْسُدَ
وَأَمَّا الْخَلِيطَانِ فَحُكْمُهُمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ما هو حُكْمُهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ من النِّيءِ عنهما وَالْمَطْبُوخِ وقد ذَكَرْنَاهُ وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن شُرْبِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جميعا وَالزَّهْوِ وَالرُّطَبِ جميعا وهو مَحْمُولٌ على النِّيءِ وَالسُّكْرِ منه وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام نهى عن نَبِيذِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جميعا وَلَوْ طُبِخَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ صُبَّ قَدَحٌ من النِّيءِ فيه أَفْسَدَهُ سَوَاءٌ كان من جِنْسِهِ أو خِلَافِ جِنْسِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَغْلِبُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَلَوْ خُلِطَ الْعَصِيرُ بِالْمَاءِ فَإِنْ تُرِكَ حتى اشْتَدَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَإِنْ طُبِخَ حتى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَفِيهِ نَظَرٌ إنْ كان الْمَاءُ هو الذي يَذْهَبُ أَوَّلًا بِالطَّبْخِ يُطْبَخُ حتى يَذْهَبَ قَدْرُ الْمَاءِ ثُمَّ يُطْبَخُ الْعَصِيرُ حتى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحِلُّ وَإِنْ كان الْمَاءُ وَالْعَصِيرُ يَذْهَبَانِ مَعًا بِالطَّبْخِ حتى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ فَلَا يَحِلُّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعُ وما يُتَّخَذُ من السُّكَّرِ وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذلك فَيَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا مَطْبُوخًا كان أو نيأ ( ( ( نيئا ) ) ) وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَإِنْ سَكِرَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَرَامٌ بِنَاءً على أَصْلِهِ وهو أَنَّ ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ كَالْمُثَلَّثِ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما كان من هذه الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَمَا يَبْلُغُ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ ثُمَّ رَجَعَ أبو يُوسُفَ عن ذلك إلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ إن بَقَاءَهُ وَعَدَمَ فَسَادِهِ بَعْدَ هذه الْمُدَّةِ دَلِيلُ شِدَّتِهِ وَشِدَّتَهُ دَلِيلُ حُرْمَتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَمْرِيَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشِدَّةٍ وَالشِّدَّةُ لَا تُوجَدُ في هذه الْأَشْرِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَالدَّلِيلُ على انْعِدَامِ الْخَمْرِيَّةِ أَيْضًا ما رَوَيْنَا عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الْخَمْرُ من هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ ذَكَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَمْرَ بلام الْجِنْسِ فَاقْتَضَى اقْتِصَارَ الْخَمْرِيَّةِ على ما يُتَّخَذُ من الشَّجَرَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ سَكِرَ منه لِأَنَّهُ سُكْرٌ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُبَاحٍ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالسُّكْرِ الْحَاصِلِ من تَنَاوُلِ الْبَنْجِ وَالْخُبْزِ في بَعْضِ الْبِلَادِ بِخِلَافِ ما إذَا سَكِرَ بِشُرْبِ الْمُثَلَّثِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ السُّكْرَ هُنَاكَ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ المخظور ( ( ( المحظور ) ) ) وهو الْقَدَحُ الْأَخِيرُ
وَأَمَّا ظُرُوفُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَيُبَاحُ الشُّرْبُ منها إذَا غُسِلَتْ إلَّا الْخَزَفَ الْجَدِيدَ الذي يُتَشَرَّبُ فيها على الِاخْتِلَافِ الذي عُرِفَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عن الشُّرْبِ في الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ أَلَا فَاشْرَبُوا في كل ظَرْفٍ فإن الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ شيئا وَلَا تُحَرِّمُهُ
وَأَمَّا بَيَانُ حَدِّ السُّكْرِ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في حَدِّهِ قال
____________________

(5/117)


أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه السَّكْرَانُ الذي يُحَدُّ هو الذي لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الْأَرْضَ من السَّمَاءِ وَالرَّجُلَ من الْمَرْأَةِ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ السَّكْرَانُ هو الذي يَغْلِبُ على كَلَامِهِ الْهَذَيَانُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِ { قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَيُسْتَقْرَأُ فَإِنْ لم يَقْدِرْ على قِرَاءَتِهَا فَهُوَ سَكْرَانٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فدعى ( ( ( فدعا ) ) ) سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا وَسَيِّدَنَا سَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وكان قبل تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَحَضَرَتْهُمْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فأفهم ( ( ( فأمهم ) ) ) وَاحِدٌ منهم فَقَرَأَ { قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } على طَرْحِ لَا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ } وَهَذَا الِامْتِحَانُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ من السُّكَارَى من لم يَتَعَلَّمْ هذه السُّورَةَ من الْقُرْآنِ أَصْلًا وَمَنْ تَعَلَّمَ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عليه قِرَاءَتُهَا في حَالَةِ الصَّحْوِ خُصُوصًا من لَا اعْتِنَاءَ له بِأَمْرِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ في حَالَةِ السُّكْرِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا شَرِبَ حتى ظَهَرَ أَثَرُهُ في مَشْيِهِ وَأَطْرَافِهِ وَحَرَكَاتِهِ فَهُوَ سَكْرَانُ وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هذا أَمْرٌ لَا ثَبَاتَ له لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الناس منهم من يَظْهَرُ ذلك منه بِأَدْنَى شَيْءٍ وَمِنْهُمْ من لَا يَظْهَرُ فيه وَإِنْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ غَايَتَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا شَهَادَةُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإن السَّكْرَانَ في مُتَعَارَفِ الناس اسْمٌ لِمَنْ هَذَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه بِقَوْلِهِ إذَا سَكِرَ هذي وإذا هذي افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وأبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يُسَلِّمُ ذلك في الْجُمْلَةِ فيقول أَصْلُ السُّكْرِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ في بَابِ الْحُدُودِ ما هو الْغَايَةُ في الْبَابِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ ادرؤا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَلَا يُعْرَفُ بُلُوغُ السُّكْرِ غَايَتَهُ إلَّا بِمَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ وقد يُسَمَّى كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وقد يُسَمَّى كِتَابَ الْكَرَاهَةِ وَالْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ مَعْنَى اسْمِ الْكِتَابِ وفي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فيه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِحْسَانُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الشَّيْءِ على صِفَةِ الْحَسَنِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ الْمُسْتَحْسَنِ وهو رُؤْيَةُ الشَّيْءِ حَسَنًا يُقَالُ اسْتَحْسَنْت كَذَا أَيْ رَأَيْته حَسَنًا فَاحْتَمَلَ تَخْصِيصُ هذا الْكِتَابِ بِالتَّسْمِيَةِ بِالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِصَاصِ عَامَّةِ ما أُورِدَ فيه من الْأَحْكَامِ بِحَسَنٍ ليس في غَيْرِهَا وَلِكَوْنِهَا على وَجْهٍ يَسْتَحْسِنُهَا الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ
وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَسْمِيَةٌ طَابَقَتْ مَعْنَاهَا وافقت ( ( ( ووافقت ) ) ) مُقْتَضَاهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِبَيَانِ جُمْلَةٍ من الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَكَذَا التَّسْمِيَةُ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فيه بَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُلُّ مُحَرَّمٍ مَكْرُوهٌ في الشَّرْعِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئا وهو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئا وهو شَرٌّ لَكُمْ } وَالشَّرْعُ لَا يُحِبُّ الْحَرَامَ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّ ما تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ من نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أو غَيْرِ ذلك فَعَادَةُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُسَمِّيه حَرَامًا على الْإِطْلَاقِ وما تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِ ذلك يُسَمِّيه مَكْرُوهًا وَرُبَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فيقول حَرَامٌ مَكْرُوهٌ اشعارا منه إن حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فيه فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ الْمُحَرَّمَاتُ الْمَجْمُوعَةُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ في حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جميعا وَنَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ في حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ
أَمَّا الذي ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ في حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جميعا فَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ في مَوَاضِعِهِ في الْكُتُبِ فَلَا نُعِيدُهُ وَنَذْكُرُ ما لَا ذِكْرَ له في الْكُتُبِ وَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وهو حُرْمَةُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَالْكَلَامُ فيها في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في بَيَانِ ما يَحِلُّ من ذلك وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ من الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ من الرَّجُلِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ من الرَّجُلِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ من الْمَرْأَةِ
وأما الْأَوَّلُ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ النِّسَاءِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ النِّسَاءُ في هذا الْبَابِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
____________________

(5/118)


وهو الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ لِلنِّكَاحِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ وَهُنَّ الْمَحَارِمُ من جِهَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ وَنَوْعُ مِنْهُنَّ من لَا رَحِمَ لَهُنَّ أَصْلًا وَلَا مَحْرَمَ وَهُنَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ وهو الرَّحِمُ الذي لَا يُحَرِّمُ النِّكَاحَ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وهو ( ( ( وهن ) ) ) الْمَنْكُوحَاتُ فَيَحِلُّ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَسُّهَا من رَأْسِهَا إلَى قَدَمِهَا لِأَنَّهُ يَحِلُّ له وَطْؤُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وإنه فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ فَكَانَ إحْلَالًا لَهُمَا من طَرِيقِ الْأُولَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا في حَالَةِ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } فَصَارَتْ حَالَةُ الْحَيْضِ مَخْصُوصَةً عن عُمُومِ النَّصِّ الذي تَلَوْنَا وَهَلْ يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بها فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما لَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ ما سِوَى ذلك
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِمَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ قال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منه ما فَوْقَ السُّرَّةِ فَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ سُرَّتِهَا وَلَا يُبَاحُ بِمَا تَحْتَهَا إلَى الرُّكْبَةِ وقال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منه مع الْإِزَارِ فَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا تَحْتَ سُرَّتِهَا سِوَى الْفَرْجِ لَكِنْ مع الْمِئْزَرِ لَا مَكْشُوفًا وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِ قَوْلِهِمَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ ما فَوْقَ السُّرَّةِ وما تَحْتَهَا سِوَى الْفَرْجِ مع الْمِئْزَرِ إذْ كُلُّ ذلك فَوْقَ الْإِزَارِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى } جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى فَتَخْتَصُّ الْحُرْمَةُ بِمَوْضِعِ الْأَذَى
وقد روى أَنَّ سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها سُئِلَتْ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ من امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ
فقالت يَتَّقِي شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ ما سِوَى ذلك
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لنا ما تَحْتَ السُّرَّةِ وَلَهُ ما فَوْقَهَا
وَرُوِيَ أَنَّ أَزْوَاجَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُنَّ إذَا حِضْنَ أَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَّزِرْنَ ثُمَّ يُضَاجِعُهُنَّ
وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بها بِمَا يَقْرُبُ من الْفَرْجِ سَبَبُ الْوُقُوعِ في الْحَرَامِ
قال رسول اللَّهِ أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه وفي رِوَايَةٍ من رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه
وَالْمُسْتَمْتِعُ بِالْفَخِذِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى وَيَرْتَعُ حَوْلَهُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه دَلَّ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ سَبَبُ الْوُقُوعِ في الْحَرَامِ وَسَبَبُ الْحَرَامِ حَرَامٌ أَصْلُهُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَحُجَّةٌ عليه لِأَنَّ ما حَوْلَ الْفَرْجِ لَا يَخْلُو عن الْأَذَى عَادَةً فَكَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ اسْتِعْمَالَ الْأَذَى
وَقَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها له ما سِوَى ذلك أَيْ مع الأزار فَحُمِلَ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَحِلُّ لها النَّظَرُ إلَى زَوْجِهَا وَاللَّمْسِ من فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ لها ما هو أَكْثَرُ من ذلك وهو التَّمْكِينُ من الْوَطْءِ فَهَذَا أَوْلَى وَيَحِلُّ النطر ( ( ( النظر ) ) ) إلَى عَيْنِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ حَلَالٌ فَالنَّظَرُ إلَيْهِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْأَدَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عنه من الْجَانِبَيْنِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت قُبِضَ رسول اللَّهِ وما نَظَرْت إلَى ما منه وَلَا نَظَرَ إلَى ما مِنِّي وَلَا يَحِلُّ إتْيَانُ الزَّوْجَةِ في دُبُرهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ نهى عن قُرْبَانِ الْحَائِضِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى وهو كَوْنُ الْمَحِيضِ أَذًى وَالْأَذَى في ذلك الْمَحَلِّ أَفْحَشُ وَأَذَمُّ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عمر ( ( ( علي ) ) ) رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال من أتى حَائِضًا أو امْرَأَةً في دُبُرِهَا أو أتى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فِيمَا يقول فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ نهى عن إتْيَانِ النِّسَاءِ في مَحَاشِّهِنَّ أَيْ أَدْبَارِهِنَّ وَعَلَى ذلك جَاءَتْ الْآثَارُ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أنها سُمِّيَتْ اللُّوطِيَّةَ الصُّغْرَى وَلِأَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ في الدُّنْيَا لَا يَثْبُتُ لِحَقِّ قَضَاءِ الشَّهَوَاتِ خَاصَّةً لِأَنَّ لِقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ خَاصَّةً دَارًا أُخْرَى وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِحَقِّ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَهِيَ حَاجَةُ بَقَاءِ النَّسْلِ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا إلَّا أَنَّهُ رُكِّبَتْ الشَّهَوَاتُ في الْبَشَرِ لِلْبَعْثِ على قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَحَاجَةُ النَّسْلِ لَا تَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ في الْأَدْبَارِ فَلَوْ ثَبَتَ الْحِلُّ لَثَبَتَ لِحَقِّ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ خَاصَّةً وَالدُّنْيَا لم تُخْلَقْ له
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْمَنْكُوحَاتِ فَيَحِلُّ لِلْمَوْلَى النَّظَرُ إلَى سَائِرِ بَدَنِ جَارِيَتِهِ وَمَسُّهَا من رَأْسِهَا إلَى قَدَمِهَا لِأَنَّهُ حِلٌّ له ما هو أَكْثَرُ منه لِقَوْلِهِ عز وجل { أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةَ إلَّا أَنَّ حَالَةَ الْحَيْضِ صَارَتْ
____________________

(5/119)


مَخْصُوصَةً فَلَا يَقْرَبُهَا في حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يَأْتِي في دُبُرِهَا لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وفي الِاسْتِمْتَاعِ بها فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ على الِاخْتِلَافِ
وَكَذَا إذَا مَلَكهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ له أَنْ يَقْرَبَهَا قبل أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ وَلِأَنَّ فيه خَوْفَ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ
وقد قال رسول اللَّهِ من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَكَذَا فيه وَهُمْ ظُهُورُ الْحَبَلِ بها فَيَدَّعِيه وَيَسْتَحِقُّهَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ
وَأَمَّا الدَّوَاعِي من الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ فَلَا يَحِلُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا في الْمَسْبِيَّةِ وقال مَكْحُولٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ في الْأَصْلِ مُطْلِقٌ التَّصَرُّفَ وَلِهَذَا لم تَحْرُمْ الدَّوَاعِي في الْمَسْبِيَّةِ وَلَا على الصَّائِمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ الْقُرْبَانُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ عَرَفْنَاهَا بِالنَّصِّ فَتَقْتَصِرُ الْحُرْمَةُ على مَوْرِدِ النَّصِّ على أَنَّ النَّصَّ إنْ كان مَعْلُولًا بِخَوْفِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ فَهَذَا مَعْنَى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ إلَى الدَّوَاعِي فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهَا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إن حُرْمَةَ الْقُرْبَانِ إنَّمَا تَثْبُتُ خَوْفًا عن تَوَهُّمِ الْعُلُوقِ وَظُهُورِ الْحَبَلِ وَعِنْدَ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الدَّوَاعِي من الْمُسْتَبْرَأَةِ وَنَحْوِهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهَا وَلَا يَتَعَدَّى في الْمَسْبِيَّةِ فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ فيها على مَوْرِدِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالدَّوَاعِي وَسِيلَةٌ إلَى الْقُرْبَانِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ أَصْلُهُ الْخَلْوَةُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْخَلْوَةَ في التَّوَسُّلِ إلَى الْحَرَامِ دُونَ الْمَسِّ فَكَانَ تَحْرِيمُهَا تَحْرِيمًا لِلْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأُولَى كما في تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ من الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَمَنْ اعْتَمَدَ على هذه النُّكْتَةِ مَنَعَ فَضْلَ الْمَسْبِيَّةِ وَزَعَمَ أَنْ لَا نَصَّ فيها عن أَصْحَابِنَا وهو غَيْرُ سَدِيدٍ فإنحل الدَّوَاعِي من الْمَسْبِيَّةِ مَنْصُوصٌ عليه من مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَنْعُ فَكَانَ الصَّحِيحُ هو الْعِلَّةَ الْأُولَى وَحُرْمَةُ الدَّوَاعِي في بَابِ الظِّهَارِ وَالْإِحْرَامُ ثَبَتَ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْحَجِّ وَالظِّهَارِ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ وهو ذَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَيَحِلُّ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ من ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى رَأْسِهَا وَشَعْرِهَا وَأُذُنَيْهَا وَصَدْرِهَا وَعَضُدِهَا وَثَدْيِهَا وَسَاقِهَا وَقَدَمِهَا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ } الْآيَةَ نَهَاهُنَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن إبْدَاءِ الزِّينَةِ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ إبْدَاءَهَا لِلْمَذْكُورِينَ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ منهم ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْحَظْرِ إبَاحَةٌ في الظَّاهِرِ وَالزِّينَةُ نَوْعَانِ ظَاهِرَةٌ وهو الْكُحْلُ في الْعَيْنِ وَالْخَاتَمُ في الْأُصْبُعِ وَالْفَتْخَةُ لِلرَّجُلِ وَبَاطِنَةٌ وهو الْعِصَابَةُ لِلرَّأْسِ وَالْعِقَاصُ لِلشَّعْرِ وَالْقُرْطُ لِلْأُذُنِ وَالْحَمَائِلُ لِلصَّدْرِ وَالدُّمْلُوجُ لِلْعَضُدِ وَالْخَلْخَالُ لِلسَّاقِ وَالْمُرَادُ من الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا لَا نَفْسُهَا لِأَنَّ إبْدَاءَ نَفْسِ الزِّينَةِ ليس بِمَنْهِيٍّ وقد ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزِّينَةَ مُطْلَقَةً فَيَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ جميعا فَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهَا بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ بين الْمَحَارِمِ لِلزِّيَارَةِ وَغَيْرِهَا ثَابِتَةٌ عَادَةً فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ عن الْكَشْفِ إلَّا بِحَرَجٍ وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا وَكُلُّ ما جَازَ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ من غَيْرِ حَائِلٍ جَازَ مَسُّهُ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَحْتَاجُ إلَى إكابها ( ( ( إركابها ) ) ) وَإِنْزَالِهَا في الْمُسَافَرَةِ مَعَهَا وَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ هذه الْمَوَاضِعِ عن الِانْكِشَافِ فَيَتَعَذَّرُ على الْمَحْرَمِ الصِّيَانَةُ عن مَسَّ الْمَكْشُوفِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى هذه الْمَوَاضِعِ وَمَسِّهَا من الْأَجْنَبِيَّاتِ إنَّمَا ثَبَتَ خَوْفًا عن حُصُولِ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْجِمَاعِ وَالنَّظَرُ إلَى هذه الْأَعْضَاءِ وَمَسُّهَا في ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَا يُورِثُ الشَّهْوَةَ لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ لِلشَّهْوَةِ عَادَةً بَلْ لِلشَّفَقَةِ وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيمَا بين الناس بِتَقْبِيلِ أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان إذَا قَدِمَ من الْغَزْوِ قَبَّلَ رَأْسَ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ النَّظَرُ وَالْمَسُّ عن شَهْوَةٍ وَلَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي فَأَمَّا إذَا كان يَشْتَهِي أو كان غَالِبُ ظَنِّهِ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لو نَظَرَ أو مَسَّ اشْتَهَى لم يَجُزْ له النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ في الْحَرَام فَيَكُونُ حَرَامًا وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَافِرَ بها إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثًا فما فَوْقَهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أو ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها وَلِأَنَّ الذي يَحْتَاجُ الْمَحْرَمُ إلَيْهِ في السَّفَرِ مَسَّهَا في الْحَمْلِ وَالْإِنْزَالِ وَيَحِلُّ له مَسُّهَا فَتَحِلُّ الْمُسَافَرَةُ مَعَهَا وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ يَخْلُوَ بها إذَا أَمِنَ على نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الْمَسُّ فَالْخَلْوَةُ أَوْلَى فَإِنْ خَافَ على نَفْسِهِ لم يَفْعَلْ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَخْلُوَنَّ الرَّجُلُ بِمُغَيَّبَةٍ وَإِنَّ قبل ( ( ( قيل ) ) ) حَمُوهَا أَلَا حَمُوهَا الْمَوْتُ وهو مَحْمُولٌ على حَالَةِ الْخَوْفِ أو يَكُونُ نهى نَدْبٍ وَتَنْزِيهٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا وَإِلَى ما بين السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ منها وَمَسُّهَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أَبْصَارِهِمْ }
____________________

(5/120)


الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَخَّصَ النَّظَرَ لِلْمَحَارِمِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ } الْآيَةَ فَبَقِيَ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا مَأْمُورًا بِهِ وإذا لم يَحِلَّ النَّظَرُ فَالْمَسُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ رُخْصَةَ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِلْحَاجَةِ التي ذَكَرْنَاهَا وَلَا حَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَى ما وَرَاءَهَا فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا بِحَقِّ الشَّهْوَةِ وإنه حَرَامٌ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الظِّهَارَ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا وَالظِّهَارُ ليس إلَّا تَشْبِيهُ الْمَنْكُوحَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ في حَقِّ الْحُرْمَةِ وَلَوْ لم يَكُنْ ظَهْرُ الْأُمِّ حَرَامُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ لم يَكُنْ الظِّهَارُ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِ من يَسْتَحِيلُ عليه الْخُلْفُ
هذا إذَا كانت هذه الْأَعْضَاءُ مَكْشُوفَةً فَأَمَّا إذَا كانت مَسْتُورَةً بِالثِّيَابِ وَاحْتَاجَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إلَى أركابها وَإِنْزَالِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ بَطْنَهَا أو ظَهْرَهَا أو فَخِذَهَا من وَرَاءِ الثَّوْبِ إذَا كان يَأْمَنُ على نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا إن مَسَّ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَا يُورِثُ الشَّهْوَةَ عَادَةً خُصُوصًا من وَرَاءِ الثَّوْبِ حتى لو خَافَ الشَّهْوَةَ في الْمَسِّ لَا يَمَسُّهُ وَلِيَجْتَنِبْ ما اسْتَطَاعَ وَكُلُّ ما يَحِلُّ لِلرَّجُلِ من ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ منه من النَّظَرِ وَالْمَسُّ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ ذلك من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها وَكُلُّ ما يَحْرُمُ عليه يَحْرُمُ عليها وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ وهو ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ
وَرُوِيَ أَنَّ أَفْلَحَ بن أبي قيس ( ( ( القعيس ) ) ) رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْخُلَ على سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ تعالى عنها فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عن ذلك فقال عليه السلام لِيَلِجْ عَلَيْك فإنه عَمُّك أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِيهِ
وَأَمَّا النَّوْعُ الْخَامِسُ وهو مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ فَحُكْمُهُنَّ أَيْضًا في حِلِّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَحَرَّمَتْهُمَا حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهُنَّ وَمَسُّهَا وَلَا يَحِلُّ ما سِوَى ذلك
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَّ نَاصِيَةَ أَمَةٍ وَدَعَا لها بِالْبَرَكَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه رَأَى أَمَةً مُتَقَنِّعَةً فَعَلَاهَا بِالدُّرَّةِ وقال أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ فَدَلَّ على حِلِّ النَّظَرِ إلَى رَأْسِهَا وَشَعْرِهَا وَأُذُنِهَا
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ تُعْرَضُ على الْبَيْعِ فَضَرَبَ بيده على صَدْرِهَا وقال اشْتَرُوا وَلَوْ كان حَرَامًا لم يُتَوَهَّمْ منه رضي اللَّهُ عنه أَنْ يَمَسَّهَا وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى النَّظَرِ إلَى هذه الْمَوَاضِعِ وَمَسِّهَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِمَعْرِفَةِ بَشَرَتِهَا من اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ وَنَحْوِ ذلك لِاخْتِلَافِ قِيمَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَطْرَافِهَا فَأُلْحِقَتْ بِذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عن الناس وَلِهَذَا يَحِلُّ بِهِنَّ الْمُسَافَرَةُ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسِّ وَالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالنَّظَرِ إلَى الْأَطْرَافِ وَمَسِّهَا وَهَذَا إذَا أَمِنَ على نَفْسِهِ الشَّهْوَةَ
فَإِنْ لم يَأْمَنْ وَخَافَ على نَفْسِهِ أَنْ يَشْتَهِيَ لو نَظَرَ أو مَسَّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ اشْتَهَى إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَلَا بُدَّ له من النَّظَرِ لِمَا قُلْنَا فَيَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فَصَارَ النَّظَرُ من الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ من الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ وَالْمُتَزَوِّجِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ كان عن شَهْوَةٍ فَكَذَا هذا وَكَذَا لَا بَأْسَ له أَنْ يَمَسَّ وَإِنْ اشْتَهَى إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عِنْد أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلشَّابِّ مَسُّ شَيْءٍ من الْأَمَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى الْعِلْمِ بِبَشَرَتِهَا وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بِاللَّمْسِ فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ وَكَذَا يَحِلُّ لِلْأَمَةِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ من الرِّجْلِ الْأَجْنَبِيِّ ما فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ إلَّا أَنْ تَخَافَ الشَّهْوَةَ فتجنب ( ( ( فتجتنب ) ) ) كَالرَّجُلِ وَكُلُّ جَوَابِ عَرَفْته في الْقِنَّةِ فَهُوَ الْجَوَابُ في الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِمَا
وَأَمَّا النَّوْعُ السَّادِسُ وهو الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ فَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ لِلْأَجْنَبِيِّ من الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ إلَى سَائِرِ بَدَنِهَا إلَّا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِقَوْلِهِ تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أَبْصَارِهِمْ } إلَّا أَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ رُخِّصَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا ما ظَهَرَ منها } وَالْمُرَادُ من الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا وَمَوَاضِعُ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ فَالْكُحْلُ زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَلَا يُمْكِنُهَا ذلك عَادَةً إلَّا بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَيَحِلُّ لها الْكَشْفُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى الْقَدَمَيْنِ أَيْضًا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا ما ظَهَرَ منها } الْقَلْبُ وَالْفَتْخَةُ وَهِيَ خَاتَمُ أُصْبُعِ
____________________

(5/121)


الرَّجُلِ فَدَلَّ على جَوَازِ النَّظَرِ إلَى الْقَدَمَيْنِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نهى عن إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَاسْتَثْنَى ما ظَهَرَ منها وَالْقَدَمَانِ ظَاهِرَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ عِنْدَ الْمَشْيِ فَكَانَا من جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى من الْحَظْرِ فَيُبَاحُ إبْدَاؤُهُمَا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال في قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { إلَّا ما ظَهَرَ منها } أَنَّهُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَرُوِيَ عنه في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قال الْكَفُّ وَالْوَجْهُ فيبقي ما وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى على ظَاهِرِ النَّهْيِ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا في الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَلَا حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْقَدَمَيْنِ فَلَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا ثُمَّ إنَّمَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ منها من غَيْرِ شَهْوَةٍ فَأَمَّا عن شَهْوَةٍ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَلَيْسَ زِنَا الْعَيْنَيْنِ إلَّا النَّظَرَ عن شَهْوَةٍ وَلِأَنَّ النَّظَرَ عن شَهْوَةٍ سَبَبُ الْوُقُوعِ في الْحَرَامِ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا في حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ دعى إلَى شَهَادَةٍ أو كان حَاكِمًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا لِيُجِيزَ إقْرَارَهَا عليها فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كان لو نَظَرَ إلَيْهَا لَاشْتَهَى أو كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذلك لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ قد يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَصَّ النَّظَرَ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ لِمَنْ قَصَدَ إقَامَةَ حِسْبَةِ الشَّهَادَةِ على الزِّنَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ في الْحُرْمَةِ فَوْقَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَمَعَ ذلك سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَهَذَا أَوْلَى وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كان عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ تَقْدِيمِ النَّظَرِ أَدَلُّ على الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ على ما قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً اذْهَبْ فَانْظُرْ إلَيْهَا فإنه أَحْرَى أَنْ يدوم ( ( ( يؤدم ) ) ) بَيْنَكُمَا دَعَاهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّظَرِ مُطْلَقًا وَعَلَّلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ لها النَّظَرُ من الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ ما بين السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ تَنْظُرَ إلَى ما سِوَى ذلك إذَا كانت تَأْمَنُ على نَفْسِهَا
وَالْأَفْضَلُ لِلشَّابِّ غَضُّ الْبَصَرِ عن وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَذَا الشَّابَّةُ لِمَا فيه من خَوْفِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ في الْفِتْنَةِ يُؤَيِّدُهُ الْمَرْوِيُّ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا ما ظَهَرَ منها } أَنَّهُ الرِّدَاءُ وَالثِّيَابُ فَكَانَ غَضُّ الْبَصَرِ وَتَرْكُ النَّظَرِ أَزْكَى وَأَطْهَرَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل { قُلْ لَلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلك أَزْكَى لهم }
وَرُوِيَ أَنَّ أَعْمَيَيْنِ دَخَلَا على رسول اللَّهِ وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها وَأُخْرَى فقال لَهُمَا قُومَا فَقَالَتَا إنَّهُمَا أَعْمَيَانِ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال لَهُمَا أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا إلَّا إذَا لم يَكُونَا من أَهْلِ الشَّهْوَةِ بِأَنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ فِيهِمَا وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ إلَى مَوْلَاتِهِ كَالْحُرِّ الذي لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَوَاءٌ وَكَذَا الْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ وَالْمُخَنَّثُ إذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ سَوَاءُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قُلْ لَلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أَبْصَارِهِمْ } وَإِطْلَاقُ وله عز شَأْنُهُ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا ما ظَهَرَ منها } وَلِأَنَّ الرِّقَّ وَالْخِصَاءَ لَا يُعْدِمَانِ الشَّهْوَةَ وَكَذَا الْعُنَّةُ وَالْخُنُوثَةُ
أَمَّا الرِّقُّ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْخِصَاءُ فإن الْخَصِيَّ رَجُلٌ إلَّا أَنَّهُ مُثِّلَ بِهِ إلَى هذا أَشَارَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها فقالت أنه رَجُلٌ مُثِّلَ بِهِ أَفَتُحِلُّ له الْمُثْلَةُ ما حَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى على غَيْرِهِ
وَأَمَّا الْعُنَّةُ وَالْخُنُوثَةُ فَالْعِنِّينُ وَالْمُخَنَّثُ رَجُلَانِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إن الْمَمْلُوكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِلْمَرْأَةِ مُسْتَثْنَى من قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } إلَى قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { ولا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ولا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يَنْصَرِفُ إلَى الْإِمَاءِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَبِيدِ صَارَ مَعْلُومًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أو التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ من الرِّجَالِ } إذْ الْعَبْدُ من جُمْلَةِ التَّابِعِينَ من الرِّجَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { ولا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } مَصْرُوفًا إلَى الْإِمَاءِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ
فَإِنْ قِيلَ حُكْمُ الْإِمَاءِ صَارَ مَعْلُومًا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو التَّابِعِينَ } فَالصَّرْفُ إلَيْهِنَّ يُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ أَيْضًا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ الْحَرَائِرِ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْرِيفِ حُكْمِ الْإِمَاءِ فَأَبَانَ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } إن حُكْمَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فيه سَوَاءٌ

____________________

(5/122)


وَرُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان يَدْخُلُ على نِسَاءِ رسول اللَّهِ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ من غَيْرِ أولى الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ رسول اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ وهو يَنْعَتُ امْرَأَةً فقال لَا أَرَى هذا يَعْلَمُ ما هَهُنَا لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ فَحَجَبُوهُ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دخل على أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ فَأَقْبَلَ على أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فقال يا عَبْدَ اللَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُك على بِنْتِ غِيلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا أَرَى يَعْرِفُ هذا ما هَهُنَا لَا يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ هذا إذَا بَلَغَ الْأَجْنَبِيُّ مَبْلَغَ الرِّجَالِ فَإِنْ كان صَغِيرًا لم يَظْهَرْ على عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ من غَيْرِ الْعَوْرَةِ فَلَا بَأْسَ لَهُنَّ من إبْدَاءِ الزِّينَةِ لهم لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { أو الطِّفْلِ الَّذِينَ لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } مُسْتَثْنَى من قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } إلَّا لِمَنْ ذُكِرَ وَالطِّفْلُ في اللُّغَةِ الصَّبِيُّ ما بين أَنْ يُولَدَ إلَى أَنْ يَحْتَلِمَ
وَأَمَّا الذي يَعْرِفُ التَّمْيِيزَ بين الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَرُبَ من الْحُلُمِ فَلَا يَنْبَغِي لها أَنْ تُبْدِي زِينَتَهَا له أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هذا الصَّبِيِّ أُمِرَ بِالِاسْتِئْذَانِ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ لم يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } إلَّا إذَا لم يَكُونَا من أَهْلِ الشَّهْوَةِ بِأَنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ فِيهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ أَعْمَيَيْنِ دَخَلَا على سَيِّدِنَا رسول اللَّهِ وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ وَأُخْرَى فقال لَهُمَا قُومَا فَقَالَتَا إنما ( ( ( إنهما ) ) ) أَعْمَيَانِ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا هذا حُكْمُ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
وَأَمَّا حُكْمُ مَسِّ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ فَلَا يَحِلُّ مَسُّهُمَا لِأَنَّ حِلَّ النظرين ( ( ( النظر ) ) ) لِلضَّرُورَةِ التي ذَكَرْنَاهَا وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَسِّ مع ما إن الْمَسَّ في بَعْثِ الشَّهْوَةِ وَتَحْرِيكِهَا فَوْقَ النَّظَرِ وَإِبَاحَةُ أَدْنَى الْفِعْلَيْنِ لَا يَدُلُّ على إبَاحَةِ أَعْلَاهُمَا هذا إذَا كان شَابَّيْنِ فَإِنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ لِخُرُوجِ الْمُصَافَحَةِ مِنْهُمَا من أَنْ تَكُونَ مُورِثَةً لِلشَّهْوَةِ لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ ثُمَّ إنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ من الْأَجْنَبِيَّةِ إلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ أو الْقَدَمَيْنِ أَيْضًا على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كانت مَكْشُوفَةً فَأَمَّا إذَا كانت مَسْتُورَةً بِالثَّوْبِ فَإِنْ كان ثَوْبُهَا صَفِيقًا لَا يَلْتَزِقُ بِبَدَنِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا وَيَتَأَمَّلَ جَسَدَهَا لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الثَّوْبُ وَإِنْ كان ثَوْبُهَا رَقِيقًا يَصِفُ ما تَحْتَهُ وَيَشِفُّ أو كان صَفِيقًا لَكِنَّهُ يَلْتَزِقُ بِبَدَنِهَا حتى يَسْتَبِينَ له جَسَدُهَا فَلَا يَحِلُّ له النَّظَرُ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَبَانَ جَسَدَهَا كانت كَاسِيَةً صُورَةً عَارِيَّةً حَقِيقَة وقد قال النبي لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت دَخَلْت على أُخْتِي السَّيِّدَةُ أَسْمَاءُ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ شَامِيَّةٌ رِقَاقٌ وَهِيَ الْيَوْمَ عِنْدَكُمْ صِفَاقٌ فقال رسول اللَّهِ هذه ثِيَابٌ تَمُجُّهَا سُورَةُ النُّورِ فَأَمَرَ بها فَأُخْرِجَتْ فقلت يا رَسُولَ اللَّهِ زَارَتْنِي أُخْتِي فَقُلْت لها ما قُلْت فقال يا عَائِشَةُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَى منها إلَّا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا فَإِنْ ثَبَتَ هذا من النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ عز وجل { إلَّا ما ظَهَرَ منها } فَدَلَّ على صِحَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُرَّةَ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ منها إلَّا إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ السَّابِعُ وهو ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْحَرَائِرِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَالنَّهْيِ عن إبْدَاءِ زِينَتِهِنَّ إلَّا لِلْمَذْكُورِينَ في مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ وَذُو الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ في المستثني فَبَقِيَتْ مَنْهِيَّةً عن إبْدَاءِ الزِّينَةِ له وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو ما يَحِلُّ من ذلك وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ من الرَّجُلِ لنقول ( ( ( فنقول ) ) ) وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ من الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إلَى سَائِرِ جَسَدِهِ إلَّا ما بين السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ من الرَّجُلِ إلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ لِيَخْتِنَهُ وَيُدَاوِيَهُ بَعْدَ الْخَتْنِ
وَكَذَا إذَا كان بوضع ( ( ( بموضع ) ) ) الْعَوْرَةِ من الرَّجُلِ قُرْحٌ أو جُرْحٌ أو وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُدَاوَاةِ الرَّجُلِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى السُّرَّةِ فَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ وَالسُّرَّةُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ على الْعَكْسِ من ذلك
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال ما تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ وَالرُّكْبَةُ ما تَحْتَهَا فَكَانَتْ عَوْرَةً إلَّا أَنَّ ما تَحْتَ الرُّكْبَةِ صَارَ مَخْصُوصًا فَبَقِيَتْ الرُّكْبَةُ تَحْتَ الْعُمُومِ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ من عَظْمِ السَّاقِ وَالْفَخِذِ على وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ وَالْفَخِذُ من الْعَوْرَةِ وَالسَّاقُ ليس من الْعَوْرَةِ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا بِخِلَافِ السُّرَّةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ
____________________

(5/123)


مَعْلُومٍ لَا اشْتِبَاهَ فيه
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان إذَا اتَّزَرَ أَبْدَى سُرَّتَهُ وَلَوْ كانت عَوْرَةً لَمَا اُحْتُمِلَ منه كَشْفُهَا هذا حُكْمُ النَّظَرِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسِّ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُصَافَحَةَ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام تَصَافَحُوا تَحَابُّوا وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ وَلِأَنَّ الناس يَتَصَافَحُونَ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ في الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فَكَانَتْ سُنَّةً مُتَوَارَثَةً وَاخْتُلِفَ في الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَبِّلَ فَمَ الرَّجُلِ أو يَدَهُ أو شيئا منه أو يُعَانِقَهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ
وَوَجْهُهُ ما رُوِيَ أَنَّهُ لَمَا قَدِمَ جَعْفَرُ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه من الْحَبَشَةِ عَانَقَهُ سَيِّدُنَا رسول اللَّهِ وَقَبَّلَ بين عَيْنَيْهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النبي الْحِلُّ وَكَذَا روي أن أَصْحَابُ رسول اللَّهِ كَانُوا إذَا رَجَعُوا من أَسْفَارِهِمْ كان يُقَبِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُعَانِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ رسول اللَّهِ فَقِيلَ أَيُقَبِّلُ بَعْضُنَا بَعْضًا فقال لَا فَقِيلَ أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا فَقِيلَ أَيُصَافِحُ بَعْضُنَا بَعْضًا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نعم
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعَانَقَةَ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا كانت شَبِيهَةً بِمَا وُضِعَتْ لِلشَّهْوَةِ في حَالَةِ التَّجَرُّدِ فَأَمَّا إذَا قُصِدَ بها الْمَبَرَّةُ وَالْإِكْرَامُ فَلَا تُكْرَهُ وَكَذَا التَّقْبِيلُ الْمَوْضُوعُ لِقَضَاءِ الْوَطَرِ وَالشَّهْوَةِ هو الْمُحَرَّمُ فإذا زَالَ عن تِلْكَ الْحَالَةِ أُبِيحَ وَعَلَى هذا الْوَجْهِ الذي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الذي احْتَجَّ بِهِ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ وهو بَيَانُ ما يَحِلُّ من ذلك وما يَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ من الْمَرْأَةِ فَكُلُّ ما يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ من الرَّجُلِ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ من الْمَرْأَةِ وَكُلُّ ما لَا يَحِلُّ له لَا يَحِلُّ لها فَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ من الْمَرْأَةِ إلَى سَائِرِ جَسَدِهَا إلَّا ما بين السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لِأَنَّهُ ليس في نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ خَوْفُ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ في الْفِتْنَةِ كما ليس ذلك في نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ حتى لو خَافَتْ ذلك تَجْتَنِبُ عن النَّظَرِ كما في الرَّجُلِ وَلَا يَجُوزُ لها أَنْ تَنْظُرَ ما بين سُرَّتِهَا إلَى الرُّكْبَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كانت قَابِلَةً فَلَا بَأْسَ لها أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ في امْرَأَةِ الْعِنِّينِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ على شَرْطِ الْبَكَارَةِ إذَا اخْتَصَمَا
وَكَذَا إذَا كان بها جُرْحٌ أو قُرْحٌ في مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُدَاوِيَهَا إذَا عَلِمَتْ الْمُدَاوَاةَ فَإِنْ لم تَعْلَمْ تعلم ثُمَّ تُدَاوِيهَا فَإِنْ لم تُوجَدْ امْرَأَةٌ تَعْلَمُ الْمُدَاوَاةَ وَلَا امْرَأَةٌ تَتَعَلَّمُ وَخِيفَ عليها الْهَلَاكُ أو بَلَاءٌ أو وَجَعٌ لَا تَحْتَمِلُهُ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ لكان ( ( ( لكن ) ) ) لَا يَكْشِفُ منها إلَّا مَوْضِعَ الْجُرْحِ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ ما اسْتَطَاعَ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ الشَّرْعِيَّةَ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَالَةَ المخمضة ( ( ( المخمصة ) ) ) وَالْإِكْرَاهِ لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِهَا الضَّرُورَةُ وَالْحُكْمُ لَا يَزِيدُ على قَدْرِ الْعِلَّةِ هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ
وَأَمَّا حُكْمُ الدُّخُولِ في بَيْتِ الْغَيْرِ فَالدَّاخِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أو من مَحَارِمِهِ فَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ له الدُّخُولُ فيه من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أَهْلِهَا } قِيلَ تَسْتَأْنِسُوا أَيْ تَسْتَأْذِنُوا وَقِيلَ تُسْتَعْلَمُوا وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ طَلَبُ الْإِذْنِ وَالِاسْتِعْلَامَ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْإِذْنُ إعْلَامٌ وَسَوَاءً كان السَّكَنُ في الْبَيْتِ أو لم يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ لم تَجِدُوا فيها أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ } وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ليس لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كما يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لِأَمْوَالِهِ وَكَمَا يَكْرَهُ إطلاع الْغَيْرِ على نَفْسِهِ يَكْرَهُ إطلاعه على أَمْوَالِهِ وفي بَعْضِ الْأَخْبَارِ إن من دخل بَيْتًا بِغَيْرِ إذْنٍ قال له الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ عَصَيْتَ وَآذَيْتَ فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ الْخَلْقُ كلهم إلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصْعَدُ صَوْتُهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتَقُولُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ أُفٍّ لِفُلَانٍ عَصَى رَبَّهُ وَأَذَى وإذا اسْتَأْذَنَ فَأُذُنَ له حَلَّ له الدُّخُولُ يَدْخُلُ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلَا يُقَدِّمُ التَّسْلِيمَ على الدُّخُولِ كما قال بَعْضُ الناس لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا على أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً من عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وَلِأَنَّهُ لو سَلَّمَ قبل الدُّخُولِ فإذا دخل يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ ثَانِيًا وَإِنْ لم يُؤْذَنْ له بِالدُّخُولِ وَقِيلَ له ارْجِعْ فَلْيَرْجِعْ
وَيُكْرَهُ له أَنْ يَقْعُدَ على الْبَابِ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } وفي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ من لم يُؤْذَنْ له فِيهِنَّ فَلْيَرْجِعْ أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَسْمَعُ الْحَيُّ
وَأَمَّا الثَّانِي فَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
____________________

(5/124)



وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ شاؤا أَذِنُوا وَإِنْ شاؤا رَدُّوا فإذا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ولم يُؤْذَنْ له يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَقْعُدَ على الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ لِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالًا في الْمَنَازِلِ فَلَوْ قَعَدَ على الْبَابِ وَانْتَظَرَ لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَلَ قُلُوبَهُمْ ولعله ( ( ( ولعل ) ) ) لَا تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا له من الْقُعُودِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { هو أَزْكَى لَكُمْ } هذا إذَا كان الدُّخُولُ لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا إذَا كان الدُّخُولُ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِأَنْ سمع في دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ فَلْيَدْخُلْ عليهم بِغَيْرِ إذْنِهِمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ فَلَوْ شُرِطَ الْإِذْنُ لَتَعَذَّرَ التغير ( ( ( التغيير ) ) ) وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ كان من مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْضًا وَإِنْ كان يَجُوزُ له النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِعُمُومِ النَّصِّ الذي تَلَوْنَا وَلَوْ دخل عليها من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَرُبَّمَا كانت مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عليها فَيَكْرَهَانِ ذلك وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وقال أنا أَخْدُمُ أُمِّي وَأُفْرِشُهَا إلي ( ( ( ألا ) ) ) أَسْتَأْذِنُ عليها فقال رسول اللَّهِ نعم فَسَأَلَهُ ثَلَاثًا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسُرُّك أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً فقال لَا قال اسْتَأْذِنْ عليها
وَكَذَا رُوِيَ عن حُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فقال أَسْتَأْذِنُ على أُخْتِي فقال رضي اللَّهُ عنه إنْ لم تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ ما يَسُوءُكَ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ في الِاسْتِئْذَانِ على الْمَحَارِمِ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُطْلَقُ النَّظَرِ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ منها شَرْعًا هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَيَدْخُلُ في بَيْتِ سَيِّدِهِ من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إلَّا في ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ قبل صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعِنْدَ الظُّهْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لم يَبْلُغُوا الْحُلُمَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { ليس عَلَيْكُمْ وَلَا عليهم جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } وَلِأَنَّ هذه أَوْقَاتُ التَّجَرُّدِ وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ في الْعَادَةِ
أَمَّا قبل صَلَاةِ الْفَجْرِ فَوَقْتُ الْخُرُوجِ من ثِيَابِ النَّوْمِ وَوَقْتُ الظَّهِيرَةِ وَقْتُ وَضْعِ الثِّيَابِ لِلْقَيْلُولَةِ
وَأَمَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَوَقْتُ وَضْعِ ثِيَابِ النَّهَارِ لِلنَّوْمِ وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هذه الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْعَوْرَاتِ بَعْدَهَا تَكُونُ مَسْتُورَةً عَادَةً وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ في ذلك سَوَاءٌ سواء كان الْمَمْلُوكُ صَغِيرًا أو كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ كان يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ من غَيْرِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّ هذه أَوْقَاتِ غُرَّةٍ وَسَاعَاتِ غَفْلَةٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ على حَالَةٍ يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ عليها وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فيه الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَيَكُونُ الْخِطَابُ في الصِّغَارِ لِلسَّادَاتِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ كما في الْآبَاءِ مع الْأَبْنَاءِ الصِّغَارِ
وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَإِنْ كان الصَّغِيرُ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ بين الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَيَدْخُلُ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَإِنْ كان من أَهْلِ التَّمْيِيزِ بِأَنْ قَرُبَ من الْبُلُوغِ يَمْنَعُهُ الْأَبُ من الدُّخُولِ في الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ تَأْدِيبًا وَتَعْلِيمًا لِأُمُورِ الدِّينِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا وَضَرَبَهُ عليها إذَا بَلَغَ عَشْرًا وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ في الْمَضَاجِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْبَيْتُ مَسْكُونًا بِأَنْ كان له سَاكِنٌ وَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ التي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ وَالْخَرِبَاتِ التي تقضي فيها حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِقَوْلِهِ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غير مَسْكُونَةٍ فيها مَتَاعٌ لَكُمْ } أَيْ مَنْفَعَةٌ بكم ( ( ( لكم ) ) ) وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ في الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَمَنْفَعَةُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ من الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ في الْخَرِبَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَرُوِيَ في الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ قال سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه يا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْبُيُوتِ التي بين مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ ليس فيها سَاكِنٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عز وجل قَوْلَهُ { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غير مَسْكُونَةٍ فيها مَتَاعٌ لَكُمْ } وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الدُّخُولِ وَأَمَّا حُكْمُ ما بَعْدَ الدُّخُولِ وهو الْخَلْوَةُ فَإِنْ كان في الْبَيْتِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ أو ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بها لِأَنَّ فيه خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَالْوُقُوعَ في الْحَرَامِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فإن ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ وَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَلَا بَأْسَ بِالْخَلْوَةِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال ما خَلَوْت بِامْرَأَةٍ قَطُّ مَخَافَةَ أَنْ أَدْخُلَ في نَهْيِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرَ غَيْرِهَا من بَنِي آدَمَ بِشَعْرِهَا لِقَوْلِهِ عليه السلام لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ وَالِانْتِفَاعُ بِالْجُزْءِ الْمُنْفَصِلِ منه إهَانَةٌ له وَلِهَذَا كُرِهَ بَيْعُهُ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ من شَعْرِ الْبَهِيمَةِ وَصُوفِهَا لِأَنَّهُ
____________________

(5/125)


انْتِفَاعٌ بِطَرِيقِ التَّزَيُّنِ بِمَا يَحْتَمِلُ ذلك وَلِهَذَا احْتَمَلَ الِاسْتِعْمَالُ في سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ فَكَذَا في التَّزَيُّنِ وَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْزِلَ عن أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا
وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فَإِنْ كانت حُرَّةً يُكْرَهُ له الْعَزْلُ من غَيْرِ إذْنِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لها في الْوَلَدِ حَقًّا وفي الْعَزْلِ فَوَّتَ الْوَلَدَ وَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ حَقِّ الْإِنْسَانِ من غَيْرِ رِضَاهُ فإذا رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ كانت أَمَةً فَلَا بُدَّ من الْإِذْنِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّ الْكَلَامَ في أَنَّ الْإِذْنَ بِذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى أَمْ إلَيْهَا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِذْنُ فيه ( ( ( فيها ) ) ) إلَى مَوْلَاهَا وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَيْهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن لها حَقًّا في قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْعَزْلُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فيه وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْإِنْسَانِ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْكَرَاهَةَ في الْحُرَّةِ لِمَكَانِ خَوْفِ فَوْتِ الْوَلَدِ الذي لها فيه حَقٌّ وَالْحَقُّ هَهُنَا في الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْأَمَةِ وَقَوْلُهُمَا فيه نُقْصَانُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَقَّهَا في أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا في وَصْفِ الْكَمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من الرِّجَالِ من لَا مَاءَ له وهو يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ من غَيْرِ إنْزَالٍ وَلَا يَكُونُ لها حَقُّ الْخُصُومَةِ دَلَّ أَنَّ حَقَّهَا في أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا في وَصْفِ الْكَمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ في دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ فُلَانٍ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ على اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ في دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ من عَرْشِك
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِوُرُودِ الحديث وهو ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ كان يقول في دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ من عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ من كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ظَاهِرَ هذا اللَّفْظِ يُوهِمُ التَّشْبِيهَ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ من خَلَائِقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ وَعَلَا فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ عِزَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْقُودًا بِهِ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ الذي هو في حَدِّ الْآحَادِ إذَا كان مُوهِمًا لِلتَّشْبِيهِ فَالْكَفُّ عن الْعَمَلِ بِهِ أَسْلَمُ وَيُكْرَهُ حَمْلُ الْخِرْقَةِ لِمَسْحِ الْعِرْقِ وَالِامْتِخَاطِ تَرَفُّعًا بها وَتَكَبُّرًا لِأَنَّ التَّكَبُّرَ من الْمَخْلُوقِ مَذْمُومٌ وَكَذَا هو تَشْبِيهٌ بِزِيِّ الْعَجَمِ
وقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ فَأَمَّا لحاجة ( ( ( الحاجة ) ) ) فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لو لم يُحْمَلْ لَاحْتَاجَ إلَى الْأَخْذِ بِالْكَمِّ وَالذَّيْلِ وَفِيهِ إفْسَادُ ثَوْبِهِ وَلَا بَأْسَ بِرَبْطِ الْخَيْطِ في الْأُصْبُعِ أو الْخَاتَمِ لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ فيه اسْتِعَانَةً على قَضَاءِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ بِالتَّذْكِيرِ وَدَفْعِ النِّسْيَانِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ في الْخَلَاءِ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَعَظِّمُوا قِبْلَةَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا تَسْتَقْبِلُوهَا وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ
وَأَمَّا الِاسْتِدْبَارُ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُكْرَهُ وفي رِوَايَةٍ لَا يُكْرَهُ لِمَا روي عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ رَأَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ وَلِأَنَّ فَرْجَهُ لَا يُوَازِي الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاسْتِدْبَارِ وَإِنَّمَا يُوَازِي الْأَرْضَ بِخِلَافِ حَالَةِ الِاسْتِقْبَالِ
هذا إذَا كان في الْفَضَاءِ فَإِنْ كان في الْبُيُوتِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عليه الرَّحْمَةُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِقْبَالِ في الْبُيُوتِ
وَاحْتَجَّ بِمَا روي عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما سُئِلَ عن ذلك فقال إنَّمَا ذلك في الْفَضَاءِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث رسول اللَّهِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْفَضَاءِ وَالْبُيُوتِ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ رسول اللَّهِ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلِأَنَّ الْفَارِقَ بين الْفَضَاءِ وَبَيْنَ الْبُيُوتِ إنْ كان وُجُودُ الْحَائِلِ من الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ وُجِدَ الْحَائِلُ في الْفَضَاءِ وهو الْجِبَالُ وَغَيْرُهَا ولم يَمْنَعْ الْكَرَاهَةَ فَكَذَا هذا
وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى مُتَوَضَّأٍ أو مَخْرَجٍ أو حَمَّامٍ لِأَنَّ فيه تَرْكَ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَأَمَّا مَسْجِدُ الْبَيْتِ وهو الْمَوْضِعُ الذي عَيَّنَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ لِلصَّلَاةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ ليس بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ له حُكْمُ الْمَسْجِدِ
وَتُكْرَهُ التَّصَاوِيرُ في الْبُيُوتِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ عن سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ أو صُورَةٌ وَلِأَنَّ إمْسَاكَهَا تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إلَّا إذَا كانت على الْبُسُطِ أو الْوَسَائِدِ الصِّغَارِ التي تُلْقَى على الْأَرْضِ لِيُجْلَسَ عليها تُكْرَهُ لِأَنَّ دَوْسَهَا بِالْأَرْجُلِ إهَانَةٌ لها فَإِمْسَاكُهَا في مَوْضِعِ الْإِهَانَةِ لَا يَكُونُ تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ إلَّا أَنْ يَسْجُدَ عليها فَيُكْرَهُ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ وَيُكْرَهُ على السُّتُورِ وَعَلَى الْأُزُرِ الْمَضْرُوبَةِ على الْحَائِطِ وَعَلَى الْوَسَائِدِ الْكِبَارِ وَعَلَى السَّقْفِ لَمَا فيه من تَعْظِيمِهَا
____________________

(5/126)


وَلَوْ لم يَكُنْ لها رَأْسٌ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ صُورَةً بَلْ تَكُونُ نَقْشًا فَإِنْ قَطَعَ رَأْسَهُ بِأَنْ خَاطَ على عُنُقِهِ خَيْطًا فَذَاكَ ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ عن كَوْنِهَا صُورَةً بَلْ ازْدَادَتْ حِلْيَةً كَالطَّوْقِ لِذَوَاتِ الْأَطْوَاقِ من الطُّيُورِ ثُمَّ الْمَكْرُوهُ صُورَةُ ذِي الرُّوحِ فَأَمَّا صُورَةُ ما لَا رُوحَ له من الْأَشْجَارِ وَالْقَنَادِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ
وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ في الْمُصْحَفِ لِقَوْلِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما جَرِّدُوا مَصَاحِفَكُمْ وَذَلِكَ في تَرْكِ التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ وَلِأَنَّ ذلك يُؤَدِّي إلَى الْخَلَلِ في تَحَفُّظِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يَتَّكِلُ عليه فَلَا يَجْتَهِدُ في التَّحَفُّظَ بَلْ يَتَكَاسَلُ لَكِنْ قِيلَ هذا في بِلَادِهِمْ فَأَمَّا في بِلَادِ الْعَجَمِ فَلَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْعَجَمَ لَا يَقْدِرُونَ على تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ بِدُونِهِ وَلِهَذَا جَرَى التَّعَارُفُ بِهِ في عَامَّةِ الْبِلَادِ من غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ مَسْنُونًا لَا مَكْرُوهًا وَلَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ لِأَنَّ تزين ( ( ( تزيين ) ) ) الْمَسْجِدِ من تَعْظِيمِهِ لَكِنْ مع هذا تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ صَرْفَ الْمَالِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْلَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ رضي اللَّهُ عنهما حين رَأَى مَالًا يُنْقَلُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فقال الْمَسَاكِينُ أَحْوَجُ من الْأَسَاطِينِ وكان لِمَسْجِدِ رسول اللَّهِ جَرِيدُ النَّخْلِ وَهَذَا إذَا نَقَشَ من مَالِ نَفْسِهِ فَأَمَّا من مَالِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَوْ فَعَلَ الْقَيِّمُ من مَالِ الْمَسْجِدِ قِيلَ إنَّهُ يَضْمَنُ وَلَا يَعُقُّ عن الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَقَّ عن سَيِّدِنَا الْحَسَنِ وَسَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ رضي اللَّهُ عنهما كَبْشًا كَبْشًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ دَمٍ كان قَبْلَهَا وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْم كان قَبْلَهُ وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كانت قَبْلَهَا وَالْعَقِيقَةُ كانت قبل الْأُضْحِيَّةِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بها كَالْعَتِيرَةِ وَالْعَقِيقَةِ ما كانت قَبْلَهَا فَرْضًا بَلْ كانت فَضْلًا وَلَيْسَ بَعْدَ نَسْخِ الْفَضْلِ إلَّا الْكَرَاهَةُ بِخِلَافِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَبَعْضِ الصَّدَقَاتِ الْمَنْسُوخَةِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بها بَعْدَ النَّسْخِ لِأَنَّ ذلك كان فَرْضًا وَانْتِسَاخِ الْفَرْضِيَّةِ لَا يُخْرِجُهُ عن كَوْنِهِ قُرْبَةً في نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّايَةَ في عُنُقِ عَبْدِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَيِّدَهُ أَمَّا الرَّايَةُ وَهِيَ الْغُلُّ فَلِأَنَّهُ شَيْءٌ أَحْدَثَتْهُ الْجَبَابِرَةُ
وقد قال رسول اللَّهِ كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ في النَّارِ فَأَمَّا التَّقْيِيدُ فَلَيْسَ بِمُحْدَثِ بَلْ كان يَسْتَعْمِلُهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قَيَّدَ عَبْدًا له يُعَلِّمُهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَبِهِ جَرَتْ الْعَادَةُ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ ضَرْبَ الرَّايَةِ على الْعَبْدِ لِإِبْقَاءِ التَّمَكُّنِ من الِانْتِفَاعِ مع الْأَمْنِ عن الآباق إلَّا أَنْ لَا يَحْصُلُ بِالرَّايَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إذَا رَآهُ يَمْشِي مع الرَّايَةِ يَظُنُّهُ آبِقًا فَيَصْرِفُهُ عن وَجْهِهِ وَيَرُدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ فَلَا يُمْكِنهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فلم يَكُنْ ضَرْبُ الرَّايَةِ عليه مُفِيدًا وَلَا بَأْسَ بالحنقة ( ( ( بالحقنة ) ) ) لِأَنَّهَا من بَابِ التَّدَاوِي وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَدَاوَوْا فإن اللَّهَ تَعَالَى لم يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وقد خَلْقَ له دَوَاءً إلَّا السَّامَ وَالْهَرَمَ وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالْأَرْبَعَةِ عَشْرٍ وَهِيَ لَعِبٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ قِمَارٌ أو لَعِبٌ وَكُلُّ ذلك حَرَامٌ
أَمَّا الْقِمَارُ فَلِقَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ } وهو الْقِمَارُ كَذَا روي عن ابن عَبَّاسٍ وابن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بن جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ كُلُّهُ حتى الْجَوْزُ الذي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ وَعَنْ النبي أَنَّهُ قال ما أَلْهَاكُمْ عن ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ
وَأَمَّا اللَّعِبُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما أنا من دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي
وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَخَّصَ في اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وقال لِأَنَّ فيه تَشْحِيذَ الْخَاطِر وَتَذْكِيَةَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمَ بِتَدَابِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِهِ فَكَانَ من بَابِ الْأَدَبِ فَأَشْبَهَ الرِّمَايَة وَالْفُرُوسِيَّة وَبِهَذَا لَا يَخْرُج عن كَوْنِهِ قِمَارًا وَلَعِبًا وَكُلُّ ذلك حَرَامٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَرِهَ أبو يُوسُفَ التَّسْلِيم على اللَّاعِبِينَ بِالشِّطْرَنْجِ تَحْقِيرًا لهم لِزَجْرِهِمْ عن ذلك ولم يَكْرَهْهُ أبو حَنِيفَة رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ ذلك يَشْغَلهُمْ عَمَّا هُمْ فيه فَكَانَ التَّسْلِيمُ بَعْض ما يَمْنَعهُمْ عن ذلك فَلَا يُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَادَ يَهُودِيًّا فقال له قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ فَنَظَرَ إلَى أبيه فقال له أَبُوهُ أَجِبْ مُحَمَّدًا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فقال رسول اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنْقَذَ بِي نَسَمَةً من النَّارِ وَلِأَنَّ عِيَادَةَ الْجَارِ قَضَاءُ حَقِّ الْجِوَارِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } من غَيْرِ فَصْلٍ مع
____________________

(5/127)


ما في الْعِيَادَةِ من الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ رَجَاءَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا
وَيُكْرَهُ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ على الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ لِكُلِّ بِرٍّ وَخَيْرٍ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هذا الدُّعَاءِ لِلْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ لَا بَأْسَ بِالرَّدِّ عليه مُجَازَاةً له وَلَكِنْ لَا يَزِيدُ على قَوْلِهِ وَعَلَيْك لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يقول السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وعليكم ( ( ( وعليك ) ) ) وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَسَاجِدَ عِنْدَنَا
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ لهم دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عز وجل إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عن النَّجَسِ وَاجِبٌ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عن بَعْضِ الطَّاهِرَاتِ كَالنُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا قال رسول اللَّهِ إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي من النُّخَامَةِ كما تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ من النَّارِ فَعَنْ النَّجَاسَةِ أَوْلَى
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ جلا ( ( ( جل ) ) ) وَعَلَا { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } خَصَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِالنَّهْيِ عن قُرْبَانِهِ فَيَدُلُّ على اخْتِصَاصِ حُرْمَةِ الدُّخُولِ بِهِ لِيَكُونَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا
وَلَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ من وُفُودِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ على رسول اللَّهِ فإنه رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ دخل الْمَسْجِدَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَذَا وَفْدُ ثَقِيفٍ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ
وقال رسول اللَّهِ يوم فَتْحِ مَكَّةَ من دخل الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَسْجِدَ مَأْمَنًا وَدَعَاهُمْ إلَى دُخُولِهِ وما كان عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَدْعُوَ إلَى الْحَرَامِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ نَجَسُ الِاعْتِقَادِ وَالْأَفْعَالِ لَا نَجَسُ الْأَعْيَانِ إذْ لَا نَجَاسَةَ على أَعْيَانِهِمْ حَقِيقَةً وَقَوْلُهُ عز وجل { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } نهى عن دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ لَا عن دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ من فَضْلِهِ إنْ شَاءَ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَوْفَ الْعَيْلَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِهِمْ عن دُخُولِ مَكَّةَ لَا عن دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ إذَا دَخَلُوا مَكَّةَ ولم يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يَتَحَقَّقُ خَوْفُ الْعَيْلَةِ
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه يُنَادِي أَلَا لَا يَحُجُّنَّ بَعْدَ هذا الْعَامِ مُشْرِكٌ فَثَبَتَ أَنَّ هذا نَهْيٌ عن دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِمَا أَنَّ الْمَقْصِدَ من إتْيَانِ مَكَّةَ الْبَيْتُ وَالْبَيْتُ في الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ مسلم ( ( ( ومسلم ) ) ) بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ منه وَلَوْ كان الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ من الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَمْلِكُ ثَمَنَهَا فَبَقِيَ على حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الدَّيْنُ بِهِ وَإِنْ كان الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِكَوْنِهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا في حَقِّهِ فَمَلَكَ ثَمَنَهَا فَصَحَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ منه وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
رَجُلٌ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أو طَعَامٍ وَهُنَاكَ لَعِبٌ أو غِنَاءٌ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ هذا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَنَّ هُنَاكَ ذَاكَ وَإِمَّا إنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَإِنْ كان عَالِمًا به فَإِنْ كان من غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّغْيِيرُ يُجِيبُ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَى مَسْنُونَةٌ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا دعى أحدكم إلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا وَتَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ مَفْرُوضٌ فَكَانَ في الْإِجَابَةِ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ وَإِنْ كان في غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّغْيِيرُ لَا بَأْسَ بِالْإِجَابَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ مَسْنُونَةٌ وَلَا تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِمَعْصِيَةٍ تُوجَدُ من الْغَيْرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ وَشُهُودُ الْمَأْتَمِ وَإِنْ كان هُنَاكَ مَعْصِيَةٌ من النِّيَاحَةِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذلك كَذَا هَهُنَا وَقِيلَ هذا إذَا كان الْمَدْعُوُّ إمَامًا يقتدي بِهِ بِحَيْثُ يُحْتَرَمُ وَيُحْتَشَمُ منه فَإِنْ لم يَكُنْ فَتَرْكُ الْإِجَابَةِ وَالْقُعُودِ عنها أَوْلَى وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا حتى ذَهَبَ فَوَجَدَ هُنَاكَ لَعِبًا أو غِنَاءً فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّغْيِيرُ غَيَّرَ وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ ذَكَرَ في الْكِتَابِ وقال لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه اُبْتُلِيت بهذا مَرَّةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ لَأَجْلِ مَعْصِيَةٍ تُوجَدُ من الْغَيْرِ
هذا إذَا لم يَعْلَمْ بِهِ حتى دخل فَإِنْ عَلِمَهُ قبل الدُّخُولِ يَرْجِعْ وَلَا يَدْخُلُ وَقِيلَ هذا إذَا لم يَكُنْ إمَامًا يقتدي بِهِ فَإِنْ كان لَا يَمْكُثُ بَلْ يَخْرُجُ لِأَنَّ في الْمُكْثِ اسْتِخْفَافًا بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَتَجْرِئَةً لِأَهْلِ الْفِسْقِ على الْفِسْقِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَصَبْرُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَحْمُولٌ على وَقْتٍ لم يَصِرْ فيه مُقْتَدًى بِهِ على الْإِطْلَاقِ وَلَوْ صَارَ لَمَا صَبَرَ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ مُجَرَّدَ الْغِنَاءِ
____________________

(5/128)


مَعْصِيَةٌ
وَكَذَا الِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ وَكَذَا ضَرْبُ الْقَصَبِ وَالِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه سَمَّاهُ ابْتِلَاءً وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ وَالْكَلَامُ في الِاحْتِكَارِ في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدِهِمَا في تَفْسِيرِ الِاحْتِكَارِ وما يَصِيرُ بِهِ الشَّخْصُ مُحْتَكِرًا
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الِاحْتِكَارِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا في مِصْرٍ وَيَمْتَنِعَ عن بَيْعِهِ وَذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَاهُ من مَكَان قَرِيبٍ يَحْمِلُ طَعَامَهُ إلَى الْمِصْرِ وَذَلِكَ الْمِصْرُ صَغِيرٌ وَهَذَا يَضُرُّ بِهِ يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَإِنْ كان مِصْرًا كَبِيرًا لَا يَضُرُّ بِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَلَوْ جَلَبَ إلَى مِصْرٍ طَعَامًا من مَكَان بَعِيدٍ وَحَبَسَهُ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ احْتِكَارًا لِأَنَّ كَرَاهَةَ الِاحْتِكَارِ بِالشِّرَاءِ في الْمِصْرِ وَالِامْتِنَاعَ عن الْبَيْعِ لِمَكَانِ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ وقد وُجِدَ هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه قَوْلُ النبي عليه السلام الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَهَذَا جَالِبٌ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الِاحْتِكَارِ بِحَبْسِ المشتري في الْمِصْرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ فَيَصِيرُ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهِمْ على ما نَذْكُرُ ولم يُوجَدْ ذلك في الْمُشْتَرِي خَارِجَ الْمِصْرِ من مَكَان بَعِيدٍ لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُ ولم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ وَلَكِنْ مع هذا الْأَفْضَلُ له أَنْ لَا يَفْعَلَ وَيَبِيعَ لِأَنَّ في الْحَبْسِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ ما حَصَلَ له من ضَيَاعِهِ بِأَنْ زَرَعَ أَرْضَهُ فَأَمْسَكَ طَعَامَهُ فَلَيْسَ ذلك بِاحْتِكَارٍ لِأَنَّهُ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَهْلِ الْمِصْرِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَيَبِيعَ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ الِاحْتِكَارُ يَجْرِي في كل ما يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قُوتًا كان أو لَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجْرِي الِاحْتِكَارُ إلَّا في قُوتِ الناس وَعَلَفِ الدَّوَابِّ من الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الضَّرَرَ في الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إنَّمَا يَلْحَقُ الْعَامَّةَ بِحَبْسِ الْقُوتِ وَالْعَلَفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاحْتِكَارُ إلَّا بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الْكَرَاهَةَ لِمَكَانِ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْقُوتِ وَالْعَلَفِ
وَأَمَّا حُكْمُ الِاحْتِكَارِ فَنَقُولُ يَتَعَلَّقُ بِالِاحْتِكَارِ أَحْكَامٌ منها الْحُرْمَةُ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ وَالْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَلَا يَلْحَقُ اللَّعْنُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمِ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بريء من اللَّهِ وبريء اللَّهُ منه وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ لَا يُلْحَقُ إلَّا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَلِأَنَّ الِاحْتِكَارَ من بَابِ الظُّلْمِ لِأَنَّ ما بِيعَ في الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ فإذا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عن بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ وَمَنْعُ الْحَقِّ عن الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وإنه حَرَامٌ وَقَلِيلُ مُدَّةِ الْحَبْسِ وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ في حَقِّ الْحُرْمَةِ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ
وَمِنْهَا أَنْ يُؤْمَرَ الْمُحْتَكِرُ بِالْبَيْعِ إزَالَةً لِلظُّلْمِ لَكِنْ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِبَيْعِ ما فَضَلَ عن قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ وَأَصَرَّ على الِاحْتِكَارِ وَرُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مَرَّةً أُخْرَى وهو مُصِرٌّ عليه فإن الْإِمَامَ يَعِظُهُ وَيُهَدِّدُهُ فَإِنْ لم يَفْعَلْ وَرُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً ثَالِثَةً يَحْبِسْهُ وَيُعَزِّرْهُ زَجْرًا له عن سُوءِ صُنْعِهِ وَلَا يُجْبَرُ على الْبَيْعِ
وقال مُحَمَّدٌ يُجْبَرُ عليه وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ على الْحُرِّ لِأَنَّ الْجَبْرَ على الْبَيْعِ في مَعْنَى الْحَجْرِ وَكَذَا لَا يُسَعِّرُ لِقَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَحِلُّ مَالُ امرىء مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ من نَفْسِهِ وَرُوِيَ أَنَّ السِّعْرَ عَلَا في الْمَدِينَةِ وَطَلَبُوا التَّسْعِيرَ من رسول اللَّهِ فلم يُسَعِّرْ وقال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هو الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا خَافَ الْإِمَامُ الْهَلَاكَ على أَهْلِ الْمِصْرِ أَخَذَ الطَّعَامَ من الْمُحْتَكِرِينَ وَفَرَّقَهُ عليهم فإذا وَجَدُوا رَدُّوا عليهم مثله لِأَنَّهُمْ اُضْطُرُّوا إلَيْهِ وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ الْغَيْرِ في مَخْمَصَةٍ كان له أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِالضَّمَانِ لقول ( ( ( لقوله ) ) ) الله { فَمَنْ اُضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غير مُتَجَانِفٍ لَإِثْمٍ فإن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وَكَذَا يُكْرَهُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ إذَا كان يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَلِأَنَّ فيه إضْرَارًا بِالْعَامَّةِ فَيُكْرَهُ كما يُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ وَيُكْرَهُ خَرْقُ الزِّقِّ الذي فيه خَمْرٌ لِمُسْلِمٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ خُرِقَ يَضْمَنُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ وَلَا يَضْمَنُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي من الْبَرْبَطِ وَالْعُودِ وَالزَّمَّارَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ رَجُلٌ ابْتَلَعَ دُرَّةَ رَجُلٍ فَمَاتَ الْمُبْتَلِعُ فَإِنْ تَرَكَ مَالًا كانت قِيمَةُ الدُّرَّةِ في تَرِكَتِهِ وَإِنْ لم يَتْرُكْ مَالًا لَا يَشُقُّ بَطْنَهُ لِأَنَّ الشَّقَّ حَرَامٌ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ من حُرْمَةِ الْمَالِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الدُّرَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ فَإِنْ ظَهَرَ له مَالٌ في الدُّنْيَا قضي منه وَإِلَّا فَهُوَ
____________________

(5/129)


مَأْخُوذٌ بِهِ في الْآخِرَةِ حَامِلٌ مَاتَتْ فَاضْطَرَبَ في بَطْنِهَا وَلَدٌ فَإِنْ كان في أَكْبَرِ الرَّأْيِ أَنَّهُ حَيٌّ يُشَقُّ بَطْنُهَا لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِبَلِيَّتَيْنِ فَنَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا وَشَقُّ بَطْنِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَهْوَنُ من إهْلَاكِ الْوَلَدِ الْحَيِّ رَجُلٌ له وَرَثَةٌ صِغَارٌ فَأَرَادَ أَنْ يُوصِيَ نَظَرَ في ذلك فَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ تَقَعُ الْكِفَايَةُ لهم بِمَا سِوَى ثُلُثِ الْوَصِيَّةِ من الْمَتْرُوكِ فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ أَفْضَلُ لِأَنَّ فيه رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ
وَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ لهم إلَّا بِكُلِّ الْمَتْرُوكِ فَالْمَتْرُوكُ لهم أَفْضَلُ من الْوَصِيَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ فقال يُوصِي الرَّجُلُ من مَالِهِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك من أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس
رَجُلٌ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ أَبَاهُ وَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِقِصَاصٍ أو رِدَّةٍ ولم يَعْلَمْ الِابْنُ من ذلك شيئا وَسِعَ الِابْنُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّهُ عَايَنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ في الْأَصْلِ وهو الْقَتْلُ الْعَمْدُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يُعْفَى أو يفادي وَالْقَاتِلُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ في السِّرِّ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ بِقِصَاصٍ أو بِرِدَّةٍ كان الِابْنُ في سَعَةٍ من قَتْلِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ إقْرَارٌ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ في الْأَصْلِ على ما بَيَّنَّا وَلَوْ لم يُعَايِنْ الْقَتْلَ وَلَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ على مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ أو على الْإِقْرَارِ بِهِ لم يَسَعْهُ قَتْلُهُ حتى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَرْقًا بين الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِمَا فيها من تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ فَلَا تَنْدَفِعُ التُّهْمَةُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي
فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَحُجَّةٌ بِنَفْسِهِ إذْ الْإِنْسَانُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ يَحِلُّ لِمَنْ عَايَنَ الْقَتْلَ أو سمع إقْرَارَهُ بِهِ أَنْ يُعِينَ الْوَلِيَّ على قَتْلِهِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ على اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ظَاهِرًا
وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الِابْنِ اثْنَانِ بِمَا يَدَّعِيه الْقَاتِلُ مِمَّا يَحِلُّ دَمُهُ من الْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ فَإِنْ كَانَا مِمَّنْ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لو شَهِدَا عِنْدَهُ لَا يَنْبَغِي لابن ( ( ( للابن ) ) ) أَنْ يُعَجِّلَ بِالْقَتْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالِامْتِنَاعُ عن الْمُبَاحِ أَوْلَى من ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لو شَهِدَا عِنْدَهُ كَالْمَحْدُودِينَ في الْقَذْفِ وَالنِّسَاءُ وَحْدُهُنَّ كان في سَعَةٍ من قَتْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كانت مِمَّنْ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ كان وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنْ مع هذا إنْ تَوَقَّفَ في ذلك فَهُوَ أَفْضَلُ لِاحْتِمَالِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ في الْجُمْلَةِ أو لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا حَقِيقَةً عِنْدَ اللَّهِ عز وجل
وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ في الْقَذْفِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ في الْقَتْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَاهِدٌ آخَرُ وَلِهَذَا لو شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَتَوَقَّفَ أَيْضًا فَكَانَ الِانْتِظَارُ أَفْضَلَ وَلَوْ لم يَنْتَظِرْ وَاسْتَعْجَلَ في قَتْلِهِ كان في سَعَةٍ منه لِأَنَّ الْمَوْجُودَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الشَّطْرِ الْآخَرِ
وَلَوْ عَايَنَ الْوَارِثُ رَجُلًا أَخَذَ مَالًا من أبيه أو أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا من أبيه وَادَّعَى أَنَّهُ كان وَدِيعَةً له عِنْدَ أبيه أو كان دَيْنًا له عليه اقْتَضَاهُ منه وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ منه لِأَنَّهُ لَمَّا عَايَنَ أَخْذَ الْمَالِ منه فَقَدْ عَايَنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ في الْأَصْلِ وهو الْأَخْذُ لِأَنَّ الْأَخْذَ في الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَأْخُوذِ وهو رَدُّ عَيْنِهِ إنْ كان قَائِمًا وَرَدُّ بَدَلِهِ إنْ كان هَالِكًا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وَدَعْوَى الْإِيدَاعِ وَالدَّيْنِ أَمْرٌ عَارِضٌ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَهُ أَنْ يأخذه ( ( ( يأخذ ) ) ) منه
وَلَوْ امْتَنَعَ عن الدَّفْعِ يُقَاتِلُهُ عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ على ما بَيَّنَّا فَلَهُ أَنْ يأخذه ( ( ( يأخذ ) ) ) منه
وَكَذَلِكَ يَسَعُ لِمَنْ عَايَنَ ذلك أو سمع إقْرَارَهُ أَنْ يُعِينَهُ على الْأَخْذِ منه لِكَوْنِهِ إعَانَةً على اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَلَوْ لم يُعَايِن ذلك وَلَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عِنْدَهُ أَنَّ هذا الشَّيْءَ الذي في يَدِ فُلَانٍ مِلْكُ وَرَثَتِهِ عن أَبِيك لَا يَسَعُهُ أَخْذُهُ منه حتى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ وقد مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا في فَصْلِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي ثَبَتَ حُرْمَتُهُ في حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ منها لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتُ من الدِّيبَاجِ وَالْقَزِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ فقال هَذَانِ حَرَامَانِ على ذُكُورِ أمتى حِلٌّ لأناثها
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَى سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه حُلَّةً فقال يا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِي حُلَّةً
____________________

(5/130)


وقد قُلْت في حُلَّةِ عُطَارِدٍ إنَّمَا يَلْبَسُهُ من لَا خَلَاقَ له في الْآخِرَةِ فقال رسول اللَّهِ إنِّي لم أُكْسِكْهَا لِتَلْبِسَهَا وفي رِوَايَةٍ إنَّمَا أَعْطَيْتُك لِتَكْسُوَ بَعْضَ نِسَائِك
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ من دِيبَاجٍ قِيلَ نعم ثُمَّ نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَبِسَ رسول اللَّهِ جُبَّةً حرير ( ( ( حريرا ) ) ) أَهْدَاهَا له أُكَيْدِرُ رومة ( ( ( دومة ) ) ) وَذَلِكَ قبل أَنْ ينهى عنه كَذَا قال أَنَسٌ وَهَذَا في غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ
وَأَمَّا في حَالِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ في حَالِ الْحَرْبِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ في لُبْسِ الْحَرِيرِ في حَالِ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ السِّلَاحِ عنه وَالْحَرِيرُ أَدْفَعُ له وَأَهْيَبُ لِلْعَدُوِّ وَأَيْضًا فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الذي رَوَيْنَا من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وما ذَكَرَاهُ من الضَّرُورَةِ يَنْدَفِعُ بِلُبْسِ ما لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لِأَنَّ دَفْعَ ضَرَرِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبَ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ فَلَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَرْقَ بين الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ في الْحُرْمَةِ بَعْدَ أَنْ كان ذَكَرًا لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَدَارَ هذا الْحُكْمَ على الذُّكُورَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَانِ حَرَامَانِ على ذُكُورِ أُمَّتِي إلَّا أَنَّ اللَّابِسَ إذَا كان صَغِيرًا فَالْإِثْمُ على من أَلْبَسَهُ لَا عليه لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ التَّحْرِيمِ عليه كما إذَا سقى خَمْرًا فَشَرِبَهَا كان الْإِثْمُ على السَّاقِي لَا عليه كَذَا هَهُنَا
هذا إذَا كان كُلُّهُ حَرِيرًا وهو الْمُصْمَتُ فَإِنْ كانت لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ في حَالِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا من ضَرُورَةِ دَفْعِ مَضَرَّةِ السِّلَاحِ وتهييب ( ( ( وتهيب ) ) ) الْعَدُوِّ فَأَمَّا في غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ فَمَكْرُوهٌ لِانْعِدَامِ الضرروة ( ( ( الضرورة ) ) ) وَإِنْ كان سَدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ في حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَهَهُنَا نُكْتَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا لِلَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي إبَاحَةَ لُبْسِ الثِّيَابِ الْعَتَّابِيِّ وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ نُكْتَةُ الشَّيْخِ أبي مَنْصُورٍ أَنَّ السَّدَى إذَا كان حَرِيرًا وَاللُّحْمَةُ غَيْرُ حَرِيرٍ يَصِيرُ السَّدَى مَسْتُورًا بِاللُّحْمَةِ فَأَشْبَهَ الْحَشْوَ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُبَاحَ لُبْسُ الْعَتَّابِيِّ لِأَنَّ سَدَاهُ ظَاهِرٌ عير مَسْتُورٍ
وَالصَّحِيحُ هو النُّكْتَةُ الْأُولَى لِأَنَّ رِوَايَةَ الْإِبَاحَةِ في لُبْسِ مُطْلَقِ ثَوْبٍ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ مَنْصُوصَةٌ فَتَجْرِي على إطْلَاقِهَا فَلَا تُنَاسِبُهَا إلَّا النُّكْتَةُ الْأُولَى وَلَوْ جَعَلَ حَشْوَ الْقَبَاءِ حَرِيرًا أو قَزًّا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِالظِّهَارَةِ فلم يَحْصُلْ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ
أَلَا يَرَى أَنَّ لَابِسَ هذا الثَّوْبِ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالْقَزِّ وَلَوْ جَعَلَ الْحَرِيرَ بِطَانَةً يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَابِسُ الْحَرِيرِ حَقِيقَةً وَكَذَا مَعْنَى التَّنَعُّمِ حَاصِلٌ لِلتَّزَيُّنِ بِالْحَرِيرِ وَلُطْفِهِ
هذا إذَا كان الْحَرِيرُ كَثِيرًا فَإِنْ كان قَلِيلًا كَأَعْلَامِ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فما دُونَهَا لَا يُكْرَهُ وَكَذَا الْعَلَمُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ
أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَكَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعَمُّمِ الْعَمَائِمِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمُعَلَّمَةِ بهذا الْقَدْرِ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَا الثَّوْبُ وَالْقَلَنْسُوَةُ الذي جُعِلَ على أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ لَا يُكْرَهُ إذَا كان قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فما دُونَهَا لِمَا قُلْنَا
وَرُوِيَ أَنَّ النبي لَبِسَ فَرْوَةً وَعَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يسغ ( ( ( يسع ) ) ) ذلك في الْقَلَنْسُوَةِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّمَا رَخَّصَ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا كان في عَرْضِ الثَّوْبِ
وَذَكَرَ في نَوَادِرِ هِشَامٍ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تِكَّةُ الدِّيبَاجِ وَالْإِبْرَيْسَمِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ مَقْصُودًا لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَيُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّ بِخِلَافِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ
فَأَمَّا حُكْمُ التَّوَسُّدِ بِهِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عليه فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَكْرُوهٌ لَهُمَا إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الذي رَوَيْنَا من غَيْرِ فَصْلٍ بين اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ كما يَحْصُلُ بِاللُّبْسِ يَحْصُلُ بِالتَّوَسُّدِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ أَنَّهُ كان على بِسَاطِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مُرْفَقَةٌ من حَرِيرٍ
وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسًا رضي اللَّهُ عنه حَضَرَ وَلِيمَةً فَجَلَسَ على وِسَادَةِ حَرِيرٍ عليها طُيُورٌ فَدَلَّ فِعْلُهُ رضي اللَّهُ عنه على رُخْصَةِ الْجُلُوسِ على الْحَرِيرِ وَعَلَى الْوِسَادَةِ الصَّغِيرَةِ التي عليها صُورَةٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من التَّحْرِيمِ في الحديث تَحْرِيمُ اللُّبْسِ فَيَكُونُ فِعْلُ الصَّحَابِيِّ مُبَيِّنًا لِقَوْلِ النبي لَا مُخَالِفًا له وَالْقِيَاسُ بِاللُّبْسِ غَيْرُ
____________________

(5/131)


سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِهَذِهِ الْجِهَاتِ دُونَ التَّزَيُّنِ بِاللُّبْسِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ فيه إهَانَةُ الْمُسْتَعْمِلِ بِخِلَافِ اللُّبْسِ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَحِلُّ لها لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ وَالدِّيبَاجُ وَالْقَزُّ لِأَنَّ النبي أَحَلَّ هذا للأناث بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَلَّ لَإِنَاثِهَا
وَمِنْهَا الذَّهَبُ لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بين الذَّهَبِ وَبَيْنَ الْحَرِيرِ في التَّحْرِيمِ على الذُّكُورِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَانِ حَرَامَانِ على ذُكُورِ أُمَّتِي فَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ التَّزَيُّنُ بِالذَّهَبِ كَالتَّخَتُّمِ وَنَحْوِهِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِلٌّ لِإِنَاثِهَا
وَرُوِيَ عن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اتَّخَذْت خَاتَمًا من ذَهَبٍ فَدَخَلْت على سَيِّدِنَا رسول اللَّهِ فقال مَالَك اتَّخَذْت حُلِيَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ قبل أَنْ تَدْخُلَهَا فَرَمَيْت ذلك وَاِتَّخَذْت خَاتَمًا من حَدِيدٍ فَدَخَلْت عليه فقال مَالَك اتَّخَذَتْ حُلِيَّ أَهْلِ النَّارِ فَاِتَّخَذْت خَاتَمًا من نُحَاسٍ فَدَخَلْت عليه فقال إنِّي أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ فَقُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اتَّخِذْهُ من الْوَرِقِ وَلَا تَزِدْ على الْمِثْقَالِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّزَيُّنِ مَكْرُوهٌ في حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ لِمَا قُلْنَا وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْبَدَنِ مَكْرُوهٌ في حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جميعا حتى يُكْرَهَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ والادهان وَالتَّطَيُّبُ من مَجَامِرِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ الذي يَشْرَبُ من آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذَّهَبَ أَشَدُّ حُرْمَةً من الْفِضَّةِ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ رَخَّصَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّخَتُّمَ بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَلَا رُخْصَةَ في الذَّهَبِ أَصْلًا فَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ في الْفِضَّةِ وَارِدًا في الذَّهَبِ دَلَالَةً من طَرِيقِ الْأُولَى كَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مع تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَكَذَلِكَ الِاكْتِحَالُ بِمُكْحُلَةِ الذَّهَبِ أو بِمِيلٍ من ذَهَبٍ مَكْرُوهٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جميعا لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ
وَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ في الموطأ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وقد حَصَلَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ فَيُكْرَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا الْقَدْرَ من الذَّهَبِ الذي عليه هو تَابِعٌ له وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ دُونَ التَّابِعِ كَالثَّوْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْجُلُوسُ على السَّرِيرِ الْمُضَبَّبِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالرِّكَابِ والتفر ( ( ( والثفر ) ) ) الْمُضَبَّبَةِ وَكَذَا الْمُصْحَفُ الْمُضَبَّبُ على هذا الْخِلَافِ وَكَذَا حَلْقَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كانت من الذَّهَبِ وَلُبْسُ ثَوْبٍ فيه كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَأَمَّا السَّيْفُ الْمُضَبَّبُ وَالسِّكِّينُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ الْمُضَبَّبَةُ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِالرُّخْصَةِ بِذَلِكَ في السِّلَاحِ وَلَا بَأْسَ بِشَدِّ الْفَصِّ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَصِّ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَصْلِ دُونَ التَّبَعِ كَالْعَلَمِ لِلثَّوْبِ وَنَحْوِهِ
وَأَمَّا شَدُّ السِّنِّ الْمُتَحَرِّكِ بِالذَّهَبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ ولم يذكر خِلَافًا
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْرَهُ
وَلَوْ شَدَّهَا بِالْفِضَّةِ لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا لو جُدِعَ أَنْفُهُ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا من ذَهَبٍ لَا يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْأَنْفَ يَنْتُنُ بِالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ من اتِّخَاذِهِ من ذَهَبٍ فَكَانَ فيه ضَرُورَةٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حُرْمَتِهِ
وقد رُوِيَ أَنَّ عَرْفَجَةَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يوم الْكُلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا من وَرِقٍ فَأَنْتَنَ فَأَمَرَهُ سَيِّدُنَا رسول اللَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا من ذَهَبٍ وَبِهَذَا الحديث يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ على ما ذُكِرَ في الْجَامِعِ لِجَوَازِ تَضْبِيبِ السِّنِّ بِالذَّهَبِ وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ له أَنْ يَشُدَّهُ بِالْفِضَّةِ فَكَذَا بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُمَا في حُرْمَةِ الِاسْتِعْمَالِ على السَّوَاءِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّنِّ وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهَذَا يُوَافِقُ أَصْلَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَحُجَّةُ ما ذَكَرَ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في الْجَامِعِ إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلَا يُرَخَّصُ مُبَاشَرَةُ الْمُحَرَّمُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِالْأَدْنَى وهو الْفِضَّةُ فَبَقِيَ الذَّهَبُ على أَصْلِ التَّحْرِيمِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْفِضَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِتَفَاوُتٍ بين الْحُرْمَتَيْنِ على ما مَرَّ
وَلَوْ سَقَطَ سِنُّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ سِنَّ مَيِّتٍ فَيَشُدُّهَا مَكَانَ الْأُولَى بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ السِّنَّ السَّاقِطَةَ مَكَانَهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ سِنَّ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ فَيَشُدُّهَا مَكَانَهَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِسِنِّهِ وَيُكْرَهُ سِنُّ غَيْرِهِ قال وَلَا يُشْبِهُ سِنُّهُ سِنَّ مَيِّتٍ اُسْتُحْسِنَ ذلك وَبَيْنَهُمَا عِنْدِي فَصْلٌ وَلَكِنْ لم يَحْضُرْنِي
وَوَجْهُ الْفَصْلِ له من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ سِنَّ نَفْسِهِ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ لِلْحَالِ عنه لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ مُتَّصِلًا في الثَّانِي بِأَنْ يَلْتَئِمَ فَيَشْتَدُّ
____________________

(5/132)


بِنَفْسِهِ فَيَعُودُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى وَإِعَادَةُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ إلَى مَكَانِهِ لِيَلْتَئِمَ جَائِزٌ كما إذَا قُطِعَ شَيْءٌ من عُضْوِهِ فَأَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَأَمَّا سِنُّ غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ ذلك وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ عن غَيْرِهِ من بَنِي آدَمَ إهَانَةٌ بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ وَلَا إهَانَةَ في اسْتِعْمَالِ جُزْءِ نَفْسِهِ في الْإِعَادَةِ إلَى مَكَانِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّنَّ من الْآدَمِيِّ جُزْءٌ منه فإذا انْفَصَلَ اسْتَحَقَّ الدَّفْنَ ككله ( ( ( كله ) ) ) وَالْإِعَادَةُ صَرْفٌ له عن جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا تَجُوزُ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين سِنِّهِ وَسِنِّ وغيره ( ( ( غيره ) ) )
وَمِنْهَا الْفِضَّةُ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِتَحْرِيمِ الذَّهَبِ على الرِّجَالِ يَكُونُ وَارِدًا بِتَحْرِيمِ الْفِضَّةِ دَلَالَةً فَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا في جَمِيعِ ما يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فيه إلَّا التَّخَتُّمَ بِهِ إذَا ضُرِبَ على صِيغَةِ ما يَلْبِسُهُ الرِّجَالُ وَلَا يَزِيدُ على الْمِثْقَالِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي اللَّهُ عنهما وَكَذَا الْمِنْطَقَةُ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ من الْفِضَّةِ لِمَا مَرَّ وما لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فيه لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْفِضَّةِ من طَرِيقِ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَخَفُّ حُرْمَةً من الذَّهَبِ وقد ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذلك على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَلَا نُعِيدُهُ
وَأَمَّا التَّخَتُّمُ بِمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ من الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالصِّفْرِ فَمَكْرُوهٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جميعا لِأَنَّهُ زِيُّ أَهْلِ النَّارِ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث
وَأَمَّا الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةُ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الذي لَا يَخْلُصُ منه شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بها في الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذلك بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالسَّرْجِ وَالرِّكَابِ وَالسِّلَاحِ وَالسَّرِيرِ وَالسَّقْفِ الْمُمَوَّهِ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ ليس بِشَيْءٍ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَخْلُصُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْبُيُوعِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْبَيْعِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ أَقْسَامِ الْبَيْعِ وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ من الْبِيَاعَاتِ وما يَتَّصِلُ بها وفي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ وفي بَيَانِ ما يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ
أما رُكْنُ الْبَيْعِ فَهُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ وَذَلِكَ قد يَكُونُ بِالْقَوْلِ وقد يَكُونُ بِالْفِعْلِ أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْكَلَامُ في الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
وَالثَّانِي في صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ قد يَكُونُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وقد يَكُونُ بِصِيغَةِ الْحَالِ
أَمَّا بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُ وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ فَيَتِمَّ الرُّكْنُ لِأَنَّ هذه الصِّيغَةَ وَإِنْ كانت لِلْمَاضِي وَضْعًا لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إيجَابًا لِلْحَالِ في عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفُ قَاضٍ على الْوَضْعِ وَكَذَا إذَا قال الْبَائِعُ خُذْ هذا الشَّيْءَ بِكَذَا أو أَعْطَيْتُكَهُ بِكَذَا أو هو لك بِكَذَا أو بَذَلْتَكَهُ بِكَذَا وقال الْمُشْتَرِي قَبِلْتُ أو أَخَذْتُ أو رَضِيتُ أو هَوَيْتُ وَنَحْوَ ذلك فإنه يَتِمُّ الرُّكْنُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الْأَلْفَاظِ يُؤَدِّي مَعْنَى الْبَيْعِ وهو الْمُبَادَلَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ
وَأَمَّا صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَبِيعُ مِنْكَ هذا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ فقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ أو قال الْمُشْتَرِي أَشْتَرِي مِنْكَ هذا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ وقال الْبَائِعُ أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا وقال الْمُشْتَرِي اشتريه وَنَوَيَا الْإِيجَابَ يَتِمُّ الرُّكْنُ وَيَنْعَقِدُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هَهُنَا وَإِنْ كانت صِيغَةُ أَفْعَلُ لِلْحَالِ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ إمَّا حَقِيقَةً أو مَجَازًا فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِالِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أَتَبِيعُ مِنِّي هذا الشَّيْءَ بِكَذَا أو أَبِعْتَهُ مِنِّي بِكَذَا فقال الْبَائِعُ بِعْتُ لَا يَنْعَقِدُ ما لم يَقُلْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ
وَكَذَا إذَا قال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرِ مِنِّي هذا الشَّيْءَ بِكَذَا فقال اشْتَرَيْتُ لَا يَنْعَقِدُ ما لم يَقُلْ الْبَائِعُ بِعْتُ وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِعْ عَبْدَكَ هذا مِنِّي بِكَذَا فَيَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لا يَنْعَقِدُ ما لم يَقُلْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَكَذَا إذَا قال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرِ مِنِّي هذا الشَّيْءَ بِكَذَا فقال اشْتَرَيْتُ لَا يَنْعَقِدُ ما لم يَقُلْ الْبَائِعُ بِعْتُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذه الصِّيغَةَ تَصْلُحُ شَطْرَ الْعَقْدِ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنْ من قال لِآخَرَ تَزَوَّجْ ابْنَتِي فقال الْمُخَاطَبُ تَزَوَّجْتُ أو قال زَوِّجْ ابْنَتَكَ مِنِّي فقال زَوَّجْتُ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ فإذا
____________________

(5/133)


صَلُحَتْ هذه الصِّيغَةُ شَطْرًا في النِّكَاحِ صَلُحَتْ شَطْرًا في الْبَيْعِ لِأَنَّ الرُّكْنَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ
وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ بِعْ أو اشْتَرِ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَطَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا يَكُونُ إيجَابًا وَقَبُولًا فلم يُوجَدْ إلَّا أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ سُؤَالَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا إيجَابًا وَقَبُولًا كَذَا هذا وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في النِّكَاحِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا في النِّكَاحِ بِنَصٍّ خَاصٍّ وهو ما رَوَى أبو يُوسُفَ أَنَّ بِلَالًا خَطَبَ إلَى قَوْمٍ من الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فقال لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لم أَخْطُبْ فَقَالُوا له أَمَلَكْتَ ولم يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا رضي اللَّهُ عنه قال قَبِلْتُ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ وَلَا نَصَّ في الْبَيْعِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَلِأَنَّ هذه الصِّيغَةَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَكُونُ إيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ من لَفْظٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هذه الصِّيغَةِ على الْمُسَاوَمَةِ في بَابِ النِّكَاحِ
لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تُوجَدُ في النِّكَاحِ عَادَةً فَحُمِلَتْ على الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ على أَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ زَوِّجْ ابْنَتَكَ مِنِّي شَطْرَ الْعَقْدِ فَلَوْ لم تُجْعَلْ شَطْرَ الْعَقْدِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْوَلِيُّ لِجَوَازِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلَا يَقْبَلُ الْمُخَاطَبُ فَيَلْحَقَهُ الشَّيْنُ فَجُعِلَتْ شَطْرًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ عن الْأَوْلِيَاءِ وَهَذَا الْمَعْنَى في بَابِ الْبَيْعِ مُنْعَدِمٌ فَبَقِيَتْ سُؤَالًا فَلَا يَتِمُّ بِهِ الرُّكْنُ ما لم يُوجَدْ الشَّطْرُ الْآخَرُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا قبل وُجُودِ الْآخَرِ فَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَلْزَمُ قبل وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ حتى إذَا وُجِدَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ من أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَلِلْآخَرِ خِيَارُ الْقَبُولِ وَلَهُ خِيَارُ الرُّجُوعِ قبل قَبُولِ الْآخَرِ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَفْتَرِقَا عن بَيْعِهِمَا وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ لَهُمَا قبل التَّفَرُّقِ عن بَيْعِهِمَا هو خِيَارُ الْقَبُولِ وَخِيَارُ الرُّجُوعِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ لو لَزِمَ قبل وُجُودِ الْآخَرِ لَكَانَ صَاحِبُهُ مَجْبُورًا على ذلك الشَّطْرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا الْمُبَادَلَةُ بِالْفِعْلِ فَهِيَ التَّعَاطِي وَيُسَمَّى هذا الْبَيْعُ بَيْعَ الْمُرَاوَضَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي لِأَنَّ الْبَيْعَ في عُرْفِ الشَّرْعِ كَلَامُ إيجَابٍ وَقَبُولٍ فَأَمَّا التَّعَاطِي فلم يُعْرَفْ في عُرْفِ الشَّرْعِ بَيْعًا
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ التَّعَاطِيَ يَجُوزُ في الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ وَلَا يَجُوزُ في الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ في الْأَصْلِ مُطْلَقٌ عن هذا التَّفْصِيلِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ في اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ وَهِيَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وهو الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ وَإِنَّمَا قَوْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ عز وجل { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالتِّجَارَةُ عِبَارَةٌ عن جَعْلِ الشَّيْءِ لِلْغَيْرِ بِبَدَلٍ وهو تَفْسِيرُ التَّعَاطِي وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وما كَانُوا مُهْتَدِينَ } أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْمَ التِّجَارَةِ على تَبَادُلٍ ليس فيه قَوْلُ الْبَيْعِ
وقال اللَّهُ عز وجل { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهم الْجَنَّةَ } سَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُبَادَلَةَ الْجَنَّةِ بِالْقِتَالِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى اشْتِرَاءً وَبَيْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ } وَإِنْ لم يُوجَدْ لَفْظُ الْبَيْعِ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وهو الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ فَهَذَا يُوجَدُ في الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ وَالنَّفِيسَةِ جميعا فَكَانَ التَّعَاطِي في كل ذلك بَيْعًا فَكَانَ جَائِزًا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ منها ما يَعُمُّ الْبِيَاعَاتِ كُلَّهَا وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَنَقُولُ الْبَيْعُ في الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا وهو الثَّمَنُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ الْبَيْعُ في حَقِّ الْبَدَلَيْنِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وهو بَيْعُ السِّلَعِ بِالسِّلَعِ وَيُسَمَّى بَيْعَ الْمُقَايَضَةِ وَبَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وهو بَيْعُ السِّلَعِ بِالْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَبَيْعُهَا بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَبِالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ في الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ الْمَوْصُوفِ وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وهو السَّلَمُ وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وهو بَيْعُ الثَّمَنِ الْمُطْلَقِ بِالثَّمَنِ الْمُطْلَقِ وهو الصَّرْفُ
فَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وهو الثَّمَنُ فَيَنْقَسِمُ في حَقِّ الْبَدَلِ وهو الثَّمَنُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ وهو مُبَادَلَةُ الْمَبِيعِ بِأَيِّ ثَمَنٍ اُتُّفِقَ
____________________

(5/134)


وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وهو مُبَادَلَةُ الْمَبِيعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ وَبَيْعُ التَّوْلِيَةِ وهو الْمُبَادَلَةُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَبَيْعُ الِاشْتِرَاكِ وهو التَّوْلِيَةُ لَكِنْ في بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَبَيْعُ الْوَضِيعَةِ وهو الْمُبَادَلَةُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مع نُقْصَانِ شَيْءٍ منه
وَأَمَّا الْقِسْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ فَنَذْكُرُهُ في بَابِ حُكْمِ الْبَيْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وإذا عَرَفْتَ أَقْسَامَ الْبِيَاعَاتِ فَنَذْكُرُ شَرَائِطَهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وهو ما لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَإِنْ كان قد يَنْعَقِدُ التَّصَرُّفُ بِدُونِهِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وهو ما لَا صِحَّةَ له بِدُونِهِ وَإِنْ كان قد يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ بِدُونِهِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ وهو ما لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ وَإِنْ كان قد يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ بِدُونِهِ
أَمَّا شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُتَصَرِّفِ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّصَرُّفِ وَالْأَهْلِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ فَلَا يَثْبُتُ الِانْعِقَادُ بِدُونِهِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا حتى لو بَاعَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مَالَ نَفْسِهِ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا على إجَازَةِ وَلِيِّهِ وَعَلَى إجَازَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فَلَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ عِنْدَهُ أَصْلَا وَكَذَا ليس بِشَرْطِ النَّفَاذِ في الْجُمْلَةِ حتى لو تَوَكَّلَ عن غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ وَعِنْدَهُ لَا يَنْفُذُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَلَا لِنَفَاذِهِ حتى يَنْفُذَ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ مَوْقُوفًا على إجَازَتِهِ عِنْدَنَا
وَكَذَا الْمِلْكُ أو الْوِلَايَةُ ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا بَلْ هو شَرْطُ النَّفَاذِ حتى يَتَوَقَّفَ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ وَعِنْدَهُ شَرْطٌ حتى لَا يَتَوَقَّفَ أَصْلًا وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا وَكَذَا إسْلَامُ الْبَائِعِ ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَلَا لِنَفَاذِهِ وَلَا لِصِحَّتِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَافِرِ وَشِرَاؤُهُ
وقال الشَّافِعِيُّ إسْلَامُ الْمُشْتَرِي شَرْطُ جَوَازِ شِرَاءِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ حتى لَا يَجُوزَ ذلك من الْكَافِرِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ في تَمَلُّكِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ إذْلَالًا بِالْمُسْلِمِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا يُجْبَرُ على بَيْعِهِ عِنْدَكُمْ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ من الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ من الْكَافِرِ فَهُوَ على الْعُمُومِ إلَّا حَيْثُ ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْكَافِرِ بِالشِّرَاءِ ليس إلَّا الْمِلْكُ في الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرُ من أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ له على الْمُسْلِمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ من أبيه وَكَذَا إذَا كان له عَبْدٌ كَافِرٌ فَأَسْلَمَ بَقِيَ مِلْكُهُ فيه وهو الْحَقِيقَةِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَرَضٌ لَا بَقَاءَ له فَدَلَّ أَنَّ الْكَافِرَ من أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له في الْمُسْلِمِ
وَقَوْلُهُ فيه إذْلَالٌ بِالْمُسْلِمِ قُلْنَا الْمِلْكُ عِنْدَنَا لَا يَظْهَرُ فِيمَا فيه إذْلَالٌ بِالْمُسْلِمِ فإنه لَا يَظْهَرُ في حَقِّ الِاسْتِخْدَامِ وَالْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ الْمُسْلِمَةِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا لَا ذُلَّ فيه من الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَبْرَ على الْبَيْعِ ليس لِدَفْعِ الذُّلِّ إذْ لَا ذُلَّ على ما بَيَّنَّا
وَلَكِنْ لِاحْتِمَالِ وجوده ( ( ( وجود ) ) ) فِعْلٍ لَا يَحِلُّ ذلك في الْإِسْلَامِ لِعَدَاوَةِ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
وإذا جَازَ شِرَاءُ الذِّمِّيِّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ فَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ وكتابه ( ( ( وكتابته ) ) ) لِأَنَّ جَوَازَ هذه التَّصَرُّفَاتِ مَبْنِيٌّ على الْمِلْكِ وقد وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ دَبَّرَهُ يَسْعَى الْعَبْدُ في قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إبْقَائِهِ على مِلْكِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِزَالَةِ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتَعَيَّنَتْ الْإِزَالَةُ بِالسِّعَايَةِ
وَكَذَا إذَا كانت أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّهَا تَسْعَى في قِيمَتِهَا لِمَا قُلْنَا
وَيُوجَعُ الذِّمِّيُّ ضَرْبًا لِوَطْئِهِ الْمُسْلِمَةَ
لِأَنَّهُ حَرَامٌ عليه فَيَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ
وإذا كَاتَبَهُ لَا يَعْتَرِضُ عليه لِأَنَّهُ أَزَالَ يَدَهُ عنه حتى لو عَجَزَ وَرُدَّ في الرِّقِّ يُجْبَرُ على بَيْعِهِ
وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا مَلَكَ شِقْصًا فَالْحُكْمُ في الْبَعْضِ كَالْحُكْمِ في الْكُلِّ
وَلَوْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ من الْكَافِرِ شِرَاءً فَاسِدًا فإنه يُجْبَرُ على الرَّدِّ
لِأَنَّ رَدَّ الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَافِرُ على بَيْعِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وكذا النُّطْقُ ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا لِنَفَاذِهِمَا وَصِحَّتِهِمَا فَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْرَسِ وَشِرَاؤُهُ إذَا كانت الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً في ذلك لِأَنَّهُ إذَا كانت الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً في ذلك قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ
هذا إذَا كان الْخَرَسُ أَصْلِيًّا بِأَنْ وُلِدَ أَخْرَسَ
فَأَمَّا إذَا كان عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ عليه الْخَرَسُ فَلَا إلَّا إذَا دَامَ بِهِ حتى وَقَعَ الْيَأْسُ من كَلَامِهِ وَصَارَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فَيُلْحَقُ بِالْأَخْرَسِ الْأَصْلِيِّ
وَالثَّانِي الْعَدَدُ في الْعَاقِدِ
فَلَا يَصْلُحُ الْوَاحِدُ عَاقِدًا من الْجَانِبَيْنِ في بَابِ الْبَيْعِ إلَّا الْأَبَ فِيمَا يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ من ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِ
____________________

(5/135)


قِيمَتِهِ أو بِمَا يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً أو يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذلك أَيْضًا
وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحُقُوقَ في بَابِ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ
وَلِلْبَيْعِ حُقُوقٌ مُتَضَادَّةٌ مِثْلُ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْمُطَالَبَةِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا
طَالِبًا وَمُطَالَبًا وَهَذَا مُحَالٌ
وَلِهَذَا لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ وَكِيلًا من الْجَانِبَيْنِ في بَابِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا من الِاسْتِحَالَةِ
وَيَصْلُحُ رَسُولًا من الْجَانِبَيْنِ
لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا تَلْزَمُهُ الْحُقُوقُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ
وكذا ( ( ( وكدا ) ) ) الْقَاضِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ من الْجَانِبَيْنِ
لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ وَبِخِلَافِ الْوَكِيلِ في بَابِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا مَحْضًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ
وَكَذَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِمَا يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً قد يَكُونُ قُرْبَانًا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِحُكْمِ الْحَالِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْعَلُ ذلك إلَّا في تِلْكَ الْحَالِ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِذَلِكَ قُرْبَانًا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ
وَقَوْلُهُ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ
قُلْنَا مَمْنُوعٌ فإنه يُجْعَلُ كَأَنَّ الصَّبِيَّ بَاعَ أو اشْتَرَى بِنَفْسِهِ وهو بَالِغٌ فَتَعَدَّدَ الْعَاقِدُ حُكْمًا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ
وَأَمَّا الْوَصِيُّ إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ من الصَّغِيرِ أو اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ فيه نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان فيه نَفْعٌ ظَاهِرٌ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُ أَصْلًا من الْأَبِ وَالْوَصِيِّ جميعا لِمَا ذَكَرْنَا من الِاسْتِحَالَةِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ جَعَلَ شَخْصَهُ الْمُتَّحِدَ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا ذَاتًا وَرَأْيًا وَعِبَارَةً وَالْوَصِيُّ لَا يُسَاوِيهِ في الشَّفَقَةِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فيه على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ إذَا كان فيه نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْيَتِيمِ قُرْبَانُ مَالِهِ على وَجْهِ الْأَحْسَنِ فَيَمْلِكُهُ بِالنَّصِّ
قَوْلُهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْوَصِيِّ بِالْأَبِ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ قُلْنَا الْوَصِيُّ له شَبَهَانِ شَبَهٌ بِالْأَبِ وَشَبَهٌ بِالْوَكِيلِ أَمَّا شَبَهُهُ بِالْوَكِيلِ فَلِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا وَشَبَهُهُ بِالْأَبِ لِكَوْنِهِ مَرْضِيَّ الْأَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ما رضي بِهِ إلَّا لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ على الصَّغِيرِ فَأَثْبَتْنَا له الْوِلَايَةَ عِنْدَ ظُهُورِ النَّفْعِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْأَبِ وَقَطَعْنَا وِلَايَتَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْوَكِيلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي ما أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ وَبِمَا أَوْجَبَهُ فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِلَ غير ما أَوْجَبَهُ أو بَعْضَ ما أَوْجَبَهُ أو بِغَيْرِ ما أَوْجَبَهُ أو بِبَعْضِ ما أَوْجَبَهُ لَا يَنْعَقِدُ من غَيْرِ إيجَابٍ مبتدأ مُوَافِقٍ
بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ في الْعَبْدِ فَقَبِلَ في الْجَارِيَةِ لَا يَنْعَقِدُ وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ في الْعَبْدَيْنِ فَقَبِلَ في أَحَدِهِمَا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فقال الْمُشْتَرِي قَبِلْتُ في هذا الْعَبْدِ وَأَشَارَ إلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْقَبُولَ في أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ وَالصَّفْقَةُ إذَا وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً من الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي تَفْرِيقَهَا قبل التَّمَامِ لِأَنَّ من عَادَةِ التُّجَّارِ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ التَّفْرِيقِ لَقَبِلَ في الْجَيِّدِ دُونَ الرَّدِيءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ وَلِأَنَّ غَرَضَ التَّرْوِيجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبُولِ فِيهِمَا جميعا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِالْقَبُولِ في أَحَدِهِمَا وَلِأَنَّ الْقَبُولَ في أَحَدِهِمَا يَكُونُ إعْرَاضًا عن الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ
وَكَذَا لو أَوْجَبَ الْبَيْعَ في كل الْعَبْدِ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في نِصْفِهِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَيْبُ الشَّرِكَةِ ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ ما أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ كان هذا شِرَاءً مُبْتَدَأً من الْبَائِعِ
فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيجَابُ من الْبَائِعِ في الْمَجْلِسِ فَيُنْظَرُ إنْ كان لِلْبَعْضِ الذي قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ من الثَّمَنِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا
بَيَانُهُ إذَا قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَأَوْجَبَ الْبَائِعُ جَازَ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ على الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فِيمَا له مِثْلٌ فَكَانَ بَيْعُ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ بَيْعَ كل كُرٍّ بِعَشَرَةٍ لِتَمَاثُلِ قُفْزَانِ الْكُرَّيْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَبَيَّنَ ثَمَنَهُ فقال الْبَائِعُ بِعْتُ يَجُوزُ
فَأَمَّا إذَا لم يُبَيِّنْ ثَمَنَهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ الْإِيجَابَ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُرَّيْنِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ في الْمِثْلِيَّاتِ يَنْقَسِمُ على الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَكَانَ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مَعْلُومًا وَفِيمَا لَا مِثْلَ له لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ على الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ لِانْعِدَامِ تَمَاثُلِ الْأَجْزَاءِ وإذا لم
____________________

(5/136)


يَنْقَسِمْ بَقِيَتْ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ مَجْهُولَةً وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ
هذا إذَا لم يُبَيِّنْ الْبَائِعُ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ من الْعَبْدَيْنِ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ هذا بِأَلْفٍ وَهَذَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ الْبَيْعُ لِانْعِدَامِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ من الْمُشْتَرِي بَلْ الْبَائِعُ هو الذي فَرَّقَ الصَّفْقَةَ حَيْثُ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا على حِدَةٍ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ له فيه
وَلَوْ كان فَهُوَ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ
وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ في شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِلَ فيه بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَنْعَقِدُ
وَكَذَا لو أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِلَ بِجِنْسٍ آخَرَ إلَّا إذَا رضي الْبَائِعُ بِهِ في الْمَجْلِسِ
وَعَلَى هذا إذَا خَاطَبَ الْبَائِعُ رَجُلَيْنِ فقال بِعْتُكُمَا هذا الْعَبْدَ أو هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ في الْعَبْدَيْنِ أو عَبْدٍ وَاحِدٍ إلَيْهِمَا جميعا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْإِيجَابِ وَكَذَا لو خَاطَبَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ فقال اشْتَرَيْتُ مِنْكُمَا هذا الْعَبْدَ بِكَذَا فَأَوْجَبَ في أَحَدِهِمَا لم يَنْعَقِدْ لِمَا قُلْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وهو اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ بِأَنْ كان الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدْ حتى لو أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَامَ الْآخَرُ عن الْمَجْلِسِ قبل الْقَبُولِ أو اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عن الْآخَرِ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ كما وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ في الثَّانِي من زَمَانِ وُجُودِهِ فَوُجِدَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ مُنْعَدِمٌ فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذلك يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْبَيْعِ فَتَوَقَّفَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ على الْآخَرِ حُكْمًا وَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ مع تَفَرُّقِهِمَا لِلضَّرُورَةِ وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مقتضيا ( ( ( مقضيا ) ) ) عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فإذا اخْتَلَفَ لَا يَتَوَقَّفُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَوْرُ مع ذلك شَرْطٌ لَا يَنْعَقِدُ الرُّكْنُ بِدُونِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عن الْآخَرِ والتأخر ( ( ( والتأخير ) ) ) لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وإنها تَنْدَفِعُ بِالْفَوْرِ
وَلَنَا أَنَّ في تَرْكِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ وَلَوْ اقْتَصَرَ على الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ وَعَلَى هذا إذَا تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أو يَسِيرَانِ على دَابَّتَيْنِ أو دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ في مَحْمِلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ خَرَجَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مِنْهُمَا مُتَّصِلَيْنِ انْعَقَدَ وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا فَصْلٌ وَسُكُوتٌ وَإِنْ قَلَّ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ تَبَدَّلَ بِالْمَشْيِ وَالسَّيْرِ وَإِنْ قَلَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ وهو يَمْشِي على الْأَرْضِ أو يَسِيرُ على دَابَّةٍ لَا يصلي عليها مِرَارًا يَلْزَمُهُ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ سَجْدَةٌ وَكَذَا لو خَيَّرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَمْشِي على الْأَرْضِ أو تَسِيرُ على دَابَّةٍ لَا يصلي عليها فَمَشَتْ أو سَارَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بتغيير ( ( ( بتخيير ) ) ) الزَّوْجِ صَحَّ اخْتِيَارُهَا لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لم يَتَبَدَّلْ فَكَذَا هَهُنَا وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا وَاقِفَانِ انْعَقَدَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَلَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا وَاقِفَانِ فَسَارَ الْآخَرُ قبل الْقَبُولِ أو سَارَا جميعا ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَارَا وَسَارَا فَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ قبل الْقَبُولِ فلم يَجْتَمِعْ الشَّطْرَانِ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ وَقَفَا فَخَيَّرَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ سَارَ الزَّوْجُ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَالْخِيَارُ في يَدِهَا وَلَوْ سَارَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ وَاقِفٌ بَطَلَ خِيَارُهَا فَالْعِبْرَةُ لِمَجْلِسِهَا لَا لِمَجْلِسِ الزَّوْجِ وفي بَابِ الْبَيْعِ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا جميعا لِأَنَّ التَّخْيِيرَ من قِبَلِ الزَّوْجِ لَازِمٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ في بَابِ الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ قبل قَبُولِ الْآخَرِ فَاحْتُمِلَ الْبُطْلَانُ بِالْإِعْرَاضِ وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا في سَفِينَةٍ يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كانت وَاقِفَةً أو جَارِيَةً خَرَجَ الشَّطْرَانِ مُتَّصِلَيْنِ أو مُنْفَصِلَيْنِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ على الْأَرْضِ وَالسَّيْرِ على الدَّابَّةِ لِأَنَّ جَرَيَانَ السَّفِينَةِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ لَا بِإِجْرَائِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ لَا يَمْلِكُ وَقْفَهَا فلم يَكُنْ جَرَيَانُهَا مُضَافًا إلَيْهِ فلم يَخْتَلِفْ الْمَجْلِسُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ أَمَّا الْمَشْيُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَكَذَا سَيْرُ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو سَيَّرَهَا سَارَتْ وَلَوْ وَقَفَهَا وَقَفَتْ فَاخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِسَيْرِهَا وَلِهَذَا لو كَرَّرَ آيَةَ السَّجْدَةِ في السَّفِينَةِ وَهِيَ جَارِيَةٌ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كما لو كَرَّرَهَا في بَيْتٍ وَاحِدٍ وَكَذَا لو خَيَّرَ امْرَأَتَهُ في السَّفِينَةِ وَهِيَ جَارِيَةٌ فَهِيَ على خِيَارِهَا ما لم يُوجَدْ منها دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ
وَعَلَى هذا إذَا أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَنْ قال بِعْتُ عَبْدِي هذا من فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ وَلَوْ قَبِلَ عنه قَابِلٌ يَنْعَقِدُ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ في بَابِ الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ على الْآخَرِ في الْمَجْلِسِ وَلَا يَتَوَقَّفُ على الشَّطْرِ الْآخَرِ من الْعَاقِدِ الْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا إذَا
____________________

(5/137)


كان عنه قَابِلٌ أو كان بِالرِّسَالَةِ أو بِالْكِتَابَةِ
أَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَى رَجُلٍ وَيَقُولَ لِلرَّسُولِ إنِّي بِعْتُ عَبْدِي هذا من فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا فَاذْهَبْ إلَيْهِ وَقُلْ له إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ وقال لي قُلْ له إنِّي قد بِعْتُ عَبْدِي هذا من فُلَانٍ بِكَذَا فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ فقال الْمُشْتَرِي في مَجْلِسِهِ ذلك قَبِلْتُ انْعَقَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عن كَلَامِ الْمُرْسِلِ نَاقِلٌ كَلَامَهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ وَقَبِلَ الْآخَرُ في الْمَجْلِسِ
وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بِعْتُ عَبْدِي فُلَانًا مِنْكَ بِكَذَا فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فقال في مَجْلِسِهِ اشْتَرَيْتُ لِأَنَّ خِطَابَ الْغَائِبِ كِتَابُهُ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَخَاطَبَ بِالْإِيجَابِ وَقَبِلَ الْآخَرُ في الْمَجْلِسِ وَلَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخِطَابِ وَلَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قبل قَبُولِ الْآخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى وَكَذَا لو أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُشَافَهَةِ وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَسَوَاءٌ عَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أو لم يَعْلَمْ بِهِ بِخِلَافِ ما إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ وَيَنْقُلُهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا فلم يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ
فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عن تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ فَشُرِطَ عِلْمُهُ بِالْعَزْلِ صِيَانَةً له عن التَّعْزِيرِ على ما نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَكَذَا هذا في الْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ إن اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ وَلَا يَتَوَقَّفُ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ على وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ إذَا كان غَائِبًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إلَّا إذَا كان عن الْغَائِبِ قَابِلٌ أو بِالرِّسَالَةِ أو بِالْكِتَابَةِ كما في الْبَيْعِ
وَأَمَّا في النِّكَاحِ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ بِأَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِلشُّهُودِ اشْهَدُوا أَنِّي قد تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِكَذَا وَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ أو قالت امْرَأَةٌ اشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ نَفْسِي من فُلَانٍ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَوَقَّفُ أَيْضًا إلَّا إذَا كان عن الْغَائِبِ قَابِلٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ وَإِنْ لم يَقْبَلْ عنه أَحَدٌ
وَكَذَا الْفُضُولِيُّ من الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قال زَوَّجْتُ فُلَانَةَ من فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لم يَجُزْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ وَالْفُضُولِيُّ من الْجَانِبَيْنِ في بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لم يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّطْرُ في بَابِ الْخُلْعِ فَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو قال خَالَعْتُ امْرَأَتِي الْغَائِبَةَ على كَذَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَبِلَتْ جَازَ
وَأَمَّا من جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو قالت اخْتَلَعْتُ من زَوْجِي فُلَانٍ الْغَائِبِ على كَذَا فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لم يَجُزْ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخُلْعَ في جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَالِ فَكَانَ يَمِينًا وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ الرُّجُوعُ عنه وَتَصِحُّ فيه الْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ خَالَعْتكِ غَدًا وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ على كَذَا وإذا كان يَمِينًا فَغَيْبَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْيَمِينِ كما في التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِ ذلك
وَأَمَّا من جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ من جَانِبِهَا ولاتصح إضَافَتُهُ إلَى وَقْتٍ وَتَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل إجَازَةِ الزَّوْجِ وإذا كان مُعَاوَضَةً فَالشَّطْرُ في الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ كما في الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ
وَكَذَا الشَّطْرُ في إعْتَاقِ الْعَبِيدِ على مَالٍ من جَانِبِ الْمَوْلَى يَتَوَقَّفُ إذَا كان الْعَبْدُ غَائِبًا وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ إذَا كان الْمَوْلَى غَائِبًا لِأَنَّهُ من جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ
وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ لَا يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ على ما وَرَاءِ الْمَجْلِسِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وفي كل مَوْضِعٍ يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ على ما وَرَاءَ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كما في الْخُلْعِ من جَانِبِ الزَّوْجِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ من جَانِبِ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَمَالَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ كَبَيْعِ نِتَاجِ النِّتَاجِ بِأَنْ قال بِعْتُ وَلَدَ وَلَدِ هذه النَّاقَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَإِنْ بَاعَ الْحَمْلَ فَلَهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ لِأَنَّهُ له خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ انْتِفَاخِ الضَّرْعِ وَكَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ قبل ظُهُورِهِ لِأَنَّهُمَا مَعْدُومٌ وَإِنْ كان بَعْدَ الطُّلُوعِ جَازَ وَإِنْ كان قبل بُدُوِّ صَلَاحِهِمَا إذَا لم يُشْتَرَطْ التَّرْكُ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا يَجُوزُ
____________________

(5/138)


إلَّا إذَا صَارَ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَإِنْ كان بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا لَا يَنْعَقِدُ
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الثِّمَارِ قبل بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَبْدُ صَلَاحُهَا لم تَكُنْ مُنْتَفَعًا بها فَلَا تَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَهَذَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ فإن مُحَمَّدًا ذَكَرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ في بَابِ الْعُشْرِ أَنَّهُ لو بَاعَ الثِّمَارَ في أَوَّلِ ما تَطْلُعُ وَتَرَكَهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ حتى أَدْرَكَتْ فَالْعُشْرُ على الْمُشْتَرِي وَلَوْ لم يَجُزْ بَيْعُهَا حين ما طَلَعَتْ لَمَا وَجَبَ عُشْرُهَا على الْمُشْتَرِي
وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ بَيْعِهِ ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ جَعْلُ الثَّمَرَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا بَدَا صَلَاحُهَا أو لَا دَلَّ أنها مَحَلُّ الْبَيْعِ كَيْفَ ما كان وَالْمَعْنَى فيه وهو أَنَّهُ بَاعَ ثَمَرَةً مَوْجُودَةً وَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مُنْتَفَعًا بها في الثَّانِي وَإِنْ لم يَكُنْ مُنْتَفَعًا بها في الْحَالِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ جَرْوِ الْكَلْبِ على أَصْلِنَا وَبَيْعِ الْمَهْرِ وَالْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ على بَيْعِ الثِّمَارِ مُدْرَكَةٌ قبل إدْرَاكِهَا بِأَنْ بَاعَهَا ثَمَرًا وَهِيَ بُسْرٌ أو بَاعَهَا عِنَبًا وَهِيَ حِصْرِمٌ دَلِيلُ صِحَّةِ هذا التَّأْوِيلِ
قَوْلُهُ عليه السلام في سِيَاقِ الحديث أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أحدكم مَالَ صَاحِبِهِ وَلَفْظَةُ الْمَنْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ما وَقَعَ عليه الْبَيْعُ مَوْجُودًا لِأَنَّ الْمَنْعَ مَنْعُ الْوُجُودِ وما يُوجَدُ من الزَّرْعِ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ كَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ ما ظَهَرَ منه وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ما لم يَظْهَرْ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ظَهَرَ فيه الْخَارِجُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْكُلُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ على التَّعَاقُبِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ فَلَوْ لم يَجُزْ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَعْضِ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ
وَلَنَا أَنَّ ما لم يَظْهَرْ منه مَعْدُومٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ مَمْنُوعَةٌ فإنه يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ بِمَا فيه من الثَّمَرِ وما يَحْدُثُ منه بَعْدَ ذلك يَكُونُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلِ وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ وهو ( ( ( وهي ) ) ) بِمَعْنَى الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْهَاءِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ وروى حَبَلُ الْحَبَلَةِ بِحِفْظِ الْهَاءِ من الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْحَبَلَةُ هِيَ الْحُبْلَى فَكَانَ نَهْيًا عن بَيْعِ وَلَدِ الْحُبْلَى
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ وَبَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ لِأَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ وهو عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن عَسْبِ الْفَحْلِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ على نَفْسِ الْعَسْبِ وهو الضِّرَابُ لِأَنَّ ذلك جَائِزٌ بِالْإِعَارَةِ فَيُحْمَلُ على الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذلك واضمره فيه كما في قَوْله تَعَالَى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } وَغَيْرِ ذلك وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ في الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ في الزيوت ( ( ( الزيتون ) ) ) وَالدُّهْنِ في السِّمْسِمِ وَالْعَصِيرِ في الْعِنَبِ وَالسَّمْنِ في اللَّبَنِ
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ في سَنَابِلِهَا لِأَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ في الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ في الزَّيْتُونِ وَنَحْوَ ذلك بَيْعُ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ لَا دَقِيقَ في الْحِنْطَةِ وَلَا زَيْتَ في الزَّيْتُونِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَالدَّقِيقَ اسْمٌ لِلْمُتَفَرِّقِ فَلَا دَقِيقَ في حَالِ كَوْنِهِ حِنْطَةً وَلَا زَيْتَ حَالَ كَوْنِهِ زَيْتُونًا فَكَانَ هذا بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ في سُنْبُلِهَا لِأَنَّ ما في السُّنْبُلِ حِنْطَةٌ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَهِيَ في سُنْبُلِهَا على تَرْكِيبِهَا فَكَانَ بَيْعَ الْمَوْجُودِ حتى لو بَاعَ تِبْنَ الْحِنْطَةِ في سُنْبُلِهَا دُونَ الْحِنْطَةِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تِبْنًا إلَّا بِالْعِلَاجِ وهو الدَّقُّ فلم يَكُنْ تِبْنًا قَبْلَهُ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْجِذْعِ في السَّقْفِ وَالْآجُرِّ في الْحَائِطِ وَذِرَاعٍ من كِرْبَاسٍ أو دِيبَاجٍ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ حتى لو نُزِعَ وَقُطِعَ وَسُلِّمَ إلَى الْمُشْتَرِي يُجْبَرُ على الْأَخْذِ وَهَهُنَا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حتى لو طَحَنَ أو عَصَرَ وسلم لَا يُجْبِرْ الْمُشْتَرِي على الْقَبُولِ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ هُنَاكَ ليس لِخَلَلٍ في الرُّكْنِ وَلَا في الْعَاقِدِ وَالْمَعْقُودِ عليه بَلْ لِمَضَرَّةٍ تَلْحَقُ الْعَاقِدَ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ فإذا نَزَعَ وَقَطَعَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ أَمَّا هَهُنَا فَالْمَعْقُودُ عليه مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ فلم يَنْعَقِدْ أَصْلًا فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَكَذَا بَيْعُ الْبَزْرِ في الْبِطِّيخِ غير ( ( ( الصحيح ) ) ) غير صحيح لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّيْتِ في الزَّيْتُونِ وَبَيْعُ النَّوَى في التَّمْرِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ اللَّحْمِ في الشَّاةِ الْحَيَّةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لَحْمًا بِالذَّبْحِ وَالسَّلْخِ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ
وَكَذَا بَيْعُ الشَّحْمِ الذي فيها واليتها وَأَكَارِعِهَا وَرَأْسِهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا بَيْعُ الْبُحَيْرِ في السِّمْسِمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بُحَيْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال بِعْتُكَ هذا الْيَاقُوتَ بِكَذَا فإذا هو زُجَاجٌ أو قال بِعْتُكَ هذا الْفَصَّ على أَنَّهُ يَاقُوت بِكَذَا فإذا هو زُجَاج
____________________

(5/139)


أو قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِكَذَا فإذا هو مَرْوِيٌّ أو قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ على أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فإذا هو هَرَوِيٌّ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ في هذه الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْإِشَارَةَ مع التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا في بَابِ الْبَيْعِ فِيمَا يَصْلُحُ مَحَلَّ الْبَيْعِ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُشَارُ إلَيْهِ من خِلَافِ الجنس ( ( ( جنس ) ) ) الْمُسَمَّى فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى وَإِنْ كان من جِنْسِهِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ في الصِّفَةِ فَإِنْ تَفَاحَشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ أَيْضًا عِنْدَنَا وَيُلْحَقَانِ بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ وَإِنْ قَلَّ التَّفَاوُتُ فَالْعِبْرَةُ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الْيَاقُوتُ مع الزُّجَاجِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الْهَرَوِيُّ مع الْمَرْوِيِّ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ فيه بِالْمُسَمَّى وهو مَعْدُومٌ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ ولو قال بِعْتُكَ هذا الْعَبْدَ فإذا هو جَارِيَةٌ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُسَمَّى هَهُنَا من جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَعْنِي الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْعَقْدِ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ كما إذَا قال بِعْتُكَ هذه الشَّاةَ على أنها نَعْجَةٌ فإذا هِيَ كَبْشٌ
وَلَنَا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ في الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَالْتُحِقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ النَّعْجَةِ مع الْكَبْشِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا جِنْسًا ذَاتًا وَمَعْنًى إما ذَاتًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُهُمَا
وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَتَجَانَسَا ذَاتًا وَمَنْفَعَةً فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وهو مَوْجُودٌ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَأَوْجَبَ ذلك خَلَلًا في الرِّضَا فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَكَذَا لو بَاعَ دَارًا على أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ فإذا هو لَبِنٌ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ في الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ
وَكَذَا لو بَاعَ ثَوْبًا على أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ فإذا هو مَصْبُوغٌ بِزَعْفَرَانٍ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ مع الزعفراني ( ( ( الزعفران ) ) ) يَخْتَلِفَانِ في اللَّوْنِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا وَكَذَا لو بَاعَ حِنْطَةً في جَوْلَقٍ فإذا هو دَقِيقٌ أو شَرَطَ الدَّقِيقَ فإذا هو خُبْزٌ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مع الدَّقِيقِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الدَّقِيقُ مع الْخُبْزِ
أَلَا تَرَى إن من غَصَبَ من آخَرَ حِنْطَةً وَطَحَنَهَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمِلْكِ دَلَّ أنها تَصِيرُ بِالطَّحْنِ شيئا آخَرَ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ قال بِعْتُكَ هذه الشَّاةَ على أنها مَيْتَةٌ فإذا هِيَ ذَكِيَّةٌ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ فَلَغَتْ التَّسْمِيَةُ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الذَّكِيَّةِ وَلَوْ قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ الْقَزَّ فإذا هو مُلْحَمٌ يَنْظُرُ إنْ كان سَدَاهُ من الْقَزِّ وَلُحْمَتُهُ من غَيْرِهِ لَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ كان لُحْمَتُهُ من الْقَزِّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الثَّوْبِ هو اللُّحْمَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بها فإذا كانت لُحْمَتُهُ من غَيْرِ الْقَزِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فلم يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ وإذا كانت من الْقَزِّ فَالْجِنْسُ لم يَخْتَلِفْ فنعتبر ( ( ( فتعتبر ) ) ) الْإِشَارَةُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مَوْجُودٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ كَوْنَ السدي منه أَمْرٌ مَرْغُوبٌ فيه وقد فَاتَ فَوَجَبَ الْخِيَارُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ الْخَزَّ بِكَذَا فإذا هو مُلْحَمٌ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ إلَّا أَنَّ لُحْمَتَهُ إذَا كانت خَزًّا وَسَدَاهُ من غَيْرِهِ حتى جَازَ الْبَيْعُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِأَنَّ الْخَزَّ هَكَذَا يُنْسَجُ بِخِلَافِ الْقَزِّ
وَلَوْ بَاعَ جُبَّةً على أَنَّ بِطَانَتَهَا وَظِهَارَتَهَا كَذَا وَحَشْوَهَا كَذَا فَإِنْ كانت الظِّهَارَةُ من غَيْرِ ما شَرَطَ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِنْ كانت الْبِطَانَةُ وَالْحَشْوُ مِمَّا شَرَطَ وَإِنْ كانت الظِّهَارَةُ مِمَّا شَرَطَ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ كانت الْبِطَانَةُ وَالْحَشْوُ من غَيْرِ ما شَرَطَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الظِّهَارَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ الثَّوْبُ إلَيْهَا وَيَخْتَلِفُ الِاسْمُ بِاخْتِلَافِهَا وَإِنَّمَا الْبِطَانَةُ تَجْرِي مَجْرَى التَّابِعِ لها وَكَذَا الْحَشْوُ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عليه هو الظِّهَارَةَ وما سِوَاهَا جَارِيًا مَجْرَى الْوَصْفِ لها فَفَوَاتُهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّهُ فَاتَ شَيْءٌ مَرْغُوبٌ فيه
وَلَوْ قال بِعْتُكَ هذه الدَّارَ على أَنَّ فيها بِنَاءً فإذا لَا بِنَاءَ فيها فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فُرِّقَ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا قال بِعْتُكَ هذه الدَّارَ على أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ فإذا هو لَبِنٌ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْآجُرَّ مع اللَّبِنِ يَتَفَاوَتَانِ في الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَالْتَحَقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا يَنْعَقِدَ بَيْعُ الْحُرِّ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ من وَجْهٍ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في أُمِّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ من الثُّلُثِ نَفَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَازَ بَيْعِهَا مُطْلَقًا وَسَمَّاهَا حُرَّةً فَلَا تَكُونُ مَالًا على الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا على أَصْلِ
____________________

(5/140)


أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ حتى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْإِعْتَاقِ وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ لَا ضَمَانُ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ
وَعَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها دَبَّرَتْ مَمْلُوكَةً لها فَغَضِبَتْ عليها فَبَاعَتْهَا وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ فلم يَكُنْ الْعِتْقُ ثَابِتًا أَصْلًا قبل الْمَوْتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كما إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ بَاعَهُ قبل أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ وَكَمَا في الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرُ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ على التَّحْرِيمِ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وهو حُرٌّ من الثُّلُثِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ من وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ حُرٌّ من وَجْهٍ الِاسْتِدْلَال بِضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ وهو أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لها من سَبَبٍ وَلَيْسَ ذلك إلَّا الْكَلَامُ السَّابِقُ وَلَيْسَ هو بِتَحْرِيرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ من الْمَيِّتِ فَكَانَ تَحْرِيرًا من حِينِ وُجُودِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ من كل وَجْهٍ لِلْحَالِ إلَّا أنها تَأَخَّرَتْ من وَجْهٍ إلَى آخَرَ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ على التَّأْخِيرِ من وَجْهٍ فَبَقِيَتْ الْحُرِّيَّةُ من وَجْهٍ ثَابِتَةً لِلْحَالِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما حِكَايَةُ فِعْلٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْعَ مدبر ( ( ( مد ) ) ) مقيد ( ( ( مقيدا ) ) ) أو بَاعَ مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه الْإِجَارَةَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تُسَمَّى بَيْعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حين كان بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ السَّابِقُ إيجَابًا من حِينِ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَاحْتُمِلَ أَنْ يَمُوتَ من ذلك الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ أو لَا فَكَانَ الحظر ( ( ( الخطر ) ) ) قَائِمًا فَكَانَ تَعْلِيقًا فلم يَكُنْ إيجَابًا ما دَامَ الحظر ( ( ( الخطر ) ) ) قَائِمًا وَمَتَى اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كان تَحْرِيرًا من وَجْهٍ من حِينِ وُجُودِهِ لَكِنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا بَيْعُ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَثْبُتُ يَدُ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ عليه وَلَا بَيْعُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ مُوسِرًا كان الْمُعْتِقُ أو مُعْسِرًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنٌ
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه فَإِنْ كان الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كان مُعْسِرًا فَالْإِعْتَاقُ مُنْجَزٌ فَبَقِيَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ على مِلْكِهِ فَيَجُوزُ له بَيْعُهُ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في هَؤُلَاءِ فَهُوَ الْجَوَابُ في الْأَوْلَادِ من هَؤُلَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ على وَصْفِ الْأُمِّ وَلِهَذَا كان وَلَدُ الْحُرَّةِ حُرًّا وَوَلَدُ الْأَمَةِ رَقِيقًا وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ الْمَوْلُودِ في الْكِتَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ وَلَدِهِ المشتري في الْكِتَابَةِ وَوَالِدَتِهِ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ
وَأَمَّا من سِوَاهُمْ من ذَوِي الْأَرْحَامِ إذَا اشْتَرَاهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُمْ لم يَتَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمُشْرِكِ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ وَكَذَا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الذَّبَائِحِ
وَكَذَا ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْمَيْتَةِ وَكَذَا ما ذُبِحَ من صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كان الذَّابِحُ أو حَلَالًا وما ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ من الصَّيْدِ سَوَاءٌ كان صَيْدَ الْحَرَمِ أو الْحِلِّ لِأَنَّ ذلك مَيْتَةٌ
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كان الْبَائِعُ أو حَلَالًا لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فلم يَكُنْ مَالًا وَلَا بَيْعُ صَيْدِ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كان صَيْدَ الْحَرَمِ أو الْحِلِّ لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ في حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ مَالًا في حَقِّهِ وَلَوْ وَكَّلَ مُحْرِمٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بَاطِلٌ وهو على اخْتِلَافِهِمْ في مُسْلِمٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ فَبَاعَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ هو الْمُوَكِّلُ مَعْنًى لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ له وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عن تَمْلِيكِ الصَّيْدِ وَتَمَلُّكِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْبَائِعَ في الْحَقِيقَةِ هو الْوَكِيلُ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقِيقَةً
____________________

(5/141)


وَلِهَذَا تَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا في نَفْسِ الْحُكْمِ مع اقْتِصَارِ نَفْسِ التَّصَرُّفِ على مُبَاشَرَتِهِ حَقِيقَةً وَالْمُحْرِمُ من أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له في الصَّيْدِ حُكْمًا لَا يَتَمَلَّكُهُ حَقِيقَةً أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرِثُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّا لِلْعَبْدِ فيه صُنْعٌ وَلَا صُنْعَ له فِيمَا يُثْبِتُ حُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ
وَلَوْ بَاعَ حَلَالٌ حَلَالًا صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ كما يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْقَبْضَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ من وَجْهٍ على ما عُرِفَ فَيُلْحَقُ بِهِ في حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا
وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ قبل قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَازَ الْبَيْعُ
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَبْطُلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْقَائِمَ لَا يَمْنَعُ من جَوَازِ التَّوْكِيلِ عِنْدَهُ فالطاريء ( ( ( فالطارئ ) ) ) لَا يُبْطِلُهُ وَعِنْدَهُمَا الْقَائِمُ يَمْنَعُ فالطاريء ( ( ( فالطارئ ) ) ) يُبْطِلُهُ حَلَالَانِ تَبَايَعَا صَيْدًا في الْحِلِّ وَهُمَا في الْحَرَمِ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَرَمِ مَأْمَنًا يَمْنَعُ من التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ سَوَاءٌ كان الْمُتَعَرِّضُ في الْحَرَمِ أو الْحِلِّ بَعْدَ أَنْ كان الْمُتَعَرِّضُ في الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحَلَالِ الذي في الْحَرَمِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى الصَّيْدِ الذي في الْحِلِّ كما لَا يَحِلُّ له أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهِ إذَا كان في الْحَرَمِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ كَوْنَهُ في الْحَرَمِ يَمْنَعُ من التَّعَرُّضِ لِصَيْدِ الْحِلِّ لَكِنْ حِسًّا لَا شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ في الْحَرَمِ إذَا أَمَرَ حَلَالًا آخَرَ بِذَبْحِ صَيْدٍ في الْحِلِّ جَازَ وَلَوْ ذَبَحَ حِلٌّ أَكَلَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ في مَعْنَى التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوْقَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فلما لم يُمْنَعْ من ذلك فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ من هذا أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ من التَّعَرُّضِ إنَّمَا كان احْتِرَامًا لِلْحَرَمِ فَكُلُّ ما فيه تَرْكُ احْتِرَامِهِ يَجِبُ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عنه وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْإِيذَاءِ في الْحَرَمِ ولم يُوجَدْ في الْبَيْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا بَيْعُ لَحْمِ السَّبُعِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فلم يَكُنْ مَالًا وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعَهُ إذَا ذُبِحَ لِأَنَّهُ صَارَ طَاهِرًا بِالذَّبْحِ
وَأَمَّا جِلْدُ السَّبُعِ وَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَإِنْ كان مَدْبُوغًا أو مَذْبُوحًا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فَكَانَ مَالًا وَإِنْ لم يَكُنْ مَدْبُوغًا وَلَا مَذْبُوحًا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يُدْبَغْ ولم يُذْبَحْ بَقِيَتْ رُطُوبَاتُ الْمَيْتَةِ فيه فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَيْتَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ كَيْفَ ما كان لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَقِيلَ إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ
وَأَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَعَصَبُهَا وَشَعْرُهَا وَصُوفُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا وَخُفُّهَا وَظِلْفُهَا وَحَافِرُهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَالِانْتِفَاعُ بها عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ طَاهِرَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ نَجِسَةٌ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَهَذِهِ من أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَكُونُ حَرَامًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَنْتَفِعُوا من الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ
وَلَنَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ من بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } إلى قَوْلِهِ عز وجل { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } الْآيَةَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ هذه الْأَشْيَاءَ لنا وَمَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ فَيَدُلُّ على تَأَكُّدِ الْإِبَاحَةِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِمَوْتِهَا فإن الْمَوْتَ مَوْجُودٌ في السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَهُمَا حَلَالَان قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ بَلْ لِمَا فيها من الرُّطُوبَاتِ السَّيَّالَةِ وَالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ لِانْجِمَادِهَا بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغِ حتى يَجُوزُ بَيْعُهُ لِزَوَالِ الرُّطُوبَةِ عنه وَلَا رُطُوبَةَ في هذه الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ حَرَامًا
وَلَا حُجَّةَ له في هذا الحديث لِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ لُغَةً وَالْمُرَادُ من الْعَصَبِ حَالَ الرُّطُوبَةِ يُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا عَظْمُ الْخِنْزِيرِ وَعَصَبُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَأَمَّا شَعْرُهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ جُزْءٌ منه إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ في اسْتِعْمَالِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ
وَأَمَّا عَظْمُ الْآدَمِيِّ وَشَعْرُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ في الصَّحِيحِ من الرِّوَايَةِ لَكِنْ احْتِرَامًا له وَالِابْتِذَالُ بِالْبَيْعِ يُشْعِرُ بِالْإِهَانَةِ وقد رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ
وَأَمَّا عَظْمُ الْكَلْبِ وَشَعْرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ عَظْمِ الْفِيلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَظْمُ الْفِيلِ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ ذَكَرَهُ في الْعُيُونِ
وَيَجُوزُ بَيْعُ كل ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ مُعَلَّمًا كان أو غير مُعَلَّمٍ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا بَيْعُ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ سِوَى الْخِنْزِيرِ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْهِرِّ وَنَحْوِهَا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
____________________

(5/142)


رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ثُمَّ عِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ في رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَيَجُوزَ بَيْعُهُ كَيْفَ ما كان
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال وَمِنْ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَمَا كان ثَمَنُهُ سُحْتًا وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على جَوَازِ الْبَيْعِ كما في شَعْرِ الْخِنْزِيرِ
وَلَنَا أَنَّ الْكَلْبَ مَالٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَالٌ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ مُطْلَقٌ شَرْعًا في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ على الْإِطْلَاقِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِهِ لِأَنَّ شَرْعَهُ يَقَعُ سَبَبًا وَوَسِيلَةً لِلِاخْتِصَاصِ الْقَاطِعِ لِلْمُنَازَعَةِ إذْ الْحَاجَةُ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِيمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ لَا فِيمَا يَجُوزُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا وَنَهَى عن بَيْعِهَا مُبَالَغَةً في الزَّجْرِ أو يُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ فإنه يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ اصْطِيَادًا وَحِرَاسَةً وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا في حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَالْخِنْزِيرِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُمْنَعُونَ من بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَمَّا على قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لهم كَالْخَلِّ وَكَالشَّاةِ لنا فَكَانَ مَالًا في حَقِّهِمْ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ من أَثْمَانِهَا وَلَوْ لم يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ منهم لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ
وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ على الْعُمُومِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً في حَقِّهِمْ لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ عن بَيْعِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا ويتمولونها وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وما يَدِينُونَ
وَلَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْإِنْشَاءَ أو إنْشَاءٌ من وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا
وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ ما بَقِيَ من الرِّبَا هو النَّهْيُ عن قَبْضَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } وإذا حَرُمَ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُبْطِلَهُ الْقَاضِي كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قبل الْقَبْضِ
وَلَوْ كان إسْلَامُهُمَا أو إسْلَامُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ مَضَى الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قد ثَبَتَ على الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ في حَالَةِ الْكُفْرِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي ذلك فإن من تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ فيها وَلَوْ أَقْرَضَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ وَلَا شَيْءَ له من قِيمَةِ الْخَمْرِ على الْمُسْتَقْرِضِ
أَمَّا سُقُوطُ قِيمَةِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عن قَبْضِ الْمِثْلِ جاء من قِبَلِهِ فَلَا شَيْءَ له وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُسْتَقْرِضُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَسْقُطُ الْخَمْرُ وَلَيْسَ عليه قِيمَةُ الْخَمْرِ أَيْضًا كما لو أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعَافِيَةُ بن زِيَادٍ الْقَاضِي عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عليه قِيمَةَ الْخَمْرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّسْلِيمِ من الْمُسْتَقْرِضِ إنَّمَا جاء لِمَعْنًى من قِبَلِهِ وهو إسْلَامُهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عليه خَمْرَهُ وَالْمُسْلِمُ إذَا اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَسْلِيمِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ منه وَلَا إلَى الْقِيمَةِ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ مِلْكَ الْمُسْتَقْرِضِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ منه وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْقِرْدُ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَتَانِ
وَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونَ مَالًا كَالْخِنْزِيرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ بِذَاتِهِ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا يشتري لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ عَادَةً بَلْ لِلَّهْوِ بِهِ وهو حَرَامٌ فَكَانَ هذا بَيْعَ الْحَرَامِ لِلْحَرَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفِيلِ
____________________

(5/143)


بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَجَمِيعِ هَوَامِّ الْأَرْضِ كَالْوَزَغَةِ وَالضَّبِّ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالْقُنْفُذِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ الِانْتِفَاعُ بها شَرْعًا لِكَوْنِهَا من الْخَبَائِثِ فلم تَكُنْ أَمْوَالًا فلم يَجُزْ بَيْعُهَا
وَذُكِرَ في الفتاوي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الحياة ( ( ( الحية ) ) ) التي يُنْتَفَعُ بها لِلْأَدْوِيَةِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يُجْعَلْ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْبَيْعِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّا يَكُونُ في الْبَحْرِ كَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ إلَّا السَّمَكَ وما يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ أو عَظْمِهِ لِأَنَّ ما لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَلَا بِهِ وَلَا بِعَظْمِهِ لَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ
وقد رُوِيَ أَنَّ النبي سُئِلَ عن الضِّفْدَعِ يُجْعَلُ في دَوَاءٍ فَنَهَى عنه وقال خَبِيثَةٌ من الْخَبَائِثِ
وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الإسكاف ( ( ( الإسكافي ) ) ) رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى بأنه يَجُوزُ لِأَنَّ الناس يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ النَّحْلِ إلَّا إذَا كان في كُوَّارَتِهِ عَسَلٌ فَبَاعَ الْكُوَّارَةَ بِمَا فيها من الْعَسَلِ وَالنَّحْلِ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا من غَيْرِ كُوَّارَتِهِ إذَا كان مَجْمُوعًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ
وَلَنَا أَنَّهُ ليس بِمُنْتَفَعٍ بِهِ فلم يَكُنْ مَالًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَا يَحْدُثُ منه وهو مَعْدُومٌ حتى لو بَاعَهُ مع الْكُوَّارَةِ وَفِيهَا عَسَلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْعَسَلِ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِهِ مُفْرَدًا وَيَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مع غَيْرِهِ كَالشُّرْبِ وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا فقال إنَّمَا يَدْخُلُ فيه تَبَعًا إذَا كان من حُقُوقِهِ كما في الشُّرْبِ مع الْأَرْضِ وَهَذَا ليس من حُقُوقِهِ
وَعَلَى هذا بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كان معه قَزٌّ وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا وَالْحُجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في النَّحْلِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ بَذْرِ الدُّودِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كما لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدُّودِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَوَجْهُ الْكَلَامِ فيه على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في بَيْعِ النَّحْلِ وَالدُّودِ وَيَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ وَالْبَعْرِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بها بِحَالٍ فَلَا تَكُونُ مَالًا إلَّا إذَا كان مَخْلُوطًا بِالتُّرَابِ وَالتُّرَابُ غَالِبٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُلُّ شَيْءٍ أَفْسَدَهُ الْحَرَامُ وَالْغَالِبُ عليه الْحَلَالُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ وَنُبَيِّنُ ذلك وما كان الْغَالِبُ عليه الْحَرَامَ لم يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ كَالْفَأْرَةِ إذَا وَقَعَتْ في الْعَجِينِ وَالسَّمْنِ الْمَائِعِ
وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الزَّيْتِ إذَا وَقَعَ فيه وَدَكُ الْمَيْتَةِ أنه إنْ كان الزَّيْتُ غَالِبًا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كان الْوَدَكُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْحَلَالَ إذَا كان هو الْغَالِبَ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ استصباحا ( ( ( استصحابا ) ) ) وَدَبْغًا على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وإذا كان الْحَرَامُ هو الْغَالِبَ لم يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فلم يَكُنْ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ آلَاتِ الْمَلَاهِي من الْبَرْبَطِ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ وَنَحْوِ ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ هذه الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا آلَاتٌ مُعَدَّةٌ لِلتَّلَهِّي بها مَوْضُوعَةٌ لِلْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فَلَا تَكُونُ أَمْوَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها شَرْعًا من جِهَةٍ أُخْرَى بِأَنْ تُجْعَلَ ظُرُوفًا لِأَشْيَاءَ وَنَحْوِ ذلك من الْمَصَالِحِ فَلَا تَخْرُجُ عن كَوْنِهَا أَمْوَالًا وَقَوْلُهُمَا أنها آلَاتُ التَّلَهِّي وَالْفِسْقِ بها قُلْنَا نعم لَكِنَّ هذا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَالِيَّتِهَا كَالْمُغَنِّيَاتِ وَالْقِيَانِ وَبَدَنِ الْفَاسِقِ وَحَيَاتِهِ وَمَالِهِ وَهَذَا لِأَنَّهَا كما تَصْلُحُ لِلتَّلَهِّي تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ على مَالِيَّتِهَا بِجِهَةِ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بها لَا بِجِهَةِ الْحُرْمَةِ وَلَوْ كَسَرَهَا إنْسَانٌ ضَمِنَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ بَيْعُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا من وَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ يُجْعَلَ صَنَجَاتِ الْمِيزَانِ فَكَانَ مَالًا من هذا الْوَجْهِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ وَيَجُوزُ بَيْعُ ما سِوَى الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمُنَصَّفِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ شُرْبُهَا لم تَكُنْ مَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْخَمْرِ وَلِأَنَّ ما حَرُمَ شُرْبُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وباعوعا ( ( ( وباعوها ) ) ) وَإِنَّ اللَّهَ تعالى إذَا حَرَّمَ شيئا حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأَكْلَ ثَمَنِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ هذه الْأَشْرِبَةِ ما ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مُتَيَقَّنٍ مَقْطُوعٍ بِهِ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ
____________________

(5/144)


وَالْمَالِيَّةُ قبل حُدُوثِ الشِّدَّةِ كانت ثَابِتَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ بِالِاجْتِهَادِ فَبَقِيَتْ أَمْوَالًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الحديث مُحَرَّمٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَطَلَتْ مَالِيَّتُهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ الذي وَرَدَ النَّهْيُ عنه لِأَنَّ الْمَضْمُونَ ما في صُلْبِ الذَّكَرِ وَالْمَلْقُوحَ ما في رَحِمِ الْأُنْثَى وَذَلِكَ ليس بِمَالٍ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ لِأَنَّ الْعَسْبَ هو الضرب ( ( ( الضراب ) ) ) وَأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وقد يُخَرَّجُ على هذا بَيْعُ الْحَمْلِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْحَمْلَ ليس بِمَالٍ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ لَبَنِ الْمَرْأَةِ في قَدَحٍ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ وَالْمَاءِ
وَلَنَا أَنَّ اللَّبَنَ ليس بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِمَالٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّهُمَا حَكَمَا في وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِالْقِيمَةِ وَبِالْعَقْرِ بِمُقَابَلَةِ الْوَطْءِ وما حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ اللَّبَنِ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَلَوْ كان مَالًا لَحَكَمَا لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ اتلاف مَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَكَانَ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَتِهِ أَوْلَى من إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَكَانَتْ حَاجَةُ المستحقي ( ( ( المستحق ) ) ) إلَى ضَمَانِ الْمَالِ أَوْلَى وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ بَلْ لِضَرُورَةِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وما كان حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا يَكُونُ مَالًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الناس لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا وَلَا يُبَاعُ في سُوقٍ ما من الْأَسْوَاقِ دَلَّ أَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ من الْآدَمِيِّ وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ وَلَيْسَ من الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ لَا فَرْقَ بين لَبَنِ الْحُرَّةِ وَبَيْنَ لَبَنِ الْأَمَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ من آدَمِيٍّ هو مَالٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْآدَمِيَّ لم يُجْعَلْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا بِحُلُولِ الرِّقِّ فيه وَالرِّقُّ لَا يَحِلُّ إلَّا في الْحَيِّ وَاللَّبَنُ لَا حَيَاةَ فيه فَلَا يُحِلُّهُ الرِّقُّ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ

سُفْلٌ وَعُلْوٌ بين رَجُلَيْنِ انْهَدَمَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ ليس بِمَالٍ وَلَوْ جَمَعَ بين ما هو مَالٌ وَبَيْنَ ما ليس بِمَالٍ في الْبَيْعِ بِأَنْ جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ أو بين عَصِيرٍ وَخَمْرٍ أو بين ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَإِنْ لم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ لم يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ بَيَّنَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ في الْعَصِيرِ وَالْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ وَيَبْطُلُ في الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَلَوْ جَمَعَ بين قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ أو أُمِّ وَلَدٍ وَمُكَاتَبٍ أو بين عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً جَازَ الْبَيْعُ في عَبْدِهِ بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ وَالْمُفْسِدُ خَصَّ أَحَدَهُمَا فَلَا يَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ مع خُصُوصِ الْعِلَّةِ فَلَوْ جاء الْفَسَادُ إنَّمَا يَجِيءُ من قِبَلِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ فإذا بَيَّنَ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ فَقَدْ زَالَ هذا الْمَعْنَى أَيْضًا وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ أو الْمُكَاتَبِ أو أُمِّ الْوَلَدِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وقد فَسَدَتْ في أَحَدِهِمَا فَلَا تَصِحُّ في الْآخَرِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لم يَتَكَرَّرْ وَالْبَائِعُ وَاحِدٌ وَالْمُشْتَرِي وَاحِدٌ وَتَفْرِيقُ الثَّمَنِ وهو التَّسْمِيَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ دَلَّ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وقد فَسَدَتْ في أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ لِخُرُوجِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ عن مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ فَلَا يَصِحُّ في الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ صَحِيحَةً وَفَاسِدَةً وَلِهَذَا لم يَصِحَّ إذَا لم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَذَا إذَا سَمَّى لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَتَفْرِيقَ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ لِاتِّحَادِ الْبَيْعِ وَالْعَاقِدَيْنِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بين الْعَبِدِ وَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّ هُنَاكَ الصَّفْقَةَ ما فَسَدَتْ في أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ الذي يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ فَاعْتُبِرَ هذا الِاحْتِمَالُ في تَصْحِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُدَبَّرِ لِيَظْهَرَ في حَقِّ الْقِنِّ إنْ لم يُمْكِنْ إظْهَارُهُ في حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا في الصَّفْقَةِ فقد جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ في أَحَدِهِمَا شَرْطَ الْقَبُولِ في الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قَبِلَ الْعَقْدَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ وَالْحُرُّ لَا يُحْتَمَلُ قَبُولُ الْعَقْدِ فيه فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ في الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فيه في الْجُمْلَةِ فَصَحَّ قَبُولُ الْعَقْدِ فيه إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ فيه بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ في الْقِنِّ وَلِأَنَّ في تَصْحِيحِ الْعَقْدِ في
____________________

(5/145)


أَحَدِهِمَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِيهِمَا فَالْقَبُولُ في أَحَدِهِمَا يَكُونُ تَفْرِيقًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ ما إذَا جَمَعَ بين الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْبَيْعِ فيه لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا له إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذْ لِلْحَالِ مع احْتِمَالِ النَّفَاذِ في الْجُمْلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ وَهَذَا يَمْنَعُ مَحَلِّيَّةَ الْقَبُولِ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في صَاحِبِهِ فَيُجْعَلُ مَحَلًّا في حَقِّ صَاحِبِهِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا يَخْتَلِفُ بين أَنْ يسمى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أو لَا يُسَمِّيَ وَهُنَاكَ لَا يَخْتَلِفُ دَلَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا
وَعَلَى هذا الْخِلَافُ إذَا جَمَعَ بين شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَبَيْنَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ثُمَّ إذَا جَازَ الْبَيْعُ في أَحَدِهِمَا عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فيه إنْ عَلِمَ بِالْحَرَامِ يَثْبُتْ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عليه وَإِنْ لم يَعْلَمْ لَا لِأَنَّهُ رضي بِالتَّفْرِيقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَلَا يَنْعَقِدُ فِيمَا ليس بِمَمْلُوكٍ كَمَنْ بَاعَ الْكَلَأَ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ وَالْمَاءَ الذي في نَهْرِهِ أو في بِئْرِهِ لِأَنَّ الْكَلَأَ وَإِنْ كان في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ ما لم يُوجَدْ الْإِحْرَازُ
قال النبي الناس شُرَكَاءُ في ثَلَاثٍ وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ سواء ( ( ( وسواء ) ) ) خَرَجَ الْكَلَأُ بِمَاءِ السَّمَاءِ من غَيْرِ مُؤْنَةٍ أو سَاقَ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ وَلَحِقَهُ مُؤْنَةٌ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إلَيْهِ ليس باحراز فلم يُوجَدْ سَبَبُ الْمِلْكِ فيه فَبَقِيَ مُبَاحًا كما كان وَكَذَا بَيْعُ الْكَمْأَةِ وَبَيْعُ صَيْدٍ لم يُوجَدْ في أَرْضِهِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيه وَكَذَا بَيْعُ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصُّيُودِ التي في الْبَرَارِي وَالطَّيْرِ الذي لم يُصَدْ في الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ الذي لم يُوجَدْ في الْمَاءِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّةَ وَإِجَارَتُهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعُمُومَاتِ الْبَيْعِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين أَرْضِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَرَاضِي كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَمَلُّكُ بَعْضِهَا شَرْعًا لِعَارِضِ الْوَقْفِ كَالْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا ولم يُوجَدْ في الْحَرَمِ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يوم خَلَقَهَا لم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قبلى وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ وَهِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ وَالْحَرَامُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال مَكَّةُ حَرَامٌ وَبَيْعُ رِبَاعِهَا حَرَامٌ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَضَعَ لِلْحَرَمِ حُرْمَةً وَفَضِيلَةً وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَأْمَنًا قال اللَّهُ تَبَارَك وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } فَابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ والتلميك ( ( ( والتمليك ) ) ) وَالتَّمَلُّكِ امْتِهَانٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرَاضِي وَقِيلَ إنَّ بُقْعَةَ مَكَّةَ وَقْفٌ حَرَمُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا حُجَّةَ في الْعُمُومَاتِ لِأَنَّهُ خُصَّ منها الْحَرَمُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ بَيْعُ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْحَرَمَ لِلْبُقْعَةِ لَا لِلْبِنَاءِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُرِهَ إجَارَةُ بُيُوتِ مَكَّةَ في الْمَوْسِمِ من الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فَأَمَّا من الْمُقِيمِ وَالْمُجَاوِرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِي الْخَرَاجِ والقطيع ( ( ( والقطيعة ) ) ) وَالْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِكَارَةِ وَالْمُرَادُ من الْخَرَاجِ أَرْضُ سَوَادِ الْعِرَاقِ التي فَتَحَهَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه لِأَنَّهُ مَنَّ عليهم وَأَقَرَّهُمْ على أَرَاضِيهِمْ فَكَانَتْ مُبْقَاةً على مِلْكِهِمْ فَجَازَ لهم بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْقَطِيعَةِ هِيَ الْأَرْضُ التي قَطَعَهَا الْإِمَامُ لِقَوْمٍ وَخَصَّهُمْ بها فَمَلَكُوهَا بِجُعْلِ الْإِمَامِ لهم فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ أَرْضَهُ إلَى من يَزْرَعُهَا وَيَقُومُ بها وَبِهَذَا لَا تَخْرُجُ عن كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً وَأَرْضُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْأَرْضُ التي يَأْخُذُهَا الْإِنْسَانُ من صَاحِبِهَا لِيَعْمُرَهَا وَيَزْرَعَهَا وَأَرْضُ الْإِكَارَةِ التي في أَيْدِي الْأَكَرَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ هذه الْأَرْضِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِأَصْحَابِهَا
وَأَمَّا أَرْضُ الْمَوَاتِ التي أَحْيَاهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ في كِتَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ بَغْدَادَ وَحَوَانِيتِ السُّوقِ التي لِلسُّلْطَانِ عليها غَلَّةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ أَذِنَ لِلنَّاسِ في بِنَائِهَا ولم يَجْعَلْ الْبُقْعَةَ مِلْكًا لهم وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا وهو شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ عِنْدَ
____________________

(5/146)


الْبَيْعِ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا يَنْعَقِدْ وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذلك بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً وَهَذَا بَيْعُ ما ليس عِنْدَهُ وَنَهَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ
وَلَوْ بَاعَ الْمَغْصُوبَ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قد تَقَدَّمَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَهَهُنَا تَأَخَّرَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَائِعًا ما ليس عِنْدَهُ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ وَالْمُرَادُ منه بَيْعُ ما ليس عِنْدَهُ مِلْكًا لِأَنَّ قِصَّةَ الحديث تَدُلُّ عليه فانه روى أَنَّ حَكِيمَ بن حِزَامٍ كان يَبِيعُ الناس أَشْيَاءَ لَا يَمْلِكُهَا وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ منهم ثُمَّ يَدْخُلُ السُّوقَ فَيَشْتَرِي وَيُسَلِّمَ إلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ فقال لَا تَبِعْ ما ليس عِنْدَكَ وَلِأَنَّ بَيْعَ ما ليس عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عن نَفْسِهِ تَمْلِيكُ ما لَا يَمْلِكُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ وهو الشَّرْطُ فِيمَا يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عن نَفْسِهِ
فَأَمَّا ما يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن غَيْرِهِ يُنْظَرُ إنْ كان الْبَائِعُ وَكِيلًا وَكَفِيلًا فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ ليس بِشَرْطٍ وَإِنْ كان فُضُولِيًّا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَنَا بَلْ هو من شَرَائِطِ النَّفَاذ فإن بَيْعَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ على إجَازَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ كان مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدْ وَإِنْ كان مَمْلُوكًا له كَبَيْعِ الْآبِقِ في جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ حتى لو ظَهَرَ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي فَإِنْ لم يَتَرَاضَيَا وَامْتَنَعَ الْبَائِعُ من التَّسْلِيمِ لَا يُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ وَلَوْ سَلَّمَ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي من الْقَبْضِ لَا يُجْبَرُ على الْقَبْضِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْآبِقِ حتى لو ظَهَرَ وَسُلِّمَ يَجُوزُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْبَيْعِ إلَّا إذَا كان الْقَاضِي فَسَخَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي فَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَعَجَزَ عن التَّسْلِيمِ فَفَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ يَنْفُذُ وَلَوْ وَهَبَهُ من وَلَدِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ وكان مِلْكًا له فَقَدْ بَاعَ مَالًا مَمْلُوكًا له إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ عن التَّسْلِيمِ فَإِنْ سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ وَصَارَ كَبَيْعِ الْمَغْصُوبِ الذي في يَدِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على التَّسْلِيمِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقُدْرَةَ على التَّسْلِيمِ لِذَا الْعَاقِدِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا لِفَائِدَةٍ وَلَا يُفِيدُ إذَا لم يَكُنْ قَادِرًا على التَّسْلِيمِ وَالْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ ثَابِتٌ حَالَةَ الْعَقْدِ وفي حُصُولِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذلك شَكٌّ وَاحْتِمَالٌ قد يَحْصُلُ وقد لَا يَحْصُلُ وما لم يَكُنْ مُنْعَقِدًا بِيَقِينٍ لَا يَنْعَقِدُ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ ما لم يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ ما إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على التَّسْلِيمِ كانت ثَابِتَةً لِذَا الْعَقْدِ فَانْعَقَدَ ثُمَّ زَالَتْ على وَجْهٍ يَحْتَمِلُ عَوْدَهَا فَيَقَعُ الشَّكُّ في زَوَالِ الْمُنْعَقِدِ بِيَقِينٍ
وَالثَّابِتُ بِالْيَقِينِ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَهُوَ الْفَرْقُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ من غَيْرِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على التَّسْلِيمِ حتى لو سَلَّمَ يَنْفُذُ وَلِأَنَّ هُنَاكَ الْمَالِكَ قَادِرٌ على التَّسْلِيمِ بقدره السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ يَدِ الْغَاصِبِ صُورَةً فإذا سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ مَعْجُوزُ التَّسْلِيمِ على الْإِطْلَاقِ إذْ لَا تَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٍ لِمَا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ فَكَانَ الْعَجْزُ مُتَقَرِّرًا وَالْقُدْرَةُ مُحْتَمَلَةٌ مَوْهُومَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ مع الأحتمال فَأَشْبَهَ بَيْعُ الْآبِقِ بَيْعَ الطَّيْرِ الذي لم يُوجَدْ في الْهَوَاءِ وَبَيْعَ السَّمَكِ الذي لم يُوجَدْ في الْمَاءِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هذا
وَلَوْ جاء إنْسَانٌ إلَى مولى الْعَبْدِ فقال إنَّ عَبْدَكَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي وأنا أَقْبِضُهُ منه فَصَدَّقَهُ وَبَاعَهُ منه لَا يَنْفُذُ لِمَا فيه من عُذْرِ الْقُدْرَةِ على الْقَبْضِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حتى لو قَبَضَهُ يَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على الْقَبْضِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ في زَعْمِ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الْمَنْعِ قَائِمٌ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا على قَبْضِهِ فإذا قَبَضَهُ تَحَقَّقَ ما زَعَمَهُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْعَجْزَ عن التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ مُتَحَقِّقٌ فَيَمْنَعُ الِانْعِقَادَ
وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَجَاءَ إلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَاهُ منه جَازَ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ ولم يُوجَدْ في حَقِّهِ وَهَذَا الْبَيْعُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ عن بَيْعِ الْآبِقِ وَهَذَا ليس بِآبِقٍ في حَقِّهِ ثُمَّ إذَا اشْتَرَى منه لَا يَخْلُو إمَّا أن أَحْضَرَ الْعَبْدَ مع نَفْسِهِ وَإِمَّا أن لم يُحْضِرْهُ فَإِنْ أَحْضَرَهُ صَارَ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ وَإِنْ لم يُحْضِرْهُ مع نَفْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كان أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ على صَاحِبِهِ وَأَشْهَدَ على ذلك لَا يَصِيرُ قَابِضًا له ما لم يَصِلْ إلَيْهِ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ
____________________

(5/147)


لَا يَنُوبُ عن قَبْضِ الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ من التَّجْدِيدِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ حتى لو هَلَكَ الْعَبْدُ قبل الْوُصُولِ يَهْلِكُ على الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قبل الْقَبْضِ
وإذا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ قَابِضًا له بِنَفْسِ الْوُصُولِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بِالْبَرَاجِمِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هو التَّمْكِينُ وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً وَإِنْ كان أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِيَرُدَّهُ على صَاحِبِهِ صَارَ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ حتى لو هَلَكَ قبل الْوُصُولِ إلَيْهِ يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ وَقَبْضُ الشِّرَاءِ أَيْضًا قَبْضُ الضَّمَانِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانِ فَتَنَاوَبَا
وَلَوْ كان أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ وَلَكِنَّهُ لم يُشْهِدْ على ذلك فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يَصِيرُ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ لِأَنَّ هذا قَبْضُ ضَمَانٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا بَعْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لِأَنَّ هذا قَبْضُ أَمَانَةٍ عِنْدَهُمَا وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِبَاقِ وَاللُّقَطَةِ
وَعَلَى هذا بَيْعُ الطَّائِرِ الذي كان في يَدِهِ وَطَارَ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ وَعَلَى هذا بَيْعُ السَّمَكَةِ التي أَخَذَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا في حَظِيرَةٍ سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ الْخُرُوجَ عنها أو لَا بَعْدَ أَنْ كان لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِدُونِ الِاصْطِيَادِ وَإِنْ كان يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا من غَيْرِ اصْطِيَادٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ كَذَا الْبَيْعُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ بَيْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَجْتَمِعُ في الضَّرْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ شيئا فَشَيْئًا فَيَخْتَلِطَ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ على وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَكَذَا بَيْعُ الصُّوفِ على ظَهْرِ الْغَنَمِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ يَنْمُو سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ بِالْحَادِثِ بَعْدَهُ على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالْجَزِّ وَالنَّتْفِ استخراج ( ( ( واستخراج ) ) ) أَصْلِهِ وهو غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الصُّوفِ على ظَهْرِ الْغَنَمِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَهُ وَالصُّلْحَ عليه لِأَنَّهُ يَجُوزُ جَزُّهُ قبل الذَّبْحِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَبَيْعِ الْقَصِيلِ في الْأَرْضِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْقَصِيلِ وَالصُّوفِ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّوفَ لَا يُمْكِنُ جَزُّهُ من أَصْلِهِ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الشَّاةَ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن مَالٍ حُكْمِيٍّ في الذِّمَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ وَكُلُّ ذلك غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ في حَقِّ الْبَائِعِ
وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ على الْمَدْيُونِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ على غَيْرِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عليه لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ هَهُنَا وَنَظِيرُ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَنَّهُ يَصِحُّ من الْغَاصِبِ وَلَا يَصِحُّ من غَيْرِهِ إذَا كان الْغَاصِبُ مُنْكِرًا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فيه لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه مَبِيعٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُجَمَّدِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْمُجَمَّدَةَ أَوَّلًا إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَّا إذَا بَاعَ ثُمَّ سَلَّمَ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضَهُ يَذُوبُ فَلَا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِ جَمِيعِهِ إلَى الْمُشْتَرِي وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ من يَوْمِهِ ذلك يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّمَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ في الْيَوْمِ لَا يَنْقُصُ نُقْصَانًا له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى النَّفَاذِ فَنَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ أو الْوِلَايَةُ أَمَّا الْمِلْكُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْمَالِكَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا حتى لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ وَأَصْلُ هذا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ التي لها مُجِيزٌ حَالَةَ الْعَقْدِ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ على إجَازَةِ الْمُجِيزِ من الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَجَازَ يَنْفُذْ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصَرُّفَاتُهُ بَاطِلَةٌ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمِلْكِ أو بِالْوِلَايَةِ ولم يُوجَدْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَصِحَّ وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ هو اعْتِبَارُهُ في حَقِّ الْحُكْمِ الذي وُضِعَ له شَرْعًا لَا يُعْقَلُ لِلصِّحَّةِ مَعْنًى سِوَى هذا
فَأَمَّا الْكَلَامُ الذي لَا حُكْمَ له لَا يَكُونُ صَحِيحًا شَرْعًا وَالْحُكْمُ الذي وُضِعَ له الْبَيْعُ شَرْعًا وهو الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ حَالَ وُجُودِهِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وهو الْمِلْكُ أو الْوِلَايَةُ فلم يَصِحَّ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ شِرَاؤُهُ فَكَذَا بَيْعُهُ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ }
____________________

(5/148)


شَرَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا وُجِدَ من الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَبَيْنَ ما إذَا وُجِدَ من الْوَكِيلِ في الِابْتِدَاءِ أو بين ما إذَا وُجِدَتْ الإجازة ( ( ( الإجارة ) ) ) من الْمَالِكِ في الِانْتِهَاءِ وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا في التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أو بَعْدَهُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهَا إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بن حِزَامٍ رضي اللَّهُ عنه وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ إلَى النبي فَدَعَا له بِالْبَرَكَةِ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَارَكَ اللَّهُ في صَفْقَةِ يَمِينِكَ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَكُنْ حَكِيمٌ مَأْمُورًا بِبَيْعِ الشَّاةِ فَلَوْ لم يَنْعَقِدْ تَصَرُّفُهُ لَمَا بَاعَ وَلَمَا دَعَا له رسول اللَّهِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ على ما فَعَلَ ولا ( ( ( ولأنكر ) ) ) أنكر عليه لِأَنَّ الْبَاطِلَ يُنْكَرُ وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ على الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ ما أَمْكَنَ وقد أَمْكَنَ حَمْلُهُ على الْأَحْسَنِ هَهُنَا وقد قَصَدَ الْبِرَّ بِهِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ على ما هو خَيْرٌ لِلْمَالِكِ في زَعْمِهِ لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ إلَى ذلك لَكِنْ لم يَتَبَيَّنْ إلَى هذه الْحَالَةِ لِمَوَانِعَ وقد يَغْلِبُ على ظَنِّهِ زَوَالُ الْمَانِعِ فَأَقْدَمَ عليه نَظَرًا لِصَدِيقِهِ وَإِحْسَانًا إلَيْهِ لِبَيَانِ الْمَحْمَدَةِ وَالثَّنَاءِ لِتُحْمَلَ مُؤْنَةُ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ الذي هو مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَالثَّوَابُ من اللَّهِ عز وجل بِالْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وقال تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } إلَّا أَنَّ في هذه التَّصَرُّفَاتِ ضَرَرًا في الْجُمْلَةِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ في الْأَعْيَانِ وقد يُقْدِمُ الرَّجُلُ على شَيْءٍ ظَهَرَتْ له الْحَاجَةُ عنه بِإِزَالَتِهِ عن مِلْكِهِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِدُونِ ذلك وَنَحْو ذلك فَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَالِكِ حتى لو كان الْأَمْرُ على ما ظَنَّهُ مُبَاشِرَ التَّصَرُّفِ إجَازَةً وَحَصَلَ له النَّفْعُ من جِهَتِهِ فَيَنَالُ الثَّوَابَ وَالثَّنَاءَ وَإِلَّا فَلَا يُجِيزُهُ وَيُثْنِي عليه بِقَصْدِ الْإِحْسَانِ وَإِيصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِهْدَارِ هذا التَّصَرُّفِ وَإِلْحَاقُ كَلَامِهِ وَقَصْدُهُ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ وَقَصْدِهِمْ مع نَدْبِ اللَّهِ عز وجل إلَى ذلك وَحَثِّهِ عليه لِمَا تَلَوْنَا من الْآيَاتِ
وَقَوْلُهُ صِحَّةُ التَّصَرُّفِ عِبَارَةٌ عن اعْتِبَارِهِ في حَقِّ الْحُكْمِ
قُلْنَا نعم وَعِنْدَنَا هذا التَّصَرُّفُ مُفِيدٌ في الْجُمْلَةِ وهو ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ الْمَالِكُ بِزَوَالِهِ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ أما من كل وَجْهٍ أو من وجه ( ( ( بوجه ) ) ) لَكِنْ لَا يَظْهَرُ شَيْءٌ من ذلك عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وهو تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا أَنْ يَتَوَقَّفَ في الْجَوَابِ في الْحَالِ أَنَّهُ صَحِيحٌ في حَقِّ الْحُكْمِ أَمْ لَا وَلَا يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَهَذَا جَائِزٌ وَلَهُ نَظَائِرُ في الشَّرْعِ وهو الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أو الْمُشْتَرِي على ما عُرِفَ
وَأَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا بِشَرَائِطَ
منها أَنْ يَكُونَ له مُجِيزٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فما لَا مُجِيزَ له عِنْدَ وُجُودِهِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّ ماله مُجِيزٌ مُتَصَوَّرٌ منه الْإِذْنُ لِلْحَالِ وَبَعْدَ وُجُودِ التَّصَرُّفِ فَكَانَ الِانْعِقَادُ عِنْدَ الْإِذْنِ الْقَائِمِ مُفِيدًا فَيَنْعَقِدُ وما لَا مُجِيزَ له لَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ بِهِ لِلْحَالِ وَالْإِذْنُ في الْمُسْتَقْبَلِ قد يَحْدُثُ وقد لَا يَحْدُثُ فَإِنْ حَدَثَ كان الِانْعِقَادُ مُفِيدًا وَإِنْ لم يَحْدُثْ لم يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يَنْعَقِدْ مع الشَّكِّ في حُصُولِ الْفَائِدَةِ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ ما لم يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ وإذا لم يَنْعَقِدْ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لِلْمُنْعَقِدِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا طَلَّقَ الْفُضُولِيُّ امْرَأَةَ الْبَالِغِ أو أَعْتَقَ عَبْدَهُ أو وَهَبَ مَالَهُ أو تَصَدَّقَ بِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ هذه التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ لها مُجِيزًا حَالَ وُجُودِهَا فَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَالِكِ وَبِمِثْلِهِ لو فَعَلَ ذلك على الصَّبِيِّ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ هذه التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى لو فَعَلَ ذلك بِنَفْسِهِ لَا تَنْعَقِدُ فلم يَكُنْ لها مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا فلم تَنْعَقِدْ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عليه إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ أو اشْتَرَى أو تَزَوَّجَ امْرَأَةً أو زَوَّجَ أَمَتَهُ أو كَاتَبَ عَبْدَهُ أو فَعَلَ بِنَفْسِهِ ما لو فَعَلَ عليه وَلِيُّهُ لَجَازَ عليه يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ ما دَامَ صَغِيرًا أو على إجَازَتِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إنْ لم يُوجَدْ من وَلِيِّهِ في حَالِ صِغَرِهِ حتى لو بَلَغَ الصَّبِيُّ قبل إجَازَةِ الْوَلِيِّ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ جَازَ وَلَا يَتَوَقَّفُ على نَفْسِ الْبُلُوغِ من غَيْرِ إجَازَةٍ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لها مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَهَا وَلِيُّهُ جَازَتْ فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ على الْإِجَازَةِ وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ على إجَازَتِهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا بَعْدَ الْبُلُوغِ كما يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ في حَالِ صِغَرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ فَقَدْ مَلَكَ الْإِنْشَاءَ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ وَلِأَنَّ وَلَايَتَهُ على نَفْسِهِ فَوْقَ وَلَايَةِ وَلِيِّهِ عليه في حَالِ صِغَرِهِ فلما
____________________

(5/149)


جَازَ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِإِجَازَةِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لها حُكْمُ الْإِنْشَاءِ من وَجْهٍ وَأَنَّهُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَالْبُلُوغُ ليس صُنْعَهُ فَلَا يَعْقِلُ إجَازَةً
وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الصَّبِيُّ وَكِيلًا بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ قبل بُلُوغِ الصَّبِيِّ أو بَعْدَهُ تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ فإنه لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ على الْوَكِيلِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا على الْوَكِيلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إلَّا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ فَأَجَازَ التَّوْكِيلَ ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بَعْدَ ذلك فَيَكُونَ الشِّرَاءُ لِلصَّبِيِّ لَا لِلْوَكِيلِ لِأَنَّ إجَازَةَ الْوَكَالَةِ منه بَعْدَ الْبُلُوغِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّوْكِيلِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً لَكَانَ الشِّرَاءُ له لَا لِلْوَكِيلِ كَذَا هذا وَبِمِثْلِهِ إذَا طَلَّقَ الصَّبِيُّ امْرَأَتَهُ أو خَالَعَهَا أو أَعْتَقَ عَبْدَهُ على غَيْرِ مَالٍ أو على مَالٍ أو وَهَبَ مَالَهُ أو تَصَدَّقَ بِهِ أو زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً أو بَاعَ مَالَهُ بِمُحَابَاةٍ أو اشْتَرَى شيئا بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ عَادَةً أو غَيْرِ ذلك من التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لو فَعَلَهُ وَلِيُّهُ في حَالِ صِغَرِهِ لَا يَجُوزُ عليه لَا يَنْعَقِدُ حتى لو أَجَازَ وَلِيُّهُ أو الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يصح ( ( ( يحل ) ) ) لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ ليس لها مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ على الْإِجَازَةِ إلَّا إذَا أَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِلَفْظٍ يَصْلُحُ لِلْإِنْشَاءِ بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْقَعْتُ ذلك الطَّلَاقَ أو ذلك الْعَتَاقَ فَيَجُوزَ وَيَكُونَ ذلك إنْشَاءَ الْإِجَازَةِ وَلَوْ وَكَّلَ الصَّبِيُّ وَكِيلًا بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ يُنْظَرُ إنْ فَعَلَ قبل الْبُلُوغِ لَا يَتَوَقَّفْ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ وَلَوْ فَعَلَ الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ فَكَذَا إذَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ وَإِنْ فَعَلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَتَوَقَّفْ على إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ على الْبَائِعِ وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَأَجَازَ التَّوْكِيلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قبل أَنْ يَفْعَلَ الْوَكِيلُ شيئا ثُمَّ فَعَلَ جَازَ لِأَنَّ إجَازَةَ التَّوْكِيلِ منه بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ وَكَذَا وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ لَا مُجِيزَ له حَالَ وُجُودِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَ الْوَلِيُّ لَا يَجُوزُ عليه فَلَا يَتَوَقَّفُ وَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ أو أَضَافَهَا إلَى حَالِ الْبُلُوغِ لِمَا قُلْنَا حتى لو أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ قبل الْبُلُوغِ أو بَعْدَهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ إلَّا إذَا بَلَغَ وَأَجَازَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَتَجُوزُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ منه بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ وَلَوْ أَنْشَأَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَحَّ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إن ماله مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهِ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَوْلَى وما لَا مُجِيزَ له حَالَةَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا ذَكَرْنَا من الْفِقْهِ إلَّا أَنَّ بين الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالصَّبِيِّ فَرْقًا من وَجْهٍ وهو أَنَّ الْمُكَاتَبَ أو الْمَأْذُونَ إذَا فَعَلَ ما يَتَوَقَّفُ على الْإِجَازَةِ بِأَنْ زَوَّجَ نَفْسَهُ امْرَأَةً ثُمَّ عَتَقَ يَنْفُذُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ وفي الصَّبِيِّ لَا يَنْفُذُ بِنَفْسِ الْبُلُوغِ ما لم تُوجَدْ الإجازة ( ( ( الإجارة ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ الْإِذْنِ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ على ما عَرَفَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فإن في أَهْلِيَّتِهِ قُصُورًا لِقُصُورِ عَقْلِهِ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ وَالْبُلُوغُ ليس بِإِجَازَةٍ على ما مَرَّ
وَأَمَّا حُكْمُ شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْفُضُولِيَّ إذَا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو أما إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ وأما إنْ أَضَافَهُ إلَى الذي اشْتَرَى له فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كان المشتري له سَوَاءٌ وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ من الذي اشْتَرَى له أو لم تُوجَدْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا على الْعَاقِدِ نَفَذَ عليه وَلَا يَتَوَقَّفُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ
قال اللَّهُ تَعَالَى عزل ( ( ( عز ) ) ) من قَائِلٍ { لها ما كَسَبَتْ } وقال عز من قَائِلٍ { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى } وَشِرَاءُ الْفُضُولِيِّ كَسْبَهُ حَقِيقَةٌ فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ له إلَّا إذَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ أو لم يَجِدْ نَفَاذًا عليه لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَيَتَوَقَّفَ على إجَازَةِ الذي اشْتَرَى له بِأَنْ كان الْفُضُولِيُّ صَبِيًّا مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا فَاشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ ذلك الْغَيْرِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لم يَجِدْ نَفَاذًا عليه فَيَتَوَقَّفَ على إجَازَةِ الذي اشْتَرَى له ضَرُورَةً فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عليه لَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ لُزُومِ الْعُهْدَةِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الذي اشْتَرَى له بِأَنْ قال الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ بِعْ عَبْدَكَ هذا من فُلَانٍ بِكَذَا فقال بِعْتُ وَقَبِلَ الْفُضُولِيُّ الْبَيْعَ فيه لِأَجْلِ فُلَانٍ أو قال الْبَائِعُ بِعْتُ هذا الْعَبْدَ من فُلَانٍ بِكَذَا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ منه لِأَجْلِ فُلَانٍ فإنه يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمُشْتَرِي له لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كان له على اعْتِبَارِ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ له أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذلك وَهَهُنَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَتِهِ
وَلَوْ قال الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هذا الْعَبْدَ بِكَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ فقال بِعْتُ أو قال الْبَائِعُ لِلْفُضُولِيِّ بِعْتُ مِنْكَ هذا الْعَبْدَ بِكَذَا فلان ( ( ( لفلان ) ) ) فقال اشْتَرَيْتُ لَا يَتَوَقَّفُ وَيَنْفُذُ الشِّرَاءُ عليه لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى فُلَانٍ
____________________

(5/150)


في الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ في أَحَدِهِمَا وَأَحَدُهُمَا شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ لِضَرُورَةِ الْإِضَافَةِ من الْجَانِبَيْنِ فإذا لم يُوجَدْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ
وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شيئا يَقَعُ شِرَاؤُهُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ فَقَدْ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ كان المشتري له كَذَا هذا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْفُضُولِيُّ شيئا لِغَيْرِهِ ولم يُضِفْ المشتري إلَى غَيْرِهِ حتى لو كان الشِّرَاءُ له فَظَنَّ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرَى له أَنَّ المشتري يَكُونُ للمشتري له فَسَلَّمَ إلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ بِهِ وَقَبِلَ المشتري له صَحَّ ذلك وَيُجْعَلُ ذلك تَوْلِيَةً كَأَنَّهُ وَلَّاهُ منه بِمَا اشْتَرَى وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذلك أَنَّ الشِّرَاءَ نَفَذَ عليه والمشتري له فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّ من صَاحِبِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ منه قد صَحَّتْ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كَمَنْ اشْتَرَى مَنْقُولًا فَطَلَبَ جَارُهُ الشُّفْعَةَ فَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ له شَفَعَةً فَسَلَّمَ إلَيْهِ
ثُمَّ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْقُضَ ذلك من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ إلَيْهِ صَارَ ذلك بَيْعًا بَيْنَهُمَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال المشتري له كنت أَمَرْتُكَ بِالشِّرَاءِ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ لَك بِغَيْرِ أَمَرَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ المشتري له لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَمَّا قال اشْتَرَيْتُهُ لك كان ذلك إقْرَارًا منه بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ له لَا يَكُونُ إلَّا بِأَمْرِهِ عَادَةً فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ثُمَّ إنْ أَخَذَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلَّ له ذلك إلَّا إذَا كان صَادِقًا في كَلَامِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ طَابَ له لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِرِضَاهُ فَصَارَ ذلك بَيْعًا مِنْهُمَا بِتَرَاضِيهِمَا
وَمِنْهَا قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي حتى لو هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْإِجَازَةِ من الْمَالِكِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ
وَمِنْهَا قِيَامُ الْمَالِكِ حتى لو هَلَكَ الْمَالِكُ قبل إجَازَتِهِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ وَرَثَتِهِ
وَمِنْهَا قِيَامُ الْمَبِيعِ حتى لو هَلَكَ قبل إجَازَةِ الْمَالِكِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ غير أَنَّهُ إنْ هَلَكَ في يَدِ الْمَالِكِ يَمْلِكْ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو التَّسْلِيمُ من الْبَائِعِ وَالْقَبْضُ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَسْلِيمَ مَالِ الْغَيْرِ وَقَبْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بريء الْآخَرُ وَلَا سَبِيلَ عليه بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ من غَيْرِهِ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ وهو تَمْلِيكُ شَيْءٍ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على الْكَمَالِ
فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ وَبَطَلَ الْبَيْعُ
وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا ضُمِّنَ كما في الْمُشْتَرِي من الْغَاصِبِ
وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كان قَبْضُ الْبَائِعِ قَبْضَ ضَمَانٍ بِأَنْ كان مَغْصُوبًا في يَدِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَهُ فَقَدْ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ من وَقْتِ الْغَصْبِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ وَإِنْ كان قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ بِأَنْ كان وَدِيعَةً عِنْدَهُ فَبَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ
لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عليه بِسَبَبٍ مُتَأَخِّرٍ عن الْبَيْعِ وهو التَّسْلِيمُ
فَيَمْلِكُ الْمَضْمُونَ من ذلك الْوَقْتِ لَا من وَقْتِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَنْفُذُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وقال يَجُوزُ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْبَائِعِ قيل ( ( ( وقيل ) ) ) هذا مَحْمُولٌ على ما إذَا سَلَّمَهُ الْبَائِعُ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهُ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مَضْمُونًا عليه بِالتَّسْلِيمِ فَتَقَدَّمَ سَبَبُ الضَّمَانِ الْبَيْعَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ
ثُمَّ إنْ كان قِيَامُ الْأَرْبَعَةِ التي ذَكَرْنَا شَرْطًا لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْقِيَامَ وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ لها حُكْمُ الْإِنْشَاءِ من وَجْهٍ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْشَاءُ بِدُونِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عليه لِذَلِكَ كان قِيَامُهَا شَرْطًا لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ فَإِنْ وُجِدَ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ وَصَارَ الْبَائِعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْمَالِكِ إنْ كان قَائِمًا لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنْ هَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ يَهْلِكْ أَمَانَةً كما إذَا كان وَكِيلًا في الِابْتِدَاءِ وَهَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِهِ
وَلَوْ فَسَخَهُ الْبَائِعُ قبل الْإِجَازَةِ انْفَسَخَ وَاسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ إنْ كان قد سُلِّمَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ إنْ كان قد نَقَدَهُ وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي يَنْفَسِخُ وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ الْفُضُولِيُّ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فإن الْفُضُولِيَّ من جَانِبِ الرَّجُلِ في بَابِ النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ عِنْدَهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ لو اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ فَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَهُوَ بِالْفَسْخِ يَدْفَعُ الْعُهْدَةَ عن نَفْسِهِ فَلَهُ ذلك بِخِلَافِ
____________________

(5/151)


النِّكَاحِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ في بَابِ النِّكَاحِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ بَلْ هو سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فإذا فَرَغَ عن السِّفَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ
وَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ في يَدِ الْبَائِعِ هل هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ أَمْ لَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو أما إنْ كان الثَّمَنُ دَيْنًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ في الذِّمَّةِ وأما إنْ كان عَيْنًا كَالْعُرُوضِ فَإِنْ كان دَيْنًا فَقِيَامُهُ في يَدِ الْبَائِعِ ليس بِشَرْطٍ لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ قِيَامُهُ بِقِيَامِ الذِّمَّةِ
وَإِنْ كان عَيْنًا فَقِيَامُهُ شَرْطٌ لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ إن قِيَامَ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ إذَا كان الثَّمَنُ دَيْنًا وإذا كان عَيْنًا فَقِيَامُ الْخَمْسِ شَرْطٌ فَإِنْ وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ عِنْدَ قِيَامِ الْخَمْسِ جَازَ وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان عَيْنًا كان الْبَائِعُ مُشْتَرِيًا من وَجْهٍ
وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ على الْإِجَازَةِ بَلْ يَنْفُذُ على الْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عليه بِأَنْ كان أَهْلًا وهو أَهْلٌ
وَالْمَالِكُ يَرْجِعُ عليه بِقِيمَةِ مَالِهِ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ
وَبِمِثْلِهِ إنْ كان له مِثْلٌ لِأَنَّهُ عَقَدَ لِنَفْسِهِ ونقد ( ( ( ونفذ ) ) ) الثَّمَنُ من مَالِ غَيْرِهِ فَيَتَوَقَّفُ النَّقْدُ على الْإِجَازَةِ
فإذا أجازه ( ( ( جازه ) ) ) مَالِكُهُ بَعْدَ النَّقْدِ فَيَرْجِعُ عليه بمثله أو بِقِيمَتِهِ
بِخِلَافِ ما إذَا كان الثَّمَنُ دَيْنًا لِأَنَّهُ إذَا كان دَيْنًا كان الْعَاقِدُ بَائِعًا من كل وَجْهٍ
وَلَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ أَصْلًا فَتَوَقَّفَ على إجَازَةِ المال ( ( ( المالك ) ) )
فإذا أَجَازَ كان مُجِيزًا لِلْعَقْدِ فَكَانَ بَدَلُهُ له
وَلَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ في يَدِ الْفُضُولِيِّ بَطَلَ الْعَقْدُ
وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَيُرَدُّ الْمَبِيعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَضْمَنُ لِلْمُشْتَرِي مثله إنْ كان له مِثْلٌ
وَقِيمَتَهُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ
لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ في الْعَيْنِ قبل الْإِجَازَةِ يُنْظَرُ إنْ تَصَرَّفَ فيه قبل الْقَبْضِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ
لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَقِفُ على الْقَبْضِ
وَإِنْ تَصَرَّفَ فيه بعدما قَبَضَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي صَرِيحًا أو دَلَالَةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ
لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ أو قِيمَتُهُ
لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ بِهِ وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فيه فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ بَعْدَ ذلك وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ قبل الْإِجَازَةِ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ سَوَاءٌ كان قَبَضَ الْمَبِيعَ أو لم يَقْبِضْهُ لِعَدَمِ إذْنِ مَالِكِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَالْوِلَايَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ وِلَايَةُ الْوَكِيلِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَإِنْ لم يَكُنْ الْمَحَلُّ مَمْلُوكًا لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ من الْمُوَكِّلِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ وِلَايَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَبُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وهو نَوْعَانِ أَيْضًا وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَوِلَايَةُ غَيْرِهِ من التَّصَرُّفَاتِ أَمَّا وِلَايَةُ النِّكَاحِ فَمَوْضِعُ بَيَانِهَا كِتَابُ النِّكَاحِ وَأَمَّا وِلَايَةُ غَيْرِهِ من الْمُعَامَلَاتِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ هذه الْوِلَايَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهَا وفي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْوِلَايَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ هذا النَّوْعِ من الْوِلَايَةِ في التَّحْقِيقِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْأُبُوَّةُ
وَالثَّانِي الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْجَدَّ من قِبَلِ الْأَبِ أَبٌ لَكِنْ بِوَاسِطَةٍ وَوَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْهُمَا فَكَانَ ذلك وِلَايَةَ الْأُبُوَّةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَوَصِيُّ الْقَاضِي يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ من الْقَاضِي فَكَانَ ذلك وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مَعْنًى
أَمَّا الْأُبُوَّةُ فَلِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى كَمَالِ النَّظَرِ في حَقِّ الصَّغِيرِ لِوُفُورِ شَفَقَةِ الْأَبِ وهو قَادِرٌ على ذلك لِكَمَالِ رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ وَالصَّغِيرُ عَاجِزٌ عن النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَثُبُوتُ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ على الْعَاجِزِ عن النَّظَرِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مَشْرُوعٌ لِأَنَّهُ من بَابِ الْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَمِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَمِنْ بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ وَكُلُّ ذلك حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا
وَلِأَنَّ ذلك من بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْقُدْرَةِ إذا شُكْرُ كل نِعْمَةٍ على حَسَبِ النِّعْمَةِ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ مَعُونَةُ الْعَاجِزِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا فَضْلًا عن الْجَوَازِ وَوَصِيُّ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَهُ وَاخْتَارَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ما اخْتَارَهُ من بَيْنِ سَائِرِ الناس إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَفَقَتَهُ على وَرَثَتِهِ مِثْلَ شَفَقَتِهِ عليهم وَلَوْلَا ذلك لَمَا ارْتَضَاهُ من بَيْنِ سَائِرِ الناس فَكَانَ الْوَصِيُّ خَلَفًا عن الْأَبِ وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو وَالْجَدُّ له كَمَالُ الرَّأْيِ وَوُفُورُ الشَّفَقَةِ إلَّا أَنَّ شَفَقَتَهُ دُونَ شَفَقَةِ الْأَبِ فَلَا جُرْمَ تَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عن وِلَايَةِ الْأَبِ وَوِلَايَةِ وَصِيِّهِ وَوَصِيِّ وَصِيِّهِ أَيْضًا لِأَنَّ تِلْكَ وِلَايَةُ الْأَبِ من حَيْثُ الْمَعْنَى على ما ذَكَرْنَا وَوَصِيُّ الْجَدِّ قَائِمٌ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ من جِهَتِهِ وَكَذَا وَصِيُّ وَصِيِّهِ
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ أَشْفَقُ الناس على الْيَتَامَى فَصَلُحَ وَلِيًّا وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السُّلْطَانُ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له إلَّا أَنَّ شَفَقَتَهُ دُونَ شَفَقَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِأَنَّ شَفَقَتَهُمَا تَنْشَأُ عن الْقَرَابَةِ وَشَفَقَتُهُ لَا وَكَذَا وَصِيُّهُ
____________________

(5/152)


فَتَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عن وِلَايَتِهِمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى فيه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ فَأَشْيَاءُ منها أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْعَبْدِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ } وَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ فَكَيْفَ تثب ( ( ( تثبت ) ) ) له الْوِلَايَةُ على غَيْرِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا وِلَايَةَ لِلْمَجْنُونِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا إسْلَامُ الْوَلِيِّ إذَا كان الْمُوَلَّى عليه مُسْلِمًا فَإِنْ كان كَافِرًا لَا تَثْبُتْ له عليه الْوِلَايَةُ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَلِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوِلَايَةِ لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ يُشْعِرُ بِالذُّلِّ بِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عليه فَالصِّغَرُ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ على الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على دَفْعِ حَاجَةِ نَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عليه لِغَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ على الْحُرِّ تَثْبُتُ مع قِيَامِ الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ حَالَةَ الْقُدْرَةِ فَلَا تَثْبُتُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى فيه فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ بِالْمُوَلَّى عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا إضرار ( ( ( ضرار ) ) ) في الْإِسْلَامِ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من لم يَرْحَمْ صَغِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَالْإِضْرَارُ بِالصَّغِيرِ ليس من الْمَرْحَمَةِ في شَيْءٍ فَلَيْسَ له أَنْ يَهَبَ مَالَ الصَّغِيرِ من غَيْرِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكِهِ من غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا مَحْضًا وَكَذَا ليس له أَنْ يَهَبَ بِعِوَضٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ له ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ في مَعْنَى الْبَيْعِ فَمَلَكَهَا كما يَمْلِكُ الْبَيْعَ
ولهذا ( ( ( ولهما ) ) ) أنها هِبَةٌ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ أَنَّ الْمِلْكَ فيها يَقِفُ على الْقَبْضِ وَذَلِكَ من أَحْكَامِ الْهِبَةِ
وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً في الِانْتِهَاءِ وهو لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فلم تَنْعَقِدْ هِبَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ مُعَاوَضَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وهو يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ وَلَيْسَ له أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَلَا أَنْ يُوصِيَ بِهِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَالْوَصِيَّةَ إزَالَةُ الْمِلْكِ من غَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ فَكَانَ ضَرَرًا فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَيْسَ له أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ سَوَاءٌ كان بِعِوَضٍ أو بِغَيْرِ عِوَضٍ
أَمَّا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَكَذَا بِعِوَضٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وإذا عتق ( ( ( أعتق ) ) ) بِنَفْسِ الْقَبُولِ يَبْقَى الدَّيْنُ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وقد يَحْصُلُ وقد لَا يَحْصُلُ فَكَانَ الاعتاق ضَرَرًا مَحْضًا لِلْحَالِ
وَكَذَا ليس له أَنْ يُقْرِضَ مَالَهُ
لِأَنَّ الْقَرْضَ إزَالَةُ الْمِلْكِ من غَيْرِ عِوَضٍ لِلْحَالِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْقَرْضُ تَبَرُّعٌ وهو لَا يَمْلِكُ سَائِرَ التَّبَرُّعَاتِ
كَذَا هذا بِخِلَافِ الْقَاضِي فإنه يُقْرِضُ مَالَ الْيَتِيمِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ من الْقَاضِي من بَابِ حِفْظِ الدَّيْنِ لِأَنَّ تَوَى الدَّيْنِ بِالْإِفْلَاسِ أو بِالْإِنْكَارِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَخْتَارُ أَمْلَى الناس وَأَوْثَقَهُمْ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّفَحُّصِ عن أَحْوَالِهِمْ فَيَخْتَارُ من لَا يَتَحَقَّقُ إفْلَاسُهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا
وَكَذَا الْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التوي بِالْإِنْكَارِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْقَاضِي هذه الْوِلَايَةُ فَبَقِيَ الْإِقْرَاضُ منه إزَالَةَ الْمِلْكِ من غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ فَكَانَ ضَرَرًا فَلَا يَمْلِكُهُ
وَلَهُ أَنْ يَدِينَ مَالَهُ من غَيْرِهِ
وَصُورَةُ الِاسْتِدَانَةِ أَنْ يَطْلُبَ إنْسَانٌ من غَيْرِ الْأَبِ أو الْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَهُ شيئا من أَمْوَالِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حتى يَجْعَلَ أَصْلَ الشَّيْءِ مِلْكَهُ وَثَمَنَ الْمَبِيعِ دَيْنًا عليه لِيَرُدَّهُ فَإِنْ بَاعَهُ منه بِزِيَادَةٍ على قِيمَتِهِ فَهُوَ عَيْنُهُ وَإِنَّمَا مَلَكَ الْإِدَانَةَ ولم يَمْلِكْ الْقَرْضَ لِأَنَّ الْإِدَانَةَ بَيْعُ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً وَلَوْ بَاعَ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ في حَقِّهِ وَكَذَا ليس له أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ أو مَالَهُ بِأَقَلَّ من أُجْرَةِ الْمِثْلِ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً وَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِهِ شيئا بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى يَنْفُذُ عليه وَيَكُونُ المشتري له لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا على الْمُشْتَرِي
وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ ذلك نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْرُ الناس من يَنْفَعُ الناس وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَثِّ على النَّفْعِ وَالْحَثُّ على النَّفْعِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ عَبَثٌ
وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ لِأَنَّهُ نَفْعٌ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ وَيَشْتَرِيَ له شيئا بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ مِقْدَارَ ما يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له شيئا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ قَدْرَ ما يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً وَكَذَا له أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ بِأَكْثَرَ من أَجْرِ مِثْلِهِ أو بِأَجْرِ مِثْلِهِ أو بِأَقَلَّ منه قَدْرَ ما يَتَغَابَنُ الناس
____________________

(5/153)



____________________

(5/62)


 

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...